بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (138)
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ (1)
صـ 241 إلى صـ 245
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور الآية [ 57 \ 9 ] ، وقوله : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية [ 2 \ 275 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وقد بين تعالى هنا أنه لا يخرج أحدا من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله : بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] ، وأوضح ذلك في آيات أخر ، كقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله الآية [ 4 \ 64 ] ، وقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولا إلا بلغة قومه ; لأنه لم يرسل رسولا إلا إلى قومه دون غيرهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم ، كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان ، فهو صلى الله عليه وسلم يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان ، وقد قدمنا في سورة البقرة قول ابن عباس رضي الله عنهما : " إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ 21 \ 29 ] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ ص: 242 ] [ 48 \ 1 ، 2 ] قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 4 \ 14 ] ، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، فأرسله إلى الجن والإنس " ، ذكره أبو محمد الدارمي في " مسنده " كما تقدم وهو تفسير من ابن عباس للآية بما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم الآية .
اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة ، فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ; ليعضوا عليها غيظا وحنقا لما جاءت به الرسل ; إذ كان فيه تسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم ، وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، واستدل له بقوله تعالى : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الآية [ 3 \ 119 ] ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
تردون في فيه غش الحسود حتى يعض على الأكف
يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه ، قال القرطبي : ومنه قول الآخر أيضا :
قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعض علي الوظيفا
أي أفنى أنامله عضا ، وقال الراجز :
لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة بعظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد
وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا ، منها : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب . ويروى عن ابن عباس . ومنها : أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم : أنا رسول الله إليكم ، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله . ويروى هذا عن أبي صالح ، ومنها : أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار ، وعلى هذا القول فـ " في " بمعنى الباء . ويروى هذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، قال ابن جرير : وتوجيهه أن " في " هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب : أدخلك الله بالجنة ، يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
[ ص: 243 ]
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد وأرغب بها : قال ابن كثير : ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام ، وهو قوله تعالى : وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى ; لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله ، فيدل على أن المراد بقوله : فردوا أيديهم الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه ، والعلم عند الله تعالى . وقيل : المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ، وعليه فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل ، ويروى هذا عن الحسن ، وقيل : جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، ويروى هذا عن مقاتل ، وقيل : رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم ، وقيل غير ذلك ، فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
جمع الفم مكسرا على أفواه يدل على أن أصله فوه ، فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم .
قوله تعالى : إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للرسل بأنهم كافرون بهم ، وأنهم شاكون فيما جاءوهم به من الوحي ، وقد نص تعالى على بعضهم بالتعيين أنهم صرحوا بالكفر به ، وأنهم شاكون فيما يدعونهم إليه ، كقول قوم صالح له : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب [ 11 \ 62 ] ، وصرحوا بالكفر به في قوله : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون [ 7 \ 75 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر عموما في آية ، ثم يصرح في آية أخرى بدخول بعض أفراد ذلك العموم فيه كما هنا ، وكما [ ص: 244 ] تقدم المثال له بقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] ، مع قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم ، والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي ، وقد نص في آيات أخر أيضا على بعض ذلك مفصلا ، كقوله عن قوم شعيب : لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم الآية [ 7 \ 88 ، 89 ] ، وقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] ، وقوله عن مشركي قريش : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا [ 17 \ 76 ] ، وقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ 8 \ 30 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم ، وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [ 58 \ 21 ] ، وقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
وقوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [ 7 \ 128 ] ، وقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وخاب كل جبار عنيد .
لم يبين هنا كيفية خيبة الجبار العنيد ، ولكنه أشار إلى معنى خيبته وبعض صفاته القبيحة في قوله في سورة " ق " : ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد [ ص: 245 ] [ 50 \ 24 - 25 ] ، والجبار : المتجبر في نفسه ، والعنيد : المعاند للحق ، قاله ابن كثير .
قوله تعالى : من ورائه جهنم الآية .
" وراء " هنا بمعنى " أمام " كما هو ظاهر ، ويدل له إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي : أمامهم ملك ، وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في كلام العرب قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وقول الآخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقوله الآخر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا باد
فـ " وراء " بمعنى " أمام " في الأبيات ، وقال بعض العلماء معنى من ورائه جهنم ، أي : من بعد هلاكه جهنم ، وعليه فـ " وراء " في الآية بمعنى بعد ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " بعد " قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي : ليس بعد الله مذهب ، قاله القرطبي ، والأول هو الظاهر وهو الحق .