تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثالث
صـ 683 الى صـ 688
الحلقة (133)
القول في تأويل قوله تعالى:
[267] يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد .
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم هذا بيان لحال ما ينفق منه، إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته، أي: أنفقوا من جياد ما كسبتم، لقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فمقتضى الإيمان الإنفاق من الجيد، سيما ما يطلب به رضا الله وتثبيت النفس، وفي الأمر إشعار بأنه إنما يمثل بالزرع المنبت سبع سنابل، أو بالجنة بربوة، ما أنفق من الجيد: ومما أي: ومن طيبات ما: أخرجنا لكم من الأرض من الحبوب والثمار: ولا تيمموا أي: لا تقصدوا: الخبيث أي: الرديء من أموالكم منه تنفقون ولستم بآخذيه أي: بقابليه يعني الرديء إذا أهدي إليكم: إلا أن تغمضوا فيه أي: إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه. من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره، ويقال للبائع: أغمض، أي: لا تستقص، كأنك لا تبصر. كذا في " الكشاف ".
قال الرازي: الإغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن، والمراد ههنا: المساهلة، وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك، ثم [ ص: 684 ] كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضا. فقوله: ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه يعني: لو أهدي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟!: واعلموا أن الله غني عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم: حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك، مع ظهور علمهم به، توبيخ على إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى، ولما رغب تعالى في إنفاق الجيد حذر من وسوسة الشيطان في ذلك فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:
[268] الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم .
الشيطان يعدكم الفقر في الإنفاق: ويأمركم بالفحشاء أي: يغريكم على البخل ومنع الصدقات، إغراء الآمر للمأمور، والفاحش عند العرب: البخيل. قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
قال الحرالي: الفحشاء: كل ما اجتمعت عليه استقباحات الشرع، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة، ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله.
والله يعدكم بالإنفاق لا سيما من الجيد: مغفرة منه للذنوب: وفضلا خلفا وثوابا في الآخرة: والله واسع قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه: عليم بصدقاتكم، فلا يضيع أجركم.
[ ص: 685 ] القول في تأويل قوله تعالى:
[269] يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب .
يؤتي الحكمة من يشاء قال كثيرون: الحكمة إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى معرفة الحق والعمل به. قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي، وهي في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيم، أي: محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال تعالى: فيها يفرق كل أمر حكيم
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا إذ بها انتظام أمر الدارين، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها، وفي إيلاء هذه الآية لما قبلها إشعار بأن الذي لا يغتر بوعد الشيطان ويوقن بوعد الله هو من آتاه الله الحكمة: وما يذكر أي: يتعظ بأمثال القرآن والحكمة: إلا أولو الألباب أي: ذوو العقول من الناس، الخالصة من شوائب الهوى، وهم الحكماء، والمراد به: الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
القول في تأويل قوله تعالى:
[270] وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار .
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر أي: يؤول إلى الإنفاق: فإن الله يعلمه لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه: وما للظالمين أي: الذين ينفقون رئاء الناس، أو يضعون الإنفاق في غير موضعه، أو بضم المن والأذى إليه، أو بالإنفاق من الخبيث، [ ص: 686 ] أو يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور: من أنصار أي: من أعوان ينصرونهم من عقاب الله.
قال الحرالي: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر، فيجد له نصيرا، ولا يجد الظالم، بوضع القهر موضع البر، ناصرا.
القول في تأويل قوله تعالى:
[271] إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .
إن تبدوا الصدقات فنعما هي نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية، وبيان له، ولذلك ترك العطف بينهما، أي: إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها، لأنه يرفع التهمة ويدعو له كل من يسمع من محتاج وغيره، ويفيد اتباع الناس إياه: وإن تخفوها أي: تسروها مخافة الرياء، وسترا لعار الفقراء: وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم أي: من العلانية، لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات: ويكفر عنكم من سيئاتكم ذنوبكم بقدر صدقاتكم: والله بما تعملون خبير ترغيب في الإسرار. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه » . وروى الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله [ ص: 687 ] أي الصدقة أفضل؟ قال: « سر إلى فقير، أو جهد من مقل » .
لطائف:
قال أبو البقاء في قوله تعالى: (فنعما هي): نعم فعل جامد لا يكون فيه مستقبل، وأصله نعم، كعلم، وقد جاء على ذلك في الشعر، إلا أنهم سكنوا العين ونقلوا حركتها إلى النون، ليكون دليلا على الأصل، ومنهم من يترك النون مفتوحة على الأصل، ومنهم من يكسر النون والعين اتباعا، وبكل قد قرئ، وفاعل (نعم) مضمر و (ما) بمعنى شيء، ثم قال: (ونكفر عنكم) يقرأ بالنون على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، ويقرأ بالياء على هذا التقدير أيضا، وعلى تقدير آخر وهو أن يكون الفاعل ضمير الإخفاء. ويقرأ (وتكفر) بالتاء على أن الفعل مسند إلى ضمير الصدقة. ويقرأ بجزم الراء عطفا على موضع: فهو خير وبالرفع على إضمار مبتدأ أي: ونحن أو وهي، و (من) هنا زائدة عند الأخفش، فيكون (سيئاتكم) المفعول، وعند سيبويه: المفعول محذوف، أي: شيئا من سيئاتكم، والسيئة فيعلة، وعينها واو لأنها من: ساء يسوء، فأصلها سيوئة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت الأولى فيها. انتهى.
وفي " غيث النفع ": قرأ (فنعما) الشامي والأخوان بفتح النون، والباقون بالكسر، وقرأ قالون والبصري وشعبة بإسكان العين، واختار كثير لهم إخفاء كسرة العين، يريدون الاختلاس فرارا من الجمع بين الساكنين، والباقون بكسر العين، واتفقوا على تشديد الميم، ثم ناقش الشاطبي في كونه لم يذكر لقالون ومن عطف عليه إلا الإخفاء، مع أنه روي عنهم الإسكان المحض أيضا، ثم قال: وقد صرح المحقق في نشره أن الداني روى الوجهين جميعا، ثم قال: والإسكان آثر والإخفاء أقيس وهو قراءة أبي جعفر والحسن، وغاية ما فيه الجمع بين الساكنين وليس أولهما حرف مد ولين، وهو جائز قراءة ولغة، ولا عبرة بمن أنكره ولو كان إمام البصرة، والمنكر له هنا يقرأ به لحمزة في قوله تعالى: ( فما استطاعوا ) . بالكهف إذ فيه الجمع بين الساكنين وصلا بلا شك ؛ إذ السين ساكن والطاء مشدد وهذا مثله. [ ص: 688 ] والله أعلم. وبه يعلم رد ما قيل إن راوي التسكين لم يضبط القراءة لأن القارئ اختلس كسرة العين فظنه إسكانا، فإنه غفلة عن جوازه لغة، كما حكاه أبو عبيد، وعن القراءة بنظيره في (استطاعوا) وبالله التوفيق.