وهكذا.....
فكيف نخرج مِن هذا الدّوْر؟
الحل عندي بالرجوع لمِن أنكر المجاز ونفاه.
فإنه سيحدد لنا المعنى الذي ينكره، فيكون هو ما نريده
فيكون عنوان موضوعي هو السؤال المهم:
مَن أوّل مَن أنكر المجاز؟ ولماذا أنكره؟
وهذا هو كلام الدارمي:
((فالدليل من فعل الله أنه يضحك إلى قوم ويصرفه عن قوم: أن ضحك الزرع مثل على المجاز وضحك الله أصل وحقيقة للضحك...)).
وينظر ما قبله وما بعده من نقضه على عثمان بن سعيد؛ليعين على دقة التحليل وصوابه...
وبدا لي أن أبدأ بسؤال أيسر يتناسب مع هذه المرحلة من النقاش:
مَن أشهر مَن أنكر المجاز ونفاه ممن وقفنا على كتبه؟
وما هو معنى المجاز الذي أنكره ونفاه؟
وما هي أمثلة مثبتة المجاز التي ردّ عليها؟
وهل وُجد من المتقدمين مَن ذكر هذه الأمثلة بمثل ما ذكره بها مثبتة المجاز وإن لم يسمّه مجازا؟
أظن السؤال أصبح يسيرا جدًّا وإجابته مثله في اليسر
فلنستعن بالله ولنبدأ النقاش من عند هذه النقطة
فما قول الفضلاء؟
بالنسبة للأمثلة فقد قال شيخ الإسلام:
((ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز فى القرآن واسأل القرية))
وقد ذكر شيخ الإسلام أنهم -أي مثبتة المجاز- منقسمون إلى طائفتين اتفقا في أن المراد بها الجدران والمساكن واختلفا في تفسيرها:
فالأولى: تقول: إن المراد به "أهلها" فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والثانية: تقول: إن المراد به "نفس المساكن والجدران"، ولكن هذا من تسمية الحال باسم محله.
وقد خطأ الطائفتين بقوله:
((لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحال والمحال كلاهما داخل فى الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان))
وقال:
((فالقرية والنهر ونحو ذلك اسم للحال والمحل فهو اسم يتناول المساكن وسكانها ثم الحكم قد يعود الى الساكن وقد يعود الى المساكن وقد يعود اليهما كاسم الانسان فانه اسم للروح والجسد وقد يعود الحكم على احدهما وكذلك الكلام اسم للفظ والمعنى وقد يعود الحكم الى احدهما))
وجواب هذا السؤال من الأهمية بمكان:
فالبحث الآن ليس عمّن تكلّم بلفظ ((المجاز)) ولكن البحث عمّن تكلّم بمعنى ((المجاز)).
أي: نبحث في كلام المتقدمين ممّن تكلّم عن هذا المعنى، فكل مَن قال:
إن المقصود ههنا أهل القرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أو قال:
إن هذا من تسمية الحال باسم محله.
فهو من أهل المجاز -عند شيخ الإسلام ومن وافقه- سواء سمّاه مجازا أو تجوّزا أو جائزا أو اتّساعا أو توسّعا أو أسلوبًا أو فخامة أو جزالة أو غير ذلك.
وأن الصواب -عند شيخ الإسلام ومن وافقه- أن هذا اللفظ يطلق على الحال والمحل معا وبحسب السياق يعرف المراد
والآن حان وقت البحث الجادّ عن مثل ذلك.
فمن له؟
الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ( ت: 215هـ) وهو ممن ذكر مصطلح المجاز في معاني القرآن
قال : ( وقال {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فجعل المس يذاق في جواز الكلام ويقال: "كيفَ وَجَدْتَ طعمَ الضَرْبِ"؟ وهذا مجاز )اهـ.
و الحق أن إنكار المجاز وإثباته هو قضية تعود للاصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح و البلية إنما جاءت ممن استعمل المجاز في غير موضعه و متى ما وجدت القرينة أي الدليل قيل به وإلا فلا وأما توسع المتكلمين في استعمال المجاز فخطأ وبخاصة فيما يتعلق بصفات الباري تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن قدامة : ( ومن منع فقد كابر ومن سلم وقال لا أسميه مجازا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه..)
قال : ( وقال {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} فجعل المس يذاق في جواز الكلام ويقال: "كيفَ وَجَدْتَ طعمَ الضَرْبِ"؟ وهذا مجاز )اهـ.
((فأما بيان المجاز من التحقيق , فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس : (( وجدته بحراً )) , وهو الذي يجوز فيما بين الناس......)) [(( كتاب خلق أفعال العباد )) ( ص 168 - 173 , رقم 448 - 458 ).]
"أما قوله إنا معكم فهذا في مجاز اللغة يقول الرجل للرجل إنا سنجرى عليك رزقك إنا سنفعل بك كذا وأما قوله إنني معكما أسمع وأرى فهو جائز في اللغة يقول الرجل الواحد للرجل سأجرى عليك رزقك أو سأفعل بك خيرا" (الرد على الزنادقة والجهمية)
"وقد يجوز للرجل أن يقول بنيت دارا أو قتلت رجلا وضربت غلاما ووزنت لفلان مالا وكتبت له كتابا وإن لم يتول شيئا من ذلك بيده بل أمر البناء ببنائه والكاتب بكتابه والقاتل بقتله والضارب بضربه والوازن بوزنه فمثل هذا يجوز على المجاز الذي يعقله الناس بقلوبهم على مجاز كلام العرب " (نقض الدارمي)
وفي كتاب أبي عبيدة مواضع يستدل بها على تفسير مجازه بأن العرب تفعله في كذا وتقوله كذا
فهل يحمل قولهم (مما يجوز في اللغة) على المعنى الاصطلاحي ؟؟ دققوا وقارنوا في النصوص المنقولة وغيرها
ما هكذا يا شيخنا موقف شيخ الإسلام !
وجود أساليب عربية يحذف فيها بعض ألفاظها مع وجود الدليل الدال على المحذوف لا ينكره شيخ الإسلام . وكذلك لا ينكر إضافة شيء إلى شيء لأدنى مناسبة (بشرط عدم اللبس) .
ابن تيمية والشافعي - رضي الله عنهما - مختلفان فقط في معنى القرية . هذا وبس !
ما معنى (إنكار المجاز) أو (إنكار التقسيم) . . ؟
معناه : إنكار المواضعة المتقدمة على الاستعمال ؛
وإنكار ورود اللفظ في الكلام الفصيح مجردا عن جميع القرائن ،
وإنكار أن يقصد في الأمثلة المضروبة : التشبيه والتوكيد والمبالغة ،
وإنكار أن يريد المتكلم الهاد الناصح في كلامه خلاف ما يدل عليه سياقه .
لو أطلقنا الكلام عن سبب إنكار المجاز لتشعبت الأقوال واضطربت الأفهام
فمن قائل: أنكروه لتعلقه بمحث الأسماء والصفات
ومن قائل: أنكروه لتعلقه بنشأة اللغة
ومن قائل: أنكروه لعدم تكذيب شيء من القرآن
ومن قائل: أنكروه لدعوى كونه قسيم للحقيقة وقسيمها الكذب
ومن قائل: .................
فبقول مَن سنأخذ؟
ولعقل مَن سنحتكم؟
فلا بد من ضابط يتفق عليه الجميع قبل بدء المناقشة.
وهذا الضابط أخذناه من كلام أربابه نصا وقولا وليس من كلام غيرهم إنصافا وعدلا
هل فُهِم المقصود؟
فعندما يقول شيخ الإسلام:
مجموع الفتاوى - (ج 7 / ص 112)
((ومن الأمثلة المشهورة لـمَن يثبت المجاز فى القرآن: واسأل القرية
قالوا: المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
فقيل لهم: لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحال والمحال كلاهما داخل فى الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان.
وكذلك فى النهر يقال حفرت النهر وهو المحل وجرى النهر وهو الماء
ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء وكذلك القرية))
فمَن الذين قالوا؟
الجواب: مَن يثبت المجاز.
وما هو قولهم؟
الجواب: المراد بـواسأل القرية أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
ومَن الذي يردّ عليهم؟
الجواب: ابن تيمية ومَن وافقه.
وما هو ردّه؟
الجواب: لفظ القرية والمدينة والنهر والميزاب وأمثال هذه الأمور التى فيها الحال والمحال كلاهما داخل فى الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال وهو السكان وتارة على المحل وهو المكان.
وكذلك فى النهر يقال حفرت النهر وهو المحل وجرى النهر وهو الماء
ووضعت الميزاب وهو المحل وجرى الميزاب وهو الماء.
أظن اتضح الأمر أكثر!
فمَن قال في هذا الموضع وشبهه: حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
فقد وافق قول مثبتة المجاز وإن كان ابن تيمية نفسه
ومن قال في هذا الموضع وشبهه: الحال والمحال كلاهما داخل فى الاسم ثم قد يعود الحكم على الحال تارة وعلى المحل تارة أخرى.
فقد وافق قول نفاة المجاز وإن كان ابن جني نفسه.
لا . . لا . . المثال لا يناسب في هذه النقطة .
فالذي قال إن فيه محذوفا ، هو موافق لشيخ الإسلام في مثل قوله عن آية { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } : " أي : أوقات الحج أشهر . فالمعنى متفق عليه ، لكن الكلام في تسمية هذا مجازا . وقول القائل : نفس الحج ليس بأشهر ، إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام ؛ وليس كذلك ، بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه : أن أوقات الحج أشهر معلومات " .
وإنما المنكر أن يقول قائل :
لفظ القرية في تلك الآية منقول عن دلالتها الأصلية لعلاقة كذا وكذا .
وأما القائل : في الآية محذوف ، فليس بقائل إن اللفظة منقولة ، بل هي باقية على موضعها .
لم أقل: إنّ مَن قال: في الآية محذوف ، فهو قائل: إن اللفظة منقولة حتى تُنكر عليّ ذلك القول
بل قلت: إنّ مَن قال: في الآية محذوف ، فهو مثبت للمجاز وهذا ليس قولي أنا
بل قول مَن قال: ((ومن الأمثلة المشهورة لـمَن يثبت المجاز فى القرآن: واسأل القرية قالوا: المراد به أهلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.))
والإنصاف عزيز