تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
الجزء الثانى
سُورَةُ النِّسَاءِ
الحلقة (113)
صــ51 إلى صــ 55
والثاني: إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج ، بسبي أو غير سبي ، وعلى هذا تأول الآية ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وجابر ، وأنس ، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا . وقد ذكر ابن جرير ، عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن: أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها ، والأول أصح ، [ ص: 51 ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة ، بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها ، وبين فراقه ، ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا ، ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إياها معنى . ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية .
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إلا بملك ، والملك يكون عقدا ، ويكون ملك يمين .
وعلى القول الثالث: الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ، فإنهن لم يحصرن بعدد .
قوله تعالى: كتاب الله عليكم قال الزجاج : هو منصوب على التوكيد ، محمول على المعنى ، لأن معنى "حرمت عليكم أمهاتكم": كتب الله عليكم هذا كتابا ، قال: ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر ، ويكون "عليكم" مفسرا له ، فيكون المعنى: الزموا كتاب الله . قال: وأحل لكم ما وراء ذلكم أي: ما بعد هذه الأشياء ، إلا أن السنة ، قد حرمت تزويج المرأة على عمتها ، وتزويجها على خالتها ، وقرأ ابن السميفع ، وأبو عمران: ( كتب الله عليكم ) [ ص: 52 ] بفتح الكاف ، والتاء ، والباء ، من غير ألف ، ورفع الهاء . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر: وأحل بفتح الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي: بضم الألف .
فصل
قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله: وأحل لكم ما وراء ذلكم تحليل ورد بلفظ العموم ، وأنه عموم دخله التخصيص ، والمخصص له نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وليس هذا على سبيل النسخ . وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث .
قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم أي: تطلبوا إما بصداق في نكاح ، أو ثمن في ملك "محصنين" قال ابن قتيبة: متزوجين ، وقال الزجاج : عاقدين التزويج ، وقال غيرهما: متعففين غير زانين . والسفاح: الزنى ، قال ابن قتيبة: أصله من سفحت القربة: إذا صببتها ، فسمي الزنى سفاحا ، لأنه [يسافح] يصب النطفة ، وتصب المرأة النطفة . وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد ، ولا نكاح ، فهو كالشيء يسفح ضياعا .
قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فيه قولان .
[ ص: 53 ] أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والجمهور .
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح . وقد روي عن ابن عباس: أنه كان يفتي بجواز المتعة ، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء ، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة ، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء ، وهذا تكلف لا يحتاج إليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ، ثم منع منها ، فكان قوله منسوخا بقوله . وأما الآية ، [ ص: 54 ] فإنها لم تتضمن جواز المتعة . لأنه تعالى قال فيها: أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فدل ذلك على النكاح الصحيح . قال الزجاج : ومعنى قوله: فما استمتعتم به منهن فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت ، وهو قوله: محصنين غير مسافحين أي: عاقدين التزويج فآتوهن أجورهن أي: مهورهن . ومن ذهب في الآية إلى غير هذا ، فقد أخطأ ، وجهل اللغة .
قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة فيه ستة أقوال .
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها ، ووهبته لزوجها ، هذا مروي عن ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام ، أو فرقة بعد أداء الفريضة ، روي عن ابن عباس أيضا .
والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يبرئنكم ، قاله أبو سليمان التيمي .
[ ص: 55 ] والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل ، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء ، قاله السدي ، وهو يعود إلى قصة المتعة .
والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها ، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه . قاله الزجاج .
والسادس: أنه عام في الزيادة ، والنقصان ، والتأخير ، والإبراء ، قاله القاضي أبو يعلى .