بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (156)
سُورَةُ النَّحْلِ(2)
صـ 331 إلى صـ 335
قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الإنسان من نطفة ، وهي مني الرجل ومني المرأة ; بدليل قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، أي : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة .
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط : من ماء الرجل وماء المرأة . وأخرج الطستي عن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق ، قال : أخبرني عن قوله : من نطفة أمشاج ، قال : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم . أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول :
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي ، وأنشده هكذا :
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
قال : ورواه المبرد :
كأن المتن والشرجين منه خلاف النصل سيط به مشيج
قال : ورواه أبو عبيدة :
كأن الريش والفوقين منها خلال النصل سيط به المشيج
ومعنى " سيط به المشيج " : خلط به الخلط .
إذا عرفت معنى ذلك ، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة ، منه ما هو خارج من الصلب ، أي : وهو ماء الرجل ، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو : ماء المرأة ، وذلك في قوله - جل وعلا - : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] [ ص: 331 ] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره ، والمراد بالترائب : ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها ، ومنه قول امرئ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق : على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل ، أو ابن أبي ربيعة :
والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر
فقوله هنا : " من بين الصلب والترائب " [ 86 \ 7 ] ، يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة ، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] تنبيه له على حقارة ما خلق منه ; ليعرف قدره ، ويترك التكبر والعتو ، ويدل لذلك قوله : ألم نخلقكم من ماء مهين الآية [ 77 \ 20 ] .
وبين - جل وعلا - حقارته بقوله : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 38 ] ، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله : مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان . وفي ذلك أعظم ردع ، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم .
وقوله - جل وعلا - : فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، أظهر القولين فيه : أنه ذم للإنسان المذكور . والمعنى : خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع ، ففاجأ بالخصومة والتكذيب ، كما تدل عليه : " إذا " الفجائية . ويوضح هذا المعنى قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، مع قوله - جل وعلا - : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 77 - 79 ] ، وقوله : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا [ 25 \ 54 ] ، وقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] إلى غير ذلك من الآيات . وسيأتي - إن شاء الله تعالى - زيادة إيضاح لهذا المبحث في " سورة الطارق " .
[ ص: 332 ] تنبيه .
اختلف علماء العربية في : " إذا " الفجائية ; فقال بعضهم : هي حرف . وممن قال به الأخفش . قال ابن هشام في " المغني " : ويرجح هذا القول قولهم : خرجت فإذا إن زيدا بالباب ( بكسر إن ) ; لأن " إن " - المكسورة - لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقال بعضهم : هي ظرف مكان . وممن قال به المبرد . وقال بعضهم : هي ظرف زمان . وممن قال به الزجاج . والخصيم : صيغة مبالغة ، أي : شديد الخصومة . وقيل : الخصيم المخاصم . وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب ، كالقعيد بمعنى المقاعد ، والجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المؤاكل ، ونحو ذلك .
وقوله : " مبين " [ 16 \ 4 ] الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة ، بمعنى بان وظهر ; أي بين الخصومة . ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي : ظهر . وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور
يعني : لظهر من آثارهن ورم في الجلد . وقيل : من أبان المتعدية والمفعول محذوف ; أي : مبين خصومته ومظهر لها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلا منه عليهم . وقد قدمنا في " آل عمران " : أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي : الذكر والأنثى من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . والمراد بالدفء على أظهر القولين : أنه اسم لما يدفأ به ، كالملء اسم لما يملأ به ، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها . .
ويدل لهذا قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] ، وقيل : الدفء نسلها . والأول أظهر ; والنسل داخل في قوله : ومنافع [ 16 \ 5 ] ، أي : من نسلها ودرها : ومنها تأكلون .
[ ص: 333 ] ومنافع الأنعام التي بين الله - جل وعلا - امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة ، بينها لهم أيضا في آيات كثيرة ، كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 ، 22 ] ، وقوله : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 ، 13 ] ، وقوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والأظهر في إعراب : والأنعام [ 16 \ 5 ] ، أن عامله وهو : خلق اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبا ، يفسره : " خلق " المذكور ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهر
وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع ; لأنه معطوف على معمول فعل ، وهو قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة الآية [ 16 \ 4 ] ، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الاسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق ; وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفا على ما يختار فيه النصب :
وبعد عاطف بلا فصل على معمول فعل مستقر أولا
وقال بعض العلماء : إن قوله : والأنعام معطوف على الإنسان ، من قوله خلق الإنسان [ 16 \ 4 ] ، والأول أظهر كما ترى .
وأظهر أوجه الإعراب في قوله : لكم فيها دفء [ 16 \ 5 ] أن قوله : دفء مبتدأ خبره لكم فيها ، وسوغ الابتداء بالنكرة ; اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف ، خلافا لمن زعم أن : دفء فاعل الجار والمجرور الذي هو [ ص: 334 ] لكم .
وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها ; لعدم اتجاهها عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ولكم فيها جمال [ 16 \ 6 ] ، يعني : أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال ; أي : عظمة ورفعة ، وسعادة في الدنيا لمقتنيها . وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير : لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] ، فعبر في الأنعام بالجمال ، وفي غيرها بالزينة . والجمال : مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة . ويقال أيضا : هي جملاء . وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر :
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
والزينة : ما يتزين به . وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك كالسلاح ، ولا تفتخر بالبقر والغنم . ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم :
واذكر بلاء سليم في مواطنها ففي سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا دين الرسول وأمر الناس مشتجر
لا يغرسون فسيل النخل وسطهم ولا تخاور في مشتاهم البقر
إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والعكر
والسوابح : الخيل . والمقربة : المهيأة المعدة قريبا . والأخطار : جمع خطر - بفتح فسكون ، أو كسر فسكون - وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره . والعكر - بفتحتين - : جمع عكرة ، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضا على اختلاف في تحديد قدره . وقول الآخر :
لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر
وقوله : " العكر الدثر " ، أي : المال الكثير من الإبل . وبدأ بقوله : حين تريحون [ 16 \ 6 ] ; لأنها وقت الرواح أملأ ضروعا وبطونا منها وقت سراحها للمرعى .
وأظهر أوجه الإعراب في قوله : وزينة [ 16 \ 8 ] ، أنه مفعول لأجله ، معطوف على ما قبله ; أي : لأجل الركوب والزينة .
قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه [ ص: 335 ] يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها ، وأبهم ذلك الذي يخلقه ; لتعبيره عنه بالموصول ، ولم يصرح هنا بشيء منه ، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات ، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية : كالطائرات ، والقطارات ، والسيارات .
ويؤيد ذلك إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث الصحيح . قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية ، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " . اهـ .
ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها " ; فإنه قسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها ، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة .
وفي هذا الحديث معجزة عظمى ، تدل على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت معجزاته - صلوات الله عليه وسلامه - أكثر من أن تحصر .
وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول ، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور
وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء ، ومقصودنا من الاستدلال بها هنا أن ذكر : ويخلق ما لا تعلمون [ 16 \ 8 ] في معرض الامتنان بالمركوبات لا يقل عن قرينة دالة على أن الآية تشير إلى أن من المراد بها بعض المركوبات ، كما قد ظهرت صحة ذلك بالعيان .
وقد ذكر في موضع آخر : أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات ، وذلك في قوله : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .