تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 8 من 11 الأولىالأولى 1234567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 141 إلى 160 من 210

الموضوع: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

  1. #141
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (141)
    صـ61 إلى صـ 70




    فإن قيل : اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين ، من أوجه : أحدها : أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات ; لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ، ومتفقة لا تقبل الاختلاف ; فيحكم العقل [ ص: 61 ] فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا ; لأن فرض خلافه محال عنده ، بخلاف الوضعيات ; فإنها لم توضع وضع النقليات ، وإلا كانت هي هي بعينها ; فلا تكون وضعية ، هذا خلف ، وإذا لم توضع وضعها ، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله ، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه ; لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص .

    والثاني : أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام ، أو معاني كثيرة ، وهذا واضح في المعقول ; لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الانفراد ، أو بهما معا ; فلا يتعين متعلق الحكم ، وإذا لم يتعين ; لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل ، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل .

    والثالث : أن التخصيصات في الشريعة كثيرة ; فيخص محل [ ص: 62 ] بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد .

    ولذلك أمثلة كثيرة ; كجعل التراب طهورا كالماء ، وليس بمطهر كالماء ، بل هو بخلافه ، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما ، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة ، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها ، والمعنى واحد ، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة ، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس ، والجلد بقذف الزنى دون غيره ، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى ، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد ، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق ، وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض ، والأمة بواحدة ، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد ، وبين المرتد والقاتل ، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم ، وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ [ ص: 63 ] وأيضا ; فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما ; كالحيض ، والنفاس ، والعدة ، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة ، والاختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه .

    وأما الأول فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع ; كالجمعة ، والجهاد ، والإمامة ولو في النساء ، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ; ففرق بين بول الصبي والصبية ، إلى غير ذلك من المسائل ، مع فقد الفارق في القسم المشترك ، ومثل ذلك العبد ، فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا ، وإذا ثبت هذا ;لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة .

    فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات ، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة ، كما تقدم التنبيه عليه ، فإذا وقع مثله ; فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري ; لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع .

    وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا [ ص: 64 ] أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا ، وذلك باطل فما أدى إليه مثله .

    وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس ; فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا .
    ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنها إذا تقررت عند المجتهد ، ثم استقرى معنى عاما من أدلة خاصة ، واطرد له ذلك المعنى [ ص: 65 ] لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى من غير اعتبار بقياس أو غيره ; إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه ؟ ومن فهم هذا هان عليه الجواب عن إشكال القرافي الذي أورده على أهل مذهب مالك ، حيث استدلوا في سد الذرائع على الشافعية بقوله تعالى ولا تسبوا [ الأنبياء : 108 ] وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت [ البقرة : 65 ] وبحديث لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها إلخ وقوله : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين [ ص: 66 ] قال فهذه وجوه كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد فإنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذرائع خاصة ، وهي بيوع الآجال ونحوها ; فينبغي أن تذكر أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإلا ; فهذه لا تفيد .

    قال : وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس خاصة ويتعين عليهم حينئذ إبداء الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، ويكون دليلهم شيئا واحدا وهو القياس ، وهم لا يعتقدون ذلك ، بل يعتقدون أن مدركهم النصوص ، وليس كذلك ، بل ينبغي أن يذكروا نصوصا خاصة بذرائع بيوع الآجال خاصة ويقتصرون عليها ; كحديث [ ص: 67 ] أم ولد زيد بن أرقم هذا ما قال في إيراد هذا الإشكال .

    وهو غير وارد على ما تقدم بيانه لأن الذرائع قد ثبت سدها في خصوصات كثيرة بحيث أعطت في الشريعة معنى السد مطلقا عاما وخلاف الشافعي هنا غير قادح في أصل المسألة ولا خلاف أبي حنيفة .

    أما الشافعي ; فالظن به أنه تم له الاستقراء في سد الذرائع على العموم ، ويدل عليه قوله بترك الأضحية إعلاما بعدم وجوبها ، وليس في ذلك دليل صريح من كتاب أو سنة ، وإنما فيه عمل جملة من الصحابة ، وذلك عند الشافعي ليس [ ص: 68 ] بحجة ، لكن عارضه في مسألة بيوع الآجال دليل آخر راجح على غيره فأعمله ; فترك سد الذريعة لأجله ، وإذا تركه لمعارض راجح لم يعد مخالفا في أصله وأما أبو حنيفة ، فإن ثبت عنه جواز إعمال الحيل ; لم يكن من أصله في بيوع الآجال إلا الجواز ولا يلزم من ذلك تركه لأصل سد الذرائع وهذا واضح إلا أنه نقل عنه موافقة مالك في سد الذرائع فيها وإن خالفه في بعض التفاصيل ، وإذا كان كذلك فلا إشكال [ ص: 69 ] المسألة
    السابعة

    العمومات إذا اتحد معناها ، وانتشرت في أبواب الشريعة ، أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص ; فهي مجراة على عمومها على كل حال وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل .

    والدليل على ذلك الاستقراء ; فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ، ولم تستثن منه موضعا ولا حالا ; فعده علماء الملة أصلا مطردا وعموما مرجوعا إليه من غير استثناء ، ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ، ولا توقف في مقتضاه ، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام .

    وأيضا قررت أن ولا تزر وازرة وزر أخرى [ الأنعام : 164 ] ، فأعملت العلماء المعنى في مجاري عمومه ، وردوا ما خالفه من أفراد الأدلة بالتأويل [ ص: 70 ] وغيره وبينت بالتكرار أن لا ضرر ولا ضرار فأبى أهل العلم من تخصيصه ، وحملوه على عمومه ، وأن من سن سنة حسنة أو سيئة كان له ممن اقتدى به حظ إن حسنا وإن سيئا وأن من مات مسلما دخل الجنة ، ومن مات كافرا دخل النار .

    وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه ، وأكثر الأصول تكرارا الأصول المكية كالأمر بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، والنهي عن الفحشاء والمنكر ، والبغي ، وأشباه ذلك .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #142
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (142)
    صـ71 إلى صـ 80




    فأما إن لم يكن العموم مكررا ولا مؤكدا ولا منتشرا في أبواب الفقه ; فالتمسك بمجرده فيه نظر ; فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه ، وإنما حصلت التفرقة بين الصنفين ; لأن ما حصل فيه التكرار والتأكيد والانتشار صار ظاهره باحتفاف القرائن به إلى منزلة النص القاطع الذي لا احتمال فيه بخلاف [ ص: 71 ] ما لم يكن كذلك فإنه معرض لاحتمالات ; فيجب التوقف في القطع بمقتضاه حتى يعرض على غيره ويبحث عن وجود معارض فيه .
    وعلى هذا ينبني القول في العمل بالعموم وهل يصح من غير المخصص أم لا فإنه إذا عرض على هذا التقسيم أفاد أن القسم الأول غير محتاج فيه إلى بحث إذ لا يصح تخصيصه إلا حيث تخصص القواعد بعضها بعضا فإن قيل : قد حكي الإجماع في أنه يمنع العمل بالعموم حتى يبحث هل له مخصص أم لا ؟ وكذلك دليل مع معارضه ; فكيف يصح القول بالتفصيل فالجواب أن الإجماع إن صح فمحمول على غير القسم المتقدم جمعا بين الأدلة وأيضا فالبحث يبرز أن ما كان من العمومات على تلك الصفة فغير مخصص بل هو على عمومه فيحصل من ذلك بعد بحث المتقدم ما يحصل للمتأخر دون بحث بناء على ما ثبت من الاستقراء والله أعلم .
    [ ص: 72 ] [ ص: 73 ] إن النبي كان مبينا بقوله وفعله وإقراره لما كان مكلفا بذلك في قوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] فكان يبين بقوله عليه الصلاة والسلام كما قال في حديث الطلاق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء [ ص: 74 ] وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] إنما ذلك العرض وقال لمن سأله عن قوله آية المنافق ثلاث إنما عنيت بذلك كذا وكذا وهو لا يحصى كثرة وكان أيضا يبين بفعله ألا أخبرته أني أفعل ذلك [ ص: 75 ] وقال الله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 50 ] وبين لهم كيفية الصلاة والحج بفعله ، وقال عند ذلك : صلوا كما رأيتموني أصلي و خذوا عني مناسككم إلى غير ذلك .

    وكان إقراره بيانا أيضا إذا علم بالفعل ولم ينكره مع القدرة على إنكاره لو كان باطلا أو حراما حسبما قرره الأصوليون في مسألة مجزز المدلجي وغيره ، وهذا كله مبين في الأصول ، ولكن نصير منه إلى معنى آخر ، وهي :
    [ ص: 76 ] وذلك أن العالم وارث النبي ; فالبيان في حقه لابد منه من حيث هو عالم ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء وهو معنى صحيح [ ص: 77 ] ثابت ويلزم من كونه وارثا قيامه مقام موروثه في البيان ، وإذا كان البيان فرضا على الموروث لزم أن يكون فرضا على الوارث أيضا ، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة ، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها ; فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة ، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ .

    والثاني : ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء ; فقد قال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159 ] ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون [ البقرة : 42 ] ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ البقرة : 140 ] والآيات كثيرة .

    وفي الحديث ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب وقال : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ; فسلطه على هلكته [ ص: 78 ] في الحق ورجل آتاه الله الحكمة ; فهو يقضي بها ويعلمها وقال : من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل .

    والأحاديث في هذا كثيرة ، ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء ، والبيان يشمل البيان الابتدائي والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة ; فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم وإذا كان كذلك انبنى عليه معنى آخر وهي :[ ص: 79 ] فنقول : إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل ; فلابد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم ، كما حصل بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوة في الناس ، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله ، فلا نطول به هاهنا لأنه تكرار .
    إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول ; فهو الغاية في البيان كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات ، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضا ; إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه ، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر .

    فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي ، ولذلك بين عليه الصلاة والسلام الصلاة بفعله لأمته ، كما فعل [ ص: 80 ] به جبريل حين صلى به ، وكما بين الحج كذلك والطهارة كذلك ، وإن جاء فيها بيان بالقول ; فإنه إذا عرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تلقي بالفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة مع أنه إنما بعث ليبين للناس ما نزل إليهم .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #143
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (143)
    صـ81 إلى صـ 90



    وهبه عليه الصلاة والسلام زاد بالوحي الخاص أمورا لا تدرك من النص على الخصوص ; فتلك الزيادات بعد البيان إذا عرضت على النص لم ينافها بل يقبلها ; فآية الوضوء إذا عرض عليها فعله عليه الصلاة والسلام في الوضوء شمله بلا شك ، وكذلك آية الحج مع فعله عليه الصلاة والسلام فيه ، ولو تركنا والنص ; لما حصل لنا منه كل ذلك ، بل أمر أقل منه ، وهكذا نجد الفعل مع [ ص: 81 ] القول أبدا ، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة ، بحيث إذا فعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول ; كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال ، وإن كانت بسائطه معتادة كالصلاة والحج والطهارة ونحوها وإنما يقرب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط ، ووجد له نظير في المعتاد ، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد فبه حصل البيان لا بمجرد القول ، وإذا كان كذلك ; لم يقم القول هنا في [ ص: 82 ] البيان مقام الفعل من كل وجه ; فالفعل أبلغ من هذا الوجه وهو يقصر عن القول من جهة أخرى : وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص ، في الأحوال والأزمان والأشخاص ; فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها ، بخلاف الفعل فإنه مقصور على فاعله ، وعلى زمانه ، وعلى حالته ، وليس له تعد عن محله ألبتة ، فلو تركنا والفعل الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ; لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فعله في هذا الوقت المعين ، وعلى هذه الحالة المعينة .

    فيبقى علينا النظر : هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة أو في هذه الحالة ، أو يختص بهذا الزمان ، أو هو عام في جميع الأزمنة ، أو يختص به وحده ، أو يكون حكم أمته حكمه ؟ .

    ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله : من أي نوع هو من الأحكام الشرعية ؟ .

    وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل ; فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان ; فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه ، وهذا بين بأدنى تأمل ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال حين بين بفعله العبادات : صلوا كما رأيتموني أصلي ، وخذوا عني مناسككم ، ونحو ذلك ; ليستمر البيان إلى أقصاه .
    فصل [ ص: 83 ] وإذا ثبت هذا ; لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين ; فلا يقال : أيهما أبلغ في البيان ; القول ، أم الفعل ؟ إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله إن اتفق ; فيقوم أحدهما مقام الآخر ، وهنالك يقال : أيهما أبلغ ، أو أيهما أولى ؟ كمسألة الغسل من التقاء الختانين مثلا ; فإنه بين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك [ ص: 84 ] والذي وضع إنما هو فعله ثم غسله ; فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه ، أما حكم الغسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه فيختص بالقول
    [ ص: 85 ] المسألة الخامسة إذا وقع القول بيانا ; فالفعل شاهد له ومصدق ، أو مخصص أو مقيد ، وبالجملة عاضد للقول حسبما قصد بذلك القول ، ورافع لاحتمالات فيه تعترض في وجه الفهم ، إذا كان موافقا غير مناقض ، ومكذب له أو موقع فيه ريبة أو شبهة أو توقفا إن كان على خلاف ذلك .

    وبيان ذلك بأشياء منها أن العالم إذا أخبر عن إيجاب العبادة الفلانية أو الفعل الفلاني ، ثم فعله هو ولم يخل به في مقتضى ما قال فيه ; قوي اعتقاد إيجابه ، وانتهض العمل به عند كل من سمعه يخبر عنه ورآه يفعله وإذا أخبر عن تحريمه مثلا ، ثم تركه فلم ير فاعلا له ولا دائرا حواليه ; قوي عند متبعه ما أخبر به عنه ، بخلاف ما إذا أخبر عن إيجابه ثم قعد عن فعله أو أخبر عن تحريمه ثم فعله فإن نفوس الأتباع لا تطمئن إلى ذلك القول منه طمأنينتها إذا ائتمر وانتهى بل يعود من الفعل إلى القول ما يقدح فيه على الجملة ; إما من تطريق احتمال إلى القول ، وإما من تطريق تكذيب إلى القائل ، أو استرابة في بعض مآخذ القول ، مع أن التأسي في الأفعال والتروك بالنسبة إلى من يعظم في دين أو دنيا كالمغرور في الجبلة ، كما هو معلوم بالعيان ; فيصير القول بالنسبة إلى القائل كالتبع للفعل ; فعلى حسب ما يكون القائل في موافقة فعله لقوله يكون اتباعه والتأسي به ، أو عدم ذلك [ ص: 86 ] ولذلك كان الأنبياء عليهم السلام في الرتبة القصوى من هذا المعنى ، وكان المتبعون لهم أشد اتباعا ، وأجرى على طريق التصديق بما يقولون ، مع ما أيدهم الله به من المعجزات والبراهين القاطعة ، ومن جملتها ما نحن فيه ; فإن شواهد العادات تصدق الأمر أو تكذبه ; فالطبيب إذا أخبرك بأن هذا المتناول سم فلا تقربه ، ثم أخذ في تناوله دونك ، أو أمرك بأكل طعام أو دواء لعلة بك ومثلها به ، ثم لم يستعمله مع احتياجه إليه ; دل هذا كله على خلل في الإخبار ، أو في فهم الخبر ; فلم تطمئن النفس إلى قبول قوله ، وقد قال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] ويخدم هذا المعنى الوفاء بالعهد وصدق الوعد ; فقد قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

    وقال في ضده : لئن آتانا من فضله لنصدقن إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 77 ] فاعتبر في الصدق كما ترى مطابقة الفعل القول ، وهذا هو حقيقة الصدق عند العلماء العاملين ; فهكذا إذا أخبر العالم بأن هذا واجب أو محرم ; فإنما [ ص: 87 ] يريد على كل مكلف وأنا منهم ; فإن وافق صدق وإن خالف كذب .

    ومن الأدلة على ذلك أن المنتصب للناس في بيان الدين منتصب لهم بقوله وفعله ; فإنه وارث النبي ، والنبي كان مبينا بقوله وفعله ; فكذلك الوارث لابد أن يقوم مقام الموروث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، ومعلوم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتلقون الأحكام من أقواله وأفعاله وإقراراته وسكوته وجميع أحواله ; فكذلك الوارث ، فإن كان في التحفظ في الفعل كما في التحفظ في القول ; فهو ذلك وصار من اتبعه على هدى ، وإن كان على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى ، لكن بسببه .

    وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما توقفوا عن الفعل الذي أباحه لهم السيد المتبوع عليه الصلاة والسلام ولم يفعله هو ، حرصا منهم على أن يكونوا متبعين لفعله وإن تقدم لهم بقوله ; لاحتمال أن يكون تركه أرجح ، ويستدلون على ذلك بتركه عليه الصلاة والسلام له ; حتى إذا فعله اتبعوه في فعله كما في التحلل من العمرة ، والإفطار في السفر ، هذا وكل صحيح ; فما ظنك بمن [ ص: 88 ] ليس بمعصوم من العلماء ؟ فهو أولى بأن يبين قوله بفعله ، ويحافظ فيه على نفسه وعلى كل من اقتدى به .

    ولا يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ; فلا يتطرق إلى فعله أو تركه المبين خلل ، بخلاف من ليس بمعصوم .

    لأنا نقول : إن اعتبر هذا الاحتمال في ترك الاقتداء بالفعل ; فليعتبر في ترك اتباع القول ، وإذ ذاك يقع في الرتبة فساد لا يصلح ، وخرق لا يرقع ; فلابد أن يجري الفعل مجرى القول ، ولهذا تستعظم شرعا زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولا كانت أو فعلا لأنه موضوع منارا يهتدى به ، فإن علم كون زلته زلة ; صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسينا للظن به ، وإن جهل كونها زلة ; [ ص: 89 ] فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع وذلك كله راجع عليه .

    وقد جاء في الحديث : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " وقال عمر بن الخطاب : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " .

    ونحوه عن أبي الدرداء ولم يذكر فيه الأئمة المضلين .

    وعن معاذ بن جبل يا معشر العرب ! كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع [ ص: 90 ] أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ومثله عن سلمان أيضا وشبه العلماء زلة العالم بكسر السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير وعن ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ، ثم يجد من هو أعلم برسول الله منه ; فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع وهذه الأمور حقيق أن تهدم الدين ، أما زلة العالم ; فكما تقدم ، ومثال كسر السفينة واقع فيها ، وأما الحكم الجائر ; فظاهر أيضا ، وأما الهوى المتبع فهو أصل ذلك كله ، وأما الجدال بالقرآن ; فإنه من اللسن الألد من أعظم الفتن لأن القرآن مهيب جدا ، فإن جادل به منافق على باطل أحاله حقا




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #144
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (144)
    صـ91 إلى صـ 100






    [ ص: 91 ] وصار مظنة للاتباع على تأويل ذلك المجادل ، ولذلك كان الخوارج فتنة على الأمة ; إلا من ثبت الله لأنهم جادلوا به على مقتضى آرائهم الفاسدة ، ووثقوا تأويلاتهم بموافقة العقل لها ; فصاروا فتنة على الناس ، وكذلك الأئمة المضلون لأنهم بما ملكوا من السلطنة على الخلق وقدروا على رد الحق باطلا والباطل حقا ، وأماتوا سنة الله وأحيوا سنن الشيطان ، وأما الدنيا ; فمعلوم فتنتها للخلق .

    فالحاصل أن الأفعال أقوى في التأسي والبيان إذا جامعت الأقوال من انفراد الأقوال ، فاعتبارها في نفسها لمن قام في مقام الاقتداء أكيد لازم ، بل يقال : إذا اعتبر هذا المعنى في كل من هو في مظنة الاقتداء ومنزلة التبيين ; ففرض عليه تفقد جميع أقواله وأعماله ، ولا فرق في هذا بين ما هو واجب وما هو مندوب أو مباح أو مكروه أو ممنوع ; فإن له في أفعاله وأقواله اعتبارين أحدهما : من حيث إنه واحد من المكلفين فمن هذه الجهة يتفصل الأمر في حقه إلى الأحكام الخمسة .

    والثاني : من حيث صار فعله وقوله وأحواله بيانا وتقريرا لما شرع الله عز وجل إذا انتصب في هذا المقام ; فالأقوال كلها والأفعال في حقه إما واجب وإما محرم ، ولا ثالث لهما لأنه من هذه الجهة مبين ، والبيان واجب لا غير ، فإذا [ ص: 92 ] كان مما يفعل ; أو يقال ; كان واجب الفعل على الجملة ، وإن كان مما لا يفعل ; فواجب الترك حسبما يتقرر بعد بحول الله ، وذلك هو تحريم الفعل لكن هذا بالنسبة إلى المقتدى به إنما يتعين حيث توجد مظنة البيان ; إما عند الجهل بحكم الفعل أو الترك ، وإما عند اعتقاد خلاف الحكم ، أو مظنة اعتقاد خلافه .

    فالمطلوب فعله بيانه بالفعل ، أو القول الذي يوافق الفعل إن كان واجبا ، وكذلك إن كان مندوبا مجهول الحكم ، فإن كان مندوبا ومظنة لاعتقاد الوجوب ; فبيانه بالترك ، أو بالقول الذي يجتمع إليه الترك ، كما فعل في ترك الأضحية وترك صيام الست من شوال ، وأشباه ذلك ، وإن كان مظنة لاعتقاد عدم الطلب أو مظنة للترك ; فبيانه بالفعل والدوام فيه على وزان المظنة ; كما في السنن والمندوبات التي تنوسيت في هذه الأزمنة .

    والمطلوب تركه بيانه بالترك ، أو القول الذي يساعده الترك إن كان حراما ، وإن كان مكروها ; فكذلك إن كان مجهول الحكم ، فإن كان مظنة لاعتقاد [ ص: 93 ] التحريم وترجح بيانه بالفعل تعين الفعل على أقل ما يمكن وأقر به وقد قال الله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] وقال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها الآية [ الأحزاب : 50 ] وفي حديث المصبح جنبا قوله : وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام وفي حديث أبي بكر بن عبد الرحمن من قول عائشة : يا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ؟ قال عبد الرحمن : لا والله قالت عائشة : [ ص: 94 ] فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم .

    وفي حديث أم سلمة : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك إلى آخر الحديث .

    وروى إسماعيل القاضي عن زياد بن حصين عن أبيه ; قال : رأيت ابن عباس وهو يسوق راحلته وهو يرتجز وهو محرم وهو يقول :
    وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير نفعل لميسا
    قال : فذكر الجماع باسمه ; فلم يكن عنه قال فقلت : يا ابن عباس ! أتتكلم بالرفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما روجع به النساء [ ص: 95 ] كأنه رأى مظنة هذا الاعتقاد فنفاه بذلك القول بيانا لقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ البقرة : 197 ] وأن الرفث ليس إلا ما كان بين الرجل والمرأة ، وإن كان مظنة لاعتقاد الطلب أو مظنة لأن يثابر على فعله ; فبيانه بالترك جملة إن لم يكن له أصل أو كان له أصل لكن في الإباحة أو في نفي الحرج في الفعل ; كما في سجود الشكر عند مالك وكما في غسل اليدين قبل الطعام ، حسبما بينه مالك في مسألة عبد الملك بن صالح ، وستأتي إن شاء [ ص: 96 ] الله وعلى الجملة فالمراعى هاهنا مواضع طلب البيان الشافي المخرج عن الأطراف والانحرافات ، والراد إلى الصراط المستقيم ، ومن تأمل سير السلف الصالح في هذا المعنى ; تبين ما تقرر بحول الله ، ولابد من بيان هذه الجملة بالنسبة إلى الأحكام الخمسة أو بعضها حتى يظهر فيها الغرض المطلوب ، والله المستعان .
    [ ص: 97 ] المسألة السادسة المندوب من حقيقة استقراره مندوبا أن لا يسوى بينه وبين الواجب ، لا في القول ولا في الفعل ، كما لا يسوى بينهما في الاعتقاد ، فإن سوي بينهما في القول أو الفعل ; فعلى وجه لا يخل بالاعتقاد ، وبيان ذلك بأمور أحدها : أن التسوية في الاعتقاد باطلة باتفاق ، بمعنى أن يعتقد فيما ليس بواجب أنه واجب ، والقول أو الفعل إذا كان ذريعة إلى مطلق التسوية وجب أن يفرق بينهما ، ولا يمكن ذلك إلا بالبيان القولي والفعل المقصود به التفرقة ، وهو ترك الالتزام في المندوب الذي هو من خاصة كونه مندوبا .

    والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث هاديا ومبينا للناس ما نزل إليهم ، وقد كان من شأنه ذلك في مسائل كثيرة ; كنهيه عن إفراد يوم الجمعة بصيام أو ليلته [ ص: 98 ] بقيام وقوله : " لا يجعل أحدكم للشيطان حظا في صلاته " بينه حديث ابن عمر ، قال واسع بن حبان انصرفت من قبل شقي الأيسر ، فقال لي عبد الله بن عمر : ما منعك أن تنصرف عن يمينك ؟ قلت : رأيتك فانصرفت إليك قال : أصبت إن قائلا يقول : انصرف عن يمينك وأنا أقول : انصرف كيف شئت ، عن يمينك وعن يسارك .

    وفي بعض الأحاديث بعد ما قرر حكما غير واجب : من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

    [ ص: 99 ] [ ص: 100 ] وقال الأعرابي : هل علي غيرهن ؟ قال : لا إلا أن تطوع .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #145
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (145)
    صـ101 إلى صـ 110




    وقال لما سئل عن تقديم بعض أفعال الحج على بعض مما ليس تأخيره بواجب : لا حرج قال الراوي : فما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر ; إلا قال افعل ولا حرج مع أن تقديم بعض الأفعال على بعض مطلوب ، لكن لا على الوجوب ونهى عليه الصلاة والسلام عن أن يتقدم رمضان بيوم أو يومين وحرم صيام يوم العيد [ ص: 101 ] ونهى عن التبتل مع قوله تعالى : وتبتل إليه تبتيلا [ المزمل : 8 ] ونهى عن الوصال وقال : خذوا من العمل ما تطيقون مع أن الاستكثار من الحسنات خير إلى غير ذلك من الأمور التي بينها بقوله وفعله وإقراره مما خلافه مطلوب ولكن تركه وبينه خوفا أن يصير من قبيل آخر في الاعتقاد .

    ومسلك آخر ، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل وهو يحب أن يعمل به ; خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ، قالت عائشة : وما سبح النبي صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها [ ص: 102 ] وقد قام ليالي من رمضان في المسجد ; فاجتمع إليه ناس يصلون بصلاته ، ثم كثروا فترك ذلك ، وعلل بخشية الفرض .

    ويحتمل وجهين : أحدهما : أن يفرض بالوحي ، وعلى هذا جمهور الناس .

    والثاني : في معناه وهو الخوف أن يظن فيها أحد من أمته بعده إذا داوم عليها الوجوب ، وهو تأويل متمكن .

    والثالث : أن الصحابة عملوا على هذا الاحتياط في الدين لما فهموا هذا الأصل من الشريعة ، وكانوا أئمة يقتدى بهم ; فتركوا أشياء وأظهروا ذلك ليبينوا أن تركها غير قادح وإن كانت مطلوبة ; فمن ذلك ترك عثمان القصر في السفر في خلافته ، وقال إني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين ; فيقولون : هكذا فرضت وأكثر المسلمين على أن القصر [ ص: 103 ] مطلوب وقال حذيفة بن أسيد : " شهدت أبا بكر وعمر وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى الناس أنها واجبة " وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبش أو بديك وعن ابن عباس أنه كان يشتري لحما بدرهمين يوم الأضحى ، ويقول [ ص: 104 ] لعكرمة : " من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ، وكان غنيا وقال بعضهم : إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ; مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة وقال أبو أيوب الأنصاري : " كنا نضحي عن النساء وأهلينا ; فلما تباهى الناس بذلك تركناها " ولا خلاف في أن الأضحية مطلوبة .

    وقال ابن عمر في صلاة الضحى : إنها بدعة وحمل على أحد [ ص: 105 ] وجهين : إما أنهم كانوا يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض ، وقد منع النساء المساجد مع ما في الحديث من قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ; لما أحدثن في خروجهن ولما يخاف فيهن والرابع : أن أئمة المسلمين استمروا على هذا الأصل على الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل ; فقد كره مالك وأبو حنيفة صيام ست من شوال وذلك [ ص: 106 ] للعلة المتقدمة ، مع أن الترغيب في صيامها ثابت صحيح ; لئلا يعتقد ضمها إلى رمضان .

    قال القرافي : " وقد وقع ذلك للعجم " وقال الشافعي في [ ص: 107 ] الأضحية بنحو من ذلك حيث استدل على عدم الوجوب بفعل الصحابة المذكور وتعليلهم والمنقول عن مالك من هذا كثير ، وسد الذريعة أصل عنده متبع ، مطرد في العادات والعبادات ; فبمجموع هذه الأدلة نقطع بأن التفريق بين الواجب والمندوب إذا استوى القولان أو الفعلان مقصود شرعا ، ومطلوب من كل من يقتدى به قطعا كما يقطع بالقصد إلى الفرق بينهما اعتقادا .
    فصل

    والتفرقة بينهما تحصل بأمور : منها بيان القول إن اكتفي به وإلا ; فالفعل وهو أحرى بل هو في هذا النمط مقصود ، وقد يكون في سوابق الشيء المندوب وفي قرائنه وفي لواحقه ، وأمثلة ذلك ظاهرة مما تقدم وأشباهه .

    وأكثر ما يحصل الفرق في الكيفيات العديمة النص ، وأما المنصوصة فلا كلام فيها ، فالفعل أقوى إذا في هذا المعنى ; لما تقدم من أن الفعل يصدق القول أو يكذبه .
    [ ص: 108 ] فصل

    وكما أن من حقيقة استقرار المندوب أن لا يسوى بينه وبين الواجب في الفعل كذلك من حقيقة استقراره أن لا يسوى بينه وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان ; فإنه لو وقعت التسوية بينهما لفهم من ذلك مشروعية الترك كما تقدم ، ولم يفهم كون المندوب مندوبا ، هذا وجه .

    ووجه آخر وهو أن في ترك المندوب إخلالا بأمر كلي فيه ، ومن المندوبات ما هو واجب بالكل ; فيؤدي تركه مطلقا إلى الإخلال بالواجب ، بل لابد من العمل به ليظهر للناس فيعملوا به ، وهذا مطلوب ممن يقتدى به ، كما كان شأن السلف الصالح .

    وفي الحديث الحسن عن أنس ; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل ، ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي ; فقد أحبني ، ومن أحبني ; كان معي في الجنة " فجعل العمل بالسنة إحياء لها ; فليس بيانها مختصا بالقول [ ص: 109 ] وقد قال مالك في نزول الحاج بالمحصب من مكة ، وهو الأبطح : أستحب للأئمة ولمن يقتدى به أن لا يجاوزوه حتى ينزلوا به ; فإن ذلك من حقهم لأن ذلك أمر قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ، فيتعين على الأئمة ومن يقتدى به من أهل العلم إحياء سننه ، والقيام به لئلا يترك هذا الفعل جملة ، ويكون للنزول بهذا الموضع حكم النزول بسائر المواضع ، لا فضيلة للنزول به بل لا يجوز النزول به على وجه القربة هكذا نقل الباجي .

    وهو ظاهر من مذهب مالك في أن المندوب لابد من التفرقة بينه وبين ما ليس بمندوب ، وذلك بفعله وإظهاره .

    وقال بعضهم في حديث عمر " بل أغسل ما رأيت ، وأنضح ما لم أر " : في هذا الحديث أن عمر رأى أن أعماله وأقواله نهج للسنة وأنه موضع للقدوة ، يعني : فعمل هنا على مقتضى الأخذ عنه في ذلك الفعل ، وصار ذلك أصلا في التوسعة على الناس في ترك تكلف ثوب آخر للصلاة ، وفي تأخير الصلاة لأجل غسل الثوب .

    وفي الحديث : " واعجبا لك يا ابن العاص ! لئن كنت تجد ثيابا ; أفكل [ ص: 110 ] الناس يجد ثيابا ؟ والله لو فعلتها لكانت سنة الحديث .

    ولمكان هذا ونحوه اقتدى به عمر بن عبد العزيز حفيده ; ففي العتبية قيل لعمر بن عبد العزيز : أخرت الصلاة شيئا فقال : إن ثيابي غسلت .

    قال ابن رشد : يحتمل أنه لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا ، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله ليقتدى به في ذلك ، ائتساء بعمر بن الخطاب ; فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #146
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (146)
    صـ111 إلى صـ 120




    ومما نحن فيه ما قال الماوردي فيمن صار ترك الصلاة في الجماعة له إلفا وعادة ، وخيف أن يتعدى إلى غيره في الاقتداء به ، أن للحاكم أن يزجره ، واستشهد على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا الحديث [ ص: 111 ] وقال : أيضا فيما إذا تواطأ أهل بلد على تأخير الصلاة إلى آخر وقتها أن له أن ينهاهم قال : لأن اعتياد جميع الناس لتأخيرها مفض بالصغير الناشئ إلى اعتقاد أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه .

    وأشار إلى نحو هذا في مسائل أخر ، وحكى قولين في مسألة اعتراض المحتسب على أهل القرية في إقامة الجمعة بجماعة اختلف في انعقاد الجمعة بهم في بعض وجوهها ، وذلك إذا كان هو يرى إقامتها وهم لا يرونها ، ووجه القول بإقامتها على رأيه باعتبار المصلحة ; لئلا ينشأ الصغير على تركها ، فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه .

    وهذا الباب يتسع ، ومما يجري مجراه في تقوية اعتبار البيان في هذه المسائل وأشباهها مما ذكر أو لم يذكر قصة عمر بن عبد العزيز مع عروة بن عياض حين نكت بالخيزرانة بين عينيه ، ثم قال : هذه غرتني منك لسجدته التي بين عينيه ، ولولا أني أخاف أن تكون سنة من بعدي ; لأمرت بموضع السجود فقور .

    وقد عول العلماء على هذا المعنى وجعلوه أصلا يطرد ، وهو راجع إلى سد الذرائع الذي اتفق العلماء على إعماله في الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] [ ص: 112 ] وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وقد منع مالك لمن رأى هلال شوال وحده أن لا يفطر لئلا يكون ذريعة إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به ، وقال بمثله فيمن شهد عليه شاهدا زور بأنه طلق امرأته ثلاثا ولم يفعل ; فمنعه من وطئها إلا أن يخفى ذلك عن الناس .

    وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة فإنهم إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ; فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : " لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة " .

    ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على الموطأ ; فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضا [ ص: 113 ] ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور ; فقال له : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا ؟ قال لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه .

    ولما هم أبو جعفر المنصور أن يبني البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعد إبراهيم شاور مالكا في ذلك ; فقال له مالك : أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره ; فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه ; لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره ; فلا يثبت على حال .
    [ ص: 114 ] المسألة السابعة

    المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أن لا يسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات ; فإنها إن سوي بينها وبين المندوبات بالدوام على الفعل على كيفية فيها معينة أو غير ذلك توهمت مندوبات كما تقدم في مسح الجباه بأثر الرفع من السجود ، ومسألة عمر بن الخطاب في غسل ثوبه من الاحتلام وترك الاستبدال به .

    وقد حكى عياض عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح أمير المدينة ; فجلس ساعة ثم دعا بالوضوء والطعام ، فقال : ابدءوا بأبي عبد الله فقال مالك : إن أبا عبد الله يعني نفسه لا يغسل يده فقال : لم ؟ قال : ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا إنما هو من رأي الأعاجم ، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه فقال له عبد الملك : أأترك يا أبا عبد الله ؟ قال : إي والله فما عاد إلى ذلك ابن صالح قال مالك : ولا نأمر الرجل أن لا يغسل [ ص: 115 ] يده ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه ; فلا ، أميتوا سنة العجم ، وأحيوا سنة العرب ، أما سمعت قول عمر : تمعددوا واخشوشنوا وامشوا حفاة وإياكم وزي العجم .

    وهكذا إن سوى في الترك بينها وبين المكروهات ربما توهمت مكروهات ; فقد كان عليه الصلاة والسلام يكره الضب ويقول : لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وأكل على مائدته ; فظهر حكمه .

    وقدم إليه طعام فيه ثوم لم يأكل منه قال له أبو أيوب وهو الذي بعث به إليه يا رسول الله : أحرام هو ؟ قال : لا ولكني أكرهه من أجل ريحه وفي رواية أنه قال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أؤذي صاحبي [ ص: 116 ] وروي في الحديث أن سودة بنت زمعة خشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تطلقني ، وأمسكني ، واجعل يومي لعائشة ففعل ; فنزلت : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا الآية [ النساء : 128 ] فكان هذا تأديبا وبيانا بالقول والفعل لأمر ربما استقبح بمجرى العادة ; حتى يصير كالمكروه ، وليس بمكروه .

    والأدلة على هذا الفصل نحو من الأدلة على استقرار المندوبات .
    [ ص: 117 ] المسألة الثامنة

    المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات .

    أما الأول ; فلأنها إذا أجريت ذلك المجرى توهمت محرمات ، وربما طال العهد فيصير الترك واجبا عند من لا يعلم .

    ولا يقال : إن في بيان ذلك ارتكابا للمكروه وهو منهي عنه ; لأنا نقول : البيان آكد وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ; ألا ترى إلى كيفية تقرير الحكم على الزاني ، وما جاء في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام له : أنكتها هكذا من غير كناية ، مع أن ذكر هذا اللفظ في غير معرض البيان مكروه أو ممنوع ؟ غير أن التصريح هنا آكد ، فاغتفر لما يترتب عليه ; فكذلك هنا ، ألا ترى إلى إخبار عائشة عما فعلته مع رسول الله في التقاء الختانين وقوله عليه الصلاة والسلام : ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك مع أن ذكر مثل هذا في غير محل البيان منهي عنه ؟ [ ص: 118 ] وقد تقدم ما جاء عن ابن عباس في ارتجازه وهو محرم بقوله : إن تصدق الطير ننك لميسا مثل هذا لا حرج فيه .

    وأما الثاني ; فلأنها إذا عمل بها دائما وترك اتقاؤها توهمت مباحات فينقلب حكمها عند من لا يعلم وبيان ذلك يكون بالتغيير والزجر على ما يليق به في الإنكار ، ولا سيما المكروهات التي هي عرضة لأن تتخذ سننا ، وذلك المكروهات المفعولة في المساجد ، وفي مواطن الاجتماعات الإسلامية ، والمحاضر الجمهورية ، ولأجل ذلك كان مالك شديد الأخذ على من فعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من هذه المكروهات ، بل ومن المباحات ; كما أمر بتأديب من وضع رداءه أمامه من الحر وما أشبه ذلك .
    فصل

    ما تقدم من هذه المسائل يتفرع عنها قواعد فقهية وأصولية ، منها أنه لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم [ ص: 119 ] الجاهل منها الوجوب ، إذا كان منظورا إليه مرموقا ، أو مظنة لذلك ، بل الذي ينبغي له أن يدعها في بعض الأوقات حتى يعلم أنها غير واجبة ; لأن خاصية الواجب المكرر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه ، كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فهم الناظر منه نفس الخاصية التي للواجب ; فحمله على الوجوب ، ثم استمر على ذلك ; فضل .

    وكذلك إذا كانت العبادة تتأتى على كيفيات يفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يفهم منها على الكيفية الأخرى ، أو ضمت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يفهم دونه ، أو كان المباح يتأتى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريا له ويترك ما سواه ، أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يفهم منه في الترك أنه مشروع .

    ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس ، قرأها في كرة أخرى ، فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود ; فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء .

    وسئل مالك عن التسمية عند الوضوء ; فقال : أيحب أن يذبح ؟ إنكارا لما يوهمه سؤاله من تأكيد الطلب فيها عند الوضوء [ ص: 120 ] ونقل عن عمر ; أنه قال : لا نبالي أبدأنا بأيماننا أم بأيسارنا يعني : في الوضوء ، مع أن المستحب التيامن في الشأن كله .

    ومثال العبادات المؤداة على كيفيات يلتزم فيها كيفية واحدة إنكار مالك لعدم تحريك الرجلين في القيام للصلاة .

    ومثال ضم ما ليس بعبادة إلى العبادة حكاية الماوردي في مسح الوجه عند القيام من السجود وحديث عمر مع عمرو : لو فعلتها لكانت سنة ، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #147
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (147)
    صـ121 إلى صـ 130


    ومثال فعل الجائز على وجه واحد ما نقل عن مالك أنه سئل عن المرة الواحدة في الوضوء قال : لا ، الوضوء مرتان مرتان ، أو ثلاث ثلاث ، مع أنه [ ص: 121 ] لم يحد في الوضوء ولا في الغسل إلا ما أسبغ .

    قال اللخمي : وهذا احتياط وحماية ; لأن العامي إذا رأى من يقتدي به يتوضأ مرة مرة فعل مثل ذلك ، وقد لا يحسن الإسباغ بواحدة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به .

    والأمثلة كثيرة ، وهذا كله إنما هو فيما فعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الاقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به ; فلا بأس كما قاله المتأخرون في صيام ست من شوال : إن من فعل ذلك في نفسه معتقدا وجه الصحة ; فلا بأس ، وكذا قال مالك في المرة الواحدة : حيث لا أحب ذلك إلا للعالم بالوضوء ، وما ذكره اللخمي يشعر بأنه إذا فعل الواحدة حيث لا يقتدى به ، فلا بأس وهو جار على المذهب ; لأن أصل مالك فيه عدم التوقيت .

    فأما إن أحب الالتزام وأن لا يزول عنه ولا يفارقه ; فلا ينبغي أن يكون ذلك بمرأى من الناس ، لأنه إن كان كذلك ; فربما عده العامي واجبا أو مطلوبا أو متأكد الطلب بحيث لا يترك ، ولا يكون كذلك شرعا ; فلابد في إظهاره من عدم التزامه في بعض الأوقات ، ولابد في التزامه من عدم إظهاره كذلك في بعض الأوقات ، وذلك على الشرط المذكور في أول كتاب الأدلة [ ص: 122 ] ولا يقال : إن هذا مضاد لما تقدم من قصد الشارع للدوام على الأعمال ، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته لأنا نقول : كما يطلق الدوام على مالا يفارق ألبتة كذلك يطلق على ما يكون في أكثر الأحوال ، فإذا ترك في بعض الأوقات ; لم يخرج صاحبه عن أصل الدوام ، كما لا نقول في الصحابة حين تركوا التضحية في بعض الأوقات : إنهم غير مداومين عليها ; فالدوام على الجملة لا يشترط في صحة إطلاقه عدم الترك رأسا ، وإنما يشترط فيه الغلبة في الأوقات أو الأكثرية ، بحيث يطلق على صاحبه اسم الفاعل إطلاقا حقيقيا في اللغة .

    ولما كانت الصوفية قد التزمت في السلوك ما لا يلزمها حتى سوت بين الواجب والمندوب في التزام الفعل ، وبين المكروهات والمحرمات في التزام الترك ، بل سوت بين كثير من المباحات والمكروهات في الترك ، وكان هذا النمط ديدنها لا سيما مع ترك أخذها بالرخص ; إذ من مذاهبها عدم التسليم للسالك فيها من حيث هو سالك ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تلزم الجمهور ، بنوا طريقهم بينهم وبين تلاميذهم على كتم أسرارهم وعدم إظهارها ، والخلوة بما التزموا من وظائف السلوك وأحوال المجاهدة خوفا من تعريض من يراهم ولا يفهم مقاصدهم إلى ظن ما ليس بواجب واجبا أو ما هو [ ص: 123 ] جائز غير جائز أو مطلوبا ، أو تعريضهم لسوء القال فيهم فلا عتب عليهم في ذلك ، كما لا عتب عليهم في كتم أسرار مواجدهم ; لأنهم إلى هذا الأصل يستندون ، ولأجل إخلال بعضهم بهذا الأصل ; إما لحال غالبة ، أو لبناء بعضهم على غير أصل صحيح ، انفتح عليهم باب سوء الظن من كثير من العلماء ، وباب فهم الجهال عنهم ما لم يقصدوه ، وهذا كله محظور .
    [ ص: 124 ] المسألة التاسعة

    الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تترك ولا يسامح في تركها ألبتة ، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسو بينها وبين غيرها من الأحكام ; فلا تفعل ولا يسامح في فعلها ، وهذا ظاهر ، ولكنا نسير منه إلى معنى آخر ، وذلك أن من الواجبات ما إذا تركت لم يترتب عليها حكم دنيوي ، وكذلك من المحرمات ما إذا فعلت لم يترتب عليها أيضا حكم في الدنيا ، ولا كلام في مترتبات الآخرة ; لأن ذلك خارج عن تحكمات العباد .

    كما أن من الواجبات ما إذا تركت ومن المحرمات ما إذا فعلت ترتب عليهما حكم دنيوي من عقوبة أو غيرها .

    فما ترتب عليه حكم يخالف ما لم يترتب عليه حكم ; فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يسوى بينه وبين الآخر ; لأن في تغيير أحكامها تغييرها في أنفسها ; فكل ما يحذر في عدم البيان في الأحكام المتقدمة يحذر هنا لا فرق بين ذلك والأدلة التي تقدمت هنالك يجري مثلها هنا .

    ويتبين هذا الموضع أيضا بأن يقال : إذا وضع الشارع حدا في فعل مخالف فأقيم ذلك الحد على المخالف ; كان الحكم الشرعي فيه مقررا مبينا فإذا لم يقم فقد أقر على غير ما أقره الشارع ، وغير إلى الحكم المخالف الذي لا يترتب عليه مثل ذلك الحكم ، ووقع بيانه مخالفا ; فيصير المنتصب [ ص: 125 ] لتقرير الأحكام قد خالف قوله فعله ; فيجري فيه ما تقدم ، فإذا رأى الجاهل ما جرى ; توهم الحكم الشرعي على خلاف ما هو عليه ، فإذا قرر المنتصب الحكم على وجه ثم أوقع على وجه آخر ; حصلت الريبة ، وكذب الفعل القول كما تقدم بيانه ، وكل ذلك فساد ، وبهذا المثال يتبين أن وارث النبي يلزمه إجراء الأحكام على موضوعاتها ; في أنفسها ، وفي لواحقها ، وسوابقها ، وقرائنها ، وسائر ما يتعلق بها شرعا ; حتى يكون دين الله بينا عند الخاص والعام ، وإلا ; كان من الذين قال الله تعالى فيهم : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية [ البقرة : 159
    [ ص: 126 ] المسألة العاشرة

    لا يختص هذا البيان المذكور بالأحكام التكليفية ، بل هو لازم أيضا في الأحكام الراجعة إلى خطاب الوضع ; فإن الأسباب والشروط والموانع والعزائم والرخص وسائر الأحكام المعلومة أحكام شرعية ، لازم بيانها قولا وعملا ، فإذا قررت الأسباب قولا وعمل على وفقها إذا انتهضت ; حصل بيانها للناس ، فإن قررت ، ثم لم تعمل مع انتهاضها كذب القول الفعل ، وكذلك الشروط إذا انتهض السبب مع وجودها فأعمل ، أو مع فقدانها فلم يعمل ; وافق القول الفعل ، فإن عكست القضية وقع الخلاف ; فلم ينتهض القول بيانا ، وهكذا الموانع وغيرها .

    وقد أعمل النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى الرخصة في الإحلال من العمرة والإفطار في السفر ، وأعمل الأسباب ، ورتب الأحكام حتى في نفسه ، حين أقص من نفسه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في غيره ، والشواهد على هذا لا تحصى ، والشريعة كلها داخلة تحت هذه الجملة ، والتنبيه كاف
    [ ص: 127 ] المسألة الحادية عشرة

    بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان صحيح لا إشكال في صحته ; لأنه لذلك بعث ، قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ولا خلاف فيه .

    وأما بيان الصحابة فإن أجمعوا على ما بينوه ; فلا إشكال في صحته أيضا ، [ ص: 128 ] كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ المائدة : 6 ] وإن لم يجمعوا عليه ; فهل يكون بيانهم حجة ، أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل ، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين : أحدهما : معرفتهم باللسان العربي فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ; فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان ; صح اعتماده من هذه الجهة .

    والثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة ; فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل ; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب .

    فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات أو تخصيص بعض العمومات فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة ، فإن خالف بعضهم ; فالمسألة اجتهادية [ ص: 129 ] مثاله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر فهذا التعجيل يحتمل أن يقصد به إيقاعه قبل الصلاة ، ويحتمل أن لا ; فكان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يصليان المغرب قبل أن يفطرا ، ثم يفطران بعد الصلاة بيانا أن هذا التعجيل لا يلزم أن يكون قبل الصلاة ، بل إذا كان بعد الصلاة ; فهو تعجيل أيضا ، وأن التأخير الذي يفعله أهل المشرق شيء [ ص: 130 ] آخر داخل في التعمق المنهي عنه ، وكذلك ذكر عن اليهود أنهم يؤخرون الإفطار ; فندب المسلمون إلى التعجيل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #148
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (148)
    صـ131 إلى صـ 140



    وكذلك لما قال عليه الصلاة والسلام : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه احتمل أن تكون الرؤية مقيدة بالأكثر وهو أن يرى بعد [ ص: 131 ] غروب الشمس فبين عثمان بن عفان أن ذلك غير لازم فرأى الهلال في خلافته قبل الغروب ، فلم يفطر حتى أمسى وغابت الشمس .

    وتأمل ; فعادة مالك بن أنس في موطئه وغيره الإتيان بالآثار عن الصحابة مبينا بها السنن ، وما يعمل به منها وما لا يعمل به ، وما يقيد به مطلقاتها ، وهو دأبه ومذهبه لما تقدم ذكره .

    ومما بين كلامهم اللغة أيضا ، كما نقل مالك في دلوك الشمس وغسق الليل كلام ابن عمر وابن عباس ، وفي معنى السعي عن عمر بن الخطاب أعني قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] وفي معنى الإخوة أن السنة مضت أن الإخوة اثنان فصاعدا كما تبين بكلامهم [ ص: 132 ] معاني الكتاب والسنة .

    لا يقال : إن هذا المذهب راجع إلى تقليد الصحابي ، وقد عرفت ما فيه من النزاع والخلاف ; لأنا نقول : نعم ، هو تقليد ، ولكنه راجع إلى ما لا يمكن الاجتهاد فيه على وجهه ; إلا لهم لما تقدم من أنهم عرب وفرق بين من هو عربي الأصل والنحلة وبين من تعرب غلب التطبع شيمة المطبوع وأنهم شاهدوا من أسباب التكاليف وقرائن أحوالها ما لم يشاهد من بعدهم ، ونقل قرائن الأحوال على ما هي عليه كالمتعذر ; فلابد من القول بأن فهمهم في الشريعة أتم وأحرى بالتقديم ، فإذا جاء في القرآن أو في السنة من بيانهم ما هو موضوع موضع التفسير ، بحيث لو فرضنا عدمه لم يمكن تنزيل النص عليه على وجهه ; انحتم الحكم بإعمال ذلك البيان لما ذكر ، ولما جاء في [ ص: 133 ] السنة من اتباعهم والجريان على سننهم ، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وغير ذلك من الأحاديث ; فإنها عاضدة لهذا [ ص: 134 ] المعنى في الجملة أما إذا علم أن الموضع موضع اجتهاد لا يفتقر إلى ذينك الأمرين ; فهم ومن سواهم فيه شرع سواء ; كمسألة العول ، والوضوء من النوم ، وكثير من مسائل الربا التي قال فيها عمر بن الخطاب : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا آية الربا ; فدعوا الربا والريبة ، أو كما قال ; فمثل هذه المسائل موضع اجتهاد للجميع لا يختص به الصحابة دون غيرهم من المجتهدين ، وفيه خلاف بين العلماء أيضا ; فإن منهم من يجعل قول الصحابي ورأيه حجة يرجع إليها ويعمل عليها من غير نظر ; كالأحاديث والاجتهادات النبوية ، وهو مذكور في كتب الأصول ; فلا يحتاج إلى ذكره هاهنا
    [ ص: 135 ] المسألة الثانية عشرة الإجمال إما متعلق بما لا ينبني عليه تكليف ، وإما غير واقع في الشريعة .

    وبيان ذلك من أوجه : أحدها : النصوص الدالة على ذلك ; كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] وقوله وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ النحل : 44 ] وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، هدى ورحمة للمحسنين [ لقمان : 3 ] وإنما كان هدى لأنه مبين ، والمجمل لا يقع به بيان ، وكل ما في هذا المعنى من الآيات .

    وفي الحديث : تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها وفيه : تركت فيكم اثنين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ; كتاب الله [ ص: 136 ] وسنتي ويصحح هذا المعنى قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] ويدل على أنهما بيان لكل مشكل ، وملجأ من كل معضل .

    وفي الحديث : ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه .

    وهذا المعنى كثير ، فإن كان في القرآن شيء مجمل ; فقد بينته السنة كبيانه للصلوات الخمس في مواقيتها وركوعها وسجودها وسائر أحكامها ، وللزكاة ومقاديرها وأوقاتها وما تخرج منه من الأموال ، وللحج إذ قال : خذوا عني مناسككم وما أشبه ذلك [ ص: 137 ] ثم بين عليه الصلاة والسلام ما وراء ذلك مما لم ينص عليه في القرآن ، والجميع بيان منه عليه الصلاة والسلام .

    فإذا ثبت هذا ، فإن وجد في الشريعة مجمل ، أو مبهم المعنى ، أو ما لا يفهم ; فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال ، وطلب ما لا ينال ، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] [ ص: 138 ] ولما بين الله تعالى أن في القرآن متشابها ; بين أيضا أنه ليس فيه تكليف إلا الإيمان به على المعنى المراد منه ، لا على ما يفهم المكلف منه ; فقد قال الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله : كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] والناس في المتشابه المراد هاهنا على مذهبين : فمن قال : إن الراسخين يعلمونه ; فليس بمتشابه عليهم وإن تشابه على غيرهم ، كسائر المبينات المشتبهة على غير العرب ، أو على غير العلماء من الناس ، ومن قال إنهم لا يعلمونه وإن الوقف على قوله إلا الله [ آل عمران : 7 ] ; فالتكليف بما يراد به مرفوع باتفاق ; فلا يتصور أن يكون ثم مجمل لا يفهم معناه ثم يكلف به ، وهكذا إذا قلنا : إن الراسخين هم المختصون بعلمه دون غيرهم ; فذلك الغير ليسوا بمكلفين بمقتضاه ، ما دام مشتبها عليهم ; حتى يتبين باجتهاد أو تقليد ، وعند ذلك يرتفع تشابهه ; فيصير كسائر المبينات .

    فإن قيل : قد أثبت القرآن متشابها في القرآن ، وبينت السنة أن في الشريعة مشتبهات بقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وهذه المشتبهات متقاة بأفعال العباد لقوله : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه [ ص: 139 ] وعرضه ; فهي إذا مجملات وقد انبنى عليها التكليف ، كما أن قوله تعالى وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] قد انبنى عليها التكليف وذلك قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] فكيف يقال : إن الإجمال والتشابه لا يتعلقان بما ينبني عليه تكليف ؟ فالجواب : إن الحديث في المتشابهات ليس مما نحن بصدده وإنما كلامنا في التشابه الواقع في خطاب الشارع ، وتشابه الحديث في مناط الحكم ، وهو راجع إلى نظر المجتهد حسبما مر في فصل التشابه ، وإن سلم ; فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل ، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله ، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد ، ولذلك قال : فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله : الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] وفي الحديث : ينزل ربنا إلى سماء الدنيا وأشباه ذلك هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف ، وإلا ; فالتكليف متعلق بكل موجود من حيث يعتقد على ما هو عليه ، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه ، إلى [ ص: 140 ] غير ذلك من وجوه النظر .

    الوجه الثاني : أن المقصود الشرعي من الخطاب الوارد على المكلفين تفهيم ما لهم وما عليهم ، مما هو مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وهذا يستلزم كونه بينا واضحا لا إجمال فيه ولا اشتباه ، ولو كان فيه بحسب هذا القصد اشتباه وإجمال ; لناقض أصل مقصود الخطاب ، فلم تقع فائدة وذلك ممتنع من جهة رعي المصالح ; تفضلا أو انحتاما ، أو عدم رعيها ; إذ لا يعقل خطاب مقصود من غير تفهيم مقصود .

    والثالث : أنهم اتفقوا على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز تكليف المحال ، وقد مر بيان امتناع تكليف المحال سمعا فبقي الاعتراف بامتناع تأخير البيان عن وقته ، وإذا ثبت ذلك ; فمسألتنا من قبيل هذا المعنى ، لأن خطاب التكليف في وروده مجملا غير مفسر ، إما أن يقصد التكليف به مع عدم بيانه ، أو لا ، فإن لم يقصد ; فذلك ما أردنا ، وإن قصد ; رجع إلى تكليف ما لا يطاق ، وجرت دلائل الأصوليين هنا في المسألة .

    وعلى هذين الوجهين أعني : الثاني والثالث إن جاء في القرآن مجمل ; فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به ، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي ، وهو المطلوب .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #149
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (149)
    صـ141 إلى صـ 150





    [ ص: 141 ] [ ص: 142 ] [ ص: 143 ] الطرف الثاني

    في الأدلة على التفصيل

    وهي : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي

    ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما ; اقتصرنا على النظر فيهما .

    وأيضا ; فإن في أثناء الكتاب كثيرا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما ، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما ; فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي ، والاقتصار على الكتاب والسنة ، والله المستعان .

    فالأول أصلها ، وهو الكتاب ، وفيه مسائل : [ ص: 144 ] المسألة الأولى

    إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة ، وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وأنه لا طريق إلى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه ; لأنه معلوم من دين الأمة ، وإذا كان كذلك ; لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها ، واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرا وعملا ، لا اقتصارا على أحدهما ; فيوشك أن يفوز بالبغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول ، فإن كان قادرا على ذلك ، ولا يقدر عليه إلا من زوال ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب ، وإلا فكلام الأئمة السابقين ، والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف ، والمرتبة المنيفة .

    وأيضا ; فمن حيث كان القرآن معجزا أفحم الفصحاء ، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله ; فذلك لا يخرجه عن كونه عربيا جاريا على أساليب كلام العرب ، ميسرا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى ، لكن بشرط الدربة في اللسان العربي ، كما تبين في كتاب الاجتهاد ; إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه ; لكان خطابهم به من تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن الأمة ، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه ; إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب ، مفهوم معقول ، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله [ ص: 145 ] ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرا فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال أعجز ما كانوا عن معارضته وقد قال الله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ القمر : 17 ] وقال : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ مريم : 97 ] وقال : قرآنا عربيا لقوم يعلمون [ فصلت : 3 ] وقال : بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وعلى أي وجه فرض إعجازه ; فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه ، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ ص : 29 ] فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والتفهم ، وكذلك ما كان مثله ، وهو ظاهر .
    [ ص: 146 ] المسألة الثانية

    معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ; إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ; إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ; كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ; فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع .

    [ ص: 147 ] [ ص: 148 ] ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ; قال : خلا عمر ذات يوم ; فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ; فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره ; فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ; فعرفه فأرسل إليه ; فقال : أعد علي ما قلت فأعاده عليه ; فعرف عمر قوله وأعجبه [ ص: 149 ] وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير ; أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين .

    فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .

    وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال : قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ ص: 150 ] إلى قوله : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 187 188 ] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان .

    والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ; فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ; فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح [ المائدة : 93 ] إلخ : فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #150
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (150)
    صـ151 إلى صـ 160



    وفي رواية : فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن [ ص: 151 ] هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر [ المائدة : 90 ] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر : صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي ; قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] الآية قال : فكتب فيهم إلى عمر ، قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ; فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث .

    ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات .

    [ ص: 152 ] وجاء رجل إلى ابن مسعود ; فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال يأتي الناس يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ; فأنزل الله فارتقب يوم تأتي السماء بدخان الآية [ الدخان : 10 ] إلى آخر القصة .
    وهكذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزل ، بحيث لو فقد ذكر السبب ; لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات وتوجه الإشكالات ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : خذوا القرآن من أربعة ، منهم عبد الله بن مسعود ، وقد قال في خطبة خطبها : والله ; لقد [ ص: 153 ] علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وقال في حديث آخر : والذي لا إله غيره ; ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت ؟ ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه وهذا يشير إلى أن علم الأسباب من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن .

    وعن الحسن ; أنه قال : ما أنزل الله آية ; إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت ؟ وما أراد بها ؟ وهو نص في الموضع مشير إلى التحريض على تعلم علم الأسباب .

    وعن ابن سيرين ; قال : سألت عبيدة عن شيء من القرآن ; فقال اتق الله ، وعليك بالسداد ; فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن وعلى الجملة ; فهو ظاهر بالمزاولة لعلم التفسير .
    [ ص: 154 ] فصل

    ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثم سبب خاص لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه ، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة ويكفيك من ذلك ما تقدم بيانه في النوع الثاني من كتاب المقاصد ; فإن فيه ما يثلج الصدر ويورث اليقين في هذا المقام ، ولابد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد وإن كان مفهوما : أحدها قول الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ البقرة : 196 ] فإنما أمر بالإتمام دون الأمر بأصل الحج لأنهم كانوا قبل الإسلام آخذين به ، لكن على تغيير بعض الشعائر ، ونقص جملة منها ; كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك مما غيروا ، فجاء الأمر بالإتمام لذلك ، وإنما جاء إيجاب الحج نصا في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ آل عمران : 97 ] وإذا عرف هذا تبين هل في الآية دليل على إيجاب الحج أو إيجاب العمرة ، أم لا ؟ والثاني : قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] نقل عن أبي يوسف أن ذلك في الشرك لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر [ ص: 155 ] فيريد أحدهم التوحيد فيهم فيخطئ بالكفر ; فعفا لهم عن ذلك كما عفا لهم عن النطق بالكفر عند الإكراه ، قال فهذا على الشرك ، ليس على الأيمان في الطلاق والعتاق والبيع والشراء ، لم تكن الأيمان بالطلاق والعتاق في زمانهم والثالث : قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] أأمنتم من في السماء [ تبارك : 16 ] وأشباه ذلك ، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض ، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق ; فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيها على نفي ما ادعوه في الأرض ; فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة ألبتة ، ولذلك قال تعالى : فخر عليهم السقف من فوقهم [ النحل : 26 ] فتأمله واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث .

    والرابع : قوله تعالى : وأنه هو رب الشعرى [ النجم : 49 ] فعين هذا الكوكب لكون العرب عبدته ، وهم خزاعة ابتدع ذلك لهم أبو كبشة ، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها ; فلذلك عينت
    فصل

    وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة ; إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ، ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك ، ومنه أنه نهى عليه الصلاة [ ص: 156 ] والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فلما كان بعد ذلك ; قيل لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويحملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية فقال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال عليه الصلاة والسلام : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم ; فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا ومنه حديث التهديد بإحراق البيوت لمن تخلف عن صلاة الجماعة ; فإن حديث ابن مسعود يبين أنه مختص بأهل النفاق ، بقوله : ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وحديث : الأعمال بالنيات واقع عن سبب ، وهو أنهم لما أمروا [ ص: 157 ] بالهجرة هاجر ناس للأمر وكان فيهم رجل هاجر بسبب امرأة أراد نكاحها تسمى أم قيس ، ولم يقصد مجرد الهجرة للأمر ; فكان بعد ذلك يسمى : مهاجر أم قيس وهو كثير .
    [ ص: 158 ] المسألة الثالثة

    كل حكاية وقعت في القرآن ; فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها وهو الأكثر رد لها أو لا ، فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه ، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه .

    أما الأول ; فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ الأنعام : 91 ] فأعقب بقوله : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى الآية [ الأنعام : 91 ] وقال : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية [ الأنعام : 136 ] فوقع التنكيت على افتراء ما زعموا بقوله : بزعمهم [ الأنعام : 138 ] وبقوله ساء ما يحكمون [ الأنعام : 136 ] ثم قال : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر [ الأنعام : 138 ] إلى تمامه ورد بقوله : سيجزيهم بما كانوا يفترون [ الأنعام : 138 ] ثم قال : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية [ الأنعام : 139 ] [ ص: 159 ] فنبه على فساده بقوله : سيجزيهم وصفهم [ الأنعام : 139 ] زيادة على ذلك .

    وقال تعالى : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون [ الفرقان : 4 ] فرد عليهم بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا [ الفرقان : 4 ] ثم قال : وقالوا أساطير الأولين الآية [ الفرقان : 5 ] فرد بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ الفرقان : 6 ] ثم قال : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ثم قال تعالى : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا [ الفرقان : 9 ] وقال تعالى : وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إلى قوله : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ ص : 4 8 ] ثم رد عليهم بقوله : بل هم في شك من ذكري [ ص : 8 ] إلى آخر ما هنالك .

    وقال وقالوا اتخذ الله ولدا [ البقرة : 116 ، وغيرها ] ثم رد عليهم بأوجه كثيرة ثبتت في أثناء القرآن ; كقوله : بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقوله : بل له ما في السماوات والأرض [ البقرة : 116 ] وقوله : سبحانه هو الغني الآية [ يونس : 68 ] [ ص: 160 ] وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [ مريم : 90 ] إلى آخره ، وأشباه ذلك .

    ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه عرف هذا بيسر .

    وأما الثاني ; فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ثم لا ينبه عليه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #151
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله




    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (151)
    صـ161 إلى صـ 170



    وأيضا ; فإن جميع ما يحكى فيه من شرائع الأولين وأحكامهم ، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه ; فهو حق يجعل عمدة عند طائفة في شريعتنا ، ويمنعه قوم ، لا من جهة قدح فيه ، ولكن من جهة أمر خارج عن ذلك ; فقد اتفقوا على أنه حق وصدق كشريعتنا ، ولا يفترق ما بينهما إلا بحكم النسخ فقط ، ولو نبه على أمر فيه لكان في حكم التنبيه على الأول ; كقوله تعالى : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه الآية [ البقرة : 75 ] وقوله : يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه [ ص: 161 ] الآية [ المائدة : 41 ] وكذلك قوله تعالى : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين [ النساء : 46 ] فصار هذا من النمط الأول .

    ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا ; كحكايته عن الأنبياء والأولياء ، ومنه قصة ذي القرنين ، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، وقصة أصحاب الكهف ، وأشباه ذلك .
    فصل

    ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار ; فقد استدل جماعة من الأصوليين على أن الكفار مخاطبون بالفروع بقوله تعالى : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآية [ المدثر : 43 44 ] إذ لو كان قولهم باطلا لرد عند حكايته .

    واستدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم : ثلاثة رابعهم كلبهم [ الكهف : 22 ] وأنهم خمسة سادسهم كلبهم [ الكهف : 22 ] أعقب ذلك بقوله : رجما بالغيب [ الكهف : 22 ] أي : ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا ، ولما حكى قولهم : سبعة وثامنهم كلبهم [ الكهف : 22 ] لم يتبعه بإبطال بل قال : قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل [ الكهف : 22 ] ; دل المساق على صحته دون القولين الأولين [ ص: 162 ] وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم .

    ورأيت منقولا عن سهل بن عبد الله أنه سئل عن قول إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] فقيل له : أكان شاكا حين سأل ربه أن يريه آية ؟ فقال : لا ، وإنما كان طلب زيادة إيمان إلى إيمان ألا تراه قال : أولم تؤمن قال بلى [ البقرة : 260 ] فلو علم شكا منه لأظهر ذلك ; فصح أن الطمأنينة كانت على معنى الزيادة في الإيمان .

    بخلاف ما حكى الله عن قوم من الأعراب في قوله : قالت الأعراب آمنا [ الحجرات : 14 ] فإن الله تعالى رد عليهم بقوله قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ الحجرات : 14 ] [ ص: 163 ] ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها ، وما هو منها حق مما هو باطل .

    فقد قال تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] إلى آخرها فإن هذه الحكاية ممزوجة الحق بالباطل فظاهرها حق وباطنها كذب ، من حيث كان إخبارا عن المعتقد وهو غير مطابق ; فقال تعالى : والله يعلم إنك لرسوله [ المنافقون : 1 ] تصحيحا لظاهر القول ، وقال : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ المنافقون : 1 ] إبطالا لما قصدوا به وقال تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الآية [ الزمر : 67 ] وسبب نزولها ما خرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس ; قال : مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي : حدثنا يا يهودي فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه ، والأرضين على ذه ، والماء على ذه ، والجبال على ذه ، وسائر الخلق على ذه ؟ وأشار الراوي بخنصره أولا ، ثم تابع حتى بلغ الإبهام ؟ فأنزل الله : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وفي رواية أخرى : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال يا محمد ! إن الله يمسك السماوات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، [ ص: 164 ] والخلائق على أصبع ، ثم يقول : أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وفي رواية : فضحك النبي تعجبا وتصديقا .

    والحديث الأول كأنه مفسر لهذا ، وبمعناه يتبين معنى قوله : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] ; فإن الآية بينت أن كلام اليهودي حق في الجملة ، وذلك قوله : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] وأشارت إلى أنه لم يتأدب مع الربوبية وذلك والله أعلم لأنه أشار إلى معنى الأصابع بأصابع نفسه وذلك مخالف للتنزيه للباري سبحانه ; فقال : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] وقال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن [ التوبة : 61 ] أي : يسمع الحق والباطل ، فرد [ ص: 165 ] الله عليهم فيما هو باطل ، وأحق الحق ; فقال : قل أذن خير لكم ، ورحمة للذين آمنوا منكم الآية [ التوبة : 61 ] ولما قصدوا الإذاية بذلك الكلام قال تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ التوبة : 61 ] وقال تعالى : وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه [ يس : 47 ] فهذا منع امتناع عن الإنفاق بحجة قصدهم فيها الاستهزاء ; فرد عليهم بقوله : إن أنتم إلا في ضلال مبين [ يس : 47 ] ; لأن ذلك حيد عن امتثال الأمر ، وجواب أنفقوا أن يقال : نعم أو لا ، وهو الامتثال أو العصيان ، فلما رجعوا إلى الاحتجاج على الامتناع بالمشيئة المطلقة التي لا تعارض ; انقلب عليهم من حيث لم يعرفوا ; إذ حاصله أنهم اعترضوا على المشيئة المطلقة بالمشيئة المطلقة ; لأن الله شاء أن يكلفهم الإنفاق ، فكأنهم قالوا : كيف يشاء الطلب منا ولو شاء أن يطعمهم لأطعمهم ؟ وهذا عين الضلال في نفس الحجة .

    وقال تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 ] فقوله : ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 79 ] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله [ ص: 166 ] الوسع قال : وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 79 ] وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه .

    قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين ; لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق .
    فصل

    وللسنة مدخل في هذا الأصل ; فإن القاعدة المحصلة أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت عما يسمعه أو يراه من الباطل ; حتى يغيره أو يبينه إلا إذا تقرر عندهم بطلانه ، فعند ذلك يمكن السكوت إحالة على ما تقدم من البيان فيه ، والمسألة مذكورة في الأصول .
    [ ص: 167 ] المسألة الرابعة

    إذا ورد في القرآن الترغيب قارنه الترهيب في لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس ، وكذلك الترجية مع التخويف ، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله ، ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار وبالعكس ; لأن في ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجية وفي ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفا فهو راجع إلى الترجية والتخويف .

    ويدل على هذه الجملة عرض الآيات على النظر ; فأنت ترى أن الله جعل الحمد فاتحة كتابه ، وقد وقع فيه : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ الفاتحة : 6 7 ] إلى آخرها فجيء بذكر الفريقين ، ثم بدئت سورة البقرة بذكرها أيضا فقيل هدى للمتقين ثم قال إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [ البقرة : 6 ] ثم ذكر بإثرهم المنافقون ، وهو صنف من الكفار فلما تم ذلك أعقب بالأمر بالتقوى ثم بالتخويف بالنار ، وبعده بالترجية ; فقال : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار إلى قوله : وبشر الذين آمنوا الآية [ البقرة : 24 25 ] ثم قال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا الآية [ البقرة : 26 ] [ ص: 168 ]

    ثم ذكر في قصة آدم مثل هذا ، ولما ذكر بنو إسرائيل بنعم الله عليهم ثم اعتدائهم وكفرهم ; قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا إلى قوله هم فيها خالدون [ البقرة : 62 81 ] ثم ذكر تفاصيل ذلك الاعتداء إلى أن ختم بقوله : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [ البقرة : 102 ] وهذا تخويف .

    ثم قال ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة الآية [ البقرة : 103 ] وهو ترجية ثم شرع في ذكر ما كان من شأن المخالفين في تحويل القبلة ، ثم قال : بلى من أسلم وجهه لله الآية [ البقرة : 112 ] .

    ثم ذكر من شأنهم الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ البقرة : 121 ] ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وبنيه ، وذكر في أثنائها التخويف والترجية ، وختمها بمثل ذلك ، ولا يطول عليك زمان إنجاز الوعد في هذا الاقتران ; فقد يكون بينهما أشياء معترضة في أثناء المقصود ، والرجوع بعد إلى ما تقرر [ ص: 169 ] وقال تعالى في سورة الأنعام ، وهي في المكيات نظير سورة البقرة في المدنيات : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض [ الأنعام : 1 ] إلى قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ الأنعام : 1 ] وذكر البراهين التامة ، ثم أعقبها بكفرهم وتخويفهم بسببه ، إلى أن قال : كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ الأنعام : 12 ] فأقسم بكتب الرحمة على إنفاذ الوعيد على من خالف ، وذلك يعطي التخويف تصريحا ، والترجية ضمنا ثم قال : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ الأنعام : 15 ] فهذا تخويف .

    وقال : من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه الآية [ الأنعام : 16 ] وهذا ترجية .

    وكذا قوله : وإن يمسسك الله بضر الآية [ الأنعام : 17 ] ثم مضى في ذكر التخويف ، حتى قال : وللدار الآخرة خير للذين يتقون [ الأنعام : 32 ] ثم قال : إنما يستجيب الذين يسمعون [ الأنعام : 36 ] ونظيره قوله : والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات الآية [ الأنعام : 39 ] ثم جرى ذكر ما يليق بالموطن إلى أن قال وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح الآية [ الأنعام : 48 ] [ ص: 170 ] واجر في النظر على هذا الترتيب ، يلح لك وجه الأصل المنبه عليه ، ولولا الإطالة لبسط من ذلك كثير .
    فصل

    وقد يغلب أحد الطرفين بحسب المواطن ومقتضيات الأحوال : فيرد التخويف ويتسع مجاله ، لكنه لا يخلو من الترجية ، كما في سورة الأنعام ; فإنها جاءت مقررة للخلق ، ومنكرة على من كفر بالله ، واخترع من تلقاء نفسه ما لا سلطان له عليه ، وصد عن سبيله ، وأنكر ما لا ينكر ، ولد فيه وخاصم ، وهذا المعنى يقتضي تأكيد التخويف ، وإطالة التأنيب والتعنيف ; فكثرت مقدماته ولواحقه ، ولم يخل مع ذلك من طرف الترجية لأنهم بذلك مدعوون إلى الحق ، وقد تقدم الدعاء ، وإنما هو مزيد تكرار إعذارا وإنذارا ، ومواطن الاغترار يطلب فيها التخويف أكثر من طلب الترجية ; لأن درء المفاسد آكد .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #152
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (152)
    صـ171 إلى صـ 180



    وترد الترجية أيضا ويتسع مجالها ، وذلك في مواطن القنوط ومظنته ; كما في قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ الزمر : 53 ] ; فإن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا ، وزنوا وأكثروا ; فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول [ ص: 171 ] وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا ألنا لما عملنا كفارة ; فنزلت فهذا موطن خوف يخاف منه القنوط ; فجيء فيه بالترجية غالبة ، ومثل ذلك الآية الأخرى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات [ هود : 114 ] وانظر في سببها في الترمذي والنسائي وغيرهما .

    ولما كان جانب الإخلال من العباد أغلب ; كان جانب التخويف أغلب ، وذلك في مظانه الخاصة لا على الإطلاق ; فإنه إذا لم يكن هنالك مظنة [ ص: 172 ] هذا ولا هذا أتى الأمر معتدلا ، وقد مر لهذا المعنى بسط في كتاب المقاصد ، والحمد لله .

    فإن قيل : هذا لا يطرد فقد ينفرد أحد الأمرين فلا يؤتى معه بالآخر ، فيأتي التخويف من غير ترجية ، وبالعكس ألا ترى قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 9 ] إلى آخرها ; فإنها كلها تخويف وقوله : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 19 ] إلى آخر السورة .

    وقوله : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ الفيل : 1 5 ] إلى آخر السورة .

    ومن الآيات قوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله إلى قوله : فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [ الأحزاب : 57 58 ] وفي الطرف الآخر قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 11 ] إلى آخرها وقوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 8 ] إلى آخرها ومن الآيات قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية [ النور : 22 ] .

    وروى أبو عبيد عن ابن عباس أنه التقى هو وعبد الله بن عمرو ; فقال ابن عباس : أي آية أرجى في كتاب الله ؟ فقال عبد الله : قوله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [ الزمر : 53 ] فقال ابن [ ص: 173 ] عباس لكن قول الله : وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ البقرة : 260 ] قال ابن عباس : فرضي منه بقوله بلى قال فهذا لما يعترض في الصدور مما يوسوس به الشيطان وعن ابن مسعود ; قال : في القرآن آيتان ما قرأهما عبد مسلم عند ذنب إلا غفر الله له وفسر ذلك أبي بن كعب بقوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله [ آل عمران : 135 ] إلى آخر الآية ، وقوله ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 174 ] وعن ابن مسعود : إن في النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية [ النساء : 40 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية [ النساء : 64 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما [ النساء : 110 ] [ ص: 175 ] وأشياء من هذا القبيل كثيرة ، إذا تتبعت وجدت ; فالقاعدة لا تطرد ، وإنما الذي يقال أن كل موطن له ما يناسبه ، ولكل مقام مقال ، وهو الذي يطرد في علم البيان ، أما هذا التخصيص ; فلا .

    فالجواب : إن ما اعترض به غير صاد عن سبيل ما تقدم وعنه جوابان : إجمالي ، وتفصيلي : .

    فالإجمالي أن يقال : إن الأمر العام والقانون الشائع هو ما تقدم ; فلا تنقضه الأفراد الجزئية الأقلية لأن الكلية إذا كانت أكثرية في الوضعيات انعقدت كلية ، واعتمدت في الحكم بها وعليها ، شأن الأمور العادية الجارية في الوجود ، ولا شك أن ما اعترض به من ذلك قليل ، يدل على الاستقراء ; فليس بقادح فيما تأصل .

    وأما التفصيلي ; فإن قوله : ويل لكل همزة لمزة [ الهمزة : 1 ] قضية [ ص: 176 ] عين في رجل معين من الكفار بسبب أمر معين ، من همزه النبي عليه الصلاة والسلام وعيبه إياه ; فهو إخبار عن جزائه على ذلك العمل القبيح ، لا أنه أجري مجرى التخويف ; فليس مما نحن فيه ، وهذا الوجه جار في قوله : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ العلق : 6 7 ] وقوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله [ الأحزاب : 57 58 ] الآيتين جار على ما ذكر .

    وكذلك سورة والضحى ، وقوله : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] غير ما نحن فيه ، بل هو أمر من الله للنبي عليه الصلاة والسلام بالشكر لأجل ما أعطاه من المنح .

    وقوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] قضية عين لأبي بكر الصديق ، نفس بها من كربه فيما أصابه بسبب الإفك المتقول على بنته عائشة فجاء هذا الكلام كالتأنيس له والحض على إتمام مكارم الأخلاق وإدامتها بالإنفاق على قريبة المتصف بالمسكنة والهجرة ، ولم يكن ذلك واجبا على أبي بكر ، ولكن أحب الله له معالي الأخلاق وقوله : لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] وما ذكر معها في المذاكرة المتقدمة ليس مقصودهم بذكر ذلك النقض على ما نحن فيه بل النظر في معاني آيات على استقلالها ، ألا ترى أن قوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] أعقب بقوله وأنيبوا إلى ربكم الآية [ الزمر : 54 ] وفي هذا تخويف عظيم [ ص: 177 ] مهيج للفرار من وقوعه ، وما تقدم من السبب من نزول الآية يبين المراد ، وأن قوله لا تقنطوا [ الزمر : 53 ] رافع لما تخوفوه من عدم الغفران لما سلف .

    وقوله : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] نظر في معنى آية في الجملة وما يستنبط منها ، وإلا ; فقوله : أولم تؤمن [ البقرة : 260 ] تقرير فيه إشارة إلى التخويف أن لا يكون مؤمنا ، فلما قال بلى حصل المقصود وقوله : والذين إذا فعلوا فاحشة [ آل عمران : 135 ] كقوله : لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ النساء : 110 ] داخل تحت أصلنا لأنه جاء بعد قوله : ولا تكن للخائنين خصيما [ النساء : 105 ] ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إلى قوله : فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا [ النساء : 107 109 ] وقوله : إن تجتنبوا آت بعد الوعيد على الكبائر من أول السورة إلى هنالك ; كأكل مال اليتيم ، والحيف في الوصية ، وغيرهما ; فذلك مما يرجى به بعد تقدم التخويف .

    وأما قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] فقد أعقب بقوله : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الآية [ النساء : 42 ] ، وتقدم قبلها قوله : الذين يبخلون إلى قوله : عذابا مهينا [ النساء : 37 ] بل قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ النساء : 40 ] جمع التخويف مع الترجية [ ص: 178 ] وكذلك قوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية [ النساء : 64 ] تقدم قبلها وأتى بعدها تخويف عظيم ; فهو مما نحن فيه .

    وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] جامع للتخويف والترجية من حيث قيد غفران ما سوى الشرك بالمشيئة ، ولم يرد ابن مسعود بقوله : ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها أنها آيات ترجية خاصة ، بل مراده والله أعلم أنها كليات في الشريعة محكمات ، قد احتوت على علم كثير ، وأحاطت بقواعد عظيمة في الدين ، ولذلك قال : ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها ما يعرفونها ، وإذا ثبت هذا فجميع ما تقدم جار على أن لكل موطن ما يناسبه إنزال القرآن إجراؤه على البشارة والنذارة ، وهو المقصود الأصلي لا أنه أنزل لأحد الطرفين دون الآخر وهو المطلوب ، وبالله التوفيق .
    فصل

    ومن هنا يتصور للعباد أن يكونوا دائرين بين الخوف والرجاء ; لأن حقيقة الإيمان دائرة بينهما ، وقد دل على ذلك الكتاب العزيز على الخصوص ; فقال : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ المؤمنون : 57 60 ] وقال : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله [ البقرة : 218 ] [ ص: 179 ] وقال : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [ الإسراء : 57 ] وهذا على الجملة ، فإن غلب عليه طرف الانحلال والمخالفة ، فجانب الخوف عليه أقرب ، وإن غلب عليه طرف التشديد والاحتياط ; فجانب الرجاء إليه أقرب ، وبهذا كان عليه الصلاة والسلام يؤدب أصحابه ، ولما غلب على قوم جانب الخوف قيل لهم : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية [ الزمر : 53 ] وغلب على قوم جانب الإهمال في بعض الأمور ; فخوفوا وعوتبوا كقوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة الآية [ الأحزاب : 57 ] فإذا ثبت هذا من ترتيب القرآن ومعاني آياته ، فعلى المكلف العمل على وفق ذلك التأديب
    [ ص: 180 ] المسألة الخامسة

    تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي ، وحيث جاء جزئيا ; فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار ، أو بمعنى الأصل ; إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان ; فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هي بيان للكتاب ، كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى ، وقد قال الله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #153
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (153)
    صـ181 إلى صـ 190


    وفي الحديث : ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ; فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة [ ص: 181 ] وإنما الذي أعطي القرآن وأما السنة ; فبيان له ، وإذا كان كذلك ; فالقرآن على اختصاره جامع ، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات ; لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] .

    وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها في القرآن ، إنما بينتها السنة ، وكذلك العاديات من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها [ ص: 182 ] وأيضا ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية ; وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال ، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات ومكمل كل واحد منها ، وهذا كله ظاهر أيضا ; فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس ، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن ، وقد عد الناس قوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله [ النساء : 105 ] متضمنا للقياس ، وقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر : 7 ] متضمنا للسنة ، وقوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] متضمنا للإجماع ، وهذا أهم ما يكون .

    وفي الصحيح عن ابن مسعود ; قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات إلخ ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد ، يقال لها أم يعقوب ، [ ص: 183 ] وكانت تقرأ القرآن ; فأتته فقالت : ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا ؟ فذكرته فقال عبد الله : ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] الحديث وعبد الله من العالمين بالقرآن
    فصل

    فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة ; لأنه إذا كان كليا وفيه أمور جملية كما في شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها ; فلا محيص عن النظر في بيانه ، وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة ; فإنهم أعرف به من غيرهم ، وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك ، والله أعلم .
    [ ص: 184 ] المسألة السادسة

    القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم ; فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ، ولا يعوزه منها شيء ، والدليل على ذلك أمور : منها النصوص القرآنية ، من قوله : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] وقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] وقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] وقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ الإسراء : 9 ] يعني : الطريق المستقيمة ، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها ; لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة .

    وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ، ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء .

    ومنها : ما جاء من الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك ; كقوله عليه الصلاة والسلام : إن هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة [ ص: 185 ] لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد إلخ ; فكونه حبل الله بإطلاق ، والشفاء النافع إلى تمامه دليل على كمال الأمر فيه ونحو هذا في حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام [ ص: 186 ] وعن ابن مسعود إن كل مؤدب يحب أن يؤتى أدبه ، وإن أدب الله القرآن .

    وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، وصدق ذلك قوله : وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] وعن قتادة : ما جالس القرآن أحد إلا فارقه بزيادة أو نقصان ، ثم قرأ : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ الإسراء : 82 ] وعن محمد بن كعب القرظي في قول الله تعالى : إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان [ آل عمران : 193 ] قال : هو القرآن ، ليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 187 ] وفي الحديث : يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله ، وما ذاك إلا أنه أعلم بأحكام الله ; فالعالم بالقرآن عالم بجملة الشريعة .

    وعن عائشة : أن من قرأ القرآن ; فليس فوقه أحد .

    وعن عبد الله ; قال إذا أردتم العلم ; فأثيروا القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين [ ص: 188 ] وعن عبد الله بن عمرو قال : من جمع القرآن ; فقد حمل أمرا عظيما ، وقد أدرجت النبوة بين جنبيه ; إلا أنه لا يوحى إليه [ ص: 189 ] وفي رواية عنه : من قرأ القرآن ; فقد اضطربت النبوة بين جنبيه وما ذاك إلا أنه جامع لمعاني النبوة ، وأشباه هذا مما يدل على هذا المعنى .

    *ومنها : التجربة وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا ، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظواهر الذين ينكرون القياس ، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل ، وقال ابن حزم الظاهري : كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة ، نعلمه والحمد لله ، حاش القراض ; فما وجدنا له أصلا فيهما ألبتة إلى آخر ما قال ، وأنت تعلم أن القراض نوع من أنواع الإجارة ، وأصل الإجارة في القرآن ثابت ، وبين ذلك إقراره عليه الصلاة [ ص: 190 ] والسلام وعمل الصحابة به ولقائل أن يقول : إن هذا غير صحيح لما ثبت في الشريعة من المسائل والقواعد غير الموجودة في القرآن ، وإنما وجدت في السنة ، ويصدق ذلك ما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدرى ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ، وهذا ذم ومعناه اعتماد السنة أيضا



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #154
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (154)
    صـ191 إلى صـ 200



    ويصححه قول الله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ النساء : 59 ] .

    قال ميمون بن مهران : الرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول إذا كان حيا فلما قبضه الله ; فالرد إلى سنته .

    ومثله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الآية [ الأحزاب : 36 ] [ ص: 192 ] ولا يقال : إن السنة يؤخذ بها على أنها بيان لكتاب الله لقوله : لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] وهو جمع بين الأدلة لأنا نقول : إن كانت السنة بيانا للكتاب ; ففي أحد قسميها ، فالقسم الآخر زيادة على حكم الكتاب ; كتحريم نكاح المرأة على عمتها أو على خالتها وتحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع .

    وقيل لعلي بن أبي طالب : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر [ ص: 193 ] وهذا وإن كان فيه دليل على أنه لا شيء عندهم إلا كتاب الله ; ففيه دليل أن عندهم ما ليس في كتاب الله ، وهو خلاف ما أصلت .

    والجواب عن ذلك مذكور في الدليل الثاني ، وهو السنة بحول الله .

    ومن نوادر الاستدلال القرآني ما نقل عن علي أن أقل الحمل ستة أشهر انتزاعا من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] مع قوله : وفصاله في عامين [ لقمان : 14 ] [ ص: 194 ] واستنباط مالك بن أنس أن من سب الصحابة فلا حظ له في الفيء من قوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ الحشر : 10 ] [ ص: 195 ] وقول من قال : الولد لا يملك وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] وقول ابن العربي : إن الإنسان قبل أن يكون علقة لا يسمى إنسانا من قوله خلق الإنسان من علق [ العلق : 2 ] واستدلال منذر بن سعيد على أن العربي غير مطبوع على العربية بقوله والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ النحل : 78 ] وأغرب ذلك استدلال ابن الفخار القرطبي على أن الإيماء بالرءوس إلى جانب عند الإباية ، والإيماء بها سفلا عند الإجابة أولى مما يفعله [ ص: 196 ] المشارقة من خلاف ذلك بقوله تعالى : لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون الآية [ المنافقون : 5 ] . وكان أبو بكر الشبلي الصوفي إذا لبس شيئا خرق فيه موضعا ; فقال له ابن مجاهد : أين في العلم إفساد ما ينتفع به ؟ فقال فطفق مسحا بالسوق والأعناق [ ص : 33 ] ثم قال الشبلي : أين في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فسكت ابن مجاهد وقال له : قل : قال قوله وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ المائدة : 18 ] . واستدل بعضهم على منع سماع المرأة بقوله تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه الآية [ الأعراف : 143 ] [ ص: 197 ] وفي بعض هذه الاستدلالات نظر
    فصل

    وعلى هذا لابد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يلتفت إلى أصلها في القرآن ، فإن وجدت منصوصا على عينها أو ذكر نوعها أو جنسها ; فذاك ، وإلا فمراتب النظر فيها متعددة ، لعلها تذكر بعد في موضعها إن شاء الله تعالى .

    وقد تقدم في القسم الأول من كتاب الأدلة قبل هذا أن كل دليل شرعي ; فإما مقطوع به ، أو راجع إلى مقطوع به ، وأعلى مراجع المقطوع به القرآن الكريم ; فهو أول مرجوع إليه ، أما إذا لم يرد من المسألة إلا العمل خاصة ، فيكفي الرجوع فيها إلى السنة المنقولة بالآحاد ، كما يكفي الرجوع فيها إلى قول المجتهد ، وهو أضعف ، وإنما يرجع فيها إلى أصلها في الكتاب لافتقاره إلى ذلك في جعلها أصلا يرجع إليه ، أو دينا يدان الله به ; فلا يكتفي بمجرد تلقيها من أخبار الآحاد كما تقدم .
    [ ص: 198 ] المسألة السابعة

    العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام : قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه ; كعلوم اللغة العربية التي لابد منها وعلم القراءات ، والناسخ والمنسوخ ، وقواعد أصول الفقه ، وما أشبه ذلك ; فهذا لا نظر فيه هنا .

    ولكن قد يدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن ، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة ; فإن علم العربية ، أو علم الناسخ والمنسوخ ، وعلم الأسباب ، وعلم المكي والمدني ، وعلم القراءات ، وعلم أصول الفقه ، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن ، وأما غير ذلك ; فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضا ولا يكون كذلك ، كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فهم قوله تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أن علوم الفلسفة مطلوبة ; إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها ، ولو قال قائل : إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة .

    وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم ، هل كانوا آخذين فيها ، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها ؟ مع القطع بتحققهم بفهم القرآن ، يشهد لهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والجم الغفير ; فلينظر امرؤ أين يضع قدمه [ ص: 199 ] وثم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور ، ولا ينبئك مثل خبير ; فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرة ، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه .

    وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام ، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما ، بل من جهة ما هو هو ، وذلك ما فيه من دلالة النبوة ، وهو كونه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا المعنى ليس مأخوذا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية ; إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما ، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله ، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء ، ولا سورة دون سورة ، ولا نمط منه دون آخر ، بل ماهيته هي المعجزة له ، حسبما نبه عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ; فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ; فهو بهيئته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفيها عجز الفصحاء اللسن ، والخصماء اللد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه ، ووجه كونه معجزا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع ، لأنه كيفما تصور الإعجاز به ; فماهيته هي الدالة على ذلك ; فإلى أي نحو منه ملت دلك ذلك على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا القسم أيضا لا نظر فيه هنا ، وموضعه كتب الكلام [ ص: 200 ] وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله ، وخطاب الخلق به ، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيا يدخل تحت نيل أفهامهم ، مع أنه المنزه القديم ، وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به ، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات ، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم ، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد ، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله .

    ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية ، والمحاسن الأدبية ; فلنذكر منها أمثلة يستعان بها في فهم المراد : فمن ذلك : عدم المؤاخذة قبل الإنذار ، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] ولكل جزاء مثله .

    ومنها : الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق ; فإنه تعالى أنزل القرآن برهانا في نفسه على صحة ما فيه ، وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه الكفاية .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #155
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (155)
    صـ201 إلى صـ 210



    ومنها : ترك الأخذ من أول مرة بالذنب ، والحلم عن تعجيل المعاندين [ ص: 201 ] بالعذاب ، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان ، وإن استعجلوا به ومنها : تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يحتاج فيها إلى ذكر ما يستحيا من ذكره في عادتنا ; كقوله تعالى : أو لامستم النساء [ النساء : 43 ، والمائدة 6 ] ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ التحريم : 12 ] وقوله : كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق ، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به ; فلابد منه ، وإليه الإشارة بقوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] والله لا يستحيي من الحق [ الأحزاب : 53 ] ومنها : التأني في الأمور ، والجري على مجرى التثبت ، والأخذ بالاحتياط ، وهو المعهود في حقنا ; فلقد أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في عشرين سنة ; حتى قال الكفار : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة [ الفرقان : 32 ] فقال الله : كذلك لنثبت به فؤادك [ الفرقان : 32 ] وقال : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ الإسراء : 106 ] وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف ، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل [ ص: 202 ] وجهة وإلى كل محتاج إليه ، وحين أبى من أبى الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بدئوا بالتغليظ بالدعاء ; فشرع الجهاد لكن على تدريج أيضا ، حكمة بالغة ، وترتيبا يقتضيه العدل والإحسان ، حتى إذا كمل الدين ، ودخل الناس فيه أفواجا ، ولم يبق لقائل ما يقول ; قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة ، ووضحت المحجة ، واشتد أس الدين ، وقوي عضده بأنصار الله ; فلله الحمد كثيرا على ذلك .

    ومنها : كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء ; فقد بين مساق القرآن آدابا استقرئت منه ، وإن لم ينص عليها بالعبارة ; فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير ، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا ب ( يا ) المشيرة إلى بعد المنادي لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد ، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء ، فإذا قرر نداء العباد للرب أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة : منها : إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى ، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه ; فدل على استشعار الراغب هذا المعنى ; إذ لم يأت في الغالب إلا ربنا ربنا كقوله : ربنا لا تؤاخذنا [ البقرة : 286 ] ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] [ ص: 203 ] رب إني نذرت لك ما في بطني [ آل عمران : 35 ] رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] ومنها : كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد وإصلاحها ; فكان العبد متعلقا بمن شأنه التربية والرفق والإحسان ، قائلا : يا من هو المصلح لشئوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا ، وهو مقتضى ما يدعو به ، وإنما أتى اللهم في مواضع قليلة ، ولمعان اقتضتها الأحوال ومنها : تقديم الوسيلة بين يدي الطلب ; كقوله : إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم الآية [ الفاتحة : 5 6 ] ربنا إننا آمنا [ آل عمران : 16 ] ربنا آمنا بما أنزلت [ آل عمران : 53 ] ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك [ آل عمران : 191 ] ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة الآية [ يونس : 88 ] رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده إلى قوله : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ نوح : 21 28 ] وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا [ البقرة : 127 ] إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير .

    ومن ذلك أشياء ذكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال ، والتخلق [ ص: 204 ] بالصفات ، تضاف إلى ما هنا ، وقد تقدم أيضا منه جملة في كتاب المقاصد والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار ، ويصححها نصوص الآيات والأخبار .

    وقسم هو المقصود الأول بالذكر ، وهو الذي نبه عليه العلماء ، وعرفوه مأخوذا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها ، على حسب ما أداه اللسان العربي فيه ، وذلك أنه محتو من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول : أحدها : معرفة المتوجه إليه ، وهو الله المعبود سبحانه والثاني : معرفة كيفية التوجه إليه والثالث : : معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود ، عبر عنه قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ الذاريات : 56 ] فالعبادة هي المطلوب الأول غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود ; إذ المجهول لا يتوجه إليه ولا يقصد بعبادة ولا بغيرها ، فإذا عرف - ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناه وطالب للعباد بقيامهم بحقه توجه الطلب ; إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد ; فجيء بالجنس الثاني [ ص: 205 ] ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات ، وكان مآل الأعمال عائدا على العاملين ، بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية ، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها أتى بالجنس الثالث موضحا لهذا الطرف ، وأن الدنيا ليست بدار إقامة ، وإنما الإقامة في الدار الآخرة .

    فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال ، ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات ; لأنها الوسائط بين المعبود والعباد ، وفي كل أصل ثبت للدين علميا كان أو عمليا ، ويتكمل بتقرير البراهين ، والمحاجة لمن جادل خصما من المبطلين .

    والثاني : يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات ، وما يتبع كل واحد منها من المكملات ، وهي أنواع فروض الكفايات ، وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به .

    والثالث : يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن : الموت وما يليه ، ويوم القيامة وما يحويه ، والمنزل الذي يستقر فيه ، ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب ، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم ، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم [ ص: 206 ] وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علما ، وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام : ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة ، وثلاثة هي توابع ومتممة .

    فأما الثلاثة الأول ; فهي تعريف المدعو إليه ، وهو شرح معرفة الله تعالى ، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال ، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم ، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة ، والتزكية عن الأخلاق الذميمة ، وتعريف الحال عند الوصول إليه ، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب ، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة .

    وأما الثلاثة الأخر ; فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة ، وذلك قصص الأنبياء والأولياء ، وسره الترغيب ، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله ، وسره الترهيب ، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة ، وتشتمل على ذكر الله بما ينزه عنه ، وذكر النبي عليه الصلاة والسلام بما لا يليق به ، وادكار عاقبة الطاعة والمعصية وسره في جنبة الباطل التحذير والإفضاح ، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح والتعريف بعمارة منازل الطريق ، وكيفية أخذ [ ص: 207 ] الأهبة والزاد ، ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات ، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة ، وهي : ذكر الذات ، والصفات ، والأفعال ، والمعاد ، والصراط المستقيم ، وهو جانب التحلية والتزكية ، وأحوال الأنبياء ، والأولياء ، والأعداء ، ومحاجة الكفار ، وحدود الأحكام .
    [ ص: 208 ] المسألة الثامنة

    من الناس من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا ، وربما نقلوا في ذلك بعض الأحاديث والآثار ; فعن الحسن مما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أنزل الله آية إلا ولها ظهر وبطن بمعنى ظاهر وباطن ، وكل حرف حد ، وكل حد مطلع .

    وفسر بأن الظهر والظاهر هو ظاهر التلاوة ، والباطن هو الفهم عن الله لمراده ; لأن الله تعالى قال : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ النساء : 78 ] والمعنى : لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، كيف وهو منزل بلسانهم ؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام ، وكأن هذا هو معنى ما روي عن علي أنه سئل : هل عندكم كتاب ؟ [ ص: 209 ] فقال : لا إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة الحديث ، وإليه يرجع تفسير الحسن للحديث ; إذ قال : الظهر هو الظاهر والباطن هو السر .

    وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فظاهر المعنى شيء ، وهم عارفون به ; لأنهم عرب والمراد شيء آخر ، وهو الذي لا شك فيه أنه من عند الله ، وإذا حصل التدبر لم يوجد في القرآن اختلاف ألبتة ; فهذا الوجه الذي من جهته يفهم الاتفاق وينزاح الاختلاف هو الباطن المشار إليه ، ولما قالوا في الحسنة : هذه من عند الله [ النساء : 78 ] وفي السيئة : هذا من عند رسول الله ، بين لهم أن كلا من عند الله وأنهم لا يفقهون حديثا ، ولكن بين الوجه الذي يتنزل عليه أن كلا من عند الله بقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله الآية [ النساء : 79 ] . وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ محمد : 24 ] فالتدبر إنما يكون لمن التفت إلى المقاصد ، وذلك ظاهر في أنهم أعرضوا عن مقاصد القرآن ; فلم يحصل منهم تدبر ، قال بعضهم الكلام في القرآن على ضربين : [ ص: 210 ] أحدهما : يكون برواية فليس يعتبر فيها إلا النقل والآخر : يقع بفهم فليس يكون إلا بلسان من الحق إظهار حكمة على لسان العبد وهذا الكلام يشير إلى معنى كلام علي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #156
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (156)
    صـ211 إلى صـ 220



    وحاصل هذا الكلام أن المراد بالظاهر هو المفهوم العربي ، والباطن هو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه ، فإن كان مراد من أطلق هذه العبارة ما فسر ; فصحيح ولا نزاع فيه ، وإن أرادوا غير ذلك ; فهو إثبات أمر زائد على ما كان معلوما عند الصحابة ومن بعدهم ; فلابد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى لأنها أصل يحكم به على تفسير الكتاب ، فلا يكون ظنيا ، وما استدل به إنما غايته إذا صح سنده أن ينتظم في سلك المراسيل ، وإذا تقرر هذا ; فلنرجع إلى بيانهما على التفسير المذكور بحول الله .

    وله أمثلة تبين معناه بإطلاق ; فعن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتدخله ولنا بنون مثله ؟ فقال له عمر : إنه من حيث تعلم فسألني عن هذه الآية : إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] فقلت : إنما هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه إياه ، وقرأ [ ص: 211 ] السورة إلى آخرها فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تعلم ، فظاهر هذه السورة أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إذا نصره الله وفتح عليه ، وباطنها أن الله نعى إليه نفسه .

    ولما نزل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم الآية [ المائدة : 3 ] فرح الصحابة وبكى عمر ، وقال : ما بعد الكمال إلا النقصان مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فما عاش بعدها إلا إحدى وثمانين يوما [ ص: 212 ] وقال تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا الآية [ العنكبوت : 41 ] قال الكفار : ما بال العنكبوت والذباب يذكر في القرآن ؟ ما هذا الإله ; فنزل إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] فأخذوا بمجرد الظاهر ، ولم ينظروا في المراد فقال تعالى : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم الآية [ البقرة : 26 ] ويشبه ما نحن فيه نظر الكفار للدنيا ، واعتدادهم منها بمجرد الظاهر الذي هو لهو ولعب وظل زائل ، وترك ما هو مقصود منها ، وهو كونها مجازا ومعبرا لا محل سكنى ، وهذا هو باطنها على ما تقدم من التفسير .

    ولما قال تعالى : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] نظر الكفار إلى ظاهر العدد ; فقال أبو جهل فيما روي لا يعجز كل عشرة منكم أن [ ص: 213 ] يبطشوا برجل منهم فبين الله تعالى باطن الأمر بقوله : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة إلى قوله : وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ المدثر : 31 ] وقال : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فنظروا إلى ظاهر الحياة الدنيا وقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون : 8 ] وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث الآية [ لقمان : 6 ] لما نزل القرآن الذي هو هدى للناس ورحمة للمحسنين ، ناظره الكافر النضر بن الحارث بأخبار فارس والجاهلية وبالغناء فهذا هو عدم الاعتبار لباطن ما أنزل الله .

    وقال تعالى في المنافقين : لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله [ الحشر : 13 ] ، [ ص: 214 ] وهذا عدم فقه منهم ; لأن من علم أن الله هو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وأنه هو مصرف الأمور ; فهو الفقيه ، ولذلك قال تعالى : ذلك بأنهم قوم لا يفقهون [ الحشر : 13 ] وكذلك قوله تعالى : صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون [ التوبة : 127 ] لأنهم نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ؟ ثم انصرفوا فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم ; فذلك لوقوفهم مع ظاهر الأمر ، وعدم اعتبارهم للمراد منه ، وإذا أثبت ذلك ; فهو لفهمهم مراد الله من خطابه ، وهو باطنه .
    فصل

    فكل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها ; فهو داخل تحت الظاهر .

    فالمسائل البيانية والمنازع البلاغية لا معدل بها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الفرق بين ضيق في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ الأنعام : 125 ] وبين ضائق في قوله : وضائق به صدرك [ هود : 12 ] [ ص: 215 ] والفرق بين النداء ب يا أيها الذين آمنوا أو يا أيها الذين كفروا وبين النداء ب يا أيها الناس أو ب يا بني آدم والفرق بين ترك العطف في قوله : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم [ البقرة : 6 ] والعطف في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] وكلاهما قد تقدم عليه وصف المؤمنين والفرق بين تركه أيضا في قوله : ما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 154 ] وبين الآية الأخرى : وما أنت إلا بشر مثلنا [ الشعراء : 186 ] [ ص: 216 ] والفرق بين الرفع في قوله : قال سلام [ هود : 69 ] والنصب فيما قبله من قوله قالوا سلاما [ هود : 069 ] والفرق بين الإتيان بالفعل في التذكر من قوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا [ الأعراف : 201 ] وبين الإتيان باسم الفاعل في الإبصار من قوله : فإذا هم مبصرون [ الأعراف : 201 ] أو فهم الفرق بين إذا وإن في قوله تعالى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ الأعراف : 131 ] وبين جاءتهم وتصبهم بالماضي مع إذا والمستقبل مع إن [ ص: 217 ] وكذلك قوله وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ الروم : 36 ] مع إتيانه بقوله : فرحوا بعد إذا ويقنطون بعد إن ، وأشباه ذلك من الأمور المعتبرة عند متأخري أهل البيان ، فإذا حصل فهم ذلك كله على ترتيبه في اللسان العربي ; فقد حصل فهم ظاهر القرآن .

    ومن هنا حصل إعجاز القرآن عند القائلين بأن إعجازه بالفصاحة ; فقال الله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ البقرة : 23 ] . وقال تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله [ هود : 13 ] وهو لائق أن يكون الإعجاز بالفصاحة لا بغيرها ; إذ لم يؤتوا على هذا التقدير إلا من باب ما يستطيعون مثله في الجملة ، ولأنهم دعوا وقلوبهم لاهية عن معناه الباطن الذي هو مراد الله من إنزاله ، فإذا عرفوا عجزهم عنه ; عرفوا صدق الآتي به وحصل الإذعان وهو باب التوفيق والفهم لمراد الله تعالى [ ص: 218 ] وكل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية ، والإقرار لله بالربوبية ، فذلك هو الباطن المراد والمقصود الذي أنزل القرآن لأجله .

    ويتبين ذلك بالشواهد المذكورة آنفا ، ومن ذلك أنه لما نزل : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ البقرة : 245 ] قال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا هذا معنى الحديث وقالت اليهود : إن الله فقير ونحن أغنياء [ آل عمران : 181 ] ففهم أبي الدحداح هو الفقه ، وهو الباطن المراد ، وفي رواية : قال أبو الدحداح : يستقرضنا وهو غني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ليدخلكم الجنة ، وفي الحديث قصة ، وفهم اليهود لم يزد على مجرد القول العربي الظاهر ، ثم حمل استقراض الرب الغني على استقراض العبد الفقير ، عافانا الله من ذلك .

    [ ص: 219 ] [ ص: 220 ] ومن ذلك أن العبادات المأمور بها بل المأمورات والمنهيات كلها إنما طلب بها العبد شكرا لما أنعم الله به عليه ألا ترى قوله : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ النحل : 78 ] وفي الأخرى : قليلا ما تشكرون [ السجدة : 9 ] والشكر ضد الكفر ; فالإيمان وفروعه هو الشكر ، فإذا دخل المكلف تحت أعباء التكليف بهذا القصد ; فهو الذي فهم المراد من الخطاب ، وحصل باطنه على التمام ، وإن هو فهم من ذلك مقتضى عصمة ماله ودمه فقط ; فهذا خارج عن المقصود ، وواقف مع ظاهر الخطاب ; فإن الله قال : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ التوبة : 5 ] ثم قال : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ التوبة : 5 ] فالمنافق إنما فهم مجرد ظاهر الأمر من أن الدخول فيما دخل فيه



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #157
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (157)
    صـ221 إلى صـ 230



    [ ص: 221 ] المسلمون موجب لتخلية سبيلهم فعملوا على الإحراز من عوادي الدنيا ، وتركوا المقصود من ذلك ، وهو الذي بينه القرآن من التعبد لله والوقوف على قدم الخدمة ، فإذا كانت الصلاة تشعر بإلزام الشكر بالخضوع لله والتعظيم لأمره ; فمن دخلها عريا من ذلك كيف يعد ممن فهم باطن القرآن ؟ وكذلك إذا كان له مال حال عليه الحول ; فوجب عليه شكر النعمة ببذل اليسير من الكثير ، عودا عليه بالمزيد ; فوهبه عند رأس الحول فرارا من أدائها لا قصد له إلا ذلك ، كيف يكون شاكرا للنعمة ؟ وكذلك من يضار الزوجة لتنفك له من المهر على غير طيب النفس لا يعد عاملا بقوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] حتى يجري على معنى قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [ النساء : 4 ] وتجري هاهنا مسائل الحيل أمثلة لهذا المعنى ; لأن من فهم باطن ما خوطب به لم يحتل على أحكام الله حتى ينال منها بالتبديل والتغيير ، ومن وقف مع مجرد الظاهر غير ملتفت إلى المعنى المقصود ; اقتحم هذه المتاهات البعيدة .

    وكذلك تجري مسائل المبتدعة أمثلة أيضا ، وهم الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ; كما قال الخوارج لعلي : إنه حكم [ ص: 222 ] الخلق في دين الله ، والله يقول : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ، ويوسف : 40 ، 67 ] وقالوا : إنه محا نفسه من إمارة المؤمنين ; فهو إذا أمير الكافرين [ ص: 223 ] وقالوا لابن عباس : لا تناظروه ; فإنه ممن قال الله فيهم : بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 58 ] وكما زعم أهل التشبيه في صفة الباري حين أخذوا بظاهر قوله : تجري بأعيننا [ القمر : 14 ] مما عملت أيدينا [ يس : 71 ] وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ] والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [ الزمر : 67 ] وحكموا مقتضاه بالقياس على المخلوقين ; فأسرفوا ما شاءوا فلو نظر الخوارج أن الله تعالى قد حكم الخلق في دينه في قوله : يحكم به ذوا عدل منكم [ المائدة : 95 ] وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] لعلموا أن قوله : إن الحكم إلا لله [ الأنعام : 57 ] غير مناف لما فعله علي ، وأنه من جملة حكم الله ; فإن تحكيم الرجال يرجع به الحكم لله وحده ، فكذلك ما كان مثله مما فعله علي .

    ولو نظروا إلى محو الاسم من أمر لا يقتضي إثباته لضده ; لما قالوا : إنه أمير الكافرين ، وهكذا المشبهة لو حققت معنى قوله : ليس كمثله شيء [ الشورى : 11 ] في الآيات المذكورة لفهموا بواطنها ، وأن الرب منزه عن سمات المخلوقين .

    وعلى الجملة ; فكل من زاغ ومال عن الصراط المستقيم ; فبمقدار ما فاته من باطن القرآن فهما وعلما ، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب ; فعلى مقدار ما حصل له من فهم باطنه .
    [ ص: 224 ] المسألة التاسعة

    كون الظاهر هو المفهوم العربي مجردا لا إشكال فيه ; لأن الموالف والمخالف اتفقوا على أنه منزل بلسان عربي مبين [ الشعراء : 195 ] وقال سبحانه : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ النحل : 103 ] ثم رد الحكاية عليهم بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] وهذا الرد على شرط الجواب في الجدل ; لأنه أجابهم بما يعرفون من القرآن الذي هو بلسانهم ، والبشر هنا حبر ، وكان نصرانيا فأسلم ، أو سلمان ، وقد كان فارسيا فأسلم ، أو غيرهما ممن كان لسانه غير عربي باتفاق منهم ، وقال تعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ فصلت : 44 ] وقد علم أنهم لم يقولوا شيئا من ذلك ; فدل على أنه عندهم عربي ، وإذا ثبت هذا فقد كانوا فهموا معنى ألفاظه من حيث هو عربي فقط وإن لم يتفقوا على فهم المراد منه ; فلا يشترط في ظاهره زيادة على الجريان على اللسان العربي .

    فإذا كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي ; فليس من علوم القرآن في شيء ، لا مما يستفاد منه ، ولا مما يستفاد به ، ومن ادعى فيه [ ص: 225 ] ذلك فهو في دعواه مبطل ، وقد مر في كتاب المقاصد بيان هذا المعنى والحمد لله .

    ومن أمثلة هذا الفصل ما ادعاه من لا خلاق له من أنه مسمى في القرآن كبيان بن سمعان حيث زعم أنه المراد بقوله تعالى : هذا بيان للناس الآية [ آل عمران : 138 ] وهو من الترهات بمكان مكين ، والسكوت على الجهل كان أولى به من هذا الافتراء البارد ، ولو جرى له على اللسان العربي لعده الحمقى من جملتهم ، ولكنه كشف عوار نفسه من كل وجه ، عافانا الله وحفظ علينا العقل والدين بمنه .

    وإذا كان بيان في الآية علما له ; فأي معنى لقوله : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] كما يقال : هذا زيد للناس ، ومثله في الفحش من تسمى بالكسف ، ثم زعم أنه المراد بقوله تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا الآية [ الطور : 44 ] فأي معنى يكون للآية على زعمه الفاسد ؟ كما تقول : وإن يروا رجلا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا [ ص: 226 ] وبيان بن سمعان هذا هو الذي تنسب إليه البيانية من الفرق ، وهو فيما زعم ابن قتيبة أول من قال بخلق القرآن ، والكسف هو أبو منصور الذي تنسب إليه المنصورية .

    وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك [ ص: 227 ] إفريقية واستولى عليها ; كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره ، وكان أحدهما يسمى بنصر الله ، والآخر بالفتح ; فكان يقول لهما : أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر : 1 ] قالوا وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى ; فبدل قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] بقوله : كتامة خير أمة أخرجت للناس ، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا ; لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير المعنى : إذا مت يا محمد ثم خلق هذان ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح الآية [ النصر : 2 ] فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله ؟ .

    ومن أرباب الكلام من ادعى جواز نكاح الرجل منا تسع نسوة حرائر مستدلا على ذلك بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [ النساء : 3 ] ولا يقول مثل هذا من فهم وضع العرب في مثنى وثلاث ورباع [ ص: 228 ] ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالا ; لأن الله قال : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير [ المائدة : 3 ] فلم يحرم شيئا غير لحمه ، ولفظ اللحم يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس [ ص: 229 ] ومنهم من فسر الكرسي في قوله : وسع كرسيه السماوات والأرض [ البقرة : 255 ] بالعلم مستدلين ببيت لا يعرف وهو : . . . . . . . . . . . . . .
    ولا يكرسئ علم الله مخلوق
    كأنه عندهم : ولا يعلم علمه ، ويكرسئ مهموز ، والكرسي غير مهموز ومنهم من فسر غوى في قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] أنه تخم من أكل الشجرة من قول العرب غوي الفصيل يغوي غوى [ ص: 230 ] إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد ; لأن غوي الفصيل فعل والذي في القرآن على وزن فعل .

    ومنهم من قال في قوله ولقد ذرأنا لجهنم [ الأعراف : 179 ] أي ألقينا فيها كأنه عندهم من قول الناس : ذرته الريح وذرأ مهموز وذرا غير مهموز وفي قوله : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] أي فقيرا إلى رحمته ، من الخلة بفتح الخاء محتجين على ذلك بقول زهير :
    وإن أتاه خليل يوم مسألة



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #158
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (158)
    صـ231 إلى صـ 240





    [ ص: 231 ] قال ابن قتيبة : أي فضيلة لإبراهيم في هذا القول ؟ أما يعلمون أن الناس فقراء إلى الله ؟ وهل إبراهيم في لفظ خليل الله إلا كما قيل : موسى كليم الله ، وعيسى روح الله ؟ ويشهد له الحديث : لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، إن صاحبكم خليل الله ، وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعا للرأي ، وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان كما رأيت ، وإنما أكثرت من الأمثلة وإن كانت من الخروج عن مقصود العربية ، والمعنى على ما علمت لتكون تنبيها على ما وراءها مما هو مثلها أو قريب منها
    فصل

    وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ، ولكن يشترط فيه شرطان : [ ص: 232 ] أحدهما : أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ، ويجري على المقاصد العربية .

    والثاني : أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض .

    فأما الأول ; فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا ; فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب ; لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك ; فلا يصح أن ينسب إليه أصلا ; إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ، ولا مرجح يدل على أحدهما ; فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم ، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا .

    وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن ، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء .

    وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن ; لأنهما موفران فيه ، بخلاف ما فسر به الباطنية ; فإنه ليس من علم الباطن ، كما أنه ليس من علم الظاهر ; فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود [ النمل : 16 ] إنه [ ص: 233 ] الإمام ورث النبي علمه ، وقالوا في الجنابة : إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام ، والصيام الإمساك عن كشف السر ، والكعبة النبي ، والباب علي ، والصفا هو النبي ، والمروة علي ، والتلبية إجابة الداعي ، والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة ، والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ، ونار إبراهيم هو غضب نمرود لا النار الحقيقية ، وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه ، وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة ، وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم ، والبحر هو العالم ، وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم ، والمن علم نزل من السماء ، والسلوى داع من الدعاة ، والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزماته التي تسلطت عليهم ، وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين ، والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان ، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة ، إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال ، وضحكة السامع ، نعوذ بالله من الخذلان [ ص: 234 ] قال القتبي : وكان بعض أهل الأدب يقول : ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر ; فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل :
    بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
    إنه في رجل منهم قيل له : فما تقول أنت فيه ؟ قال البيت بيت الله ، وزرارة الحجر قيل : فمجاشع ؟ قال : زمزم جشعت بالماء قيل : فأبو الفوارس ؟ قال : أبو قبيس قيل فنهشل ؟ قال : نهشل أشده وصمت ساعة ، ثم قال : نعم نهشل مصباح الكعبة ; لأنه طويل أسود ، فذلك نهشل انتهى ما حكاه .
    فصل

    وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ، ولكن يشترط فيه شرطان : [ ص: 232 ] أحدهما : أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ، ويجري على المقاصد العربية .

    والثاني : أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض .

    فأما الأول ; فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا ; فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب ; لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك ; فلا يصح أن ينسب إليه أصلا ; إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ، ولا مرجح يدل على أحدهما ; فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم ، والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا .

    وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن ، والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء .

    وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن ; لأنهما موفران فيه ، بخلاف ما فسر به الباطنية ; فإنه ليس من علم الباطن ، كما أنه ليس من علم الظاهر ; فقد قالوا في قوله تعالى وورث سليمان داود [ النمل : 16 ] إنه [ ص: 233 ] الإمام ورث النبي علمه ، وقالوا في الجنابة : إن معناها مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ، ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ، ومعنى الطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي أو الإمام ، والصيام الإمساك عن كشف السر ، والكعبة النبي ، والباب علي ، والصفا هو النبي ، والمروة علي ، والتلبية إجابة الداعي ، والطواف سبعا هو الطواف بمحمد عليه الصلاة والسلام إلى تمام الأئمة السبعة ، والصلوات الخمس أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ، ونار إبراهيم هو غضب نمرود لا النار الحقيقية ، وذبح إسحاق هو أخذ العهد عليه ، وعصا موسى حجته التي تلقفت شبه السحرة ، وانفلاق البحر افتراق علم موسى عليه السلام فيهم ، والبحر هو العالم ، وتظليل الغمام نصب موسى الإمام لإرشادهم ، والمن علم نزل من السماء ، والسلوى داع من الدعاة ، والجراد والقمل والضفادع سؤالات موسى وإلزماته التي تسلطت عليهم ، وتسبيح الجبال رجال شداد في الدين ، والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان ، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا الأعمال الشاقة ، إلى سائر ما نقل من خباطهم الذي هو عين الخبال ، وضحكة السامع ، نعوذ بالله من الخذلان [ ص: 234 ] قال القتبي : وكان بعض أهل الأدب يقول : ما أشبه تفسير الروافض للقرآن إلا بتأويل رجل من أهل مكة للشعر ; فإنه قال ذات يوم ما سمعت بأكذب من بني تميم زعموا أن قول القائل :
    بيت زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
    إنه في رجل منهم قيل له : فما تقول أنت فيه ؟ قال البيت بيت الله ، وزرارة الحجر قيل : فمجاشع ؟ قال : زمزم جشعت بالماء قيل : فأبو الفوارس ؟ قال : أبو قبيس قيل فنهشل ؟ قال : نهشل أشده وصمت ساعة ، ثم قال : نعم نهشل مصباح الكعبة ; لأنه طويل أسود ، فذلك نهشل انتهى ما حكاه .
    [ ص: 235 ] فصل

    وقد وقعت في القرآن تفاسير مشكلة يمكن أن تكون من هذا القبيل ، أو من قبيل الباطن الصحيح ، وهي منسوبة لأناس من أهل العلم ، وربما نسب منها إلى السلف الصالح .

    فمن ذلك فواتح السور نحو الم و المص و حم ونحوها فسرت بأشياء ، منها ما يظهر جريانه على مفهوم صحيح ، ومنها ما ليس كذلك ، فينقلون عن ابن عباس في الم أن ( ألف ) الله ، و ( لام ) جبريل ، وميم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا إن صح في النقل ; فمشكل لأن هذا النمط من التصرف لم يثبت [ ص: 236 ] في كلام العرب هكذا مطلقا ، وإنما أتى مثله إذا دل عليه الدليل اللفظي أو الحالي ; كما قال :
    قلت لها قفي فقالت قاف


    وقال : [ ص: 237 ]
    قالوا جميعا كلهم بلافا


    وقال :
    ولا أريد الشر إلا أن تا


    والقول في الم ليس هكذا ، وأيضا ; فلا دليل من خارج يدل عليه ; إذ لو كان له دليل لاقتضت العادة نقله لأنه من المسائل التي تتوفر الدواعي على نقلها لو صح أنه مما يفسر ويقصد تفهيم معناه ، ولما لم يثبت شيء من ذلك ; دل على أنه من قبيل المتشابهات ، فإن ثبت له دليل يدل عليه صير إليه .

    وقد ذهب فريق إلى أن المراد الإشارة إلى حروف الهجاء ، وأن القرآن منزل بجنس هذه الحروف وهي العربية ، وهو أقرب من الأول ، كما أنه نقل أن هذه الفواتح أسرار لا يعلم تأويلها إلا الله ، وهو أظهر الأقوال ; فهي من قبيل [ ص: 238 ] المتشابهات ، وأشار جماعة إلى أن المراد بها أعدادها تنبيها على مدة هذه الملة ، وفي السير ما يدل على هذا المعنى ، وهو قول يفتقر إلى أن العرب كانت تعهد في استعمالها الحروف المقطعة أن تدل بها على أعدادها ، وربما لا يوجد مثل هذا لها ألبتة ، وإنما كان أصله في اليهود حسبما ذكره أصحاب السير [ ص: 239 ] [ ص: 240 ] فأنت ترى هذه الأقوال مشكلة إذا سبرناها بالمسبار المتقدم ، وكذلك سائر الأقوال المذكورة في الفواتح مثلها في الإشكال وأعظم ،



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #159
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (159)
    صـ241 إلى صـ 250





    ومع إشكالها ; فقد [ ص: 241 ] اتخذها جمع من المنتسبين إلى العلم ، بل إلى الاطلاع والكشف على حقائق الأمور ، حججا في دعاو ادعوها على القرآن ، وربما نسبوا شيئا من ذلك إلى علي بن أبي طالب ، وزعموا أنها أصل العلوم ومنبع المكاشفات على أحوال الدنيا والآخرة ، وينسبون ذلك إلى أنه مراد الله تعالى في خطابه العرب الأمية التي لا تعرف شيئا من ذلك ، وهو إذا سلم أنه مراد في تلك الفواتح في الجملة ; فما الدليل على أنه مراد على كل حال من تركيبها على وجوه ، وضرب بعضها ببعض ، ونسبتها إلى الطبائع الأربع ، وإلى أنها الفاعلة في الوجود ، وأنها مجمل كل مفصل ، وعنصر كل موجود ويرتبون في ذلك ترتيبا جميعه دعاو محالة على الكشف والاطلاع ودعوى الكشف ليس بدليل في الشريعة على حال كما أنه لا يعد دليلا في غيرها كما سيأتي بحول الله .
    [ ص: 242 ] فصل

    ومن ذلك أنه نقل عن سهل بن عبد الله في فهم القرآن أشياء مما يعد من باطنه ; فقد ذكر عنه أنه قال في قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] أي أضدادا قال : وأكبر الأنداد النفس الأمارة بالسوء الطواعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد ، حتى لو فصل لكان المعنى : فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا وهذا مشكل الظاهر جدا ; إذ كان مساق الآية ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ، ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا [ ص: 243 ] يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن من جهتين : إحداهما : أن الناظر قد يأخذ من معنى الآية معنى من باب الاعتبار ; [ ص: 244 ] فيجريه فيما لم تنزل فيه لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ، لأن حقيقة الند أنه المضاد لنده الجاري على مناقضته ، والنفس الأمارة هذا شأنها ; لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها ، وهذا هو الذي يعني به الند في نده ; لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه ، وشاهد صحة هذا الاعتبار قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] وهم لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان ; فما حرموا عليهم حرموه ، وما أباحوا لهم حللوه ; فقال الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] وهذا شأن المتبع لهوى نفسه

    والثانية : أن الآية وإن نزلت في أهل الأصنام ; فإن لأهل الإسلام فيها نظرا بالنسبة إليهم ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] وكان هو يعتبر نفسه بها وإنما [ ص: 245 ] أنزلت في الكفار لقوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية [ الأحقاف : 20 ] ولهذا المعنى تقرير في العموم والخصوص ، فإذا كان كذلك صح التنزيل بالنسبة إلى النفس الأمارة في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] والله أعلم .
    فصل

    ومن المنقول عن سهل أيضا في قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة [ البقرة : 35 ] قال : لم يرد الله معنى الأكل في الحقيقة ، وإنما أراد معنى مساكنة الهمة لشيء هو غيره ، أي : لا تهتم بشيء هو غيري قال : فآدم لم يعصم من الهمة والتدبير فلحقه ما لحقه قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكن قلبه ناظرا إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله مع ما جبلت عليه نفسه فيه إلا أن يرحمه الله فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها قال : وآدم لم يعصم عن مساكنة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ; لأن البلاء في الفرع دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست [ ص: 246 ] به نفسه ; فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل بسابق القدر إلى آخر ما تكلم به .

    وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس من أن المراد النهي عن نفس الأكل لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان ذلك منهيا عنه أيضا ، ولكن له وجه يجري عليه لمن تأول ، فإن النهي إنما وقع عن القرب لا غيره ، ولم يرد النهي عن الأكل تصريحا فلا منافاة بين اللفظ وبين ما فسر به .

    وأيضا ; فلا يصح حمل النهي على نفس القرب مجردا إذ لا مناسبة فيه تظهر ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب ، وهو إما التناول والأكل ، وإما غيره وهو شيء ينشأ الأكل عنه ، وذلك مساكنة الهمة ; فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لطلب نفع أو دفع منهي عنه ; فهذا التفسير له وجه ظاهر ، فكأنه يقول لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ; إذ لو انتهى لكان ساكنا لله وحده ، فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غره به الشيطان ، وذلك الخلد المدعى ; أضاف الله إليه لفظ العصيان ، ثم تاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم [ ص: 247 ] ومن ذلك أنه قال في قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس الآية [ آل عمران : 96 ] باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد واقتدى بهدايته .

    وهذا التفسير يحتاج إلى بيان ; فإن هذا المعنى لا تعرفه العرب ، ولا فيه من جهتها وضع مجازي مناسب ، ولا يلائمه مساق بحال ; فكيف هذا ؟ والعذر عنه أنه لم يقع فيه ما يدل على أنه تفسير للقرآن ; فزال الإشكال إذا ، وبقي النظر في هذه الدعوى ، ولا بد إن شاء الله من بيانها ومنه قوله في تفسير قول الله تعالى : يؤمنون بالجبت والطاغوت [ النساء : 51 ] [ ص: 248 ] قال " رأس الطواغيت كلها النفس الأمارة بالسوء إذا خلى العبد معها للمعصية " وهو أيضا من قبيل ما قبله ، وإن فرض أنه تفسير فعلى ما مر في قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أندادا [ البقرة : 22 ] وقال في قوله تعالى : والجار ذي القربى الآية [ النساء : 36 ] أما باطنها فهو القلب والجار الجنب [ النساء : 36 ] : النفس الطبيعي والصاحب بالجنب [ النساء : 36 ] العقل المقتدي بعمل الشرع وابن السبيل [ النساء : 36 ] الجوراح المطيعة لله عز وجل .

    وهو من المواضع المشكلة في كلامه ، ولغيره مثل ذلك أيضا ، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء ، وغير ذلك لا يعرفه العرب ، لا من آمن منهم ولا من كفر ، والدليل على ذلك أنه لم ينقل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسير للقرآن يماثله أو يقاربه ، ولو كان عندهم معروفا لنقل لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة ، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ، ولا هم أعرف بالشريعة منهم ، ولا أيضا [ ص: 249 ] ثم دليل يدل على صحة هذا التفسير ، لا من مساق الآية ; فإنه ينافيه ولا من خارج ; إذ لا دليل عليه كذلك ، بل مثل هذا أقرب إلى ما ثبت رده ونفيه عن القرآن من كلام الباطنية ومن أشبههم .

    وقال في قوله : صرح ممرد من قوارير [ النمل : 44 ] الصرح نفس الطبع ، والممرد الهوى إذا كان غالبا ستر أنوار الهدى ، بالترك من الله تعالى العصمة لعبده .

    وفي قوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ النمل : 52 ] أي : قلوبهم عند إقامتهم على ما نهوا عنه ، وقد علموا أنهم مأمورون منهيون ، والبيوت القلوب ; فمنها عامرة بالذكر ، ومنها خراب بالغفلة عن الذكر .

    وفي قوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ الروم : 50 ] قال : حياة القلوب بالذكر وقال في قوله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر الآية [ الروم : 41 ] مثل الله القلب بالبحر ، والجوارح بالبر ، ومثله أيضا بالأرض التي تزهى بالنبات ، هذا باطنه .

    وقد حمل بعضهم قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه [ البقرة : 114 ] على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله .

    [ ص: 250 ] ونقل في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] أن باطن النعلين هو الكونان : الدنيا ، والآخرة ; فذكر عن الشبلي أن معنى فاخلع نعليك [ طه : 12 ] اخلع الكل منك تصل إلينا بالكلية ، وعن ابن عطاء : فاخلع نعليك عن الكون ; فلا تنظر إليه بعد هذا الخطاب ، وقال : النعل النفس ، والوادي المقدس دين المرء ، أي : حان وقت خلوك من نفسك ، والقيام معنا بدينك ، وقيل غير ذلك مما يرجع إلى معنى لا يوجد في النقل عن السلف .

    وهذا كله إن صح نقله خارج عما تفهمه العرب ، ودعوى ما لا دليل عليه في مراد الله بكلامه ، ولقد قال الصديق : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #160
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,002

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الرابع
    الحلقة (160)
    صـ251 إلى صـ 260



    وفي الخبر : من قال في القرآن برأيه فأصاب ; فقد أخطأ .

    وما أشبه ذلك من التحذيرات ، وإنما احتيج إلى هذا كله لجلالة من نقل عنهم ذلك من الفضلاء ، وربما ألم الغزالي بشيء منه في الإحياء وغيره ، وهو مزلة قدم لمن لم يعرف مقاصد القوم ; فإن الناس في أمثال هذه الأشياء بين قائلين : منهم من يصدق به ويأخذه على ظاهره ، ويعتقد أن ذلك هو مراد الله تعالى من كتابه ، وإذا عارضه ما ينقل في كتب التفسير على خلافه ; فربما كذب به أو أشكل عليه ، ومنهم من يكذب به على الإطلاق ، ويرى أنه تقول وبهتان ، مثل ما تقدم من تفسير الباطنية ومن حذا حذوهم ، وكلا الطريقين فيه ميل عن الإنصاف ، ولا بد قبل الخوض في رفع الإشكال من تقديم أصل مسلم ، يتبين به ما جاء من هذا القبيل وهي :
    [ ص: 253 ] المسألة العاشرة

    فنقول : الاعتبارات القرآنية الواردة على القلوب الظاهرة للبصائر ، إذا صحت على كمال شروطها ; فهي على ضربين : أحدهما : ما يكون أصل انفجاره من القرآن ، ويتبعه سائر الموجودات ; فإن الاعتبار الصحيح في الجملة هو الذي يخرق نور البصيرة فيه حجب الأكوان من غير توقف ، فإن توقف ; فهو غير صحيح أو غير كامل ، حسبما بينه أهل التحقيق بالسلوك .

    والثاني : ما يكون أصل انفجاره من الموجودات جزئيها أو كليها ويتبعه الاعتبار في القرآن .

    فإن كان الأول ; فذلك الاعتبار صحيح ، وهو معتبر في فهم باطن القرآن من غير إشكال لأن فهم القرآن إنما يرد على القلوب على وفق ما نزل له القرآن ، وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من المكلفين وبحسب التكاليف وأحوالها ، لا بإطلاق ، وإذا كانت كذلك ; فالمشي على طريقها مشي على الصراط المستقيم ، ولأن الاعتبار القرآني قلما يجده إلا من كان من أهله عملا به على تقليد أو اجتهاد ; فلا يخرجون عند الاعتبار فيه عن حدوده ، كما لم يخرجوا في العمل به والتخلق بأخلاقه عن حدوده ، بل تنفتح لهم أبواب الفهم فيه على توازي أحكامه ، ويلزم من ذلك أن يكون معتدا به لجريانه على مجاريه ، والشاهد على ذلك ما نقل من فهم السلف الصالح فيه ; فإنه كله جار على ما تقضي به العربية ، وما تدل عليه الأدلة الشرعية حسبما تبين قبل .

    وإن كان الثاني ; فالتوقف عن اعتباره في فهم باطن القرآن لازم ، وأخذه [ ص: 254 ] على إطلاقه فيه ممتنع لأنه بخلاف الأول ; فلا يصح إطلاق القول باعتباره في فهم القرآن ; فنقول : إن تلك الأنظار الباطنة في الآيات المذكورة إذا لم يظهر جريانها على مقتضى الشروط المتقدمة ; فهي راجعة إلى الاعتبار غير القرآني وهو الوجودي ويصح تنزيله على معاني القرآن لأنه وجودي أيضا ; فهو مشترك من تلك الجهة غير خاص ; فلا يطالب فيه المعتبر بشاهد موافق إلا ما يطالبه به المربي ، وهو أمر خاص وعلم منفرد بنفسه لا يختص بهذا الموضع فلذلك يوقف على محله ، فكون القلب جارا ذا قربى والجار الجنب هو النفس الطبيعي ، إلى سائر ما ذكر ; يصح تنزيله اعتباريا مطلقا ، فإن مقابلة الوجود بعضه ببعض في هذا النمط صحيح وسهل جدا عند أربابه ، غير أنه مغرر بمن ليس براسخ أو داخل تحت إيالة راسخ .

    وأيضا ; فإن من ذكر عنه مثل ذلك من المعتبرين لم يصرح بأنه المعنى المقصود المخاطب به الخلق بل أجراه مجراه وسكت عن كونه هو المراد ، وإن جاء شيء من ذلك وصرح صاحبه أنه هو المراد ; فهو من أرباب الأحوال الذين لا يفرقون بين الاعتبار القرآني والوجودي ، وأكثر ما يطرأ هذا لمن هو بعد في السلوك ، سائر على الطريق لم يتحقق بمطلوبه ، ولا اعتبار بقول من لم يثبت اعتبار قوله من الباطنية وغيرهم [ ص: 255 ] وللغزالي في مشكاة الأنوار وفي كتاب الشكر من الإحياء ، وفي كتاب جواهر القرآن في الاعتبار القرآني وغيره ما يتبين به لهذا الموضع أمثلة ; فتأملها هناك والله الموفق للصواب .
    فصل

    وللسنة في هذا النمط مدخل ، فإن كل واحد منهما قابل لذلك الاعتبار المتقدم الصحيح الشواهد ، وقابل أيضا للاعتبار الوجودي ; فقد فرضوا نحوه في قوله عليه الصلاة والسلام : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إلى غير ذلك من الأحاديث ، ولا فائدة في التكرار إذا وضح طريق الوصول إلى الحق والصواب .
    [ ص: 256 ] المسألة الحادية عشرة

    المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي ، وكذلك المكي بعضه مع بعض ، والمدني بعضه مع بعض ، على حسب ترتيبه في التنزيل ، وإلا لم يصح ، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي ; كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه ، دل على ذلك الاستقراء ، وذلك إنما يكون ببيان مجمل ، أو تخصيص عموم ، أو تقييد مطلق ، أو تفصيل ما لم يفصل ، أو تكميل ما لم يظهر تكميله وأول شاهد على هذا أصل الشريعة ; فإنها جاءت متممة لمكارم الأخلاق ، ومصلحة لما أفسد قبل من ملة إبراهيم عليه السلام ، ويليه تنزيل سورة الأنعام ; فإنها نزلت مبينة لقواعد العقائد وأصول الدين ، وقد خرج [ ص: 257 ] العلماء منها قواعد التوحيد التي صنف فيها المتكلمون من أول إثبات واجب الوجود إلى إثبات الإمامة هذا ما قالوا .

    وإذا نظرت بالنظر المسوق في هذا الكتاب ; تبين به من قرب بيان القواعد الشرعية الكلية ، التي إذا انخرم منها كلي واحد انخرم نظام الشريعة أو نقص منها أصل كلي .

    ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من أول ما نزل عليه سورة البقرة ، وهي التي قررت قواعد التقوى المبنية على قواعد سورة الأنعام ; فإنها بينت من أقسام أفعال المكلفين جملتها ، وإن تبين في غيرها تفاصيل لها كالعبادات التي هي قواعد الإسلام والعادات من أصل المأكول والمشروب وغيرهما والمعاملات من البيوع والأنكحة وما دار بها ، والجنايات من أحكام الدماء وما يليها .

    وأيضا ; فإن حفظ الدين فيها ، وحفظ النفس والعقل والنسل والمال مضمن فيها ، وما خرج عن المقرر فيها ; فبحكم التكميل ، فغيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبني عليها ، كما كان غير الأنعام من المكي المتأخر عنها مبنيا عليها ، وإذا تنزلت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب ; وجدتها [ ص: 258 ] كذلك ، حذو القذة بالقذة ; فلا يغيبن عن الناظر في الكتاب هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير ، وعلى حسب المعرفة به تحصل له المعرفة بكلام ربه سبحانه .
    فصل

    وللسنة هنا مدخل ; لأنها مبينة للكتاب ; فلا تقع في التفسير إلا على وفقه ، وبحسب المعرفة بالتقديم والتأخير يحصل بيان الناسخ من المنسوخ في الحديث ، كما يتبين ذلك في القرآن أيضا ، ويقع في الأحاديث أشياء تقررت قبل تقرير كثير من المشروعات ; فتأتي فيها إطلاقات أو عمومات ربما أوهمت ، ففهم منها يفهم منها لو وردت بعد تقرير تلك المشروعات ; كحديث : من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله ; دخل الجنة .

    أو حديث : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه ; إلا حرمه الله على النار [ ص: 259 ] وفي المعنى أحاديث كثيرة وقع من أجلها الخلاف بين الأمة فيمن عصى الله من أهل الشهادتين ; فذهبت المرجئة إلى القول بمقتضى هذه الظواهر على الإطلاق ، وكان ما عارضها مئولا عند هؤلاء ، وذهب أهل السنة والجماعة إلى خلاف ما قالوه ، حسبما هو مذكور في كتبهم وتأولوا هذه الظواهر .

    ومن جملة ذلك أن طائفة من السلف قالوا : إن هذه الأحاديث منزلة على الحالة الأولى للمسلمين ، وذلك قبل أن تنزل الفرائض والأمر والنهي ، ومعلوم أن من مات في ذلك الوقت ولم يصل أو لم يصم مثلا وفعل ما هو محرم في الشرع لا حرج عليه ; لأنه لم يكلف بشيء من ذلك بعد ، فلم يضيع من أمر إسلامه شيئا ، كما أن من مات والخمر في جوفه قبل أن تحرم ; فلا حرج عليه [ ص: 260 ] لقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية [ المائدة : 93 ] ، وكذلك من مات قبل أن تحول القبلة نحو الكعبة لا حرج عليه في صلاته إلى بيت المقدس لقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] وإلى أشياء من هذا القبيل فيها بيان لما نحن فيه ، وتصريح بأن اعتبار الترتيب في النزول مفيد في فهم الكتاب والسنة .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •