تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 24 الأولىالأولى 1234567891011121314 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 80 من 461

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #61
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 311 الى صـ 315
    الحلقة (61)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [152 ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

    فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون قال ابن جرير : أي اذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه ، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم . وقد كان بعضهم يتأول ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح . وقال القاشاني : اذكروني بالإجابة والطاعة ، أذكركم بالمزيد والتوالي . وهي بمعنى ما قبله ، وقوله "واشكروا لي" قال ابن جرير : أي اشكروا لي فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته . وقوله "ولا تكفرون" أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم .

    قال السمرقندي : أي اشكروا نعمتي : أن أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ولا تجحدوا هذه النعمة ، ويقال : النعمة ، في الحقيقة هي العلم . وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة ، وليس بنعمة . والعلم [ ص: 311 ] لا يمل منه صاحبه . بل يطلب منه الزيادة . فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة بعثه رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة . كما قصه الحرالي . ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ، جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون . كما جعل كتابه عوضا من أشعارهم . وهز عزائمهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم .

    وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عز وجل : أنا مع عبدي حين يذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم . وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا . وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا . فإن أتاني يمشي أتيته هرولة » . صحيح الإسناد أخرجه البخاري أيضا .

    وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده » .

    والآثار في فضل الذكر متوافرة ويكفي فيه هذه الآية الكريمة .

    (تنبيه) قال النووي رحمه الله تعالى : اعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوهما ، بل كل عامل لله تعالى بطاعة ، فهو ذاكر لله تعالى .

    [ ص: 312 ] كذا قاله سعيد بن جبير رضي الله عنه ، وغيره من العلماء . وقال عطاء رحمه الله : مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام ، كيف تشتري وتبيع ؟ وتصلي وتصوم ؟ وتنكح وتطلق ؟ وأشباه هذا . وقال النووي أيضا : إن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها ، واجبة كانت أو مستحبة ، لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ، لا عارض . وقد صنف ، في عمل اليوم والليلة ، جماعة من الأئمة كتبا نفيسة . ومن أجمعها للمتأخرين (كتاب الأذكار للنووي) ، وممن جمع زبدة ما روى فيها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (زاد المعاد) ، وقال في طليعة ذلك : كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله . وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له . وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه ذكرا منه له . وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكونه وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذكر الله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره الله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا ، وعلى جنبه ، وفي مشيه وركوبه ومسيره ، ونزوله وظعنه وإقامته . انتهى .

    وأما الأذكار المحدثة والسماعات المبتدعة ، سماع الكف والدف ، فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وسائر الأكابر من أئمة الدين ، يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى . ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة . حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن . وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا . ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم ، ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله ، كان نصيب الشيطان فيه أكثر. فسماع الغناء والملاهي من أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية ، وهو [ ص: 313 ] سماع المشركين ; قال الله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، وغيرهما من السلف : التصدية ، التصفيق باليد . والمكاء مثل الصفير . فكان المشركون يتخذون هذا عبادة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك ، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط . لا بكف ولا بدف ولا تواجد. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا اجتمعوا ، أمروا واحدا منهم أن يقرأ . والباقون يستمعون . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا . فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : « مررت بك البارحة ، [ ص: 314 ] وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك » . فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا . أي لحسنته لك تحسينا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « زينوا القرآن بأصواتكم » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لله أشد أذنا (أي استماعا) إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به ، من صاحب القينة إلى قينته » . وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : « اقرأ علي » ، قلت : يا رسول الله : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : « نعم » . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : « حسبك الآن » . فالتفت فإذا عيناه تذرفان .

    ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فقال : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا وقال تعالى في أهل المعرفة : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول [ ص: 315 ] ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : الله نـزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا فخلاف هذا السماع ، من الباطل الذي نهى عنه . ولذلك لم يفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله أكابر المشايخ ، فليفق من كان من الفريق الأدنى في سلوك فقره ، وليصحب من هو من الرفيق الأعلى إلى حلول قبره ، وليداو جراحات اجتراح بدعته ، باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم سنته . واعلم أن ذكر الله تعالى تارة يكون لعظمته ، فيتولد منه الهيبة والإجلال . وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن ، وتارة لنعمته فيتولد منه الشكر ، ولذلك قيل : ذكر النعمة شكرها ، وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العبر . فحق المؤمن أن لا ينفك أبدا عن ذكره تعالى على أحد هذه الأوجه . وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون فيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها ; (فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب) . وقد وعد تعالى على شكره بمزيد الخير فقال : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد قال ابن عطية : اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد . و "لي" أفصح وأشهر مع الشكر .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #62
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 316 الى صـ 320
    الحلقة (62)

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [153 ] يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين

    يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة أرشد تعالى المؤمنين ، إثر الأمر بالشكر في الآية قبل ، بالاستعانة بالصبر والصلاة . لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها . كما جاء في الحديث : « عجبا للمؤمن لا يقضى له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له » . وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله ، الصبر والصلاة ; كما تقدم في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين وفي الحديث : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى » . ثم إن الصبر صبران : صبر على ترك المحارم والمآثم ، وصبر على فعل الطاعات والقربات . والثاني أكثر ثوابا . لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث ، وهو الصبر على المصائب والنوائب ، فذاك أيضا واجب . كالاستغفار من المعائب .

    [ ص: 317 ] وقال الإمام ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) وأعظم عون لولي الأمر خاصة ، ولغيره عامة ثلاثة أمور: أحدها الإخلاص لله ، والتوكل عليه بالدعاء وغيره . وأصل ذلك المحافظة على الصلاة بالقلب والبدن . والثاني الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة . والثالث الصبر على الأذى من الخلق وغيره من النوائب ; ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيرا كقوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وكقوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا . فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية . إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة ، يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه ، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم وإعانة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج . وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الشر والبطر . انتهى .

    "إن الله مع الصابرين" قال الإمام ابن تيمية في (شرح حديث النزول) : لفظ المعية في كتاب الله جاء عاما كما في قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وفي قوله [ ص: 318 ] ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله : إلا هو معهم أين ما كانوا وجاء خاصا كما في قوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقوله : إنني معكما أسمع وأرى وقوله : لا تحزن إن الله معنا فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص . فإنه قد علم أن قوله : لا تحزن إن الله معنا أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار ، وكذلك قوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون خصهم بذلك دون الظالمين والفجار .

    وأيضا ، فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى [ ص: 319 ] الذاتين بالأخرى . كما في قوله : محمد رسول الله والذين معه وقوله : فأولئك مع المؤمنين وقوله : اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وقوله : وجاهدوا معكم ومثل هذا كثير . فامتنع أن يكون قوله "وهو معكم" يدل على أن تكون ذاته مختلطة بذوات الخلق .

    وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر وبين أن لفظ المعية في اللغة ، وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة ، فهو ، إذا كان مع العباد ، لم يناف ذلك علوه على عرشه . ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه . فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد . انتهى مختصرا .
    [ ص: 320 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [154 ] ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ 154 ]

    وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ينهى تعالى عباده المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتا ; بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة ، وتصرمت عنهم اللذات ، وأضحوا كالجمادات ، كما يتبادر من معنى الميت ، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم : الأحياء ; لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، كما قال تعالى في آل عمران : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فقوله في هذه الآية "عند ربهم" يفسر المراد من حياتهم ; أي : إنها لأرواحهم عنده تعالى ، وقوله "ولكن لا تشعرون" أي بحياتهم الزوجية بعد موتهم ; إذ لم يظهر منها شيء في أبدانهم ، وإن حفظ بعضها عن التلف ، كما ترون النيام همودا لا يتحركون ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ، ولا عيش أرغد منه في الآخرة .

    قال الحرالي : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد منال المكروه من كل وجه ، حتى في أن يقال عنه : ميت . فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم ، لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر . انتهى .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #63
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 321 الى صـ 325
    الحلقة (63)

    ولذا قال الأصم : يعني لا تسموهم بالموتى ، وقولوا لهم الشهداء الأحياء . وقال الراغب الأصفهاني : الحياة على أوجه ، وكل واحد منها يقابله موت (الأولى) هي القوة النامية التي [ ص: 321 ] بها الغذاء ، والشهوة إليه ، وذلك موجود في النبات والحيوان والإنسان . ولذلك يقال : نبات حي .

    (والثانية) في القوة الحاسة التي بها الحركة المكانية . وهي في الحيوان دون النبات .

    (والثالثة) القوة العاملة العاقلة . وهي في الإنسان دون الحيوان والنبات . وبها يتعلق التكليف . وقد يقال للعلم المستفاد والعمل الصالح : حياة ، وعلى ذلك قوله تعالى : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم وقيل : المحسن حي وإن كان في دار الأموات ، والمسيء ميت وإن كان في دار الأحياء .

    (قال) ونعود إلى معنى الآية فنقول : قد أجمعوا على أنه لا يثبت لهم الحياة التي بها النمو والغذاء ، ولا الحياة التي بها الحس . فإن فقدانهما عن الميت محسوس ومعقول . فبعض المفسرين اعتبر الحياة المختصة بالإنسان . وقال : إن هذه الحياة مخصصة بالقوة المسماة تارة الروح وتارة النفس . قال : والموت المشاهد هو مفارقة هذه القوة - التي هي الروح البدن . فمتى كان الإنسان محسنا كان منعما بروحه مسرورا لمكانه إلى يوم القيامة . وإن كان مسيئا كان به معذبا . وإلى هذا ذهب الحكماء ودلوا عليه بالبراهين والأدلة . وهو مذهب أصحاب الحديث . ويدل على صحته الأخبار والآيات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم . بل إليه ذهب أصحاب الملل كلها .

    ومما دل على صحته خبرا « الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وما روي عن أمير المؤمنين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد [ ص: 322 ] بألفي عام» . وروي أنه لما قتل من قتل من صناديد قريش -يوم بدر- وجمعوا في قليب ، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم فخاطبهم بقوله : « هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا » قيل : يا رسول الله ! أتخاطب جيفا ؟ فقال : « ما أنتم بأسمع منهم ، ولو قدروا لأجابوا » . إلى غير ذلك من الأخبار . وقال تعالى في آل فرعون : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا وهذا يعني به قبل يوم القيامة ; لأنه قال في آخر الآية : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب انتهى .

    وفي البيضاوي وحواشيه : إن إثبات الحياة للشهداء في زمان بطلان الجسد ، وفساد البنية ؛ ونفي الشعور بها - دليل على أن حياتهم ليست الجسد ، ولا من جنس حياة الحيوان ، لأنها بصحة البنية ، واعتدال المزاج وإنما هي أمر يدرك بالوحي لا بالعقل . انتهى .

    وقد جاء الوحي ببيان حياتهم -كما أسلفنا- قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): وقد أخبر سبحانه عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وهذه حياة أرواحهم ، ورزقها دار ، وإلا فالأبدان قد تمزقت . وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه [ ص: 323 ] الحياة : بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا . . . ! ففعل بهم ذلك ثلاث مرات . فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا -قالوا : يا رب ! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى . . ! فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا . وصح عنه صلى الله عليه وسلم : « إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة » (وتعلق بضم اللام ; أي : تأكل العلقة) وهذا صريح في أكلها ، وشربها ، وحركتها ، وانتقالها ، وكلامها . . . ! انتهى .

    قال الطيبي : قوله صلى الله عليه وسلم : « أرواحهم في جوف طير خضر » أي : يخلق لأرواحهم ، بعدما فارقت أبدانهم ، هياكل على تلك الهيئة ، تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم ، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية . وقال ابن القيم في كتاب (الروح): إن الله سبحانه وتعالى جعل الدور ثلاثة : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار ، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح ، وإن أضمرت النفوس خلافه .

    وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان [ ص: 324 ] تبع لها ، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا ، فتألمت بألمها ، والتذت براحتها ، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب -تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها ، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم ، فالأبدان هنا ظاهرة ، والأرواح خفية . والأبدان كالقبور لها . والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها ، فتجري أحكام البرزخ على الأرواح . فترى إلى أبدانها نعيما وعذابا . كما جرى أحكام الدنيا على الأبدان فترى إلى أرواحها نعيما وعذابا ، فأحط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغي ، يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج . وقد أرانا الله سبحانه ، بلطفه ، ورحمته وهدايته من ذلك ، أنموذجا في الدنيا من حال النائم . فإن ما ينعم به ، أو يعذب في نومه ، يجري على روحه أصلا ، والبدن تبع له ، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا ، فيرى النائم أنه في نومه ضرب ، فيصبح وآثار الضرب في جسمه . ويرى أنه قد أكل وشرب ، فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه . ويذهب عنه الجوع والظمأ .

    وأعجب من ذلك أنك ترى النائم ، ثم يقوم من نومه ، ويضرب ويبطش ويدافع ، كأنه يقظان ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك . لأن الحكم ، لما جرى على الروح ، استعانت بالبدن من خارجه ، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس .

    فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ، ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع ، فهكذا في البرزخ ، بل أعظم . فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى ، وهي متعلقة ببدنها ، لم تنقطع عنه كل الانقطاع . فإذا كان يوم حشر الأجساد ، وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا . ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه ، وضيقه وسعته ، وضمه ، وكونه حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة- مطابق للعقل . وأنه حق لا مرية فيه . وأن من أشكل عليه ذلك ، فمن سوء فهمه ، وقلة علمه . انتهى .
    [ ص: 325 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [155 ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [156 ] الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون

    وقوله تعالى : "ولنبلونكم بشيء" خطاب لمن آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، خصوا به ، وإن شمل من ماثلهم ، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد ، ومكافحة الفجار . وكل قائم بحق ، وداع إليه ، معرض للابتلاء بما ذكر ، كله أو بعضه . والتنوين للتقليل ; أي : بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه ، وإنما قلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان ، وإن جل ، ففوقه ما يقل إليه ، وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وإنما أخبر به قبل الوقوع ، ليوطنوا عليه نفوسهم ، ويزداد يقينهم ، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به ، وليعلموا أنه شيء يسير ، له عاقبة حميدة "من الخوف" أي خوف العدو والإرجاف به "والجوع" أي الفقر ، للشغل بالجهاد ، أو فقد الزاد ، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله . وقد كان يتفق لهم ذلك أياما يتبلغون فيها بتمرة "ونقص من الأموال" أي : لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم ، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة ، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها "والأنفس" بقتلها شهيدة في سبيل الله ، أو ذهاب أطرافها فيه "والثمرات" أي بأن لا نغل الحدائق كعادتها ، للغيبة عنها في سبيل الله ، وفقد من يتعاهدها ، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات ، وهو أول زمان الهجرة . فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قال [ ص: 326 ] ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها : أي إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها ، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها ، بما يدل عليه سابقه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #64
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 326 الى صـ 330
    الحلقة (64)

    ثم بين تعالى ما للصابرين عنده بقوله : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة مكروه ، اسم فاعل من أصابته شدة : لحقته . أي كهذه البلايا "قالوا إنا لله" أي ملكا وخلقا، فلا ينبغي أن نخاف غيره ، لأنه غالب على الكل ، أو نبالي بالجوع ; لأن رزق العبد على سيده ، فإن منع وقتا ، فلا بد أن يعود إليه . وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء "وإنا إليه راجعون" في الدار الآخرة . فيحصل لنا عنده ما فوته علينا . لأنه لا يضيع أجر المحسنين . فالمصاب يهون عليه خطبه ، إذا تسلى بقوله هذا ، وتصور ما خلق له ، وأنه راجع إلى ربه ، وتذكر نعم الله عليه ، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه . قال الراغب : وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء ليس يغني شيئا ، وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه ، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها ، وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه .

    (ثم قال) إن قيل : ولم قلت : إن الأمر بالصبر يقتضي العلم ؟ قيل : الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه .
    [ ص: 327 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [157 ] أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون

    "أولئك" إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت "عليهم صلوات من ربهم"

    قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه . وقال الرازي : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم . قال الراغب : وإنما قال "صلوات" على الجمع ، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا ، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة "ورحمة" عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم "وأولئك هم المهتدون" أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته .

    (تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة . منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها » . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها . قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها » .

    [ ص: 328 ] وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي ، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .

    وروى البخاري : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يصب منه » .

    وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه » .

    ورويا أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض [ ص: 329 ] فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته ، كما تحط الشجرة ورقها » .

    والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة .

    وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمه الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا . قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :

    أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها .

    والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه .

    والثالثة : الإخلاص لله تعالى ; إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين

    [ ص: 330 ] الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه

    الخامسة : التضرع والدعاء : وإذا مس الإنسان الضر دعانا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #65
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 331 الى صـ 335
    الحلقة (65)


    السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة : إن إبراهيم لأواه حليم [ ص: 331 ] إنا نبشرك بغلام عليم [ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس ] : « إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة » . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم .

    السابعة : العفو عن جانيها : والعافين عن الناس فمن عفا وأصلح فأجره على الله والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو .

    الثامنة : الصبر عليها ، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه : والله يحب الصابرين إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر .

    [ ص: 332 ] التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها : قال عليه الصلاة والسلام : « والذي نفسي بيده ! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء » . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر . وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها .

    العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها . كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء .

    الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير « ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه [ ص: 333 ] والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته » .

    الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم ; فالناس معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية ، وإنما يرحم العشاق من عشق .

    الثالثة عشرة : معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها . فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها .

    الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها .

    الخامسة عشرة: ما في طيها من الفوائد الخفية : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ ص: 334 ] إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم

    ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طي تلك البلية أن أخدمها هاجر . فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية ، وقد قيل :


    كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب


    [ ص: 335 ] وقال آخر :


    رب مبغوض كريه فيه لله لطائف



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #66
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 336 الى صـ 340
    الحلقة (66)

    السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيرا سقيما ، فاقد السمع والبصر ، لما حاج إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطر الملك على ذلك ، وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك ، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال : أنا ربكم الأعلى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال [ ص: 336 ] مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون

    والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء . ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ; نسبوا إلى الجنون ، والسحر ، والكهانة واستهزئ بهم وسخر منهم ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا وقيل لنا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ ص: 337 ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم ، وكثر عناهم ، واشتد بلاهم ، وتكاثر أعداهم . فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأحد وبئر معونة من قتل . وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وقتل أعزاؤه ومثل بهم ، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه ، وابتلوا يوم الخندق ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا في خوف دائم وعري لازم . وفقر مدقع . حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع . ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بر في يوم مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه .

    ثم ابتلي في آخر الأمر [ ص: 338 ] بمسيلمة وطليحة والعنسي ، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه ، ومات ودرعه عند يهودي على آصع من شعير . ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه . ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه) . وقال عليه الصلاة والسلام : [ ص: 339 ] « مثل المؤمن مثل الزرع ، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء » . وقال عليه الصلاة والسلام : « مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج » فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك . ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه .

    السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن المصائب تنزل بالبر والفاجر ، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا . والرضا أفضل من الجنة وما فيها ; لقوله تعالى : ورضوان من الله أكبر أي : من جنات عدن ومساكنها الطيبة .

    [ ص: 340 ] فهذه نبذة مما حضرنا من فوائد البلوى ونحن نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة فلسنا من رجال البلوى.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى وعافانا من المحن والرزايا بمنه وكرمه . آمين



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #67
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 341 الى صـ 345
    الحلقة (67)

    بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى:

    [158] إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم

    قوله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما الصفا والمروة علمان لجبلين بمكة، ومعنى كونهما من شعائر الله: من أعلام مناسكه ومتعبداته.

    قال الرازي: كل شيء جعل علما من أعلام طاعة الله، فهو من شعائر الله. قال الله تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله أي: علامة للقربة. وقال: ذلك ومن يعظم شعائر الله وشعائر الحج معالم نسكه، ومنه المشعر الحرام، ومنه إشعار السنام - وهو أن يعلم بالمدية، فيكون ذلك علما على إحرام صاحبها، وعلى أنه قد جعله هديا لبيت الله. و(الشعائر): جمع شعيرة وهي العلامة، مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام، ومنه قولك: شعرت بكذا أي: علمت انتهى.

    [ ص: 344 ] والحج: في اللغة: القصد. والاعتمار: الزيارة. غلبا في الشريعة على قصد البيت، وزيارته، على الوجهين المعروفين في النسك. والجناح: بالضم: الإثم والتضييق والمؤاخذة. وأصل الطواف: المشي حول الشيء. والمراد: السعي بينهما.

    وقد روي في سبب نزول الآية عدة روايات:

    ولفظ البخاري عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فوالله! ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة. فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله: إن الصفا والمروة من شعائر الآية.

    قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما.
    فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

    ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس - إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة - كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا. فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية.

    [ ص: 345 ] قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام. من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.

    وفي رواية معمر عن الزهري: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة. أخرجه البخاري تعليقا، ووصله أحمد وغيره.

    وأخرج مسلم في رواية يونس عن الزهري عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا، هم وغسان، يهلون لمناة. فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم: من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة. وإنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا. فأنزل الله عز وجل في ذلك: إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم

    وروى الفاكهي عن الزهري: أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها. فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة قال: وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان، ومن دان دينهم من أهل يثرب.

    وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال: كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما إساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما... الحديث.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #68
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 346 الى صـ 350
    الحلقة (68)

    وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: [ ص: 346 ] قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: إن الصفا والمروة الآية.

    وروى الفاكهي وإسماعيل القاضي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن الشعبي قال: كان صنم بالصفا يدعى "إساف"، ووثن بالمروة يدعى "نائلة"، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما، وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال: فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة الآية.

    وقد استفيد من مجموع هذه الروايات: أنه تحرج طوائف من السعي بين الصفا والمروة لأسباب متعددة فنزلت في الكل. والله أعلم.

    وجواب عائشة، رضي الله عنها، لعروة هو من دقيق علمها وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ ; لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه.

    ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم أي: من فعل خيرا فإن الله يشكره عليه ويثيبه به. ومعنى: ( تطوع ) أتى بما في طوعه أو بالطاعة، وإطلاقه على ما لا يجب عرف فقهي لا لغوي. والشكر من الله تعالى المجازاة والثناء الجميل.

    قال الراغب: الشكر، كما يكون بالقول، يكون بالفعل، وعلى ذلك قوله تعالى: اعملوا آل داود شكرا قال: وليس شكر الرفيع للوضيع إلا الإفضال عليه وقبول حمد منه.

    [ ص: 347 ] تنبيهات:

    الأول: تمسك بعضهم بقوله تعالى: ومن تطوع خيرا على أن السعي سنة، وأن من تركه لا شيء عليه، فإن كان مأخذه منها: إن التطوع التبرع بما لا يلزم، فقد قدمنا أنه عرف فقهي لا لغوي، فلا حجة فيه. وإن كان نفى الجناح، فقد علمت المراد منه.

    وممن ذهب إلى أنه سنة، لا يجبر بتركه شيء، أنس فيما نقله ابن المنذر وعطاء، نقله ابن حجر في " الفتح ".

    وقال الرازي: روي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء، أن من تركه فلا شيء عليه. وأما حديث: « اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي » رواه أحمد وغيره، ففي إسناده عبد الله بن المؤمل، وفيه ضعف. ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. ذكره الحافظ ابن حجر في " الفتح ".

    الثاني: صح أنه صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة سبعا. رواه الشيخان [ ص: 348 ] وغيرهما عن ابن عمر. وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه، فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو. وأخرج أيضا من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: « إن الصفا والمروة من شعائر الله. أبدأ بما بدأ الله به » فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره قال: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده » ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا أنصبت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا اهـ. وظاهر هذا أنه كان ماشيا.

    وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت، وبين الصفا والمروة، ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه.

    ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.

    قال ابن حزم: لا تعارض بينهما، لأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده.

    [ ص: 349 ] وعندي - في الجمع بينهما - وجه آخر أحسن من هذا وهو: أنه سعى ماشيا أولا، ثم أتم سعيه راكبا، وقد جاء ذلك مصرحا به ; ففي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة! قال: صدقوا وكذبوا..! قال: قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا..؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس. يقولون: هذا محمد..! حتى خرج عليه العواتق من البيوت - قال - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه - فلما كثر عليه ركب. والمشي والسعي أفضل.

    وفي الصحيحين عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته..!

    وعن كريب مولى ابن عباس: أن ابن عباس قال: ليس السعي ببطن الوادي بين الصفا والمروة بسنة، إنما كان أهل الجاهلية يسعونها ويقولون: لا نجيز البطحاء إلا شدا..! رواه البخاري تعليقا، ووصله أبو نعيم في مستخرجه. قال شراح الصحيح: المراد بالسعي المنفي هو شدة المشي والعدو. فهو، رضي الله عنه، لم ينف سنية السعي المجرد، بل مجاوزة الوادي بقوة وعدو شديد، إذ أصل السعي هديه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

    [ ص: 350 ] الثالث: في البخاري عن ابن عباس في قصة هاجر أم إسماعيل: إن الطواف بينهما مأخوذ من طوافها وتزدادها في طلب الماء. ولفظه: وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال: يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات.

    قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « فذلك سعي الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا... » الحديث.

    قال ابن كثير: لما ترددت هاجر في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة، تطلب الغوث من الله تعالى متذللة، خائفة، مضطرة، فقيرة إلى الله عز وجل، كشف تعالى كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي طعامها طعام طعم. وشفاء سقم. فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأنه يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه - من الذنوب والمعاصي - إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #69
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 351 الى صـ 355
    الحلقة (69)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [159] إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون

    إن الذين يكتمون ما أنـزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون

    لما تقدم أن بعض أهل الكتاب يكتمون ما يعلمون من هذا الحق، وختم ما أتبعه له بصفتي الشكر والعلم - ترغيبا وترهيبا - بأنه يشكر من فعل ما شرعه له، ويعلم من أخفاه وإن دق فعله وبالغ في كتمانه، انعطف الكلام إلى تبكيت المنافقين منهم، ولعنهم على كتمانهم ما يعلمون من الحق ; إذ كانت هذه كلها في الحقيقة قصصهم، والخروج إلى غيرها إنما هو استطراد على الأسلوب الحكيم المبين ; لأن هذا الكتاب هدى، وكان السياق مرشدا إلى أن التقدير بعد: شاكر عليم ومن أحدث شرا فإن الله عليم قدير، فوصل به استئنافا قوله - على وجه يعمهم وغيرهم -: إن الذين يكتمون ما أنـزلنا الآية، بيانا لجزائهم، فانتظمت هذه الآية في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون فكانت البداية خاصة، وكان الختم عاما، ليكون ما في كتاب الله أمرا منطبقا - على نحو ما كان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن تقدمه من الرسل خلقا - لينطبق الأمر على الخلق بدءا وختما انطباقا واحدا، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين. نقله البقاعي.

    واللعن: الطرد والإبعاد عن الخير، هذا من الله تعالى، ومن الخلق: السب والشتم، والدعاء على الملعون، ومشاقته، ومخالفته، مع السخط عليه، والبراءة منه. والمراد بقوله: اللاعنون كل من يصح منه لعن، وقد بينه بعد قوله تعالى: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ ص: 352 ] وقد دلت الآية على أن هذا الكتمان من الكبائر ; لأنه تعالى أوجب فيه اللعن، لأن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته، وبلغ للعنه من الشقاوة والخسران الغاية التي لا يدرك كنهها..! وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتمان العلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدثت شيئا أبدا: إن الذين يكتمون الآية، وقوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية.

    ثم استثنى تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال:
    [ ص: 353 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [160] إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم

    إلا الذين تابوا - أي: عن الكتمان -: وأصلحوا - أي: عملوا صالحا -: وبينوا - ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع -: فأولئك أتوب عليهم - أي: أقبل توبتهم بإفاضة المغفرة والرحمة عليهم -: وأنا التواب الرحيم

    ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى كفره بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون

    إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها - أي: في اللعنة، أو في النار، على أنها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها -: لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون - إما من الإنظار بمعنى التأخير والإمهال. أي: لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخر عنهم ساعة بل هو متواصل دائم، أو من النظر بمعنى الرؤية أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة كقوله: ولا ينظر إليهم يوم القيامة
    [ ص: 354 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [163] وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

    وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم يخبر تعالى بخطابه كافة الناس عن تفرده بالإلهية، وأنه لا شريك له ولا عديل.

    قال الراغب: يجوز أن يكون قوله: وإلهكم إله واحد خطابا عاما، أي: المستحق منكم العبادة هو إله واحد لا أكثر، ويجوز أن يكون خطابا للمؤمنين، والمعنى: الذي تعبدونه إله واحد، تنبيها أنكم لستم كالكفار الذين يعبدون أصناما آلهة والشيطان والهوى وغير ذلك. إن قيل: ما فائدة الجمع بين: ( إلهكم إله واحد ) وبين: لا إله إلا هو وأحدهما يبنى على الآخر؟ قيل: لما بين بقوله: وإلهكم إله واحد أنه المقصود بالعبادة أو المستحق لها - وكان يجوز أن يتوهم أن يوجد إله غيره، ولكن لا يعبد ولا يستحق العبادة - أكده بقوله: لا إله إلا هو وحق لهذا المعنى أن يكون مؤكدا وتكرر عليه الألفاظ ; إذ هو مبدأ مقصود العبادة ومنتهاه. انتهى.

    وقال الرازي: إنما خص سبحانه وتعالى هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين ; لأن ذكر الإلهية والفردانية يفيد القهر والعلو، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية وعزة الفردانية، وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان. انتهى.

    ولما كان مقام الوحدانية لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة، نصب تعالى الأدلة، من العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات، على ذلك تبصيرا للجهال وتذكيرا للعلماء بقوله:
    [ ص: 355 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [164] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون

    إن في خلق السماوات والأرض - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع -: واختلاف الليل والنهار أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة. كقوله تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا كما قال: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليم لغيره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #70
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثانى
    صـ 356 الى صـ 360
    الحلقة (70)


    قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: والفلك التي تجري في البحر وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر، [ ص: 356 ] وإن أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى وما أنـزل الله من السماء أي: المزن: من ماء فأحيا به الأرض بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار: بعد موتها باستيلاء اليبوسة عليها: وبث فيها أي: نشر وفرق: من كل دابة من العقلاء وغيرهم: وتصريف الرياح أي: تقليبها في مهابها: قبولا ودبورا وجنوبا وشمالا، وفي أحوالها: حارة وباردة وعاصفة ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطورا تسوقه، وآونة تجمعه، ووقتا تفرقه، وحينا تصرفه.

    قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنفس ضعيف، وروح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكا شديدا وقلعت الأشجار فهي الزعزعان والزعزع، فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار، ويقال لها زوبعة أيضا، فإذا هبت بالغبرة فهي الهبوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحرور والسموم، فإذا لم تلقح شجرا ولم تحمل مطرا فهي العقيم، ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقح التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.

    والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي: فلا يهوي إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع. ذكره البقاعي.

    لطيفتان:

    الأولى: قال الثعالبي: أول ما ينشأ السحاب فهو النشء، فإذا انسحب في الهواء [ ص: 357 ] فهو السحاب، فإذا تغيرت له السماء، فهو الغمام، فإذا أظل فهو العارض، فإذا ارتفع وحمل الماء وكثف وأطبق فهو العماء، فإذا عن فهو العنان، فإذا كان أبيض فهو المزن.

    الثانية: قال الراغب: التسخير القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه، فإنه حمل الغير على الفعل بلا إرادة منه على وجه، كحمل الرحى على الطحن،اهـ. وقوله تعالى: لآيات أي: عظيمة كثيرة، فالتنكير للتفخيم كما وكيفا: لقوم يعقلون أي: يتفكرون فيها وينظرون إليها بعين العقول، فيستدلون على قدرته، سبحانه، القاهرة، وحكمته الباهرة، ورحمته الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به جل شأنه.

    قال البقاعي: وسبب تكثير الأدلة أن عقول الناس متفاوتة فجعل سبحانه العالم - وهو الممكنات الموجودة، وهي جملة ما سواه، الدالة على وجوده وفعله بالاختيار - على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة، ويسمى في عرف أهل الشرع: الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى: الغيب والأمر والملكوت. والأول يدركه عامة الناس، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس. فالله تعالى - بكمال عنايته ورأفته ورحمته - جعل العالم بقسميه محتويا على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة، وطرق متكثرة، تعجز القوى البشرية، عن ضبطها، يستدل بها على وحدانيته، بعضها أوضح من بعض، ليشترك الكل في المعرفة، فيحصل لكل بقدر ما هيئ له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك - والعياذ بالله - هو الشقي انتهى.

    قال المهايمي: وكيف ينكرون وجود الله، وتوحيده، ورحمانيته، ورحيميته، وقد دل عليها دلائل العلويات والسفليات وعوارضهما والمتوسطات؟ ثم قال:

    أما دلالة السماء والأرض على وجود الإله فلأنهما حادثان ؛ لأن لهما أجزاء يفتقران إليها، فلا بد لها من محدث ليس بعض أجزائهما، لأنه دخله التركيب الحادث، والقديم لا يكون محلا للحوادث، والمحدث لا بد أن يكون [ ص: 358 ] قديما قطعا للتسلسل، وعلى التوحيد، فلأن إله السماوات لو كان غير إله الأرض لم يرتبط منافع أحدهما بالآخر، وعلى الرحمتين لأنه عز وجل جعل في الأرض مواد قابلة للصور المختلفة وأفاضها واحدة بعد أخرى بتحريك السماوات.

    وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على وجود الإله فلحدوثهما من حركات السماوات، ولا بد لها من محرك، فإن كان حادثا فلا بد له من محدث، وعلى التوحيد، فلأن إله الليل لو كان غير إله النهار لأمكن كل واحد أن يأتي بما هو له في وقت إتيان الآخر بما هو له، فيلزم اجتماعهما وهو محال. فإن امتنع لزم عجز أحدهما أو كليهما، وعلى الرحمتين، فلأن الاعتدال الذي به انتظام أمر الحيوانات إنما يكون من تعاقبهما، إذ دوام الليل مبرد للعالم في الغاية، ودوام النهار مسخن له في الغاية.

    وأما دلالة الفلك على وجود الإله، فلأنها أثقل من الماء فحقها الرسوب فيها، فإمساكها فوق الماء من الله، ودخول الهواء فيها - وإن كان من الأسباب - فلا يتم عند امتلاء الفلك بالأمتعة الكثيرة، إذ يقل الهواء جدا فيضعف أثره في إمساك هذا الثقيل جدا، فلا ينبغي أن ينسب إلا إلى الله تعالى من أول الأمر، وعلى التوحيد، فلأن إله الفلك لو كان غير إله البحر لربما منع أحدهما الآخر من التصرف في ملكه، وهو يفضي إلى اختلال نظام العالم لاختلاف المنافع المنوطة بالفلك، وعلى الرحمتين فلأنه رحم المسافرين بالتجارات، والمسافر إليهم بالأمتعة التي يحتاجون إليها.

    وأما دلالة إنزال الماء على وجود الإله، فلأنه أثقل من الهواء، فوجوده في مركزه لا يكون إلا من الله، وعلى التوحيد، فلأن إله الماء لو كان غير إله الهواء، لمنع من التصرف في ملكه، وعلى الرحمتين، فلأنه أحيا به الأرض معاشا للحيوانات، وبث به الدواب تكميلا لمنافع الإنسان.

    وأما دلالة تصريف الرياح على وجود الإله، فلأنها حادثة تحدث هذه مرة وهذه أخرى، وقد يعدم الكل، فلا بد من محدث، فإن كان حادثا افتقر إلى قديم، وعلى التوحيد، فلأنه لو كان لكل ريح إله لأمكن للكل أن يأتي بما له، فيلزم اجتماع الرياح المختلفة وهو مخل بالنظام، وعلى الرحمتين، فلأنها تحرك الفلك والسحب وتنمي [ ص: 359 ] الأشجار والثمار.

    وأما دلالة السحاب على وجود الإله، فلأنه لو كان ثقيلا لنزل، أو كان خفيفا لصعد، لكنه يصعد تارة وينزل أخرى فهو من الله تعالى، وأما على التوحيد، فلأن إله السحاب، لو كان غير إله السحاب الآخر، لأمكن لكل واحد أن يجعل سحابه في مكان سحاب الآخر، فيلزم تداخل الأجسام أو العجز، وعلى الرحمتين فلأن منها الأمطار.

    وله وجوه أخر من الدلالات، وفوائد غير محصورة، قنعنا بما ذكرنا.

    قال القاضي عبد الجبار: الآية تدل على أمور:

    أحدها: لو كان الحق يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، والجري على الإلف والعادة، لما صح ذلك.

    وثانيها: لو كانت المعارف ضرورية وحاصلة بالإلهام لما صح وصف هذه الأمور بأنها آيات ؛ لأن المعلوم بالضرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات.

    وثالثها: أن سائر الأجسام والأعراض، وإن كانت تدل على الصانع، فهو تعالى خص هذه الثمانية بالذكر لأنها جامعة بين كونها دلائل وبين كونها نعما على المكلفين على أوفر حظ ونصيب، ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثيرا في الخواطر. نقله الرازي.

    ثم إن الله تعالى إنما أظهر هذه الآيات الدالة على وجوده، وتوحيده، ورحمته، ليخصه الخلق بالمحبة والعبادة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [165] ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب

    {و } لكن: {من الناس من يتخذ من دون الله أندادا } أي: أمثالا. مع أن الآيات منعت من أن يكون له ند واحد فضلا عن جماعتها يسوون بينهم وبين الله إذ: [ ص: 360 ] يحبونهم كحب الله أي: يعظمونهم ويخضعون لهم كتعظيم الله والخضوع له. والأنداد هي: إما الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى، ورجوا منها النفع والضر، وقصدوها بالمسائل، ونذروا لها النذور وقربوا لها القرابين. وإما الرؤساء الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون، لاسيما في الأوامر والنواهي، ورجح هذا ; لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أندادا، وأمثالا لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين لأندادهم، لأن أولئك أشركوا في المحبة، والمؤمنون أخلصوها كلها لله، ولأنهم يعلمون أن جميع الكمالات له ومنه، ولأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره، بخلاف المشركين فكانوا يعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس، عام المجاعة.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #71
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 361 الى صـ 365
    الحلقة (71)

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله في " شرح المنازل " في باب التوبة:

    أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم [ ص: 361 ] أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم.. انتهى.

    وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي رحمه الله:

    ومن أجل الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الآية، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السماوات ورب [ ص: 362 ] العرش العظيم، وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة، فمن أحب غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذل له كما يحب الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى...! فعياذا بالله! من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد...!

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه:

    والمتخذ إلهه هواه، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله! وهذه محبة أهل الشرك...! والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإن حبك الشيء يعمي ويصم..! وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة...!.

    ولهذا قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله...! فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة - ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة - دخل فيها نوع من الشرك واتباع الأهواء، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله ؛ فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 363 ] ، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه...! وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه...! فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات...! انتهى.

    ولو يرى الذين ظلموا أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود: إذ يرون العذاب المعد لهم يوم القيامة: أن القوة لله جميعا أي: القدرة كلها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم: وأن الله شديد العذاب أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر ؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب، لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه. وجواب لو: محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، إما لعدم الإحاطة بكنهه، وإما لضيق العبارة عنه، وإما لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه ؛ أي: لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره - في حذف الجواب - قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ: ( ولو ترى ) بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ; أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول.
    [ ص: 364 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [166] إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب

    إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من: إذ يرون أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى: من الذين اتبعوا من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن. وقرئ الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء: ورأوا العذاب الواو للحال، أي: تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب: وتقطعت بهم الأسباب أي: الوصل التي كانت بينهم، من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحاب، والاتباع، والاستتباع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [167] وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار

    وقال الذين اتبعوا حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا: لو أن لنا كرة أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا: فنتبرأ منهم هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده: كما تبرءوا منا اليوم. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك: كذلك أي: مثل تلك الإراءة الفظيعة: يريهم الله أعمالهم حسرات ندمات شديدة: عليهم أي: تذهب وتضمحل، كما قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ ص: 365 ] وقال تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية، وقال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء الآية: وما هم بخارجين من النار ونظير هذه الآية قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #72
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 366 الى صـ 370
    الحلقة (72)


    [ ص: 366 ] وقال الخليل لقومه: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وقالت الملائكة: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ويقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم

    [ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [168] يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين

    يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم: طيبا أي: مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول.

    وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: « يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به...! » : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها... مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال » . وفيه: « وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » .

    [ ص: 368 ] ومما يدخل في خطوات الشيطان: كل معصية لله، ومنها: النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية.

    قال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان!

    قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا..! قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا...! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفر عن يمينك..! رواه ابن أبي حاتم.

    وروي أيضا عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية [ ص: 369 ] ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك..! فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان..! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة - وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة - وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك.

    وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين! نقله الإمام ابن كثير الدمشقي.

    إنه لكم عدو مبين تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [169] إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

    إنما يأمركم بالسوء والفحشاء استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لفنون شره وإفساده. والسوء: يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو أفعال القلوب. و: والفحشاء ما تجاوز الحد في القبح من العظائم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرم هذا وذاك بغير علم. فمعنى: ما لا تعلمون ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به.

    [ ص: 370 ] قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفا بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم، بخلقه لهم أولا، وبجعله ملائما لهم ثانيا وإباحته لهم ثالثا، وتحذيره لهم من العدو رابعا.... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن...!اهـ.

    قال الرازي: قوله تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق...! لأنه - وإن كان مقلدا للحق - لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.! انتهى.

    وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين ": القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحله: هذا حلال. وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه.

    وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #73
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 371 الى صـ 375
    الحلقة (73)

    وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال: « فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا....؟ ولكن [ ص: 372 ] أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك..... » فتأمل، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذالما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا.

    ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدو، ذمهم بمتابعته، مع أنه عدو، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [170] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون

    وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان: قالوا بل نتبع ما ألفينا أي: وجدنا: عليه آباءنا أي: من عبادة الأصنام والأنداد. فقال مبكتا لهم: أولو أي: أيتبعون آباءهم ولو: كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: من الدين: ولا يهتدون للصواب إذ جهلوه؟

    قال الحرالي: فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم.

    [ ص: 373 ] قال الرازي: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: أولو كان آباؤهم إلى آخره.

    ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه:

    أحدها: أن يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد...! وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا... فإذن قد جوزت تقليده وإن كان مبطلا..! فإذن أنت - على تقليدك - لا تعلم أنك محق أو مبطل...!

    وثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء، إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر، فكذا ههنا.

    وثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إما الدور وإما التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ; لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل - مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد - كنت مخالفا له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا.

    ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه [ ص: 374 ] أقوى دليل، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.

    وقال الإمام الراغب: ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركب فيه من المعارف، وذلك أن الله ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الفعل، ليتحرى الحق والصدق والجميل، ويتجنب أضدادها، وجعل له من نور العقل ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حث الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بين حال الكفار في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته، ثم قال: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء.

    إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: ( يعقلون ) و: ( يهتدون ) وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا. والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإن العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم.

    ثم ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء فقال:
    [ ص: 375 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [171] ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون

    ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق أي: يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها. وقوله تعالى: بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه - الذي هو تصويت بها، وزجر لها - ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحرالي فيما نقله البقاعي عنه.

    وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى والله أعلم: مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعي. قال: ومثله في الكلام: فلان يخافك كخوف الأسد. المعنى كخوفه الأسد، لأن الأسد معروف أنه المخوف.

    وقيل: أريد تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه. والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #74
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 376 الى صـ 380
    الحلقة (74)

    وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق. فإن جعلته من المركب: كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق. والله أعلم.

    قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله، تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه: بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام...! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد. ثم زاد في تبكيتهم فقال: صم بكم عمي فهم لا يعقلون فهم بمنزلة الصم: في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البكم: في أنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه، وبمنزلة العمي: من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة، فلما أعرضوا عنها، فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما..!

    [ ص: 377 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [172] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون

    يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: ما أخلصناه لكم من الشبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها: واشكروا لله الذي رزقكم هذه النعم: إن كنتم إياه أي: وحده: تعبدون أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه سبحانه هو المنعم لا غير.

    قال الإمام ابن تيمية في " جواب أهل الإيمان ": الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق. فأباح الله الطيبات للمتقين التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها. وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة، ومن حرمها كالرهبان فقد تعدى حدود الله فاستحق العقوبة.

    وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها » . وفي حديث آخر: « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » .

    [ ص: 378 ] وقال تعالى: لتسألن يومئذ عن النعيم أي: عن شكره ; فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه، وعما حرمه عليه، هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين

    ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب، فبين صريحا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [173] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم

    إنما حرم عليكم الميتة وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها: المنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع.

    قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح.

    وفي المسند، والموطأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .

    [ ص: 379 ] وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر: « أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال » والدم وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة.

    ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له بالزاي بدل الصاد وبعضهم يقول: من قصد له - بالقاف - أي: من أعطي قصدا أي: قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أن الرجل كان يضيف الرجل في شدة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشح أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إياه ولحم الخنـزير ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إما تغليبا، أو لأن اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإما بطريق القياس على رأي ; لأنه إذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم، ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس، حرم ما يرين على القلب، فقال: وما أهل به لغير الله أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك [ ص: 380 ] مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل الإهلال: رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى.

    وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم. والقصد سد ما كان مظنة للشرك.

    قال النووي في " شرح مسلم ": فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما، قبل ذلك، صار بالذبح مرتدا. ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه: « لعن الله من ذبح لغير الله » .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #75
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 381 الى صـ 385
    الحلقة (75)


    قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه.

    وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

    فصل

    فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات

    فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.

    وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.

    وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.

    وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .

    وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي.

    وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.

    [ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.

    وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.

    ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.

    إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.

    ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:

    قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه.

    وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

    فصل

    فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات

    فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها.

    وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات.

    وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة.

    وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » .

    وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي.

    وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها.

    [ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة.

    وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد.

    ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع.

    إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم.

    ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه:

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #76
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 386 الى صـ 390
    الحلقة (76)

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [175] أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار

    أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى أي: استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم من الكتمان والتحريف بالاهتداء: والعذاب بالمغفرة أي: أسبابه بأسبابها، ولما جعل سبحانه أول مأكلهم نارا، وآخر أمرهم عذابا، وترجمة حالهم عدم المغفرة، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم نارا سبب عنه التعجيب من أمرهم: بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر، لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة، فقال: فما أصبرهم أي: ما أشد حبسهم أنفسهم، أو ما أجرأهم: على النار التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى نقله البقاعي.

    ثم قال: وإذا جعلته مجازا، كان مثل قولك لمن عاند السلطان: ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل؟ تهديدا له، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب.

    وقد روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إلي رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على الله! أي: ما أصبرك على عذاب الله. نقله الزمخشري.

    [ ص: 386 ] قال الراغب: وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتبارا بالناظر إليه، وتصور أنه صابر، واستعمال لفظ التعجب في ذلك اعتبارا بالخلق لا بالخالق.

    ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [176] ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد

    ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق إنما استحقوا هذا العذاب الشديد، لأن الله تعالى أنزل الكتاب الجامع لأنواع الهدى، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة، بالحق، أي: متلبسا به، فلا جرم يكون من يختلف فيه ويرفضه بالتحريف والكتمان مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب ; لأنه حاول نفي ما أثبت الله، فقد ضاد الله في شرعه، عياذا به سبحانه وإن الذين اختلفوا في الكتاب أي: في جنس الكتاب الإلهي، بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها ; أو في التوراة، بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض، أو الاختلاف في تأويلها، فاجترأوا لأجله على تحريفها، أو في القرآن بأن قال بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم: أساطير الأولين.

    قال الراغب: وأصل الاختلاف: التخلف عن المنهج. وقيل اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله. وقيل: اختلفوا: بمعنى خلفوا نحو اكتسبوا، وكسبوا، وعملوا واعتملوا أي: صاروا خلفاء فيه، نحو: فخلف من بعدهم خلف و .

    لفي شقاق أي: خلاف ومنازعة: بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشد العذاب. وقوله تعالى:
    [ ص: 387 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [177] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

    ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا: بر الوالدين، قال تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم فجعل البر ضد الفجور، وقال: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فجعل البر ضد الإثم، فدل على أنه اسم علم لجميع ما يؤجر عليه الإنسان. أي: ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضي في تزكية النفس - الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر - هو أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به - هو هذه الخصال التي عدها جل شأنه.

    ولا يبعد أن يكون بعض المؤمنين - عند نسخ القبلة وتحويلها - حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدد في شأنها حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات. أشار لهذا الرازي.

    وقال الراغب: الخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة. وقيل: بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها.

    ولكن البر من آمن بالله أي: إيمان من آمن بالله الذي دعت إليه آية [ ص: 388 ] الوحدانية فأثبت له صفات الكمال، ونزهه عن سمات النقصان واليوم الآخر الذي كذب به المشركون، فاختل نظامهم ببغي بعضهم على بعض: والملائكة أي: وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب: والكتاب أي: بحبس الكتاب. فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء التي من أفرادها: أشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة والنبيين جميعا من غير تفرقة بين أحد منهم، كما فعل أهل الكتابين.

    قال الحرالي ففيه - أي: الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها.

    وآتى المال على حبه أي: أخرجه وهو محب له راغب فيه، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: « أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر » . وقوله: ذوي القربى هم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة » . وفي [ ص: 389 ] الصحيحين من حديث زينب، امرأة عبد الله بن مسعود، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما....؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة » . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة [ ص: 390 ] في غير موضع من كتابه العزيز.

    واليتامى وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والمساكين وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما يسد به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه » .

    وابن السبيل وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه. ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #77
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 391 الى صـ 395
    الحلقة (77)

    وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان. والسبيل اسم الطريق، وجعل المسافر ابنا لها لملازمته إياها كما يقال لطير الماء: ابن الماء، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون: ابن الأيام، وللشجعان: بنو الحرب، وللناس: بنو الزمان.

    والسائلين وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات. كما روى الإمام أحمد عن حسين بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « للسائل حق وإن جاء على فرس » . ورواه أبو داود وفي الرقاب معطوف على المفعول الأول وهو ذوي أي: وآتى المال في الرقاب، أي: دفعه في فكها، أي: لأجله وبسببه

    قال الراغب: الرقاب جمع رقبة. وأصل الرقبة: العنق. ويعبر بها عن الجملة، كما يعبر عنها بالرأس.

    وقال الحرالي: الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرق من بني آدم. فالمراد: الرقاب المسترقة التي يرام فكها بالكتابة، وفك الأسرى منه، وقدم عليهم أولئك ; لأن حاجتهم لإقامة البنية.

    قيل: نكتة إيراد: في هو أن ما يعطى لهم: مصروف في تخليص رقابهم، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى. والله أعلم.

    لطيفة:

    قال الراغب: إن قيل كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى: وآتى المال على حبه الآية؟ قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، كان تقديمها أولى ثم عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين [ ص: 392 ] الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره...!

    وأقام الصلاة أي: أتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وآتى الزكاة أي: زكاة المال المفروضة ; على أن المراد بما مر من إيتاء المال، التنفل بالصدقات والبر والصلة، قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه، أو المراد بهما المفروضة، والأول لبيان المصارف، والثاني لبيان وجوب الأداء، وقد أبعد من حمل الزكاة هنا على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة، كقوله: قد أفلح من زكاها وقوله: هل لك إلى أن تزكى ووجه البعد: أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يراد بها إلا زكاة المال، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا عطف على من آمن، فإنه في قوة أن يقال: ومن أوفوا بعهدهم. وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء.

    قال الرازي: اعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله، أو بينه وبين سائر الناس. فالأول: ما يلزمه بالنذور والأيمان. والثاني: فهو ما عاهد الرسول عليه عند التبعة: من القيام بالنصرة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه. والثالث: قد يكون من الواجبات: مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم. وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن، وقد يكون من المندوبات: مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال، والإخلاص في المناصرة. فالآية تتناول كل هذه الأقسام.

    قال ابن كثير: وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: « آية المنافق ثلاث: [ ص: 393 ] إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان » . وفي رواية: « إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر » : والصابرين نصب على الاختصاص. غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله. قال أبو علي: إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب، فقد خولف للافتنان، ويسمى ذلك قطعا ; لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، ومزيد اهتمام بشأنه ! وقد قرئ: والصابرون. كما قرئ: والموفين.

    قال الراغب: لما كان الصبر: من وجه مبدأ للفضائل، ومن وجه جامعا للفضائل ; إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ. غير إعرابه تنبيها على هذا المقصد..!: في البأساء أي: الشدة، أي: عند حلولها بهم: والضراء بمعنى البأساء وهي الشدة أيضا، كما فسرهما بها في القاموس. وقال ابن الأثير: الضراء: الحالة التي تضر وهي نقيض السراء، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما: وحين البأس أي: وقت مجاهدة العدو في مواطن الحرب، وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا، وسرعة انقضائه، ومعنى البأس في اللغة: الشدة، يقال: لا بأس عليك في هذا أي: لا شدة. وعذاب بئيس شديد. وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة. والعذاب يسمى بأسا لشدته. قال تعالى: فلما رأوا بأسنا فلما أحسوا بأسنا فمن ينصرنا من بأس الله [ ص: 394 ] وقال ابن سيده: البأس الحرب، ثم كثر حتى قيل: لا بأس عليك، أي: لا خوف.

    وقال الراغب: استوعبت هذه الجملة أنواع الضر. لأنه إما يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الإنسان، أو يريده فلا يناله، وهو البأساء. أو فيما نال جسمه من ألم، وهو الضراء. أو في مدافعة مؤذيه وهو اليأس.

    أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال، ولم تزلزلهم الأهوال. وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان...!: وأولئك هم المتقون عن الكفر وسائر الرذائل. وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم. وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم.

    قال الواحدي: هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع. فمن شرائط البر، وتمام شرط البار، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر.
    [ ص: 395 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [178] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم

    يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدمي معين، وهي النفوس. و: كتب بمعنى فرض وأوجب.

    قال الراغب: الكتابة يعبر بها عن الإيجاب. وأصل ذلك: أن الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب. فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ بالكتابة التي هي المنتهى.

    الحر يقتل: بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من القاتلين: من أخيه أي: دم أخيه المقتول: شيء بأن ترك وليه القود منه، ونزل عن طلب الدم إلى الدية. وفي ذكر الأخوة: تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان: فاتباع أي: فعلى العافي اتباع للقاتل: بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنف: {و } على القاتل: {أداء } للدية: إليه أي: العافي وهو الوارث: بإحسان بلا مطل ولا بخس: ذلك أي: ما ذكر من الحكم، وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية: تخفيف تسهيل: من ربكم عليكم: ورحمة بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحدا منهما: فمن اعتدى بعد ذلك بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل القاتل بعد العفو، أو أخذ الدية: فله باعتدائه: عذاب أليم أما في الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق، وأما في الآخرة فبالنار.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #78
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 396 الى صـ 400
    الحلقة (78)

    تنبيهات:

    الأول: قال الراغب: إن قيل: على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى: كتب عليكم ؟ أجيب: على الناس كافة. فمنهم من يلزمه استقادته - وهو الإمام - إذا طلبه الولي. ومنه من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل. ومنهم من يلزمه المعاونة والرضا به. ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص، أو يأخذ الدية. والقصد بالآية: منع التعدي الجاهلي.

    الثاني: القصاص مصدر قاصه، المزيد. وأصل القص: قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ، ومنه: قص شعره. وقص الحديث: اقتطع كلاما حادثا جدا وغيره، والقصة اسم منه. وحقيقة القصاص: أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا. أفاده الراغب.

    الثالث: ذكر تقي الدين ابن تيمية في " السياسة الشرعية " جملة من أحكام القتل نأثرها عنه. قال رحمه الله:

    القتل ثلاثة أنواع:

    أحدها: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا. سواء كان يقتل بحده: كالسيف ونحوه، أو بثقله: كالسندان وكودس القصار. أو بغير ذلك: كالتحريق، والتغريق، وإلقاء من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين حتى يخرج الروح، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم... ونحو ذلك من الأفعال. فهذا إذا فعله وجب فيه القود. وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل. فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية ; وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله. قال الله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا وقيل في التفسير: لا يقتل [ ص: 397 ] غير قاتله. وعن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أصيب بدم أو خبل - والخبل: الجرح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث. فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئا من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا » . فمن قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء. حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتله حدا، ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول، فإن الله تعالى قال: كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه. وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة - فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء، كما كان يفعله أهل الجاهلية، وكما يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات: من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما، أشرف من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل. وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما، فيفضي إلى الفتن والعداوة العظيمة. وسبب ذلك: خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى. فكتب الله علينا القصاص وهو المساواة والمعادلة في القتل. وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضا إذا علم من يريد القتل: أنه يقتل، كف عن القتل...!

    [ ص: 398 ] وقد روي عن علي بن أبي طالب وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده..! » رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي: تتساوى أو تتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين. بخلاف ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود. فإنه كان يقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود: قريظة والنضير. وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي حد الزاني، فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم، وقالوا: إن حكم بينكم بذلك كان لكم [ ص: 399 ] حجة، وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة. فأنزل الله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلى قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين إلى قوله.. فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص

    فبين سبحانه أنه سوى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى، كما كانوا يفعلونه، إلى قوله: وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا - [ ص: 400 ] إلى قوله -: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #79
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 401 الى صـ 405
    الحلقة (79)

    فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء. خلاف ما عليه أهل الجاهلية. وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل. فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دما من الأخرى، أو مالا، أو يعلو عليها بالباطل، فلا ينصفها. ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء، والأموال، وغيرها... بالقسط الذي أمر الله به، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية.... وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل، كما قال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له قال أنس: ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو..! رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 401 ] «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر، فأما الذمي: فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم. كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولا أو تاجرا أو نحو ذلك - ليس بكفء لهم وفاقا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له. وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد.

    النوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها » . سماه شبه العمد ; لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة، لكنه بفعل لا بقتل غالبا، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل.

    الثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه: مثل أن يكون يرمي صيدا أو هدفا، فيصيب إنسانا بغير علمه ولا قصده. فهذا ليس فيه قود، وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم.

    التنبيه الرابع: قال الراغب: إن قيل: لم قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل: فمن عفا له أخوه شيئا...؟ قيل: العدول إلى ذلك للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة، فعفا أحدهم ; إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية. فقال: فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى، والهاء في قوله: أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه. وجعله أخا لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية اهـ.

    [ ص: 402 ] الخامس: هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة، وهي قوله تعالى: النفس بالنفس كما أنها مقيدة، وتلك مطلقة، والمطلق يحمل على المقيد. وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة. وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد. كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى. فالتعويل على ذلك. وبالجملة: فقوله تعالى: الحر بالحر إلخ لا يفيد الحصر البتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام. هذا ما اعتمدوه. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [179] ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون

    وقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ; لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، وعرف القصاص ونكر الحياة ; ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل مهلهل بأخيه، حتى كاد يفنى بكر بن وائل!. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..!. فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ; سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود. فكان [ ص: 403 ] القصاص سبب حياة نفسين...!. هذا ما يستفاد من " الكشاف ".

    لطيفة:

    اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات...! وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل. وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل. وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها...! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته.

    قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك..!

    الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو: القصاص حياة أقل حروفا، فإن حروفه عشرة، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر..!

    الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه!.

    الثالث: أن تنكير: حياة يفيد تعظيما، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء.

    [ ص: 404 ] الرابع: أن الآية فيه مطردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما! وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا..

    الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة..!

    السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف. بخلاف قولهم. فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها. وحذف " قصاصا " مع القتل الأول، " وظلما " مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه.

    السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل...

    الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين - الذي هو الفناء والموت - محلا ومكانا لضده - الذي هو الحياة. واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة... ذكره في " الكشاف ". وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه.

    التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره. فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره: إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فحبست، ثم تحركت فحبست، لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة!.

    العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ; لأن الشيء لا ينفي نفسه!.

    الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون.

    [ ص: 405 ] الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ; إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف. وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.

    الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.

    الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل.

    الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل.

    السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل على النفي، والإثبات أشرف ; لأنه أول، والنفي ثان عنه.

    السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله: في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة..!

    الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه..!

    التاسع عشر: أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا..! وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #80
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سورة البقرة
    المجلد الثالث
    صـ 406 الى صـ 410
    الحلقة (80)

    العشرون: أن الآية رادعة عن القتل والجرح معا، لشمول القصاص لهما. والحياة أيضا في قصاص الأعضاء ; لأن قطع العضو ينقص أو ينغص مصلحة الحياة، وقد يسري إلى النفس فيزيلها، ولا كذلك المثل!. [ ص: 406 ] في أول الآية: ولكم وفيها لطيفة، وهي: بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم..! انتهى.

    وقوله تعالى: يا أولي الألباب المراد به: العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف. فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم، وعلموا أنهم يطالبون بالقود، صار ذلك رادعا لهم ; لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه. فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكف والامتناع..! إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب، ثم علل ذلك بقوله: لعلكم تتقون أي: الله تعالى بالانقياد لما شرع، فتتحامون القتل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [180] كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين .

    كتب عليكم أي: فرض، كما استفاض في الشرع: إذا حضر أحدكم الموت أي: أمارته وهو المرض المخوف: إن ترك خيرا أي: مالا ينبغي أن يوصي فيه. وقد أطلق في القرآن: الخير وأريد به المال في آيات كثيرة، منها هذه، ومنها قوله: وما تنفقوا من خير [ ص: 407 ] ومنها: وإنه لحب الخير لشديد ومنها: رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير إلى غيرها. وإنما سمي المال خيرا ; تنبيها على معنى لطيف: وهو أن المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود..! كما أن في التسمية إشارة إلى كثرته، كما قال بعضهم: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا، ومن مكان طيب..!. وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له علي: إنما قال الله: إن ترك خيرا الوصية إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك..! وروى الحاكم عن ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا!. وقال طاوس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة: كان يقال: ألفا فما فوقها.

    ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة، وأن مردها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.

    ثم ذكر نائب فاعل كتب بعد أن اشتد التشوف إليه، فقال: الوصية وتذكير الفعل الرافع لها: إما لأنه أريد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكر الضمير في قوله: فمن بدله بعدما سمعه وإما للفصل بين الفعل ونائبه، لأن الكلام لما طال، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله: للوالدين بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما: والأقربين من عداهما من جميع القرابات: بالمعروف وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرها.

    [ ص: 408 ] وفي الصحيحين: أن سعدا قال: يا رسول الله، إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي: أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: « لا » .. قال: فبالشطر؟ قال: « لا » ..! قال: فالثلث؟ قال: « الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» !. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الثلث والثلث كثير » ..!.

    وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة: سمعت [ ص: 409 ] حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشق ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من [ ص: 410 ] الإبل كنا نسميها: المطبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا لا لا..! الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون » ! وذكر الحديث بطوله.

    ثم أكد تعالى الوجوب بقوله: حقا - وكذا قوله -: على المتقين فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [181] فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم .

    فمن بدله أي: فمن غير الإيصاء عن وجهه، إن كان موافقا للشرع، من الأوصياء والشهود: بعدما سمعه أي: بعد ما وصل إليه وتحقق لديه: فإنما إثمه أي: التبديل: على الذين يبدلونه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع، فلا يلحق الموصي منه شيء، وقد وقع أجره على الله: إن الله سميع عليم وعيد شديد للمبدلين.

    هذا، وما ذكرناه من أن المنهي عن التبديل إما الأوصياء أو الشهود، هو المشهور. وهناك وجه آخر - أراه أقرب - وهو أن يكون المنهي عن التغيير هو الموصي، نهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين تعالى الوصية إليها. وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأبعدين الأجانب، طلبا للفخر والشرف. ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة والضر، فأوجب الله تعالى الوصية لهؤلاء منعا للقوم عما اعتادوه. كذا قاله الأصم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •