تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (129)
صــ131 إلى صــ 135
وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما
قوله تعالى: وإن منكم لمن ليبطئن اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها في المنافقين ، كعبد الله بن أبي ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد ، فإن لقيت السرية نكبة ، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله علي ، وإن لقوا غنيمة ، قال: يا ليتني كنت معهم . هذا قول ابن عباس ، وابن جريج .
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين ، فتثبطوا لقلة العلم ، لا لضعف الدين ، ذكره الماوردي ، وغيره . فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله "منكم" لموضع نطقهم بالإسلام ، وجريان أحكامه عليهم ، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة ، قال ابن جرير: اللام في "لمن" لام تأكيد .
قال الزجاج : واللام في "ليبطئن" لام القسم ، كقولك: إن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن ، يقال: "أبطأ الرجل" و "بطؤ" . فمعنى "أبطأ": تأخر ، ومعنى "بطؤ": ثقل . وقرأ أبو جعفر: "ليبطئن" بتخفيف الهمزة ، وفي معنى "ليبطئن" قولان . أحدهما: ليبطئن هو بنفسه ، وهو قول ابن عباس . والثاني: ليبطئن غيره ، قاله ابن جريج . قال ابن عباس : و "المصيبة": النكبة . و "الفضل من الله": الفتح والغنيمة .
[ ص: 131 ] قوله تعالى: ( كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ) قرأ ابن كثير ، وحفص ، والمفضل ، عن عاصم: كأن لم تكن بالتاء ، لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، عن عاصم: يكن بالياء ، لأن التأنيث ليس بحقيقي . قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم ، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به ، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فإن أصابتكم مصيبة ، قال: قد أنعم الله علي ، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة . فيكون معنى "المودة" أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان .
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
قوله تعالى: الذين يشرون الحياة الدنيا يشرون هاهنا: بمعنى: يبتغون في قول الجماعة . وأنشدوا
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامة
[ ص: 132 ] و "برد": غلام له باعه . ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص ، وطلب الآخرة .
قوله تعالى: فيقتل أو يغلب خرج مخرج الغالب ، وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل .
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
قوله تعالى: والمستضعفين من الرجال قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين . وكذلك روي عن ابن عباس . وقال الزجاج : المستضعفون في موضع خفض ، والمعنى: في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين ، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس : وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا . و "القرية": مكة في قول الجماعة . قال الفراء: وإنما خفض "الظالم" لأنه نعت للأهل ، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها ، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره .
[ ص: 133 ] قوله تعالى: واجعل لنا من لدنك وليا قال أبو سليمان: سألوا الله وليا من عنده يلي إخراجهم منها ، ونصيرا يمنعهم من المشركين . قال ابن عباس : فلما فتح رسول الله مكة ، جعل الله عز وجل النبي عليه السلام وليهم ، واستعمل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد ، فكان نصيرا لهم ، ينصف الضعيف من القوي .
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
قوله تعالى: يقاتلون في سبيل الطاغوت الطاغوت هاهنا: الشيطان . وقال أبو عبيدة: الطاغوت هاهنا: في معنى جماعة ، كقوله "ولحم الخنزير" معناه: ولحم الخنازير .
قوله تعالى: إن كيد الشيطان يعني: مكره وصنيعه (كان ضعيفا) حيث خذل أصحابه يوم بدر .
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا
[ ص: 134 ] قوله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم اختلفوا فيمن نزلت على قولين .
أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين ، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكة قبل أن يفرض القتال ، فنهوا عن ذلك ، فلما أذن لهم فيه ، كرهه بعضهم . روى هذا المعنى أبو صالح ، عن ابن عباس ، وهو قول قتادة ، والسدي ، ومقاتل .
والثاني: أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم ، فحذرت هذه الأمة من مثل حالهم ، روى هذا المعنى عطية ، عن ابن عباس . قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إلى قصة الذين قالوا: ابعث لنا ملكا . وقال مجاهد: هي في اليهود .
فأما كف اليد ، فالمراد به: الامتناع عن القتال ، ذلك كان بمكة ، و"كتب" بمعنى: فرض ، وذلك بالمدينة ، هذا على القول الأول .
قوله تعالى: إذا فريق منهم في هذا الفريق ثلاثة أقوال .
أحدها: أنهم المنافقون . والثاني: أنهم كانوا مؤمنين ، فلما فرض القتال ، نافقوا جبنا وخوفا . والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم ، فنفرت [ ص: 135 ] نفوسهم عن القتال .
قوله يخشون الناس في المراد بالناس قولان . أحدهما: كفار مكة . والثاني: جميع الكفار .
قوله تعالى: أو أشد خشية قيل: إن "أو" بمعنى: الواو ، و "كتبت" بمعنى: فرضت . و "لولا" بمعنى: "هلا" . قال الفراء: إذا لم تر بعدها اسما ، فهي استفهام ، بمعنى: هلا ، وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا ، فهي التي جوابها اللام ، تقول: لولا عبد الله لضربتك . وقال ابن قتيبة: إذا رأيتها بغير جواب ، فهي بمعنى: "هلا" تقول: لولا فعلت كذا ، ومثلها "لولا" فإذا رأيت لـ "لولا" جوابا ، فليست بمعنى: "هلا إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره ، كقوله فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه [الصافات: 143] قلت: فأما "لولا" التي لها جواب فكثيرة في الكلام ، وأنشدوا في ذلك:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا فيه المشيب لزرت أم القاسم
وأما التي بمعنى: "هلا" فأنشدوا منها:
[ ص: 136 ]
تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا