فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (59)
من صــ 147 الى صــ 153
فإن الأب لو فعل فعلا افتقر به حتى تضرر بنوه فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر: لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب. والعبد مأمور أن يصبر على المقدور ويطيع المأمور وإذا أذنب استغفر. كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وقال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}. قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
فمن احتج بالقدر على ترك المأمور وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان والدين وصار من حزب الملحدين المنافقين وهذا حال المحتجين بالقدر. فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره فلا ينظر إلى القدر ولا يسلم له وإذا أذنب ذنبا أخذ يحتج بالقدر فلا يفعل المأمور ولا يترك المحظور ولا يصبر على المقدور ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين وأئمة المحققين الموحدين وإنما هو من أعداء الله الملحدين وحزب الشيطان اللعين.
وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان تجد أحدهم أجبر الناس إذا قدر وأعظمهم ظلما وعدوانا وأذل الناس إذا قهر وأعظمهم جزعا ووهنا؛ كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقاتلة من أصناف الناس.
والمؤمن إن قدر عدل وأحسن وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم - التي أولها بانت سعاد إلخ - في صفة المؤمنين: - ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيته يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر. وقد قال تعالى: {قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} وقال تعالى:
{وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور والتقوى يدخل فيها فعل المأمور وترك المحظور. فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير بخلاف من عكس فلا يتقي الله بل يترك طاعته متبعا لهواه ويحتج بالقدر ولا يصبر إذا ابتلي ولا ينظر حينئذ إلى القدر فإن هذا حال الأشقياء كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37)
[فصل البرهان العاشر " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " والجواب عليه]
فصل. قال الرافضي: " البرهان العاشر: قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} [سورة البقرة: 37].
روى [الفقيه] ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال: «سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه، فتاب عليه». وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها، فيكون هو الإمام لمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوسل به إلى الله تعالى ". والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، فقد عرف أن مجرد رواية ابن المغازلي لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في " الموضوعات " عن طريق الدارقطني، فإن له كتبا في الأفراد والغرائب. قال الدارقطني: " تفرد به عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي المقدام، لم يروه عنه غير حسن الأشقر. قال يحيى بن معين: عمرو بن ثابت ليس ثقة ولا مأمونا. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات ". الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [سورة الأعراف: 23]. وقد روي عن السلف هذا وما يشبهه، وليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم. الرابع: أنه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه، وإن لم يقسم عليه بأحد. فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر. وطائفة قد رووا أنه توسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل توبته، وهذا كذب. وروي عن مالك في ذلك حكاية في خطابه للمنصور، وهو كذب على مالك، وإن كان ذكرها القاضي عياض في " الشفاء ".
الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحدا بالتوبة بمثل هذا الدعاء، بل ولا أمر أحدا بمثل هذا الدعاء في توبة ولا غيرها، بل ولا شرع لأمته أن يقسموا على الله بمخلوق ولو كان هذا الدعاء مشروعا لشرعه لأمته.
السادس: أن الإقسام على الله بالملائكة والأنبياء أمر لم يرد به كتاب ولا سنة، بل قد نص غير واحد من أهل العلم - كأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما - على أنه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق. وقد بسطنا الكلام على ذلك.
السابع: أن هذا لو كان مشروعا فآدم نبي كريم، كيف يقسم على الله بمن هو أكرم عليه منه؟ ولا ريب أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم، لكن آدم أفضل من علي وفاطمة وحسن وحسين. الثامن: أن يقال: هذه ليست من خصائص الأئمة، فإنها قد ثبتت لفاطمة.
وخصائص الأئمة لا تثبت للنساء. وما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمامة، فإن دليل الإمامة لا بد أن يكون ملزوما لها، يلزم من وجوده استحقاقها، فلو كان هذا دليلا على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها، والمرأة لا تكون إماما بالنص والإجماع.
(ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42)
نهي عنهما، والثاني لازم للأول مقصود بالنهي، فمن لبس الحق بالباطل كتم الحق وهو معاقب علي لبسه الحق بالباطل، وعلي كتمانه الحق، فلا يقال: النهي عن جمعهما فقط، لأنه لو كان هذا صحيحا لم يكن مجرد كتمان الحق موجبا للذم، ولا مجرد لبس الحق بالباطل موجبا للذم، وليس الأمر كذلك، فإن كتمان أهل الكتاب ما أنزل الله من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس يستحقون به العقاب باتفاق المسلمين، وكذلك لبسهم الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي ابتدعوه، وجمع بينهما بدون إعادة حرف النفي لأن اللبس مستلزم للكتمان، ولم يقتصر علي الملزوم لأن اللازم مقصود بالنهي.
فهذا يبين لك بعض ما في القرآن من الحكم والأسرار، وإنما كان اللبس مستلزما للكتمان لأن من لبس الحق بالباطل، كما فعله أهل الكتاب ـ حيث ابتدعوا دينا لم يشرعه الله، فأمروا بما لم يأمر به، ونهوا عما لم ينه عنه، وأخبروا بخلاف ما أخبر به ـ فلابد له أن يكتم من الحق المنزل ما يناقض بدعته، إذ الحق المنزل الذي فيه خبر بخلاف ما أخبر به إن لم يكتمه لم يتم مقصوده، وكذلك الذي فيه إباحة لما نهي عنه أو إسقاط لما أمر به.
والحق المنزل إما أمر ونهي وإباحة، وإما خبر، فالبدع الخبرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله تعالي وصفاته والنبيين واليوم الآخر لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به، والبدع الأمرية، كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك، لا بد أن يأمروا فيها بخلاف ما أمر الله به، والكتب المتقدمة تخبر عن الرسول النبي الأمي وتأمر باتباعه.
والمقصود هنا الاعتبار، فإن بني إسرائيل قد ذهبوا أو كفروا، وإنما ذكرت قصصهم عبرة لنا، وكان بعض السلف يقول: إن بني إسرائيل ذهبوا، وإنما يعني أنتم، ومن الأمثال السائرة: إياك أعني واسمعي يا جارة فكان فيما خاطب الله بني إسرائيل عبرة لنا: أن لا نلبس الحق بالباطل، ونكتم الحق.
والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفيات، أو ذوقيات ووجديات وحقائق وغير ذلك، لا بد أن تشمل علي لبس حق بباطل وكتمان حق، وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله، فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.
ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقا بباطل، بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح، بل لا بد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق.
وبسبب ذلك وقعت الشبهة، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سمي أهل البدع أهل الشبهات، وقيل فيهم: إنهم يلبسون الحق بالباطل.
وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل، ولهذا قال تعالى لهم: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [سورة البقرة: 42]، وقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [سورة البقرة: 85]، وقال عنهم: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} [سورة النساء: 150]، وقال عنهم:{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} [سورة البقرة: 91].