[ ص: 204 ] وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة ، وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وزعم ابن الأنباري أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع ألذ بالسكون ، وأن " الذي " في الآية مفرد أريد به الجمع ، وكلام سيبويه يرد عليه ، وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه ، ولا يخفى ضعفه .
قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يرجعون الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ، ولا يتكلمون ، ولا يبصرون ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] .
وكقوله : وإن يقولوا تسمع لقولهم الآية [ 63 \ 4 ] ، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم .
وقوله فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ووجه الجمع ظاهر ، وهو أنهم بكم عن النطق بالحق ، وإن تكلموا بغيره ، صم عن سماع الحق وإن سمعوا غيره ، عمي عن رؤية الحق وإن رأوا غيره ، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية [ 46 \ 26 ] ، لأن ما لا يغني شيئا فهو كالمعدوم ، والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الشاعر :
أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :
فأصممت عمرا وأعميته عن الجود والفخر يوم الفخار
[ ص: 205 ] وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم .
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
قوله تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة الآية .
هذه الآية تدل على أن هذه النار كانت معروفة عندهم ؛ بدليل أل العهدية ، وقد قال تعالى في سورة " التحريم " : قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] .
فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية " التحريم " فعرفوا منها ذلك من صفات النار ، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية " البقرة " ، فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية " التحريم " .
ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب في تفسيريهما ، وزعما أن آية " التحريم " نزلت بمكة ، وظاهر القرءان يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق ، والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ، ولا ينافي ذلك أن سورة " التحريم " مدنية ، وأن الظاهر نزولها بعد " البقرة " .
كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس .
قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : " ثم " التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية " حم السجدة " ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ 75 \ 27 ] . [ ص: 206 ] ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] .
اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [ 79 \ 31 ] . وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 21 \ 129 ] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان :
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة " فصلت " حيث قال : وقدر فيها أقواتها [ 41 \ 11 ] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .
[ ص: 207 ] قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة [ 7 \ 11 ] .
قوله : خلقناكم ثم صورناكم بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] ، أي مع ذلك ، فلفظة " بعد " بمعنى مع ، ونظيره قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 13 ] .
وعليه فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد : " والأرض مع ذلك دحاها " ، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق منها أن " ثم " بمعنى الواو ، ومنها أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات الآية .
أفرد هنا تعالى لفظ " السماء " ، ورد عليه الضمير بصيغة الجمع ، في قوله : " فسواهن " ، وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان :
الأول : أن المراد بالسماء جنسها الصادق بسبع سماوات ، وعليه فأل جنسية .
الثاني : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته ، وهو كثير في القرءان العظيم وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن واللفظ معرف ، قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله [ 3 \ 119 ] ، أي بالكتب كلها بدليل قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه [ 2 \ 285 ] ، وقوله وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، [ 54 \ 45 ] ، يعني الأدبار ، كما هو ظاهر ، وقوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة [ 25 ] ، يعني الغرف ، بدليل قوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية [ 39 \ 20 ] وقوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون ، [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا ، [ 89 \ 22 ] ، أي الملائكة ، بدليل قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، [ 2 \ 210 ] ، وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا ، الآية [ 24 \ 31 ] ، يعني الأطفال الذين لم يظهروا ، وقوله تعالى : هم العدو فاحذرهم [ ص: 208 ] الآية [ 63 \ 4 ] ، يعني الأعداء .
ومن أمثلته واللفظ منكر ، قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] يعني وأنهار ، بدليل قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ 25 ] ، يعني أئمة ، وقوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون يعني سامرين ، وقوله : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، يعني أطفالا ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] ، أي بينهم ، وقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا [ 4 ] أي رفقاء ، وقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، أي جنبين أو أجنابا ، وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] ، أي مظاهرون لدلالة السياق فيها كلها على الجمع . واستدل سيبويه لهذا بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا [ 4 \ 4 ] أي أنفسا .
ومن أمثلته واللفظ مضاف قوله تعالى : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] الآية ، يعني أضيافي ، وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] ، أي أوامره .
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر ، وهو علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
يعني وأما جلودها فصليبة .
وأنشد له أيضا قول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
يعني في بعض بطونكم .
ومن شواهده قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني شر أعمام ، وقول العباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
[ ص: 209 ] يعني إنا إخوانكم ، وقول الآخر :
يا عاذلاتي لا تردن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير
يعني لسن لي بأمراء .
وهذا في النعت بالمصدر مطرد كقول زهير :
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا هم رضى وهم عدل
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرءان السمع والطرف والضيف لأن أصلها مصادر كقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم [ 2 \ 7 ] ، وقوله : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] ، وقوله : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] .
قوله تعالى : ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة الآية .
يتوهم معارضته مع قوله : حيث شئتما [ 2 \ 35 ] .
والجواب : أن قوله : " اسكن " أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة ، فالأمر باتخاذ الجنة مسكنا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا .
قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا الآية .
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله : " ولا تكونوا " و " لا تشتروا " .
وقد أفرد لفظة " كافر " ، ولم يقل ولا تكونوا أول كافرين . ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيء واحد ، أن معنى : " ولا تكونوا أول كافر " أي أول فريق كافر ، فاللفظ مفرد والمعنى جمع ، فيجوز مراعاة كل منها ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر :
فإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
وقيل : هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع ، كقول ابن علفة :
وكان بنو فزارة شر عم
. . . . . . . . كما تقدم قريبا .
قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم . [ ص: 210 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] وكقوله : إن هم إلا يظنون [ 2 \ 78 ] ووجه الجمع أن الظن بمعنى اليقين والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك ، وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرءان وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرءان هذه الآية ، وقوله تعالى قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة . . . . . . الآية [ 2 \ 249 ] ، وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي أيقنوا ، وقوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 20 ] ، أي أيقنت .
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق :
بأن تغتروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
أي أجعل مني اليقين غيبا .
وقول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله : ظنوا أي أيقنوا .
قوله تعالى لبني إسرائيل : وأني فضلتكم على العالمين .
لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [ 3 \ 110 ] ، لأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم ، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله .
ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [ 5 \ 66 ] ، وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصدة وهي درجة السابق بالخيرات ، حيث قال تعالى : ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات الآية [ 35 ] .
[ ص: 211 ] قوله تعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم الآية .
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أن استحياء النساء من جملة العذاب الذي كان يسومهم فرعون ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن الإناث هبة من هبات الله لمن أعطاهن له ، وهي قوله تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] ، فبقاء بعض الأولاد على هذا خير من موتهم كلهم ، كما قال الهذيل :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
والجواب عن هذا ، أن الإناث وإن كن هبة من الله لمن أعطاهن له ، فبقاؤهن تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ، ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب ، وموتهن راحة من هذا العذاب ، وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفا من مثل هذا .
قال بعض شعراء العرب في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر
وقال الآخر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
وقال بعض راجزيهم :
إني وإن سيق إلي المهر عبد وألفان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال بعض الأدباء : وفي القرءان الإشارة إلى أن الإنسان يسوءه إهانة ذريته الضعاف بعد موته في قوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] .
[ ص: 212 ] قوله تعالى : وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام ، وهما المن والسلوى ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم إلا طعام واحد ، وهي قوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد [ 2 \ 61 ] ، وللجمع بينهما أوجه :
الأول : أن المن وهو الترنجبين على قول الأكثرين من جنس الشراب ، والطعام الواحد هو السلوى ، وهو على قول الأكثرين السمانى أو طائر يشبهه .
الوجه الثاني : أن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاما واحدا وإن اختلفت أنواعه ، ومنه قولهم : أكلنا طعام فلان ، وإن كان أنواعا مختلفة . والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول لأن تفسير المن بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه : الكمأة من المن . . . الحديث
الثالث : أنهم سموه طعاما واحدا لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم ، فهو مأكل واحد وهو ظاهر .
قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم الآية [ 3 \ 183 ] .
وقوله : كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون [ 5 \ 70 ] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وكقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] ، وبين تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة ، وكما في [ ص: 213 ] قوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
والذي يظهر في الجواب من هذا أن الرسل قسمان : قسم أمروا بالقتال في سبيل الله ، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس ، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة ، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين ، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة ، ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] .
وأما على قراءة " قاتل " بصيغة الماضي من فاعل فالأمر واضح ، وأما على قراءة " قتل " بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله : " ربيون " لا ضمير " نبي " وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال ، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرتهم بالحجة والبرهان ، فلا إشكال في الآية ، والله أعلم .
قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه الآية .
الاستفهام في هذه الآية إنكاري ومعناه النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا ، كقوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا الآية [ 6 \ 144 ] .
وقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله [ 39 ] ، وقوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه . . . . . . الآية [ 18 \ 57 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته ، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال .
ومنها أن التخصيص بالنسبة إلى السبق ، أي لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم ، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله ، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلا .
[ ص: 214 ] ومنها ، وادعى أبو حيان أنه الصواب ، هو ما حاصله أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة ، فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، فيصير المعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ومن افترى على الله كذبا ، ومن كذب بآيات الله ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر ، كما إذا قلت : لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلا . ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .
وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله : " " ومن أظلم " المقصود منه التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره ، كما ذكره عنه صاحب الإتقان ، يظهر ضعفه لأنه خلاف ظاهر القرءان .
قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب . . . . . الآية .
أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة " الرحمن " في قوله : رب المشرقين ورب المغربين [ 55 \ 17 ] ، وجمعهما في سورة " سأل سائل " في قوله : فلا أقسم برب المشارق والمغارب [ 70 \ 40 ] ، وجمع المشارق في سورة " الصافات " في قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق [ 37 \ 5 ] .
والجواب أن قوله هنا : ولله المشرق والمغرب المراد به جنس المشرق والمغرب ، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون ، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه :
وإنما معنى ذلك : " ولله المشرق " الذي تشرق منه الشمس كل يوم " والمغرب " الذي تغرب فيه كل يوم ، فتأويله إذا كان ذلك معناه : والله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحلول الذي بعده وكذلك غروبها ، انتهى منه بلفظه .
وقوله : رب المشرقين ورب المغربين يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما ، كما عليه الجمهور ، وقيل : مشرق الشمس والقمر ومغربهما ، وقوله : برب المشارق والمغارب : [ ص: 215 ] أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم ، وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون .
عبر في هذه الآية بـ : " ما " الموصولة الدالة على غير العقلاء ، ثم عبر في قوله : " قانتون " بصيغة الجمع المذكر الخاص بالعقلاء .
ووجه الجمع أن ما في السماوات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل ، فغلب في الاسم الموصول غير العاقل ، وغلب في صيغة الجمع العاقل ، والنكتة في ذلك أنه قال : بل له ما في السماوات والأرض ، وجميع الخلائق بالنسبة لملك الله إياهم سواء عاقلهم وغيره ، فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنسبة إلى ملك الله كغير العاقل ، ولما ذكر القنوت ، وهو الطاعة وكان أظهر في العقلاء من غيرهم ، عبر بما يدل على العقلاء تغليبا لهم .
قوله تعالى : قد بينا الآيات لقوم يوقنون [ 2 \ 118 ] .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ 2 \ 187 ] ، وكقوله : هذا بيان للناس [ 3 \ 138 ] ، ووجه الجمع أن البيان عام لجميع الخلق ، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين ، خص في هذه الآية بهم لأن ما لا نفع فيه كالعدم ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية [ 36 \ 11 ] ، مع أنه منذر للأسود والأحمر ، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به .
قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية .
قوله تعالى في هذه الآية : " إلا لنعلم " يوهم أنه لم يكن عالما بمن يتبع الرسول [ ص: 216 ] ممن ينقلب على عقبيه ، مع أنه تعالى عالم بكل شيء قبل وقوعه ، فهو يعلم ما سيعمله الخلق ، كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم [ 53 ] ، وقوله تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 \ 63 ] : والجواب عن هذا أن معنى قوله تعالى : " إلا لنعلم " أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب ، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه ، وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علما جديدا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] . فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " : دليل على أنه لا يفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله خلقه وعالم بكل شيء قبل وقوعه ، كما لا خلاف فيه بين المسلمين : لا يعزب عنه مثقال ذرة الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات ، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 ] .
والجواب عن هذا ، أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين ، وهذه الموتة هي التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : " بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع عليك الله موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها " ، وقال : " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات " ، واستدل على ذلك بالقرآن ، ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرءان ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا .
ما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ولكن لا تشعرون [ 2 \ 154 ] ، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي [ ص: 217 ] إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك .