الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ عَلَى شُبُهَاتِ الْمُخَالِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ:
تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَثْبَتُوا الرُّؤْيَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ بِعَيْنِ أَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَذَلِكَ بِمُوجَبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ سَالِفَةِ الذِّكْرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ سَلَكُوا مَذْهَبَيْنِ:
الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَ ةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالرَّوَافِضِ، وَالزَّيْدِيَّة ِ؛ وَهَؤُلَاءِ نَفَوْا الرُّؤْيَةَ مُطْلَقًا؛ وَقَالُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143].
وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِكَلِيمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ وَأَعْلَمِ النَّاسِ بِرَبِّهِ فِي وَقْتِهِ أَنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَالِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ سُؤَالَهُ، وَلَمَّا سَأَلَ نُوحٌ رَبَّهُ نَجَاةَ ابْنِهِ أَنْكَرَ سُؤَالَهُ، وَقَالَ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لَنْ تَرَانِي}، وَلَمْ يَقُلْ: "إِنِّي لَا أُرَى"، أَوْ: "لَا تَجُوزُ رُؤْيَتِي"، أَوْ: "لَسْتُ بِمَرْئِيٍّ" وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ ظَاهِرٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي كُمِّهِ حَجَرٌ فَظَنَّهُ رَجُلٌ طَعَامًا فَقَالَ: أَطْعِمْنِيهِ، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، أَمَّا إِذَا كَانَ طَعَامًا صَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَأْكُلَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَرْئِيٌّ، وَلَكِنَّ مُوسَى لَا تَحْتَمِلُ قُوَاهُ رُؤْيَتَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، لِضَعْفِ قُوَى الْبَشَرِ فِيهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ قُوَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ لَا يَثْبُتُ لِلتَّجَلِّي فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَكَيْفَ بِالْبَشَرِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ ضَعْفٍ؟
الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الرُّؤْيَةَ عَلَى مُمْكِنٌ؛ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْجَبَلَ مُسْتَقِرًّا، وَلَو كَانَ مُحَالا لَعَلَّقَهُ عَلَى مُحَالٍ.
السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ جَمَادٌ لَا ثَوَابَ لَهُ وَلَا عِقَابَ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَجَلَّى لِرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ؟
السَّابِعُ: وَأَمَّا دَعْوَاهُمْ تَأْيِيدُ النَّفْيِ بِـ (لَنْ) وَأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَفَاسِدٌ؛ فَإِنَّهَا لَوْ قُيِّدَتْ بِالتَّأْبِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ النَّفْيِ فِي الْآخِرَةِ، فَكَيْفَ إِذَا أُطْلِقَتْ؟ قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة: 95]، مَعَ قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، فَثَبَتَ أَنَّ (لَنْ) لَا تَقْتَضِي النَّفْيَ الْمُؤَبَّدَ.
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِلَنْ مُؤَبَّدًا فَقَوْلُهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا([1]).
كَمَا اسْتَدَلُّوا - أَيْضًا – عَلَى نَفِيِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103].
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ رحمه الله: ((والْاسْتِدْلَا لُ بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ مِنْ وَجْهٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ؛ وَهُوَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي سِيَاقِ التَّمَدُّحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَدْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ ، وَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَيْسَ بِكَمَالٍ فَلَا يُمْدَحُ بِهِ؛ وَإِنَّمَا يُمْدَحُ الرَّبُّ تَعَالَى بِالنَّفْيِ إِذَا تَضَمَّنَ أَمْرًا وُجُودِيًّا؛ كَمَدْحِهِ بِنَفْيِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْقَيُّومِيَّة ِ، وَنَفْيِ الْمَوْتِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْحَيَاةِ، وَنَفْيِ اللُّغُوبِ وَالْإِعْيَاءِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ الْقُدْرَةِ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَالظَّهِيرِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ، وَنَفْيِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ صَمَدِيَّتِهِ وَغِنَاهُ، وَنَفْيِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ تَوَحُّدِهِ وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ، وَنَفْيِ الظُّلْمِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ عَدْلِهِ وَعِلْمِهِ وَغِنَاهُ، وَنَفْيِ النِّسْيَانِ وَعُزُوبِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ، الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، وَنَفْيِ الْمِثْلِ، الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَتَمَدَّحْ بِعَدَمٍ مَحْضٍ لَمْ يَتَضَمَّنْ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُشَارِكُ الْمَوْصُوفَ فِي ذَلِكَ الْعَدَمِ، وَلَا يُوصَفُ الْكَامِلُ بِأَمْرٍ يَشْتَرِكُ هُوَ وَالْمَعْدُومُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُرَى وَلَا يُدْرَكُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ، فَقَوْلُهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ لَا يُدْرَكُ بِحَيْثُ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ هُوَ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ، وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62]، فَلَمْ يَنْفِ مُوسَى الرُّؤْيَةَ، وَإِنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ، فَالرُّؤْيَةُ وَالْإِدْرَاكُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُوجَدُ مَعَ الْآخَرِ وَبِدُونِهِ، فَالرَّبُّ تَعَالَى يُرَى وَلَا يُدْرَكُ، كَمَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا([2])))اهـ.
وَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ النَّظَرَ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ؛ وَقَالُوا: مَعْنَاهُ الِانْتِظَارَ، أَيِ: انْتِظَارَ الثَّوَابِ؛ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ النَّظَرُ!!
وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ هَذَا: عُلَمَاءُ اللُّغَةِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ:
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ رحمه الله:
((فَإِنَّ النَّظَرَ لَهُ عِدَّةُ اسْتِعْمَالَاتٍ ، بِحَسَبِ صِلَاتِهِ وَتَعَدِّيهِ بِنَفْسِهِ: فَإِنْ عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَمَعْنَاهُ: التَّوَقُّفُ وَالِانْتِظَارُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، وَإِنْ عُدِّيَ بِـ "فِي" فَمَعْنَاهُ: التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ ، كَقَوْلِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: 185]، وَإِنْ عُدِّيَ بِـ "إِلَى" فَمَعْنَاهُ: الْمُعَايَنَةُ بِالْأَبْصَارِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فَكَيْفَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَحِلُّ الْبَصَرِ؟([3])))اهـ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ رحمه الله: ((وَمن قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَى ربِّها نَاظِرَةٌ} بِمَعْنَى مُنْتَظِرَةٍ، فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ: نَظَرْتُ إِلَى الشَّيْءِ بِمَعْنَى انْتَظَرْتُهُ؛ إِنَّمَا تَقُولُ: "نَظَرْتُ فَلَانًا"؛ أَيِ: انْتَظَرْتُهُ، فَإِذَا قُلْتَ: "نَظَرْتُ إِلَيْهِ" لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِالْعَيْنِ، وَإِذَا قُلْتَ: "نَظَرْتُ فِي الْأَمْرِ" احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَفَكُّرًا، وَتَدَبُّرًا بِالْقَلْبِ([4])))اهـ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: يُرَى؛ وَلَكِنْ لَا إِلَى جِهَةٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ رحمه الله:
((وَمَنْ قَالَ: "يُرَى لَا فِي جِهَةٍ" فَلْيُرَاجِعْ عَقْلَهُ! فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُكَابِرًا لِعَقْلِهِ وَفِي عَقْلِهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَإِذَا قَالَ يُرَى لَا أَمَامَ الرَّائِي وَلَا خَلْفَهُ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، رَدَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ بِفِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ؛ وَلِهَذَا أَلْزَمَ الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ نَفَى الْعُلُوَّ بِالذَّاتِ بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: كَيْفَ تُعْقَلُ رُؤْيَةٌ بِغَيْرِ جِهَةٍ([5])))اهـ.
[1])) انظر هذه الردود: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (211- 214).
[2])) السابق (214، 215).
([3]) السابق (209).
[4])) ((تهذيب اللغة)) (14/ 371)
[5])) السابق (219، 220).