قوله: (الْخَامِسُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ): أي: الشرط الخامس من شروط صحة الصلاة، هو استقبال القبلة؛ ودليل ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
وأما السُّنَّة: فَعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّرْ([1])».
ولأن استقبال القبلة هو الفعل الذي نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتواتر عنه، ولم يُنقل عنه خلافه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي([2])».
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب استقبال القبلة في الصلاة.
قال ابن حزم رحمه الله: ((وَاتَّفَقُوا أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة لَهَا فَرْضٌ لمن يعاينها أَو عرف دلائلها مَا لم يكن مُحَاربًا وَلَا خَائفًا([3])))اهـ.
قوله: (وَلَا تَصِحُّ بِدُونِهِ إِلَّا لِعَاجِزٍ): أي: ولا تصح الصلاة بدون استقبال القبلة؛ لأنها شرط لصحتها، كما تقدم، إلا لعاجز – سواء كان العجز لمرض أو حبس أو قيد – فيصلي حيثما استطاع؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
ولقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ([4])».
وكذلك الخائف – سواء كان الخوف من عدو أو لص أو سبع أوغير ذلك – فإنه يُعذر إن لَمْ يستطع استقبال القبلة؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، في صفة صلاة الخوف، أنه قال: فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَ ا، قَالَ مَالِكٌ: قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([5]).
قوله: (وَمُتَنَفِّلٍ فِي سَفَرٍ مُبَاحٍ): أي: ويسقط وجوب استقبال القبلة عمن أراد أن يتنفل في سفر؛ ودليل ذلك حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، فَإِذَا أَرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ([6]).
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ([7]).
ولكن قُيِّدَ السفرُ هنا بكونه مباحًا؛ فلو كان سفر معصية لمْ يجز له الترخص بالتنفل على الدابة لغير القبلة؛ وذلك مشيًا على قاعدة المذهب أن سفر المعصية لا تباح به الرخص؛ وقد تقدم نحو هذا في كتاب الطهارة عند مسألة المسح على الخفين، وقول ابن قدامة رحمه الله: ((فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لِمَا فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يَرِدُ الشرعُ بذلك([8])))اهـ.
ولكن الراجح أن له ذلك؛ لأنه لم يَرِدْ دليل شرعي يخرج المسافر سفر معصية، ولا يجوز تخصيص النصوص بغير دليل.
قوله: (وَفَرْضُ قَرِيبٍ مِنْهَا إِصَابَةُ عَيْنِهَا): لأن الأصل هو إصابة عينِ الكعبة، فإذا أمكن وجب؛ وهذا مجمع عليه، قال ابن قدامة رحمه الله: ((ثُمَّ إنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى عَيْنِهَا، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا([9])))اهـ.
قوله: (وَبَعْيدٍ جِهَتُهَا): ومن كان بعيدًا عن الكعبة بحيث إنه لا يراها، ففرضه أن يتوجه جهتها، ولا يلزمه إصابة عينها؛ لأن هذا مما لا يستطاع؛ ودليل ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ([10])».
قوله: (وَيُعْمَلُ وُجُوبًا بِخَبَرِ ثِقَةٍ بِيَقِينٍ): أي: من لَمْ يكن عالمًا بالقبلة، ثم أخبره ثقة عن يقين، لا عن ظن، صار إلى خبره، وليس له الاجتهاد؛ كما يقبل الحاكم النصَّ من الثقة، ولا يجتهد([11]).
قوله: (وَبِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ): وكذلك لو كان في مصرٍ أو قرية، ففرضه التوجه إلى محاريبهم وقبلتهم المنصوبة؛ لأن هذه القِبَلِ ينصبها أهل الخبرة والمعرفة؛ فجرى ذلك مجرى الخبر، فأغنى عن الاجتهاد([12]).
قوله: (وَإِنِ اشْتَبَهَتْ فِي السَّفَرِ اجْتَهَدَ عَارِفٌ بِأَدِلَّتِهَا): لأن ما وجب اتباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة([13]).
قال ابن قدامة رحمه الله: ((وَالْمُجْتَهِد ُ فِي الْقِبْلَةِ هُوَ الْعَالِمُ بِأَدِلَّتِهَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مِنَ الْمُجْتَهِدِين َ فِيهِ، وَإِنْ جَهِلَ غَيْرَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنَ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ، فَكَانَ مُجْتَهِدًا فِيهَا كَالْفَقِيهِ، وَلَوْ جَهِلَ الْفَقِيهُ أَدِلَّتَهَا أَوْ كَانَ أَعْمَى، فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا. وَأَوْثَقُ أَدِلَّتِهَا النُّجُومُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]([14])))اهـ.
ولكن الاجتهاد مقيد بالسفر؛ لأن الحضر ليس بمحل اجتهاد؛ لقدرة مَنْ فيه على الاستدلال بالمحاريب ونحوها، ولوجود المخبر عن يقين غالبًا([15]).
وفي رواية أخرى أن له أن يجتهد، ولو في الحضر([16]).
وهذه الرواية الأخيرة رجحها العلامة ابن عثيمين رحمه الله؛ حيث قال: ((وهل الحضر محلٌّ للاجتهاد أم لا؟ الجواب: أمَّا المذهب عند الأصحاب فليس محلًّا للاجتهاد؛ ولا ريب أنَّ هذا القول ضعيف.
والصَّواب: أنَّ الحضر والسَّفر كلاهما محلٌّ للاجتهاد؛ فإن الإنسان في الحضر قد يصعد إلى السَّطح في الليل، وينظر إلى القُطب ويَستدلُّ به، وفي النهار ينظر إلى الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب، والعلامات التي في السَّفر هي علامات في الحضر.
وأما قولهم: إنه لا اجتهاد في الحضر؛ لأنه يَستدلُّ على ذلك بخبر أهل البلد وبالمحاريب الإسلامية، فنقول: إذا كان من أهل الاجتهاد فلا مانع أن يجتهد في الحضر كما يجتهد في السَّفر.
فالصَّواب: أنه إذا اجتهد في الحضر فإنه تصحُّ صلاته، فإن أصاب فالأمر ظاهر، وإن لم يُصب فإنه اجتهد وأخطأ وله أجر، وإذا اجتهد فلا إعادة عليه مطلقًا؛ سواء أصاب أم لم يصب؛ لأنه فعل ما يجب عليه، ومن فعل ما وجب عليه فقد اتَّقى الله ما استطاع، ومن اتَّقى الله ما استطاع فليس عليه أن يُصلِّي مرَّتين؛ لأن الله لم يوجب على عباده العبادة مرَّتين إذا أَتَوا بها على الوجه الذي أُمِرُوا به([17])))اهـ.
قوله: (وَقَلَّدَ غَيْرُهُ): أي: وغير المجتهد، فحقه التقليد.
قال ابن قدامة رحمه الله: ((من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد؛ لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده؛ فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام([18])))اهـ.
قوله: (وَإِنْ صَلَّى بِلَا أَحَدِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ قَضَى مُطْلَقًا): أي: وإن صلى بلا اجتهاد ولا تقليد، مع القدرة على ذلك، قضى مطلقًا؛ سواء أخطأ أو أصاب؛ لأنه مفرِّط؛ ولو أصاب القبلة؛ فإن إصابته للقبلة وقعت على سبيل الاتفاق فحسب.
وفي رواية أخرى أن لو أصاب فلا يلزمه الإعادة([19]).
وهذه الرواية الأخيرة رجحها العلامة ابن عثيمين رحمه الله؛ حيث قال: ((وظاهر كلام المؤلِّف أنه يقضي ولو أصاب؛ وذلك لأنَّه لم يَقُمْ بالواجب عليه من الاجتهاد، وإصابته وقعت على سبيل الاتفاق، لا على سبيل الرُّكُون إلى هذه الجهة؛ لأنه لم يجتهد؛ كذلك لو كان ليس من أهل الاجتهاد، ففرضه التَّقليد، لكنَّه لم يُقلِّد، فلم يسأل أحدًا من النَّاس وصَلَّى، فإنَّه يقضي ولو أصاب؛ لأنه ترك ما يجب عليه؛ إذ الواجب أن يعرف أن هذه هي القِبْلَة؛ إما باجتهاده إن كان يُحسنُه وإما بتقليد إن كان لا يحسنه، وهذه الأخيرة تقع كثيرًا؛ فمثلًا يأت رَجُل إلى شخص فينزل ضيفًا عليه، ثم يقوم يُصلِّي، ولا يسأل صاحب البيت أين القبلة، فيصلِّي وهو ليس من أهل الاجتهاد الذين يعرفون القِبْلة بالأدلَّة، فيجب عليه أن يُعيد الصَّلاة ولو أصاب؛ لأنَّه لم يأتِ بالواجب من الاجتهاد، ولا من التَّقليد، فالواجب على هذا الضَّيف إذا أراد أن يُصلِّي أن يسأل صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت عنده عِلْم بالقِبْلة.
وقال بعض العلماء: إنه إذا أصاب أجزأ؛ لأنه لن يُصلِّي إلا إلى جهة تميلُ إليها نفسُه، وهذا الميل يوجب غلبة الظَّنِّ، وغلبةُ الظَّنِّ يُكتفى به في العبادات؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَلْيتحَرَّ الصَّواب ثم لِيَبْنِ عليه»، فإذا أصاب فلماذا نُلزمه بالقضاء؟ وهذا القول أصحُّ، فإن أخطأ وجبت عليه الإعادة؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه من السُّؤال ولا من الاجتهاد([20])))اهـ.
[1])) متفق عليه: أخرجه البخاري (6251)، ومسلم (397).
[2])) متفق عليه: أخرجه البخاري (7246)، ومسلم (674)، واللفظ للبخاري.
[3])) ))مراتب الإجماع)) (26).
[4])) متفق عليه: أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
[5])) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (196) تحقيق الأعظمي، عن نافع عن ابن عمر.
[6])) متفق عليه: أخرجه البخاري (400)، ومسلم (540).
[7])) متفق عليه: أخرجه البخاري (1000)، ومسلم (502).
[8])) ((الكافي)) (1/ 306).
[9])) ((المغني)) (1/ 317).
[10])) أخرجه الترمذي (342)، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وابن ماجه (1011)، وصححه الألباني في ((الإرواء)) (292).
[11])) ((المغني)) (1/ 318).
[12])) السابق.
[13])) ((المبدع في شرح المقنع)) (1/ 358).
[14])) ((المغني)) (1/ 319).
[15])) ((كشف القناع عن متن الإقناع)) (1/ 311).
[16])) ((الإنصاف)) (2/ 15).
[17])) ((الشرح الممتع)) (2/ 285، 286).
[18])) ((الكافي)) (1/ 234).
[19])) ((الإنصاف)) (2/ 19).
[20])) ((الشرح الممتع)) (2/ 284، 285).