تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 7 من 8 الأولىالأولى 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 121 إلى 140 من 149

الموضوع: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد

  1. #121
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الاحزاب

    من صــ 801 الى صـ 806
    (الحلقة 120)



    139 - قال اللَّه تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال: تغيبتُ عن أول مشهد شهده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئن رأيت قتالاً ليريَن اللَّه ما أصنع. فلما كان يوم أحد انهزم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقبل أنس، فرأى سعد بن معاذ منهزمًا، فقال: يا أبا عمرو، أين؟ أين؟ قم، فوالذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أُحد فحمل حتى قتل. فقال سعد بن معاذ: فوالذي نفسي بيده ما استطعت ما استطاع. فقالت أُخته: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه ولقد كانت فيه بضع وثمانون ضربة، من بين ضربة بسيف، ورمية بسهم، وطعنةٍ برمح، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيه: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) إلى قوله: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر ذلك جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وقيل إن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً، فعاهدوا الله أن يفوا قتالاً للمشركين مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنهم من أوفى فقضى نحبه ومنهم من بدل، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه وكان منتظراً على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الآية) اهـ.
    وقال ابن عطية: (فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك ... ثم ذكر الحديث) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير: أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيّاً ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم عثمان بن عفان وأنس بن النضر وطلحة بن عبيد اللَّه وحمزة وسعيد بن زيد ومصعب بن عمير، فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذٍ وهو يدافع عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الآية نزلت بعد أحد وليس بعد الخندق لأنه إن كان المراد بها الذين استشهدوا وأبلوا بلاءً حسناً في أحد كما هو الواقع فلماذا يتأخر الثناء عليهم إلى ما بعد الخندق؟ هذا بعيد.
    وبناءً على ما تقدم فإن الراجح من قول ابن عاشور أنها نزلت يوم أحد ووضعت هنا بتوقيف من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
    وإذا عدنا إلى سبب النزول خصوصًا إلى قول أنس بن النضر (لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع). وجدنا هذا مطابقاً تماماً لقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ... ) الآية.
    ولا يعكر على هذا ما في لفظ البخاري: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه. فقد ذكر ابن حجر أن التردد فيه من حميد وأن الجزم وقع في رواية ثابت عند مسلم وأحمد.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة، لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
    * * * * *

    140 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنّ َ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم وأحمد والبخاري عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجد الناس جلوساً ببابه. لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأُذن لأبي بكر فدخل. ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً، حوله نساؤه واجماً ساكتاً. قال: فقال: لأقولن شيئاً أضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة). فقام أبو بكر إلى عائشة يجأُ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأُ عنقها. كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس عنده فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعًا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ) حتى بلغ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) قال: فبدأ بعائشة، فقال: (يا عائشة إني أُريد أن أعرض عليك أمراً أُحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك) قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبويَّ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها. إن اللَّه لم يبعثني مُعَنِّتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلمًا ميسراً).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد هذا جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل أن عائشة سألت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً من عرض الدنيا، إما زيادة في النفقة، أو غير ذلك فاعتزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءه شهراً فيما ذكر، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر عليه، والرضا بما قُسم لهن، والعمل بطاعة اللَّه، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن) اهـ.
    وقال ابن العربي لما ذكر بعض الأسباب: (والصحيح ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللَّه قال: جاء أبو بكر ... ثم ساق الحديث) اهـ.
    قال ابن كثير: (هذا أمر من اللَّه تبارك وتعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند اللَّه تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن - رضي اللَّه عنه وأرضاهن - اللَّه ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة) اهـ.
    وقال السعدي: الما اجتمع نساء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغيرة وطلبن منه أمراً لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات وفي مرادهن متعنتات شق ذلك على الرسول حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهراً، فأراد اللَّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته ويذهب عنهن كل أمر ينقص أجرهن فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا).
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية الكريمة حديث جابر هذا، لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن وتعويل المفسرين عليه والله أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #122
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد


    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الاحزاب

    من صــ 807 الى صـ 811
    (الحلقة 121)


    141 - قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء وإِنَّمَا لنا نصف الميراث فأنزل الله: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، قال مجاهد: وأنزل فيها (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ) وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة.
    2 - وأخرج الترمذي عن أم عُمارةَ الأنصارية أنها أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما أَرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذين الحديثين لكن منهم من ذكرهما جميعًا كالبغوي وابن عاشور.
    ومنهم من ذكر حديث أم سلمة كالطبري وابن عطية وابن كثير.
    ومنهم من ذكر حديث أم عمارة كالقرطبي.
    قال السعدي: (لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعقابهن لو قُدِّر عدم الامتثال وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ذكر بقية النساء غيرهن ولما كان حكمهن وحكم الرجال واحدًا جعل الحكم مشتركًا فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصًا بالرجال إلا الأحكام. التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُص على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور وإن كان لا يخلو من مقال في إسناده إلا أنه يعتضد بأقوال المفسرين، وسياق القرآن، مع بعض الشواهد الحديثية كحديث أم سلمة وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مما يجعل القول بأنه سبب نزولها ممكناً واللَّه أعلم.
    * * * * *

    142 - قال الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج النَّسَائِي والبخاري وأحمد، والترمذي، عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء زيد يشكو امرأته إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يمسكها فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية. وقد ذكر هذا جمهور المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وابن عاشور.
    قال ابن العربي: (وإِنَّمَا كان الحديث أنها لما استقرت عند زيد جاءه جبريل: أن زينب زوجك ولم يكن بأسرع أن جاءه زيد يتبرأ منها فقال له:
    اتق اللَّه وأمسك عليك زوجك فأبى زيد إلا الفراق وطلقها وانقضت عدتها وخطبها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يدي مولاه زوجها وأنزل اللَّه القرآن المذكور فيه خبرهما) اهـ.
    وقال السعدي: (وكان سبب نزول هذه الآيات أن اللَّه تعالى أراد أن يشرع شرعاً عاماً للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة من جميع الوجوه وأن أزواجهم لا جناح على من تبناهم في نكاحهن، وكان هذا من الأمور المعتادة التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير فأراد الله أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله وفعلاً وإذا أراد اللَّه أمراً جعل له سبباً وكانت زينب تحت زيد فقدر اللَّه أن يكون بينها وبين زيد ما اقتضى أن جاء زيد يستأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فراقها قال اللَّه: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) اهـ بتصرف.
    قال الشنقيطي بعد ذكر أقوال العلماء: (التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دلَّ عليه، وهو أن الله أعلم نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن زيدًا يطلق زينب وأنه يزوجها إياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي في ذلك الوقت تحت زيد فلما شكاها زيد إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله) فعاتبه اللَّه على قوله: أمسك عليك زوجك بعد علمه أنها ستصير زوجته هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    وقال الحافظ ابن حجر: (لم تختلف الروايات أنها نزلت في قصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه وموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين عليه.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #123
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الاحزاب

    من صــ 812 الى صـ 818
    (الحلقة 122)


    143 - قال اللَّه تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لو كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)، بالعتق فأعتقته (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) - إلى قوله - (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها قالوا: تزوج حليلةَ ابنه، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبناه وهو صغير فلبث حتى صار رجلاً يقال له: زيد بن محمد فأنزل الله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ)، يعني أعدل.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد اختلفت عبارات المفسرين وتباينت بين التفسير والنزول.
    فالبغوي والقرطبي قد ذكرا سبب النزول.
    قال البغوي: (ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوج زينب قال الناس: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)
    يعني زيد بن حارثة، أي ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها) اهـ.
    وقال القرطبي: (لما تزوج زينب قال الناس تزوج امرأة ابنه فنزلت الآية، أي: ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم وأعلم أن محمداً لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة) اهـ.
    وأما الطبري وابن عطية فكلامهما محتمل للنزول والتفسير معاً.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده محمد فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها ولكنه رسول الله وخاتم النبيين) اهـ محل الشاهد.
    ثم ساق بعض الآثار التي تدل على نزولها في زيد.
    وقال ابن عطية: (أذهب الله تعالى في هذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من نقد تزويج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب زوجة دعيه زيد بن حارثة لأنهم كانوا استعظموا أن تزوج زوجة ابنه فنفى القرآن تلك البنوة) اهـ.
    وأما ابن كثير والسعدي فحديثهما عن الآية حديث تفسير.
    قال ابن كثير: (نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه) اهـ.
    وقال السعدي: (ما كان الرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا أحد من رجالكم أيها الأمة، فقطع انتساب زيد بن حارثة منه من هذا الباب) اهـ.
    وعندي - والله أعلم - أن الأمر مشكل لأني إن نظرت في إسناد الحديث الذي معنا وجدت فيه راوياً متروكاً مع انقطاع في سنده وهذا يعني أن وجود الحديث كعدمه وإن نظرت إلى قولي ابن كثير والسعدي وجدت قولاً حسناً جميلاً ولكن قد يعكر عليه أن الله قَطَعَ انتساب زيد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ذلك بقوله تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فما الفائدة من قطع النسب هنا مرة أخرى بقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)؟
    فالجواب: يمكن أن يقال إن قوله: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) الغرض منها قطع التبني المشهور بين الناس.
    ولما ذكر نكاحِ زيد إياها وتزويجها برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) أشكل هذا على بعض الناس باعتبار أن التبني وإن أبطله الله إلا أن زيداً كان ابنه في السابق فكيف تزوج امرأته؟
    فبين اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن أبا أحد قط من رجالكم لا في السابق ولا في الحاضر سواءً أكان زيداً أم غيره. بقوله: (مَا كَانَ) وحينئذٍ يكون الغرض من النفي هنا دفع الإشكال الناتج عن تزوجه بزينب امرأة مولاه، وبهذا يظهر الفرق بين الآيتين.
    لكن يبقى النظر هل قال أحد: تزوج حليلة ابنه؟
    الظاهر - والله أعلم - أن هذا إما أن يكون وقع. أو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخشاه؛ لأن عدداً من مقاطع الآيات تشير إلى هذا مثل قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) وقوله: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ)، وقوله: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) وهذه المقاطع كلها في آية التزوج وما بعدها مما يدل عل أن الخشية من الناس كانت بسببها.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور لا يصح أن يكون سبباً لنزولها لما فيه من الضعف الشديد، لكن سياق الآيات، وأقوال المفسرين يدل على أن لهذا الكلام أصلاً واللَّه أعلم.
    * * * * *

    144 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل اللَّه تعالى (إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) قالت: فلم أكن أَحلُّ له لأني لم أُهاجر كنت من الطلقاء.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر هذا الحديث جمهور المفسرين عند تفسيرها كالبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال البغوي: (اللاتي هاجرن معك إلى المدينة فمن لم تهاجر منهن معه لم يجز له نكاحها) اهـ.
    ثم ساق الحديث الذي معنا.
    وقال ابن العربي بعد سياق الحديث: (وهو ضعيف جدًا ولم يأتِ. هذا الحديث من طريق صحيح يحتج في مواضعه بها) اهـ.
    وقال في موضع آخر: (ولهذا المعنى نزلت الآية في أم هانئ بأنها لم تكن هاجرت، فمنع منها لنقصها بالهجرة) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لما يلي:
    1 - أن إسناد الحديث ضعيف جداً لا يصح الاحتجاج به على نزول الآية بسبب القصة.
    2 - أن الحديث تناول قضية نكاح أم هانئ فقط بينما الآية تناولت إحلال أزواجه اللاتي آتاهن أجورهن، وما ملكت يمينه، وقريباته المهاجرات، والواهبات من البعيد حصر نزولها بسبب واحد، مع كثرة الأحكام التي تضمنتها.
    3 - أن الآية - والحال ما ذُكر - لم تعالج القضية في الماضي لأنها انتهت باعتذارها، وعذره إياها. ولم تعالجها في المستقبل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتزوج بعد فتح مكة.
    وبناءً على ما تقدم فالظاهر - واللَّه أعلم - أن الآية نزلت ابتداءً لبيان أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النكاح ما الذي يحل ويحرم، وما الذي يخصه ويعم غيره.
    ولعل مما يؤكد هذا أنه يبعد خفاء هذا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع حاجته إليه، حتى فتح مكة، نعم قد يتأخر نزول الآية، لكن العلم حاصل قبل نزولها واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية لضعف سنده وعدم التوافق بين القضية ونزول الآية واللَّه أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #124
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الاحزاب

    من صــ 819 الى صـ 827
    (الحلقة 123)

    145 - قال الله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) قلت: ما أُرى ربك إلا يسارع في هواك.
    ولفظ أحمد والنَّسَائِي: فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    والظاهر - واللَّه أعلم - أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة، وكلام أكثر المفسرين يدور حول معنى الآية وليس على سبب نزولها.
    قال القرطبي: (واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وأصح ما قيل فيها التوسعة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ترك القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته) اهـ.
    وقال ابن كثير: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ) أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن فتقدم من شئت وتؤخر من شئت وتجامع من شئت وتترك من شئت هكذا يروى عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، ومع هذا كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبًا عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحتجوا بهذه الآية الكريمة، ثم ذكر حديث البخاري عن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أُنزلت هذه الآية: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) فقالت لها معاذة، ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إليَّ فإني لا أُريد يا رسول اللَّه أن أُوثر عليك أحداً. فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجوب القسم وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات. ومن هاهنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي وفيه جمع بين الأحاديث) اهـ.
    وقال السعدي: (وقال كثير من المفسرين: إن هذا خاص بالواهبات له أن يرجي من يشاء ويؤوي من يشاء. أي إن شاء قبل من وهبت نفسها له وإن شاء لم يقبلها) اهـ.
    وبهذا يتبين أن أكثر المفسرين يدورون على معنى الآية والمراد منها دون سبب نزولها ومع هذا فإنه لا يوجد قضية معينة نزلت الآية معالجةً لها وتكون سبب نزولها.
    وإذا أضفتَ إلى هذين أمراً ثالثًا إسنادياً وهو أن التصريح بالنزول غير محفوظ تحققت حينئذٍ أن الآية لم تنزل على سبب، بل نزلت مقررةً ما لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الخصائص في النكاح واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية، حيث لم يثبت التصريح بالنزول، ولم يوجد حدث يستدعي النزول، مع إعراض أكثر المفسرين عن ذكر السببية، والله أعلم.
    * * * * *

    146 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري، وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب بنت جحش دعا الناس طعموا ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام معه من الناس وبقي ثلاثة، وإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، قال: فجئت فأخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فأرخى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) - إلى قوله - (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا).
    2 - أخرج البخاري وأحمد والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال عمر:
    وافقت اللَّه في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت امهات المؤمنين بالحجاب فأنزل اللَّه آية الحجاب، قال: وبلغني معاتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض نسائه فدخلت عليهن، قلت: إن انتهيتن أو ليبدلن اللَّه رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، قالت: يا عمر، أما في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ).
    3 - أخرج البخاري وأحمد عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احجب نساءك، قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرجن ليلاً إلى ليلٍ قِبَل المناصع، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة، فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس، فقال: عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب قالت: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب.
    وفي لفظ للبخاري ومسلم عنها - رضي الله عنها - قالت: فأوحى اللَّه إليه ثم رفع عنه وإن العَرْق في يده ما وضعه، فقال: (إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
    4 - أخرج البخاري والنَّسَائِي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش، وأطعم عليها يومئذٍ خبزاً ولحمًا، وكانت تفخر على نساء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء.
    5 - أخرج النَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنت آكل مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيساً في قعب فمر عمر، فدعاه فأكل فأصابت أصُبعه أُصبعي فقال: حسِّ أو (أوه) لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث أو بعضها على اختلاف بينهم.
    فأما الطبري فقد ساق الأحاديث ولم يتعقبها بشيء لكنه بدأ بذكر حديث أنس في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -.
    وأما الباقون كالبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور فقد ذكروا أنها في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها -.
    قال الطبري: (واختلف أهل العلم في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه، فقال بعضهم نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وليمة زينب بنت جحش، ثم جلسوا يتحدثون في منزل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله) اهـ.
    وقال البغوي: (قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    وقال أبو بكر بن العربي لما ذكر ستة أسباب لنزول الآية: (هذه الروايات ضعيفة إلا الأولى - يعني بها قصة زينب - والسادسة - يعني بها حديث أنس عن عمر في موافقته للَّه) اهـ.
    وهذا منه يقتضي أنه يضعِّف حديث عائشة في قصة سودة مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
    وقال ابن عطية: (فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزينب بنت جحش التي تولى اللَّه تعالى تزويجها بنفسه وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما).
    وقال عن حديث عائشة في قصة سودة مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والذي وضع له رقم (3): (هكذا وقع في هذه الرواية والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، ثم ساق حديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: قالت: خرجت سودة بعدما ضُرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمةً لا تخفى على من يعرفها فذكرت الحديث وفيه: قالت: فأوحى الله إليه ثم رُفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: (إنه قد أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن)) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (لما بيَّن الله في الآيات السابقة آداب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أزواجه قفّاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، وصدره بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية ثم ذكر حديث أنس في قصة زينب).
    ثم جمع بين حديث أنس في قصة زينب، وحديث أنس في قصة عمر: (وافقت الله في ثلاث) فقال: (وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها) اهـ.
    وبعد ذكر أقوال المفسرين في سبب النزول سأذكر الراجح من هذه الأقوال مستعيناً باللَّه فأقول:
    أما حديث عائشة - رضي الله عنها - في قصة أكلها مع عمر، وإصابة أصبعه أُصبعها فلا يصح سبباً للنزول لضعف سنده، وغرابة متنه.
    وأما حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة زينب بنت جحش - رضي الله عنها - فلا ريب أنه سبب نزولها لأن سياق القرآن يطابق الحديث تماماً.
    وأما حديث أنس عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وافقت ربي في ثلاث وفيه: قلت: يا رسول اللَّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أَمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب) فهذا لا يعارض حديث أنس؛ لأن عمر يشير على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يرى، لكن النزول كان في قصة زينب، والأمر كما قال ابن عاشور: (جائز أن يكون قول عمر قبل البناء بزينب بقليل فنزلت الآية بإثرها).
    وأقول: جائز أن يكون قوله قبل البناء بكثير لكنَّ حكمة أحكم الحاكمين اقتضت أن يتأخر نزول الحجاب إلى قصة زينب.
    وأما حديث عائشة - في قصة عمر مع سودة وقولها: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - آية الحجاب. فمعارض بأمور:
    الأول: أن لفظ البخاري ومسلم عنها - رضي الله عنها - بدون نزول آية الحجاب بل اقتصر على الإذن لهن بالخروج عند الحاجة، وما رواه الشيخان مقدم على ما انفرد به أحدهما.
    الثاني: أن حديث أنس نصٌّ في أن الآية نزلت في وليمة زينب، وليست في الإذن لسودة - رضي الله عنها -.
    الثالث: أن ابن كثير ذكر أن المشهور في قصة سودة أنها كانت بعد نزول الحجاب: وهذا مروي في البخاري، وحينئذٍ كيف تكون القصة سبب نزول الآية ولم تقع إلا بعدها؟
    الرابع: أن حديث عائشة في قصة سودة - رضي الله عنها - غير محفوظ ففي لفظ: فقال: عرفناك يا سودة حرصًا على أن ينزل الحجاب، وفي لفظ: خرجت سودةُ بعد ما ضُرب الحجاب لحاجتها. وهذا اختلاف ظاهر يمتنع الاحتجاج به.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية المذكورة حديث أنس في قصة زينب - رضي الله عنها - ووليمتها لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته سياق القرآن، واحتجاج المفسرين به، وخلوه من معارض راجح والله أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #125
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة يس

    من صــ 828 الى صـ 836
    (الحلقة 124)

    147 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن موسى كان رجلاً حييًا ستيرًا، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أُدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانًا أحسن ما خلق اللَّه، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لنَدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا) فذلك قوله:؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
    ولفظ مسلم ونزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها ولم يذكروا أن الحديث سبب نزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يا أيها الذين آمنوا باللَّه ورسوله لا تؤذوا رسول اللَّه بقول يكرهه منكم ولا بفعل لا يحبه منكم، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله فرموه بعيب كذباً وباطلاً فبرأه الله مما قالوا فيه من الكذب والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم) اهـ.
    وقال القرطبي: (لما ذكر اللَّه تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى) اهـ.
    وقال السعدي: (يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا يقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام وأن لا يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى بن عمران كليم الرحمن فبرأه الله مما قالوا من الأذية أي أظهر اللَّه لهم براءته) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة؛ لأن التصريح بالنزول شاذ غير محفوظ كما أنه غير ممكن أن تكون قصة موسى سبباً للنزول لأنها لم تحدث وقت نزول القرآن ولهذا لم يذكر هذا أحد من المفسرين واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة يس
    (148) - قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النُقلَةَ إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن آثاركم تكتب فلا تنتقلوا).
    وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بلفظ: كانت الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد فأرادوا أن يقتربوا فنزلت: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) قال: فثبتوا.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر بعض المفسرين هذه الأحاديث ولم يتعقبها بشيء كالطبري والبغوي والقرطبي.
    قال الطبري: (وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليقرب عليهم) اهـ ذكر من قال ذلك ثم ساق الروايات.
    وذكر بعض المفسرين هذه الأحاديث وأبوا أن تكون سبب نزول الآية كابن عطية وابن كثير وابن عاشور.
    قال ابن عطية: (هذه السورة مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت إن قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: دياركم تكتب آثاركم وكره رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تعروا المدينة وعلى هذا فالآية مدنية وليس الأمر كذلك، وإنما نزلت الآية بمكة، ولكنه احتج بها عليهم في المدينة ووافقها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعنى فمن هنا قال من قال أنها نزلت في بني سلمة) اهـ.
    وقال ابن كثير بعد ذكر حديث أبي سعيد: (وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة بكمالها مكية فاللَّه أعلم) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وتوهم راوي الحديث عن الترمذي أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسياق الآية يخالفه، ومكيتها تنافيه) اهـ.
    وخلاصة ما تقدم أن الأحاديث المذكورة ليست سبباً للنزول للأسباب التالية:
    1 - أن أسانيد هذه الأحاديث وطرقها ضعيفة.
    2 - أن الآية مكية والقصة مدنية.
    3 - أن سياق الآية يخالف الحديث لأن حديث الآية عن الموتى بقوله: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) بينما الحديث في الأحياء فكيف تنزل الآية بسببه.
    ولعل سبب الخطأ ما ذكره ابن عطية بقوله: (ووافقها - أي الآية - قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المعنى فمن هنا قال من قال إنها نزلت في بني سلمة).
    والمراد بقوله - عليه الصلاة والسلام -: (دياركم تكتب آثاركم).
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية لضعف سنده، ومخالفته لسياق القرآن، ووقوعه بعد نزول الآية والله أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #126
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الزمر

    من صــ 837 الى صـ 846
    (الحلقة 125)


    سورة
    149 - قال الله تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مرض أبو طالب، فأتته قريش، وأتاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، وعند رأسه مقعد رجلٍ، فقام أبو جهل، فقعد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا. وقال: ما شأنُ قومك يشكونك؟ قال: (يا عم، أُريدهم على كلمة واحدة تدينُ لهم بها العرب، وتؤدي العجم إليهم الجزية) قال: ما هي؟ قال: (لا إله إلا الله) فقاموا فقالوا: أَجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ قال: ونزل (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) فقرأ حتى بلغ: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) ولفظ الترمذي إلى قوله: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآيات الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وكان سبب قيل هؤلاء المشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه من ذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين لكم بها العرب وتعطيكم بها الخراج العجم فقالوا: وما هي؟ فقال: تقولون لا إله إلا الله، فعند ذلك قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) تعجبًا منهم من ذلك) اهـ.
    ثم ساق الحديث برواياته.
    وقال ابن عاشور بعد ذكر الحديث عن أغراضها: (أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها، وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكبرهم عن قبول ما أرسل به، وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونهم). اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور وإن كان معتلاً سبب لنزول الآيات لما بينه وبين سياق الآيات من المطابقة التامة مع ما يؤيد هذا من أقوال المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآيات الكريمة لما بينه وبين سياق الآيات من الموافقة مع تصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به وتعويلهم عليه والله أعلم.
    * * * * *
    سورة الزمر
    150 - قال الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا فأتوا محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) ونزل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين نزول هذه الآية عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بهذه الآية فقال بعضهم: عُني بها قوم من أهل الشرك قالوا لما دعوا إلى الإيمان باللَّه كيف نؤمن وقد أشركنا وزنينا وقتلنا النفس التي حرم اللَّه، والله يعد فاعل ذلك النار فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان فنزلت هذه الآية ثم ساق الأحاديث) اهـ.
    قال ابن عاشور بعد سياق الحديث: (وقد رويت أحاديث عدةً في سبب نزول هذه الآية غير حديث البخاري وهي بين ضعيف ومجهول ويستخلص من مجموعها أنها جزئيات لعموم الآية وأن الآية عامة لخطاب جميع المشركين) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة؛ لأن سياق الحديث في المشركين، وكذلك سياق الآيات في المشركين لقوله تعالى: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59).
    مع ما جاء في أول سياق الآيات من ذكر الإسراف على النفس، وعدم القنوط من رحمة الله. وهذا يتفق مع أفعال المشركين في الحديث حيث جمعوا بين الشرك والقتل والزنا ففي الشرك فساد الأديان، وفي القتل إزهاق الأرواح وإراقة الدماء، وفي الزنا إفساد الأعراض وهذه أصول الذنوب والمعاصي.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن، واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #127
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة فصلت

    من صــ 847 الى صـ 855
    (الحلقة 126)


    151 - قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج أحمد والترمذي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: مر يهودي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس، قال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماء على ذِه وأشار بالسبابة، والأرض على ذِه، والجبال على ذِه، وسائر الخلق على ذِه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، قال: فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    2 - أخرج أحمد والنَّسَائِي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم، أَبَلَغَك أن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والشجر على إصبع، والثرى على إصبع؟ فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ).
    وفي لفظ: ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد ذكر جمع من المفسرين هذه الأحاديث لكن منهم من اقتصر على سياقها كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير ولم يتعقبها بشيء.
    ومنهم من بيّن أن الأحاديث ليست سبباً لنزول الآية كابن عطية وابن عاشور.
    قال ابن عطية: (فرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تمثل بالآية وقد كانت نزلت) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (ومعنى قوله: ثم قرأ هذه الآية، نزلت قبل ذلك لأنها مما نزل بمكة، والحبر من أحبار يهود المدينة ... ثم ذكر كلامًا حتى قال: وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهو وهم من بعض رواته وكيف وهذه مكية وقصة الحبر مدنية).
    وعندي - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب تلك القصة لسببين:
    الأول: أن السورة كلها مكية عند جمهور العلماء، والحدث مع اليهود في المدينة وبناءً عليه فلا يمكن أن تكون القصة سبباً لها.
    الثاني: أنه قد تبين من طرق الأحاديث أن التصريح بالنزول شاذ غير محفوظ وأن المحفوظ من ذلك الذي تتابعت عليه الروايات ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استدل بالآية على قدرة اللَّه التي أشار إليها الحبر، والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن الآية نزلت ابتداءً وليس بسبب القصة المذكورة لأن السورة كلها مكية والقصة مدنية، ومع هذا فإن التصريح بالنزول ليس محفوظاً بل هو شاذ واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة فصلت
    152 - قال الله تعالى: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري، وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، كثيرة شحمُ بطونهم، قليلة فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن اللَّه يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ) الآية.
    وفي رواية لأحمد إلى قوله: (فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمع من المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل نفر تدارؤوا بينهم في علم الله بما يقولونه ويتكلمون سرًّا) اهـ.
    وقال ابن عاشور بعد ذكر الحديث: (وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا للتساوي في التفكير، ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريباً، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم) اهـ.
    وذهب ابن عطية إلى أن القصة ليست سبباً للنزول فقال: (ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية ويشبه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد اللَّه إياه والله أعلم) اهـ.
    والغريب حقاً أن ينتصر ابن عاشور لآخر كلام ابن عطية فيقول (وأحسن ما في كلام ابن عطية طرفه الثاني وهو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ الآية متمثلاً بها فإن ذلك يؤول قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى، ويبين وجه قراءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها عندما أخبره ابن مسعود بأنه قرأها تحقيقاً لمثال من صور معنى الآية وهو أن مثل هذا النفي ممن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) اهـ.
    وعندي - والله أعلم - أن ما ذكره ابن عطية وانتصر لبعضه ابن عاشور خطأ لأنه لا يوجد ما يدل عليه وليس له ما يبرره.
    وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أنه قد اجتمع في الحديث الذي معنا ما يوجب الإذعان والتسليم ومن ذلك:
    1 - أن الحديث صحيح السند لا مطعن فيه، وقد أخرج في أصح كتابين بعد كتاب اللَّه.
    2 - التصريح بالنزول، ومن المعلوم اعتبار صيغة النزول عند العلماء.
    3 - موافقة القصة لسياق القرآن وهذا يدل على وجود ارتباط بينهما.
    4 - أن القصة والسورة مكيتان فما الذي يمنع أن تكون الأولى سبب نزول الأخرى.
    5 - احتجاج جمع من المفسرين بالحديث على نزول الآيات.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا سبب نزول هذه الآيات الكريمة لصحة سنده وموافقته لسياق القرآن واحتجاج جمع من المفسرين به واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #128
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الزخرف

    من صــ 856 الى صـ 869
    (الحلقة 127)


    سورة الشورى
    153 - قال الله تعالى: (ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج الإمام أحمد والبخاري عن طاووس قال: سأل رجل ابن عبَّاسٍ المعنى، عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فقال سعيد بن جبير: قرابة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ابن عبَّاسٍ: عجلتَ إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم قرابة، فنزلت: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن تصلوا قرابةَ ما بيني وبينكم.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر الحديث بهذا اللفظ الطبري ثم قال: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك، لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ثواباً وجزاءً وعوضاً من أموالكم تعطوننيه (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) اهـ.
    أما سائر المفسرين كالبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور فقد ذكروا ألفاظًا قريبة من هذا لكنها خالية من ذكر النزول.
    قال ابن كثير: (قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاع والنصح لكم مالاً تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني، وتذروني أبلغ رسالات ربي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة) اهـ.
    والظاهر - والله أعلم - أن التصريح بنزول الآية لهذا السبب لا يصح لأمور:
    1 - أنه لا يعرف حدث بعينه نزلت عليه الآية، ومن المعلوم أن السبب المصطلح عليه لا بد أن يقترن به حدث أو سؤال، وهذا لا دليل عليه هنا.
    2 - أن المفسرين لا يذكرون أن هذا سبب نزولها باستثناء الطبري، الذي ذكر هذا الحديث ضمن رواياته، وإعراض المفسرين عنه قرينة تدل على عدم ثبوته عندهم.
    3 - أنه قد جاء عند البخاري في إحدى روايات الحديث: (فقال ابن عبَّاسٍ: عجلت، إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: (إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة). ولم يذكر الآية هنا.
    وفي رواية أخرى: (فنزلت عليه: إلا أن تصلوا قرابةً بيني وبينكم).
    قال ابن حجر في شرحه للرواية الثانية: (كذا وقع هنا من رواية يحيى وهو القطان عن شعبة، ووقع في التفسير (يعني الرواية التي قبلها) من رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة بلفظ: (إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة) وهذه الرواية واضحة، والأولى مشكلة لأنها توهم أن المذكور بعد قوله: (فنزلت) من القرآن وليس كذلك، وقد مشى بعض الشراح على ظاهره فقال: كان هذا قرآناً فنسخ، وقال غيره يحتمل أن هذا الكلام معنى الآية فندسب إلى النزول مجازاً. قلت: والذي يظهر لي أن الضمير في قوله فنزلت، للآية المسؤول عنها وهي قوله: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وقوله: (إلا أن تصلوا) كلام ابن عبَّاسٍ تفسير لقوله تعالى: (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) فعرف بهذا أن المراد ذكر بعض الآية بالمعنى على جهة التفسير) اهـ.
    وقد أطنب ابن حجر في الحديث عن سبب نزولها.
    وبهذا يتبين أن الحديث عن سبب النزول غير محفوظ، وإنما نزلت الآية ابتداءً لغرض كف أذى المشركين عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يكن بسبب النبوة فبسبب القربى.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لعدم الدليل على ذلك من لفظ الحديث أو سياقه مع الآيات والله أعلم.
    * * * * *
    سورة الزخرف
    154 - قال اللَّه تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الإمام أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقريش: (يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير) وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم، وما تقول في محمد، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله صالحًا، فلئن كنتَ صادقًا فإن آلهتهم لكَما تقولون قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال: قلت: ما يصدون؟ قال: يضجون، (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال: هو خروج عيسى ابن مريم - عليه السلام - قبل يوم القيامة.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذا الحديث القرطبي وابن كثير، وذكرا معه غيره.
    أما الطبري والبغوي وابن عطية والشنقيطي وابن عاشور فلم يذكروا هذا الحديث وقد تباينت أقوالهم واختلفت آراؤهم فيما يذكرون من سبب نزولها وتفسيرها.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ولما شبه الله عيسى في إحداثه وإنشائه إياه من غير فحل بآدم، فمثله به بأنه خلقه من تراب من غير فحل، إذا قومك يا محمد من ذلك يضجون ويقولون: ما يريد محمد منا إلا أن نتخذه إلهًا نعبده كما عبد النصارى المسيح ... ثم ذكر الروايات) اهـ.
    وقال البغوي: (قال ابن عبَّاسٍ وأكثر المفسرين إن الآية نزلت في مجادلة عبد اللَّه بن الزِبعرى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شأن عيسى - عليه السلام - لما نزل قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) اهـ.
    وقال ابن كثير: (وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة ... فذكر قصة عبد الله بن الزبعرى) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزِبْعَري السهمي قبل إسلامه أي: ولما ضَرَبَ ابنُ الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم مثلاً فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك فرحاً منهم وزعماً أن ابن الزبعرى خصمك أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل.
    وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلاً أن اللَّه لما أنزل قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ): قال ابن الزبعرى: إن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن كل معبود من دون الله في النار وأننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون اللَّه فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه.
    وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب.
    فاتضح أن ضربه عيسى مثلاً يعني أنه على ما يزعم أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله من أن كل معبود وعابده في النار، يقتضي أن يكون عيسى مثلاً لأصنامهم في كون الجميع في النار، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يثني على عيسى الثناء الجميل، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
    فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعترف بأن عيسى رسول الله وأنه ليس في النار دلّ ذلك على بطلان كلامه عنده، وعند ذلك أنزل اللَّه: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وأنزل الله أيضاً قوله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ... ) الآية.
    وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل.
    قال جماعة من العلماء: والدليل أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل ألبتَّة على ما زعموا وهم أهل اللسان ولا تخفى عليهم معاني الكلمات.
    والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء لأنه قال: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) ولم يقل: (ومَن تعبدون) وذلك صريح في أن المراد الأصنام، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرًا ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لم يرد ذلك بقوله تعالى بعده: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي الذي نزل به القرآن، تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلاً إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل.
    وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) هو عامة قريش.
    والذين قالوا إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر عيسى وسمعوا قول اللَّه تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)، قالوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى.
    وعلى هذا القول فمعنى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه. اهـ بتصرف.
    والظاهر - والله أعلم - أن المعنى الأول أصح وهو اختيار أكثر المفسرين، ويدل عليه سياق القرآن، بخلاف القول الثاني الذي اختاره الطبري فإنه لا دليل على أن المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد منهم أن يعبدوه كما عبد النصارى عيسى ابن مريم.
    وسياق الآيات يدل على أن ضارب المثل بعيسى بعض المشركين لأن الله قال: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) إلى قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ولو كان المثل هنا هو المذكور في قوله تعالى:
    (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ما حسن أن يقول: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا).
    ثم إن سورة الزخرف مكية، وآل عمران مدنية، فكيف يُفسر المثل المذكور في سورة الزخرف مع تقدم نزولها، بالمثل المذكور في سورة آل عمران مع تأخر نزولها؟
    وإذا تحققنا ضعف القول الثاني الذي اختاره الطبري، فلننظر في موافقة القول الأول لسبب النزول.
    وأقول: إن سياق السبب الذي معنا لا يخالف ما ذكره المفسرون وخصوصًا الشنقيطي ففي سياق الحديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير) هذا يتفق مع قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) لأنه لو كان فيهم خير ما كانوا حصب جهنم.
    وقوله في الحديث: فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى كان نبيًا وعبدًا من عباد الله صالحًا، لا يمنع أن يكون القائل بحسب قول المفسرين ابنَ الزِبعرى.
    قال الشنقيطي: (ووجه التعبير بصيغة الجمع في قوله: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى يرجع إلى أمرين:
    أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة.
    والأمر الثاني: أن جميع كفار قريش، صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلاً وفرحوا بذلك ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه) اهـ بتصرف.
    وبهذا يتبين موافقة الحديث لسياق القرآن، ودلالته على نزولها واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا وإن كان موقوفًا على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلا أنه سبب نزول الآية لموافقته لسياق القرآن وتصريحه بالنزول واتفاق أكثر المفسرين على معناه واللَّه أعلم.
    * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #129
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الدخان

    من صــ 870 الى صـ 882
    (الحلقة 128)


    سورة الدخان
    155 - قال اللَّه تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري ومسلم وأحمد والنَّسَائِي عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: اللَّه أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: اللَّه أعلم، إنما كان هذا أن قريشاً لما استعصت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف. فأصابهم قحط وجهد. حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. وحتى أكلوا العظام فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل، فقال: يا رسول الله استغفر اللَّه لِمُضَرَ فإنهم قد هلكوا فقال: (لمضر إنك لجريء) قال: فدعا اللَّه لهم، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) قال: فمطروا، فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه. قال فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال: يعني يوم بدر.
    وفي لفظ للبخاري: فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) - إلى قوله جل ذكره - (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ).
    وفي لفظ له أيضاً: (ثم قرأ: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) حتى بلغ (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ). قال عبد الله: أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في شأن الدخان فمنهم من اختار حديث ابن مسعود هذا كالطبري وابن عطية وابن عاشور.
    قال الطبري: (وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرتقبه هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم؛ لأن اللَّه جل ثناؤه توعد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) في سياق خطاب اللَّه كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)، ثم اتبع ذلك قوله لنبيه - عليه الصلاة والسلام - (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أمرا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه، وتهديدًا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدًا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون أخره عنهم لغيرهم.
    وبعد فإنه غير منكر أن يكون أَحلَّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم ويكون مُحِلًّا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانًا على ما جاءت به الأخبار عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندنا كذلك لأن الأخبار عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قد تظاهرت بأن ذلك كائن) اهـ بتصرف.
    وقال ابن عطية: (وقالت فرقة منها عبد اللَّه بن مسعود وأبو العالية وإبراهيم النخعي هو الدخان الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبع كسبع يوسف ... حتى قال: وما يأتي من الآيات يقوي هذا التأويل) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (فالمراد بالناس من قوله: (يَغْشَى النَّاسَ) هم المشركون كما هو الغالب في إطلاق لفظ الناس في القرآن، وأنه يكشف زمنًا قليلاً عنهم عذارا لهم لعلهم يؤمنون وأنهم يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا عليه، وأن الله يعيده عليهم كما يؤذن بذلك قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) وكل ذلك يؤذن بأن العذاب بالدخان يقع في الدنيا وأنه مستقبل قريب، وإذ قد كانت الآية مكية تعين أن هذا الدخان الذي هو عذاب للمشركين لا يصيب المؤمنين لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )، فتعين أن المؤمنين يوم هذا الدخان غير قاطنين بدار الشرك، فهذا الدخان قد حصل بعد الهجرة لا محالة، وتعين أنه قد حصل قبل أن يسلم المشركون الذين بمكة وما حولها فيتعين أنه حصل قبل فتح مكة أو يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال.
    والأصح أن هذا الدخان عُني به ما أصاب المشركين من سني القحط بمكة بعد هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، والأصح في ذلك حديث عبد اللَّه بن مسعود في صحيح البخاري ثم ساق الحديث حتى قال: وعلى هذه الرواية يكون قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) تمثيلاً لهيئة ما يراه الجائعون من شبه الغشاوة على أبصارهم حين ينظرون في الجو بهيئة الدخان النازل من الأفق) اهـ بتصرف.
    ومنهم من اختار أن الدخان لم يأتِ بعد وأنه من الآيات المنتظرة كابن كثير والسعدي.
    قال ابن كثير: (قال ابن جرير: ثم ساق الإسناد إلى عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذات يوم فقال ما نمتُ الليلة حتى أصبحت قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمتُ حتى أصبحت) وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن. قال الله تبارك وتعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) أي بيّن واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتغشاهم ويعميهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يَغْشَى النَّاسَ) وقوله تعالى: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وكذا قوله جل وعلا: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)، وهكذا قال جل وعلا هاهنا: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) وهذا كقوله جلت عظمته: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52).
    وقوله تعالى: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) يحتمل معنيين أحدهما أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، وكقوله جلت عظمته: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28).
    والثاني: أن يكون المراد إنا مؤخروا العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ)، ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم، بل كان قد انعقد سببه عليهم) اهـ بتصرف.
    وقال السعدي: (واختلف المفسرون بهذا الدخان فقيل إنه الدخان، الذي يغشى الناس ويعمهم، حين تقرب النار من المجرمين في يوم القيامة، وأن الله توعدهم بعذاب يوم القيامة وأمر نبيه أن ينتظر بهم ذلك اليوم. ويؤيد هذا المعنى أن هذه الطريقة هي طريقة القرآن في توعد الكفار والتأني بهم، وترهيبهم بذلك اليوم وعذابه، وتسلية الرسول والمؤمنين بالانتظار بمن آذاهم.
    ويؤيده أيضاً أنه قال في هذه الآية: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) وهذا يقال يوم القيامة للكفار حين يطلبون الرجوع إلى الدنيا فيقال قد ذهب وقت الرجوع. وهذا يتناول قوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) فهذا كله يوم القيامة.
    وأن قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أن هذا ما وقع لقريش.
    وإذا نزلت هذه الآيات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك بل تجدها مطابقةً لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح والله أعلم) اهـ بتصرف.
    وقال عن حديث ابن مسعود: (وفي هذا القول نظر ظاهر).
    ولما ذكر القول بأن الدخان من أشراط الساعة وأنه يكون في آخر الزمان قال: (والقول هو الأول) اهـ.
    ومن المفسرين من ذكر الأحاديث في هذا الشأن لكن لم يذكر قوله فيها أو اختياره كالبغوي والقرطبي.
    وقال أبو العباس القرطبي متعقباً قول ابن مسعود: (لا شك في أن تسمية هذا دخاناً تجوز، وحقيقة الدخان، ما ذكر في حديث أبي سعيد، والذي حمل عبد اللَّه بن مسعود على هذا الإنكار قوله: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) وقوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) ولذلك قال أفيكشف عذاب الآخرة؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل، لأن حديث أبي سعيد إنما دلّ على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت فلا معارضة بين الآية والحديث) اهـ بتصرف يسير.
    أما الحافظ ابن حجر فإنه لما ذكر بعض الآثار عن الصحابة والتابعين في عدم حصول آية الدخان وفي أسانيد بعضها ضعف قال: (لكن تضافر هذه الأحاديث يدل على أن لذلك أصلاً) اهـ.
    وإذا أردنا أن نختصر حجج الفريقين فإننا نقول إن الذين احتجوا بحديث ابن مسعود استدلوا بدليلين: الأول: أن الله قال في سياق الآيات: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) وعذاب الآخرة لا يكشف.
    الثاني: أن سياق الآيات في مخاطبة المشركين لقوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)،
    وأما الذين ذهبوا إلى أن الدخان من الآيات المنتظرة فاستدلوا بما يلي:
    أولاً: أن هذا اختيار أكثر الصحابة والتابعين.
    ثانياً: أن الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان تدل على أن الدخان منتظر.
    ثالثاً: أن هذا هو ظاهر القرآن لقوله (بِدُخَانٍ مُبِينٍ).
    وسأناقش الأقوال مستعيناً باللَّه تعالى فأقول:
    أولاً: أن هذا العذاب لو كان في الآخرة فإنه لا يكشف فدل على أنه في الدنيا، وهذا صحيح أن عذاب الآخرة لا يكشف لكن من قال إن الدخان في الآخرة؟ النصوص تدل على خلاف هذا وستأتي إن شاء اللَّه.
    وبناء على ما تقدم فالخطأ في النتيجة مبني على الخطأ في المقدمة.
    ثانياً: أن سياق الآيات في مخاطبة المشركين وهذا حق لا إشكال فيه ولا يلزم من كون الآيات في سياق مخاطبتهم أن يفسر الدخان بما ذكره ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل غاية ما في الأمر أن الآيات تخاطبهم وتهددهم بعذاب الله سواءً أكان في الدنيا أو في الآخرة أو فيما بين ذلك، أما تحديد زمنه فلا يستفاد من مجرد السياق بل تحدده دلائل وقرائن أخر.
    أما من ذهب إلى أن الدخان منتظر فاستدلوا بما يلي:
    أولاً: أن هذا اختيار أكثر الصحابة والتابعين وهذا صحيح فقد ذهب إلى هذا علي بن أبي طالب، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة، وحذيفة بن اليمان، وأبو مالك الأشعري، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وزيد بن علي، والحسن، وابن أبي مُليكة وغيرهم، والكثرة قرينة على الصواب، كيف لا وبينهم عدد من كبار الصحابة.
    ثانياً: أن الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان تدل على أن الدخان منتظر وهذا أيضاً حق فمن ذلك:
    أولاً: عن حذيفة بن أَسيد الغفاري قال: اطلع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا ونحن نتذاكر. فقال: (ما تذاكرون)؟ قالوا: نذكر الساعة قال: (إنها لن تقوم حتى ترونَ قبلها عشر آيات) فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.
    ثانياً: عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بادروا بالأعمال ستاً: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصةَ أحدكم).
    ثالثاً: عن أبي مالك الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال).
    رابعاً: عن عبد اللَّه بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذات يوم فقال: ما نمتُ الليلة حتى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمتُ حتى أصبحت.
    ثالثاً: أن هذا هو ظاهر القرآن لأن اللَّه وصف الدخان بأنه مبين، وعلى قول ابن مسعود إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وفرق بين البيِّن الواضح، والخيال.
    فإن قيل: ما الجواب عن قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ)؟
    فالجواب: أن ابن كثير أجاب بجوابين:
    الأول: (أننا لو كشفنا العذاب لعدتم لما كنتم فيه من الكفر) وهذا مدفوع بأن اللَّه أخبر أنه سيكشف العذاب ثم يعودون، ومقتضى قوله: أن الله لن يكشفه عنهم لأنه لو كشفه عادوا.
    الثاني: (أننا مؤخرو العذاب قليلاً بعد انعقاد أسبابه) وهذا مدفوع بأن اللَّه أخبر عن مجيء العذاب وأنه يغشى الناس حتى يقال هذا عذاب أليم، ومقتضى قول ابن كثير أن العذاب يرجأُ وإن انعقدت أسبابه.
    أما جواب السعدي عن هذه الآية فهي أنها في قريش خاصة بينما المراد بقوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) إنما هو يوم القيامة فهذا قول بعيد لا يسعفه سياق القرآن؛ لأن المراد بقوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا) هو الدخان المبين؛ لأن اللَّه وصفه بقوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فإذا كان المراد بالعذاب في الآيتين هو الدخان فكيف تكون الأولى يوم القيامة، والثانية في قريش؟
    فإن قال قائل: ما الصواب إذن في معنى الآية؟
    فالجواب: أن جملة الآيات يدور حديثها على علامة من علامات الساعة الكبرى التي تسبقها وهو الدخان الذي دلت على مجيئه أحاديث صحيحة لا مطعن فيها. ففي حديث حذيفة الغفاري عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: (إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر منها الدخان) وهذا نص في أن الدخان يسبق يوم القيامة.
    أما قوله: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ) فقد قال أبو العباس القرطبي - رحمه الله -: (فيجوز انكشاف الدخان كما تنكشف فتن الدجال، ويأجوج وما جوج). اهـ.
    وأما قوله: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فيوم البطشة هو يوم القيامة الذي يتبع الدخان وسائر الآيات الكبرى، وهذا هو قول ابن عبَّاسٍ والحسن البصري وعكرمة.
    فعن عكرمة قال: قال ابن عبَّاسٍ: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة.
    وإذا فسرت الآيات على هذا النحو خلت من التعارض والاضطراب وسلمت من التكلف وحصل من ذلك تفسير القرآن بالسنة والنظر الصحيح.
    وبما تقدم يتبين أن التصريح بنزول الآية لا يتفق مع التفسير الذي اخترناه لأن المختار أن الجميع يتحدث عن آية الدخان التي تسبق الساعة، والنزول على تفسير ابن مسعود إنما يتناول القحط الذي أصاب قريشاً مع غزوة بدر.
    وإذا كان الراجح في تفسير الآية يمنع القول بسبب النزول، فكذلك دراسة الإسناد قد تبين من خلالها أن التصريح بالنزول شاذ غير محفوظ، وتفصيله بيِّن في موضعه.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآيات الكريمة لأن التصريح بنزول الآية غير محفوظ، بل هو شاذ كما أن سياق الآيات يدل على تأخر الدخان، وعلى هذا أكثر المفسرين والله أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #130
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الفتح

    من صــ 883 الى صـ 897
    (الحلقة 129)

    سورة الأحقاف
    156 - قال اللَّه تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج أحمد عن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: انطلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً يشهدون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللَّه يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه)، قال: فأُسكتوا ما جاوبه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد، ثم ثلث فلم يجبه أحد فقال: (أبيتم فوالله إني لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا النبي المصطفى آمنتم أو كذبتم) ثم انصرف وأنا معه حتى إذا كدنا أن نخرج نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد. قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمون فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك. قال: فإني أشهد له باللَّه أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة.
    قالوا: كذبت ثم ردوا عليه قوله، وقالوا فيه شراً، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
    (كذبتم لن يقبل قولكم، أما آنفاً فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذبتموه وقلتم فيه ما قلتم فلن يقبل قولكم). قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا وعبد الله بن سلام، وأنزل الله - عزَّ وجلَّ - فيه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10).
    2 - أخرج الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أُريد عثمان جاء عبد الله بن سلام، فقال له عثمان: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك، قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارج خير لي منك داخل، فخرج عبد الله إلى الناس فقال: أيها الناس، إنه كان اسمي في الجاهلية فلاناً، فسماني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله ونزلت فيَّ آيات من كتاب الله، نزلت فيَّ: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ونزلت في: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)، إن لِلَّهِ سيفاً مغموداً عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فاللَّه اللَّه في هذا الرجل أن تقتلوه، فواللَّه إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة ولتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قال: فقالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان.
    3 - أخرج البخاري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ما سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللَّه بن سلام. قال: وفيه نزلت هذه الآية: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ) قال: لا أدري، قال مالك: الآية أو في الحديث.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد تباينت أقوال المفسرين واختياراتهم.
    فأما حديث عوف بن مالك فقد ذكره الطبري.
    وأما حديث ابن أخي ابن سلام فقد ذكره القرطبي وابن عاشور.
    وأما حديث سعد بن أبى وقاص فقد ذكره الطبري والبغوي وابن كثير وابن عاشور.
    وفي الجملة فإن كثيراً من المفسرين يذكرون أن الآية في عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسأذكر أقوال المفسرين وأدلتهم.
    الأول: أن الشاهد عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلى هذا فالآية مدنية في سورة مكية وحجتهم ما يلي:
    أ - أن عوف بن مالك الذي روى الحديث صرح في القصة بنزول الآية فيه.
    ب - أن الأخبار وردت عن جماعة من الصحابة أنه ابن سلام وعلى هذا جمهور أهل التأويل وهم أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أُرلد به.
    الثاني: أن الشاهد غير معين بل هو اسم جنس يتناول أيَّ شاهد فقد يكون عبد اللَّه بن سلام، وقد يكون رجلاً من بني إسرائيل كان بمكة، وقد يكون الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء قبله بشرت به، وأخبرت بمثل ما أخبر القرآن به.
    والحجة في ذلك:
    أ - أن الآية مكية، وإسلام ابن سلام كان بعد الهجرة إلى المدينة.
    ب - أن سياق الآيات خطاباً وتوبيخاً موجه إلى مشركي قريش، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود ذكر قبل ذلك.
    الثالث: يجوز أن يكون هذا إخباراً من الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما سيقع من إيمان عبد الله بن سلام فيكون هو المراد بالشاهد وإن كانت الآية مكية فقد تضمنت غيباً أبرزه الوجود.
    والظاهر - والله أعلم - أن الآية لم تنزل بسبب عبد الله بن سلام لما يلي:
    1 - أن الآية مكية نزلت قبل أن يسلم ابن سلام بزمن فكيف تنزل فيه وهو لا يعرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يعرفه بعد بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة وأقبل إليه ابن سلام التمس من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسأل اليهود عنه، ولو كان يعرفه قبل ذلك لما سأله ذلك.
    2 - أنه قد تقدم في السبب رقم (1) قصة عبد الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نزول قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) والقصة هناك شبيهة بالقصة هنا ولم يذكر فيها نزول هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
    3 - أن سياق الآيات قبل الآية وبعدها في المشركين، ولم يرد ذكر اليهود أو أهل الكتاب في قليل أو كثير من هذه السورة باستثناء الآية التي معنا وفيها ذكر بني إسرائيل.
    وأما حجة من ذهب إلى أنها في ابن سلام نزلت واستدلوا بالتصريح بنزول الآية فيمكن أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استدل بالآية لما سمع مقالة اليهود؛ لأن ابن سلام من بني إسرائيل، والآية بعمومها تتناوله فظن عوف بن مالك أنها نزلت فيه.
    أما أن هذا قول الصحابة والتابعين وعليه جمهور أهل التأويل أنه ابن سلام فيقال نعم. ابن سلام من بني إسرائيل وشهد على مثله، لكن هل هذا يعني أنها نزلت فيه؟
    الجواب: لا وقولهم فيه من باب التفسير فقط وهو حق فإن العموم يشمله.
    وأما من قال من العلماء: إن هذا إخبار من اللَّه بما سيقع من إيمان عبد اللَّه بن سلام فهذا غريب، إذ كيف يقول اللَّه: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وهو لم يشهد بعد؟
    ثم كيف يحتج اللَّه على المشركين بأمر لم يقع؟ بل هل انقضت الحجج والدلائل فلم يبق إلا هذا؟
    فإن قيل: قد قلت ما قلت فمن هو الشاهد إذن؟
    فالجواب: أن الشاهد هنا العلماء المتقدمون من بني إسرائيل فإن عندهم من الدلائل والبراهين من الكتب المتقدمة ما يعرفون به صدقه وصدق ما جاء به قال اللَّه تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197).
    قال السعدي: (أولم يكن لهم آيةً على صحته وأنه من اللَّه أن يعلمه علماء بني إسرائيل الذين قد انتهى إليهم العلم، وصاروا أعلم الناس، وهم أهل الصنف فإن كل شيء يحصل به اشتباه يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية فيكون قولهم حجةً على غيرهم كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر صدق معجزة موسى وأنه ليس بسحر فقول الجاهلين بعد هذا لا يؤبه به) اهـ.
    وقال الله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).
    قال ابن كثير: (والصحيح في هذا أن (وَمَنْ عِنْدَهُ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) اهـ محل الشاهد.
    فهل يقال هنا إن آيتي الرعد والشعراء قد نزلتا في المدينة أيضاً؟ وهل المراد فيهما ابن سلام؟
    الجواب: لا إنما نزلتا في مكة لا في المدينة، وليس المراد منهما ابن سلام.
    وحينئذٍ يقال: لماذا لا يكون المقصود بالشاهد هنا العلماء من أهل الكتاب المذكورين في الآيتين السابقتين وغيرهما إذ لا فرق لأنهم شهود من بني إسرائيل.
    وصدق الله القائل: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).
    وبيان ذلك: أن الله قال بعد الآية التي معنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً).
    وقال في سورة هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).
    وإن الناظر في الآيتين ليتحقق له حديثهما عن القرآن والشاهد وكتاب موسى الذي جعله إماماً ورحمةً.
    قال - شيخ الإسلام - ابن تيمية عن الشاهد في آية هود هو القرآن.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لأن الآية مكية والقصة مدنية، والآية تخاطب المشركين، وقصة ابن سلام مع اليهود من الكتابيين. واللَّه أعلم.
    * * * *
    سورة الفتح
    157 - قال اللَّه تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَا تِ وَالْمُشْرِكِين َ وَالْمُشْرِكَات ِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُون َ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِين َ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُم ْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري ومسلم والنَّسَائِي عن سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، فإنا كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا، أنرجع ولما يحكم اللَّه بيننا وبينهم؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني اللَّه أبداً) فانطلق عمر إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم).
    2 - أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما انصرف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحديبية نزلت هذه الآية: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) قال المسلمون: يا رسول اللَّه هنيئاً لك ما أعطاك اللَّه فما لنا فنزلت: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5).
    3 - أخرج البخاري والترمذي عن زيد بن أسلم عن أببه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر، نزرت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث مرات، كُلَّ ذلك لا يجيبك، قال عمر: فحركتُ بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيتُ أن ينزل فيَّ القرآن فما نشبتُ أن سمعتُ صارخًا يصرخ بي، فقلت: لقد خشيتُ أن يكون نزل فيَّ قرآن، فجئت رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلمتُ عليه، فقال: (لقد أُنزلت عليَّ الليلة سورةٌ لهي أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه السورة. وقد ذكر المفسرون هذه الأحاديث عند تفسيرها على اختلاف بينهم في إيرادها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال ابن عطية: (هذه السورة نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منصرفه من الحديبية وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس وابن مسعود وغيرهما تقتضي صحته) اهـ.
    وقال القرطبي: (نزلت ليلاً بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها) اهـ.
    وقال ابن كثير: (نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام) اهـ.
    وهذا الذي ذكره المفسرون يوافق ما جاء في حديثي سهل بن حنيف، وزيد بن أسلم عن أبيه.
    فقد جاء في حديث سهل: (فنزلت سورة الفتح فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمر إلى آخرها).
    وجاء في حديث زيد بن أسلم عن أبيه: (فقال: لقد أُنزلت عليَّ الليلةَ سورةٌ هي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) فالحديثان يتحدثان عن سورة كاملة وليس عن آية فقط.
    أما حديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وفيه: أن المسلمين قالوا: هنيئًا لك ما أعطاك اللَّه فما لنا فنزلت: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ... ) الآية. فهذا مرجوح لوجهين:
    الأول: من جهة الإسناد فقد جاء في لفظ البخاري عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا). قال: الحديبية، قال أصحابه: هنيئًا مريئًا فما لنا؟ فأنزل الله: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) قال شعبة: فقدمت الكوفة، فحدثت بهذا كلِّه عن قتادة، ثم رجعتُ فذكرتُ له فقال: أما: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) فعن أنس، وأما هنيئًا مريئًا فعن عكرمة.
    وقد فصّل شعبة القول في هذا فقال: (كان قتادة يذكر هذا الحديث في قصصه عن أنس بن مالك قال: نزلت هذه الآية لما رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحديبية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) ثم يقول: قال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنيئًا لك ... هذا الحديث. قال: فظننت أنه كله عن أنس، فأتيت الكوفة، فحدثت عن قتادة عن أنس ثم رجعتُ فلقيت قتادة بواسط، فإذا هو يقول: أوّله عن أنس، وآخره عن عكرمة. قال: فأتيتهم بالكوفة فأخبرتهم بذلك) اهـ.
    وإذا كان الأمر كذلك وأن قوله: هنيئًا مريئاً وما بعده عن عكرمة، فلا ريب أن المقدم قول الصحابة في نزولها جميعاً.
    الثاني: من حيث النظر فقد قال الشنقيطي: (أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: (لِيُدْخِلَ) متعلقه بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ). وإيضاح المعنى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي السكون والطمأنينة إلى الحق في قلوب المؤمنين ليزدادوا بذلك إيمانًا لأجل أن يدخلهم بالطمانينة إلى الحق وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار) اهـ.
    وإذا كان إنزال السكينة علةً لزيادة الإيمان ودخول الجنات، فكيف ساغ الفصل بين الإنزال وعلته حسبما تدل عليه رواية عكرمة؟.
    * النتيجة:
    أن سورة الفتح بكمالها نزلت على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرجعه من الحديبية، وكان موضوعها على تلك القضية يدور بما فيها من قصص وأحداث متفرقة وذلك لصحة أسانيد الأحاديث في ذلك، وصراحة ألفاظها، واتفاق المفسرين عليها واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #131
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الفتح

    من صــ 898 الى صـ 906
    (الحلقة 130)


    158 - قال الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال جابر: بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن لا نفِرَّ ولم نبايعه على الموت.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن بيعه الرضوان ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: لقد رضي اللَّه يا محمد عن المؤمنين (إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني بيعة أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسول اللَّه بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب وعلى أن لا يفروا ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أرسل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برسالته إلى الملأ من قريش. فأبطأ عليه عثمان بعض الإبطاء، فظن أنه قد قتل فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم فبايعوه على ذلك وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان). اهـ. بتصرف.
    قال السعدي: (يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين إذا يبايعون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك المبايعة التي بيضت وجوههم واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عثمان ابن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتله المشركون.
    فجمع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين وأن لا يفروا حتى يموتوا.
    فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات) اهـ بتصرف وعندي - واللَّه أعلم - أن كلام جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحتمل السببية والتفسير فمن نظر إلى أن الآية إنما نزلت بسبب البيعة لأن هذا الرضا رتب عليها قال المراد بها السببية.
    ومن نظر إلى أن حديث جابر خلا من التصريح بنزول الآية قال المراد به التفسير وليس ذكر النزول.
    وأيًّا كان مراد جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن من الثابت أن البيعة سبب النزول وإن لم يَدُلَّ حديث جابر على هذا فقد دلت عليه أدلة أخر واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن سبب نزول الآية الكريمة بيعة الرضوان التي كانت تحت الشجرة وإن كان الحديث الذي معنا لا يحتج به على تلك النتيجة لضعف سنده، وإعراض المفسرين عنه، مع عدم تصريح جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بنزول الآية واللَّه أعلم.
    * * * * *

    159 - قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن أربع عشرةَ مائة، وعليها خمسون شاةً لا تُرويها. قال: فقعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جبا الرَّكيَّة فإما دعا وإما بسق فيها، قال: فجاشت. فسقينا واستقينا. قال: ثم إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعانا للبيعة في أصل الشجرة. قال: فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع. حتى إذا كان في وسط من الناس قال: (بايع يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول اللَّه في أول الناس - قال: (وأيضاً) قال: ورآني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَزلاً - يعني ليس معه سلاح -. قال: فأعطاني رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَفَةً أو درَقَةً ثم بايع. حتى إذا كان في آخر الناس قال: (ألا تبايعني يا سلمة) قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: (وأيضاً) قال: فبايعته الثالثة. ثم قال لي: (يا سلمة أين حَجَفَتُك أو درَقَتُك التي أعطيتك؟) قال: قلت: يا رسول اللَّه لقيني عمي عامر عَزِلاً فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: (إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيباً هو أحب إليَّ من نفسي) ثم إن المشركين راسلونا الصلح، حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا. قال: وكنت تبيعًا لطلحة بن عبيد الله أَسقي فرسه وأحُسُّهُ وأخدمه. وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها. فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى وعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مُنادٍ من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قُتل ابن زُنَيم. قال: فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذتُ سلاحهم فجعلته ضِغثًا في يدي. قال: ثم قال: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربتُ الذي فيه عيناه. قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وجاء عمي عامر برجل من العَبَلَاتِ يُقال له مكرزٌ يقوده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فرسٍ مُجَفَّفٍ في سبعين من المشركين. فنظر إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (دعوهم يكن لهم بدءُ الفجور وثناه) فعفا عنهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل الله: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ... ).
    2 - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جبل التنعيم متسلحين. يريدون غِرةَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه: فأخذهم سِلْماً. فاستحياهم فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ).
    3 - أخرج البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان في قصة الحديبية قالا: خرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق فذكرا الحديث ... إلى أن قالا: وينفلت منهم أبو جندلِ بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعيرٍ خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناشده باللَّه والرحم: لمَّا أَرسل: - فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) - حتى بلغ - (الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم. وحالوا بينهم وبين البيت.
    4 - أخرج أحمد والنَّسَائِي عن عبد الله بن مغفل المزني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله، وكأني بغصن من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرفعته عن ظهره، وعلي بن أبي طالب، وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكتب (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) فأخذ سهيل يده فقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: (اكتب باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه أهلَ مكة) فأمسك بيده، فقال: لقد ظلمناك إن كنت رسولاً، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: (اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله) قال: فكتب، فبينما نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أماناً) فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) إلى قوله: (بَصِيرًا).

    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:

    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد جاء في نزولها أربعة أحاديث ثلاثة منها اتفق النزول فيها على قصة الحديبية. أما الرابع وهو حديث المسور بن مخرمة ومروان فالنزول فيه إنما هو في قصة أبي جندل وأبي بصير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولعل هذا هو سبب إعراض المفسرين عنه فلم يذكر هذا الحديث إلا البغوي.
    أما الأحاديث الثلاثة الأخرى فقد ذكرها جمهور المفسرين على تفاوت بينهم في إيراد بعضها أو جميعها ومن هؤلاء الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذين بايعوا بيعة الرضوان (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) يعني أن الله كف أيدي المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية يلتمسون غِرتهم ليصيبوا منهم فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأُتي بهم أسرى فخلى عنهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنَّ عليهم ولم يقتلهم) اهـ.
    وقال السعدي: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) أي أهل مكة (عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي: من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم بلا عقد ولا عهد، وهم نحو ثمانين رجلاً، انحدروا على المسلمين ليصيبوا منهم غِرة فوجدوا المسلمين منتبهين فأمسكوهم فتركوهم ولم يقتلوهم رحمة من الله بالمؤمنين إذ لم يقتلوهم) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (اتفق المفسرون الأولون على أن هذا الكف وقع في الحديبية). اهـ. وأما الجواب عن حديث المسور بن مخرمة ومروان في نزول الآية في قصة أبي جندل وأبي بصير فقد قال ابن حجر مجيباً عن هذا الإشكال: (قوله: فأنزل الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) كذا هنا، وظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ومن حديث أنس بن مالك أيضاً، وأخرجه أحمد والنَّسَائِي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذي أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غِرة فظفروا بهم، فعفا عنهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت الآية) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الأحاديث المذكورة معنا باستثناء حديث المسور ومروان سبب نزول الآية الكريمة لصحة أسانيدها وصراحة ألفاظها وموافقتها لسياق القرآن واحتجاج المفسرين بها.
    أما حديث المسور ومروان فلئن كان سنده صحيحاً ولفظه صريحاً فإنه لا يوافق سياق القرآن ولم يحتفِ به المفسرون واللَّه أعلم.
    * * * * *




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #132
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الفتح

    من صــ 907 الى صـ 916
    (الحلقة 131)


    * تنبيه:
    قد تقدم عند دراسة السبب رقم (157) أن السورة نزلت بكمالها، وفي السبب رقم (158، 159) نزول بعض المقاطع، وليس بينهما تعارض فالأمر لا يخلو من حالين:
    الأولى: أن تكون السورة بكمالها نزلت بعد قوله - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة، وهذا لا يمنع السببية، فقد تأخر نزول براءة أم المؤمنين شهرًا، ومع هذا لم يمنع السببية، فكيف إذا كان التأخر لا يُجاوز أياماً؟
    الثانية: أن هذين المقطعين نزلا في وقت الحادثتين، ثم ضم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقاطع إلى بعضها، فظن بعض الصحابة أنها الآن نزلت بكمالها. وأيًّا كان الأمر فهذا لا يمنع السببية. واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة الحجرات
    160 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر، لما قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد بني تميم أشار أحدهما بالأقرع بن حابس الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أَردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) إلى قوله: (عَظِيمٌ).
    قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزبير: فكان عمر بعدُ - ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني - أبا بكر - إذا حدث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحديث، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه.
    وفي لفظ للبخاري: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا) حتى انقضت.
    ولفظ النَّسَائِي أن الآية نزلت إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث في سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
    قال ابن كثير: (وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي - ى - فوق صوته، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد بني تميم ... فذكر الحديث بتمامه. ثم قال:
    وهذه الآية الكريمة عَلَّمَ الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض) اهـ. محل الشاهد.
    قال ابن عاشور: (وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير ... فذكر الحديث) اهـ.
    وهذا القدر الذي ذكره المفسرون في قصة الشيخين يوافق سياق القرآن من أول السورة إلى قوله: (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
    أما لفظ النَّسَائِي أنها نزلت إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) فهذا لا صلة له بقصة الشيخين - رضي الله عنه - وإنما صلته بالذين ينادون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات كما ذكر ذلك المفسرون؛ لأن الله وصفهم بأنهم لا يعقلون وهذا لا يناسب حال الشيخين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا هو سبب نزول هذه الآيات الكريمة لصحة سنده وصراحة لفظه، وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
    * * * * *

    161 - قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) قال: قام رجل فقال: يا رسول الله إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ذاك الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين الحديث بنصه كالطبري والقرطبي وابن كثير.
    وبعضهم ذكر أحاديث مشابهة كالبغوي وابن عطية وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاؤوا ينادون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا) اهـ.
    قال ابن كثير: (وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما أورده غير واحد) اهـ.
    قال ابن عطية: (نزلت في وفد بني تميم حيث كان الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم وغيرهم وذلك أنهم وفدوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدخلوا المسجد ودنوا من حجر أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تسعة فنادوا بجملتهم ولم ينتظروا: يا محمد اخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (والمراد بالذين ينادون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاؤوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلاً أو أكثر) اهـ.
    قال السعدي: (نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب الذين وصفهم اللَّه بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجدوه في بيته وحجرات نسائه فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج بل نادوه: يا محمد يا محمد. أي اخرج إلينا،فذمهم الله بعدم العقل حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا وإن كان إسناده لا يخلو من مقال فإن سياق القرآن، وإجماع المفسرين يعضد القول بأنه سبب نزول الآيتين الكريمتين واللَّه أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #133
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الحجرات

    من صــ 917 الى صـ 927
    (الحلقة 132)


    162 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الإمام أحمد عن عيسى ابن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن أبي ضرارٍ الخزاعي، قال: قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعاني إلى الإسلام، فدخلتُ فيه وأقررتُ به، فدعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول اللَّه أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعتُ زكاته فيُرسل إليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولاً لإبّان كذا وكذا ليأتيك ما جمعتُ من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول، فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان وقّت لي وقتًا يُرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطةٍ كانت فانطلقوا فنأتي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: يا رسول اللَّه إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي.
    فضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث. فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (منعت الزكاة وأردت قتل رسولي) قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيتُه ولا أتاني، وما أقبلتُ إلا حين احتبس عليَّ رسولُ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خشيت أن تكون كانت سخطةً من الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) إلى هذا المكان (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد أورد ابن كثير الحديث بنصه
    وسائر المفسرين ذكروا أحاديث أخرى مشابهة في قصة الوليد بن عقبة بن أبي معيط منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي والشنقيطي وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط) اهـ.
    قال ابن عطية: (سببها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدقًا) اهـ.
    قال ابن كثير: (وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صدقات بني المصطلق) اهـ.
    وقال الشنقيطي: (نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد أرسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتيهم بصدقات أموالهم. فلما سمعوا به تلقوه فرحاً به، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله فرجع إلى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله، فقدم وفد منهم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بكذب الوليد فأنزل الله هذه الآية). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عبَّاسٍ والحارث بن ضرار الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت وذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة). اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور وإن كان في إسناده مقال، إلا أن شهرته فاقت إسناده واحتج به المفسرون أجمع ولفظه يوافق سياق القرآن، فلعل الحديث لهذه الأسباب يكون سبب نزولها والله أعلم.
    * * * * *

    163 - قال الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو أتيتَ عبد اللَّه بن أُبي، فانطلق إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركب حمارًا، فانطلق المسلمون يمشون معه، وهي أرض سَبَخَة فلما أتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتْنُ حمارك فقال رجل من الأنصار منهم: واللَّه لحمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كما ذكروا معه غيره منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه مما سأذكره إن شاء اللَّه تعالى). اهـ. ثم ذكر الروايات.
    أما ابن العربي فقد ذكر بعض الأسباب ثم جعل آخرها حديث أسامة بن زيد بدل حديث أنس بن مالك ثم قال: (أصح الروايات الأخيرة والآية تقتضي جميع ما روى لعمومها، وما لم يرو، فلا يصح تخصيصها ببعض الأحوال دون بعض). اهـ.
    وقال ابن عطية: (اختلف الناس في سبب هذه الآية فقال أنس بن مالك والجمهور سببها ما وقع بين المسلمين والمتحزبين منهم مع عبد اللَّه بن أبي ابن سلول حين مر به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فقال عبد الله بن أبي لما غشيه حمار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تغبروا علينا ولقد آذانا نتن حمارك فرد عليه عبد الله بن رواحة). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وفي الصحيحين عن أنس بن مالك فذكر الحديث حتى قال: وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة.
    ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة، وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: (فبلغنا أنها نزلت فيهم) اللهم إلا أن تكون هذه الآية أُلحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة) اهـ.
    وسأذكر حديث أسامة ليتبين الأمر:
    عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب على حمار على قطيفةٍ فَدَكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر. قال: حتى مر بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خَمَّر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه،وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول اللَّه، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمنتركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخفضهم حتى سكنوا ... الحديث وليس فيه نزول الآية) اهـ ..
    قال ابن حجر في شرح حديث أنس (فقال رجل من الأنصار): (زعم بعض الشراح أنه عبد الله بن رواحة فتتبعت ذلك فوجدت حديث أسامة بن زيد بنحو قصة أنس، وفيه أنه وقعت بين عبد الله بن رواحة وبين عبد الله بن أبي مراجعة، لكنها في غير ما يتعلق بالذي ذكر هنا، فإن كانت القصة متحدة احتمل ذلك، لكن سياقها ظاهر في المغايرة؛ لأن في حديث أسامة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد عيادة سعد بن عبادة فمر بعبد الله بن أبي، وفي حديث أنس - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعي إلى إتيان عبد الله بن أبي، ويحتمل اتحادهما بأن الباعث على توجهه العيادة -، فاتفق مروره بعبد الله بن أبي فقيل له حينئذٍ لو أتيته فأتاه، ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة: (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه. ثم ذكر كلامًا حتى قال: وقد استشكل ابن بطال نزول الآية المذكورة وهي قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) في هذه القصة، لأن المخاصمة وقعت بين من كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أصحابه، وبين أصحاب عبد الله بن أبي، وكانوا إذ ذاك كفارًا فكيف ينزل فيهم (طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ولا سيما إن كانت قصة أنس وأسامة متحدة، فإن رواية أسامة فاستب المسلمون والمشركون.
    قلت: يمكن أن يحمل على التغليب، مع أن فيها إشكالاً من جهة أخرى، وهي أن حديث أسامة صريح في أن ذلك كان قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي وأصحابه والآية المذكورة في الحجرات، ونزولها متأخر جدًا وقت مجيء الوفود، لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاح نزلت قديمًا فيندفع الإشكال) اهـ، بتصرف.
    وأقول: إن الناظر في كلام ابن العربي وابن عطية يجد أنهما لا يفرقان بين حديث أنس وأسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لأن ابن العربي جعل حديث أسامة الذي خلا من ذكر النزول بدل حديث أنس الذي تضمن النزول، وذكر أنه أصح الروايات في سبب نزولها.
    وابن عطية جمع في سياق حديثه بين اللفظين مع ما بينهما من الاختلاف.
    وما ذهبا إليه من اتحاد الحديثين، مؤيد بقول ابن حجر: (ويدل على اتحادهما أن في حديث أسامة: (فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أبي أنفة بردائه)) وعندي - واللَّه أعلم - أن الحديثين حكاية عن قصة واحدة؛ لأن ما يجمع بين الحديثين أكثر مما يفرق بينهما.
    وإذا كان الأمر كذلك فإن ذكر النزول يعكر عليه أمور:
    أولاً: ما ذكره ابن بطال من أن أصحاب ابن أبي كانوا كفارًا فكيف ينزل فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).
    ثانياً: أن القصة كانت قبل وقعة بدر، وقبل أن يسلم عبد اللَّه بن أبي وأصحابه، وآية الحجرات تأخر نزولها إلى وقت مجيء الوفود.
    ثالثاً: ما ذكره ابن عاشور من أن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: (فبلغنا أنها نزلت فيهم).
    رابعاً: أن سياق أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للقصة خلا من ذكر النزول، مع أنه كان شاهداً للقصة لأنه كان رديف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحمار. ولو نزل شيء لكان أعلم الناس به أسامة.
    خامساً: عدم الموافقة بين سياق القصة وسياق القرآن من وجوه:
    1 - أن الآية تتحدث عن طائفتين مؤمنتين، وإحدى الطائفتين في القصة ليست كذلك.
    ب - قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) لا يُعرف أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصلح بين طائفة مؤمنة، وأخرى مشركة.
    جـ - قوله: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل الباغية هنا وهي فئة ابن أبي وأعوانه من اليهود بل صفح وغفر لما أشار عليه سعد بن عبادة كما في حديث أسامة.
    د - وقوله: (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أنّى لهؤلاء المشركين ابتداءً، المنافقين انتهاء، أن يفيؤا إلى أمر الله، وقد ظلوا في الكفر وماتوا عليه.
    هـ - ثم قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)، وإذا كان المؤمنون إخوةً فيما بينهم فليسوا للكافرين من المنافقين والمشركين إخوة. واللَّه أعلم.
    وبهذا يتبين أن الحديث الذي معنا ليس سبب نزول الآية الكريمة لما تقدم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية لمخالفته سياق القرآن من عدة وجوه، ولأن لفظ أسامة قد خلا من ذكر النزول، وسياق أنس لنفس القصة لم يجزم بالنزول، على أن الآية من آخر القرآن نزولاً، والقصة في أوائل الهجرة وقوعًا والله أعلم.

    * * * * *
    164 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سَلَمةَ (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) قال: قدم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دُعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه إنه يغضب من هذا قال فنزلت: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث عند نزولها كالطبري وابن العربي والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبزَ بها الملقَّبُ، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضًا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية) اهـ.
    وقال ابن كثير: (قوله: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخصَ سماعُها) اهـ.
    أما البغوي وابن عطية وابن عاشور فقد ذكروا أسبابًا أخرى غير الذي معنا.
    قال ابن عطية: (وذكر بعض الناس لهذه الآيات أسبابًا ... ثم ذكر أحدها حتى قال: والقول عندي أن هذه الآية نزلت تقويما كسائر أمر الشرع ولو تتبعت الأسباب لكانت أكثر من أن تحصى) اهـ.
    وعندي - واللَّه أعلم - أن قوله: (فينا نزلت) يحتمل السببية وأن فعلهم الذي كان بينهم كان سبب نزولها، ويحتمل أن لا يكون فعلهم سببًا مباشرًا لنزولها فتكون الآية بعمومها تتناولهم وإن لم تقصدهم ابتداءً، وإلى هذا مال ابن عطية، ولعل مما يؤيد هذا أن الأصل عدم السببية حتى يرد الدليل على ذلك، وإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
    ولعل مما يؤيد قول ابن عطية أن سياق الآيات بعدها ينصب على الجانب التربوي لينتزع منهم أخلاق الجاهلية المتأصلةَ في نفوسهم، فسياق الآيات في التربية والتوجيه لا غير.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية لاحتماله السببية وغيرها، ولعل هذا سبب إعراض بعض المفسرين عنه واللَّه أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #134
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة القمر

    من صــ 928 الى صـ 937
    (الحلقة 133)


    165- قال اللَّه تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قدم وفد بني أسد على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتكلموا، فقالوا: قاتلتك مضرُ ولسنا بأقلِّهم عددا ولا أكلَّهم شوكة، وصلنا رحمك، فقال لأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تكلموا هكذا، قالوا: لا، قال: (إن فقه هؤلاء قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم)، قال عطاء في حديثه فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند نزولها منهم الطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد امتنوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا فأنزل اللَّه فيهم هذه الآيات) اهـ.
    قال البغوي: (نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ... ) اهـ. محل الشاهد.
    قال ابن عطية: (نزلت في بني أسد أيضاً وذلك أنهم قالوا في بعض الأوقات للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت محارب خصفة وهوازن وغطفان وغيرهم فنزلت هذه الآية) اهـ.
    وقال القرطبي: (نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة) اهـ.
    وما ذكره المفسرون في سبب نزولها هو الصحيح، لصحة سند الحديث ودلالة سياق القرآن على ذلك، فقوله: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) هذا حدث منهم يوجب الرد والمعالجة من الله - عَزَّ وَجَلَّ - فجاءت الآيات مجيبة عن قولهم ومخبرةً بما ينبغي لهم قوله وفعله.
    * النتيجة:
    - أن الحديث الذي معنا سبب نزولها لصحة سنده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
    * * * * *
    سورة القمر
    166 - قال الله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي ومسلم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سأل أهل مكة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية فانشق القمر بفكة مرتين فنزلت: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إلى قوله: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يقول: ذاهب.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر القرطبي وابن عاشور الحديث الذي معنا.
    قال القرطبي: (وعلى هذا الجمهور من العلماء ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وجبير بن مطعم، وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ... وذكر كلامًا حتى قال: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة وهو ظاهر التنزيل ولا يلزم أن يستوي الناس فيها لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت باستدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اللَّه تعالى عند التحدي). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت شاهدة على المشركين بظهور آية كبرى ومعجزة من معجزات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي معجرة انشقاق القمر). اهـ.
    أما سائر المفسرين كالطبري والبغوي وابن عطية وابن كثير فلم يذكروا حديث أنس إلا خاليًا من النزول، لكنهم ذكروا أحاديث أخرى عن غيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال الطبري: (وكان ذلك فيما ذكر على عهد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة، وذلك أن كفار مكة سألوه آية فأراهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انشقاق القمر، آية حجة على صدق قوله، وحقيقة نبوته فلما أراهم أعرضوا وكذبوا وقالوا: هذا سحر مستمر، فقال اللَّه جل ثناؤه: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). اهـ.
    وقال ابن عطية: (وقوله (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إخبار عما وقع في ذلك) اهـ.
    وقال ابن كثير: (قد كان هذا في زمان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات). اهـ.
    وقال السعدي: (فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما جاء به وصدقه أشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى القمر فانشق بإذن اللَّه فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان، والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية العظيمة الكائنة في العالم العلوي التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم وقالوا: سحرنا محمد ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من ورد عليكم من السفر فإنه إن قدر على سحركم لم يقدر أن يسحر من ليس مشاهداً مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبروهم بوقوع ذلك فقالوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) سحرنا محمد وسحر غيرنا) اهـ. بتصرف.
    ومن خلال ما تقدم يتبين اتفاق العلماء وإجماعهم على حدوث هذه الآية العظيمة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هجرته إلى المدينة.
    لكن النظر يدور حول نزول هذه الآيات بعد الحدث، والتصريح بالنزول في هذا الحديث فأقول: إن التصريح بنزول هذه الآيات الكريمات في هذا الحديث غير محفوظ؛ لأن جميع الطرق خلت منه إلا طريقاً واحداً، وتفصيل ذلك في الحاشية.
    أما هل نزلت الآيات بعد الحدث؟
    فالجواب: هذا هو الظاهر - والله أعلم - لأن اللَّه قال بعدها عن المشركين: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وهذا هو الذي ذكره المفسرون عن المشركين أنهم وصموا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسحر بعد انشقاق القمر.
    ومن المعلوم أنهم لن يقولوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) إلا بعد رؤيتهم للآية، ومن المعلوم أيضاً أن اللَّه لن يحكي هذا القول عنهم حتى يقولوه.
    وإذا كان الأمر كذلك تحققنا أن الآيات إنما نزلت بعد الحدث لا قبله؛ لأنهم لن يقولوا: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) وهم لم يروها بعد، ولن يقول اللَّه هذا عنهم وهم لم يقولوه.
    لكن هل يعني هذا أن حدث انشقاق القمر سبب نزول الآية؟
    والجواب: أن الراجح عندي أن الأمر كذلك، وإن كان التصريح بالنزول غير محفوظ، لأن سؤال المشركين آية، وإتيان اللَّه بها، وتكذيبهم إياها، يناسب تمام المناسبة نزول القرآن بعدها موبخاً لهم ومهدداً بيوم يقول الكافرون فيه: (هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ). فمطابقة هذا لاصطلاح العلماء في أسباب النزول ظاهرة.
    بقي أن يقال: هل انشق القمر مرتين؟
    والجواب: أن القمر انشق مرة واحدة لكنه انفلق فلقتين لأن هذا هو المروي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
    ولأنه مقتضى الحكمة لأن المقصود من انشقاقه العبرة والعظة، وما لم يحصل هذا من انشقاقه في المرة الأولى مع أنها أبلغ في التأثير فلن يحصل في المرة الثانية وحينئذٍ تنتفي الحكمة من شقه مرتين واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول هذه الآيات الكريمة لصحة سنده، وموافقته لاصطلاح العلماء في تعريف السبب واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #135
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الواقعة

    من صــ 938 الى صـ 946
    (الحلقة 134)


    167 - قال الله تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القدر. فنزلت: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه وفي هذا بيان أن الله جل ثناؤه توعد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم بالقدر مع كفرهم به). اهـ.
    قال عياض: (ظاهره أن المراد بالقدر هاهنا مراد الله ومشيئته وما سبق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه واحتجاج المفسرين به وموافقته لسياق القرآن والله أعلم.
    سورة الواقعة
    168 - قال الله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) وقليل من الآخرين شق ذلك على المسلمين فنزلت: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ)، فقال: (أنتم ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الباقي).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزولها ولم يذكر هذا الحديث أحد من المفسرين الذين وقفت على أقوالهم.
    والحديث حري بالإعراض عنه فلا إسناد صحيح، ولا متن مستقيم،
    يوجب القبول والاحتجاج، لأنه إذا كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أصحاب اليمين فمن الذي يكون من المقربين إذن؟
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا للنزول لضعف سنده، وإعراض المفسرين عنه، وعدم موافقته لسياق القرآن، والله أعلم.
    * * * * *

    169 - قال الله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج مسلم عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال: مُطِر الناس على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة اللَّه. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا) قال: فنزلت هذه الآية: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) حتى بلغ: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر هذا الحديث بعض المفسرين بلا تعقب كالبغوي والقرطبي، ومنهم من تعقبه كابن عاشور.
    قال البغوي: (وهذا في الاستسقاء بالأنواء وذلك أنهم كانوا يقولون إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا ولا يرون ذلك من فضل اللَّه تعالى فقيل لهم: أتجعلون رزقكم أي شكركم بما رزقتم يعني شكر رزقكم التكذيب). اهـ.
    أما ابن عاشور فإنه لما ذكر حديث زيد بن خالد الجهني في صلاة الصبح في الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (وليس فيه زيادة فنزلت هذه الآية ولو كان نزولها يومئذٍ لقاله الصحابي الحاضر ذلك اليوم، ثم ذكر حديث ابن عبَّاسٍ حتى قال: وابن عبَّاسٍ لم يكن في سن أهل الرواية في مدة نزول هذه السورة بمكة فلعل قوله فنزلت تأويل منه لأنه أراد أن الناس مُطروا في مكة في صدر الإسلام فقال المؤمنون قولاً وقال المشركون قولاً فنزلت آية: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تنديدًا على المشركين منهم بعقيدة من العقائد التي أنكرها اللَّه عليهم وأن ما وقع في الحديبية مطر آخر لأن السورة نزلت قبل الهجرة ولم يروا أن هذه الآية أُلحقت بالسورة بعد نزول السورة ولعل الراوي عنه لم يحسن التعبير عن كلامه فأوهم بقوله: (فنزلت (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) بأن يكون ابن عبَّاسٍ قال: فتلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) أو نحو تلك العبارة. وقد تكرر مثل هذا الإيهام في أخبار أسباب النزول ويناكد هذا صيغة (تكذبون) لأن قولهم مطرنا بنوء كذا ليس فيه تكذيب بشيء) اهـ.
    أما الطبري وابن عطية وابن كثير فلم يذكروا حديث ابن عبَّاسٍ سببًا لنزولها.
    قال الطبري: (وتجعلون شكر الله على رزقه إياكم التكذيب ثم ذكر الآثار عن السلف من الصحابة والتابعين الدالة على أن المراد بتكذيبهم هو قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا) اهـ.
    وقال ابن عطية: (أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله اللَّه للعباد هذا بنوء كذا وكذا، وهذا بعثانين الأسد، وهذا بنوء الجوزاء وغير ذلك) اهـ.
    قال السعدي: (أي تجعلون مقابلة منة اللَّه عليكم بالرزق التكذيب والكفر لنعمة اللَّه فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا وتضيفون النعمة لغير مسديها وموليها، فهلا شكرتم اللَّه على إحسانه، إذا أنزله إليكم ليزيدكم من فضله فإن التكذيب والكفر داع لرفع النعم، وحلول النقم) اهـ.
    وبما تقدم من الأقوال تبين أن العلماء متفقون على أن المراد بالآية التنديد بهؤلاء المشركين الذين يعزون وينسبون الحوادث الأرضية إلى الحركات الفلكية وليس إلى الله - سبحانه وتعالى عما يشركون - لكن يبقى النظر هل هذا الحديث سبب نزولها؟ الآيات التي معنا في سورة مكية والأصل بناءً على هذا أنها نزلت قبل الهجرة لا بعدها وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كما قال ابن عاشور ليس فى سن الرواية ذلك الوقت وحينئذٍ لا بد أنه تَلَقَّى هذا من غيره.
    أما حديث زيد بن خالد الجهني فقد خلا من ذكر النزول، وهو حري بذلك لأن قصة الحديبية كانت بعد الهجرة، وسورة الواقعة نزلت قبلها فلا تكون سبباً لها.
    وإذا استبعدنا حديث زيد من السببية، بقي حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والراجح عندي - واللَّه أعلم - أن الآية لم تنزل على السبب المصطلح عليه بين العلماء لعدم وجود حدث أو سؤال تعالجه الآية أو تجيب عنه.
    لأن قوله في الحديث: (أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا هذه رحمة اللَّه، وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا) حكاية عن حال الناس تجاه رحمة اللَّه عموماً، وليس في الحديث دلالة على أن هذا حدث خاص قاله الناس ونزلت الآية بشأنه.
    وإذا كان حديث زيد قد خلا من ذكر النزول مع أنه سُبق بمطر فمن باب أولى أن يخلو حديث ابن عبَّاسٍ من هذا حيث لم يُسبق بمطر.
    وإذا كان الطبري وابن كثير مع عنايتهما بالأحاديث وتطريقها قد أعرضا عن ذكر هذا السبب كان هذا أيضاً مما يوجب الريب والتردد.
    وبناءً على ما تقدم فإن الآيات إنما نزلت لإبطال ما كان يعتاده أهل الجاهلية في مقالاتهم، كما أبطل القرآن ما اعتادوه من أفعالهم المنافية لشريعة الله والله أعلم.
    أما الجواب عن قوله: (فنزلت هذه الآية) فالمعنى أن عموم لفظها يتناول بالإبطال أقوال المشركين المنافية للتوحيد.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا ليس سبباً لنزول الآية لعدم وجود الحدث المعين ولإعراض بعض المفسرين المعتنين بالأحاديث عن ذكره والله أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #136
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة المجادلة

    من صــ 947 الى صـ 961
    (الحلقة 135)

    سورة الحديد
    170 - قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج مسلم عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إلا أربع سنين.
    وأخرجه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن الزبير قال: لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية، يعاتبهم اللَّه بها إلا أربعُ سنين: (وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية وقد ذكر بعض المفسرين حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - منهم البغوي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور، ولم يذكروا أن الحديث سبب نزولها.
    ولعل هذا هو السبب أيضاً في إعراض عدد من كبار المفسرين عن ذكر الحديث، وإذا نظرنا إلى سبب يستدعي النزول على النحو المصطلح عليه بين العلماء لم نجد له أثراً هنا.
    * النتيجة:
    أن هذا الحديث ليس سبباً لنزول الآية الكريمة لخلوه من التصريح بالنزول وإعراض كثير من المفسرين عن ذكره، مع عدم وجود واقعة أو حدث خاص يستدعي النزول والله أعلم.
    * * * * *

    171 - قال اللَّه تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّة ً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانت ملوك بعد عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة، قيل لملوكهم: ما نجد شتمًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء إنهم يقرؤون: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وهؤلاء الآيات مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرؤا كما نقرا وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانةً ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نَرِدُ عليكم، وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دورًا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نَرِدُ عليكم ولا نمر بكم وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم قال: ففعلوا ذلك فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: وَرَهْبَانِيَّة ً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) والآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا به، فلما بعث الله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يبق منهم إلا قليل انحطَّ رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة، والإنجيل وبإيمانهم بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصديقهم. قال: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) القرآن واتباعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) يتشبهون بكم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).

    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:

    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر هذا الحديث عدد من المفسرين كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير.
    وسياق العلماء لهذا الحديث من قبيل التفسير لا من باب أسباب النزول إذ لم يشيروا إلى أن هذا الحديث سبب نزولها.
    والظاهر - والله أعلم - أن الحديث ليس سبباً للنزول لما يلي:
    1 - أن إسناد الحديث ضعيف لما فيه من الغرابة، مع كون أحد رواته منكر الحديث.
    2 - أن القصة ظاهرة أنها في أتباع عيسى - عليه الصلاة والسلام - فكيف ينزل في شأن هؤلاء آيات على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
    نعم إن كان هذا من باب القصص عن الأمم الخالية فهو كثير في القرآن، أما السببية فلا.
    3 - أن بعض المفسرين الذين ذكروا روايات الحديث كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير قد خلت بعض رواياتهم من ذكر النزول إنما فيها (فذلك قول اللَّه تعالى) (فهم الذين ذكرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ولم يذكروا النزول.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا للنزول لضعف إسناده، وعدم مناسبته لسياق القرآن، مع أن المفسرين ساقوه مساق التفسير والله أعلم.
    * * * * *

    سورة المجادلة
    172 - قال اللَّه تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج أحمد والبخاري تعليقًا والنَّسَائِي وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمد للَّه الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا).
    2 - أخرج أحمد وأبو داود عن خولة بنت ثعلبة قالت: والله فيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله - عزَّ وجلَّ - صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليَّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم اللَّه ورسوله فينا بحكمه.
    قالت: فواثبني فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه) قالت: فواللَّه ما برحت حتى نزلت فيَّ القرآن فتغشى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: (يا خويلة قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبك) ثم قرأ عليَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) - إلى قوله - وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مريه فليعتق رقبة) قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه ما عنده ما يعتق. قال: (فليصم شهرين متتابعين) قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: (فليطعم ستين مسكينًا وسقاً من تمر) قالت: قلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإنا سنعينه بعرق من تمر)قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر. قال: (قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً) قالت: ففعلت.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد تنوعت اختيارات المفسرين لهذه الأسباب.
    فمنهم من ذكر الحديثين كالطبري وابن كثير.
    قال الطبري: (وكانت مجادلتها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها، وزوجها أوس بن الصامت، مراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنت عليَّ كظهر أمي ومحاورتها إياه في ذلك وبذلك قال أهل التأويل، وتظاهرت به الرواية) اهـ.
    أما ابن كثير فقد قال بعد سياق حديث خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها -: (هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة) اهـ.
    ومنهم من ذكر حديث عائشة - رضي الله عنها - كابن العربي والقرطبي، وأضاف إلى ذلك روايات أخرى.
    ومنهم من ذكر حديث خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها - كابن عاشور فقد قال: (وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك) اهـ.
    أما البغوي وابن عطية فقد ذكرا روايات مشابهة للذي معنا.
    قال البغوي: (نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الأحاديث التي معنا سبب نزول الآية الكريمة لإجماع المفسرين على ذلك وموافقتها لسياق القرآن وتصريحها بالنزول، وصحة أسانيد بعضها. واللَّه أعلم.
    * * * * *

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #137
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة المجادلة

    من صــ 962 الى صـ 969
    (الحلقة 136)


    173 - قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج مسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت: بل عليكم السام والذام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعتَ ما قالوا؟ فقال: (أوليس قد رددتُ عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم).
    وفي لفظ له ففطنت بهم عاثشة فسبَّتهم فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مه يا عائشة فإن اللَّه لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) .. إلى آخر الآية.
    2 - أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سام عليك ثم يقولون في أنفسهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ .. ).
    3 - أخرج الترمذي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يهودياً أتى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فقال: السام عليكم، فرد عليه القوا، فقال نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل تدرون ما قال هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، سلَّم يا نبي الله. قال: (لا ولكنه قال كذا وكذا، ردوه عليَّ) فردوه فقال: (قلتَ: السام عليكم؟) قال: نعم، قال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: إذا سلَّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلتَ قال: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث على تفاوت بينهم في ذكر بعضها أو كلها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) من اليهود (ثُمَّ يَعُودُونَ) فقد نهى الله - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول).
    وقوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف اللَّه جل ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها اللَّه لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار أنهم كانوا يقولون: السام عليك) اهـ.
    وقال البغوي: (نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين) اهـ.
    وقال ابن العربي: (لا خلاف بين النقلة أن المراد بهم اليهود، كانوا يأتون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون السام عليك) اهـ.
    وقال ابن عطية: (هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا فنزلت هذه الآية) اهـ.
    وقال ابن كثير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين) اهـ.
    وقال السعدي: (هؤلاء المذكورون إما أُناس من المنافقين يظهرون الإيمان ويخاطبون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيراً وهم كذبة في ذلك.
    وإما أُناس من أهل الكتاب، الذين سلموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: (السام عليك يا محمد) يعنون: الموت) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وفي قوله: (عَنِ النَّجْوَى) وقوله: (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) دلالة على أنهم منافقون لا يهود؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عبَّاسٍ أنها نزلت في المنافقين).
    ثم قال في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ): (لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير (جَاءُوكَ) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر) اهـ. بتصرف.
    والراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآيات نزلت في المنافقين وليست في اليهود.
    قال ابن عطية: (وقال ابن عبَّاسٍ هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود) اهـ.
    والحجة في هذا ما يلي:
    1 - أن آخر قبائل اليهود نقضاً للعهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة.
    وأن سورة المجادلة من أواخر القرآن نزولاً حتى قال ابن عاشور: (وهي السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم) اهـ. فإذا كان اليهود جميعاً قد خلت المدينة منهم سنة خمس إما بالقتل أو الإجلاء، وكانت سورة المجادلة قد تأخر نزولها إلى هذا الحد، فكيف يكون الخطاب فيها موجهاً لليهود؟!
    2 - أن سياق الآيات القرآنية يميل إلى المنافقين من وجهين:
    الأول: ذكره ابن عاشور بقوله: (إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم).
    وهذا حق فإن الله قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) وهذا يعني أنه قد جرى نهي عن ذلك، واليهود كفار، والكفار لا يخاطبون بفروع الشريعة، فكيف يتوجه لهم الأمر والنهي، والحال ما ذُكر؟.
    الثاني: أن اللَّه تعالى تحدث عن المنافقين بالأسلوب نفسه الذي تحدث به عن المتناجين فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
    وهذه الآية كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143).
    وإذا كان أسلوب الحديث في الآيتين واحدًا فلماذا تكون الأولى في اليهود، والثانية في المنافقين؟
    3 - أن وصف المنافقين بذلك أقرب من وصف اليهود لأنهم يعرفون من أحوال المؤمنين ما لا يعرفه اليهود، ويشاهدون ما لا يشاهدون وذلك بسب القربى وإظهار الإيمان، وإذا كانوا كذلك فهم أقدر على المناجاة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وقد حكى الله عنهم في سورة عُنيت بفضحهم بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان فقال سبحانه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ومعلوم أن اللمز والسخرية بالمؤمنين من الإثم والعدوان ومعصية الرسول. بينما لا أعرف بين دفتي المصحف آية تحدثت عن مناجاة اليهود في العصر النبوي.
    وبناءً على ما تقدم يرد سؤالان اثنان:
    الأول: ما الجواب عن قول عائشة - رضي الله عنها - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
    فالجواب: أن الآية لما تضمنت التحية وكانت عائشة - رضي الله عنها - سمعت اليهود يحيونه بالسام ظنت أنها نزلت فيهم فقالت: فأنزل الله. وليس الأمر في الواقع كذلك لأن الحديث عن التحية محدود جدًا في ضمن الحديث عن النجوى، والنهي عنها، وأنها من الشيطان، وأَمْرِ المؤمنين بالتناجي بالبر والتقوى.
    فلماذا ينصبُّ الحديث على المحدود ويترك الكثير المبسوط؟ أليس هذا خلاف المعهود؟.
    الثاني: إذا كان المراد بالآية المنافقين، فما المراد إذن بقوله: (حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)؟.
    فالجواب: ابن عاشور ذكر: (أنهم كانوا يقولون: أنعم صباحًا وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية) اهـ.
    قلت: لو ذكر لهذا دليلاً لَسَلَّمنا أما مع عدم الدليل فلا.
    وعندي - واللَّه أعلم - أن قاعدة النفاق الراسخة وجهان ولسانان وحالان باطن وظاهر، والمنافقون دومًا لا يستطيعون الفصل بينهما بل لا يحسنون إلا الجمع بينهما وقد دلَّ على هذا كتاب الله. قال الله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).
    وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5). ولك أن تعجب من اجتماع، حسن القول مع العداوة ولَيِّ الرؤوس.
    وقال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14).
    وقال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).
    وقال تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
    إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن المنافقين يحسنون دورين ويلبسون قناعين. وإنما الغرض من عرض الآيات السابقة أن أبين أن منهج المنافقين لا يتفق مع ما ذكره المفسرون هنا في تفسير التحية، وإنما الذي يتفق مع منهجهم هنا أنهم كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيّوه بأحسن تحية، ثم يقولون لبعضهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) أي: لِجمعنا بين ضدين صلاح ظاهر، وفساد باطن. واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الأحاديث المذكورة ليست سببًا لنزول الآية لمخالفتها السياق القرآني من عدة وجوه وإنما المراد منها الحديث عن حال المنافقين مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في إظهار مودتهم مع ما تنطوي عليه قلوبهم من الحقد الدفين والشر المستطير. واللَّه أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #138
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الحشر

    من صــ 970 الى صـ 981
    (الحلقة 137)


    174 - قال الله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى. دينار؟) قلت: لا يطيقونه، قال: (فنصف دينار؟) قلت: لا يطيقونه. قال: (فكم؟) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال: فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمع من المفسرين هذا الحديث منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية وابن كثير.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: أشق عليكم وخشيتم أيها المؤمنون بأن تقدموا بين يدي نجواكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقات الفاقة) اهـ.
    وقال البغوي: (قال ابن عبَّاسٍ: وذلك أن الناس سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد اللَّه أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على المناجاة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    والظاهر - واللَّه أعلم - أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية لما يلي:
    1 - أن إسناد الحديث ضعيف وتفصيله في موضعه من الحاشية.
    2 - أن سياق الحديث يقتضي أن الذي أشفق من ذلك هو علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والناظر في سياق الآية من أولها إلى آخرها يجد أن حديثها بصيغة الجمع مما يدل على أن الإشفاق منهم وليس من علي وحده.
    3 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: إنك لزهيد لما اقترح شعيرة وهذا يعني وبقتضي أن علياً أرحم بالناس من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الأمر والله كذلك فليس أرحمَ بالناس من الناس أحدٌ من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللَّه تعالى عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
    4 - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار علياً في مقدار الصدقة وهذا يخالف المعهود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استشارة صاحبيه الكبيرين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جميعاً.
    وبناءً على ما تقدم فليس الحديث المذكور سبب نزولها بل ربما نزل التخفيف لمجرد علم اللَّه بمشقة ذلك عليهم من غير طلب منهم أو من أحدهم واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبب نزولها لضعف إسناده، وعدم موافقته السياق القرآني والمشهور من حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عدة وجوه واللَّه أعلم.
    175 - قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    أخرج أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسًا في ظلِّ حجرته - قال يحيى: قد كاد يقلص عنه - فقال لأصحابه: (يجيئكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان، فإذا رأيتموه فلا تكلموه) فجاء رجل أزرق، فلما رآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاه، فقال: (علام تشتمني أنت وأصحابك)؟ قال: كما أنت حتى آتيك بهم. قال: فذهب فجاء بهم، فجعلوا يحلفون باللَّه ما قالوا، وما فعلوا وأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ).
    وفي رواية له: فنزلت هذه الآية التي في المجادلة: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير.
    قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد فترى إلى القوم الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم وهم المنافقون تولوا اليهود وناصحوهم) اهـ.
    وقال البغوي: (نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم) اهـ.
    وقال ابن كثير: (يقول اللَّه تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين كما قال تعالى: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة الحشر
    176 - قال الله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي وابن ماجه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حرّق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فنزلت: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ).
    2 - أخرج الترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قول اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -:(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا) اللينة: النخلة، وليخزي الفاسقين.
    قال: استنزلوهم من حصونهم، قال: أُمروا بقطع النخل فحكَّ في صدورهم. فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل اللُّه تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذين الحديثين ابن كثير.
    أما حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقد ذكره الطبري والبغوي وابن العربي والقرطبي، قال الطبري: (وإنما أُنزلت هذه الآية فيما ذكر من أجل أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قطع نخل بني النضير وحرقها، قالت بنو النضير لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت تنهى عن الفساد وتعيبه، فما بالك تقطع نخلنا وتحرقها؟ فأنزل الله هذه الآية فأخبرهم أن ما قطع من ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ترك فعن أمر الله فعل) اهـ.
    وقال البغوي: (وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء اللَّه عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح عقر الشجرة وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء اللَّه علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها فأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم). اهـ.
    وقال ابن العربي: (لا خلاف أن الآية نزلت في بني النضير) اهـ.
    أما ابن عطية والسعدي وابن عاشور فلم يذكروا أيَّاً من الحديثين.
    قال ابن عطية: (سببها أن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعوا أيديهم في نخل بني النضير يقطعون ويحرقون. فقال بنو النضير: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فكف عن ذلك بعض الصحابة وذلك في صدر الحرب معهم فنزلت الآية معلمةً أن جميع ما جرى من قطع أو إمساك فبإذن اللَّه ورَدَّتْ الآية على قول بني النضير أن محمداً ينهى عن الفساد وها هو ذا يفسد) اهـ.
    وقال السعدي: (ولما لام بنو النضير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين في قطع النخيل والأشجار وزعموا أن ذلك من الفساد وتوصلوا بذلك إلى الطعن بالمسلمين أخبر تعالى أن قطع النخيل إن قطعوه أو إبقاءهم إياه إن أبقوه فبإذن الله وأمره (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) حيث سلطكم على قطع نخلهم وتحريقها ليكون ذلك نكالاً لهم وخزيًا في الدنيا، وذلاً يعرف به عجزهم التام الذي ما قدروا على استنقاذ نخلهم الذي هو مادة قوتهم) اهـ.
    وقال أبو العباس القرطبي: (ولا شك في أن هذه الآية نزلت فيما عاب المشركون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قطع نخيل بني النضير فبين فيها أن الله تعالى أباحه لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خزيًا للمشركين، ونكايةً لهم، والآية نص في تعليل ذلك) اهـ.
    وعندي - والله أعلم - أن حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أصرح وأكثر تفصيلاً وأليق بالنزول من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لأن حديث ابن عمر مجمل ليس فيه تفصيل ولا يتضمن حدثاً أو إشكالاً لتجيب عليه الآية، إذ من الممكن أن تكون الآية تقص ما حدث بغض النظر عن علاجه كما هو كثير في القرآن.
    بخلاف حديث ابن عبَّاسٍ لأن فيه أن القطع قد حكَّ في صدورهم ثم سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أنزل الله تعالى الآية.
    لكن هذا الحديث يعكر عليه أن إسناده ليس كسابقه لأن الصواب فيه الإرسال.
    وأقوال المفسرين في هذا مختلفة فأكثرهم كما تقدم يرون أن الإنكار على التقطيع والتحريق إنما جاء من بني النضير.
    وبعض المفسرين يرون أن الإشكال والاختلاف نشأ من الصحابة أنفسهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما دلّ على ذلك حديث ابن عبَّاسٍ.
    وما ذكره البغوي يجمع بين القولين لأنه ذكر أن الإنكار ابتداءً كان من بني النضير ونتيجة ذلك وجد المسلمون في أنفسهم من ذلك شيئًا فاختلفوا في القطع.
    وعلى كل حال فإننا لو نحيّنا الأسباب جانباً لما كان لهذا أثر على النتيجة وهي أن قصة بني النضير هي سبب نزول سورة الحشر عمومًا، وأن قضية التحريق والتقطيع هي سبب قول اللَّه خصوصًا: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) والله أعلم.
    * النتيجة:
    أن مجموع ما روي من أسباب النزول التي معنا أو التي ذكرها المفسرون تدل على أن سبب نزول الآية هو تحريق النخيل وتقطيعها لدلالة السنة على ذلك وإجماع المفسرين عليه مع موافقة سياق القرآن.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #139
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الممتحنة

    من صــ 982 الى صـ 993
    (الحلقة 138)

    177 - قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماءُ، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من يَضُم أو يضيف هذا) فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: ما عندنا إلا قوتُ صبياني، فقال: هَيِّئِي طعامك، وأصبحي سراجك، ونَوِّمي صبيانك إذا أرادوا عَشاءً. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (ضحك اللَّه الليلة؟ أو عجب من فعالكما) فأنزل الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب هذه الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال السعدي: (أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها عمن سواهم الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة.
    وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة للَّه تعالى، مقدمة على شهوات النفس ولذاتها ومن ذلك قصة الأنصاري، الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعًا) اهـ.
    وقال ابن حجر لما ذكر الحديث: (هذا هو الأصح في سبب نزول هذه الآية) اهـ.
    فإن قال قائل: ما جوابك عن هذا الإشكال وهو أن هذه الآية وردت في ثنايا آيات ثلاث، الأولى تتحدث عن المهاجرين، والثانية عن الأنصار، والثالثة عن سائر المؤمنين بعدهم، فكيف يكون لهذه الجملة من الآية سبب مع أنها جاءت في ثنايا هذه الآيات؟
    فالجواب: يمكن القول إن الآيات الثلاث نزلت قبل ذلك، ثم وقعت قصة الأنصاري فأنزل اللَّه فيها هذه الجملة من الآية: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ونظير هذا نزول قوله تعالى في سورة النساء: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) بعد نزول الآية.
    فإن قال قائل: إيثار الأنصار على أنفسهم متعدد وله أكثر من صورة من ذلك موقف سعد بن الربيع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث أراد إيثار عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، وإحدى زوجتيه.
    وكذلك إيثار الأنصار المهاجرين نصيبهم من أموال بني النضير. وغير ذلك ولهذا أفلا يقال إن الآية نزلت في الأنصار جميعاً؟
    فالجواب: أن الصورة المنصوصة في الآية صادقة على هذا الأنصاري دون غيره لأنه وزوجه وبنيه كانوا بحاجة إلى الطعام وليس لديهم سواه فكان بهم خصاصة. أما الأنصار الذين آثروا فكان لديهم ما يكفيهم فالخصاصة غير متحققة فيهم.
    ومع هذا يقال: إن قصة الأنصاري وإن كانت سبب النزول، إلا أن الآية بعمومها تتناول الأنصار كيف لا والآية تتحدث عنهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه، ورواية المفسرين له، وموافقته لسياق القرآن والله أعلم.
    * * * * *
    سورة الممتحنة
    178 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

    * سَبَبُ النُّزُولِ:
    1 - أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والزبير والمقداد فقال: (انطلقوا حتى تأتوا روضةَ خاخٍ، فإن بها ظعينةً معها كتاب، فخذوه منها) قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرِجِنَّ الكتاب أو لنلقِيَنَّ الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا فيه:من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناسٍ بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا حاطب ما هذا). قال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، إني كنتُ امرءًا ملصقًا في قريش، يقول: كنت حليفًا، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أما إنه قد صدقكم) فقال عمر: يا رسول اللَّه، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل اللَّه اطلع على من شهد بدرًا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فأنزل اللَّه السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) - إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
    وفي رواية للبخاري قال عمرو: ونزلت فيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) قال: لا أدري الآية في الحديث أو قول عمرو.
    حدثنا علي: قيل لسفيان في هذا، فنزلت: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي). قال سفيان: هذا في حديث الناس، حفظته من عمرو، ما تركت منه حرفًا، وما أُرى أحدًا حفظه غيري.
    وفي رواية مسلم للحديث: وليس في حديث أبي بكر وزهير ذكر الآية. وجعلها إسحاق في روايته من تلاوة سفيان.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذا الحديث وجعلوه سبب نزولها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (وذُكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخفاه عنهم، وبذلك جاءت الآثار والرواية عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم). اهـ.
    قال البغوي: (قال المفسرون: نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث). اهـ. وقال ابن عطية: (وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة). اهـ.
    وقال ابن كثير: (وكان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلاً من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضًا وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفًا لعثمان فلما عزم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على فتح مكة لما نقض أهلها العهد فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: (اللهم عمِّ عليهم خبرنا) فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً فأطلع اللَّه على ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استجابة لدعائه فبعث في إثر المرأة فأخذ الكتاب منها وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته). اهـ.
    وقال السعدي: (ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة حين غزا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزاة الفتح.
    فكتب حاطب إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بمسير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم ليتخذ بذلك يداً عندهم لا شكاً ولا نفاقاً وأرسله مع امرأة، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشأنه فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب وعاتب حاطباً فاعتذر بعذر قبله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
    وقال ابن عاشور: (اتفق المفسرون وثبت في صحيح الأحاديث أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من قريش. وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن أهل بدر) اهـ.
    هذه أقوال المفسرين شاهدة ظاهرة تُجمع القولَ أن هذه الآية نزلت بسبب قصة حاطب بن أبي بلتعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
    ومع هذا فقد مال ابن حجر إلى أن نزول الآية في هذا الحديث زيادة مدرجة فقال: (وقد بيّن سياق علي أن هذه الزيادة مدرجة) ثم استطرد في نقل أقوال المحدثين التي تثبت ذلك.
    وعندي - والله أعلم - أن القول ما قال المفسرون وشهرة الأمر عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، واتفاقهم عليه تشفي وتكفي، كيف لا وقد أيَّد هذا سياق القرآن.
    والحكم بالإدراج لا ينفي نزولها لهذا السبب، إذ قد تنزل ولا تذكر وليس عدم الذكر ذكراً للعدم، وكون أمر نزولها يشتهر على هذا النحو يدل حتماً على أن لذلك أصلاً.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور سبب نزول الآيات التي معنا لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، وإجماع المفسرين عليه واللَّه أعلم.
    * * * * *

    179 - قال الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    1 - أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالت: أتتني أمي راغبةً، في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: آصِلُها؟ قال: (نعم). قال ابن عيينة: فأنزل اللَّه تعالى فيها: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ).
    2 - وأخرج أحمد عن عبد اللَّه بن الزبير قال: قدمت قَيْلة ابنت عبد العزى بن عبد أسعد - من بني مالك بن حِسْل - على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا ضباب وأقط وسمن - وهي مشركة - فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها. فسألت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... ) إلى آخر الآية فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر هذين الحديثين البغوي والقرطبي وابن كثير.
    قال ابن كثير: (لا ينهاكم اللَّه عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ولم يعاونوا على إخراجكم كالنساء والضعفة منهم أن تحسنوا إليهم وتعدلوا) اهـ. بتصرف.
    أما الطبري وابن عطية فقد ذكرا حديث عبد الله بن الزبير فقط.
    وقال السعدي: (ولما نزلت هذه الآيات الكريمات المهيجة على عداوة الكافرين وقعت ميق المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتم القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى اللَّه عنه فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي لا ينهاكم الله عن البر والصلة والمكافأة بالمعروف والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم حيث كانوا بحال لم ينصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم فليس عليكم جناح أن تصلوهم فإن صلتهم في هذه الحالة لا محذور فيها ولا تبعة) اهـ.
    وقال ابن حجر: (قال ابن عيينة: فأنزل اللَّه فيها: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) وكذا وقع في آخر حديث عبد اللَّه بن الزبير ولعل ابن عيينة تلقاه منه، وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في ناس من المشركين كانوا ألين شيء جانبًا للمسلمين وأحسنه أخلاقًا. قلت: ولا منافاة بينهما فإن السبب خاص واللفظ عام فيتناول كل من كان في معنى والدة أسماء) اهـ.
    قلت: وفي نفسي من ذكر نزول الآية هنا شيء للأسباب التالية:
    1 - أن جميع الطرق عن هشام بن عروة خلت من ذكر النزول إلا سفيان بن عيينة فوحده ذكر النزول عند البخاري، فربما قال هذا تفقهًا من عنده، أو تفقهًا ممن أخبره.
    2 - أن المفسرين عند ذكرهم لهذا تلمس وتُحس في أقوالهم الريب والتردد، ولم يقابلوا الحديث على صحته بالحفاوة والتعليق كالمعتاد بل الطبري على إمامته في التفسير لم يذكر حديث أسماء عند البخاري، ومن ذكره قال وقيل: إنه سبب نزول الآية.
    3 - أن سياق الآيات مرتبط ببعضه من أول السورة إلى الآية التاسعة ويدل على هذا الارتباط أن الله ذكر إخراج المشركين للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين معه في أول آية من السورة ثم ذكر في الآية الثامنة والتاسعة أيضًا الإخراج من الديار وإذا كان آخرها مرتبطًا بأولها فهذا يعني أنها نزلت في سياق الآيات التي تعاتب حاطبًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا صلة لها بقضية أسماء - رضي الله عنها - وأمها إلا من حيث إن عموم لفظها يتناولها أما أن تكون سببها ابتداءً فلا.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سببًا لنزول الآية للشك في ثبوتها (أعني - زيادة التصريح بالنزول) وضعف الحديث الآخر، وتردد بعض المفسرين في إثبات النزول، مع اتصال الآية بقصة حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واللَّه أعلم.
    * * * * *


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #140
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: المحرر في أسباب نزول القرآن ___ متجدد



    المحرر في أسباب نزول القرآن

    المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
    المجلد الثانى

    سورة الصف

    من صــ 994 الى صـ 1008
    (الحلقة 139)

    180 - قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري وأحمد عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة: يخبران خبرًا من خبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة الحديبية أنه لما كاتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة وكان فيما اشترط سهيلُ بن عمرو أنه قال: لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه وأبى سهيل أن يقاضيَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا على ذلك، فكره المؤمنون ذلك وامَّعضوا، فتكلموا فيه فلما أبى سهيل أن يقاضي رسولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا على ذلك، كاتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرد رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا جندل بن سُهيل يومئذٍ إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأتِ رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد من الرجال إلا ردَّه في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجراتٍ فكانت أم كلثوم بنتُ عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجعها إليهم، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل.
    وفي لفظ للبخاري وأحمد: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل اللَّه تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُن َّ) - حتى بلغ - (بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية وقد ذكر هذا الحديث بعض المفسرين كالبغوي وابن العربي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
    قال ابن كثير: (تقدم في سورة الفتح في ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين كفار قريش فكان فيه: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وفي رواية على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصةً للسنة وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة فإن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن). اهـ.
    وقال الطبري: (وقوله: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) يقول: فإن أقررت عند المحنة بما يصح به عقد الإيمان لهن، والدخول في الإسلام فلا تردوهن عند ذلك إلى الكفار، وإنما قيل ذلك للمؤمنين، لأن العهد كان جرى بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً، فأبطل ذلك الشرط في النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتحن، فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم مما قد ذكرنا قبل، وأمروا أن لا يردوهن إلى المشركين إذا علم أنهن مؤمنات) اهـ.
    وقال ابن عطية: (نزلت إثر صلح الحديبية، وذلك أن الصلح تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلمًا من رجل وامراة فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية) اهـ.
    وقال السعدي: (وأما النساء فلما كان ردهن، فيه مفاسد كثيرة أمر المؤمنين إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وشكوا في صدق إيمانهن أن يمتحنوهن ويختبروهن بما يظهر به صدقهن من أيمان مغلظة وغيرها فإنه يحتمل أن يكون إيمانها غير صادق بل رغبة في زوج أو بلد أو غير ذلك من المقاصد الدنيوية، فإن كن بهذا الوصف تعين ردهن وفاءً بالشرط من غير حصول مفسدة، وإن امتحنوهن فوجدن صادقات أو علموا ذلك منهن من غير امتحان فلا يرجعوهن إلى الكفار) اهـ.
    وما ذكره المفسرون في الآية هو الذي دلَّ عليه الحديث الذي معنا وبهذا يكون سبب نزولها.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا هو سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به والله أعلم.
    * * * * *

    181 - قال اللَّه تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمتحنُهُن وبلغنا أنه لما أنزل اللَّه تعالى: أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بِعِصَمِ الكوافر أن عمر طلق امرأتين، قريبةَ بنت أبي أمية، وابنة جرولٍ الخزاعي، فتزوج قريبةَ معاويةُ، وتزوج الأخرى أبو جهم، فلما أبى الكفار أن يُقرُّوا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم أنزل اللَّه تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ) والعَقَبُ ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يُعطى من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللائي هاجرن، وما نعلم أحدًا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، لكنّ المفسرين لم يذكروا هذا الحديث عند تفسيرها وإن كانوا ذكروا معناه كالطبري، وابن العربي وابن عطية، والقرطبي وابن كثير والسعدي وابن عاشور.
    قال الطبري: (واختلف أهل التأويل في المال الذي أُمر أن يُعطى منه الذي ذهبت زوجته إلى المشركين، فقال بعضهم: أُمروا أن يعطوهم صداق من لحق بهم من نساء المشركين ثم ساق بإسناده إلى الزهري أنه قال: أقر المؤمنون بحكم الله، وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين فقال الله للمؤمنين: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ... ) الآية فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أُمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمنَّ وهاجرن، ثم ردوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم، والعقب: ما كان بأيدي المؤمنين من صداق نساء الكفار حين آمنَّ وهاجرن.
    وقال آخرون: بل أمروا أن يعطوه من الغنيمة أو الفيء ... ثم ساق الآثار حتى قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية المؤمنين أن يعطوا من فرّت زوجته من المؤمنين إلى أهل الكفر إذا هم كانت لهم على أهل الكفر عقبى، إما بغنيمة يصيبونها منهم، أو بلحاق نساء بعضهم بهم، مثل الذي أنفقوا على الفارّة منهم إليهم، ولم يخصص إيتاءهم ذلك من مال دون مال فعليهم أن يعطوهم ذلك من كل الأموال التي ذكرناها) اهـ. بتصرف.
    وقال ابن العربي: (قال علماؤنا: المعنى إن ارتدت امرأة، ولم يرد الكفار صداقها إلى زوجها كما أُمروا فردوا أنتم إلى زوجها مثل ما أنفق) اهـ.
    وقال ابن عطية: (واختلف الناس من أي مال يدفع إليه الصداق، فقال محمد بن شهاب الزهري: يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم، وأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه حسبما ذكرناه وهذا قول صحيح يقتضيه قوله تعالى: (فَعَاقَبْتُمْ) اهـ.
    وقال السعدي: (إن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار، وفاتت عليه فعلى المسلمين أن يعطوه من الغنيمة بدل ما أنفق) اهـ. بتصرف يسير.
    وقال ابن عاشور: (روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادّ بين الفريقين في قوله تعالى: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) اهـ.
    وقال أيضاً: (والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقّبتم على أزواج الكفار وعقّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللائي ذهبن إليهم فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته أي ما هو حقه، واحجزوا ذلك عن الكفار، وهو أظهر ما فسرت به الآية). اهـ باختصار.
    وما ذكره المفسرون - بحمد الله - يوافق تماماً ما روته أم المؤمنين - رضي الله عنها - إلا أن الخلاف بينهم ينصبُّ على الجهة التي يُعطى منها من فات له زوج إلى الكفار.
    حديث عائشة لم يبين هذا، فمنهم من يقول يُعطى من الغنيمة، ومنهم من يقول يُعطى من أموال الكفار الذين هاجرت زوجاتهم إلى المسلمين.
    والأمر - واللَّه أعلم - كما قال ابن كثير: (إن أمكن الأول فهو الأولى وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار وهذا أوسع) اهـ.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين على معناه واللَّه أعلم.
    * * * * *
    سورة الصف
    182 - قال اللَّه تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج الدارمي والترمذي عن عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قعدنا نَفَرٌ من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى لعملناه فأنزل اللَّه تعالى: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا)، حتى ختمها، قال عبد اللَّه: فقرأها علينا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ختمها.
    قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى، وقرأها علينا الأوزاعي، وقرأها علينا محمد.
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة. وقد ذكر القرطبي وابن كثير وابن عاشور هذا الحديث في سبب نزولها.
    قال ابن كثير: (إن الجمهور حملوا الآية يعني قوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).
    وقال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)، وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر اللَّه نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ). اهـ.
    وقال ابن عاشور: (وتعقيب الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل اللَّه. وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في الكشاف). اهـ.
    أما الطبري والبغوي وابن عطية فلم يذكروا حديث ابن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكن ذكروا أحاديث مشابهةً في لفظها ومعناها واحد.
    قال الطبري: (واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنزلت هذه الآية فقال بعضهم: أُنزلت توبيخًا من اللَّه لقوم من المؤمنين، تمنوا معرفة أفضل الأعمال فعرفهم اللَّه إياه، فلما عرفوا قصروا فعوتبوا بهذه الآية). اهـ.
    وبهذا يتبين اتفاق المفسرين على المعنى الذي دلَّ عليه حديث عبد اللَّه بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإن كان الحديث قد خلا من تمني الجهاد، وإنما تمني أحب الأعمال إلى اللَّه فبين أنه الجهاد.
    * النتيجة:
    أن الحديث الذي معنا سبب نزول هذه الآيات الكريمة لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، وموافقته لسياق القرآن، واتفاق المفسرين على معناه واللَّه أعلم.
    * * * * *

    183 - قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّي نَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
    * سَبَبُ النُّزُولِ:

    أخرج النَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما أراد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يرفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء، خرج على أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلاً، ورأسه يقطر ماءً، فقال: أيُّكم يُلقى شبهي عليه، فيقتل مكاني، فيكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنًا، فقال: أنا. فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم. فقام الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم الثالثة، فقال الشاب: أنا، فقال عيسى - عليه السلام -: نعم أنت، فأُلقي عليه شبه عيسى - عليه السلام - ثم رُفع عيسى من روزنةٍ كانت في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشاب للشبه. فقتلوه ثم صلبوه، فتفرقوا ثلاث فرق. فقالت فرقة: كان فينا الله - عَزَّ وَجَلَّ - ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن اللَّه ما شاء اللَّه ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطوريَّة. وقالت طائفة: كان فينا عبد اللَّه ورسوله ما شاء اللَّه ثم رفعه فهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) يعني: الطائفة التي كفرت في زمان عيسى - عليه السلام - والطائفة التي آمنت في زمان عيسى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ) بإظهار محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دينهم على دين الكفار (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
    * دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
    هكذا جاء في تفسير هذه الآية وقد ذكر الطبري وابن كثير الحديث بكماله إلا أن الطبري لم يشر في حديثه إلى الآية، وإنما ساقها قصصًا كسائر الحديث.
    أما ابن كثير فلم يذكر النزول أيضًا، لكن الآية في سياقه بين قوسين فلعل هذا ناشئ عن الطباعة الحديثة.
    أما البغوي فساقه مختصرًا وجاء في سياقه فذلك قوله تعالى: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
    وإذا كان الأمر كما تقدم من إعراض أكثر المفسرين عن ذكر هذا الحديث، وحتى من ذكره لا يذكر فيه النزول فهذا برهان مبين على أن الحديث ليس له صلة بالنزول وأن قول الراوي فيه: فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -. إنما هو في باب التفسير ليس إلا وكيف لا يكون كذلك والحديث فيه عن نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأتباعه على دينه. ومع كون الحديث موقوفاً على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليس لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه ذكر فابن عبَّاسٍ كان معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل، ففسر هذه الآية بما يعلمه من أخبارهم واللَّه أعلم.
    * النتيجة:
    أن الحديث المذكور ليس سبباً لنزول الآية لإعراض المفسرين عن ذكره، كما أن التصريح بالنزول غير محفوظ ولا يلائم سياق القرآن واللَّه أعلم.
    * * * * *



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •