بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (168)
سُورَةُ النَّحْلِ(14)
صـ 391 إلى صـ 395
تنبيه .
لفظة " جعل " تأتي في اللغة العربية لأربعة معان :
الأول : بمعنى اعتقد ; كقوله - تعالى - هنا : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، قال [ ص: 391 ] في الخلاصة :
وجعل اللذ كاعتقد
الثاني : بمعنى صير كما تقدم في الحجر ; كقوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، قال في الخلاصة :
.... والتي كصيرا وأيضا بها انصب مبتدا وخبرا
الثالث : بمعنى خلق ; كقوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] ، أي : خلق الظلمات والنور .
الرابع : بمعنى شرع ; كقوله :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
قال في الخلاصة :
كأنشأ السائق يحدو وطفق كذا جعلت وأخذت وعلق
وقوله في هذه الآية الكريمة : سبحانه [ 16 \ 57 ] ، أي : تنزيها له - جل وعلا - عما لا يليق بكماله وجلاله ، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا !
وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره على أن الآية عامة ; حتى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره ، والحبارى في وكرها ، ونحو ذلك ; لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم بظلمهم .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذا القول هو الصحيح ; لما تقرر في الأصول من : أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة " من " تكون نصا صريحا في العموم . وعليه فقوله : " من دابة " يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصا .
وقال القرطبي في تفسيره : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟ قيل : يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على أعمالهم " ، اه محل الغرض منه بلفظه . والأحاديث بمثله كثيرة معروفة .
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح ، [ ص: 392 ] فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل . وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم ; لأن الهلاك إذا نزل عم .
تنبيه .
قوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، الضمير في " عليها " ، راجع إلى غير مذكور وهو الأرض ; لأن قوله : من دابة يدل عليه ; لأن من المعلوم : أن الدواب إنما تدب على الأرض . ونظيره قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ولم يجر لها ذكر ، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب ; ومنه قول حميد بن ثور :
وصهباء منها كالسفينة نضجت به الحمل حتى زاد شهرا عديدها
فقوله : " صهباء منها " ، أي : من الإبل ، وتدل له قرينة " كالسفينة " مع أن الإبل لم يجر لها ذكر ، ومنه أيضا قول حاتم الطائي :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقوله : " حشرجت وضاق بها " يعني النفس ، ولم يجر لها ذكر ; كما تدل له قرينة " وضاق بها الصدر " ، ومنه أيضالبيد في معلقته :
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
فقوله : " ألقت " ، أي : الشمس ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن يدل له قوله : وأجن عورات الثغور ظلامها .
لأن قوله : " ألقت يدا في كافر " ، أي : دخلت في الظلام . ومنه أيضا قول طرفة في معلقته :
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
فقوله : " أفديك منها " ، أي : الفلاة ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يؤاخذ الآية [ 16 \ 61 ] ، الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد ; فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم : أخذهم بذنوبهم ; لأن المفاعلة [ ص: 393 ] تقتضي الطرفين . ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو : سافر وعافى . وقوله : " يؤاخذ " [ 16 \ 61 ] ، إن قلنا : إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال . وإن قلنا : إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل ; كقوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] ، وقول قيس بن الملوح :
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر ، ولا يمكن بتاتا في البيتين ، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب . وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
لو حرف شرط في مضي ويقل إيلاؤها مستقبلا ، لكن قبل .
قوله تعالى : ويجعلون لله ما يكرهون ، أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه ; لأنه عبر عنه بـ " ما " الموصولة ، وهي اسم مبهم ، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه . ولكنه بين في مواضع أخر : أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره ، قال في البنات : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، ثم بين كراهيتها لها في آيات كثيرة ، كقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 61 ] .
وقال في الشركاء : وجعلوا لله شركاء الآية [ 6 \ 100 ] ، ونحوها من الآيات . وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [ 30 \ 28 ] ، أي : إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكا له مثل نفسه في جميع ما عنده ; فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده ! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، إلى قوله : ساء ما يحكمون [ 16 \ 136 ] ، وقوله : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم [ 16 \ 56 ] ، كما تقدم .
قوله تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب ; فيزعمون أن لهم الحسنى ، والحسنى تأنيث الأحسن ، قيل : المراد بها الذكور ; كما تقدم في قوله : ولهم ما يشتهون [ ص: 394 ] [ 16 \ 57 ] ، والحق الذي لا شك فيه : أن المراد بالحسنى : هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا . ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان :
أحدهما : كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى ; كقوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، وقوله : وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والدليل الثاني : أن الله أتبع قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] ، بقوله : لا جرم أن لهم النار الآية [ 16 \ 62 ] ، فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا ، والعلم عند الله . والمصدر المنسبك من " أن " ، وصلتها في قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] في محل نصب ، بدل من قوله الكذب ، ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها للكذب صريحا لا خفاء به .
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب [ 16 \ 116 ] ، ما نصه : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ; فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . اه .
قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ، في هذا الحرف قراءتان سبعيتان ، وقراءة ثالثة غير سبعية . قرأه عامة السبعة ما عدى نافعا : مفرطون ، بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول ; من أفرطه . وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل ; من أفرط . والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف ، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر . وكل هذه القراءات لها مصداق في كتاب الله .
أما على قراءة الجمهور : مفرطون ، بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه : إذا [ ص: 395 ] نسيه وتركه غير ملتفت إليه ; فقوله : مفرطون ، أي : متروكون منسيون في النار . ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا [ 7 \ 51 ] ، وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد الآية [ 32 \ 14 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار الآية [ 45 \ 34 ] ، فالنسيان في هذه الآيات معناه : الترك في النار . أما النسيان بمعنى زوال العلم : فهو مستحيل على الله ; كما قال تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .
وممن قال بأن معنى : مفرطون ، منسيون متركون في النار : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن الأعرابي ، وأبو عبيدة ، والفراء ، وغيرهم .
وقال بعض العلماء : معنى قوله : مفرطون ، على قراءة الجمهور : أي : مقدمون إلى النار معجلون ; من أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته ، ومنه حديث : " أنا فرطكم على الحوض " ، أي : متقدمكم . ومنه قول القطامي : فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تقدم فراط لرواد .
وقول الشنفرى :
هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت وشمر مني فارط متمهل
أي : متقدم إلى الماء . وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر : إذا أسرف فيه وجاوز الحد . ويشهد لهذه القراءة قوله : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى قراءة أبي جعفر ، فهو اسم فاعل ، فرط في الأمر : إذا ضيعه وقصر فيه ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية [ 39 \ 56 ] ، فقد عرفت أوجه القراءات في الآية ، وما يشهد له القرآن منها .
وقوله : لا جرم ، أي : حقا أن لهم النار . وقال القرطبي في تفسيره : لا رد لكلامهم وتم الكلام ، أي : ليس كما تزعمون وجرم أن لهم النار حقا أن لهم النار ! وقال بعض العلماء : " لا " صلة ، و " جرم " بمعنى كسب ; أي : كسب لهم عملهم أن لهم النار .