عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 6 من 11 الأولىالأولى 1234567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 120 من 210

الموضوع: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

  1. #101
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (101)
    صـ153 إلى صـ 162

    أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ ق : 6 ] إلى تمام الآيات .

    [ ص: 152 ] ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة ، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه ، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة ، وعوالم الغيب لم تجدها مما أحيل على النظر فيه ولا مأمورا بتطلب الاطلاع عليها ، وعلى ذواتها ، وحقائقها .

    فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعا ، وإذا لم يكن مطلوبا لم ينبغ أن يطلب .

    والثالث : أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي ، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالم التي وراء الحس إنما نقل عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم ، ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان ، أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة ولا وجد منها في السلف الصالح عين ولا أثر; كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية ، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم ، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى .

    والرابع : أن طلب الاطلاع على ما غيب عنا من الروحانيات ، وعجائب المغيبات كطلب الاطلاع على ما غيب عنا من المحسوسات النائية كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى; لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد ، وخراسان ، وأقصى بلاد الصين ، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات .

    والخامس : أنه لو فرض كون هذا سائغا فهو محفوف بعوارض كثيرة ، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان ، ومقصوده ، وإنما هي ابتلاءات يبتلي الله بها [ ص: 153 ] عباده; لينظر كيف يعملون .

    فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء ، وبين مفسدة ما يعترض صاحبها ، كانت جهة العوارض أرجح ، فيصير طلبها مرجوحا ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدم .

    وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر ، ونحوها مما يقتضي وضعها الإخلاص التام ، فلا يليق به طلب الحظوظ ، فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها ، وهذا لا يوجد ، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه ، فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك ، وهذا مجرد حظ لا عبادة فيه ، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية .

    فإن قيل : فقد سئل بعض السلف عن دواء الحفظ ، فقال : ترك المعاصي ، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة ، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما في الحديث ، كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر فهل للإنسان [ ص: 154 ] أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا ؟ فإن قلت : لا; كان على خلاف هذه القاعدة ، وإن قلت : نعم ; خالفت ما أصلت .

    فالجواب أن هذا نمط آخر ، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلا عن الخير الفلاني عمل شر فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه ، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة ولا إشكال فيه ، وقد قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ البقرة : 45 ] وقال : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] الآية .

    ومسألة الحفظ من هذا ، وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة ، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويا ، ومعينا على أصل العبادة ، وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ ، وما لا فلا ، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام :

    أحدها : ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها ، وحصول الرغبة فيها ، فلا شك أنه مقصود للشارع فالقصد إلى التسبب إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصح .

    والثاني : ما يقتضي زوالها عينا ، فلا إشكال أيضا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينا ، فلا يصح التسبب بإطلاق .

    [ ص: 155 ] والثالث : ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينا فيصح في العادات دون العبادات .

    أما عدم صحته في العبادات فظاهر ، وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبب ، ويحتمل الخلاف ، فإنه قد يقال : إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ، وقصد الشارع التأكيد ، فلا يكون ذلك التسبب موافقا لمقصد الشارع ، فلا يصح ، وقد يقال : هو وإن صدق عليه أنه غير موافق يصدق عليه أيضا أنه غير مخالف ; إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه ، وإنما قصد في التسبب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع ، ويؤكد ذلك أن الشارع أيضا مما يقصد رفع التسبب ، فلذلك شرع في النكاح الطلاق ، وفي البيع الإقالة ، وفي القصاص العفو ، وأباح العزل ، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينا ، ومثله [ ص: 156 ] ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصة ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسل فليس خلافا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله .

    وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بد هو الاحتيال بالتسبب على تحصيل أمر على وجه يكون التسبب فيه عبثا لا محصول تحته شرعا إلا التوصل إلى ما وراءه ، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعا في أصل التسبب .

    وأما إذا أمكن أن لا ينخرم ، أو أمكن أن لا يكون منخرما من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من كل وجه فهو محل اجتهاد ، ويبقى التسبب إن صحبه نهي محل نظر أيضا ، وقد تقدم الكلام فيه والله أعلم .

    والجهة الرابعة مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبب ، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له ، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين :

    [ ص: 157 ] أحدهما : أن يسكت عنه; لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقدر لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ، ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها ، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها ، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف ، وتدوين العلم ، وتضمين الصناع ، وما أشبه ذلك مما لم يجر له ذكر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن من نوازل زمانه ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعا بلا إشكال فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل .

    والثاني : أن يسكت عنه ، وموجبه المقتضي له قائم فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص; لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودا ، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة ، ومخالفة لما قصده [ ص: 158 ] الشارع; إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .

    ومثال هذا : سجود الشكر في مذهب مالك ، وهو الذي قرر هذا المعنى في العتبية من سماع أشهب وابن نافع قال فيها : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا ، فقال : لا يفعل ، ليس هذا مما مضى من أمر الناس . قيل له : إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء ، فيقول : هذا شيء لم أسمع له خلافا . فقيل له : إنما نسألك لنعلم رأيك فنرد ذلك به . فقال : نأتيك بشيء آخر أيضا لم تسمعه مني : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ; لأنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه . هذا تمام الرواية ، وقد احتوت على [ ص: 159 ] فرض سؤال والجواب عنه بما تقدم .

    وتقرير السؤال أن يقال في البدع مثلا : إنها فعل ما سكت الشارع عن فعله ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو تقول فعل ما سكت الشارع عن الإذن فيه ، أو ترك ما أذن في فعله ، أو أمر خارج عن ذلك ، فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثم دليل على فعله ، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات ، والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات ، والثاني : كالصيام مع ترك الكلام ، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة ، والثالث : كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة ، وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي ، فلا يصح بحال فكونه بدعة قبيحة بين .

    [ ص: 160 ] وأما الضربان الأولان ، وهما في الحقيقة فعل ، أو ترك لما سكت الشارع عن فعله ، أو تركه ، فمن أين يعلم مخالفتهما لقصد الشارع ، أو أنهما مما يخالف المشروع ، وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد ، بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها ، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال .

    أما القصد فمسلم بالفرض ، وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلا نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركا لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر ، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ولا يفهم للشارع قصدا معينا دون ضده ، وخلافه ، فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح ، فما وجدنا فيه مصلحة قبلناه إعمالا للمصالح المرسلة ، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالا للمصالح أيضا ، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالا للمصالح المرسلة [ ص: 161 ] أيضا فالحاصل أن كل محدثة يفرض ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى . فما وجه ذم هذه ومدح هذه ولا نص يدل على مدح ولا ذم على الخصوص ؟

    وتقرير الجواب ما ذكره مالك ، وأن السكوت عن حكم الفعل ، أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي للفعل ، أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، وهو غاية في تحصيل هذا المعنى .

    قال ابن رشد : الوجه في ذلك أنه لم يره مما شرع في الدين يعني سجود الشكر لا فرضا ولا نفلا; إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ، ولا [ ص: 162 ] أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه .

    قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح; إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمروا بالتبليغ .

    قال : وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ; لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه ، ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه ، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .

    [ ص: 163 ] وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل ، وأنها بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه - عليه الصلاة والسلام - المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليراجعا كما كانا أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها ، وهو أصل صحيح ، إذا اعتبر وضح به الفرق بين ما هو من البدع ، وما ليس منها ، ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودا قبل ، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبطل .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #102
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (102)
    صـ163 إلى صـ 183


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

    كِتَابُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ

    وَالنَّظَرُ فِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ .

    فَالنَّظَرُ إِذًا يَتَعَلَّقُ بِطَرَفَيْنِ .

    [ ص: 168 ] [ ص: 169 ] النظر الأول

    في كليات الأدلة على الجملة

    [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] المسألة الأولى

    لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب [ ص: 172 ] الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى; لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا; إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس ، أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما ، وخصوصا; لأن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] [ ص: 173 ] وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وفي الحديث : تركتكم على الجادة الحديث ، وقوله : لا يهلك على الله إلا هالك ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر ، وإيضاح السبيل ، وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات ، وهي أصول الشريعة فما تحتها [ ص: 174 ] مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس; إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه .

    وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات ، واستقرائها [ ص: 175 ] وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج ، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات ، فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي ، وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي ، والجزئي هو مظهر العلم به ، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام ، وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ، وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي ، أو توهم المخالفة له ، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه ، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي ، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ; [ ص: 176 ] لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا ، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة .

    فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة ، فلا بد من الجمع في النظر بينهما ; لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد; إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ، فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع ، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ، ويلغى الجزئي .

    فإن قيل : الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها ، أو أكثرها ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي; لأن الاستقراء قطعي إذا تم ، فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء ، وفرض مخالفته [ ص: 177 ] غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف ، وجد أو لم يوجد ، فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك ، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل ، وأشباهها .

    فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك ، وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه ، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال ; إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي ؟

    فالجواب أن هذا صحيح على الجملة ، وأما في التفصيل فغير صحيح ، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل ، وقد لا يدركها ، وإذا أدركها ، فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال ، أو زمان دون زمان ، أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر [ ص: 178 ] به على حالة واحدة ، وهو القتل بالمحدد ، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ، ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض ، وسائر الرخص [ ص: 179 ] الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض ، وأشباه ذلك .

    فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات ، أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظا على تلك الرتبة ، وعلى غيرها من الكليات ، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ، ويخص بعضها بعضا ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من اعتبار الكل في مواردها ، وبحسب أحوالها .

    وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه ، [ ص: 180 ] وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات; لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم ، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ، بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى ، وتهدم قاعدة أخرى ، أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين وفي كل حال ، وبين من المصالح ما يطرد ، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ، ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح ، وهو مناقض لمقصود الشارع ؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات ; لأنها يخدم بعضها بعضا ، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها ، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال .

    فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها ، وبالعكس ، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق ، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ، وما قرر في السؤال على الجملة صحيح; إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما ، [ ص: 181 ] والجزئي محكوم عليه بالكلي ، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة ، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات ، وهي التحرك بالإرادة ، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض ، أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه ، وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي ، أو عدم جريانه ، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب ، وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم ، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس ، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة ، وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين ، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية ، وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع [ ص: 182 ] المعارض; لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء ، أو فيه له شفاء ولا يقال : إن هذا تناقض; لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي ، وعدم اعتباره معا; لأنا نقول : إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي ، وفي كل حال ، بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلى فيه كالعرايا ، وسائر المستثنيات ، ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام [ ص: 183 ] الجزئي ، أو تقييده لمطلقه ، وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق ، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر ، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل ، فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف ، فإن فيها جملة الفقه ، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع ، وأن تتبع نصوصه مطلقة ، ومقيدة أمر واجب .

    فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار ، وبالله التوفيق .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #103
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (103)
    صـ184 إلى صـ 191



    المسألة الثانية

    كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيا ، أو ظنيا ، فإن كان قطعيا ، فلا إشكال في اعتباره ، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل ، وأشباه ذلك ، وإن كان ظنيا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا ، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضا ، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان :

    قسم يضاد أصلا قطعيا ، وقسم لا يضاده ولا يوافقه ، فالجميع أربعة أقسام .

    فأما الأول ، فلا يفتقر إلى بيان .

    وأما الثاني ، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضا ظاهر ، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ]

    ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج ، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب .

    [ ص: 185 ] وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا ، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ]

    وقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] الآية . إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد ، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية ، ومنه أيضا قوله : - عليه الصلاة والسلام - : لا ضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات كقوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا [ البقرة : 231 ]

    ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن [ الطلاق : 6 ]

    لا تضار والدة بولدها [ البقرة : 233 ] .

    ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار ، وضرار ، ويدخل تحته الجناية على [ ص: 186 ] النفس ، أو العقل ، أو النسل ، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك .

    وأما الثالث ، وهو الظني المعارض لأصل قطعي ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال ، ومن الدليل على ذلك أمران :

    أحدهما : أنه مخالف لأصول الشريعة ، ومخالف أصولها لا يصح; لأنه ليس منها ، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها .

    والثاني : أنه ليس له ما يشهد بصحته ، وما هو كذلك ساقط الاعتبار ، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين [ ص: 187 ] [ ص: 188 ] ابتداء على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة .

    وهذا القسم على ضربين :

    أحدهما : أن تكون مخالفته للأصل قطعية ، فلا بد من رده .

    والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا ، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق ، وهو مما لا يختلف فيه

    والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

    وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نص مخالف لنص آخر ، أو لقاعدة أخرى .

    أما على اعتبار المصالح ، فإنه يزعم أن في المخالف مصلحة ليست في الآخر علمناها ، أو جهلناها ، وأما على عدم اعتبارها [ ص: 189 ] فأوضح ، فإن للشارع أن يأمر ، وينهى كيف شاء ، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير .

    فإذا تقرر هذا ، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفا فيها ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى فقالوا : خبر الواحد إذا كملت شروط صحته هل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟

    فقال الشافعي : لا يجب; لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب ، وعند عيسى بن أبان يجب محتجا بحديث في هذا المعنى ، وهو قوله : إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق فاقبلوه ، وإلا فردوه .

    [ ص: 190 ] فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق ، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى .

    وللمسألة أصل في السلف الصالح ، فقد ردت عائشة رضي الله تعالى عنها حديث : إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه [ ص: 191 ] لقوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ]





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #104
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (104)
    صـ192 إلى صـ 206




    وردت حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء لقوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] [ ص: 192 ] وإن كان عند غيرها غير مردود لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية ، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية ، وسنية تبلغ القطع ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة .

    وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادا إلى أصل مقطوع به ، وهو رفع الحرج ، وما لا طاقة به عن الدين ، فلذلك قالا : فكيف يصنع بالمهراس ؟ [ ص: 193 ] [ ص: 194 ] وردت أيضا خبر ابن عمر في الشؤم ، وقالت : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أقوال الجاهلية; لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله ، وأن شيئا من الأشياء لا يفعل شيئا ولا طيرة ولا عدوى .

    ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها ، فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه ، فقال أبو عبيدة : أفرارا من قدر الله ؟ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي ، قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله . فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضا ، وهو أن الأسباب من قدر الله ، ثم مثل ذلك برعي العدوة المجدبة والعدوة المخصبة ، وأن الجميع بقدر الله ، ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين .

    [ ص: 195 ] وفي الشريعة من هذا كثير جدا ، وفي اعتبار السلف له نقل كثير ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة لصحته في الاعتبار .

    ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا : جاء الحديث ولا [ ص: 196 ] أدري ما حقيقته ؟ وكان يضعفه ، ويقول : يؤكل صيده ، فكيف يكره لعابه ؟ وإلى هذا المعنى أيضا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال [ ص: 197 ] بعد ذكره : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه . إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا ، فكيف يثبت بالشرع حكم لا يجوز شرطا بالشرع ؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي .

    وأيضا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية ، وهى تعارض هذا الحديث الظني .

    فإن قيل : فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك .

    قيل : الطلاق [ ص: 198 ] يعلق على الغرر ، ويثبت في المجهول ، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع .

    ومن ذلك أن مالكا أهمل اعتبار حديث : من مات ، وعليه صيام صام عنه وليه ، وقوله : أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث ؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله : ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 38 ، 39 ] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر .

    وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم تعويلا على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة فأجاز [ ص: 199 ] أكل الطعام قبل القسم لمن احتاج ، قاله ابن العربي .

    ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه تعويلا على أصل سد الذرائع .

    ولم يعتبر في الرضاع خمسا ولا عشرا; للأصل القرآني في قوله : [ ص: 200 ] وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة [ النساء : 23 ] وفي مذهبه من هذا كثير ، وهو أيضا رأي أبي حنيفة ، فإنه قدم خبر القهقهة في الصلاة على القياس; إذ لا إجماع في المسألة ورد خبر القرعة; لأنه يخالف الأصول; لأن الأصول قطعية ، وخبر الواحد [ ص: 201 ] ظني والعتق حل في هؤلاء العبيد ، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده فلذلك رده كذا قالوا ، وقال ابن العربي : إذا جاء خبر الواحد معارضا لقاعدة من قواعد الشرع; هل يجوز العمل به أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجوز العمل به ، وقال الشافعي : يجوز ، وتردد مالك في المسألة .

    قال : ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به ، وإن كان وحده تركه ، ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال : لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين :

    أحدهما : قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] والثاني : أن علة الطهارة هي الحياة ، وهي قائمة في الكلب ، وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف .

    [ ص: 202 ] وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر لتلك العلة أيضا .

    [ ص: 203 ] قال ابن عبد البر : كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لرده كثيرا من أخبار الآحاد العدول .

    قال : لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ، ومعاني القرآن فما شذ من ذلك رده ، وسماه شاذا .

    [ ص: 204 ] وقد رد أهل العراق مقتضى حديث المصراة ، وهو قول مالك لما رآه مخالفا للأصول ، فإنه قد خالف أصل الخراج بالضمان ولأن متلف [ ص: 205 ] الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته ، وأما غرم جنس آخر من الطعام ، أو العروض ، فلا .

    وقد قال مالك فيه : إنه ليس بالموطأ ولا الثابت ، وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلا متفقا عليه يصح رده إليه بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر ، وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة إن شاء الله .

    [ ص: 206 ] وأما الرابع ، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي ولا يعارض أصلا قطعيا فهو في محل النظر ، وبابه باب المناسب الغريب ، فقد يقال : لا يقبل لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود ، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق; لأنه في محل الريبة ، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع; إذ كان عدم الموافقة مخالفة وكل ما خالف أصلا قطعيا مردود فهذا مردود ، ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابت في تفاصيل الشريعة ، وهذا فرد من أفراده ، وهو وإن لم يكن موافقا لأصل ، فلا مخالفة فيه أيضا ، فإن عضد الرد عدم الموافقة عضد القبول عدم المخالفة فيتعارضان ، ويسلم أصل العمل بالظن ، وقد وجد منه في الحديث قوله : - عليه الصلاة [ ص: 207 ] والسلام - : القاتل لا يرث ، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس ، وإن كان قليلا في بابه فذلك غير ضائر إذا دل الدليل على صحته .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #105
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (105)
    صـ207 إلى صـ 216



    فصل

    واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به كالدليل على أن العمل بخبر الواحد ، أو بالقياس واجب مثلا ، بل المراد ما هو أخص من ذلك كما تقدم في حديث لا ضرر ولا ضرار والمسائل المذكورة معه ، وهو معنى مخالف للمعنى الذي قصده الأصوليون والله أعلم .
    [ ص: 208 ] المسألة الثالثة

    الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول والدليل على ذلك من وجوه :

    أحدها : أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره لكنها أدلة باتفاق العقلاء فدل على أنها جارية على قضايا العقول ، وبيان ذلك أن الأدلة إنما نصبت في الشريعة لتتلقاها عقول المكلفين حتى يعملوا بمقتضاها من الدخول تحت أحكام التكليف ولو نافتها لم تتلقها فضلا عن أن تعمل بمقتضاها ، وهذا معنى كونها خارجة عن حكم الأدلة ، ويستوي في هذا الأدلة المنصوبة على الأحكام الإلهية ، وعلى الأحكام التكليفية .

    والثاني : أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق ، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره ، بل يتصور [ ص: 209 ] خلافه ، ويصدقه ، فإذا كان كذلك امتنع على العقل التصديق ضرورة ، وقد فرضنا ورود التكليف المنافي التصديق ، وهو معنى تكليف ما لا يطاق ، وهو باطل حسبما هو مذكور في الأصول .

    والثالث : أن مورد التكليف هو العقل ، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا ، وعد فاقده كالبهيمة المهملة ، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف فلو جاءت على خلاف ما يقتضيه لكان لزوم التكليف على العاقل أشد من لزومه على المعتوه والصبي والنائم; إذ لا عقل لهؤلاء يصدق ، أو لا يصدق بخلاف العاقل الذي يأتيه ما لا يمكن تصديقه به ، ولما كان التكليف ساقطا عن هؤلاء لزم أن يكون ساقطا عن العقلاء أيضا ، وذلك مناف لوضع الشريعة فكان ما يؤدي إليه باطلا .

    والرابع : أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به لأنهم كانوا في غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كانوا يفترون عليه ، وعليها . فتارة يقولون ساحر ، وتارة مجنون ، وتارة يكذبونه كما كانوا يقولون في القرآن سحر ، وشعر وافتراء ، وإنما يعلمه بشر ، وأساطير الأولين ، بل كان أولى ما يقولون : إن هذا لا يعقل ، أو هو مخالف للعقول ، أو ما أشبه ذلك فلما [ ص: 210 ] لم يكن من ذلك شيء دل على أنهم عقلوا ما فيه ، وعرفوا جريانه على مقتضى العقول إلا أنهم أبوا من اتباعه لأمور أخر حتى كان من أمرهم ما كان ولم يعترضه أحد بهذا المدعى فكان قاطعا في نفيه عنه .

    والخامس : أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول بحيث تصدقها العقول الراجحة ، وتنقاد لها طائعة ، أو كارهة ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام ، وهو المعني بكونها جارية على مقتضى العقول لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة ، وبسط هذا الوجه مذكور في كتاب المقاصد في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام .

    فإن قيل : هذه دعوى عريضة يصد عن القول بها غير ما وجه .

    أحدها : أن في القرآن ما لا يعقل معناه أصلا كفواتح السور ، فإن الناس قالوا إن في القرآن ما يعرفه الجمهور ، وفيه ما لا يعرفه إلا العرب ، وفيه ما لا يعرفه إلا العلماء بالشريعة ، وفيه ما لا يعرفه إلا الله ، فأين جريان هذا [ ص: 211 ] القسم على مقتضى العقول ؟

    والثاني : أن في الشريعة متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس ، أو لا يعلمها إلا الله تعالى كالمتشابهات الفروعية ، وكالمتشابهات الأصولية ولا معنى لاشتباهها إلا أنها تتشابه على العقول ، فلا تفهمها أصلا ، أو لا يفهمها إلا القليل والمعظم مصدودون عن فهمها ، فكيف يطلق القول بجريانها على فهم العقول ؟

    والثالث : أن فيها أشياء اختلفت على العقول حتى تفرق الناس بها فرقا ، وتحزبوا أحزابا وصار كل حزب بما لديهم فرحون فقالوا فيها أقوالا كل على مقدار عقله ، ودينه .

    فمنهم من غلب عليه هواه حتى أداه ذلك إلى الهلكة كنصارى نجران حين اتبعوا في القول بالتثليث قول الله تعالى : فعلنا ، و قضينا ، و خلقنا ، ثم من بعدهم من أهل الانتماء إلى الإسلام الطاعنين على الشريعة بالتناقض والاختلاف ، ثم يليهم سائر الفرق الذين أخبر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك ناشئ عن خطاب يزل به العقل كما هو الواقع ، فلو كانت الأدلة جارية على تعقلات العقول لما وقع في الاعتياد هذا [ ص: 212 ] الاختلاف فلما وقع فهم أنه من جهة ما له خروج عن المعقول ولو بوجه ما .

    فالجواب عن الأول أن فواتح السور للناس في تفسيرها مقال بناء على أنه مما يعلمه العلماء ، وإن قلنا إنه مما لا يعلمه العلماء ألبتة فليس مما يتعلق به تكليف على حال ، فإذا خرج عن ذلك خرج عن كونه دليلا على شيء من الأعمال فليس مما نحن فيه ، وإن سلم فالقسم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى في الشريعة نادر والنادر لا حكم له ولا تنخرم به الكلية المستدل عليها أيضا; لأنه مما لا يهتدي العقل إلى فهمه وليس كلامنا فيه إنما الكلام على ما يؤدي مفهوما ، لكن على خلاف المعقول ، وفواتح السور خارجة عن ذلك; لأنا نقطع أنها لو بينت لنا معانيها لم تكن إلا على مقتضى العقول ، وهو المطلوب .

    وعن الثاني : أن المتشابهات ليست مما تعارض مقتضيات العقول ، وإن توهم بعض الناس فيها ذلك; لأن من توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه كما نصت عليه الآية قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] [ ص: 213 ] لا أنه بناء على أمر صحيح ، فإنه إن كان كذلك فالتأويل فيه راجع إلى معقول موافق لا إلى مخالف ، وإن فرض أنها مما لا يعلمها أحد إلا الله فالعقول عنها مصدودة لأمر خارجي لا لمخالفته لها ، وهذا كما يأتي في الجملة الواحدة فكذلك يأتي في الكلام المحتوي على جمل كثيرة ، وأخبار بمعان كثيرة ربما يتوهم القاصر النظر فيها الاختلاف ، وكذلك الأعجمي الطبع الذي يظن بنفسه العلم بما ينظر فيه ، وهو جاهل به ، ومن هنا كان احتجاج نصارى نجران في التثليث ، ودعوى الملحدين على القرآن والسنة التناقض والمخالفة للعقول ، وضموا إلى ذلك جهلهم بحكم التشريع فخاضوا حين لم يؤذن لهم في الخوض ، وفيما لم يجز لهم الخوض فيه فتاهوا ، فإن القرآن والسنة لما كانا عربيين لم يكن لينظر فيهما إلا عربي كما أن من لم يعرف مقاصدهما لم يحل له أن يتكلم فيهما; إذ لا يصح له نظر حتى يكون عالما بهما ، فإنه إذا كان كذلك لم يختلف عليه شيء من الشريعة ولذلك مثال يتبين به المقصود ، وهو أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس ، فقال له : [ ص: 214 ] إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ المؤمنون : 101 ] .

    [ ص: 215 ] وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .

    ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ربنا ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، فقد كتموا في هذه الآية .

    وقال : بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ النازعات : 28 - 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض .

    ثم قال : أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ فصلت : 9 - 11 ] فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء .

    وقال : وكان الله غفورا رحيما [ الفرقان : 70 ] ، عزيزا حكيما ، سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى .

    فقال ابن عباس : فلا أنساب بينهم [ المؤمنون : 101 ] في النفخة الأولى ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر : 68 ] ، فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ الصافات : 27 ] .

    وأما قوله : ما كنا مشركين [ الأنعام : 23 ] ، ولا يكتمون الله حديثا [ النساء : 42 ] ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا [ ص: 216 ] نقول : ما كنا مشركين ، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم ، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض [ النساء : 42 ] .

    وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحا الأرض أي أخرج الماء والمرعى ، وخلق الجبال والآكام ، وما بينهما في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السماوات في يومين ، وكان الله غفورا رحيما ، سمى نفسه ذلك ، وذلك قوله ، أي لم أزل كذلك ، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلف عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله .

    هذا تمام ما قال في الجواب .

    وهو يبين أن جميع ذلك معقول إذا نزل منزلته ، وأتى من بابه ، وهكذا سائر ما ذكر الطاعنون ، وما أشكل على الطالبين ، وما وقف فيه الراسخون ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

    وفي كتاب الاجتهاد من ذلك بيان كاف والحمد لله ، وقد ألف الناس في رفع التناقض والاختلاف عن القرآن والسنة كثيرا ، فمن تشوف إلى البسط ، ومد الباع ، وشفاء الغليل طلبه في مظانه .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #106
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (106)
    صـ217 إلى صـ 226


    المسألة الرابعة

    المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها ، وهذا لا نزاع فيه إلا أن أفعال المكلفين لها اعتباران .

    [ ص: 218 ] اعتبار من جهة معقوليتها واعتبار من جهة وقوعها في الخارج .

    وبيان ذلك أن الفعل المكلف به ، أو بتركه ، أو المخير فيه يعتبر من جهة ماهيته مجردا عن الأوصاف الزائدة عليها واللاحقة لها كانت تلك الأوصاف لازمة ، أو غير لازمة ، وهذا هو الاعتبار العقلي ، ويعتبر من جهة ماهيته بقيد الاتصاف بالأوصاف الزائدة اللاحقة في الخارج لازمة ، أو غير لازمة ، وهو الاعتبار الخارجي فالصلاة المأمور بها مثلا يتصور فيها هذان الاعتباران ، وكذلك الطهارة والزكاة والحج ، وسائر العبادات والعادات من الأنكحة والبيوع والإجارات ، وغيرها ، ويظهر الفرق بين الاعتبارين فيما إذا نظر إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الصلاة التي تعلق بها شيء من المكروهات والأوصاف التي تنقص من كمالها ، وكذلك سائر الأفعال .

    فإذا صح الاعتباران عقلا فمنصرف الأدلة إلى أي الجهتين هو ، ألجهة [ ص: 219 ] المعقولية أم لجهة الحصول في الخارج ؟ هذا مجال نظر محتمل للخلاف ، بل هو مقتضى الخلاف المنصوص في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة ، وأدلة المذاهب منصوص عليها مبينة في علم الأصول ولكن نذكر من ذلك طرفا يتحرى منه مقصد الشارع في أحد الاعتبارين فمما يدل على الأول أمور .

    أحدها : أن المأمور به ، أو المنهي عنه ، أو المخير فيه إنما هو حقائق الأفعال التي تنطلق عليها تلك الأسماء ، وهذا أمر ذهني في الاعتبار; لأنا إذا أوقعنا الفعل عرضناه على ذلك المعقول الذهني ، فإن صدق عليه صح ، وإلا ، فلا .

    ولصاحب الثاني أن يقول : إن المقصود من الأمر والنهي والتخيير إنما هو أن يقوم المكلف بمقتضاها حتى تكون له أفعالا خارجية لا أمورا ذهنية ، بل الأمور الذهنية هي مفهومات الخطاب ، ومقصود الخطاب ليس نفس التعقل ، بل الانقياد وذلك الأفعال الخارجية سواء علينا أكانت عملية أم اعتقادية ، وعند ذلك ، فلا بد أن تقع موصوفة فيكون الحكم عليها كذلك .

    [ ص: 220 ] والثاني : أنا لو لم نعتبر المعقول الذهني في الأفعال لزمت شناعة مذهب الكعبي المقررة في كتاب الأحكام; لأن كل فعل ، أو قول فمن لوازمه في الخارج أن يكون ترك الحرام ، ويلقى فيه جميع ما تقدم ، وقد مر بطلانه .

    ولصاحب الثاني : أن يقول لو اعتبرنا المعقول الذهني مجردا عن الأوصاف الخارجية لزم أن لا تعتبر الأوصاف الخارجية بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق ، فإن سد الذرائع معلوم في الشريعة ، وهو من هذا النمط وكذلك كل فعل سائغ في نفسه ، وفيه تعاون على البر والتقوى ، أو على الإثم والعدوان إلى ما أشبه ذلك ولم يصح النهي عن صيام يوم العيد ولا عن الصلاة عند [ ص: 221 ] طلوع الشمس ، أو عند غروبها ، وهذا الباب واسع جدا .

    والثالث : أنا لو اعتبرنا الأفعال من حيث هي خارجية فقط لم يصح للمكلف عمل إلا في النادر; إذ كانت الأفعال والتروك مرتبطا بعضها ببعض ، وقد فرضوا مسألة من صلى وعليه دين حان وقته ، وألزموا المخالفين أن يقولوا ببطلان تلك الصلاة; لأنه ترك بها واجبا ، وهكذا كل من خلط عملا صالحا ، وآخر سيئا ، فإنه يلزم أن يبطل عليه العمل الصالح إذا تلازما في الخارج ، وهو على خلاف قول الله تعالى : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] لأنهما إذا تلازما في الخارج فكان أحدهما للوصف الثاني لم يكن العمل الصالح صالحا فلم يكن ثم خلط عملين ، بل صارا عملا واحدا إما صالحا ، وإما سيئا ، ونص الآية يبطل هذا ، وكذلك جريان [ ص: 222 ] العوائد في المكلفين فدل ذلك على أن المقصود هو ما يصدق عليه عمل في الذهن لا في الخارج .

    ولصاحب الثاني : أن يقول : إن الأمور الذهنية مجردة من الأمور الخارجية تعقل ، أو ما لا تعقل لا يكلف به أما أن ما لا يعقل لا يكلف به فواضح ، وأما أن الأمور الذهنية لا تعقل مجردة فهو ظاهر أيضا .

    في المحسوسات فكالإنسان مثلا ، فإن ماهيته المعقولة المركبة من الحيوانية والنطقية لا تثبت في الخارج; لأنها كلية حتى تتخصص ولا تتخصص حتى تتشخص ، ولا تتشخص حتى تمتاز عن سواها من المتشخصات بأمور أخر فنوع الإنسان يلزمه خواص كلية هي له أوصاف كالضحك وانتصاب القامة ، وعرض الأظفار ، ونحوها ، وخواص شخصية ، وهي التي امتاز بها كل واحد من أشخاص الإنسان عن الآخر ، ولولا ذلك لم يظهر الإنسان في الخارج ألبتة ، فقد صارت إذا الأمور الخارجة العارضة لازمة لوجود حقيقة الإنسان في الخارج .

    وأما في الشرعيات فكالصلاة مثلا ، فإن حقيقتها المركبة من القيام ، [ ص: 223 ] والركوع والسجود والقراءة ، وغير ذلك لا تثبت في الخارج إلا على كيفيات ، وأحوال ، وهيئات شتى ، وتلك الهيئات محكمة في حقيقة الماهية حتى يحكم عليها بالكمال ، أو النقصان والصحة أو البطلان ، وهي متشخصات ، وإلا لم يصح الحكم على صاحبها بشيء من ذلك; إذ هي في الذهن كالمعدوم ، وإذا كان كذلك فالاعتبار فيها بما وقع في الخارج ، وليس إلا أفعالا موصوفة بأمور خاصة لازمة ، وأمور على خلاف ذلك ، وكل مكلف مخاطب في خاصة نفسه بها فهو إذا مخاطب بما يصح له أن يحصله في الخارج ، فلا يمكن ذلك إلا باللوازم الخارجية فهو إذا مخاطب بها لا بغيرها ، وهو المطلوب ، فإن حصلت بزيادة وصف ، أو نقصانه فلم تحصل إذا على حقيقتها ، بل على حقيقة أخرى والتي خوطب بها لم تحصل بعد ، فإن قيل : فيشكل معنى الآية إذا ، وهو قوله : خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ التوبة : 102 ] ، وأيضا فإن الصلاة قد تحصل بزيادة ، أو نقصان ، وتصح مع ذلك ، وهو دليل على أن المعتبر ما يصدق عليه صلاة في الجملة ، وهو الاعتبار الذهني .

    قيل : أما الآية ، فإن الأعمال المتعارضة الأحكام ليست بمتلازمة لحصولها في زمانين ، وفي حالين ، وفي مثله نزلت الآية ، وإذا تلازمت حتى صار أحدها : كالوصف للآخر ، فإن كان كالوصف السلبي ، فلا إشكال في عدم التلازم; لأن الوصف السلبي اعتباري للموصوف به ليس صفة وجودية ، وأما إن كانت [ ص: 224 ] صفة وجودية ، أو كالصفة الوجودية فحينئذ يرجع ذلك إلى الحاصل في الخارج ولا يدخل مثله تحت الآية ، وأما الزيادة غير المبطلة ، أو النقصان فالاعتبار فيه بما حصل في الخارج جاريا مجرى المخاطب به فالصلاة الناقصة أشبهت في الخارج الصلاة الكاملة فعوملت معاملتها لا أنه اعتبر فيها الذهني في الجملة والبحث في هذه المسألة يتشعب ، وينبني عليه مسائل فقهية .
    فصل

    ويتصدى النظر هنا فيما يصير من الأفعال المختلفة وصفا لصاحبه حتى يجري فيه النظران ، وما لا يصير كذلك ، فلا يجريان فيه .

    [ ص: 225 ] وبيان ذلك أن الأفعال المتلازمة إما أن يصير أحدها وصفا للآخر ، أو لا ، فإن كان الثاني ، فلا تلازم كترك الصلاة مع ترك الزنى ، أو السرقة ، فإن أحد التركين لا يصير كالوصف للآخر لعدم التزاحم في العمل; إذ كان يمكن المكلف الترك لكل فعل مشروع ، أو غير مشروع ، وما ذاك إلا لأنهما ليسا متزاحمين على المكلف ، وسبب ذلك أنهما راجعان إلى أمر سلبي ، والسلبيات اعتباريات لا حقيقية ، وإن كان الأول فإما أن يكون وصفا سلبيا ، أو وجوديا ، فإن كان سلبيا فإما أن يثبت اعتباره فيه شرعا على الخصوص أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في اعتبار الصورة الخارجية كترك الطهارة في الصلاة وترك الاستقبال ، وإن كان الثاني ، فلا اعتداد بالوصف السلبي كترك قضاء الدين مع فعل الصلاة فيمن فر من قضائه إلى الصلاة ، فإن الصلاة ، وإن وصفت بأنها فرار من واجب فليس ذلك بوصف لها إلا اعتباريا تقديريا لا حقيقة له في الخارج ، وإن كان الوصف وجوديا فهذا هو محل النظر كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بالسكين المغصوبة والبيوع الفاسدة لأوصاف فيها خارجة عن حقائقها ، وما أشبه ذلك .

    فالحاصل أن التروك من حيث هي تروك لا تتلازم في الخارج ، وكذلك [ ص: 226 ] الأفعال مع التروك إلا أن يثبت تلازمها شرعا ، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى أن الترك إنما اعتبر من جهة فقد وصف وجودي للفعل الوجودي كالطهارة للصلاة ، وأما الأفعال مع الأفعال ، فهي التي تتلازم إذا قرنت في الخارج فيحدث منها فعل واحد موصوف فينظر فيه ، وفي وصفه كما تقدم والله أعلم .

    ولهذه المسألة تعلق بباب الأوامر والنواهي .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #107
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (107)
    صـ227 إلى صـ 230


    المسألة الخامسة

    الأدلة الشرعية ضربان :

    أحدهما : ما يرجع إلى النقل المحض ، والثاني : ما يرجع إلى الرأي المحض .

    وهذه القسمة هي بالنسبة إلى أصول الأدلة ، وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر; لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل ، فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة ، وأما الثاني فالقياس والاستدلال ، ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق ، وإما باختلاف فيلحق بالضرب الأول الإجماع على أي وجه قيل [ ص: 228 ] به ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا; لأن ذلك كله ، وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد .

    ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري ، وقد ترجع إلى الضرب الأول إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية حسبما يتبين في موضعه من هذا الكتاب بحول الله .
    فصل

    ثم نقول : إن الأدلة الشرعية في أصلها محصورة في الضرب الأول; لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل ، وإنما أثبتناه بالأول; إذ منه قامت أدلة صحة الاعتماد عليه ، وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة ، وقد صار; إذ ذاك الضرب الأول مستند الأحكام التكليفية من جهتين .

    إحداهما جهة دلالته على الأحكام الجزئية الفرعية والأخرى جهة دلالته على القواعد التي تستند إليها الأحكام الجزئية الفرعية .

    فالأولى كدلالته على أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح والبيوع والحدود ، وأشباه ذلك والثانية كدلالته على أن الإجماع حجة ، وعلى أن القياس حجة ، وأن قول الصحابي حجة ، وشرع من قبلنا حجة ، وما كان نحو ذلك .
    فصل

    [ ص: 229 ] ثم نقول : إن الضرب الأول راجع في المعنى إلى الكتاب ، وذلك من وجهين .

    أحدهما : أن العمل بالسنة والاعتماد عليها إنما يدل عليه الكتاب; لأن الدليل على صدق الرسول المعجزة ، وقد حصر - عليه الصلاة والسلام - معجزته في القرآن بقوله : وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي هذا وإن كان له من المعجزات كثير جدا بعضه يؤمن على مثله البشر ولكن معجزة القرآن أعظم من ذلك كله .

    وأيضا فإن الله قد قال في كتابه : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] ، وقال : وأطيعوا الله ورسوله في مواضع كثيرة .

    وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ، ومما ليس فيه مما هو من سنته ، وقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] ، وقال : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ النور : 63 ] [ ص: 230 ] إلى ما أشبه ذلك .

    والوجه الثاني : أن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب ، وشارحة لمعانيه ولذلك قال تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] ، وقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [ المائدة : 67 ] ، وذلك التبليغ من وجهين :

    تبليغ الرسالة ، وهو الكتاب ، وبيان معانيه .

    وكذلك فعل صلى الله عليه وسلم وجزاه عنا أفضل الجزاء بمنه وفضله ، فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانا للكتاب هذا هو الأمر العام فيها .

    وتمام بيان هذا الوجه مذكور بعد إن شاء الله فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ، ومدارك أهل الاجتهاد وليس وراءه مرمى; لأنه كلام الله القديم ، وأن إلى ربك المنتهى [ النجم : 42 ] ، وقد قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ النحل : 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وبيان هذا مذكور بعد إن شاء الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #108
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (108)
    صـ231 إلى صـ 240


    المسألة السادسة

    كل دليل شرعي فمبنى على مقدمتين :

    إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم . والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي .

    فالأولى نظرية ، وأعني بالنظرية هنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية . والثانية نقلية ، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي ، بل هذا جار في كل مطلب عقلي ، أو نقلي فيصح أن نقول : الأولى راجعة إلى تحقيق المناط والثانية راجعة إلى الحكم ، ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية ، فإذا قلت إن كل مسكر حرام ، فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود [ ص: 232 ] منه ليستعمل ، أو لا يستعمل ; لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون ، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل : له أهذا خمر أم لا ، فلا بد من النظر في كونه خمرا ، أو غير خمر ، وهو معنى تحقيق المناط فإذا وجد فيه أمارة الخمر ، أو حقيقتها بنظر معتبر قال : نعم هذا خمر ، فيقال له كل خمر حرام الاستعمال فيجتنبه ، وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء ، فلا بد من النظر إليه هل هو مطلق أم لا ، وذلك برؤية اللون ، وبذوق الطعم ، وشم الرائحة ، فإذا تبين أنه على أصل خلقته ، فقد تحقق مناطه عنده ، وأنه مطلق ، وهى المقدمة النظرية ، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية ، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز ، وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا فينظر هل هو محدث أم لا ، فإن تحقق الحدث ، فقد حقق مناط الحكم فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء ، وإن تحقق فقده فكذلك ، فيرد عليه أنه غير مطلوب الوضوء ، وهى المقدمة النقلية .

    فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ، ومقيدة ، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين ، وهي النقلية ولا ينزل الحكم بها إلا على ما [ ص: 233 ] تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق ، أو على التقييد ، وهو مقتضى المقدمة النظرية والمسألة ظاهرة في الشرعيات .

    نعم ، وفي اللغويات والعقليات فإنا إذا قلنا ضرب زيد عمرا ، وأردنا أن نعرف ما الذي يرفع من الاسمين ، وما الذي ينصب ، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول ، فإذا حققنا الفاعل ، وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية ، وهى أن كل فاعل مرفوع ، ونصبنا المفعول كذلك; لأن كل مفعول منصوب ، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل; لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية ، وهكذا في سائر علوم اللغة ، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أم لا ، فلا بد من تحقيق مناط الحكم ، وهو العالم فنجده متغيرا ، وهي المقدمة الأولى ، ثم نأتي بمقدمة مسلمة ، وهو قولنا : كل متغير حادث .

    لكنا قلنا في الشرعيات ، وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية ، وهي المفيدة لتحقيق المناط ، وذلك مطرد في العقليات أيضا ، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات ؟ هذا لا بد من تأمله .

    والذي يقال : فيه أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق [ ص: 234 ] أنها نقلية ، فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا ، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة ، وهي الضروريات ، وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم فهذه خاصية إحدى المقدمتين ، وهي أن تكون مسلمة ، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه ولا حاجة إلى البسط هنا ، فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه ، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر ، وبالله التوفيق .
    [ ص: 235 ] المسألة السابعة

    كل دليل شرعي ثبت في الكتاب مطلقا غير مقيد ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص فهو راجع إلى معنى معقول وكل إلى نظر المكلف ، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات ، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي ، ونقض العهد في المنهيات .

    وكل دليل ثبت فيها مقيدا غير مطلق وجعل له قانون ، وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وكل إلى نظره; إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها فضلا عن كيفياتها ، وكذلك في العوارض الطارئة عليها; لأنها من جنسها ، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية ، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية; لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه ، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية ، ويتبين ذلك بإيراد مسألة مستأنفة .
    [ ص: 236 ] المسألة الثامنة

    فنقول : إذا رأيت في المدنيات أصلا كليا فتأمله تجده جزئيا بالنسبة إلى ما هو أعم منه ، أو تكميلا لأصل كلي ، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال .

    أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة ، وما نشأ عنهما ، وهو أول ما نزل بمكة .

    وأما النفس فظاهر إنزال حفظها بمكة كقوله : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ الأنعام : 151 ] ، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ التكوير : 8 ] ، وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ الأنعام : 119 ] ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 237 ] وأما العقل فهو ، وإن لم يرد تحريم ما يفسده ، وهو الخمر إلا بالمدينة ، فقد ورد في المكيات مجملا; إذ هو داخل في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء ، ومنافعها من السمع والبصر ، وغيرهما ، وكذلك منافعها ، فالعقل محفوظ شرعا في الأصول المكية عما يزيله رأسا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة ، أو لحظة ، ثم يعود كأنه غطي ثم كشف عنه .

    [ ص: 238 ] وأيضا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات; لأن شرب الخمر قد بين الله مثالبها في القرآن ، حيث قال :إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [ المائدة : 91 ] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان .

    وأما النسل ، فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنا والأمر بحفظ الفروج إلا على الأزواج ، أو ملك اليمين .

    وأما المال فورد فيه تحريم الظلم ، وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ، ونقص المكيال ، أو الميزان والفساد في الأرض ، وما دار بهذا المعنى .

    وأما العرض الملحق بها فداخل تحت النهي عن أذايات النفوس .

    ولم ترد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب [ ص: 239 ] الوجود حاصل ، ففي الأربعة الأواخر ظاهر ، وأما الدين فراجع إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح ، والتصديق بالقلب آت بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلا في المدني فالأصل وارد في المكي ، والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد ، ويكون ما زاد على ذلك تكميلا .

    وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة ، وذلك يحصل به معنى الانقياد ، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولا وراثة عن أبيهم إبراهيم فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم .

    [ ص: 240 ] وكذلك الصيام أيضا ، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضا حين قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء ، فأحكمهما التشريع المدني ، وأقرهما على ما أقر الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه حين قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] الآية فلهما أصل في المكي على الجملة .

    والجهاد الذي شرع بالمدينة فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقرر بمكة كقوله يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر [ لقمان : 17 ] ، وما أشبه ذلك .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #109
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (109)
    صـ241 إلى صـ 251

    المسألة التاسعة

    كل دليل شرعي يمكن أخذه كليا ، وسواء علينا أكان كليا أم جزئيا إلا ما خصه الدليل كقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، وأشباه ذلك ، والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليا ، أو جزئيا ، فإن كان كليا فهو المطلوب ، وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة .

    [ ص: 242 ] منها عموم التشريع في الأصل كقوله تعالى : يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] ، وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

    وهذا معنى مقطوع به لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، وقد جاء في الحديث : بعثت للأحمر والأسود .

    ومنها أصل شرعية القياس; إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى ، وهو معنى متفق عليه ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك .

    ومنها أن الله تعالى قال : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ الأحزاب : 37 ] الآية ، فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عموما ، أو غيره ولكن الله تعالى بين أنه أمر به نبيه لأجل التأسي ، فقال : لكيلا ولذلك قال : [ ص: 243 ] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ الأحزاب : 21 ] هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له ، وتحريم نكاح أزواجه من بعده والزيادة على أربع فلذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى فغيره أحق أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم ، وإن لم يكن لها صيغ عموم ، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة ، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بقوله ، وفعله فالقول كقوله : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وقوله في قضايا خاصة سئل فيها : أهي لنا [ ص: 244 ] خاصة أم للناس عامة ؟ : بل للناس عامة كما في قضية الذي نزلت فيه [ ص: 245 ] وأقم الصلاة طرفي النهار [ هود : 114 ] ، وأشباهها ، وقد جعل نفسه - عليه الصلاة والسلام - قدوة للناس كما ظهر في حديث الإصباح جنبا ، وهو يريد أن يصوم ، والغسل من التقاء الختانين .

    وقوله : إني لأنسى ، أو أنسى لأسن ، وقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي [ ص: 246 ] وخذوا عني مناسككم ، وهو كثير .
    المسألة العاشرة

    الأدلة الشرعية ضربان :

    أحدهما : أن يكون على طريقة البرهان العقلي فيستدل به على المطلوب الذي جعل دليلا عليه ، وكأنه تعليم للأمة كيف يستدلون على المخالفين ، وهو في أول الأمر موضوع لذلك ، ويدخل هنا جميع البراهين العقلية ، وما جرى مجراها كقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء : 22 ] ، وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ النحل : 103 ] ، وقوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته [ فصلت : 44 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ يس : 81 ] ، وقوله : قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب [ البقرة : 258 ] ، وقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم إلى قوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ الروم : 40 ] ، وهذا الضرب يستدل به على الموالف والمخالف; لأنه أمر معلوم عند [ ص: 248 ] من له عقل ، فلا يقتصر به على الموافق في النحلة .

    والثاني : مبني على الموافقة في النحلة ، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف ، ودلالة كتب عليكم القصاص في القتلى [ البقرة : 178 ] ، كتب عليكم الصيام [ البقرة : 183 ] ، أحل لكم ليلة الصيام الرفث [ البقرة : 187 ] ، فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين ولا أتي بها في محل استدلال ، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول ، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها ، فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق ، وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف .

    فالعالم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيا كأنه هو واضعه ، وإذا استدل بالضرب الثاني : أخذه معنى مسلما لفهم مقتضاه إلزاما والتزاما ، فإذا أطلق لفظ الدليل على الضربين فهو إطلاق بنوع من اشتراك اللفظ; لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه بالمعنى الثاني ، فهو بالمعنى الأول جار على الاصطلاح المشهور عند العلماء ، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولا مقبولا فقط .
    [ ص: 249 ] المسألة الحادية عشرة

    إذا كان الدليل على حقيقته في اللفظ لم يستدل به على المعنى المجازى إلا على القول بتعميم اللفظ المشترك بشرط أن يكون ذلك المعنى مستعملا عند العرب في مثل ذلك اللفظ ، وإلا فلا .

    فمثال ذلك مع وجود الشرط قال تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فذهب جماعة إلى أن المراد بالحياة والموت ما هو حقيقي كإخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة ، وبالعكس ، وأشباه ذلك مما يرجع إلى معناه ، وذهب قوم إلى تفسير الآية بالموت والحياة المجازيين المستعملين في مثل قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه الآية [ الأنعام : 122 ] وربما ادعى قوم أن الجميع مراد بناء على القول بتعميم اللفظ المشترك واستعمال اللفظ في حقيقته ، ومجازه ، ولهذا الأصل أمثلة كثيرة .

    [ ص: 250 ] ومثال ما تخلف فيه الشرط قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] .

    فالمفسرون هنا على أن المراد بالسكر ما هو الحقيقة ، أو سكر النوم ، وهو مجاز فيه مستعمل ، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته فلو فسر على أن السكر هو سكر الغفلة والشهوة ، وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التقوى كما منع سكر الشراب من الجواز في صلب الفقه ، وأن الجنابة المراد بها التضمخ بدنس الذنوب والاغتسال هو التوبة ، لكان هذا التفسير غير معتبر; لأن العرب لم تستعمل مثله في مثل هذا الموضع ولا عهد لها به ، لأنها لا تفهم من الجنابة والاغتسال إلا الحقيقة ، ومثله قول من زعم أن النعلين في قوله تعالى : فاخلع نعليك [ طه : 12 ] إشارة إلى خلع الكونين ، فهذا على ظاهره لا تعرفه العرب لا في حقائقها المستعملة ولا في مجازاتها وربما نقل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : تداووا ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء أن فيه إشارة إلى التداوي بالتوبة من أمراض الذنوب وكل ذلك غير [ ص: 251 ] معتبر ، فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله ، وأول قاطع فيه أن القرآن أنزل عربيا ، وبلسان العرب ، وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم ، وهذا الاستعمال خارج عنه ولهذا المعنى تقرير في موضعه من هذا الكتاب والحمد لله ، فإن نقل في التفسير نحوه عن رجل يعتد به في أهل العلم فالقول فيه مبسوط بعد هذا بحول الله .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #110
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (110)
    صـ252 إلى صـ 261


    المسألة الثانية عشرة

    كل دليل شرعي لا يخلو أن يكون معمولا به في السلف المتقدمين دائما ، أو أكثريا ، أو لا يكون معمولا به إلا قليلا ، أو في وقت ما ، أو لا يثبت به عمل فهذه ثلاثة أقسام .

    أحدها : أن يكون معمولا به دائما ، أو أكثريا ، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل على وفقه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كان الدليل مما يقتضي إيجابا ، أو ندبا ، أو غير ذلك من الأحكام كفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله : في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نفل ، والزكاة بشروطها والضحايا والعقيقة والنكاح والطلاق والبيوع ، وسواها من الأحكام التي جاءت في الشريعة ، وبينها - عليه الصلاة والسلام - بقوله ، أو فعله ، أو إقراره ، ووقع فعله ، أو فعل صحابته معه ، أو بعده على وفق ذلك دائما ، أو أكثريا ، وبالجملة ساوى القول الفعل ولم يخالفه بوجه ، فلا إشكال في صحة الاستدلال وصحة العمل من سائر الأمة بذلك على الإطلاق فمن خالف ذلك فلم يعمل به على حسب ما عمل به الأولون جرى فيه ما تقدم في كتاب الأحكام من اعتبار الكلية والجزئية ، فلا معنى للإعادة .

    والثاني : أن لا يقع العمل به إلا قليلا ، أو في وقت من الأوقات ، أو حال [ ص: 253 ] من الأحوال ، ووقع إيثار غيره والعمل به دائما ، أو أكثريا فذلك الغير هو السنة المتبعة والطريق السابلة ، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلا فيجب التثبت فيه ، وفي العمل على وفقه ، والمثابرة على ما هو الأعم والأكثر ، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل إما أن يكون لمعنى شرعي ، أو لغير معنى شرعي ، وباطل أن يكون لغير معنى شرعي ، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به ، وإذا كان كذلك ، فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا العمل على وفقه ، وإن لم يكن معارضا في الحقيقة ، فلا بد من تحري ما تحروا ، وموافقة ما داوموا عليه .

    وأيضا فإن فرض أن هذا المنقول الذي قل العمل به مع ما كثر العمل به [ ص: 254 ] يقتضيان التخيير فعملهم إذا حقق النظر فيه لا يقتضي مطلق التخيير ، بل اقتضى أن ما داوموا عليه هو الأولى في الجملة ، وإن كان العمل الواقع على وفق الآخر لا حرج فيه كما نقول : في المباح مع المندوب إن وضعهما بحسب فعل المكلف يشبه المخير فيه; إذ لا حرج في ترك المندوب على الجملة فصار المكلف كالمخير فيهما لكنه في الحقيقة ليس كذلك ، بل المندوب أولى أن يعمل به من المباح في الجملة فكذلك ما نحن فيه .

    وإلى هذا ، فقد ذكر أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة ما لم يعضدها دليل آخر لاحتمالها في أنفسها ، وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر ، ومن ذلك في كتاب الأحكام ، وما بعده ، فإذا كان كذلك ترجح العمل على خلاف ذلك القليل ولهذا القسم أمثلة كثيرة ولكنها على ضربين .

    أحدهما : أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببا للقلة حتى إذا عدم السبب عدم المسبب وله مواضع كوقوعه بيانا لحدود حدت ، [ ص: 255 ] أو أوقات عينت ، أو نحو ذلك .

    كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين ، وبيان رسول الله [ ص: 256 ] صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن وقت الصلاة فقال : صل معنا هذين اليومين فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر الوقت الاختياري الذي لا يتعدى ، ثم لم يزل مثابرا على أوائل الأوقات إلا عند عارض كالإبراد في شدة الحر والجمع بين الصلاتين في السفر ، وأشباه ذلك .

    [ ص: 257 ] وكذلك قوله : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، فقد أدرك الصبح إلخ بيان لأوقات الأعذار لا مطلقا فلذلك لم يقع العمل عليه في حال الاختيار ، ومن أجل ذلك يفهم أن قوله - عليه الصلاة والسلام - : أسفروا بالفجر مرجوح بالنسبة إلى العمل على وفقه ، وإن لم يصح فالأمر [ ص: 258 ] واضح ، وبه أيضا يفهم وجه إنكار أبي مسعود الأنصاري على المغيرة بن شعبة تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ، وإنكار عروة بن الزبير على عمر بن عبد العزيز كذلك واحتجاج عروة بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر ولفظ كان يفعل يقتضي الكثرة [ ص: 259 ] بحسب العرف فكأنه احتج عليه في مخالفة ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما احتج أيضا أبو مسعود على المغيرة بأن جبريل نزل فصلى إلى أن قال : بهذا أمرت ، وكذلك قول عمر بن الخطاب للداخل للمسجد يوم الجمعة ، وهو على المنبر أية ساعة هذه ، وأشباهه .

    وكما جاء في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم ترك ذلك [ ص: 260 ] مخافة أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ولم يعد إلى ذلك هو ولا أبو بكر حتى جاءت خلافة عمر بن الخطاب فعمل بذلك لزوال علة الإيجاب ، ثم نبه على أن القيام في آخر الليل أفضل من ذلك فلأجل ذلك كان كبار السلف من الصحابة والتابعين ينصرفون بعد صلاة العشاء إلى بيوتهم ولا يقومون مع الإمام واستحبه مالك لمن قدر عليه .

    وإلى هذا الأصل ردت عائشة ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإدامة على صلاة الضحى فعملت بها لزوال العلة بموته فقالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط ، وإني لأسبحها .

    [ ص: 261 ] وفي رواية : وإني لأسبحها ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل ، وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

    وكانت تصلي الضحى ثماني ركعات ، ثم تقول لو نشر لي أبواي ما تركتها .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #111
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (111)
    صـ262 إلى صـ 272


    فإذا بنينا على ما فهمت من ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للمداومة على الضحى ، [ ص: 262 ] فلا حرج على من فعلها .

    ونظير ذلك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يواصل الصيام ، ثم نهى عن الوصال وفهم الصحابة من ذلك عائشة ، وغيرها أن النهي للرفق فواصلوا ولم يواصلوا كلهم ، وإنما واصل منهم جماعة كان لهم قوة على الوصال ولم يتخوفوا عاقبته من الضعف عن القيام بالواجبات .

    وأمثلة هذا الضرب كثيرة ، وحكمه الذي ينبغي فيه الموافقة للعمل الغالب كائنا ما كان ، وترك القليل ، أو تقليله حسبما فعلوه أما فيما كان تعريفا بحد ، وما أشبهه ، فقد استمر العمل الأول على ما هو الأولى فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 263 ] ما جاء بعد موافقته لهم على ذلك ، وأما غيره فكذلك أيضا ، ويظهر لك بالنظر في الأمثلة المذكورة .

    فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في المسجد ، ثم تركه بإطلاق مخافة التشريع يوجد مثله بعد موته ، وذلك بالنسبة إلى الأئمة والعلماء والفضلاء المقتدى بهم ، فإن هؤلاء منتصبون; لأن يقتدى بهم فيما يفعلون ، وفي باب البيان من هذا الكتاب لهذا بيان فيوشك أن يعتقد الجاهل بالفعل إذا رأى العالم مداوما عليه أنه واجب ، وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع ، وفي هذا الكتاب له ذكر اللهم إلا أن يعمل به الصحابة كما في قيام رمضان ، فلا بأس ، وسنتهم سنة ماضية ، وقد حفظ الله فيها هذا المحظور الذي هو ظن الوجوب مع أنهم لم يجتمعوا على إعماله والمداومة عليه إلا وهم يرون أن القيام في البيوت أفضل ، ويتحرونه أيضا فكان على قولهم ، وعملهم القيام في البيوت أولى ولذلك جعل بعض الفقهاء القيام في المساجد أولى لمن لم يستظهر القرآن ، أو لمن لا يقوى إلا بالتأسي فكانت أولويته لعذر كالرخصة ، ومنهم من يطلق القول بأن البيوت أولى فعلى كل [ ص: 264 ] تقدير ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدم ، وما رآه السلف الصالح فسنة أيضا ولذلك يقول بعضهم لا ينبغي تعطيل المساجد عنها جملة; لأنها مخالفة لما استمر عليه العمل في الصحابة .

    وأما صلاة الضحى فشهادة عائشة بأنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط دليل على قلة عمله بها ، ثم الصحابة لم ينقل عنهم عموم العمل بها ، وإنما داوم من داوم عليها منهم بمكان لا يتأسى بهم فيه كالبيوت عملا بقاعدة الدوام على الأعمال ولأن عائشة فهمت أنه لولا خوف الإيجاب لداوم عليها ، وهذا أيضا موجود في عمل المقتدى بهم إلا أن ضميمة إخفائها يصد عن الاقتداء .

    ومن هنا لم تشرع الجماعة في النوافل بإطلاق ، بل في بعض مؤكداتها كالعيدين والخسوف ، ونحوها ، وما سوى ذلك ، فقد بين - عليه الصلاة والسلام - أن النوافل في البيوت أفضل حتى جعلها في ظاهر لفظ الحديث أفضل من [ ص: 265 ] صلاتها في مسجده الذي هو أفضل البقاع التي يصلى فيها فلذلك صلى - عليه الصلاة والسلام - في بيت مليكة ركعتين في جماعة وصلى بابن عباس في بيت خالته ميمونة بالليل جماعة ولم يظهر ذلك في الناس ولا أمرهم به ولا شهره فيهم ولا أكثر من ذلك ، بل كان عامة عمله في النوافل على حال الانفراد فدلت هذه القرائن كلها مع ما انضاف إليها من أن ذلك أيضا لم يشتهر في السلف الصالح ولا واظبوا على العمل به دائما ولا كثيرا أنه مرجوح ، وأن ما كانوا عليه في الأعم الأغلب هو الأولى والأحرى ، وإذا نظرنا إلى أصل الذريعة اشتد الأمر في هذه القضايا فكان العمل على ما داوم عليه الأولون أولى ، وهو الذي أخذ به مالك فيما روي عنه أنه يجيز الجماعة في النافلة [ ص: 266 ] في الرجلين والثلاثة ، ونحو ذلك ، وحيث لا يكون مظنة اشتهار ، وما سوى ذلك فهو يكرهه .

    وأما مسألة الوصال ، فإن الأحق والأولى ما كان عليه عامتهم ولم يواصل خاصتهم حتى كانوا في صيامهم كالعامة في تركهم له لما رزقهم الله من القوة التي هي أنموذج من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني مع أن بعض من كان يسرد الصيام قال : بعد ما ضعف يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وأيضا فإن طلب المداومة على الأعمال الصالحة يطلب المكلف بالرفق والقصد خوف الانقطاع ، وقد مر لهذا المعنى تقرير في كتاب الأحكام فكان الأحرى الحمل على التوسط وليس إلا ما كان عليه العامة ، وما واظبوا عليه ، وعلى هذا فاحمل نظائر هذا الضرب .

    [ ص: 267 ] والضرب الثاني : ما كان على خلاف ذلك ولكنه يأتي على وجوه .

    منها أن يكون محتملا في نفسه فيختلفوا فيه بحسب ما يقوى عند المجتهد فيه ، أو يختلف في أصله والذي هو أبرأ للعهدة ، وأبلغ في الاحتياط تركه والعمل على وفق الأعم الأغلب كقيام الرجل للرجل إكراما له ، وتعظيما ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل عليهم ، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولم ينقل عن الصحابة عمل مستمر ولو كان لنقل حتى روي عن عمر بن عبد العزيز أنه لما استخلف قاموا له في المجلس ، فقال : إن تقوموا [ ص: 268 ] نقم ، وإن تقعدوا نقعد ، وإنما يقوم الناس لرب العالمين فقيامه صلى الله عليه وسلم لجعفر ابن عمه ، وقوله قوموا لسيدكم إن حملناه على ظاهره فالأولى خلافه لما تقدم ، وإن نظرنا فيه وجدناه محتملا أن يكون القيام على وجه الاحترام والتعظيم أو على وجه آخر من المبادرة إلى اللقاء لشوق يجده القائم للمقوم [ ص: 269 ] له ، أو ليفسح له في المجلس حتى يجد موضعا للقعود ، أو للإعانة على معنى من المعاني ، أو لغير ذلك مما يحتمل .

    وإذا احتمل الموضع طلبنا بالوقوف مع العمل المستمر لإمكان أن يكون هذا العمل القليل غير معارض له فنحن في اتباع العمل المستمر على بينة ، وبراءة ذمة باتفاق ، وإن رجعنا إلى هذا المحتمل لم نجد فيه مع المعارض الأقوى وجها للتمسك إلا من باب التمسك بمجرد الظاهر ، وذلك لا يقوى قوة معارضه .

    ومثل ذلك قصة مالك مع سفيان في المعانقة ، فإن مالكا قال له : كان ذلك خاصا بجعفر فقال سفيان ما يخصه يخصنا ، وما يعمه يعمنا إذا كنا صالحين . فيمكن أن يكون مالك عمل في المعانقة بناء على هذا الأصل فجعل معانقة النبي - عليه الصلاة والسلام - أمرا خاصا أي ليس عليه العمل فالذي ينبغي وقفه على ما جرى فيه .

    وكذلك تقبيل اليد إن فرضنا ، أو سلمنا صحة ما روي فيه ، فإنه لم يقع [ ص: 270 ] تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرا ، ثم لم يستمر فيه عمل إلا الترك من الصحابة والتابعين فدل على مرجوحيته .

    ومن ذلك سجود الشكر إن فرضنا ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يداوم عليه مع كثرة البشائر التي توالت عليه والنعم التي أفرغت عليه إفراغا فلم ينقل عنه مواظبة على ذلك ولا جاء عن عامة الصحابة منه شيء إلا في الندرة مثل كعب بن مالك ؛ إذ نزلت توبته ، فكان العمل على وفقه تركا للعمل على وفق العامة منهم .

    ومن هذا المكان يتطلع إلى قصد مالك رحمه الله في جعله العمل مقدما على الأحاديث; إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك ، وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب [ ص: 271 ] أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذا عن العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في قوة المستمر .

    وقد قيل لمالك : إن قوما يقولون إن التشهد فرض ، فقال : أما كان أحد يعرف التشهد ؟ فأشار إلى الإنكار عليه بأن مذهبهم كالمبتدع الذي جاء بخلاف ما عليه من تقدم .

    وسأله أبو يوسف عن الأذان فقال مالك : وما حاجتك إلى ذلك ؟ فعجبا من فقيه يسأل عن الأذان ، ثم قال له مالك : وكيف الأذان عندكم ؟ فذكر مذهبهم فيه ، فقال من أين لكم هذا ؟ فذكر له أن بلالا لما قدم الشام سألوه أن يؤذن لهم فأذن لهم كما ذكر عنهم ، فقال له مالك : ما أدري ما أذان يوم ؟ وما صلاة يوم ؟ هذا مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وولده من بعده يؤذنون في حياته ، وعند قبره ، وبحضرة الخلفاء الراشدين بعده .

    فأشار مالك إلى أن ما جرى عليه العمل ، وثبت مستمرا أثبت في الاتباع ، وأولى أن يرجع إليه .

    وقد بين في العتبية أصلا لهذا المعنى عظيما يجل موقعه عند من نظر إلى مغزاه ، وذلك أنه سئل عن الرجل يأتي إليه الأمر يحبه فيسجد لله شكرا فقال لا يفعل ليس مما مضى من أمر الناس قيل : له إن أبا بكر الصديق [ ص: 272 ] فيما يذكرون سجد يوم اليمامة شكرا ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول هذا شيء لم نسمع له خلافا ، ثم قال : قد فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم سجد ؟ إذا جاءك مثل هذا مما كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك ، فإنه لو كان لذكر ; لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع إذا جاءك الأمر لا تعرفه فدعه .

    هذا ما قال ، وهو واضح في أن العمل العام هو المعتمد على أي وجه كان ، وفي أي محل وقع ولا يلتفت إلى قلائل ما نقل ولا نوادر الأفعال إذا عارضها الأمر العام والكثير .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #112
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (112)
    صـ273 إلى صـ 286

    ومنها أن يكون هذا القليل خاصا بزمانه ، أو بصاحبه الذي عمل به ، أو خاصا بحال من الأحوال ، فلا يكون فيه حجة على العمل به في غير ما تقيد به كما قالوا في مسحه - عليه الصلاة والسلام - على ناصيته ، وعلى العمامة في الوضوء أنه كان به مرض ، وكذلك نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن ادخار لحوم الأضاحي [ ص: 273 ] بعد ثلاث بناء على أن إذنه بعد ذلك لم يكن نسخا ، وهو قوله : إنما نهيتكم لأجل الدافة .

    ومنها أن يكون مما فعل فلتة فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ولا يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأذن فيه ابتداء لأحد ، فلا يجب أن يكون تقريره عليه إذنا له ولغيره كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - عليه الصلاة والسلام - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال - عليه الصلاة والسلام - : أما إنه لو جاءني لاستغفرت له ، وتركه كذلك حتى حكم الله فيه .

    [ ص: 274 ] فهذا وأمثاله لا يقتضي أصل المشروعية ابتداء ولا دواما أما الابتداء فلم يكن فعله ذلك بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما دواما ، فإنه إنما تركه حتى يحكم الله فيه ، وهذا خاص بزمانه; إذ لا وصول إلى ذلك إلا بالوحي ، وقد انقطع بعده ، فلا يصح الإبقاء على ذلك لغيره حتى ينتظر الحكم فيه .

    وأيضا فإنه لم يؤثر عن ذلك الرجل ولا عن غيره أنه فعل مثل فعله لا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما بعده ، فإذا العمل بمثله أشد غررا; إذ لم يكن قبله تشريع يشهد له ولو كان قبله تشريع لكان استمرار العمل بخلافه كافيا في مرجوحيته .

    ومنها أن يكون العمل القليل رأيا لبعض الصحابة لم يتابع عليه; إذ كان في زمانه - عليه الصلاة والسلام - ولم يعلم به فيجيزه ، أو يمنعه; لأنه من الأمور التعبدية البعيدة عن الاجتهاد كما روي عن أبي طلحة الأنصاري أنه أكل بردا ، وهو صائم في رمضان فقيل له : أتأكل البرد ، وأنت صائم ، فقال : " إنما هو برد نزل من السماء نطهر به بطوننا ، وإنه ليس بطعام ولا شراب " .

    قال الطحاوي : ولعل ذلك من فعله لم يقف النبي - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 275 ] عليه فيعلمه الواجب عليه فيه . قال : وقد كان مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير ذلك عمر شيئا; إذ لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ينكره .

    فكذلك ما روي عن أبي طلحة قال : والذي كان من ذلك ما روي عن رفاعة بن رافع قال : كنت عن يمين عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فقال زيد بن ثابت يفتي الناس في الغسل من الجنابة برأيه ، فقال أعجل به علي فجاء زيد فقال عمر قد بلغ من أمرك أن تفتي الناس بالغسل من الجنابة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - برأيك ، فقال زيد والله يا أمير المؤمنين ما أفتيت برأيي ولكني سمعت من أعمامي شيئا فقلت به ، فقال من أي أعمامك فقال من أبي بن كعب ، وأبي أيوب ورفاعة بن رافع فالتفت إلي عمر فقال ما يقول هذا الفتى ، فقلت إنا كنا نفعله على عهد رسول الله [ ص: 276 ] صلى الله عليه وسلم ، ثم لا نغتسل قال : أفسألتم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقلت : لا ، ثم قال في آخر الحديث : لئن أخبرت بأحد يفعله ، ثم لا يغتسل لأنهكته عقوبة .

    فهذا أيضا من ذلك القبيل ، والشاهد له أنه لم يعمل به ولا استمر من عمل الناس على حال فكفى بمثله حجة على الترك .

    ومنها إمكان أن يكون عمل به قليلا ، ثم نسخ فترك العمل به جملة ، فلا يكون حجة بإطلاق فكان من الواجب في مثله الوقوف مع الأمر العام .

    ومثاله حديث الصيام عن الميت ، فإنه لم ينقل استمرار عمل به ولا كثرة ، فإن غالب الرواية فيه دائرة على عائشة وابن عباس ، وهما أول من [ ص: 277 ] خالفاه فروي عن عائشة أنها سئلت عن امرأة ماتت ، وعليها صوم ، فقالت : أطعموا عنها . وعن ابن عباس أنه قال : لا يصوم أحد عن أحد .

    قال مالك : ولم أسمع أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين بالمدينة أمروا أحدا أن يصوم عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد ، وإنما يفعل ذلك كل أحد عن نفسه .

    [ ص: 278 ] فهذا إخبار بترك العمل دائما في معظم الصحابة ، ومن يليهم ، وهو الذي عول عليه في المسألة كما أنه عول عليه في جملة عمله .

    وقد سئل عن سجود القرآن الذي في المفصل ، وقيل له : أتسجد أنت فيه فقال : لا ، وقيل له : إنما ذكرنا هذا لك لحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : أحب الأحاديث إلي ما اجتمع الناس عليه ، وهذا مما لم يجتمع الناس عليه ، وإنما هو حديث من حديث الناس ، وأعظم من ذلك القرآن يقول الله : منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] فالقرآن أعظم خطرا ، وفيه الناسخ والمنسوخ فكيف بالأحاديث .

    وهذا مما لم يجتمع عليه ، وهذا ظاهر في أن العمل بأحد المتعارضين دليل على أنه الناسخ للآخر; إذ كانوا إنما يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 279 ] وروي عن ابن شهاب أنه قال : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه ، وهذا صحيح ولما أخذ مالك بما عليه الناس وطرح ما سواه انضبط له الناسخ من المنسوخ على يسر والحمد لله .

    وثم أقسام أخر يستدل على الحكم فيها بما تقدم ذكره .

    وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل إلا قليلا ، وعند الحاجة ، ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير ولم يخف نسخ العمل ، أو عدم صحة في الدليل .

    [ ص: 280 ] أو احتمالا لا ينهض به الدليل أن يكون حجة ، أو ما أشبه ذلك أما لو عمل بالقليل دائما للزمه أمور :

    أحدها : المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .

    والثاني : استلزام ترك ما داوموا عليه; إذ الفرض أنهم داوموا على خلاف هذه الآثار فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه .

    والثالث : أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه واشتهار ما خالفه; إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد .

    الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثم فضل ما لكان الأولون أحق به والله المستعان .

    والقسم الثالث : أن لا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهو أشد مما قبله والأدلة المتقدمة جارية هنا بالأولى ، وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة ; إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ، ثم يفهمه هؤلاء فعمل الأولين - كيف كان - مصادم لمقتضى هذا المفهوم ، ومعارض له ولو كان ترك العمل ، فما عمل به [ ص: 281 ] المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين وكل من خالف الإجماع فهو مخطئ ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فما كانوا عليه من فعل ، أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر ، وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ ، فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .

    ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده; لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه ، أو عدم اعتباره ; لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .

    ولذلك أمثلة كثيرة كالاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم بما هو شهير [ ص: 282 ] في النقل عنهم ، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله ، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى : في أي صورة ما شاء ركبك [ الانفطار : 8 ] .

    وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه مما لم يجر له ذكر ، ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين ، وحاش لله من ذلك .

    ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة ، وذكر الله برفع الأصوات ، وبهيئة الاجتماع بقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه فيما بينهم الحديث . والحديث الآخر ما اجتمع قوم يذكرون الله . . إلخ ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر .

    [ ص: 283 ] وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] الآية ، وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ الأعراف : 55 ] .

    وبجهر قوام الليل بالقرآن واستدلالهم على الرقص في المساجد ، وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب ، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم : دونكم يا بني أرفدة .

    واستدلال كل من اخترع بدعة ، أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف ، وتصنيف الكتب ، وتدوين الدواوين ، وتضمين الصناع ، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة فخلطوا ، وغلطوا واتبعوا ما [ ص: 284 ] تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها ، وهو كله خطأ على الدين واتباع لسبيل الملحدين ، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك ، وعبروا على هذه المسالك إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون ، أو حادوا عن فهمها ، وهذا الأخير هو الصواب ; إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا من الأدلة المذكورة ، وما أشبهها إلا ما كانوا عليه ، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال وصار عملهم بخلاف ذلك دليلا إجماعيا على أن هؤلاء في استدلالهم ، وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة .

    فيقال لمن استدل بأمثال ذلك : هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين ، أو لم يوجد ؟ فإن زعم أنه لم يوجد ولا بد من ذلك ، فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له ، أو جاهلين به أم لا ؟ ولا يسعه أن يقول بهذا ; لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه ، وخرق للإجماع ، وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له فما الذي حال بينهم ، وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه .

    فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين ، وإذا كان مسكوتا عنه ، ووجد له في الأدلة مساغ ، فلا مخالفة ، إنما [ ص: 285 ] المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده ، وهو البدعة المنكرة قيل له : بل هو مخالف ; لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :

    أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ; لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له فمن استلحقه صار مخالفا للسنة حسبما تبين في كتاب المقاصد .

    والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ، ثم توجد فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ; إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع حسبما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .

    وأيضا فالمصالح المرسلة عند القائل بها لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية ولذلك تجد مالكا ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين فلذلك نهى عن أشياء ، وكره أشياء ، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل ، فلا مزيد عليه ، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجة في غيره .

    [ ص: 286 ] فالحاصل أن الأمر ، أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه ، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب ، لكن على وجه آخر ، فإذا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة فلم يبق إذا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين ، وكفى بذلك مزلة قدم ، وبالله التوفيق .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #113
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (113)
    صـ287 إلى صـ 296

    فصل

    واعلم أن المخالفة لعمل الأولين فيما تقدم ليست على رتبة واحدة ، بل فيها ما هو خفيف ، ومنها ما هو شديد ، وتفصيل القول في ذلك يستدعي طولا فلنكله إلى نظر المجتهدين ولكن المخالف على ضربين :

    أحدهما : أن يكون من أهل الاجتهاد ، فلا يخلو أن يبلغ في اجتهاده غاية الوسع أولا ، فإن كان كذلك ، فلا حرج عليه ، وهو مأجور على كل حال ، وإن لم يعط الاجتهاد حقه وقصر فيه فهو آثم حسبما بينه أهل الأصول .

    والثاني : أن لا يكون من أهل الاجتهاد ، وإنما أدخل نفسه فيه غلطا ، أو [ ص: 287 ] مغالطة ; إذ لم يشهد له بالاستحقاق أهل الرتبة ولا رأوه أهلا للدخول معهم فهذا مذموم .

    وقلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا من أهل هذا القسم ; لأن المجتهدين ، وإن اختلفوا في الأمر العام في المسائل التي اختلفوا فيها لا يختلفون إلا فيما اختلف فيه الأولون أو في مسألة من موارد الظنون لا ذكر لهم فيها فالأول يلزم منه اختلاف الأولين في العمل والثاني : يلزم منه الجريان على ما ورد فيه عمل .

    أما القسم الثاني : فإن أهله لا يعرفون ما في موافقة العمل من أوجه الرجحان ، فإن موافقته شاهد للدليل الذي استدل به ، ومصدق له على نحو ما يصدقه الإجماع ، فإنه نوع من الإجماع فعلي ، بخلاف ما إذا خالفه ، فإن المخالفة موهنة له ، أو مكذبة .

    [ ص: 288 ] وأيضا فإن العمل مخلص للأدلة من شوائب المحامل المقدرة الموهنة ; لأن المجتهد متى نظر في دليل على مسألة احتاج إلى البحث عن أمور كثيرة لا يستقيم إعمال الدليل دونها والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها إلى غير ذلك فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ولذلك اعتمده مالك بن أنس ، ومن قال بقوله ، وقد تقدم منه أمثلة ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحدا من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة ، وقد مر من ذلك أمثلة ، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة ، وفي كتب التواريخ والأخبار من ذلك أطراف ما أشنعها في الافتئات على الشريعة .

    وانظر في مسألة التداوي من الخمار في درة الغواص للحريري ، وأشباهها ، بل قد استدل بعض [ ص: 289 ] النصارى على صحة ما هم عليه الآن بالقرآن ، ثم تحيل فاستدل على أنهم مع ذلك كالمسلمين في التوحيد وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ الإسراء : 43 ] .

    فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل ولهذا الأمر سبب نذكره بحول الله على الاختصار ، وهي .
    [ ص: 290 ] المسألة الثالثة عشرة

    فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين :

    أحدهما : أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم ، أما قبل وقوعها فبأن توقع على وفقه ، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر ، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن ، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة .

    والثاني : أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة ، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع ، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه ، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة .

    ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [ آل عمران : 7 ] فليس مقصودهم الاقتباس منها ، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم ; إذ هو السابق المعتبر ، وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم ، والراسخون في العلم ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة فلذلك يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، [ ص: 291 ] ويقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ آل عمران : 8 ] فيتبرءون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم ، وهو أصل الشريعة ; لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله ، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا ، وتفصيل هذه الجملة قد مر منه في كتاب المقاصد ، وسيأتي تمامه في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى .
    [ ص: 292 ] المسألة الرابعة عشرة

    اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :

    أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .

    والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء ، ووجوبه على من خشي العنت ، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو ، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام ، أو لمن يدافعه الأخبثان ، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي .

    فإذا تبين المعنى المراد فهل يصح الاقتصار في الاستدلال عن الدليل المقتضي للحكم الأصلي أم لا بد من اعتبار التوابع والإضافات حتى يتقيد دليل الإطلاق بالأدلة المقتضية لاعتبارها هذا مما فيه نظر وتفصيل .

    فلا يخلو أن يأخذ المستدل الدليل على الحكم مفردا مجردا عن اعتبار الواقع أولا ، فإن أخذه مجردا صح الاستدلال ، وإن أخذه بقيد الوقوع ، فلا يصح ، وبيان ذلك أن الدليل المأخوذ بقيد الوقوع معناه التنزيل على المناط [ ص: 293 ] المعين ، وتعيين المناط موجب في كثير من النوازل إلى ضمائم وتقييدات لا يشعر المكلف بها عند عدم التعيين ، وإذا لم يشعر بها لم يلزم بيانها ; إذ ليس موضع الحاجة بخلاف [ ما ] إذا اقترن المناط بأمر محتاج إلى اعتباره في الاستدلال ، فلا بد من اعتباره .

    فقول الله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين [ النساء : 95 ] الآية لما نزلت أولا كانت مقررة لحكم أصلي منزل على مناط أصلي من القدرة ، وإمكان الامتثال ، وهو السابق فلم ينزل حكم أولي الضرر ولما اشتبه ذو الضرر ظن أن عموم نفي الاستواء ، يستوي فيه ذو الضرر وغيره ، فخاف من ذلك وسأل الرخصة ، فنزل : غير أولي الضرر .

    ولما قال عليه الصلاة والسلام من نوقش الحساب عذب بناء على [ ص: 294 ] تأصيل قاعدة أخروية سألت عائشة عن معنى قول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 8 ] ; لأنه يشكل دخوله تحت عموم الحديث فبين - عليه الصلاة والسلام - أن ذلك العرض لا الحساب المناقش فيه .

    وقال - عليه الصلاة والسلام - : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه إلخ فسألته عائشة عن هذه الكراهية هل هي الطبيعية أم لا فأخبرها أن لا ، وتبين مناط الكراهية المرادة ، وقال الله تعالى : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] تنزيلا على المناط المعتاد فلما عرض مناط آخر خارج عن المعتاد ، وهو المرض بينه - عليه الصلاة والسلام - بقوله وفعله حين جحش شقه .

    وقال - عليه الصلاة والسلام - : أنا وكافل اليتيم كهاتين ، ثم لما تعين [ ص: 295 ] مناط فيه نظر ، قال - عليه الصلاة والسلام - لأبي ذر : لا تولين مال يتيم .

    والأمثلة في هذا المعنى لا تحصى واستقراؤها من الشريعة يفيد العلم بصحة هذا التفصيل فلو فرض نزول حكم عام ، ثم أتى كل من سمعه يتثبت في مقتضى ذلك العام بالنسبة إليه لكان الجواب على وفق هذه القاعدة نظير وصيته - عليه الصلاة والسلام - لبعض أصحابه بشيء ، ووصيته لبعض بأمر آخر كما قال : قل ربي الله ، ثم استقم ، وقال لآخر : لا تغضب ، وكما قبل من [ ص: 296 ] بعضهم جميع ماله ، ومن بعضهم شطره ورد على بعضهم ما أتى به بعد تحريضه على الإنفاق في سبيل الله إلى سائر الأمثال .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #114
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (114)
    صـ297 إلى صـ 311


    فصل

    ولتعين المناط مواضع .

    منها الأسباب الموجبة لتقرير الأحكام كما إذا نزلت آية ، أو جاء حديث على سبب ، فإن الدليل يأتي بحسبه ، وعلى وفاق البيان التمام فيه ، فقد قال تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم الآية [ البقرة : 187 ] [ ص: 297 ] إذ كان ناس يختانون أنفسهم فجاءت الآية تبيح لهم ما كان ممنوعا قبل حتى لا يكون فعلهم ذلك الوقت خيانة منهم لأنفسهم .

    وقوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] الآية ; إذ نزلت عند وجود مظنة خوف أن لا يقسطوا ، وما أشبه ذلك .

    وفي الحديث : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله . . . الحديث ، أتى فيه بتمثيل الهجرة لما كان هو السبب ، وقال : ويل للأعقاب من النار مع أن غير الأعقاب يساويها حكما لكنه كان السبب في الحديث التقصير في الاستيعاب في غسل الرجلين ، ومن ذلك كثير .

    ومنها أن يتوهم بعض المناطات داخلا في حكم عام ، أو خارجا عنه ولا يكون كذلك في الحكم فمثال الأول ما تقدم في قوله - عليه الصلاة والسلام - : من نوقش الحساب عذب .

    [ ص: 298 ] وقوله : من كره لقاء الله كره الله لقاءه .

    ومثال الثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - للمصلي : ما منعك أن تجيبني ; إذ دعوتك ، وقد جاء فيما نزل علي استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الآية [ الأنفال : 24 ] ؟ .

    أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، إذ كان إنما ثبت على صلاته لاعتقاده أن نازلته المعينة لا يتناولها معنى الآية .

    ومنها أن يقع اللفظ المخاطب به مجملا ، بحيث لا يفهم المقصود به ابتداء ، فيفتقر المكلف عند العمل إلى بيانه ، وهذا الإجمال قد يقع لعامة المكلفين ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، فمثال العام قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم [ المنافقون : 10 ] ، فإنه لا يفهم المقصود به من أول وهلة فجاءت أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله مبينة لذلك .

    ومثال الخاص قصة عدي بن حاتم في فهم الخيط الأبيض من [ ص: 299 ] الخيط الأسود حتى نزل بسببه من الفجر [ البقرة : 187 ] ، وقصته في معنى قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ التوبة : 31 ] [ ص: 300 ] وقصة ابن عمر في طلاق زوجته إلى أمثال من ذلك كثيرة .

    فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة فأما إن لم يكن ثم تعيين فيصح أخذه على وفق الواقع مفروض الوقوع ، ويصح إفراده بمقتضى الدليل الدال عليه في الأصل ما لم يتعين ، فلا [ ص: 301 ] بد من اعتبار توابعه ، وعند ذلك نقول : لا يصح للعالم إذا سئل عن أمر كيف يحصل في الواقع إلا أن يجيب بحسب الواقع ، فإن أجاب على غير ذلك أخطأ في عدم اعتبار المناط المسئول عن حكمه ; لأنه سئل عن مناط معين فأجاب عن مناط غير معين .

    لا يقال : إن المعين يتناوله المناط غير المعين ; لأنه فرد من أفراد عام ، أو مقيد من مطلق ; لأنا نقول : ليس الفرض هكذا ، وإنما الكلام على مناط خاص يختلف مع العام لطروء عوارض كما تقدم تمثيله ، فإن فرض عدم اختلافهما فالجواب إنما يقع بحسب المناط الخاص ، وما مثل هذا إلا مثل من سأل : هل يجوز بيع الدرهم من سكة كذا بدرهم في وزنه من سكة أخرى ، أو المسكوك بغير المسكوك ، وهو في وزنه ؟

    فأجابه المسئول بأن الدرهم بالدرهم سواء بسواء فمن زاد ، أو ازداد ، فقد أربى ، فإنه لا يحصل له جواب مسألته من ذلك الأصل ; إذ له أن يقول : فهل [ ص: 302 ] ما سألتك عنه من قبيل الربا أم لا ؟ أما لو سأله هل يجوز الدرهم بالدرهم ، وهو في وزنه ، وسكته وطيبه ؟ فأجابه كذلك لحصل المقصود ، لكن بالعرض لعلم السائل بأن الدرهمين مثلان من كل وجه .

    فإذا سئل عن بيع الفضة بالفضة فأجاب بذلك الكلام لكان مصيبا ; لأن السؤال لم يقع إلا على مناط مطلق فأجابه بمقتضى الأصل ولو فصل له الأمر بحسب الواقع لجاز ، ويحتمل فرض صور كثيرة ، وهو شأن المصنفين أهل التفريع والبسط للمسائل ، وبسبب ذلك عظمت أجرام الدواوين ، وكثرت أعداد المسائل غير أن الحكمة اقتضت أن يجاب السائل على حد سؤاله ، فإن سأل عن مناط غير معين أجيب على وفق الاقتضاء الأصلي ، وإن سأل عن معين ، فلا بد من اعتباره في الواقع إلى أن يستوفي له ما يحتاج إليه ، ومن اعتبر الأقضية والفتاوى الموجودة في القرآن والسنة وجدها على وفق هذا الأصل ، وبالله التوفيق .
    [ ص: 303 ] وأما النظر الثاني في عوارض الأدلة فينحصر القول فيه في خمسة فصول .

    [ ص: 304 ] [ ص: 305 ] الأول في الإحكام والتشابه .

    وله مسائل .

    المسألة الأولى

    المحكم يطلق بإطلاقين : عام ، وخاص .

    فأما الخاص فالذي يراد به خلاف المنسوخ ، وهي عبارة علماء الناسخ والمنسوخ سواء علينا أكان ذلك الحكم ناسخا أم لا فيقولون هذه الآية محكمة ، وهذه الآية منسوخة ، وأما العام فالذي يعني به البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره فالمتشابه بالإطلاق الأول هو المنسوخ ، وبالإطلاق الثاني : الذي لا يتبين المراد به من لفظه كان مما يدرك مثله بالبحث والنظر أم لا ، وعلى هذا الثاني : مدارك كلام المفسرين في بيان معنى قول الله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] .

    ويدخل تحت المتشابه والمحكم بالمعنى الثاني ما نبه عليه الحديث [ ص: 306 ] من قول النبي صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات فالبين هو المحكم ، وإن كانت وجوه التشابه تختلف بحسب الآية والحديث فالمعنى واحد ; لأن ذلك راجع إلى فهم المخاطب ، وإذا تؤمل هذا الإطلاق وجد المنسوخ والمجمل والظاهر والعام والمطلق قبل معرفة مبيناتها داخلة تحت معنى المتشابه كما أن الناسخ ، وما ثبت حكمه والمبين والمؤول والمخصص والمقيد داخلة تحت معنى المحكم .
    [ ص: 307 ] المسألة الثانية

    التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور .

    أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات : هن أم الكتاب يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى : وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل .

    [ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى : هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى : هدى للمتقين [ البقرة : 2 ] ، وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ النحل : 44 ] .

    وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح .

    والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول .

    [ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول عن ابن عباس حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى : والله بكل شيء عليم [ البقرة : 282 ] .

    وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام .

    ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك .

    وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده .

    وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ، [ ص: 311 ] ثم أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه .

    ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا .

    وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين .

    إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم ابن الجويني أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي القاضي أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #115
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (115)
    صـ312 إلى صـ 318


    فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول ابن عباس لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب .

    [ ص: 313 ] ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ الكهف : 29 ] .

    وتركوا مبينه ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ التكوير : 29 ] واتبع الخوارج نحو قوله تعالى : إن الحكم إلا لله [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها [ النساء : 35 ] واتبع الجبرية نحو قوله : والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله : جزاء بما كانوا يكسبون [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي .
    [ ص: 315 ] المسألة الثالثة

    وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين .

    أحدهما : حقيقي والآخر إضافي ، وهذا فيما يختص بها نفسها ، وثم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام .

    فالأول هو المراد بالآية ، ومعناه راجع إلى أنه لم يجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب لنا دليل على المراد منه ، فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة ، وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ، ومغزاه ولا شك في أنه قليل لا كثير ، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به ، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال ، وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب [ آل عمران : 7 ] حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    [ ص: 316 ] قال ابن إسحاق : بعد ما ذكر منهم جملة ، ووصف من شأنهم ، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم يريد في شأن عيسى يقولون هو الله ; لأنه كان يحيي الموتى ، و يبرئ الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفح فيه فيكون طيرا ، ويقولون هو ولد الله ; لأنه لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله ، ويقولون هو ثالث ثلاثة لقول الله فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ولو كان واحدا لما قال : إلا فعلت ، وقضيت ، وأمرت ، وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم .

    قال : ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله : فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ آل عمران : 64 ] ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره ; إذ قاسوه بالعبيد فنسبوا له الصاحبة والولد ، وأثبتوا للمخلوق مالا يصلح إلا للخالق ، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب ، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله ، وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا ، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى [ ص: 317 ] آرائهم فزاغوا عن الصراط المستقيم .
    والثاني : وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية ، وإن كان في المعنى داخلا فيه ; لأنه لم يصر متشابها من حيث وضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر ولكن الناظر قصر في الاجتهاد ، أو زاغ عن طريق البيان اتباعا للهوى ، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة ، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير ، أو الجهل بمواقع الأدلة فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه لأنهم إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان فما ظنك بهم مع عدمه فلهذا قيل : إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية .

    ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفا للمعتزلة والخوارج ، وغيرهم ، ومثله ما خرجه مسلم عن سفيان قال : سمعت رجلا يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين [ يوسف : 80 ] فقال جابر : لم يجئ تأويل هذه الآية . قال سفيان : وكذب . قال الحميدي : فقلنا لسفيان : ما أراد بهذا ؟ فقال : إن الرافضة تقول إن عليا في السحاب ، فلا يخرج يعني مع من خرج من ولده حتى ينادي مناد من السماء يريد عليا أنه ينادي - : اخرجوا مع فلان يقول جابر فذا تأويل هذه الآية ، وكذب ، كانت في إخوة يوسف .

    فهذه الآية أمرها واضح ، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية ، وما بعدها كما دل الخاص على معنى العام ، ودل المقيد على معنى المطلق فلما قطع [ ص: 318 ] جابر الآية عما قبلها ، وما بعدها كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه فكان من حقه التوقف لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية .

    وأما الثالث فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة ، وإنما هو عائد على مناط الأدلة فالنهي عن أكل الميتة واضح والإذن في أكل الذكية كذلك ، فإذا اختلطت الميتة بالذكية حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله ، أو تحريمه ، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه ، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر ، وهو أيضا واضح لا تشابه فيه ، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل ، فلا مدخل له في المسألة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #116
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (116)
    صـ319 إلى صـ 329


    فصل

    فإذا ثبت هذا فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال فنقول : قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص ، وما ذكر معه قليل ، وأن ما عد منه غير معدود منه ، وإنما يعد منه التشابه الحقيقي خاصة .

    وأما مسائل الخلاف ، وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق ، بل فيها ما هو منها ، وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم [ ص: 319 ] يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه ، وأشباه ذلك .

    وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم ، وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها ، وهو ظاهر القرآن ; لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل ولا تكليف يتعلق بمعناها ، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها ، فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك ، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ، ومناطاتها والمجتهد لا تجب إصابته لما في نفس الأمر ، بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة فلكل مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابها [ ص: 320 ] بهذا الاعتبار ، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي ، وهو الثاني ، أو إلى التشابه الثالث .

    ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالم في نفسه ، وما حصل له من علم الشريعة ، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل ; لأنه أخذ الشريعة مأخذا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل والأمر على ضد ذلك ، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع ، وإن وقع الخلاف في مسائلها ، ومعترف بأن قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] على ظاهره من غير شك فيه فيستقرئ من هذا إجماعا على أن المتشابه في الشريعة قليل : وإن اعترفوا بكثرة الخلاف .

    وأيضا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف أما أولا فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت ، وما ضلت إلا وهى غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا ، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة ، وإلى [ ص: 321 ] ذلك ، فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق ، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد فسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف ، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد ، ووجه آخر وهو أن كثيرا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها ولو فرض رفعه من الوجود رأسا لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شئ بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها - دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ، ومن يليهم من غيرهم - ، بل من ولد بعد ما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة ، ومن قبلهم ، أو بعدهم وأمثالهم ، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف .

    ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرا ، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى ، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده ، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل ، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب .
    [ ص: 322 ] المسألة الرابعة

    التشابه لا يقع في القواعد الكلية ، وإنما يقع في الفروع الجزئية والدليل على ذلك من وجهين .

    أحدهما : الاستقراء أن الأمر كذلك .

    والثاني : أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه ، وهذا باطل .

    وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله يصح بصحته ، ويفسد بفساده ، ويتضح باتضاحه ، ويخفى بخفائه ، وبالجملة فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع ; إذ كل فرع فيه ما في الأصل ، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة ، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في [ ص: 323 ] التفريع عليها فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه لزم سريانه في جميعها ، فلا يكون المحكم أم الكتاب لكنه كذلك فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب .

    فإن قيل : فقد وقع في الأصول أيضا ، فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم .

    فالجواب أن المراد بالأصول القواعد الكلية كانت في أصول الدين ، أو في أصول الفقه ، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية ، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة ، وإنما [ وقع ] في فروعها ؛ فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو [ ص: 324 ] [ ص: 325 ] [ ص: 326 ] قاعدة من قواعد العلم الإلهي كما أن فواتح السور ، وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن ، بل الأمر كذلك أيضا في التشابه الراجع إلى المناط ، فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة ، وهي الأكثر ، فإذا اعتبر هذا [ ص: 327 ] المعنى ؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام ، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك ، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال وليس هو المقصود هاهنا ولا هو مقصود صريح اللفظ ، وإن كان مقصودا بالمعنى والله أعلم ; لأنه تعالى قال : منه آيات محكمات [ آل عمران : 7 ] الآية فأثبت فيه متشابها ، وما هو راجع لغلط الناظر لا ينسب إلى الكتاب حقيقة ، وإن نسب إليه فبالمجاز .
    [ ص: 328 ] المسألة الخامسة

    تسليط التأويل على التشابه فيه تفصيل ، فلا يخلو أن يكون من المتشابه الحقيقي ، أو من الإضافي ، فإن كان من الإضافي ، فلا بد منه إذا تعين بالدليل كما بين العام بالخاص والمطلق بالمقيد والضروري بالحاجي ، وما أشبه ذلك ; لأن مجموعهما هو المحكم ، وقد مر بيانه ، وأما إن كان من الحقيقي فغير لازم تأويله ; إذ قد تبين في باب الإجمال والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا ; لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح ، أو بالحديث الصحيح ، أو بالإجماع القاطع ، أو لا ، فإن وقع بيانه بأحد هذه ، فهو من قبيل الضرب الأول من التشابه ، وهو الإضافي ، وإن لم يقع بشيء من ذلك ، فالكلام في مراد الله تعالى من غير هذه الوجوه تسور على ما لا يعلم ، وهو غير محمود .

    وأيضا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضي تعيين [ ص: 329 ] تأويل من غير دليل ، وهم الأسوة والقدوة ، وإلى غير ذلك ، فالآية مشيرة إلى ذلك بقوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه [ آل عمران : 7 ] الآية ، ثم قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ آل عمران : 7 ] ، وقد ذهب جملة من متأخري الأمة إلى تسليط التأويل عليها أيضا رجوعا إلى ما يفهم من اتساع العرب في كلامها من جهة الكناية والاستعارة والتمثيل ، وغيرها من أنواع الاتساع تأنيسا للطالبين ، وبناء على استبعاد الخطاب بما لا يفهم مع إمكان الوقوف على قوله : والراسخون في العلم وهو أحد القولين للمفسرين منهم مجاهد ، وهي مسألة اجتهادية ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف ، وقد استدل الغزالي على صحة هذا المذهب بأمور ذكرها في كتابه المسمى ب ( إلجام العوام ) فطالعه من هنالك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #117
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (117)
    صـ330 إلى صـ 343



    المسألة السادسة

    إذا تسلط التأويل على المتشابه فيراعى في المؤول به أوصاف ثلاثة : أن يرجع إلى معنى صحيح في الاعتبار متفق عليه في الجملة بين المختلفين ، ويكون اللفظ المؤول قابلا له ، وذلك أن الاحتمال المؤول به إما أن يقبله اللفظ أو لا ، فإن لم يقبله فاللفظ نص لا احتمال فيه ، فلا يقبل التأويل ، وإن قبله اللفظ فإما أن يجري على مقتضى العلم أولا ، فإن جرى على ذلك ، فلا [ ص: 331 ] إشكال في اعتباره ; لأن اللفظ قابل له والمعنى المقصود من اللفظ لا يأباه فاطراحه إهمال لما هو ممكن الاعتبار قصدا ، وذلك غير صحيح ما لم يقم دليل آخر على إهماله ، أو مرجوحيته ، وأما إن لم يجر على مقتضى العلم ، فلا يصح أن يحمله اللفظ على حال والدليل على ذلك أنه لو صح لكان الرجوع إليه مع ترك اللفظ الظاهر رجوعا إلى العمى ، ورميا في جهالة ، فهو ترك للدليل لغير شيء ، وما كان كذلك فباطل .

    هذا وجه .

    ووجه ثان وهو أن التأويل إنما يسلط على الدليل لمعارضة ما هو أقوى منه فالناظر بين أمرين إما أن يبطل المرجوح جملة اعتمادا على الراجح ولا يلزم نفسه الجمع ، وهذا نظر يرجع إلى مثله عند التعارض على الجملة ، وإما [ ص: 332 ] أن لا يبطله ، ويعتمد القول به على وجه ، فذلك الوجه إن صح واتفق عليه فذاك ، وإن لم يصح فهو نقض الغرض ; لأنه رام تصحيح دليله المرجوح لشيء لا يصح ، فقد أراد تصحيح الدليل بأمر باطل ، وذلك يقتضي بطلانه عند ما رام أن يكون صحيحا ، هذا خلف .

    ووجه ثالث ، وهو أن تأويل الدليل معناه أن يحمل على وجه يصح كونه دليلا في الجملة فرده إلى ما يصح رجوع إلى أنه دليل لا يصح على وجه ، وهو جمع بين النقيضين ، ومثاله تأويل من تأول لفظ الخليل في قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا [ النساء : 125 ] بالفقير ؛ فإن ذلك يصير المعنى القرآني غير صحيح ، وكذلك تأويل من تأول غوى من قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] [ ص: 333 ] أنه من غوي الفصيل لعدم صحة غوى بمعنى غوي ، فهذا لا يصح فيه التأويل من جهة اللفظ والأول لا يصح فيه من جهة المعنى ، ومثال ما تخلفت فيه الأوصاف تأويل بيان بن سمعان في قوله تعالى : هذا بيان للناس [ آل عمران : 138 ] .
    وهذا المعنى لا يختص بباب التأويل ، بل هو جار في باب التعارض والترجيح ، فإن الاحتمالين قد يتواردان على موضوع واحد فيفتقر إلى الترجيح فيهما فذلك ثان عن صحة قبول المحل لهما وصحتهما في أنفسهما ، والدليل في الموضعين واحد .
    الفصل الثاني : في الإحكام والنسخ .

    ويشتمل على مسائل :

    المسألة الأولى :

    اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولا والذي نزل بها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، ثم تبعها أشياء بالمدينة كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة ، وكان أولها الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة ؛ كالصلاة وإنفاق المال ، وغير ذلك ، ونهى عن كل ما هو كفر ، أو تابع للكفر كالافتراءات التي افتروها من الذبح لغير الله تعالى ، وما جعل لله وللشركاء الذين ادعوهم افتراء على الله ، وسائر ما حرموه على أنفسهم ، أو أوجبوه من غير أصل مما يخدم أصل عبادة غير الله ، وأمر مع ذلك بمكارم الأخلاق كلها كالعدل والإحسان والوفاء بالعهد ، وأخذ العفو والإعراض عن الجاهل والدفع بالتي هي أحسن والخوف من الله وحده والصبر والشكر ، ونحوها ، ونهى عن مساوئ الأخلاق من الفحشاء والمنكر والبغي ، [ ص: 336 ] والقول بغير علم والتطفيف في المكيال والميزان والفساد في الأرض والزنا والقتل والوأد ، وغير ذلك مما كان سائرا في دين الجاهلية ، وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر .

    ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واتسعت خطة الإسلام كملت هنالك الأصول الكلية على تدريج كإصلاح ذات البين والوفاء بالعقود ، وتحريم المسكرات ، وتحديد الحدود التي تحفظ الأمور الضرورية ، وما يكملها ، ويحسنها ورفع الحرج بالتخفيفات والرخص ، وما أشبه ذلك ، وإنما ذلك كله تكميل للأصول الكلية .

    فالنسخ إنما وقع معظمه بالمدينة لما اقتضته الحكمة الإلهية في تمهيد الأحكام ، وتأمل كيف تجد معظم النسخ إنما هو لما كان فيه تأنيس أولا للقريب [ ص: 337 ] العهد بالإسلام واستئلاف لهم ، مثل كون الصلاة كانت صلاتين ، ثم صارت خمسا ، وكون إنفاق المال مطلقا بحسب الخيرة في الجملة ، ثم صار محدودا مقدرا ، وأن القبلة كانت بالمدينة بيت المقدس ، ثم صارت الكعبة ، وكحل نكاح المتعة ، ثم تحريمه ، وأن الطلاق كان إلى غير نهاية على قول طائفة ، ثم صار ثلاثا والظهار كان طلاقا ، ثم صار غير طلاق إلى غير ذلك مما كان أصل الحكم فيه باقيا على حاله قبل الإسلام ، ثم أزيل ، أو كان أصل مشروعيته قريبا خفيفا ، ثم أحكم .
    [ ص: 338 ] المسألة الثانية

    لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير ; لأن النسخ لا يكون في الكليات ، وقوعا ، وإن أمكن عقلا .

    ويدل على ذلك الاستقراء التام ، وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء ، بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ، ويحكمها ، ويحصنها ، وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ [ ص: 339 ] لكلي ألبتة ، ومن استقرأ كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها ، والجزئيات المكية قليلة .

    وإلى هذا ، فإن الاستقراء يبين أن الجزئيات الفرعية التي وقع فيها الناسخ والمنسوخ بالنسبة إلى ما بقي محكما قليلة ، ويقوى هذا في قول من جعل المنسوخ من المتشابه ، وغير المنسوخ من المحكم لقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ آل عمران : 7 ] .

    فدخول النسخ في الفروع المكية قليل ، و هي قليلة فالنسخ فيها قليل في قليل ، فهو إذا بالنسبة إلى الأحكام المكية نادر .

    ووجه آخر ، وهو أن الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق ; لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق ؛ فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق ؛ ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر ; لأنه رفع للمقطوع به بالمظنون فاقتضى [ ص: 340 ] هذا أن ما كان من الأحكام المكية يدعي نسخه لا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين ولا دعوى الإحكام فيهما .
    فصل

    وهكذا يقال : في سائر الأحكام مكية كانت ، أو مدنية .

    ويدل على ذلك الوجهان الأخيران ، ووجه ثالث ، وهو أن غالب ما ادعي فيه النسخ إذا تأمل وجدته متنازعا فيه ، ومحتملا ، وقريبا من التأويل بالجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بيانا لمجمل ، أو تخصيصا لعموم ، أو تقييدا لمطلق ، وما أشبه ذلك من وجوه الجمع مع البقاء على الأصل من الإحكام في الأول والثاني .

    وقد أسقط ابن العربي من الناسخ والمنسوخ كثيرا بهذه الطريقة ، وقال الطبري أجمع أهل العلم على أن زكاة الفطر فرضت ، ثم اختلفوا في نسخها .

    قال ابن النحاس : " فلما ثبتت بالإجماع ، وبالأحاديث الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز أن تزال إلا بالإجماع ، أو حديث يزيلها ، ويبين نسخها ولم [ ص: 341 ] يأت من ذلك شيء " . انتهى المقصود منه .

    ووجه رابع يدل على قلة النسخ ، وندوره أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ عند الأصوليين كالخمر والربا ، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخا لحكم الإباحة الأصلية ولذلك قالوا في حد النسخ إنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، ومثله رفع براءة الذمة بدليل .

    وقد كانوا في الصلاة يكلم بعضهم بعضا إلى أن نزل وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] [ ص: 342 ] وروي أنهم كانوا يلتفتون في الصلاة إلى أن نزل قوله : الذين هم في صلاتهم خاشعون [ المؤمنون : 2 ] [ ص: 343 ] قالوا ، وهذا إنما نسخ أمرا كانوا عليه ، وأكثر القرآن على ذلك ، معنى هذا أنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم الأصل من الإباحة فهو مما لا يعد نسخا ، وهكذا كل ما أبطله الشرع من أحكام الجاهلية .

    فإذا اجتمعت هذه الأمور ، ونظرت إلى الأدلة من الكتاب والسنة لم يتخلص في يدك من منسوخها إلا ما هو نادر على أن هاهنا معنى يجب التنبه له ليفهم اصطلاح القوم في النسخ ، وهي .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #118
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (118)
    صـ344 إلى صـ 367



    وذلك أنالذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين،فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا ، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل ، أومنفصل نسخا ، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكمالشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا ; لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد ، وهو أنالنسخ في الاصطلاحالمتأخراقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جيء بهآخرا ؛ فالأول غير معمول به ؛ والثاني : هو المعمول به . وهذا المعنى جار في تقييد المطلق ، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده ،فلا إعمال له في إطلاقه ، بل المعمل هو المقيد ، فكأن المطلق لم يفد معمقيده شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ ، وكذلك العام مع الخاص ; إذ كان ظاهرالعام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكمظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ إلا أن اللفظ العام لم يهملمدلوله جملة ، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص ،[ ص: 345 ] وبقيالسائر على الحكم الأول والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق فلما كانكذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد . ولا بد من أمثلة تبين المراد ، فقد رويعنابن عباسأنه قال في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد[ الإسراء : 18 ] : إنه ناسخ لقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها[ الشورى : 20 ] . وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذا كان قوله : نؤته منهامطلقا ، ومعناه مقيد بالمشيئة ، وهو قوله في الآية الأخرى : لمن نريد، وإلا فهو إخبار ، والأخبار لا يدخلها النسخ . [ ص: 346 ] وقال في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوونإلى قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون[ الشعراء : 224 - 226 ] : هو منسوخ بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا[ الشعراء : 227 ] الآية . قالمكي: وقد ذكر عنابن عباسفي أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء أنه قال : منسوخ . قال : وهو مجاز لا حقيقة ; لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه بينه حرفالاستثناء أنه في بعض الأعيان الذين عمهم اللفظ الأول ، والناسخ[ ص: 347 ] منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه ، وهو بغير حرف . هذا ما قال ، ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص . وقال في قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها[ النور : 27 ] إنه منسوخ بقوله : ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة[ النور : 29 ] الآية . وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء غير أن قوله : ليس عليكم جناحيثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة . وقال في قوله : انفروا خفافا وثقالا[ التوبة : 41 ] إنه منسوخ[ ص: 348 ] بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة[ التوبة : 122 ] والآيتان في معنيين ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك أن لا يجب النفير على الجميع . وقال في قوله تعالى : قل الأنفال لله والرسول[ الأنفال : 1 ] منسوخ بقوله : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسهالآية [ الأنفال : 41 ] ، وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : لله والرسولوقال في قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء[ الأنعام : 69 ] إنه منسوخ بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها[ النساء : 140 ] الآية ، وآية الأنعام خبر من الأخبار والأخبار[ ص: 349 ] لا تنسخ ولا تنسخ . وقال في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه[ النساء : 8 ] [ ص: 350 ] الآية : إنه منسوخ بآية المواريث . وقال مثلهالضحاكوالسدي،وعكرمة، وقالالحسنمنسوخ بالزكاة ، وقالابن المسيبنسخه الميراث والوصية . والجمع بين الآيتين ممكن لاحتمال [ حمل ] الآية على الندب والمراد بأولي القربى من لا يرث بدليل قوله : وإذا حضرفقيد كما[ ص: 351 ] ترى الرزق بالحضور ، [ فدل أن ] المراد غير الوارثين ، وبينالحسنأن المراد الندب أيضا بدليل آية الوصية والميراث فهو من بيان المجمل والمبهم . وقال هووابن مسعودفي قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء[ البقرة : 284 ] : إنه منسوخ بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] ، مع أن الأخبار لا تنسخ ، وإنما المراد - والله أعلم - ما انطوت عليه النفوس من الأمور الكسبية التي هي في وسع الإنسان ، وبينذلك قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[ البقرة : 286 ] [ ص: 352 ] بدليل أنابن عباسفسر الآية بكتمان الشهادة ; إذ تقدم قوله : [ ص: 353 ] ولا تكتموا الشهادة[ البقرة : 283 ] ثم قال : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللهالآية [ البقرة : 284 ] فحصل أن ذلك من باب[ ص: 354 ] تخصيص العموم ، أو بيان المجمل . وقال في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها[ النور : 31 ] : إنه منسوخ بقوله : والقواعد من النساءالآية [ النور : 60 ] وليس بنسخ إنما هو تخصيص لما تقدم من العموم . وعنأبي الدرداء،وعبادة بن الصامتفي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم[ المائدة : 5 ] أنه ناسخ لقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه[ الأنعام : 121 ] ، فإن كان المراد أن طعامأهل الكتابحلال، وإن لم يذكر اسم الله عليه فهو تخصيص للعموم ، وإن كان المراد أن طعامهمحلال بشرط التسمية فهو أيضا من باب التخصيص ، لكن آية الأنعام هي آيةالعموم المخصوص في الوجه الأول ، وفي الثاني بالعكس . [ ص: 355 ] وقالعطاءفي قوله تعالى : ومن يولهم يومئذ دبره[ الأنفال : 16 ] : إنه منسوخ بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين[ الأنفال : 65 ] إلى آخر الآيتين، وإنما هو تخصيص ، وبيان لقوله : ومن يولهمفكأنه على معنى : ومن يولهم وكانوا مثلي عدد المؤمنين ، فلا تعارض ولا نسخ بالإطلاق الأخير . وقال في قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم[ النساء : 24 ] : إنه منسوخ بالنهي عن نكاح المرأة على عمتها ، أو على خالتها ، وهذا من باب تخصيص العموم . [ ص: 356 ] وقالوهب بن منبهفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] : نسختها الآية التي في غافرويستغفرون للذين آمنوا[ غافر : 7 ] . وهذا معناه أن آية غافر مبينة لآية الشورى ; إذ هو خبر محض والأخبار لا نسخ فيها . وقالابن النحاس: " هذا لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ ; لأنه خبر من الله ولكن يجوز أن يكون ،وهب بن منبهأراد أن هذه الآية على نسخة تلك الآية لا فرق بينهما يعني أنهما بمعنى واحد وإحداهما تبين الأخرى " . قال : " وكذا يجب أن يتأول للعلماء ولا يتأول عليهم الخطأ العظيم إذا كان لما قالوه وجه " . [ ص: 357 ] قال : والدليل على ما قلناه ما حدثناهأحمد بن محمد، ثم أسندعنقتادةفي قوله : ويستغفرون لمن في الأرض[ الشورى : 5 ] قال : للمؤمنين منهم. وعنعراك بن مالكوعمر بن عبد العزيزوابن شهابأن قوله : والذين يكنزون الذهب والفضةالآية [ التوبة : 34 ] منسوخ بقوله : خذ من أموالهم صدقة[ التوبة : 103 ] ، وإنما هو بيان لما يسمى كنزا ، وأن المال إذا أديتزكاته لا يسمى كنزا ، وبقي ما لم يزك داخلا تحت التسمية ، فليس من النسخ فيشيء . وقالقتادةفي قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] : إنه منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] ، وقالهالربيع بن أنسوالسديوابن زيد، وهذا من الطراز المذكور ; لأن الآيتين مدنيتان ولم[ ص: 358 ] تنزلا إلا بعد تقرير أن الدين لا حرج فيه ، وأن التكليف بما لا يستطاع مرفوع فصار معنى قوله : اتقوا الله حق تقاته[ آل عمران : 102 ] فيما استطعتم ، وهو معنى قوله : فاتقوا الله ما استطعتم[ التغابن : 16 ] فإنما أرادوا بالنسخ أن إطلاق سورة آل عمران مقيد بسورة التغابن . وقالقتادةأيضا في قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء[ البقرة : 228 ] : إنه نسخ من ذلك التي لم يدخل بها بقوله : فما لكم عليهن من عدة تعتدونها[ الأحزاب : 49 ] والتي يئست من المحيض والتي لم تحض بعد والحامل بقوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهرإلى قوله : أن يضعن حملهن[ الطلاق : 4 ] . وقالعبد الملك بن حبيبفي قوله : اعملوا ما شئتم[ فصلت : 40 ] [ ص: 359 ] وقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[ الكهف : 29 ] ، وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم[ التكوير : 28 ] : إن ذلك منسوخ بقوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين[ التكوير : 29 ] ، وهذه الآية إنما جاءت في معرض التهديد والوعيد ،وهو معنى لا يصح نسخه فالمراد أن إسناد المشيئة للعباد ليس على ظاهره ، بلهي مقيدة بمشيئة الله سبحانه . وقال في قوله : الأعراب أشد كفرا ونفاقا[ التوبة : 97 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما[ التوبة : 98 ] إنه منسوخ بقوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر[ التوبة : 99 ] الآية ، وهذا من[ ص: 360 ] الأخبار التي لا يصح نسخها والمقصود أن عموم الأعراب مخصوص بمن كفر دون من آمن . وقالأبو عبيد، وغيره إن قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون[ النور : 4 ] [ ص: 361 ] منسوخ بقوله : إلا الذين تابوا من بعد ذلكالآية [ النور : 5 ] . وقد تقدملابن عباسمثله . وقيل في قوله : إن الله يغفر الذنوب جميعا[ الزمر : 53 ] منسوخ بقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك بهالآية [ النساء : 48 ] ، وقوله : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنمالآية [ النساء : 93 ] ، وهذا من باب تخصيص العموم لا من باب النسخ . وفي قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم[ الأنبياء : 98 ] [ ص: 362 ] إنه منسوخ بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون[ الأنبياء : 101 ] ، وكذلك قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها[ مريم : 71 ] منسوخ بها[ ص: 363 ] أيضا ، وهو إطلاق النسخ في الأخبار ، وهو غير جائز . قالمكي: " وأيضا فإن هذا لو نسخ لوجب زوال حكم دخول المعبودين من دون اللهكلهم النار ; لأن النسخ إزالة الحكم الأول ، وحلول الثاني محله ولا يجوززوال الحكم الأول في هذا بكليته إنما زال بعضه فهو تخصيص ، وبيان " . [ ص: 364 ] وفي قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمناتالآية [ النساء : 25 ] إنه منسوخ بقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم[ النساء : 25 ] ، وإنما هو بيان لشرط نكاح الإماء المؤمنات . والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان مافي تلقي الأحكام من مجرد ظاهره إشكال وإيهام لمعنى غير مقصود للشارع فهوأعم من إطلاق الأصوليين فليفهم هذا ، وبالله التوفيق . [ ص: 365 ] المسألة الرابعةالقواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ،وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء ، فإن كل ما يعود بالحفظعلى الأمور الخمسة ثابت ، وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجهآخر من الحفظ ، وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق ; إذ لايلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس . بل زعم الأصوليون أن الضروريات مراعاة في كل ملة ، وإن اختلفت أوجه الحفظبحسب كل ملة ، وهكذا يقتضي الأمر في الحاجيات والتحسينيات . وقد قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[ الشورى : 13 ] وقال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل[ الأحقاف : 35 ] وقال بعد ذكر كثير من الأنبياء عليهم السلام : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] وقال تعالى : وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللهالآية [ المائدة : 43 ] . [ ص: 366 ] وكثير من الآيات أخبر فيها بأحكام كلية كانت في الشرائع المتقدمة ، وهي في شريعتنا ولا فرق بينهما . وقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم[ الحج : 78 ] . وقال في قصةموسىعليه السلام : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري[ طه : 14 ] وقال : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم[ البقرة : 183 ] وقال : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة[ القلم : 17 ] وقال : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس[ المائدة : 45 ] إلى سائر ما في ذلك من معاني الضروريات . وكذلك الحاجيات فإنا نعلم أنهم لم يكلفوا بما لا يطاق ، هذا وإن كانوا قدكلفوا بأمور شاقة فذلك لا يرفع أصل اعتبار الحاجيات ، ومثل ذلك التحسينيات ،فقد قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر[ العنكبوت : 29 ] ، وقوله : فبهداهم اقتده[ الأنعام : 90 ] يقتضي بظاهره دخول محاسن العادات من الصبر على الأذى والدفع بالتي هي أحسن ، وغير ذلك . [ ص: 367 ] وأما قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا[ المائدة : 48 ] ، فإنه يصدق على الفروع الجزئية ، وبه تجتمع معانيالآيات والأخبار ، فإذا كانت الشرائع قد اتفقت في الأصول مع وقوع النسخفيها ، وثبتت ولم تنسخ ، فهي في الملة الواحدة الجامعة لمحاسن الملل أولىوالله تعالى أعلم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #119
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (119)
    صـ368 إلى صـ 378

    الفصل الثالث في الأوامر والنواهي .

    وفيه مسائل :

    المسألة الأولى

    الأمر والنهي يستلزم طلبا وإرادة من الآمر ؛ فالأمر يتضمن طلب المأمور به ، وإرادة إيقاعه والنهي يتضمن طلبا لترك المنهي عنه وإرادة لعدم إيقاعه ، ومع [ ص: 370 ] هذا ففعل المأمور به ، وترك المنهي عنه يتضمنان ، أو يستلزمان إرادة بها يقع الفعل ، أو الترك ، أو لا يقع .

    وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين .

    أحدهما : الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد فما أراد الله كونه كان ، وما أراد أن لا يكون ، فلا سبيل إلى كونه ، أو تقول ، وما لم يرد أن يكون ، فلا سبيل إلى كونه .

    والثاني : الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به ، وعدم إيقاع [ ص: 371 ] المنهي عنه ، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ، ويرضاه ، ويحب أن يفعله المأمور ، ويرضاه منه من حيث هو مأمور به ، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ، ويرضاه .

    فالله عز وجل أمر العباد بما أمرهم به ؛ فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر ; إذ الأمر يستلزمها ; لأن حقيقة إلزام المكلف الفعل أو الترك ؛ فلا بد أن يكون ذلك الإلزام مرادا ، وإلا لم يكن إلزاما ولا يتصور له معنى مفهوم .

    وأيضا فلا يمكن مع ذلك أن يريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزم به على المعنى المذكور ، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة فكان أيضا مريدا لوقوع الطاعة منهم فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول ، وهو القدري ولم يعن أهل المعصية فلم يرد وقوع الطاعة منهم فكان الواقع الترك ، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول ، والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر ، فقد يأمر بما لا يريد ، وينهى عما يريد ، وأما بالمعنى الثاني ، فلا يأمر إلا بما يريد ولا ينهى إلا عما لا يريد .

    والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة ؛ فقال تعالى في الأولى : [ ص: 372 ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ الأنعام : 125 ]

    وفي حكاية نوح عليه السلام : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ هود : 34 ] .

    وقال تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى قوله : ولكن الله يفعل ما يريد [ البقرة : 253 ] ، وهو كثير جدا .

    وقال في الثانية : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ]

    ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم الآية [ المائدة : 6 ] .

    يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم إلى قوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 26 - 28 ] [ ص: 373 ] إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] ، وهو كثير جدا أيضا .

    ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة ؛ فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقا ، وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقا ، وأثبتها في الأمر مطلقا ، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيء من ذلك .

    وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع ولا بد من إثباتها بإطلاق ، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين ، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير ، وهي أيضا إرادة التكليف ، وهو شهير في علم الأصوليين أن يقولوا إرادة التكوين ، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف ، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب ولا مشاحة في الاصطلاح والله المستعان .
    [ ص: 374 ] المسألة الثانية

    الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .

    وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .

    ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن [ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .

    والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .

    فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .

    أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .

    [ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .

    والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .

    فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي المعتزلة .

    [ ص: 377 ] وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .

    وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .

    [ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #120
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


    الموافقات
    أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
    الجزء الثالث
    الحلقة (120)
    صـ379 إلى صـ 390



    المسألة الثالثة

    الأمر بالمطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد ، والدليل على ذلك أمور :

    أحدها : أنه لو استلزم الأمر بالمقيد لانتفى أن يكون أمرا بالمطلق .

    وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، فإنه إذا قال الشارع : " أعتق رقبة " فمعناه أعتق ما يطلق عليه هذا الاسم من غير تعيين فلو كان يستلزم الأمر بالمقيد لكان معناه أعتق الرقبة المعينة الفلانية ، فلا يكون أمرا بمطلق ألبتة .

    [ ص: 380 ] والثاني : أن الأمر من باب الثبوت ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص فالأمر بالأعم لا يستلزم الأمر بالأخص ، وهذا على اصطلاح بعض الأصوليين الذين اعتبروا الكليات الذهنية في الأمور الشرعية .

    والثالث : أنه لو كان أمرا بالمقيد فإما أن يكون معينا ، أو غير معين ، فإن كان معينا لزم تكليف ما لا يطاق وقوعا ، فإنه لم يعين في النص وللزم أن يكون ذلك المعين بالنسبة إلى كل مأمور ، وهذا محال ، وإن كان غير معين فتكليف ما لا يطاق لازم أيضا ; لأنه أمر بمجهول والمجهول لا يتحصل به امتثال ؛ فالتكليف به محال ، وإذا ثبت أن الأمر لا يتعلق بالمقيد لزم أن لا يكون قصد الشارع متعلقا بالمقيد من حيث هو مقيد ، فلا يكون مقصودا له ; لأنا قد فرضنا أن قصده إيقاع المطلق فلو كان له قصد في إيقاع المقيد لم يكن [ ص: 381 ] قصده إيقاع المطلق ، هذا خلف لا يمكن .

    فإن قيل : هذا معارض بأمرين :

    أحدهما : أنه لو كان الأمر بالمطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم الأمر بالمقيد لكان التكليف به محالا أيضا ; لأن المطلق لا يوجد في الخارج ، وإنما هو موجود في الذهن ، والمكلف به يقتضي أن يوجد في الخارج ; إذ لا يقع به الامتثال إلا عند حصوله في الخارج ، وإذ ذاك يصير مقيدا لا مطلقا ، فلا يكون بإيقاعه ممتثلا والذهني لا يمكن إيقاعه في الخارج ، فلا يكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع ، فلا بد أن يكون الأمر به مستلزما للأمر بالمقيد ، وحينئذ يمكن الأمتثال فوجب المصير إليه ، بل القول به .

    والثاني : أن المقيد لو لم يقصد في الأمر بالمطلق لم يختلف الثواب باختلاف الأفراد الواقعة من المكلف ; لأنها من حيث الأمر بالمطلق على تساو ؛ فكان يكون الثواب على تساو أيضا ، وليس كذلك ، بل يقع الثواب على مقادير المقيدات المتضمنة لذلك المطلق فالمأمور بالعتق إذا أعتق أدون الرقاب كان له من الثواب بمقدار ذلك ، وإذا أعتق الأعلى كان ثوابه أعظم .

    وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أفضل الرقاب فقال : أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها .

    [ ص: 382 ] وأمر بالمغالاة في أثمان القربات كالضحايا ، وبإكمال الصلاة وغيرها من العبادات حتى يكون الأمر فيها أعظم ، ولا خلاف في أن قصد الأعلى في أفراد المطلقات المأمور بها أفضل ، وأكثر ثوابا من غيره ، فإذا كان التفاوت في أفراد المطلقات موجبا للتفاوت في الدرجات ؛ لزم من ذلك كون المقيدات مقصودة للشارع ، وإن حصل الأمر بالمطلقات .

    [ ص: 383 ] فالجواب عن الأول أن التكليف بالمطلق عند العرب ليس معناه التكليف بأمر ذهني ، بل معناه التكليف بفرد من الأفراد الموجودة في الخارج ، أو التي يصح وجودها في الخارج مطابقا لمعنى اللفظ [ بحيث ] لو أطلق عليه اللفظ صدق ، وهو الاسم النكرة عند العرب ، فإذا قال : " أعتق رقبة " فالمراد طلب إيقاع العتق بفرد مما يصدق عليه لفظ الرقبة فإنها لم تضع لفظ الرقبة إلا على فرد من الأفراد غير مختص بواحد من الجنس ، هذا هو الذي تعرفه العرب والحاصل أن الأمر به أمر بواحد كما في الخارج ، وللمكلف اختياره في الأفراد الخارجية .

    وعن الثاني : أن ذلك التفاوت الذي التفت إليه الشارع إما أن يكون القصد إليه مفهوما من نفس الأمر بالمطلق ، أو من دليل خارجي والأول ممنوع لما تقدم من الأدلة ولذلك لم يقع التفاوت في الوجوب ، أو الندب الذي اقتضاه الأمر بالمطلق ، وإنما وقع التفاوت في أمر آخر خارج عن مقتضى مفهوم [ ص: 384 ] [ المطلق ] ، وهذا صحيح .

    والثاني : مسلم ؛ فإن التفاوت إنما فهم من دليل خارجي كالأدلة الدالة على أن أفضل الرقاب أعلاها ، وأن الصلاة المشتملة على جميع آدابها المطلوبة أفضل من التي نقص منها بعض ذلك ، وكذا سائر المسائل فمن هنالك كان مقصود الشارع ؛ ولذلك كان ندبا لا وجوبا ، وإن كان الأصل واجبا ; لأنه زائد على مفهومه ، فإذا القصد إلى تفضيل بعض الأفراد على بعض يستلزم القصد إلى الأفراد وليس ذلك من جهة الأمر بالمطلق ، بل [ بدليل من ] خارج ؛ فثبت أن القصد إلى المطلق من حيث هو مطلق لا يستلزم القصد إلى المقيد من حيث هو مقيد .

    بخلاف الواجب المخير ، فإن أنواعه مقصودة للشارع بالإذن ، فإذا أعتق المكلف رقبة ، أو ضحى بأضحية ، أو صلى صلاة ، ومثلها موافق للمطلق فله أجر ذلك من حيث هو داخل تحت المطلق ؛ إلا أن يكون ثم فضل زائد فيثاب عليه بمقتضى الندب الخارجي ، وهو مطلق أيضا ، وإذا كفر بعتق فله أجر العتق ، أو أطعم فأجر الإطعام ، أو كسا فأجر الكسوة بحسب ما فعل ، لا لأن له أجر كفارة اليمين فقط من غير تقييد بما كفر [ به ] ، فإن تعيين الشارع المخير فيه يقتضي قصده إلى ذلك دون غيره ، وعدم تعيينه في المطلقات يقتضي عدم قصده إلى ذلك .

    وقد اندرج هنا أصل آخر ، وهي .
    [ ص: 385 ] المسألة الرابعة

    وترجمتها أن الأمر المخير يستلزم قصد الشارع إلى أفراده المطلقة المخير فيها .
    المسألة الخامسة

    المطلوب الشرعي ضربان :

    أحدهما : ما كان شاهد الطبع خادما له ، ومعينا على مقتضاه بحيث يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها ، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ، ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم ، وما أشبه ذلك ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنا ، ونحوه مما [ ص: 386 ] يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب .

    والثاني : ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج ، وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة ، وما أشبه ذلك .

    فأما الضرب الأول ، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية ، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره ، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة ، وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ؟

    ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن ، أو مندوب إليها ، أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى ؛ كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه .

    [ ص: 387 ] وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا ، فلا إعادة عليه إلا استحسانا ، ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية ، فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا .

    وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل ، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة ، أو الندب ؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك .

    [ ص: 388 ] وأما الضرب الثاني ؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات ; إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب ، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه ، وينازعه كالعبادات ; لأنها مجرد تكليف .

    وكما يكون ذلك في الطلب الأمري ، كذلك يكون في النهي ؛ فإن المنهيات على الضربين : فالأول كتحريم الخبائث ، وكشف العورات ، وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي ؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر ، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ، ومحاسن العادات ، فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في [ ص: 389 ] الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة ، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها ؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ، ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها ، بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة : " الشيخ الزاني وأخويه " ما جاء ، وكذلك فيمن قتل نفسه .

    بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية : [ النساء : 17 ] .

    أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب ؛ فكان الأمر فيه أشد ، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب [ ص: 390 ] حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع .

    بخلاف ما خالف الطبع ، أو كان الطبع وازعا عنه ، فإنه لم يجعل له حد محدود .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •