19- وفي ذي القعدة من هذه السنة: كان صلح الحديبية وكان فتحًا مبينًا.
ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلىٰ حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صَدَّ عنه المشركون منذ ستة أعوام([1]). والحديبية اسم بئر تقع علىٰ بعد اثنين وعشرين كيلو مترًا إلىٰ الشمال الغربي من مكة وتعرف الآن بالشميس، وهي حدائق الحديبية ومسجد الرضوان([2]).
وبعضها يدخل في حدود الحرم المكي.
قال الشافعي رحمه الله:
بعضها في الحلِّ وبعضها في الحَرم([3]).
وسُمي بصلح الحديبية؛ لأن قريشًا منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية.
قال ابن القيم رحمه الله:
قال نافع: كانت سنة ست في ذي القعدة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهري، وقتادة وموسىٰ بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم.اهـ([4]).
وعَنْ قَتَادَةَ قال: سَأَلْتُ أَنَسًا رضي الله عنه كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ.. .([5])، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوجهًا إلىٰ بيت الله الحرام قاصدًا العمرة، وخرج معه ألفٌ وأربعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم([6]) مُتسلِّحين بالسلاح([7]) حَذَرًا من قريش، وساقوا معهم الهدي.
فَلَمَّا أَتَىٰ النبي صلى الله عليه وسلم ذَا الْحُلَيْفَةِ([8]) قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ([9])، وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ – وهو بشر بن سفيان الكعبي، ليعلم له أخبار قريش- وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّىٰ كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ([10]) أَتَاهُ عَيْنُهُ، فقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ([11]) وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ، فَقَالَ: «أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَىٰ عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيْتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ الله تعالى قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ»، قَالَ أبو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ الله خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ، فقَالَ – رسول الله-: «امْضُوا عَلَىٰ اسْمِ الله»([12]).
([1]) «الرحيق المختوم» (294).
([2]) «السيرة النبوية الصحيحة» 2/434.
([3]) «زاد المعاد» 3/270.
([4]) «زاد المعاد» 3/255.
([5]) متفق عليه: أخرجه البخاري (1778)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي، ومسلم (1253)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمَر النبي وزمانهن.
([6]) ورد ذكر هذا العدد في أحاديث صحيحة بصحيح البخاري، عن نفر من الصحابة رضوان الله عليهم، ممن شهدوا مع النبي هذا المشهد، منهم جابر بن عبد الله، وفي رواية أخرىٰ عن جابر: أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفىٰ أنهم كانوا ألفًا وثلاث مائة.
انظر: «صحيح البخاري» كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.
ورجح ابن القيم في «زاد المعاد» 3/256، 257، قول من قال أنهم ألف وأربعمائة، لأنه قول الأكثر حيث قال: والقلب إلىٰ ذلك أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حَزْن.اهـ.
وقال ابن حجر: والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألفًا وأربعمائة أو أكثر.اهـ.
([7]) مما يدل علىٰ أن الصحابة رضوان الله عليهم خرجوا متسلحين ما رواه البخاري (4179): أنه لما بلغ النبي أن قريشًا جمعوا له الجموع لقتاله استشار الصحابة في قتالهم أو عدم قتالهم، وهذا يدل علىٰ أنهم كانوا مستعدين للقتال في أي وقت.
([8]) ذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذي يُحرمون من عنده، وهو الذي يُسمىٰ الآن بـ(ـأبيار عليٍّ)، وتبعد عن المدينة أحد عشر كيلو مترًا، وبينها وبين مكة أربعمائة وأربعة وستون كيلو مترًا تقريبًا.
([9]) الهدي: ما يُهدىٰ من النعم إلىٰ الحرم تقربًا إلىٰ الله، ويكون الهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، وتقليد الهدي: هو أن يعلق في عنقها نعلين، أو يضع عليها شيئًا من صوف ونحوه علامة لها أنها من الهدي، والتقليد عام للبقر والغنم والإبل، أما الإشعار: هو أن يكشط جلد البدنة حتىٰ يسيل الدم، ثم يسلته، ويكون ذلك في الجانب الأيمن لسنمة البعير، والإشعار خاص بالإبل فقط دون البقر والغنم.
([10]) غدير الأشطاط: اسم مكان وراء عُسْفان علىٰ بعد ثمانين كيلو من مكة.
([11]) الأحابيش: هم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناة ابن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش، قيل تحت جبل يقال له: الحبش أسفل مكة، وقيل: سمُّوا بذلك لتحبشهم، أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع.
([12]) صحيح: أخرجه البخاري (4178، 4179)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية.