تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 6 من 9 الأولىالأولى 123456789 الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 120 من 166

الموضوع: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

  1. #101
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (100)



    آثار الصبر على النفس والسلوك (2-2)




    6-الصبر يهذّب سلوك المؤمن وأخلاقه، فتسمو روح صاحبه ويصبح في العليين وهو في دار الدنيا، فحينما يصوم مثلاً يقاوم شهوة الطعام والشراب والجنس، ويحفظ لسانه عن أعراض الناس أو الخوض في محارم الله، فيترفع عن تلك الغرائز بنفس راضية وطائعة لأمر الله تعالى وحكمه، وكذلك حين يقوم هذا المؤمن الصابر بأداء فريضة الحج، فإنه يصبر على تعب الأسفار وخطورتها، ويصبر على فراق الأهل والأولاد والديار، وإذا وصل المشاعر يضبط نفسه عن أذى الحجاج والجدل معهم في غير هدف وغاية، بل إنه يتحمل الأذى منهم ويغفر لهم زلاتهم وأخطاءهم نحوه، ويعينهم ويساعدهم إذا رأى منه حاجة، كل ذلك لينال رضى الله تعالى الذي أمره بالصبر والتحمل عند أداء هذا المنسك العظيم، وهكذا حال المؤمن الصابر في كل الميادين التعبدية والمعيشية، فيكون مثلاً يحتذى به في الخلق والأدب والوقار.

    7- الصبر يرفع من منزلة صاحبه ودرجته عند خالقه جلّ وعلا، ويكفّر عنه سيئاته وذنوبه، فضلاً عن الجزاء الأوفى الذي ينتظره يوم القيامة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في مواطن كثيرة في كتابه العزيز، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ}(1)والأجر يكون في الدنيا والآخرة.

    وقال عليه الصلاة والسلام: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء«(2)

    ويقول ﷺ: «من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله؛ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه»(3). وغيرها من الآيات والأحاديث التي تحمل المعنى نفسه.

    8-الصبر هو مفتاح النصر والظفر على الأعداء، وهو سلاح المؤمن في مسيرته الدعوية وكذلك في ساحات الوغى عند لقاء الأعداء ومقارعتهم، ولن تنتصر أمة من غير صبر ومصابرة، ولن تتمكن من خصومها والتفوق عليهم فكريًا وعسكريًا واقتصاديًا ما لم تكن صابرة، يقول تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(4)ولعل الصبر كان أحد الأسباب التي مكّنت المسلمين من نشر دينهم في شتى أصقاع المعمورة وفتح بلادها شرقًا وغربًا، وهو تصديق قوله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(5).

    وهناك تأكيد من رب العالمين لعباده المؤمنين الصابرين والمخلصين، بأنه جل شأنه ناصرهم ومؤيدهم بالملائكة عند مقارعة ومواجهة الكفر والشرك، حيث قال: {بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(6).

    ومن الانتصار بالصبر أيضًا: الانتصار على وساوس الشيطان، حيث يجد المبتلى الصابر آفاقًا رحبة في نفسه فيرى المستقبل أمامه أملاً وبياضًا لثقته وحسن ظنه بالله تعالى، وبذلك ينحسر بلاؤه ومرضه فلا يزداد عليه ولا يتطور، بل وينحسر حينها الشيطان وتُشلّ وساوسه وتُدحر، بعكس المبتلى الذي يكثر الشكوى والجزع فلا يزيده ذلك إلا طولاً في مدة البلاء وزيادة فيه.

    9- الصبر يُكسب صاحبه الخيرية التي أشار إليها رسول الله ﷺ في حديث هذا البحث «وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»، وبذلك يصبح الصابر من الخيِّرين ويصبح جزءًا من أمة الخير التي أشار إليه الله تعالى بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وهذا مكسب عظيم ومنال كبير لا يتحقق ولا يحصل إلا للمؤمن الصابر لأمر الله تعالى.

    10-الصبر يخفف من وطأة الكربات ويقرِّب الفرج بعدها، ويجعل بعد كل عسر يسرًا، تصديقًا لقوله ﷺ: «وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب«(7).

    وكما قال الشاعر:

    ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجــت وكنــت أظنهــا لا تفـرج

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ

    (1)
    [الزمر: 10]


    (2)
    أخرجه البخاري (ص1003، رقم 5667) كتاب الطب، باب ما جاء في كفارة المرض. ومسلم (ص1223، رقم 2810) كتاب صفات المنافقين، باب مثل المؤمن كالخامة من الزرع.


    (3)
    أخرجه البخاري في الموضع السابق


    (4)
    [البقرة: 264]


    (5)
    [الأعراف: 128]



    (6)
    [آل عمران: 125]


    (7)
    أخرجه أحمد (2/307، رقم 2804). والحاكم في المسند (3/624). وهو حديث صحيح.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #102
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (101)



    مناقضات الصبر

    ليس كل إنسان يصبر على البلاء، وليس كل إنسان لديه قوة الصبر نفسها، فبعضهم يجزع والآخر يصبر ولكن لا يثبت كثيرًا، والبعض الآخر يصبر ويصابر حتى النهاية، كلٌّ حسب درجة إيمانه وإرادته، وحسب نوع البلاء لديه، وقد ذم الله تعالى أولئك القوم الذين لا يملكون أدنى مستويات الإرادة فيجزعون لكل مصيبة أو بلاء، ويريدون أن يعيشوا أبد العمر مرفهين ومنعمين من غير أن يصيبهم ما يعكر صفو سعادتهم ورفاهيتهم، وهذه ليست من سنة الحياة، وقد ذمّ الله تعالى هذا الصنف من البشر بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}(1).

    وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}(2).

    ومن المفيد الإشارة إلى بعض أنوا الجزع التي تناقض حقيقة الصبر وتخالفها، ومنها:

    1-الشكوى لغير الله والإكثار من التأفف من الحال والبلاء، والسب والشتم للمصيبة، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ دخل على أم السائب أو أم المسيب فقال: «ما لكِ يا أم السائب، أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمّى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد«(3).


    وقال علي رضي الله عنه: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك
    (4)
    .


    وهناك فرق بين الشكوى من المرض والإخبار عن المرض، فقد قال النبي ﷺ في وجعه: «وارأساه»(5)، وقول سعد: يا رسول الله قد اشتد بي الوجع وأنا ذو مال، وقول عائشة: وارأساه.

    2-التشاؤم واليأس من رحمة الله تعالى، والركون إلى وساوس الشيطان وما يمليه عليه من همزاته ونزغاته، لقول الله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(6).

    عن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط« (7).



    3-النياحة ورفع الصوت وشق الجيوب ولطم الوجه وحلق الشعر، وأما أشبهها من أفعال الساخطين، لقول الرسول ﷺ: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية«(8).

    وأما البكاء فإنه جائز، لأنه رحمة، ما لم يكن سخطًا أو جزعًا، فعن أنس رضي الله عنه قال: دخلنا على أبي سيف القَيْن، وكان ظئرًا لإبراهيم، فأخذه رسول الله ﷺ فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف، وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف: إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى فقال ﷺ: «إن العين لتدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون«(9).

    ومن مناقضات الصبر أيضًا استمرار الحزن، والذهاب إلى المشعوذين والسحرة، والتداوي بالمحرم، والتكاسل عن الطاعات والواجبات.

    * * *

    وأخيرًا:

    فإن خُلق الصبر الذي أمر الله تعالى التحلي به هو زاد المؤمن في هذه الحياة، في سرّائه وضرّائه، وفي شؤونه الدينية والدنيوية، فهو السلاح الذي يقهر كيد الشيطان فيجعله ضعيفًا، ويمنعه من نفثه وخبثه، ويجعل النفس هادئة مطمئنة وراضية لأمر الله تعالى، وكذلك فإن الصبر هو الزاد الذي يتقوى به المريض على مرضه، كما تقوّى به نبي الله أيوب عليه السلام إلى أن أزاح الله عنه المرض، وهو مفتاح الفرج ومجلي الكربات، فبالصبر وحده تمكّن نبي الله يوسف عليه السلام أن يتحمل ظلم الإخوة وظلمة الجب، وإغراء الشهوة، وغربة السجن، إلى أن قلّده الله وسام الصبر فجعله أمينًا على خزائن مصر، كما أن الصبر هو الخُلق الذي تحلى به رسول الله ﷺ وصحابته الكرام حين أوذوا في سبيل الله وأُخرجوا من ديارهم بغير حق، فجزاهم الله في الدنيا نصرًا وتمكينًا، وفي الآخرة جنة ونعيمًا.

    وهذا شأن المؤمن مع خُلق الصبر في كل أحواله وشؤونه، في حلّه وترحاله، في سرّائه وضرائه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

    (1)
    [الحج: 11]


    (2)
    [المعارج: 19-21]


    (3)
    أخرجه مسلم (ص1128، رقم 2575) كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض.


    (4)
    مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص349.


    (5)
    أخرجه البخاري (ص1243، رقم 7217) كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.


    (6)
    [ يوسف: 87]


    (7)
    سبق تخريجه.


    (8)
    أخرجه البخاري (ص207، رقم 1297) كتاب الجنائز، باب رثاء النبي ﷺ.



    (9)
    أخرجه البخاري (ص108، رقم 1303) كتاب الجنائز، باب إنا بك يا إبراهيم لمحزونون. ومسلم (ص1023، رقم 2315) كتاب الفضائل، باب رحمة الصبيان والعيال.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #103
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (102)



    النظر إلى المستقبل

    عن أبي هُريرَةَ رضِيَ الله عنْهُ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا عَدْوَى وَلاْ طِيَرَةَ وأُحِبُّ الفَأْلَ الصَّالِح»(1).

    عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال:َ «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» قالوا: وَمَا الْفَأْل؟ُ قَالَ: «كَلِمةٌ طيِّبَةٌ»(2).

    هذا حديثان يمثلان منهجًا متميزًا في النظر إلى المستقبل، سواء في النظرة الإيجابية أو النظرة السلبية، وكما هي في المصطلح الشرعي التفاؤل والتشاؤم، وهما مما نتناوله تفصيلاً في هذا المبحث.

    مفهوم التفاؤل والتشاؤم:

    أولاً: التفــاؤل:

    الفأل ضد الطيرة، والجمع فؤول، قال ابن الأثير: يقال تفاءلت بكذا وتفألت، على التخفيف والقلب، قال: وقد أولع الناس بترك همزه تخفيفاً. والفأل: أن يكون الرجل مريضاً فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقول تفاءلت بكذا، ويتوجه له في ظنه كما سمع أنه يبرأ من مرضه أو يجد ضالته(3).

    وبهذا يمكن تعريف التفاؤل: بأنه كل ما ينشط الإنسان ويريحه على شيء محمود من قول أو فعل مرئي أو مسموع.

    مثل: أن يكون الرجل مريضًا فيقول له آخر: يا سالم، أو يكون فقيرًا فيقول له آخر: يا غني، أو أن يرى حديقة، أو يسمع خبرًا سارًّا، أو يرى رجلاً اسمه محمد أو محمود وهو يعمل عملاً معينًا.

    ثانيًا: التشاؤم:

    الشأم والشؤم ضد اليمن، ويقال: رجل مشؤوم على قومه، والجمع مشائيم. وقيل: شؤم الدار ضيقها، وشؤم المرأة أن لا تلد، وشؤم الفرس أن لا ينزى عليها. ويقال: شأم فلان على قومه أي أصابهم شؤم من قبله(4).

    وبذلك يمكن تعريف التشاؤم: بأنه ضد التفاؤل، وهو الاعتقاد بأن وجود شيء معين سبب في وجود ضرر أو حزن أو هم، سواء أكان هذا الشيء مرئياً أم مسموعاً. كأن يعزم على مشروع معين فيقول أحدهم: أنت خسران فيتوقف عن المضي قدماً نحو هدفه، أو يريدُ السفر، فيرى الجوَّ معكراً فيتراجعُ تشاؤماً منهُ بحلولِ مصيبةٍ إذا أقدمَ على السفر وهكذا.

    الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفـال

    ومثل التشاؤم: التطير، نسبة إلى ما كان يفعله أهل الجاهلية من التطير ببعض الطيور، كالبوم، وسواء كان ذلك بطير، أو حيوان، أو بعض الأيام، أو الشهور، أو السنوات، أو الأحوال.

    والتطير مثله مثل التشاؤم، وأصله في الجاهلية: أن أحدهم إذا أراد أمرًا يأتي بطير فيهيجه فإذا طار لليمين، استبشر وعزم، وإذا طار لجهة الشمال، تراجع عن الفعل الذي كان يريده، كالسفر أو الزواج أو التجارة وغيرها. ولم ينحصر التطير في الطيور وحدها، بل تعداها إلى بعض الأيام أو الشهور أو السنوات أو الأحوال.

    وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن التطير بقوله: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ».

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ

    (1)
    أخرجه البخاري (ص1016، رقم 5756) كتاب المرضى، باب الفأل. ومسلم (ص987، رقم 2223) كتاب السلام، باب الطيرة والفأل.


    (2)
    المرجع السابق.



    (3)
    لسان العرب 10 / 167-168.


    (4)
    لسان العرب ج 7 / ص 7.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #104
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (103)



    الحكم الشرعي للتفاؤل والتشاؤم

    تعددت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومن أقوال أهل العلم حول وجوب التفاؤل في الحياة ونبذ التشاؤم والطيرة وغيرها من ألوان اليأس على الإنسان، ومن تلك الأدلة:

    أولاً: من القرآن الكريم:

    1-قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(1).

    2-قولـه جـل وعـلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(2).

    3-قوله تبارك وتعالى عن قوم صالح: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ۚ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}(3).

    أي: ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرًا. وذلك أنهم- لشقائهم – كان لا يصيب أحداً منهم سوءٌ إلا قال: هذا من قبل صالح وأصحابه. فقال: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ ۖ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي: الله يجازيكم على ذلك، بل أنتم قوم تستدرجون فيما أنتم في الضلالة(4).


    4-قوله جل ثناؤه عن قوم فرعون: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}(5).

    أي: إذا جاءهم الخصب والرزق قالوا: أن هذا ما نستحقه، وإذا أصابهم قحط وجدب بسبب موسى ومن معه، فيقول: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ}، أي مصائبهم عند الله(6).

    ثانيًا: من السنة النبوية:

    1-قوله ﷺ: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر«(7).

    2-قوله ﷺ: «لا عَدْوَى وَلاْ طِيَرَةَ وأُحِبُّ الفَأْلَ الصَّالِح«(8).

    3-قوله عليه الصلاة والسلام: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» قالوا: وَمَا الْفَأْل؟ُ قَالَ: «كَلِمةٌ طيِّبَةٌ«(9).

    4-عن عروة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند النبي ﷺ فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهُمّ لاْ يأتِي بالحَسَنَاتِ إلا أنْت ولا يَدْفَعُ السَيّئَاتِ إلا أنْت ولا حَوْلَ وَلاْ قُوّةَ إلا بِكَ«(10).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1)
    [ يوسف: 87]


    (2)
    [الزمر: 53]


    (3)
    [النمل: 47]


    (4)
    تفسير القرآن العظيم 3 / 455.


    (5)
    [الأعراف: 134]


    (6)
    تفسير القرآن العظيم 2 / 303 .



    (7)
    أخرجه البخاري (ص1016، رقم 5757) كتاب الطب، باب الجذام. ومسلم (ص985، رقم 2220) كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة


    (8)
    سبق تخريجه.


    (9)
    أخرجه البخاري (ص1019، رقم 5776).


    (10)
    أخرجه أبو داود (ص556، رقم 3919) كتاب الطب، باب لا عدوى.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #105
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (104)



    الحكم الشرعي للتفاؤل والتشاؤم (2)


    ثالثًا: أقوال الصحابة:

    1- قال ابن مسعود رضي الله عنه: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا. ولكن يذهبه الله بالتوكل»(1). أي: ما منا من أحد إلا ويصاب بهذا التطير.

    2- قال ابن عمر رضي الله عنهما: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ! قالوا فما كفارة ذلك؟؟ قال: أن تقولوا: اللهم لا خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك»(2).

    خلاصة ذلك كله أن الطيرة منهي عنها، وأنها باب من أبواب الشرك فكأن المتطير جعل غير الله متحكماً.

    رابعًا: أقوال أهل العلم:

    1-قال ابن القيم رحمه الله: « وسِرُّ هذا أن الطيرة إنما تتضمن الشرك بالله تعالى، والخوف من غيره، وعدم التوكل عليه والثقة به، كان صاحبها غرضاً لسهام الشر والبلاء، فيتسرّعُ نفوذها فيه لأنه لم يتدرَّع من التوحيد والتوكل بجُنة واقيةٍ، وكل من خاف شيئاً غير الله سُلِّط عليه، كما أن من أحب مع الله غيره عُذِّب به، ومن رجا مع الله غيره خُذِل من جهته. وهذه أمورٌ تجربتها تكفي عن أدلَّتها»(3).

    وقال كذلك: «فأوضح ﷺ لأمته الأمر، وبيّن لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامةً، ولا فيها دلالةً، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، لتطمئن قلوبهم، ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السموات والأرض، وعَمَر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه، والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته، فقطع ﷺ عَلَقَ الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقةٌ منها، ولا يتلبّسوا بعملٍ من أعمال أهله البتة»(4).

    2-قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله: «الفأل ليس من الطيرة لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما يتوجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا فبينهما فرق؛ لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطيَّر به وضعف توكله على الله ورجوعه عما همّ به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطا، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما»(5).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ

    (1)
    أخرجه أبو داود (ص555، رقم 3310) كتاب الطب، باب في الطيرة. والترمذي (ص390، رقم 1614) كتاب السير، باب ما جاء في الطيرة. وابن ماجه (ص510، رقم 3538) كتاب الطب، باب كان يعجبه الفأل. قال الترمذي: حديث صحيح.


    (2)
    أخرجه أحمد (14/286، رقم 6748).


    (3)
    مفتاح دار السعادة ج 3 / ص 340.


    (4)
    مفتاح دار السعادة 3 / 281-282.


    (5)
    القول المفيد 2 / 89 – 90.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #106
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (105)



    صور من التفاؤل والتشاؤم

    أولاً: صور من التفاؤل:

    قال ابن القيم – رحمه الله -: «كانت العرب تتفاءل فيسمون اللديغ سليماً«

    فكانوا يسمون غالب، شجاع، وغلاب، ومهند، وحسام، تفاؤلا بالشجاعة. وسعيد، وسعد، تفاؤلاً بالسعادة. وأسد، وليث، وأسامة، تفاؤلاً بالقوة. الأسماء هي قوالب للمعاني، فالأسماء تؤثر بشكل كبير على المسميات، والمسميات تتأثر بالاسم من حيث القبح والحسن، كما قيل:


    وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه

    وكان ﷺ يستحب الاسم الحسن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليه بريدًا أن يكون حسن الاسم حسن الوجه، وكان يأخذ المعاني من أسمائها في المنام واليقظة، كما رأى أنه وأصحابه في دار عقبة من رافع، فأتوا برطب من رطب ابن طاب، فأوله بأن لهم الرفعة في الدنيا والآخرة، والعاقبة في الآخرة، وأن الدين الذي قد اختاره الله لهم قد أرطب وطاب(1).

    وعن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي ﷺ: «قد سهل لكم أمركم«(2).

    وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يسمع: يا نجيح، ويا راشد، إذا خرج لحاجته.

    وكذلك يكون التفاؤل في الأحوال، والأمكنة كالتفاؤل بالمدن وبعض المواقع المحددة كالحرمين الشريفين، وهكذا.

    ثانيًا: صور من التشاؤم:

    قال ابن القيم رحمه الله: «إن طائرهم ها هنا هو السبب الذي يجيء فيه خيرهم وشرهم، فهو عند الله وحده، وهو قدَره وقسمه، إن شاء رزقكم وعافاكم، وإن شاء حرمكم وابتلاكم«(3).

    ومن صور التشاؤم:

    - إطلاق بعضهم لمن يتشاءمون منه اسم (جوناس)، وهذا في غاية القبح، لأنه أضاف إلى وزر التشاؤم بالشخص التشاؤمَ بنبي من أنبياء الله تعالى وهو يونس بن متى عليه السلام، لأن أصل كلمة (جوناس) هو (يونس)، والكفار يتشاءمون منه لأن القرعة وقعت عليه لما كان في السفينة وأرادوا أن يلقوا بواحد منهم.

    - كما أن العرب كانت تتشاءم من الغراب لما يوحي به من الغربة لا سيما إذا كان أسود اللون، وكذلك الهامة وهي «البومة«.

    - ومن الشهور كانت تتشاءم من: صفر.

    - ومن الأيام: كيوم الأربعاء وليلة الأحد.

    - ومن الأشخاص: كالأعور والأحول.

    ومن الأرقام: حيث كانت النصارى تتشاءم من الرقم (13) أما أهل البادية فكانوا يتشاءمون من الرقم(7).

    ومن صور التشاؤم: الذهاب إلى الكهنة والمنجمين والاستماع إلى دجلهم وكذبهم حول ما يعاني منه بعض الناس من المشكلات، فيبشروهم ببعض الأحداث ويحذرونهم من أخرى.

    ومن التشاؤم: تفسير ما يصدر من الإنسان من أحاسيس أو حركات غير إرادية، مثل رفيف العين: حيث يعدّونها رجوع المسافر، وطنين الأذن: يأولونها بوجود أحد يغتاب هذا الشخص ويطعن فيه.

    ومن التشاؤم: قراءة الأبراج في الجرائد والمجلات حسب الاسم وتاريخ الميلاد، والتصديق بما فيها من بشائر أو محاذير.

    ومن التشاؤم أيضًا: اللجوء إلى بعض القنوات الفضائية التي تروج للسحر والشعوذة وتصديق ما يبث فيها من الدجل والكذب وبناء الأحكام على ذلك.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ



    (1)
    زاد المعاد 2 / 336-337.




    (2)
    أخرجه البخاري (ص448، رقم 2732-2732) كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد.




    (3)
    مفتاح دار السعادة (2/233).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #107
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (106)



    أسباب ظهور التشاؤم عند الإنسان

    يمكن الإشارة إلى أهم الأسباب والعوامل التي تضع الإنسان في أسر التشاؤم وتفرض عليه واقعًا مريرًا من الإحباط واليأس والقلق في الحياة، ومن هذه الأسباب:

    1-ضعف اليقين بالله تعالى وفق التصور الإسلامي الصحيح على أنه الخالق والمدبر في هذا الكون، فما تهب من نسمة ولا تسقط من ورقة ولا يتحرك كائن إلا بعلمه وإرادته.

    2-غياب حقيقة التوكل على الله في واقع الناس وعدم التفاعل معها بصورة عملية.

    3-ضعف الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره الذي هو ركن من أركان الإيمان.

    4-نسيان نعم الله سبحانه وتعالى، في نفسه وأهله وماله، أو جحودها في كثير من الأحيان.

    5-الجهل بالدين وأحكامه وضعف العقل وقلة البصيرة.

    6-الجبن والخوف من الآخرين ومن الظروف التي يمر بها الإنسان.

    7-قلة ذكر الله سبحانه وتعالى والبعد عن كتابه العزيز وتدبر آياته.

    8-سوء الظن بالله جل وعلا وفتور العلاقة بين العبد وخالقه.
    9-سوء الظن بالآخرين والنظر إلى ما بأيديهم من نِعَم ونجاحات



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #108
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (107)



    معينات صناعة التفاؤل

    يمكن الاستعانة ببعض الوسائل القولية والفعلية لإيجاد التفاؤل والأمل في النفس، ومن أهم هذه الوسائل:

    1- النية الصادقة والخالصة لله تعالى، وأن ما تسعى إليه من وضع مشاريع أو خطط للوصول إلى أهداف سامية وغايات نبيلة إنما هي من أجل رضى الله تعالى وامتثالاً لأمره في العمل الصالح، حتى تتحقق المصلحة الكبرى للمجتمع والأمة، وأما ما يتبع ذلك من ثمرات مادية فإنما هي جزء من الجزاء الدنيوي، فضلاً عن الثواب الجزيل في الآخرة.

    2- تجنّب الحسد والنظر إلى ما عند الآخرين، بل شارِك السعيد في سعادته على ما هو فيه، وآسي المبتلى على مصيبته وشاركه فيها، وبارك للناجح في تفوقه ونجاحه، يقول تبارك وتعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ}(1).

    3- حسن الظن بالناس، وعدم محاسبة نواياهم، وعدم مصادرة آرائهم إذا خالفوك ضمن الضوابط الشرعية والعلمية، حتى يستفيد الجميع من وجهات النظر المختلفة، لأن كثرة الآراء والمقترحات تثري الموضوع المطروح أو الحدث النازل بإمكانية الوصول إلى نتيجة إيجابية ترضي جميع الأطراف ويعم الخير في كل الميادين، وبذلك يظهر التفاؤل الجماعي لدى جميع أبناء المجتمع. أما الأحادية في الطرح وإقصاء المخالف وعدم احتوائه فإنه من أسباب التمزق والنزاع وبالتالي ظهور النظرة السوداء إلى الواقع وإلى الأشياء في الخارج.

    4- الاهتمام بالمظهر والجسم من حيث اللبس والأناقة والنظافة، حتى لا يرى فيك الناس تشاؤمًا وتكاسلاً وحبوطًا، فالهيئة الحسنة والأناقة تدفع الإنسان نحو التفاؤل والأمل كما تبث هذه الروح في نفوس الآخرين أيضًا.

    5- استقبال الناس والسلام عليهم والاستماع إلى أحاديثهم بأريحية وابتسامة، ومناقشتهم بأحسن الحديث وأطيب الكلمات، لأن القلوب جبلت على قبول ذلك ولفظ ضدها من العبوسة والضيق على الوجه والغلظة والقساوة في الكلام.

    وكما قال الشاعر:

    قلتُ ابتسم يكفي التجهّم في السّما *** لن يرجعَ الأسفُ الصِّبا المتصرِّما

    قال: السماءُ كئيبة وتجهّما *** قال: الصِّبا ولّى فقلت له ابتسم

    6- مرافقة المتفائلين والناجحين في الحياة، والابتعاد عن رفقة الفاشلين والمتشائمين في الحياة، لأن المحيط الخارجي له دور كبير على حال النفس سلبًا أو إيجابًا، ومرافقة المتفائلين والاختلاط بهم والتنافس المحمود معهم يدفع بالطرفين نحو النجاح والنظر إلى الحياة بمنظار مليء بالأمل والخير والسعادة، وقد أرشد عليه الصلاة والسلام الأمة إلى هذا المَعْلم المهم حين قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل«(2).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

    (1)
    [النساء: 32]


    (2)
    أخرجه أبو داود (ص683، رقم 4833) كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس. والترمذي (ص542، رقم 2378) كتاب الزهد، باب الرجل على دين خليله. وأحمد (2/334، رقم 8398). قال الترمذي: حسن غريب.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #109
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (108)



    آثار التفاؤل

    للتفاؤل آثار عظيمة وكبيرة على حياة الإنسان من جوانبها المختلفة، النفسية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية وغيرها، ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الآثار بما يلي:

    1- التفاؤل يعطي الإنسان راحة نفسية دائمة وشعورًا بالاستقرار يجعله يتحرك في الحياة بخطوات مدروسة وناجحة.

    2- يعطي التفاؤل للإنسان الثقة بالنفس كما يمنحه الهمة العالية ويفتح أمامه آفاقًا واسعة، وبالتالي تكون سبل النجاح أمامه مذللة وميسرة.

    3- التفاؤل يمنح الإنسان صحة وعافية في الجسم والبدن كما تقول الدراسات، ويمكن بعدها أن يقوم بأي عمل دون خوف من كمّه ونوعه.

    4- الإنسان المتفائل يكون أقدر من غيره على تحمل المسؤوليات المختلفة، في الإدارة وتنفيذ المشروعات، والقيادة والسياسة وغيرها.

    5- التفاؤل يصنع في الإنسان روح الشجاعة والإقدام، فلا يفكر في النتائج السلبية بقدر ما يفكر في الجانب الإيجابي، فإذا نجح شكر الله وأثنى عليه، وإذا أخفق صبر على ذلك وأعاد الكرّة ثانية وثالثة أو تَحَرَّكَ في مسارات أخرى لتحقيق هدفه المنشود.

    6- التفاؤل يمنح صاحبه الإتقان في العمل، وبالتالي جودة عالية في الإنتاج مع زيادة في الكمية وبأقل الأثمان والخسائر.

    7- التفاؤل يمنح صاحبه العفو والصفح ويمنعه من الثأر والانتقام، وهذا يعني أنه يصنع في الإنسان بُعدًا في النظر وإشراقة للمستقبل، حيث لا ينظر المتفائل إلى القريب العاجل وإنما إلى البعيد الآجل، وقد أعطى رسول الله عليه الصلاة والسلام العالمين درسًا في هذا الجانب، فعن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ حدثته أنها قالت للنبي ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليّ ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي ﷺ: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا«(1).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

    (1)
    أخرجه البخاري (ص539، رقم 3231) كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى. ومسلم (ص800، رقم 1395) كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي ﷺ من أذى المشركين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #110
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (109)



    آثار التشاؤم

    كما أن للتفاؤل آثارًا إيجابية في حياة الإنسان بجوانبها المختلفة، فإن للتشاؤم آثارًا عكسية وسلبية على تلك الجوانب، ومن أهم هذه الآثار:

    1- التشاؤم طريق يقود إلى الشرك بالله تعالى، ولا شك أنه من أعظم الأضرار والآثار، لأنه يدفع صاحبه إلى اتباع المسالك المحظورة مثل اللجوء إلى السحرة والمشعوذين والدجالين لإخراجه من الحال التي هو فيها، وبالتالي تنفيذ ما يؤمر به من هؤلاء من الكفر والشرك وارتكاب الكبائر الأخرى.

    2- التشاؤم يجعل من صاحبه أسيرًا للوساوس الشيطانية، حتى يصاب بالهوس، حيث يفسر كل شيء تفسيرًا سلبيًا فلا يرى شيئًا إلا بمنظار أسود، يقول ابن القيم رحمه الله:»واعلم أن من كان مُعتنياً بها قائلاً بها ـ يعني الطيرة ـ كانت إليه أسرعَ من السّيل إلى منحدره، وتفتَّحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويُعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكّد عليه عيشه؛ فإذا سمع سفرجلاً، أو أُهدي إليه تطيّر به، وقال: سفرٌ وجلاءٌ، وإذا رأى ياسميناً أو سمع اسمه تطيّر به، وقال: يأسٌ ومينٌ، وإذا رأى سوسنة أو سمعها، قال: سوءٌ يبقى سنةً، وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشل أو أعمى أو صاحب آفةٍ تطيّر به وتشاءم بيومه«(1).

    3- التشاؤم: سبب في ضعف البصيرة وفساد الرأي، يقول الماوردي رحمه الله: «اعلم أنه ليس شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة، ومن ظن أن خُوار بقرة أو نعيب غراب يرد قضاء أو يدفع مقدوراً فقد جهل«(2).

    4- يرى المتشائم أن جميع أسباب الشقاء انعقدت فيه، وأنه المبتلى الوحيد على ظهر الأرض، وأن جميع من حوله من الناس يعيشون في سعادة دائمة من غير حزن ولا هم ولا نصب، فيتناسى أن الناس جميعًا يبتلون بالمصائب والمتاعب وأفضلهم من يتجاوزها بتفاؤل وتوكل على الله تعالى، يقول تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}(3).

    5- التشاؤم يقضي على معاني المحبة والإخاء بين أبناء المجتمع ويزرع مكانها الشك والتنافر، وذلك من نظرته السوداء إليهم والتباكي لحاله والحسد على حالهم.

    6-التشاؤم يساعد على ضعف البدن وإهماله لأن صاحبه يشغل جلّ وقته في التفكير بالأوهام والخيالات، فلا نفس له في الأكل أو الشراب أو الترويح أو الرياضة، فضلاً عن معالي الأمور والتفكير فيها.

    7-التشاؤم يجعل صاحبه دائمًا في آخر الركب، ويوقفه عن المضي نحو البناء والتنمية والإنتاج.

    8-التشاؤم يرمي صاحبه نحو الانطوائية والعزلة ومفارقة الأهل والأقارب والمجتمع الذين ينتمي إليه.

    9-التشاؤم يدفع المتشائم أحيانًا إلى كبائر الإثم من تعاطي المخدرات وتناول المسكرات للخروج من الحالة التي يعانيها، وبل إنه يؤدي أحيانًا إلى الانتحار كحلٍّ نهائي لمشكلته، الأمر الملاحظ في كثير من المجتمعات التي لا تدين بالإسلام.

    10-التشاؤم يقلّب المفاهيم والتصورات عند صاحبه، حيث يرى الأبيض أسودًا، والنور ظلمة، والحسن قبحًا، والصديق عدوًا، وهكذا.

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

    (1) مفتاح دار السعادة ج 3/ 272.

    (2) أدب الدنيا والدين ص 376.


    (3) [ البلد: 4]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #111
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (110)



    علاج التشاؤم

    تبيّن لنا من خلال ما سبق أن التشاؤم مرض نفسي ناجم عن مجموعة عوامل تؤول جميعها إلى خلل في علاقة الإنسان بربه وانقطاع وغفلة عن موارد القوة التي تعين المتشائم على الخروج من أزمته، ومن أهم العلاجات التي تعيد المتشائم إلى حالته الطبيعية بل تجعله دائم التفاؤل ما يلي:

    1-تقوى الله تعالى في السر والعلن، وذلك بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه، حتى تنفرح الأزمات وتذلل الصعاب ويجعل الله بعد كل ضيق فرجًا ومخرجًا، يقول تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}(1)، ويقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}(2)
    2-الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره، وعدم التضجر والتملل من أمر الله، فما يدري الإنسان مكامن الخير والشر، فربما يرى الشر في شيء وهو خير له وربما يرى الخير في آخر ويكون الشر بعينه، يقول تبارك وتعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(3)
    وصدق الشاعر حين قال:
    ولا تبيتنّ إلا خالي البال *** يبدِّل الله من حال إلى حال
    دع المقادير تجري في أعنتها *** ما بين غمضة عين وانتباهتها
    3-كثرة ذكر الله تعالى وحمده واسترجاعه والثناء عليه، خاصة حين يوسوس الشيطان للإنسان بأسباب التشاؤم واليأس، بل إن ذكر الله تعالى يحوّل اضطراب النفس وقلقه إلى روضة من الأمان والسكينة، يقول تبارك وتعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(4) فإن الله تعالى يتولى عباده ويحميهم من نزغات الشياطين وهمزاتهم إذا لجأوا إليه، ولن يجعل للشياطين عليهم سبيلا، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}(5)، ويقول: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(6)
    4-الصبر والاحتساب أمام المشقات المختلفة التي يتعرض لها الإنسان في رحلة الحياة، والتي تُعدّ بمثابة محطات اختبارية لتكوين شخصية الإنسان الناجح وصناعة التفاؤل عنده، وهو زاد المؤمنين وسلاح الناجحين والمتفوقين، لما يترتب عليه من خير في الدنيا وفلاح ونجاة في الآخرة، يقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(7)
    5-الثقة بالله سبحانه وتعالى وحسن الظن به، وأنه الرحمن الرحيم بعباده، كل ذلك يصنع التفاؤل عند الإنسان ويحرره من أغلال التشاؤم والنظرة السوداء إلى المحيط الخارجي، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، قال عليه الصلاة والسلام: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا وإن تقرَّبَ إلي ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة«(8).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
    (1) [الطلاق: 2]
    (2) [الطلاق: 4]
    (3) [البقرة: 216]
    (4) [الرعد: 28]
    (5) [الحجر: 42]
    (6) [فصلت: 36]
    (7) [البقرة: 155-156]
    (8) أخرجه البخاري (ص1273، رقم 7405) كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَيُحَذركم اللَّهُ نَفْسَهُ} ومسلم (ص1166، رقم 575) كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #112
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (111)



    علاج التشاؤم (2-2)


    6-الاستخارة والاستشارة قبل الشروع في أي أمر، وكما قيل: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار.

    عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب, اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني قال ويسمي حاجته«(1).

    قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبيّن ما يحبه الله ويرضاه، وما يكره وينهى عنه« (2).

    7-التوكل على الله في جميع الشؤون والأحوال، لأن التوكل الحقيقي يصنع التفاؤل عن صاحبه ويجعله يتطلع دائمًا إلى الأفضل ويسعى لذلك دون كلل أو ملل، بل إن التوكل على الله تعالى يفرج عن الإنسان الهموم ويخفف عنه الأثقال، لأنه يستند إلى خالق الكون ومدبره، يقول تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3).

    ولمعرفة حقيقة التوكل على واقع النفس حين يحاصرها العنت والمشقة، تأمل قول ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(4): قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(5)(6).

    8-قراءة القرآن والاستماع إليه: كما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}(7). لما في ذلك من تفريج للهموم والغموم وإعطاء القوة والنشاط لصاحبه، لا سيما إذا اقترن ذلك بتدبر آيات القرآن والتفكر فيها والتفاعل معها، يقول تبارك وتعالى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ}(8). وقد جاءت آيات كثيرة في شأن الحث على تلاوة كتاب الله والإمعان في آياته وتدبر في معانيها وحقائقها.

    كما قال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف»(9). وقال ﷺ: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه»(10).

    ثم إن تلاوة القرآن الكريم وتدبره – بالإضافة إلى فضل ذلك – يعين المسلم على صناعة التفاؤل من خلال ما يقرأ من قصص الأنبياء وأحوالهم مع أقوامهم وكذا ما أمر به نبي الله محمد ﷺ.

    9-الدعاء: الذي هو لبّ العبادة والعرى التي توصل الإنسان بربه، حيث يبث من خلاله شكواه ونجواه، ويطلب منه العافية والمعافاة، بشرط أن يكون هذا الدعاء مشروعًا وليس محرمًا، فعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ: «من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك»، قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال: «أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك»(11).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

    (1)
    أخرجه البخاري (ص186، رقم 1162) كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى.


    (2)
    مجموع الفتاوى 68/ 23.


    (3)
    [الطلاق: 3]


    (4)
    [آل عمران:173]


    (5)
    [آل عمران:173]


    (6)
    أخرجه البخاري (ص777، رقم 4563) كتاب التفسير، باب إن الناس قد جمعوا لكم.


    (7)
    [المزمل: 4]


    (8)
    [النمل: 91-92]


    (9)
    أخرجه الترمذي (ص655، رقم 2910) كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ القرآن ما له من الأجر. والحاكم في المستدرك (1/555، رقم 540). قال الترمذي والحاكم: صحيح.


    (10)
    أخرجه مسلم (ص325، رقم 1874) كتاب صلاة ا لمسافرين، باب فضل قراءة القرآن.


    (11)
    أخرجه مالك في الموطأ (2/934، رقم 1672) كتاب صفة صلاة النبي، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب. وأحمد (2/220، رقم 7045). وهو حديث حسن.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #113
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (112)



    التفاؤل والعمل

    ولعلنا نعرج قبل النهاية إلى بيان أن التفاؤل ليس نظرة سلبية مقعدة عن العمل، بل يكون مع العمل والجدّ فيه ومتابعته وعدم التقصير فيه، فالرسول ﷺ – في جميع ما أصابه – لم يتوقف عن العمل لحظة من اللحظات فيما كلفه الله تعالى به، بل عمل وواصل العمل، وجدّ واجتهد حتى نصره الله تعالى، ولذا فعلى المسلم ألا يقعد ويتكاسل، ويرقد ويقول بعد ذلك أنني متفائل، فالحيوانات تعمل، وتحصل على النتيجة، فالطير تغدو خماصًا – يعني جياعًا – وتروح بطانًا كما أخبر النبي ﷺ، فالإنسان أولى.

    ومن هنا فالمتفائل الحق هو العامل بحق:

    فالطالب عليه المذاكرة، ومن ثم يتفاءل بالنجاح.

    والتاجر يبيع ويشتري، ومن ثم يتفاءل بالمربح.

    والمريض يتداوى ويتوكل على الله، ومن ثمّ يأمل الشفاء.

    والمصاب يتوكل على الله ويسترجع ولا يتسخط، ومن ثمّ تنزل عليه السكينة.

    والوالد يعمل بأسباب التربية، ويأمل صلاح ذريته.

    والمسؤول يعمل بأسباب نجاح عمله، ويأمل بالوصول إلى نتائجه المرجوة، وهكذا.

    * * *

    وأخيرًا:

    فإن التفاؤل محبوب ومطلوب، والتشاؤم مذموم وممنوع، ولكل منهما آثاره على حياة صاحبه، فلا فشل ولا خيبة ولا خسران مع التفاؤل، ولا نجاح ولا تفوق ولا نجاة مع التشاؤم واليأس، وكلما اقترب الإنسان من ربّه وقدّم بين يديه الأعمال الصالحة من قراءة للقرآن وذكر ودعاء وإنفاق في سبيل الله وقضاء حوائج الناس والسهر على مصالح المسلمين كلما زاده الله تعالى تفاؤلاً ونجاحًا وأغدق عليه من النعم ما لا يُحصى، وكلما ابتعد الإنسان عن ربّه، وغفل عن ذكره، وأهمل فرائضه، كلما تمكّن الشيطان من نفسه وجعلها أسيرة لهمزاته ووساوسه، فيصيبه التشاؤم واليأس من رحمة الله تعالى، فلا يرى الدنيا بالمنظار الحقيقي حيث الرياض والرياحين في أرجائها، والحب والخير يسود بين أبنائها، ورحمة الله تعالى قريبة منها في وقت وآن، وإنما يرى هذه الدنيا عكس ذلك، مصائب ومآس، وحقد وكراهية، وشتات وتمزق، وفوق كل ذلك عذاب من الله محدق بهم في كل لحظة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #114
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (113)



    الرضا بالقضاء

    روى الإمام أبو داود رحمه الله في سننه قال:

    حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ الْهُذَلِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ رَبَاحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لابنه يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك،َ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُب؟ُ قَال:َ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي»(1).

    قضاء الله وقدره نافذ في هذه الحياة، وقد قدّرت الأشياء وحصولها قبل خلق السموات والأرض، والإيمان بذلك والرضى به والعمل وفق هذا الإيمان من أركان الإيمان، وأصول السعادة في الدنيا والآخرة، ونبدأ بالتعريفات.

    مفهوم القضاء والقدر:

    القضاء في اللغة:

    قضى: قَضْيًا، وقضاءً، وقضيَّةً: حكم وفصل. ويقال قضى بين الخصمين، وقضى عليه، وقضى له، وقضى بكذا(2).

    هذا وقد جاء (قضى) ومشتقاتها في اللغة بمعان أخرى، كما في الآيات القرآنية الآتية:

    1-بمعنى الأمر: في قوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا}(3).

    2-بمعنى الأداء: في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}(4).

    3-بمعنى الموت: في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}(5).

    وبذلك يمكن تحديد مفهوم القضاء في اللغة: بأنه إحكام الشيء وإتمام الأمر، وهذا هو أصل معنى القضاء، وإليه ترجع جميع معاني القضاء الواردة في اللغة(6).


    القَدَرُ في اللغة:

    قدر: «القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته وهو بتسكين الدال وفتحها مع فتح القاف«(7).

    وقد ورد في القرآن الكريم معنى القدر أو مشتقاته، فقد جاء بمعنى التضييق كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}(8).

    وجاء بمعنى الطاقة كما في قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ}(9).

    كما يأتي بمعنى التقدير والقياس كما جاء في قول النبي ﷺ في رؤية الهلال: «فإن غُمّ عليكم فاقدروا له«(10).

    فهناك توافق وتقارب بين معنى القضاء والقدر في اللغة.

    القضاء والقدر في الشرع:

    أما في الاصطلاح فإن القضاء والقدر هو: «تقدير الله الأشياء في القدم، وعلمه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها«(11).

    منزلته من الدين:

    هو ركن من أركان الإيمان حيث لا يكتمل الإيمان إلا به لقول النبي ﷺ في حديث جبريل عليه السلام حين سئل عن الإيمان: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره«(12).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

    (1)
    أخرجه أبو داود (ص664، رقم 4700) كتاب السنة، باب في القدر. والبيهقي في سننه الكبرى (10/104، رقم 214) كتاب الشهادات، باب شهادة أهل الأهواء. والطبراني في مسند الشاميين (1/58، رقم 59). حديث صحيح.


    (2)
    المعجم الوسيط، مادة (قضى)، ص742.


    (3)
    [الإسراء: 23]


    (4)
    [البقرة: 200]


    (5)
    [القصص: 15]


    (6)
    مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني ص422.


    (7)
    الصحاح للجوهري 2/ 786، معجم مقاييس اللغة 5/ 62.


    (8)
    [الفجر: 16]


    (9)
    [البقرة: 236]


    (10)
    أخرجه البخاري (ص306، رقم 1906) كتاب الصوم، باب قول النبي ﷺ: إذا رأيتم الهلال. ومسلم (ص439، رقم 1080) كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان برؤية الهلال.



    (11)
    العقيدة الواسطية لابن تيمية 21.


    (12)
    أخرجه مسلم (ص24-2، رقم 93) كتاب الإيمان، باب الإيمان بالإسلام والإحسان.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #115
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (114)



    مراتب القدر

    أولاً: العلم:

    وهو الإيمان بأن الله تعالى يعلم بالأشياء قبل نشوئها وخلقها، ويعلم حالتها الحاضرة وما تؤول إليه في المستقبل، لقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ}(1)، وقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(2).

    ومن أنكر هذه المرتبة من العلم فهو كافر لأنه بذلك يطعن في كمال الله تعالى، لأن غياب أي شيء عن علمه جل شأنه يعني الجهل بذلك الشيء وسبحان الله عن ذلك علوًا كبيرًا، يقول تبارك وتعالى على لسان موسى عليه السلام حين سأله: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ . قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}(3).

    ثانيًا: الكتابة:

    هي الإيمان بأن الله تعالى كتب ما علمه بعلمه القديم في اللوح المحفوظ، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى الأبد«(4).

    ويقول الله تبارك وتعالى في تأكيد هذه الحقيقة: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}(5).

    ثالثًا: المشيئة:

    هي الإيمان بأن كل ما في الكون يجري بمشيئة الله وإرادته لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}(6). وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(7).

    رابعًا: الخلق والإيجاد:

    هو الإيمان بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء وموجده، فهو الخالق الأوحد وكل ما دونه مخلوقات من صنعه جل شأنه، وكل ما ينتج من هذه المخلوقات من آثار وأفعال هي أيضًا مخلوقات لله جل وعلا، يقول تبارك وتعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(8).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ



    (1) [يونس: 61]



    (2) [الأنعام: 59]



    (3) [طه: 51-52]



    (4) أخرجه الترمذي (ص757، رقم 3319) كتاب التفسير، باب سورة ص. وأحمد (1/307، رقم 2804). والحاكم في المستدرك (2/540، رقم 3840). وهو صحيح.




    (5) [الحديد: 22]



    (6) [الإنسان: 30]



    (7) [هود: 118]




    (8) [الرعد: 16]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #116
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (115)



    أنواع التقدير
    ويمكن تقسيم التقدير إلى أربعة أقسام:
    1- التقدير العام: وسبق بيانه وهو الذي يتعلق بكل شيء في هذا الكون، من جماد وكائنات، وعلم الله تعالى بها وحدوثها وكتابة مقاديرها. وهذا التقدير ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ قبل خلق الخلق كلهم.
    2- التقدير العمري: وهو الذي يتعلق بأعمار الناس وأطوار الخلق التي يمرون بها، وأفعالهم وأرزاقهم في مراحل حياتهم ومن ثم تحديد آجالهم وانقطاع أرزاقهم بها.
    وهو ما بيّنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه ابن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها«(1).
    3- التقدير السنوي: وهو أمر الله تعالى المحكم من الآجال والأرزاق في ليلة القدر من كل سنة حين يقضى من اللوح المحفوظ إلى كتبة الملائكة، وهي آجال وأرزاق لا تتبدل ولا تتغير، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ . فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ . أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(2).
    4- التقدير اليومي: وهذا هو قدر الله تعالى الأزلي الذي يظهر كل يوم، من خلال حركة الإنسان في الأفعال والأقوال، وما يترتب عليها من رزق، أو حرمان، ومن مغفرة أو عذاب، ومن موت أو حياة، وغيرها من الآجال التي يظهرها الله تعالى في يوم واحد من عمر هذا الإنسان، وهي بالأصل آجال مكتوبة منذ الأزل، يقول تبارك وتعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}(3).
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
    (1) أخرجه البخاري (ص554، رقم 6594) كتاب القدر، باب القدر. ومسلم (ص1151، رقم 6723) كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه.
    (2) [الدخان: 3-5]

    (3) [الرحمن: 29]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #117
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (116)



    الإرادة وأنواعها

    ظن كثير من الناس أن إرادة الله تعالى للأشياء تقتضي محبته لها وبذلك فإن كل أعمال الخير داخلة في هذه الإرادة، وأن أعمال الشر التي لا يحبها الله تعالى تكون خارجة عن هذه الإرادة، وهذا تفسير خطير يهزّ قواعد العقيدة الصحيحة، لأن هذا التصور يخرج كثيرًا من الأشياء والأفعال خارج إرادته جلّ وعلا، الأمر يناقض صفة المشيئة له وكذلك يؤدي إلى الظن بوجود إرادات أخرى في هذا الكون الذي هو من صنع الله وحده وتحت مشيئته وقدرته، ولذا لا بد من بيان حقيقة الإرادة وأنواعها لإزالة هذا الغبش العقدي في أذهان الناس وبيان العقيدة الصافية لهم.

    فقد بيّن كتاب الله تعالى وسنة نبيّه ﷺ نوعين من الإرادة، الكونية والشرعية:

    أولاً: الإرادة الكونية:

    فهي إرادة عامة تشمل كل شيء، في هذا الكون سواء كان مما يحبّه الله تعالى أو مما لا يحبه، كالخير والشر، والطاعة والمعصية، والفقر والغنى، والصحة والعافية وغيرها، فكل هذه الأشياء داخلة في الإرادة الكونية التي أراد الله تعالى أن تكون قدرًا واقعًا حتمًا، يقول الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}(1).

    ويقول تبارك وتعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}(2).

    ويقول جل شأنه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}(3).

    وغيرها من الآيات التي تدل على أن هناك إرادة كونية كبرى تقود المخلوقات والموجودات ولا يخرج عنها شيء أبدًا مهما كان نوع هذا الشيء سواء كان مما أمر الله به أم مما لم يأمر به، كالطاعة والمعصية وغيرها.

    ثانيًا: الإرادة الشرعية أو الدينية:

    وهي ما أراده الله تعالى لعباده من أحكام وتشريع أنزله في كتابه وسنة نبيه ﷺ، من أمر ونهي، وهي مختصة بالأمور التي يحبها الله تعالى، فالله يأمر عباده أن يكون مؤمنين قائمين بفرائضه وأحكامه وهذا أمر محبوب إليه جلّ وعلا، ولكن كثير من الناس لا يستجيبون لهذا الأمر فيعصونه ويعرضون عنه، وهذه هي الإرادة الشرعية، كما في قوله جلّ وعلا حين يأمر عباده بالخير والطاعات وينهاهم عن طرق الغواية والشر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(4).

    ولا تقتضي هذه الإرادة حصول الشيء ووقوعه، وإلا فإن الناس جميعًا كانوا مسلمين ولم يكن هناك غيرهم من الملل والنحل الكافرة والمشركة والمنحرفة، وبالتالي ما كانت هناك إلا الجنة وحدها دون النار والحساب.

    ووجود هذه الإرادة ضرورة شرعية لحدوث التنافس والتسارع في تقديم الطاعات والأعمال الصالحة بين الناس، يقول تبارك وتعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ}(5).

    وبالتالي يمكن بيان بعض الأمور المهمة التي تفصل هاتين الإرادتين عن بعضهما:

    1-الإرادة الكونية لا بد من وقوعها، أما الشرعية فلا يجب وقوعها.

    2-الإرادة الكونية تتعلق بما يحبه الله تعالى وبما لا يحبه، كالطاعة والمعصية، أما الشرعية فتكون حصرًا مما يحبه الله جل وعلا.

    3-الإرادة الكونية تتعلق بربوبية الله تعالى، والإرادة الشرعية تتعلق بألوهيته جل وعلا وشريعته.

    وفي الحالتين تكون إرادة الله تعالى لحكمة لا يعلمها إلا هو، تنصب في آخر المطاف لصالح العباد، يقول تبارك وتعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(6).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ

    (1) [الأنعام: 125]

    (2) [النساء: 78]

    (3) [البقرة: 253]


    (4) [النحل: 90]

    (5) [الليل: 5-10]

    (6) [المائدة: 50]




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #118
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (117)

    الإنسان بين الاختيار والإجبار
    الإنسان يعيش بين نوعين من الإرادات، الإرادة الإلهية الكبرى وإرادته الصغرى التي تتحرك وفق الإرادة الإلهية، وبذلك يكون الإنسان مسيَّرًا في أعماله التي يقدر عليها، ويحاسب على هذه الأفعال، سواء في الدنيا أو الآخرة، وهي الأعمال التكليفية المنوطة بسن البلوغ والعقل، أما الأمور الأخرى التي هي خارجة عن إرادته وطاقته فلا يحاسب عليها، كتحديد نوعه ولونه وعرقه، وأوصافه الخَلقية، وغيرها من المجالات التي لا إرادة للإنسان فيها.
    وبناء على هذا فلا يحق لأحد القول بأن من يعصي الله تعالى أو يكفر به أو يظلم أو يسرق، إنما هو قدر الله عليه، بل إن ذلك كله يدخل ضمن إرادته واختياره الذاتي الذي يحاسب عليه، لأنه يمكن أن يتجنب ذلك ويسلك سبيل الهدى والإيمان، بعد أن بيّنه الله لعباده، وقد أورد الله تعالى آيات عن أولئك القوم بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}(1).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــ
    (1) [الأنعام: 148]



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #119
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (118)

    هل الإيمان بالقدر يعارض فعل الأسباب؟



    إن الإيمان بالقدر لا يعارض أو ينافي فعل الأسباب، وكيف ينافيها وقد أمر الله تعالى ونبيه ﷺ بها واتخاذها وسائل مرتبطة بالغايات التي يسعى إليها الإنسان، فلو كان فعل الأسباب يعارض الإيمان بالقدر لتخلى الناس عن كل شيء وقعدوا عن الحركة والسعي في الحياة لتأتيهم أرزاقهم ومعاشهم، وتتحقق آمالهم ورغباتهم من عند الله، ولكن الحقيقة التي بُني عليها هذا الدين تخالف هذا التصور وتنبذه بشدة، فقد ظهرت في بعض العصور الإسلامية فرق تدعو إلى نوع من هذا التفكير والاعتقاد، ولكن الله تعالى الذي تكفل بحفظ دينه وكتابه جعل تلك العصور نقاطًا سوداء ظهرت في التاريخ الإسلامي، حيث خرج العلماء الصالحون المصلحون والأئمة الصادقون الذين أنار الله على أيديهم الحياة وكشف بسببهم ترهات المضلين والجبريين، فانتقلت إلينا بفضل الله تعالى ثم بفضل تلك الكوكبة هذا الدين خالصًا من غير تبديل أو تحريف.

    وقد أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالسبب دون الاستسلام للتصور الخاطئ في حادثة الطاعون الذي أصاب بلاد الشام وكان متوجهًا إليها، فلما سمع بذلك أمر بالرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «يا أمير المؤمنين كيف ترجع إلى المدينة أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: نَفرّ من قدر الله إلى قدر الله». وهو تصديق لقول الرسول ﷺ عن الطاعون: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها«(1).

    ثم إن الدارس للسيرة النبوية وحياة الصحابة رضوان الله عليهم سيجد أن الأخذ بالأسباب كانت دأبهم مع توكلهم على الله تعالى وإيمانهم بأن كل ما يصيبهم من خير وشر مقدّر عليهم، فالرسول ﷺ وهو المخيَّر والمصطفى من عباد الله الذي أرسله الله لتبليغ الرسالة إلى الناس كان يأخذ بالأسباب، وهذا واضح منذ البعثة إلى وفاته ﷺ:

    - فهو الذي أسرّ بالدعوة في بدايتها خشية أن تقمع في مهدها.

    - وهو الذي أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة ليستأمنوا على أنفسهم ودينهم من المشركين.

    - ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بالهجرة إلى المدينة المنورة خشية العنت عليهم من الكفار والمشركين في مكة المكرمة، وقد كانت في هجرته عليه الصلاة والسلام أعظم دلالة على أخذه بالأسباب، فقد هاجر برفقه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة سرًا، وكان يستطيع أن يهاجر علنًا، ولكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبيّن للصحابة وللأمة من بعدهم أن العمل بالأسباب هو جزء من الإسلام، ولا يعارض قدر الله، وإن تجاهل الأمة هذا الأمر يعرضها للضعف والتخلف والجهل.

    فترك الأسباب والاستسلام للقدر يعدّ تواكلاً على الله وليس توكلاً عليه، بل إن التوكل الحقيقي هو الأخذ بالأسباب والرضا بالقدر، وهو ما أمر به عليه الصلاة والسلام بقوله: «اعقلها وتوكل«(2).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ

    (1)
    أخرجه البخاري (ص1012، رقم 5728) كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون. ومسلم (ص982، رقم 2219) كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة.



    (2)
    أخرجه الترمذي (ص572، رقم 2517) كتاب الزهد، باب اعقلها وتوكل. وابن حبان (2/510، رقم 731). حديث حسن.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #120
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله)

    حيـــــــــاة الســــــعداء
    الدكتور فالح بن محمد بن فالح الصغيّر
    (119)



    آثار الإيمان بالقضاء والقدر

    للإيمان بالقضاء والقدر ثمرات وآثار عظيمة على الإنسان في نفسه وجوارحه، بل على مسيرته في الحياة ونتاجه فيها، ولا يمكن حصر جميع الثمرات والآثار لأن جلّ أعمال المؤمن الصادق مرتبطة بمدى إيمانه بالقدر وقبوله لأمر الله في السراء والضراء، لذا نذكر بعض الثمرات الجامعة التي ينطوي تحتها سائر الثمرات، وهي:


    1- تحقيق العبودية لله تعالى وحده، والخلاص من الشرك بكل أنواعه وألوانه، فالمؤمن بقضاء الله تعالى وقدره يعلم يقينًا أن كل شيء من عند الله تعالى وبإرادته، فلا حول ولا قوة لغيره - جل ثناؤه - من المخلوقات الأخرى من بشر أو حجر أو شجر أو دواب، وبذلك تصفى عقيدة المؤمن من شوائب الشرك ووسائله.

    2- الإيمان بالقدر يكسب صاحبه الشجاعة والجرأة في الحق من غير خوف أو تردد، وهذا كان دأب خير القرون ومن تبعهم من سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم، حيث لم تأخذهم في الله لومة لائم، وما استطاع صناديد الكفر من العرب والفرس والروم أن يثنوا من عزائمهم أو يخبوا شعلة الإيمان في نفوسهم، فاستذلوا الصعاب وتجاوزوا الخطوب من أجل نشر هذا الدين وتبليغه للعالمين، رغم أنهم دفعوا ثمن ذلك أرواحهم وأموالهم وأولادهم، ولكن الله تعالى حقق لهم النصر والتمكين في الدنيا، والفوز والنعيم في الآخرة.

    3- الإيمان بالقدر يكسب صاحبه فضيلة الصبر وقوة التحمل على المصائب والنوازل، لأنه يعلم أن ما قدره الله عليه هو خير له عند الله تعالى وإن لم يتحسسه عاجلاً، فإيمانه بقدر الله وقضائه يزوده بزاد الصبر الذي حث الله عليه، وجعله من معالي الأمور، ورتّب تبارك وتعالى على هذه الفضيلة ثمرات عظيمة ويافعة في نفسه وأهله ومجتمعه، فضلاً عن الجزاء الأوفى الذي ادخره له يوم القيامة، يقول جل ذكره: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(1).

    4- الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره يعطي لصاحبه قوة واندفاعًا نحو الأمام ويجعله عنصرًا متحركًا نحو الخير أينما حلّ وارتحل، فهو يعيش في تفاؤل دائم وأمل مستمر مع الله تعالى، لأنه يعلم أن ما قدّره الله تعالى لا يمكن تبديله أو تغييره ما دام قد وقع وصارًا أمرًا مفروضًا، فلا مكان حينها للقنوط واليأس والتحسر، وكانت هذه حال الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فهذا نبي الله يوسف عليه السلام، يحكم عليه بالسجن بضع سنين ظلمًا، ولكنه لم ييأس من روح الله تعالى، فلم تؤثر ظلمات السجن على مسار حياته الدعوية، بل كان السجن ميدانًا للدعوة إلى الله حين قال لصاحبيه:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(2).

    وهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو في المهجر وفي حالة الخوف والهلع من قومه، يرى ظلمًا واقعًا على امرأتين عند السقاء، فلم تشغله هجرته وغربته عن الحق في نصرتهما، يقول تبارك وتعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ . فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(3).

    ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ


    (1) [البقرة: 156]

    (2) [يوسف: 39]

    (3) [القصص: 23-24]







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •