الفصل السادس
مناقشة موضوع العصمة مع من أبطل قصة الغرانيق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبعد :
فالعلماء الذين رفضوا القصة وقالوا أنها من وضع الزنادقة !! أو باطلة منكرة !! قد رددنا حجتهم هذه من الناحية الحديثية أعلاه وأثبتنا جواز الاستشهاد برواية ابن عباس من طريقي سعيد بن جبير وعثمان بن الأسود كلاهما عنه ، وكذلك روايات سبعة من التابعين على الأقل ، وذلك فيما أداه إلينا اجتهادنا ، كما حققناه في فصل تخريج روايات القصة والحكم عليها ، مستأنسين بمن صححها من الحفاظ الذين سبق ونقلنا أسماءهم ..
ولكن بقي مع المخالفين بعض الأدلة ، نذكرها متتابعة بتفنيدها وبيان وجه الصواب في ردها ، وسنبدأ بمناقشتهم في موضوع العصمة النبوية إذ بنى عليها كل من رد القصة بناينهم وأسسوه عليها كالقاضي ابن العربي وعياض والرازي – رحمهم الله - ثم تتابع النقل عنهم كثير من المتأخرين ، بل جلهم ..
وبعد أن ننتهي من مناقشة مسألة العصمة سنذكر أدلة الأئمة المشاهير ممن ردوا القصة وسنكتفي بأشهرهم وسنترك المتأخرين كالألوسي والشوكاني وغيرهما إذ هم قد عولوا على ما قرره الأئمة قبلهم ونقلوا كلامهم محتجين به ، مستسلمين لاجتهادهم .
مناقشة موضوع العصمة :
فمن أكبر الشبه الواردة على لسان من رد القصة ، وكانت عقبة كؤود أمام من أنكرها ..
قولهم : أن الرسول المبلغ عن الله معصوم في بلاغه من الخطأ .. وهذه القصة تناقض العصمة !!
والعاصمة من هذه القاصمة تنجلي للقراء في أربعة محاور :
المحور الأول : أن هذه القصة كانت قبل العصمة .
فمن العلماء من قال أن هذه الحادثة كانت قبل العصمة :
فقال الإمام مرعي بن يوسف الكرمي الأزهري القاهري [ت1033هـ] (رحمه الله)
في كتابه الناسخ والمنسوخ (ص143) : قوله تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ونبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) منسوخة بقوله تعالى ( سنقرئك فلا تنسى ) والمراد بالأمنية القراءة والتلاوة ، والذي ألقاه الشيطان على لسانه عليه الصلاة والسلام هو قوله [ تلك الغرانيق العلي وأن شفاعتهن لترتجى ] وذلك فيما قيل قبل العصمة بقوله تعالى ( سنقرئك فلا تنسى ) فنسخ الله ذلك وأحكم آياته وعصمه من السهو في الوحي ، وهذا في الحقيقة لا يسمى منسوخا لأن ما ألقى الشيطان ليس بقرآن . اهـ
وهو قول متجه إذا قايسناه بقوله تعالى ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) [المائدة-67] وهي آية مدنية .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية :
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة ، وقال :
" يأيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل ". رواه الترمذي بسند حسن.
وهي عصمة خاصة ، فلا يمنع تأخر حصول العصمة العامة بما بعد الهجرة لحصول تحرش الشيطان في مواقف عدة . وهذا نقوله جدلا ، وإلا فنسخ ما ألقى الشيطان وإحكام الآيات ينفي الطعن في العصمة رأسا ..
المحور الثاني : أن الأمور العارضة لا تؤثر في الثوابت
بمعنى أننا لو قلنا أن العصمة أصل ثابت .. وحصلت أمور عارضة ، مثل قضية سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو إلقاء الشيطان في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فهذا عارض يتكرر مرة أو اثنتان على الأكثر ، فلا يؤثر في الثابت وهو حصول العصمة ..
فقوله تعالى ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) نص قطعي الثبوت والدلالة وقصته مذكورة أعلاه ومع ذلك الجمهور من العلماء على أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا من أثر السم التي وضعته اليهودية في الشاة ..
كما روى عبد الله بن أحمد في المسند (1/381) بسند صحيح قال :
حدثني أبي ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن أبي الأحوص عن عبد الله ، قال :
لأن أحلف بالله تسعا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة ، وذلك بأن الله عز وجل اتخذه نبياً وجعله شهيداً.
فابن مسعود يحلف على ذلك ويرى أن الناس قتلوه واستشهد من أثر السم .. وهذا ينافي الآية !!
ولكن إن قلنا أن الثابت هو العصمة وهذا من العارض زال الإشكال ، فقد تهيأت سبل كثيرة لليهود والمشركين تحينوا فيها الفرص لقتله صلى الله عليه وسلم ، والله يعصمه منهم .
ومثل قوله تعالى ( إنا كفيناك المستهزئين ) وقد ذكرهم ابن اسحاق وغيره وذكر أن الله أهلكهم ، لكن لا يمنع من حصول من استهزأ به صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، فمنهم من أسلم ومنهم من انتقم الله منه ..
وفي ما نحن بصدد الكلام عنه ، ننقل كلاما مهما للشيخ عبد الرحمن السعدي في كتابه القواعد الحسان في تفسير القرآن ..
قال رحمه الله (ص: 142) :
القاعدة الرابعة والستون : الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَردُ على الحق وعلى الأمور اليقينية ولكن سرعان ما تضمحل وتزول .
وهذه قاعدة شريفة جليلة قد وردت في عدة مواضع من القرآن ، فمن لم يحكمها حصل له من الغلط في فهم بعض الآيات ما يوجب الخروج عن ظاهر النص ، ومن عرف حكمة الله تعالى في ورودها على الحق الصريح : لأسباب مزعجة تدفعها أو لشبهة قوية تحدثها ثم بعد هذا إذا رجع إلى اليقين والحق الصريح ، وتقابل الحق والباطل ، ووقعت الخصومة بينهما ، فغلب الحقُ الباطل ، ودمغه فزهق الباطل وثبت الحقُ ، حصلت العاقبة الحسنة ، وزيادة الإيمان واليقين ، فكان في ذلك التقدير حكمٌ بالغة ، وأيادٍ سابغة . ولنمثل لهذا بأمثلة :
فمنها : أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الخلق إيماناً ويقيناً ، وتصديقاً بوعد الله ووعيده وهذا أمر يجب على الأمم أن يعتقدوا في الرسل ، من أنهم قد بلغوا الذروة فيه ، وأنهم معصومون من ضده ، ولكن ذكر الله في بعض الآيات أنه قد يعرض لهم بعض الأمور المزعجة ـ المنافية حساً لما علم يقينا ـ ما يوجب لهؤلاء الكمل أن يستبطئوا معه النصر ، ويقولون ( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) وقد يخطر في هذه الحالة على القلوب شيء من عوارض اليأس بحسب قوة الواردات وتأثيرها في القلوب ، ثم في أسرع وقت تنجلي هذه الحال وتنفرج الأزمة ويأتي النصر من قريب ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فعندئذ يصير لنصر الله وصدق موعوده من الوقع والبشارة والآثار العجيبة أمر كبير لا يحصل بدون هذه الحالة ، ولهذا قال ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) فهذا الوارد الذي لا قرار له ، وعندما حقت الحقائق اضمحل وتلاشى ، لا ينكر ويطلب للآيات تأويلات مخالفة لظاهرها .
ومن هذا الباب بل من صريحه : قوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أيْ يلقي من الشبه ما يعارض اليقين ، ثم ذكر الحكم المترتبة على الإلقاء ولكن نهاية الأمر وعاقبته أن الله يبطل ما يلقي الشيطان ، ويحكم الله آياته ، والله عليم حكيم ..
فقد أخبر الله بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء ، لهذه الحكم التي ذكرها ، فمن أنكر وقوع ذلك بناء على أن الرسل لا ريب ولا شك أنهم معصومون ، وظن أن هذا ينافي العصمة ، فقد غلط أكبر غلط ، ولو فهم أن الأمور العارضة لا تؤثر في الأمور الثابتة لم يقل إلا قولاً يخالف فيه الواقع ، ويخالف بعض الآيات ، ويطلب التأويلات المستبعدات . اهـ
المحور الثالث : في مفهوم العصمة عند من رد القصة:
والقصة على كثرة رواتها ورواياتها عن السلف ، إذا أردنا الرد على من ردها ، كالرازي وابن العربي والقاضي عياض في باب العصمة ، فلابد لنا من معرفة أنهم ترنحوا في هذا الباب كثيرا وأن المتقرر عندهم أصول عقلية وقوانين كلامية ، مخالفة في جوهرها لأدلة الكتاب والسنة جملة وتفصيلا ..
فالمتكلمون والأشعرية خصوصا وعلى رأسهم الرازي وأمثاله ممن زيفوا القصة عقلا أكثر منه نقلا ، قد ردوا أدلة قرآنية صريحة وأحاديث ثابتة صحيحة فيما نسب لأنبياء الله عزوجل من أمور بين القرآن والحديث أنهم وقعوا فيها تصريحا وتابوا منها ، فجاء هؤلاء ووقفوا أمامها موقف المنكر لها ، فإن لم يستطيعوا ردها تأولوها تأولات باردة ..
ومذهب أهل السنة على وقوع بعض المعاصي على الأنبياء ، إذ إن الله هو الذي قدرها عليهم لحكم عظيمة كما أن بعض هذه الأمور المعدودة لا ينافي العصمة في الجملة ..
فالعقل هو إمام هؤلاء المتكلمين ، فإن شهدت لهم الأدلة بالعصمة قبلوها وإلا ردوها غير آسفين .
فما صح من قصص الأنبياء في صدور بعض الذنوب منهم ، يقول عنها الإيجي مثلا :
يرد خبر الآحاد وجوبا إذ نسبة الخطأ إلى الرواة أهون من نسبة المعاصي إلى الأنبياء .
وعبر عنه الرازي بقوله : لأن يضاف الكذب إلى رواته أهون من أن يضاف إلى الأنبياء .
ثم ما ثبت متواترا يؤول على محمل آخر خلاف ظاهره ، وما لم يجدوا له محيصا قالوا أنه كان منهم قبل البعثة !!
وانظر إلى تخبطهم في نص ظاهر كقوله تعالى ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فقد جاؤوا فيه بتأويلات سمجة هروبا من نسبة المعصية لنبي الله آدم عليه السلام ، أما أهل السنة من السلف فلم يحتاجوا إلى دلائلهم العقلية بل وجدوا الله قد قال بعدها ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) فانتهت القصة عندهم على ذلك .. عصى آدم عليه السلام ، ثم تاب إلى الله ، فقبل الله توبته ..
وليس في القرآن والسنة نص يقول بعصمة الأنبياء من كل ذنب حتى يجعلوها قاعدة مسلمة ..
بل من أسباب وقوعهم في هذا أنهم أرادوا الرد على منكري النبوات القائلين : إذا جاز الذنب الواحد على النبي جاز عليه كل ذنب !! فاخترع المتكلمون قواعدهم تلك للرد على هؤلاء ، فوقعوا في أشد مما أراده هؤلاء وأصبحوا كما قال الأول :
المستجير بعمروٍ عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار .
وعصمة الأنبياء لا تنافي الوقوع في بعض الذنوب أو الأخطاء طالما أنهم لا يقرون عليها ، إذ في وقوعها حكم عظيمة ، وذلك يعود إلى بشريتهم المحضة التي بينها الله في كتابه في غير ما آية .
فالمتكلمون يتوهمون أن النبي - أي نبيٍ - لو أخطأ لكان :
1- من حزب الشيطان !!
2- وممن صدق إبليس عليهم ظنه فاتبعوه !!
3- ولو صدر منهم الذنب لحرم اتباعهم !!
4- ولردت شهادتهم !!
5- ولكانوا أسوأ حالا من عصاة الأمة !!
6- لمضاعفة العذاب لهم عن غيرهم !!
7- وأنهم إذا وقعوا في الذنب فلن ينالوا عهد الله !!
فهل ترون حماقة عقول أعظم من هذه ؟
فكلام هؤلاء المتكلمين في باب العصمة مردود عليهم بأدلة صحيحة صريحة في الكتاب والسنة ..
وإنما يقول أهل السنة في هذه القضية بجواز وقوعها منهم ولكن لا يقرون عليها ..
ومن قرأ باب العصمة عند القاضي عياض في الشفا ، لوجده يتمحل في رد الأدلة تمحلا ظاهرا ليردها في الجملة أو يرد دلالتها جاهدا ..
كما فعل في الآيات والأحاديث الخاصة بأنبياء الله مثل ابراهيم وموسى ويونس وداود ومحمد صلى الله عليهم ويوشع بن نون وغيرهم.
ومذهب أهل السنة والأثر تجد خلاصته في كلام شيخ الإسلام الهمام ، ابن تيمية ، عندما قال في مجموع الفتاوى (10/293) :
والقول الذي عليه جمهور الناس - وهو الموافق للآثار المنقولة من السلف - إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا ، والرد على من يقول : إنه يجوز إقرارهم عليها . وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول ، وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء .
فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه ؛ كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه ، فأما ما نسخ من الأمر والنهي ؛ فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال ، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح ، أو أنها توجب التغيير ، أو نحو ذلك من الحجج العقلية !! فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع ، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه ؛ كما قال بعض السلف : كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة . وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه ؛ لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة : ( لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا ... ) الحديث .
إلى أن قال :
وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه ، والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد ، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم . اهـ
وفي هذا الباب : إذا قلنا أن الشيطان في قصة الغرانيق هو الذي تكلم بهذه الجملة أو أن نبينا سها فقرأها .. النتيجة هي وقوع هذا الخطأ ، ولكن الله لم يقر نبيه عليه إذ جاءت الآيات فنسخت ما ألقى الشيطان وعصم الله نبيه ووحيه مما أراده اللعين .
واستشهاد عياض بقصص إبليس فيما فعل يوم العقبة وتصوره في صورة نجدي في قصة الهجرة أو تصوره بصورة سراقة في غزوة بدر ، كلها تثبت وقوع الفعل من الشيطان وإرادة كيد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن النتيجة كانت رد كيد الشيطان ودحره ونصرة نبيه وأتباعه ..
أو استشهاده بحديث : إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ..
فعلى رواية إسلامه فيقال : هذا كان إسلام القرين .. ولا يمنع أن يقع من الشيطان الأكبر ما يكيد به النبي ودعوته والمؤمنون وأن يفتن الكفار ..
وعلى معنى يسلم النبي من شره : فلا ينفي حصول الكيد منه وإرادة الشر دوما ، ولكن الله يدحر سعيه كما في قصة الغرانيق ، فقد نسخ الله ما ألقاه وأحكم آياته .
المحور الرابع : أن الوقوع في الخطأ لا ينافي العصمة إلا إذا أقروا عليه
وهو أوضح الأجوبة عن هذه الشبهة ، وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية بالرد عليها فقال في الجواب الصحيح (2/34( :
والواحد من المسلمين وإن كان الله لا يؤاخذه بالنسيان والخطأ بل والرسول أيضا وإن لم يكن يؤاخذ بالنسيان والخطأ في غير ما يبلغه عن الله عند السلف والأئمة وجمهور المسلمين لكن ما يبلغه عن الله لا يجوز أن يستقر فيه خطأ فإنه لو جاز أن يبلغ عن الله ما لم يقله ويستقر ذلك ويأخذه الناس عنه معتقدين أن الله قاله ولم يقله الله كان هذا مناقضا لمقصود الرسالة ولم يكن رسولا لله في ذلك بل كان كاذبا في ذلك وإن لم يتعمده . اهـ
ففرق بين الخطأ في التبليغ والإقرار عليه ، فالخطأ وارد وإنما الممنوع هو إقراره عليه كما بين شيخ الإسلام رحمه الله .
وأصل ذلك : أن يقع الفعل من الشيطان لكن إما ألا يقر عليه أو يهزم في سعيه ..
مثاله : ما جرى في أحاديث السيرة ، فقد وقعت أمثلة من الشيطان في حق النبي صلى الله عليه وسلم ورده الله خاسئا .. ولكن القوم لا يقولون بوقوعها من الشيطان أصلا لأنها فوق قدراته وأنه لم يسلط على النبي صلى الله عليه وسلم .. والأدلة من القرآن والسنة تثبت بطلان قواعدهم الكلامية التي أسسوها بعقولهم ليردوا بها على النصوص .. وهذا ديدنهم ، ولكن الخطأ من العالم الأثري الذي يتبعهم في ذلك ولم يفتش على الحجج العقلية المتهافتة عند هؤلاء المتكلمين .
وهذا كرد بعض المتكلمين لما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب .
لأنه يقتضي تفضيل نبي الله عيسى على نبينا محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ، كما أنه يقتضي أن الشيطان قد يسلط على الأنبياء والرسل حتى أولي العزم منهم ، وعليه يكون نبينا صلى الله عليه وسلم ممّن طعن الشيطان في جنبيه ..
قال الأستاذ علي بن نايف الشحود في المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام [10/484] :
ونحن عندما نقول بظاهر الحديث ينبغي أن نفرق بين المس وبين الإغواء والإضلال ، فلا يلزم من وقوع المس والنخس إضلال الممسوس وإغواؤه حتى يقال إن الحديث معارض لقوله تعالى :
( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) وقوله ( إلا عبادك منهم المخلصين ) [الحجر-40/42]
لأنه يفيد عدم تسلط الشيطان على الأنبياء والمُخْلَصين .
فإن الآية إنما تدل على عدم تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال الدائم ، ومع ذلك فقد يسلط على بعضهم بإغواء عارض ، أو إلحاق ضرر لا يؤثر على الدين ، وكما تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والأذية .
وماذا يقول هذا المنكر فيما أثبته الله في كتابه عن نبي الله موسى عليه السلام وقوله بعد أن قتل القبطي : ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) .
ومن قبله أيوب حين نادى ربه ( أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) .
وقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) .
ونبينا عليه الصلاة والسلام عرض له الشيطان ليقطع صلاته فأمكنه الله منه ، فرده الله خاسئاً كما في الصحيح ، وأخبر أنه ما منا من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن ، حتى هو نفسه صلى الله عليه وسلم إلا أن الله أعانه عليه فأسلم ، على رواية الرفع بمعنى " أسلم من شره وفتنته " وعلى رواية الفتح بمعنى " أنه دخل في الإسلام " وهما روايتان مشهورتان .
والمقصود أن القرآن والسنة أثبت شيئاً من تعرض الشيطان للأنبياء والمخلصين بأنواع الأذى وأما الزيغ والإضلال فقد عصمهم الله منه .
ولا يلزم أن تمتلئ الدنيا صراخاً ونحيبا - كما توهم الزمخشري - لأن الحديث إنما جعل ذلك عند الولادة فحسب ولم يجعله مستمراً مدى الحياة ، والتجربة والمشاهدة خير حكم وبرهان ، فما من مولود إلا ويستهل صارخاً وباكياً تصديقاً لهذا الحديث ، وإنكار ذلك مكابرة .
فعلم من ذلك أنه لا إشكال أبداً حول الحديث لا من حيث النقل والسند ، ولا من حيث المتن والمعنى وأن الإشكال إنما أتى من الفهم السقيم ، والرأي غير المستقيم . اهـ
فقول القاضي عياض في الشفا : واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى ولا على خاطره بالوساوس !! . اهـ
مردود أيضا لأن وقوع السهو منه صلى الله عليه وسلم أو النسيان نتيجة وسوسة الشيطان مما دل عليه القرآن والسنة .. وقد قال الله تعالى ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
ومن كلام الخصوم أنفسهم يتبين أنهم يقرون بوقوع الوسوسة والسهو للنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الأنبياء ..
فقد قال الرازي آخرا بعد صولات وجولات لابطال القصة : يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم . اهـ ونقله الخازن في تفسيره وغيره
وقال البيضاوي : والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم . اهـ
والله أعلم