تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
من صــ 220الى صــ 227
الحلقة (103)
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : فإن الله غفور رحيم أي يغفر المعاصي ، فأولى ألا يؤاخذ بما رخص فيه ، ومن رحمته أنه رخص .
قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يعني علماء اليهود ، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته ، ومعنى أنزل : أظهر ، كما قال تعالى : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله أي سأظهر ، وقيل : هو على بابه من النزول ، أي ما أنزل به ملائكته على رسله . ويشترون به أي بالمكتوم ثمنا قليلا يعني أخذ الرشاء ، وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته ، وقيل : لأن ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا .
قلت : وهذه الآية وإن كانت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها ، وقد تقدم هذا المعنى .
قوله تعالى : في بطونهم ذكر البطون دلالة وتأكيدا على حقيقة الأكل ، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضي ونحوه ، وفي ذكر البطون أيضا تنبيه على جشعهم وأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له .
ومعنى إلا النار
أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار ، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم إلى النار ، هكذا قال أكثر المفسرين . وقيل : أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، فأخبر عن المآل بالحال ، كما قال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا أي أن عاقبته تئول إلى ذلك ، ومنه قولهم :
لدوا للموت وابنوا للخراب
قال : فللموت ما تلد الوالدة
[ ص: 221 ] آخر :
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وهو في القرآن والشعر كثير .
قوله تعالى : ولا يكلمهم الله يوم القيامة عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم ، يقال : فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه ، وقال الطبري : المعنى ولا يكلمهم بما يحبونه ، وفي التنزيل اخسئوا فيها ولا تكلمون ، وقيل : المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية . ولا يزكيهم أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم ، وقال الزجاج : لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم أزكياء . أليم بمعنى مؤلم ، وقد تقدم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر . وإنما خص هؤلاء بأليم العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي ، إذ لم يحملهم على ذلك حاجة ، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم ، ومعنى لا ينظر إليهم لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ، وسيأتي في " آل عمران " إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار
قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة تقدم القول فيه ، ولما كان العذاب تابعا للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء .
قوله تعالى : فما أصبرهم على النار مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن " ما " معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين ، كأنه قال : اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها ، وفي التنزيل : قتل الإنسان ما أكفره و أسمع بهم وأبصر . وبهذا المعنى صدر أبو علي . قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع : ما لهم والله عليها من صبر [ ص: 222 ] ولكن ما أجرأهم على النار وهي لغة يمنية معروفة . قال الفراء أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف ، فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله ؟ أي ما أجرأك عليه ، والمعنى : ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها ، وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار ، من قولهم : ما أصبر فلانا على الحبس أي ما أبقاه فيه ، وقيل : المعنى فما أقل جزعهم من النار ، فجعل قلة الجزع صبرا وقال الكسائي وقطرب : أي ما أدومهم على عمل أهل النار ، وقيل : " ما " استفهام معناه التوبيخ ، قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى ، ومعناه : أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار ؟ وقيل : هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم .
قوله تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد قوله تعالى : ذلك ذلك في موضع رفع ، وهو إشارة إلى الحكم ، كأنه قال : ذلك الحكم بالنار ، وقال الزجاج : تقديره الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر ، أو ذلك العذاب لهم . قال الأخفش : وخبر ذلك مضمر ، معناه ذلك معلوم لهم ، وقيل : محله نصب ، معناه فعلنا ذلك بهم .
بأن الله نزل الكتاب يعني القرآن في هذا الموضع بالحق أي بالصدق . وقيل بالحجة . وإن الذين اختلفوا في الكتاب يعني التوراة ، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود صفته ، وقيل : خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها . وقيل : خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها ، وقيل : المراد القرآن ، والذين اختلفوا كفار قريش ، يقول بعضهم : هو سحر ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وبعضهم : مفترى ، إلى غير ذلك . وقد تقدم القول في معنى الشقاق ، والحمد لله .
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ ص: 223 ] فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ليس البر اختلف من المراد بهذا الخطاب فقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر ، فأنزل الله هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال الربيع وقتادة أيضا : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها ، فقيل لهم : ليس البر ما أنتم فيه ، ولكن البر من آمن بالله .
الثانية : قرأ حمزة وحفص " البر " بالنصب ; لأن ليس من أخوات كان ، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر ، فلما وقع بعد ليس : البر نصبه ، وجعل أن تولوا الاسم ، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر ، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف . وقرأ الباقون " البر " بالرفع على أنه اسم ليس ، وخبره أن تولوا ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم ، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر ، كقوله : ما كان حجتهم إلا أن قالوا ، ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا فكان عاقبتهما أنهما في النار وما كان مثله ، ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولا يجوز فيه إلا الرفع ، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له ، وكذلك هو في مصحف أبي بالباء ليس البر بأن تولوا وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا ، وعليه أكثر القراء ، والقراءتان حسنتان .
الثالثة : قوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله البر ها هنا اسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البر بر من آمن ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : واسأل القرية ، وأشربوا في قلوبهم العجل قاله الفراء وقطرب والزجاج ، وقال الشاعر :
فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة :
وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب
[ ص: 224 ] أي كخلالة أبي مرحب ، فحذف ، وقيل : المعنى ولكن ذا البر ، كقوله تعالى : هم درجات عند الله أي ذوو درجات ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن بالله ، إلى آخرها ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا ، ويجوز أن يكون البر بمعنى البار والبر ، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر ، كما يقال : رجل عدل ، وصوم وفطر ، وفي التنزيل : إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا ، وهذا اختيار أبي عبيدة ، وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر بفتح الباء .
الرابعة : قوله تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فقيل : يكون الموفون عطفا على من لأن من في موضع جمع ومحل رفع ، كأنه قال : ولكن البر المؤمنون والموفون ، قاله الفراء والأخفش . والصابرين نصب على المدح ، أو بإضمار فعل ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام ، وينصبونه ، فأما المدح فقوله : والمقيمين الصلاة ، وأنشد الكسائي :
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد أبو عبيدة :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر :
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
فنصب على المدح ، وأما الذم فقوله تعالى : ملعونين أينما ثقفوا الآية ، وقال عروة بن الورد :
سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور
[ ص: 225 ] وهذا مهيع في النعوت ، لا مطعن فيه من جهة الإعراب ، موجود في كلام العرب كما بينا ، وقال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام ، قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، وهكذا قال في سورة النساء والمقيمين الصلاة وفي سورة المائدة والصابئون . والجواب ما ذكرناه ، وقيل : الموفون رفع على الابتداء والخبر محذوف ، تقديره وهم الموفون ، وقال الكسائي : والصابرين عطف على ذوي القربى كأنه قال : وآتى الصابرين . قال النحاس : وهذا القول خطأ وغلط بين ; لأنك إذا نصبت والصابرين ونسقته على ذوي القربى دخل في صلة من وإذا رفعت والموفون على أنه نسق على من فقد نسقت على من من قبل أن تتم الصلة ، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف . وقال الكسائي : وفي قراءة عبد الله " والموفين ، والصابرين " ، وقال النحاس : " يكونان منسوقين على " ذوي القربى " أو على المدح . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله في النساء " والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " . وقرأ يعقوب والأعمش " والموفون والصابرون " بالرفع فيهما ، وقرأ الجحدري " بعهودهم " ، وقد قيل : إن والموفون عطف على الضمير الذي في آمن ، وأنكره أبو علي وقال : ليس المعنى عليه ، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن بالله هو والموفون ، أي آمنا جميعا . كما تقول : الشجاع من أقدم هو وعمرو وإنما الذي بعد قوله " من آمن " تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم .
الخامسة : قال علماؤنا : هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام ; لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة : الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في الكتاب الأسنى - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب - التذكرة - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به ، وقيل : الضيف - والسؤال وفك الرقاب ، وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات ، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد ، وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب . وتقدم التنبيه على أكثرها ، ويأتي بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى . [ ص: 226 ] واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا ، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا ، قولان للعلماء ، وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة ، على ما نبينه آنفا .
السادسة : قوله تعالى : وآتى المال على حبه استدل به من قال : إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر ، وقيل : المراد الزكاة المفروضة ، والأول أصح ، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن في المال حقا سوى الزكاة ثم تلا هذه الآية ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخر الآية ، وأخرجه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه وقال : " هذا حديث ليس إسناده بذاك وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف ، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح " .
قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : وأقام الصلاة وآتى الزكاة فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ليس الزكاة المفروضة ، فإن ذلك كان يكون تكرارا ، والله أعلم ، واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها . قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، وهذا إجماع أيضا ، وهو يقوي ما اخترناه ، والموفق الإله .
السابعة : قوله تعالى : على حبه الضمير في حبه اختلف في عوده ، فقيل : يعود على المعطي للمال ، وحذف المفعول وهو المال . ويجوز نصب ذوي القربى بالحب ، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى ، وقيل : يعود على المال ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول . قال ابن عطية : ويجيء قوله على حبه اعتراضا بليغا أثناء القول . قلت : ونظيره قوله الحق : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا فإنه جمع المعنيين ، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول ، أي على حب الطعام ، ومن الاعتراض قوله الحق : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك وهذا عندهم [ ص: 227 ] يسمى التتميم ، وهو نوع من البلاغة ، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط ، فتمم بقوله على حبه وقوله : وهو مؤمن ومنه قول زهير :
من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا
وقال امرؤ القيس :
على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان
فقوله : " على علاته " و " قبل سؤاله " تتميم حسن ، ومنه قول عنترة : أثنى علي بما علمت فإنني سمح مخالقتي إذا لم أظلم
فقوله : " إذا لم أظلم " تتميم حسن ، وقال طرفة :
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
وقال الربيع بن ضبع الفزاري :
فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان
فقوله : " غير مفسدها " ، و " إلا أحاديثه " تتميم واحتراس ، وقال أبو هفان :
فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب
فقوله : " غير ظالم " و " غير عائب " تتميم واحتياط ، وهو في الشعر كثير . وقيل : يعود على الإيتاء ; لأن الفعل يدل على مصدره ، وهو كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم أي البخل خيرا لهم ، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم ، وقيل : يعود على اسم الله تعالى في قوله من آمن بالله ، والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء .