(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ):
قال ابن مفلح: قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ:
وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْعَوَاقِبِ فَقَالَ تَعَالَى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
فَفِي عُقُولِنَا قُوَّةُ التَّسْلِيمِ وَلَيْسَ فِيهَا قُدْرَةُ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ يَدْعُو الْإِنْسَانُ فَلَا يُجَابُ فَيَنْدَمُ، وَهُوَ يُدْعَى إلَى الطَّاعَةِ فَيَتَوَقَّف. فَالْعَجَبُ مِنْ عَبِيدٍ يَقْتَضُونَ الْمَوَالِيَ اقْتِضَاءَ الْغَرِيمِ، وَلَا يَقْتَضُونَ الْغَرِيمَ وَلَا يَقْتَضُونَ أَنْفُسَهُمْ بِحُقُوقِ الْمَوَالِي.
(الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي).
فصل:
لأبي العلاء المعري الأبيات المطبوعة التي تغنّى بها، ويعجبني معناها، وطال ما تواجد عليها شيوخ الصوفية. وهي قوله:
منكِ الصدود ومني بالصدود رضى ** من ذا عليّ بهذا في هواك قضى
بي منكِ ما لو غذا بالشمس ما طلعتْ ** من الكآبة أو بالبرق ما ومضَا
إذا الفتى ذم عيشا في شبيبته ** فما يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوّضتُ من كلٍّ بمشبهِه ** فما وجدتُ لأيام الصبا عِوضا
وقد غرِضتُ من الدنيا فهلْ زمَني ** معطٍ حياتي لغرٍّ بعدُ ما غرِضا
جرّبتُ دهري وأهليه فمَا تركَتْ ** لي التجاربُ في ودّ امرئ غرضا
وليلةٍ سرتُ فيها وابنُ مُزنتها ** كَمَيّتٍ عاد حياً بعد ما قبضا
كأنما هي إذ لاحتْ كواكبُها ** خَوذٌ من الزنج تُجلى وُشِّحتْ خَضضا
كأنما النسر قد قُدتْ قوائمه ** فالضعف يكسر منه كلما نهضا
والبدر يحتثُّ نحو الغرب أينُقَه ** فكلما خاف من شمس الضحا ركضا
ومنهلٍ تِرد الجوزاء غمرتَه ** إذا السِّماكان شطر المغرب اعترضا
وَردتُهُ ونجوم الليل وانيةٌ ** تشكو إلى الفجر أن لم تَطعم الغَمَضا
طال ما وجد الواجدون على البيت الأول من كبار القوّالات المحسنات، ومُزِّقت الأطمار، وانكشفت الأسرار، حيث استعاروا لما سُمّي من الخلق صدوداً ما ورد من بلاوي الحق المقابلة برضا أهل العرفان، حيث امتلأوا بعرفانه مسرّة، فلم يجدوا بإيلام طباعهم مضرة، نظروا الى المبلي في البلى، فعذُبَ العذاب عندهم وَحَلا. أما سمعتَ قول الحق في السحَرة في حال الغفلات: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً)، وقولهم عند طلوع شموس العرفان: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فكان ذلك موجباً خطبة تعجيل البلاء. والآخر لمّا أحياه بعد القتل، وكلّمه كفاحا ً، قال له: تمنّ علي ّ، قال: أتمنى عليك أن تعيدني الى الدنيا، فأقتَلَ دفعة أخرى.
وأما قول ابي العلاء (فما وجدتُ لأيام الصبا عوضا); قال حنبلي:
هذه طريقة سلكها الأوائل، واحتذاها بعدهم الأواخر. وهي طريقة من لم يشمّ رائحة العرفان، ولا ذاق طعم الوجد الذي عقبه الوجدان. فإن الصغر مطية الغباوة و الغفلة، وعلو السن حال يقظة، وقوة مزيدة على الفطرة السليمة بالتجربة. وما طلبَ من طلبَ الغفلة أو السكر المغطي على العقل إلا لِثقل التكليف وتعاظم العرفان. وللطباع حظها، كما أن للمعارف حظها. ومُركّب من أشتات لا يعيش إلا باختلاف الأحوال، غفلة تعيش بها طباعه، ويقظة يصفو بها اطلاعه. ولهذا كان بلوغ السفير عليه السلام بالإعانة في خلال أحواله لعيش طباعه، ويظل عند ربه، فيغنيه عن القوام في وقت اجتذابه إلى ذلك المقام.
(كتاب الفنون)
من كلام علي عليه السلام:
الهيبة خيبة، والحياء يمنع الرزق. وعليكم بالصبر; فإن الحازم به يأخذ، والجازع إليه يرجع.
(كتاب الفنون)
في قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ):
قوله تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، هذا أمر تكوين لقلب الضرر، يخرجهم عن التكليف، أو ينفيهم مع قلب الضرر على التكليف.
وما معنى: (خَاسِئِينَ)؟ وما معنى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا)؟ وما معنى: (وَمَوْعِظَةً)؟ وما وجه التخصيص بالمتقين؟
قيل ~وبالله التوفيق~:
أمّا قوله تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً)، فليس بأمر حقيقة، لأن الأمر هو الاستدعاء من الأعلى للأدنى، والانخلاق فعل الخالق ~جلّت عظمته~ ليس إلى المخلوق منه شيء، مكلّفاً كان أو غير مكلّف، حيواناً كان أو جماداً.
لكن (كُنْ) حرفان يظهرهما الباري لملائكته، فيكون عقيبهما ما يكوّنه بقدرته. هذا إذا حُمل الكلام على حقيقته، وهو الأصل. فقلب صورة الإنسان إلى صورة قرد كقلب الماء إلى علقة، إلى مضغة، الى عظام، إلى لحم ، على ما ورد من التارات السبع.
والدليل على أنه جُوّز وليس باستدعاء حقيقة، أنه قد أضافه سبحانه إلى المعدوم، ثم ذكر تكوّنه والإيجاد، لا يسأل عاقل أنه إخراج من كتم العدم، وذلك مما ينفرد به الباري سبحانه. والأشياء بعد وجودها لا ينصرف الأمر إليها إلا بعد إكمال أدوات الاستدعاء.
فإذا ثبت هذا في التكوين عقيب (كُنْ)، كان قول الله تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ) قلبنا صورهم من الإنسانية الى القِردية (خَاسِئِينَ) مبعدين، (اخْسَئُوا فِيهَا) ابعدوا ، وصورة القردية تبعيد عن الصورة الحسنة إلى صورة مشوّهة، (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً).
وقوله في الأول: (كُونُوا) خطاب مذكّر. وقوله (فَجَعَلْنَاهَا) راجع الى تأنيث المسخة، وهي الصورة المشوهة، وعظاً وزجراً، (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا)، لِما قدّمت من ذنوبها، (وَمَا خَلْفَهَا)، لِما يُعمَل به بعدها ليَخاف مَن بعدها أن يعمل مثل عملها، فيؤخَذ بما عمل كما أُخذت به.
قال الحسن: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا)، لما قدّموا من الأعمال السالفة، (وَمَا خَلْفَهَا)، خلف الأعمال السالفة; وهو صيدهم الحيتان يوم السبت.
قال حنبلي:
وقد بان من صيد الحيتان بالرواية أنهم قدّموا نصب الشباك قبل السبت، فوقعت الحيتان فيها يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، فأخذهم الله بالنصب الذي كان قبل السبت، لمّا كان سبباً باقياً مؤثّراً لوقوع الحيتان يوم السبت، فصاروا بآثار أفعالهم كالصائدين يوم السبت.
وقوله (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) إنما خص المتقين لأنهم العاملون بحكم الموعظة، وإلا فالموعظة بالنكال والمسخ موعظة عامّة لكل مكلف. هذا من أخوات قوله سبحانه : (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا )، وهو منذر الكل ممن يخشى ولا يخشى، لكن خص بذلك من انتفع بالإنذار. ومثل قوله: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)، يعني من انتفع بإنذارك فحيّ بالإيمان، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، الذين هم كالأموات، الذين لم ينتفعوا بالحياة، كما سمّاهم (صُمًّا وَعُمْيَانًا)، حيث لم يستعملوا الأبصار والأسماع في الاستبصار الذي به غرض المدارك الموضوعة للانتفاع. فإذا لم ينتفع بها، صار عدم الانتفاع بها كَعَدمها.
(كتاب الفنون)