تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 29 من 33 الأولىالأولى ... 192021222324252627282930313233 الأخيرةالأخيرة
النتائج 561 إلى 580 من 641

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #561
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (560)
    سُورَةُ الْقَلَمِ
    صـ 237 إلى صـ 244


    قوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور .

    فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء ; لأنه عليم بذات الصدور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

    وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به [ 13 \ 10 ] .

    وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] .

    وتقدم للشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية .

    [ ص: 237 ] وقد تقدم قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله الآية [ 58 \ 1 ] .

    وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ 50 \ 16 ] .

    وتقدم في سورة " التحريم " قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه الآية [ 66 \ 3 ] ، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى ، ولذا قال تعالى هنا :
    ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .

    كما قال في سورة " التحريم " : قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] .

    وقال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ، ومعناه تفهيم جميع المعلومات ، ومنها : الخبير ، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ومنها : الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها : الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ، ومعناه ألا يغيب عنه شيء . ومنها : الحافظ ويختص بأنه لا ينسى ، ومنها : المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، ( ومن ) في قوله تعالى : ألا يعلم من خلق ، أجازوا فيها أن تكون فاعل ( يعلم ) ، وهو الله تعالى ، أي : إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور .

    وأجازوا أن تكون مفعولا والفاعل ضمير مستتر في الفعل ( يعلم ) ، ذكرهما القرطبي وأبو حيان ، وهو واضح ومحتمل .

    ولكن الذي تشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله : إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ 40 \ 19 ] .

    وقوله : والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] ، ومن أعمالهم ما يسرون ، وما يجهرون . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور .

    [ ص: 238 ] الذلول فعول بمعنى مفعول ، وهو مبالغة في الذل .

    تقول : دابة ذلول بينة الذل ، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها ، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال ، كقوله تعالى : والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 32 - 33 ] .

    ومن إمكان الزرع فيها كقوله : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا [ 80 \ 27 - 28 ] إلى قوله أيضا : متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 32 ] ، وقد جمع أكثرها في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 25 - 27 ] .

    وكنت أسمع الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول في هذه الآية : إنها من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها ، فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها .

    ويقول : لو شاء الله لجعلها حديدا ، ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ، ولا يحفر ولا يبني ، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها .

    ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ; لترتبه على ما قبله بالفاء ، أي : بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها ، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ .

    والأمر في قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه للإباحة ، ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد ، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب ; لتسخيرها وتذليلها ، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها .

    كما قال تعالى : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] .

    [ ص: 239 ] وفي قوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، وغير ذلك من الآيات .

    ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد ، وتقديم الشكر كما قال تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون [ 22 \ 36 ] .

    وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] .

    أي : مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة والاستدلال على كمال القدرة .

    ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى ، فقوله : وإليه النشور بعد المشي في مناكب الأرض ، وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها ، كقوله تعالى : وإنا إلى ربنا لمنقلبون بعد ذكر : خلق الأزواج كلها أي : الأصناف ، وتسخير الفلك ، والأنعام ، والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث ، فيكون المشي في مناكب الأرض ، واستخدام مناكبها ، واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده ، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم ، ولكن للأخذ بالأسباب أولا ، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات ، كما في آية " الجمعة " : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 62 \ 10 ] .

    أي : عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه .

    وعليه ، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى ، والاستغناء والاستثمار والإنتاج ، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود .

    وقد قال النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار [ ص: 240 ] وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة ; لتستغني عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج ، وهذا هو واقع العالم اليوم ، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية .

    وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا . وبالله التوفيق .
    قوله تعالى : ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور .

    ذكر أبو حيان في قراءة : ءأمنتم عدة قراءات من تحقيق الهمزتين ، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك ، والخسف ذهابها سفلا ، كما خسف بقارون ، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة ، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال : والجبال أرساها متاعا لكم [ 79 \ 32 - 33 ] و ( من في السماء ) . قال ابن جرير : هو الله تعالى . اهـ .

    وعزاه القرطبي لابن عباس ، ويشهد لما قاله : ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب ، فإنه لا يقدر عليه إلا الله ، كما أنه ظاهر النص ، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان ، إذا قالوا : إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز ، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء أي : على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء ، ولكن خص السماء بالذكر ; لأنها مسكن ملائكته ، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه ، إلخ .

    وقيل : هو جبريل ; لأنه الموكل بالخسف ، وقيل : إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء ، وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى ، وفرارا من التشبيه في نظرهم ، ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه ، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية : " أين الله ؟ " قالت : في السماء ، قال : اعتقها ; فإنها مؤمنة " ، ولعدة آيات في هذا المعنى .

    وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن مما لم يدع لبسا ، ولا يترك شبهة ، ولا يستغني عنه مسلم عالما كان أو متعلما ، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم وأسلوب البيان الحكيم ، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من [ ص: 241 ] معتقد قويم واضح جلي سليم .

    وقد يقال : إن معنى ( في ) هو الظرفية ، فنجعل السماء ظرفا لله تعالى ، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز .

    فيقال : إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق .

    وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى واستحالته عقلا عليه سبحانه في حديث : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة ، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم " فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا ; ولأنه سبحانه مستو على عرشه .

    وفيما قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في هذا المبحث شفاء وغناء ، ولله الحمد والمنة . قال القرطبي : ( إن في السماء ) بمعنى فوق السماء كقوله : فسيحوا في الأرض [ 9 \ 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز .

    وقيل : ( في ) : بمعنى على كقوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل [ 20 \ 71 ] أي : عليها إلى أن قال : والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو . اهـ .

    وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف ، وقد ذكر كلاما آخره فيه التأويل وفيه التنزيه .
    قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير .

    الطير صافات : أي : مادات أجنحتها ( ويقبضن ) : أي : يضمنها إلى أجسامها .

    قال أبو حيان : عطف بالفعل ويقبضن على الاسم ، صافات ، ولم يعطف باسم قابضات ; لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح ، والقبض طارئ ، وهذا الذي قاله أبو [ ص: 242 ] حيان : جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت ، والفعل للتجدد والحدوث ، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح ، والجديد عليه هو القبض .

    وقوله تعالى : ما يمسكهن إلا الرحمن دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه ، كما في قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] .

    فهي آية على القدرة ، وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا ، كما في قوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [ 35 \ 41 ] .

    فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا ، ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو ، وكما في قوله : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .

    تنبيه

    ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء ( صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ) ، بعد التخويف بخسف الأرض بأن الأرض معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله ، وإيقاع الخسف بها ، كإسقاط الطير من الهواء ; لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى ، وهو القادر على الخسف بها ، وعلى إسقاط الطير .
    قوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه .

    يقول تعالى للمشركين : من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم ، إن أمسك الله عنكم رزقه .

    والجواب : لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله .

    وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله [ 34 \ 24 ] .

    أي : لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو ، قال تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [ ص: 243 ] [ 35 \ 3 ] .

    وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق ، كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .

    وكقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 30 \ 40 ] .

    وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق ، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه ، وتدبير شئون الخلق كما في قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض ، ثم قال : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] ، أي : يبسط ويقدر ، يعلم لا عن نقص ولا حاجة ، ولكن يعلم بمصالح عباده ، الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز [ 42 \ 19 ] أي : يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقا واسعا ، وهو العزيز في ملكه ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، كما قال تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] أي : بمقتضى اللطف والعلم : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ 11 \ 6 ] .

    ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق ، كما في قوله : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون [ 16 \ 73 ] .

    وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى : إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] .

    وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] .

    وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة .

    [ ص: 244 ] وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلا مما يعجز الخلق عن فعله ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .

    فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء ، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق وفاكهة ، وكلها للإنسان ، وقضبا وأبا للأنعام ، والأنعام أرزاق أيضا لحما ولبنا ، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء ، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله .

    فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله ، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق ، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى ، موقنا حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين .

    وكما قال تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 22 - 23 ] .

    وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها : والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده .
    قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] في سورة " المؤمنون " .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْقَلَمِ

    قوله تعالى : ن .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور عند الكلام على أول سورة هود : وذكر الأقوال كلها ، وهي خمسة أقوال :

    فقيل : إنها مما استأثر الله بعلمه أو أنها من أسماء الله ، أو مركبة من عدة حروف كل حرف من اسم ، أو أسماء للسور ، أو أنها للإعجاز ، وبين - رحمه الله - وجه كل قول منها ، ورجح الأخير ، وأنها للإعجاز بدليل أنه يأتي بعدها دائما الانتصار للقرآن ، وقد بسط البحث بما يكفي ويشفي .

    وقال ابن كثير بأقوال أخرى ، منها أن : ن بمعنى الدواة أي : بمناسبة ذكر القلم ، وعزاه إلى الحسن وقتادة ، وقال : إن فيه حديثا مرفوعا ، ولكن غريب جدا ، وهو عن ابن عباس : " إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب " ، الحديث .

    وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " خلق الله النون وهي الدواة " .

    وذكر ابن جرير كل هذه الأوجه وزاد أوجها أخرى : منها أنها افتتاحيات لأوائل السور تسترعي انتباه المستمعين ، ثم يتلى عليهم ما بعدها ، وقيل : هي من حساب الجمل وغير ذلك .

    وقد ذكر ابن جرير عند أول " سورة الشورى " : حم عسق [ 42 \ 1 - 2 ] أثرا نقله عنه ابن كثير واستغربه واستنكره ، ولكن وقع ما يقرب من مصداقه ومطابقته مطابقة تامة .

    ونصه من ابن جرير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله : حم عسق قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء ، وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يجبه شيئا .

    [ ص: 246 ] فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، وقد عرفت بم كرهها ، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تنبني عليه مدينتان فشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدنهم ، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : حم عسق يعني عزيمة من الله ، وفتنة ، وقضاء .

    حم عسق يعني عدلا منه : سين يعني سيكون و ق يعني واقع بهاتين المدينتين . اهـ .

    ومع استغراب ابن كثير إياه واستنكاره له ، فقد وقع مثل ما يشير إليه الحديث على ثورة العراق على عبد الإله في بغداد ، حيث يشقها النهر شقين ، وأنه من آل البيت ، وقد وقع بها ما جاء وصفه في الأثر المذكور .


  2. #562
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (561)
    سُورَةُ الْقَلَمِ
    صـ 245 إلى صـ 254


    قوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الرد على مقالتهم تلك عند قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق الآية [ 23 \ 70 ] من سورة " المؤمنون " .

    وساق النصوص ، وقال : إن في الآية ما يرد عليهم ، وهو قوله تعالى : بل جاءهم بالحق . اهـ .

    وهكذا هنا في الآية ما يدل على بطلان دعواهم ، ويرد عليهم ، وهو قوله تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون أي على ما جئت به من الحق وقمت به من البلاغ عن الله والصبر عليه ، كما رد عليهم بقوله : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] .

    وكذلك قوله تعالى في حق رسوله الكريم الأعظم : وإنك لعلى خلق عظيم ; لأن المجنون سفيه لا يعني ما يقول ، ولا يحسن أي تصرف .

    والخلق العظيم أرقى منازل الكمال في عظماء الرجال .

    [ ص: 247 ] وقوله تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون ، المن : القطع . أي : إن أجره - صلى الله عليه وسلم - عند الله غير منقطع .

    قال الشاعر : \ 5
    لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها

    وقد بين تعالى دوام أجره دون انقطاع في قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ 33 \ 56 ] .

    وصلوات الله تعالى عليه ، وصلوات الملائكة ، والمؤمنين لا تنقطع ليلا ولا نهارا وهي من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة والمؤمنين دعاء .

    وفي سورتي : " الضحى " و " ألم نشرح " بكاملها : ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 3 - 5 ] .

    وقوله : ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] .

    ومعلوم من السنة أن من دل على خير فله مثل من عمل به ، فما من مسلم تكتب له حسنة في صحيفته إلا وللرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها .

    وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " .

    ومنها : " أو علم ينتفع به " ، وأي علم أعم نفعا مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - وتركه في الأمة حتى قال : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي " ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دوام أجره .

    أما جزاؤه عند الله فلا يقدر قدره إلا الله تعالى .

    وقوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم تقدم أن هذه بمثابة الرد على ادعاء المشركين أولا عليه - صلى الله عليه وسلم - ورميه بالجنون ; لأن أخلاق المجانين مذمومة بل لا أخلاق لهم ، وهنا أقصى مراتب العلو في الخلق .

    وقد أكد هذا السياق بعوامل المؤكدات باندراجه في جواب القسم الأول في أول السورة ، وبأن اللام في ( لعلى ) ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء والتمكن بدلا من ذو [ ص: 248 ] مثلا : ذو خلق عظيم لبيان قوة التمكن والاستعلاء ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فوق كل خلق عظيم متمكن منه مستعل عليه .

    وقد أجمل الخلق العظيم هنا وهو من أعم ما امتدح الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، وقد أرشدت عائشة - رضي الله عنها - إلى ما بين هذا الإجمال حينما سئلت عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - الذي امتدح به فقالت : " كان خلقه القرآن " تعني والله تعالى أعلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه ، كما في قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

    وكما في قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

    وكما قال صلى الله عليه وسلم : " لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - ممتثلا لتعاليم القرآن في سيرته كلها ، وقد أمرنا بالتأسي به صلوات الله وسلامه عليه ، فكان من أهم ما يجب على الأمة معرفة تفصيل هذا الإجمال ; ليتم التأسي المطلوب .

    وقد أخذت قضية الأخلاق عامة ، وأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - خاصة محل الصدارة من مباحث الباحثين ، وتقرير المرشدين ، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم ، وعامل الحفاظ على بقائها ، كما قيل :


    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا


    وقد أجمل - صلى الله عليه وسلم - البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت ; لأتمم مكارم الأخلاق " .

    وقد عني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضوان الله تعالى عليهم بقضية أخلاقه بعد نزول هذه الآية ، فسألوا عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وعني بها العلماء بالتأليف ، كالشمائل للترمذي .

    أما أقوال المفسرين في الخلق العظيم المعني هنا فهي على قولين ، لا تعارض بينهما :

    منها : أنه الدين ، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم .

    والآخر قول عائشة : " كان خلقه القرآن " ، والقرآن والدين مرتبطان . ولكن لم يزل الإجمال موجودا . وإذا رجعنا إلى بعض الآيات في القرآن نجد بعض البيان لما كان [ ص: 249 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق مثل قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 \ 199 ] .

    وقوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .

    وقوله : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم [ 3 \ 159 ] .

    وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] .

    ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق ، وإذا كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن ، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم .

    والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات . ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار ، فأتوها وعليكم السكينة والوقار .

    وفي الزكاة مروءة وكرم ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] .

    وقوله : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ 76 \ 9 ] .

    وفي الصيام : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : " الصيام جنة " .

    وفي الحج : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .

    وفي الاجتماعيات : خوطب - صلى الله عليه وسلم - بأعلى درجات الأخلاق ، حتى ولو لم يكن داخلا تحت الخطاب ; لأنه ليس خارجا عن نطاق الطلب : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، ثم يأتي بعدها وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا [ ص: 250 ] [ 17 \ 23 - 24 ] ، مع أن والديه لم يكن أحدهما موجودا عند نزولها ، إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن .

    وقد عني - صلى الله عليه وسلم - بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان ، كما أوصى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بقوله : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " .

    وقال صلى الله عليه وسلم : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة : إذا لم تستح فاصنع ما تشاء " ، أي : إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل ، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل ، ويمنع من الرذائل ، كما قيل في ذلك :


    إن الكريم إذا تمكن من أذى جاءته أخلاق الكرام فأقلعا
    وترى اللئيم إذا تمكن من أذى يطغى فلا يبقي لصلح موضعا


    وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى : الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 134 ] .
    تنبيه

    إن من أهم قضايا الأخلاق بيانه - صلى الله عليه وسلم - لها بقوله : " إنما بعثت ; لأتمم مكارم الأخلاق " .

    مع أن بعثته بالتوحيد ، والعبادات ، والمعاملات ، وغير ذلك مما يجعل الأخلاق هي البعثة .

    وبيان ذلك في قضية منطقية قطعية حملية ، مقدمتها حديث صحيح ، وهو : " الدين حسن الخلق " ، والكبرى آية كريمة قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ 2 \ 177 ] .

    ولمساواة طرفي الصغرى في الماصدق ، وهو : " الدين حسن الخلق " ، يكون التركيب المنطقي بالقياس الاقتراني حسن الخلق هو البر ، والبر هو الإيمان بالله واليوم [ ص: 251 ] الآخر ، إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة ، ينتج حسن الخلق هو الإيمان بالله واليوم الآخر وما عطف عليه .

    وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الدين كله بأقسامه الثلاثة :

    الإسلام من صلاة وزكاة . إلخ .

    والإيمان بالله وملائكته . إلخ .

    ومن إحسان في وفاء وصدق وصبر ، وتقوى الله تعالى ; إذ هي مراقبة الله سرا وعلنا ، وقد ظهرت نتيجة عظم هذه الأخلاق في الرحمة العامة الشاملة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

    وكذلك للأمة يوم القيامة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " .

    وهي قضية منطقية أخرى : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

    فمكارم الأخلاق رحمة للعالمين في الدنيا ، ومنزلة عليا للمؤمنين في الآخرة .
    تنبيه آخر .

    اتفق علماء الاجتماع أن أسس الأخلاق أربعة :

    هي : الحكمة ، والعفة ، والشجاعة ، والعدالة .

    ويقابلها رذائل أربعة :

    هي الجهل ، والشره ، والجبن ، والجور .

    ويتفرع عن كل فضيلة فروعها :

    الحكمة : الذكاء وسهولة الفهم ، وسعة العلم . وعن العفة : القناعة ، والورع ، والحياء ، والسخاء ، والدعة ، والصبر ، والحرية . وعن الشجاعة : النجدة ، وعظم الهمة . وعن السماحة : الكرم ، والإيثار ، والمواساة ، والمسامحة .

    [ ص: 252 ] أما العدالة - وهي أم الفضائل الأخلاقية - فيتفرع عنها : الصداقة ، والألفة ، وصلة الرحم ، وترك الحقد ، ومكافأة الشر بالخير ، واستعمال اللطف . فهذه أصول الأخلاق وفروعها ، فلم تبق خصلة منها إلا وهي مكتملة فيه - صلى الله عليه وسلم - .

    وقد برأه الله من كل رذيلة ، فتحقق أنه - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم ، فعلا وعقلا .

    وقال الفخر الرازي : لقد كان - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم . والخلق ما تخلق به الإنسان ; لأن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] ، ولا بد لكل نبي من خصلة فاضلة . فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - جميع خصال الفضل عند جميع الأنبياء . وهذا وإن كان له وجه إلا أن واقع سيرته - صلى الله عليه وسلم - أعم من ذلك .

    فقد كان قبل البعثة والوحي ، ملقبا عند القرشيين بالأمين ، كما في قصة وضع الحجر في الكعبة ; إذ قالوا عنه : الأمين ارتضيناه .

    وجاء عن زيد بن حارثة ، لما أخذ أسيرا وأهدته خديجة - رضي الله عنها - لخدمته - صلى الله عليه وسلم - . وجاء أهله بالفداء يفادونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهم : " ادعوه وأخبروه ، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء ) فقال زيد : والله لا أختار على صحبتك أحدا أبدا ، فقال له أهله : ويحك ! أتختار الرق على الحرية ؟ ! فقال : نعم ، والله لقد صحبته فلم يقل لي لشيء فعلته : لم فعلته قط . ولا لشيء لم أفعله : لم لم تفعله قط : " ورجع قومه ، وبقي هو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ بيده ، وأعلن تبنيه على ما كان معهودا قبل البعثة .

    إننا لو قلنا : إن اختيار الله إياه قبل وجوده ، وتعهد الله إياه بعد وجوده ; من شق الصدر في طفولته ، ومن موت أبويه ورعاية الله له .

    كما في قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى إلى قوله : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث [ 93 \ 3 - 11 ] .

    إنها نعمة الله تعالى عليه ، وعلى أمته معه - صلوات الله وسلامه عليه - ورزقنا التأسي به .
    قوله تعالى فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم [ ص: 253 ]

    إذا كان في مجيء الآية قبل هذه : وإنك لعلى خلق عظيم رد على دعواهم الكاذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون .

    ففي هذه الآية تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم . وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم . ففي الوقت الذي وصفه بأنه على خلق عظيم ، وصفهم بعكس ذلك من : كذب ، ومداهنة ، وكثرة حلف ، ومهانة ، وهمز ، ومشي بنميمة ، ومنع للخير ، وعتل ، وتجبر ، واعتداء ، وظلم ، وانقطاع زنيم ، عشر خصال ذميمة . ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغارا لهم .

    وقد جاءت آيات القرآن تبين مساوئ تلك الصفات وتحذر منها ، ولا يسعنا إيرادها كلها ، وتكفي الإشارة إلى بعضها; تنبيها على جميعها في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [ 49 \ 11 - 12 ]

    وقوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون

    ذكر القرطبي لمعاني المداهنة فوق عشرة أقوال أرجحها الملاينة ، وقد ذكر هنا ودادتهم وتمنيهم المداهنة ، ولم يذكر لنا هل داهنهم - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وهل يريدون بذلك مصلحة أم لا ؟ وقد جاء بيان ذلك مفصلا ; بأنهم أرادوا التدرج من المداهنة وملاينته - صلى الله عليه وسلم - معهم ، إلى ما بعدها من تعطيل الدعوة .

    وقد رجح ابن جرير ذلك بقوله : ود هؤلاء المشركون يا محمد ، لو تلين لهم في دينك ; بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال - جل ثناؤه - : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] اهـ .

    ويشهد لما قاله ابن جرير هذا ما جاء في سبب نزول سورة ( الكافرون ) .

    [ ص: 254 ] فأنزل الله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد . السورة [ 109 \ 1 - 3 ] .

    ومما هو صريح في قصدهم بالمداهنة ، والدافع عليها والجواب عليهم قد جاء موضحا في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، ثم قال تعالى مبينا موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذه المحاولة بقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره [ 2 \ 109 ] .

    وقد جاء الله بأمره حكما بينه وبينهم ، وهنا يمكن أن يقال : إن كل مداهنة في الدين مع المشركين تدخل في هذا الموضوع .

    وقد جاء بعد قوله تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين إشارة إلى أنهم لا يطاعون في مداهنتهم ، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم; لترويج مداهنتهم ولو بكثرة الحلف ، وفرق بين المداهنة في الدين والملاطفة في الدنيا ، أو التعاون وتبادل المنافع الدنيوية ، كما قدمنا عند قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم الآية [ 60 \ 8 ] . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون

    هذا استفهام إنكاري ; يدل على أنه لم يسألهم أجرا على دعوته إياهم .

    وقال تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] . فالأجر المسئول المستفهم عنه هو الأجر المادي بالمال ونحوه .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : مبحث الأجر على الدعوة من جميع الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ، ومبحث أخذ الأجرة على الأعمال التي أصلها مزية الله ; بحثا وافيا عند قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] من سورة هود .



  3. #563
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (562)
    سُورَةُ الْقَلَمِ
    صـ 255 إلى صـ 262


    قوله تعالى : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم

    لم يبين هنا من هو صاحب الحوت ، ولا نداءه وهو مكظوم ، ولا الوجه المنهي عنه أن يكون مثله ، وقد بين تعالى صاحب الحوت في ( الصافات ) في قوله تعالى : وإن يونس [ ص: 255 ] لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون . إلى قوله : فالتقمه الحوت وهو مليم

    [ 37 \ 139 - 142 ] .

    وأما النداء ، فقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : قد بينه تعالى في سورة ( الأنبياء ) عند قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 21 \ 87 - 88 ] .

    فصاحب الحوت هو يونس ، ونداؤه هو المذكور في الآية ، وحالة ندائه وهو مكظوم .

    أما الوجه المنهي عن أن يكون مثله : فهو الحال الذي كان عليه عند النداء ، وهو في حالة غضبه ، وهو مكظوم ، وهذا بيان لجانب من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتخلقه في قوله تعالى : فاصبر أي : على إيذاء قومك ، ولعل هذا من خصائص وخواص توجيهات الله إليه ، كما في قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله [ 16 \ 126 - 127 ] إلى آخر الآية ، فقد بين تعالى خلقا فاضلا عاما للأمة : في حسن المعاملة والصفح .

    ثم خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : واصبر أي : لا تعاقب انتقاما ولو بالمثلية ولكن اصبر ، وقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - مصداق ذلك ; في رجوعه من ثقيف حينما آذوه ، وجاءه جبريل - عليه السلام - ، ومعه ملك الجبال يأتمر بأمره ، إلى أن قال : ( لا ، اللهم اهد قومي ; فإنهم لا يعلمون . . إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله ) . فقد صفح وصبر ، ورجى من الله إيمان من يخرج من أصلابهم .

    وهذا أقصى درجات الصبر والصفح ، وأعظم درجات الخلق الكريم .
    قوله تعالى : لنبذ بالعراء وهو مذموم .

    بين تعالى أنه لم ينبذ بالعراء على صفة مذمومة ، بل إنه تعالى أنبت عليه شجرة تظله وتستره ، كما في قوله تعالى : وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [ 37 \ 146 ] .
    قوله تعالى : فاجتباه ربه فجعله من الصالحين

    [ ص: 256 ] بينه تعالى بقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] .
    قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين

    فيه عود آخر السورة على أولها . وأن الكفار إذا سمعوا الذكر شخصت أبصارهم نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويرمونه بالجنون . والرد عليهم : بأن هذا الذي سمعوه ليس بهذيان المجنون ، وما هو إلا ذكر للعالمين ، وفيه ترجيح القول : بأن المراد بنعمة ربك في أول السورة ، إنما هي ما أوحاه إليه من الذكر .
    [ ص: 257 ]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْحَاقَّةِ .

    قوله تعالى : الحاقة ما الحاقة .

    ( الحاقة ) : من أسماء القيامة ، وجاء بعدها كذبت ثمود وعاد بالقارعة [ 69 \ 4 ] . وهي من أسماء القيامة أيضا ، كما قال تعالى : وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث الآية [ 101 \ 3 - 4 ] .

    سميت بالحاقة; لأنه يحق فيها وعد الله بالبعث والجزاء ، وسميت بالقارعة ; لأنها تقرع القلوب بهولها : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى [ 22 \ 2 ] .

    كما سميت : الواقعة ليس لوقعتها كاذبة [ 56 \ 1 - 2 ] .
    قوله تعالى : كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية

    والطاغية فاعلة من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد مطلقا ، كقوله : إنا لما طغى الماء [ 69 \ 11 ] .

    وقوله : إن الإنسان ليطغى [ 96 \ 6 ] .

    وقد اختلف في معنى الطغيان هنا ، فقال قوم : طاغية : عاقر الناقة ، كما في قوله تعالى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها [ 91 \ 11 - 12 ] ، فتكون الباء سببية ، أي : بسبب طاغيتها ، وقيل : الطاغية : الصيحة الشديدة التي أهلكتهم ، بدليل قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] ، فتكون الباء آلية ، كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين .

    والذي يشهد له القرآن هو المعنى الثاني ; لقوله تعالى : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 44 ] . وقيل : لا مانع من إرادة المعنيين ; لأنهما متلازمان تلازم المسبب للسبب ; لأن الأول سبب الثاني لما كانوا بعيدا ، ويشير إليه قوله تعالى : فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة .

    [ ص: 258 ] فالعتو هو الطغيان في الفعل ، والصاعقة هي الصيحة الشديدة ، وقد ربط بينهما بالفاء .
    قوله تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، بيان ذلك عند قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] المتقدم في فصلت ، وفي هذا التفصيل لكيفية إهلاك عاد وثمود بيان لما أجمل في سورة ( الفجر ) ، في قوله تعالى : فصب عليهم ربك سوط عذاب [ 89 \ 13 ] .
    قوله تعالى : وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة

    المؤتفكات : المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفصيل ذلك ، عند قوله تعالى في ( هود ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها الآية [ 11 \ 82 ] .

    وفي ( النجم ) عند قوله تعالى : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] .

    تنبيه .

    نص تعالى هنا أن فرعون ومن قبله ، والمؤتفكات جاءوا بالخاطئة ، وهي : فعصوا رسول ربهم [ 69 \ 10 ] ، وكذلك عاد وثمود كذبوا بالقارعة . فالجميع اشترك في الخاطئة ، وهي عصيان الرسول فعصى فرعون الرسول [ 73 \ 16 ] ، ولكنه قد أخذهم أخذة رابية .

    ونوع في أخذهم ذلك : فأغرق فرعون وقوم نوح ، وأخذ ثمود بالصيحة ، وعادا بريح ، وقوم لوط بقلب قراهم ، كما أخذ جيش أبرهة بطير أبابيل ، فهل في ذلك مناسبة بين كل أمة وعقوبتها ، أم أنه للتنويع في العقوبة; لبيان قدرته تعالى وتنكيله بالعصاة لرسل الله .

    الواقع أن أي نوع من العقوبة فيه آية على القدرة ، وفيه تنكيل بمن وقع بهم ، ولكن تخصيص كل أمة بما وقع عليها يثير تساؤلا ، ولعل مما يشير إليه القرآن إشارة خفيفة هو [ ص: 259 ] الآتي .

    أما فرعون ، فقد كان يقول : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [ 43 \ 51 ] ، فلما كان يتطاول بها جعل الله هلاكه فيها ، أي : في جنسها .

    وأما قوم نوح ، فلما يئس منهم بعد ألف سنة إلا خمسين عاما ، وأصبحوا لا يلدون إلا فاجرا كفارا ، فلزم تطهير الأرض منهم ، ولا يصلح لذلك إلا الطوفان .

    وأما ثمود ، فأخذوا بالصيحة الطاغية ، لأنهم نادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ، فلما كان نداؤهم صاحبهم سببا في عقر الناقة ، كان هلاكهم بالصيحة الطاغية .

    وأما عاد ، فلطغيانهم بقوتهم ، كما قال تعالى فيهم : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد [ 89 \ 6 - 8 ] ، وسواء عماد بيوتهم وقصورهم ، فهو كناية عن طول أجسامهم ، ووفرة أموالهم ، وتوافر القوة عندهم ، فأخذوا بالريح ، وهو أرق وألطف ما يكون ، مما لم يكونوا يتوقعون منه أية مضرة ولا شدة .

    وكذلك جيش أبرهة ، لما جاء مدل بعدده وعدته ، وجاء معه بالفيل أقوى الحيوانات ، سلط الله عليه أضعف المخلوقات : الطيور وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل [ 105 \ 3 - 4 ] .

    أما قوم لوط ، فلكونهم قلبوا الأوضاع بإتيان الذكور دون الإناث ، فكان الجزاء من جنس العمل ، قلب الله عليهم قراهم . والعلم عند الله تعالى .

    ولا شك أن في ذلك كله تخويفا لقريش .
    قوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة

    تقدم بيانه للشيخ - رحمه الله - في سورة ( الكهف ) عند قوله تعالى : ويوم نسير الجبال [ 18 \ 47 ] .
    قوله تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية

    تقدم بيانه للشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] .
    [ ص: 260 ] قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه

    تقدم للشيخ - رحمه الله - بيان قضية أخذ الكتب وحقيقتها ، عند قوله تعالى : ووضع الكتاب [ 18 \ 49 ] في سورة ( الكهف ) .

    وكذلك بحثها في كتابه دفع إيهام الاضطراب ، وبيان القسم الثالث من وراء ظهره ، وفي هذا التفصيل في حق الكتاب والكتابة وتسجيل الأعمال وإيتائها بنصوص صريحة واضحة ، كقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] .

    وقولهم صراحة : ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [ 18 \ 49 ] .

    وقوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .

    وقوله : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] ، فهو كتاب مكتوب ينشر يوم القيامة يقرؤه كل إنسان بنفسه ، مما يرد قول من يجعل أخذ الكتاب باليمين أو الشمال كناية عن اليمن والشؤم . وهذا في الواقع إنما هو من شؤم التأويل الفاسد ، وبدون دليل عليه ، والمسمى عند الأصوليين باللعب . نسأل الله السلامة والعافية .
    قوله تعالى : إنى ظننت أنى ملاق حسابيه

    والظن واسطة بين الشك والعلم ، وقد يكون بمعنى العلم إذا وجدت القرائن ، وتقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي : علموا بقرينة قوله : ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] ، وهو هنا بمعنى العلم ; لأن العقائد لا يصلح فيها الظن ، ولا بد فيها من العلم والجزم .

    وقد دل القرآن على أن الظن قد يكون بمعنى العلم ، بمفهوم قوله تعالى : إن بعض الظن إثم [ 49 \ 12 ] ، فمفهومه أن بعضه ليس إثما ، فيكون حقا ، وكذلك قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 46 ] .
    قوله تعالى : ما أغنى عني ماليه .

    [ ص: 261 ] قيل في ( ما ) : إنها استفهامية ; بمعنى أي شيء أغنى عني ماليه ، والجواب : لا شيء ، وقيل : نافية ، أي : لم يغن عني ماليه شيئا في هذا اليوم ، ويشهد لهذا المعنى الثاني قوله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] .

    وقوله : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله علينا وعليه - في سورة ( الكهف ) على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي [ 18 \ 36 ] .

    وفي سورة ( الزخرف ) عند قوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا الآية [ 43 \ 36 ] .
    قوله تعالى : هلك عني سلطانيه

    أي : لا سلطان ولا جاه ولا سلطة لأحد في ذلك اليوم ، كما في قوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [ 18 \ 48 ] : حفاة عراة .

    وقوله : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] .
    قوله تعالى : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين

    فيه عطف عدم الحض على طعام المسكين ، على عدم الإيمان بالله العظيم ، مما يشير إلى أن الكافر يعذب على الفروع .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث هذه المسألة في أول سورة ( فصلت ) عند قوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة [ 41 \ 6 - 7 ] ، وكنت سمعت منه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - قوله : كما أن الإيمان يزيد بالطاعة ، والمؤمن يثاب على إيمانه وعلى طاعته ، فكذلك الكفر يزداد بالمعاصي . ويجازى الكافر على كفره وعلى عصيانه ، كما في قوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] .

    فعذاب على الكفر وعذاب على الإفساد ، ومما يدل لزيادة الكفر ، قوله تعالى : إن [ ص: 262 ] الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ 3 \ 90 ] ، وتقدم للشيخ - رحمه الله - مبحث زيادة العذاب عند آية ( النحل ) .
    قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم

    إضافة القول إلى الرسول الكريم على سبيل التبليغ ، كما جاء بعدها ، قوله تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 43 ] والرسول يحتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل جبريل ، وقد جاء في حق جبريل قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [ 81 \ 19 - 21 ] .

    وهنا المراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقرينة قوله تعالى : وما هو بقول شاعر [ 69 \ 41 ] وما عطف عليه ; لأن من اتهم بذلك هو الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فنفاه ذلك عنه ، فيكون في ذلك كله إثبات الصفة الكريمة لسند القرآن من محمد عن جبريل عن الله ، وقد أشار لذلك في الآية الأولى في قوله : مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 21 - 22 ] .

    فأثبت السلامة والعدالة لرسل الله في تبليغ كلام الله ، وفي هذا رد على قريش ما اتهمت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وفيه أيضا الرد على الرافضة دعواهم التغيير أو النقص في القرآن .



  4. #564
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (563)
    سُورَةُ الْقَلَمِ
    صـ 263 إلى صـ 270


    قوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى ، وهو على ظاهره عند الكلام على قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا الآية [ 46 \ 8 ] ، وهو على سبيل الافتراض بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وقد استبعد أبو حيان أن يكون الضمير في ( تقول ) راجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لاستحالة وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - .

    وقال : إنها قرئت بالمبني للمجهول ورفع ( بعض ) ، وقال : وعلى قراءة الجمهور يكون فاعل ( تقول ) مقدرا تقديره : ولو تقول علينا متقول ، وقد ذكر تلك القراءة كل من القرطبي والكشاف ، ولكن لم يذكرها ابن كثير ولا الطبري ولا النيسابوري ممن يعنون بالقراءات ، مما يجعل في صحتها نظرا ، فلو صحت لكانت موجهة ولكن ما استبعده أبو [ ص: 263 ] حيان ، ومنعه بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو في الواقع صحيح ، ولكن على سبيل الافتراض فليس ممنوعا ، وقد جاء الافتراض في القرآن فيما هو أعظم من ذلك .

    كما في قوله تعالى قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] ، وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، والنص الصريح في الموضوع ما قاله الشيخ : في قوله تعالى قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا [ 46 \ 8 ] .
    قوله تعالى : وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم

    في هذا نفي كل باطل : من شعر أو كهانة أو غيرها ، ولكل نقص أو زيادة .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان إضافة الحق لليقين ، ومعنى التسبيح باسم ربك عند آخر سورة ( الواقعة ) ، وحق اليقين هو منتهى العلم ، إذ اليقين ثلاث درجات :

    الأولى : علم اليقين .

    والثانية : عين اليقين .

    والثالثة : حق اليقين ، كما في التكاثر كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 5 - 7 ] فهاتان درجتان ، والثالثة إذا دخلوها كان حق اليقين ، ومثله في الدنيا : العلم بوجود الكعبة والتوجه إليها في الصلاة ، ثم رؤيتها عين اليقين ، ثم بالدخول فيها يكون حق اليقين ، وكما نسبح الله وهو تنزيهه ، فكذلك ننزه كلامه ; لأنه صفة من صفاته .
    [ ص: 264 ]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْمَعَارِجِ .

    قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع

    المعلوم أن مادة سأل لا تتعدى بالباء ، كتعديها هنا . ولذا قال ابن كثير : إن الفعل ضمن معنى فعل آخر يتعدى بالباء وهو مقدر : ما استعجل ، واستدل لذلك بقوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب [ 29 \ 53 ] ، وذكر عن مجاهد : أن سأل بمعنى دعا .

    واستدل له بقوله تعالى عنهم : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وذكر هذا القول ابن جرير أيضا عن مجاهد .

    وقرئ ( سال ) بدون همزة من السيل ، ذكرها ابن كثير وابن جرير ، وقالوا : هو واد في جهنم ، وقيل : مخفف ( سأل ) اهـ .

    ولعل مما يرجح قول ابن جرير أن الفعل ضمن معنى مثل آخر قوله تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها الآية [ 42 \ 18 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [ 8 \ 32 ] ، وأحال على سورة ( سأل ) وقال : وسيأتي زيادة إيضاح إن شاء الله .

    وقد بين هناك : أن قولهم يدل على جهالتهم ; حيث لم يطلبوا الهداية إليه إن كان هو الحق .

    وحيث إنه - رحمه الله - أحال على هذه السورة لزيادة الإيضاح ; فإن المناسب إنما هو هذه الآية : ( سأل سائل ) بمعنى : استعجل أو دعا ; لوجود الارتباط بين آية ( سأل ) وآية : اللهم إن كان هذا هو الحق المذكورة . فإنهما مرتبطان بسبب النزول .

    [ ص: 265 ] كما قال ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى : سأل سائل ، قال : دعا داع ( بعذاب واقع ) . قال : هو قولهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا الآية . والقائل هو النضر بن الحارث بن كلدة .

    والإيضاح المنوه عنه يمكن استنتاجه من هذا الربط ، ومن قوله - رحمه الله - : إنه يدل على جهالتهم ، وبيان ما إذا كان هذا العذاب الواقع هل وقوعه في الدنيا أم يوم القيامة ؟ .

    والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن جهالة قريش دل عليها العقل والنقل ; لأن العقل يقضي بطلب النفع ودفع الضر كما قيل :

    لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ساعيا .

    وأما النقل ; فلأن مما قص الله علينا : أن سحرة فرعون وقد جاءوا متحدين غاية التحدي لموسى - عليه السلام - ، ولكنهم لما عاينوا الحق ، قالوا : آمنا ، وخروا سجدا ولم يكابروا ، كما قص الله علينا من نبئهم في كتابه ، قال تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ولما اعترض عليهم فرعون ، وقال : آمنتم له قبل أن آذن لكم إلى آخر كلامه ، قالوا وهو محل الشاهد هنا : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ) ولم يبالوا بوعيده ولا بتهديده . وقالوا في استخفاف : ( فاقض ما أنت قاض ) [ 20 \ 70 - 72 ] ، فهم لما عاينوا البينات خروا سجدا وأعلنوا إيمانهم ، وهؤلاء كفار قريش يقولون مقالتهم تلك .

    أما وقوع العذاب المسئول عنه ; فإنه واقع بهم يوم القيامة ، وإنما عبر بالمضارع الدال على الحال ; للتأكيد على وقوعه ، وكأنه مشاهد ، وقاله الفخر الرازي ، وقال : هو نظير قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] .
    وفي قوله تعالى للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج دليل على تأكيد وقوعه ; لأن ما ليس له دافع لا بد من وقوعه . أما متى يكون فقد دلت آية ( الطور ) نظيرة هذه أن ذلك سيكون يوم القيامة في قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 7 - 8 ] ، ثم بين ظرف وقوعه : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، وفي سياق هذه السورة في قوله تعالى : يوم تكون [ ص: 266 ] السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم إلى قوله تعالى : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى [ 70 \ 8 - 18 ] ; فإنها كلها من أحوال يوم القيامة ، فدل بذلك على زمن وقوعه . ولعل في قوله تعالى : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى ردا على أولئك المستخفين بالعذاب المستعجلين به ; مجازاة لهم بالمثل ، كما دعوا وطلبوا لأنفسهم العذاب استخفافا ; فهي تدعوهم إليها زجرا وتخويفا ، مقابلة دعاء بدعاء ، أي : إن كنتم في الدنيا دعوتم بالعذاب فهذا هو العذاب يدعوكم إليه تدعوا من أدبر عن سماع الدعوة ، وأعرض عنها وتولى ، وهذا الرد بهذه الصفات التي قبله من تغيير السماء كالمهل ، وتسيير الجبال كالعهن ، وتقطع أواصر القرابة من الفزع والهول مما يخلع القلوب ، كما وقع بالفعل في الدنيا ، كما ذكر القرطبي قصة جبير بن مطعم .

    قال : قدمت المدينة لأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر ، فسمعته يقرأ : والطور وكتاب مسطور إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 1 - 8 ] ، فكأنما صدع قلبي فأسلمت ; خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب .

    وذكر القرطبي أيضا عن هشام بن حسان ، قال : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن ، وعنده رجل يقرأ : ( والطور ) حتى بلغ : إن عذاب ربك لواقع ، فبكى الحسن وبكى أصحابه ، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه .

    وذكر ابن كثير عن عمر - رضي الله عنه - : أنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة ، إذ سمع رجلا يقرأ بالطور; فربا لها أعيد منها عشرين ليلة ، فكان هذا الوصف المفزع ردا على ذاك الطلب المستخف . والله تعالى أعلم . ونأمل أن نكون قد وفينا الإيضاح الذي أراده - رحمه الله تعالى - .
    قوله تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

    في هذه الآية الكريمة مقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة ، وجاءت آيات أخر بأنه ألف سنة في قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، وقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة [ 32 \ 5 ] [ ص: 267 ] فكان بينهما مغايرة في المقدار بخمسين مرة .

    وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه المسألة في كتاب دفع إيهام الاضطراب ، وفي الأضواء في سورة ( الحج ) عند الكلام على قوله تعالى : وإن يوما عند ربك الآية [ 22 \ 47 ] .

    ومما ينبغي أن يلاحظ أن الأيام مختلفة : ففي ( سأل ) هو يوم عروج الروح والملائكة ، وفي سورة ( السجدة ) هو يوم عروج الأمر ; فلا منافاة .
    قوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل

    المهل : دريدي الزيت ، وقيل غير ذلك .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة ( الرحمن ) عند الكلام على قوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ 55 \ 37 ] .
    قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن

    العهن : الصوف ، وجاء في آية أخرى وصف العهن بالمنفوش في قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، وجاءت لها عدة حالات أخرى : كالكثيب المهيل ، وكالسحاب .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان كل ذلك عند قوله تعالى : ويوم نسير الجبال [ 18 \ 47 ] في سورة ( الكهف ) .
    قوله تعالى : ولا يسأل حميم حميما

    الحميم : القريب والصديق والولي الموالي ، كما في قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .

    وفي هذه الآية الكريمة : أنه في يوم القيامة لا يسأل حميم حميما ، مع أنهم يبصرونهم بأبصارهم . وقد بين تعالى موجب ذلك وهو اشتغال كل إنسان بنفسه ، كما في قوله تعالى : [ ص: 268 ] لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 37 ] ، وكل يفر من الآخر يقول : نفسي نفسي ، كما في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 34 - 37 ] .

    وقد جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث الشفاعة ; كل نبي يقول : نفسي نفسي ، وجاء قوله تعالى : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، وليس بعد ذلك من فزع إلا المؤمنون : وهم من فزع يومئذ آمنون [ 27 \ 89 ] ، جعلنا الله تعالى منهم . آمين .
    قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا

    الهلوع : فعول من الهلع صيغة مبالغة ، والهلع ، قال في الكشاف : شدة سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير ، وقد فسره الله في الآية إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [ 70 \ 20 - 21 ] .

    ولفظ : ( الإنسان ) هنا مفرد ، ولكن أريد به الجنس ، أي : جنس الإنسان في الجملة ; بدليل استثناء المصلين بعده في قوله تعالى : إلا المصلين [ 70 \ 22 ] ، ومثله قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ 103 \ 1 - 3 ] ونظيره كثير .

    وقد قال ابن جرير : إن هذا الوصف بالهلع في الكفار ، ويدل لما قاله أمران :

    الأول : تفسيره في الآية واستثناء المصلين وما بعده منه ; لأن تلك الصفات كلها من خصائص المؤمنين ، ولذا عقب عليهم بقوله : أولئك في جنات مكرمون [ 70 \ 35 ] ، ومفهومه أن المستثنى منه على خلاف ذلك .

    والثاني : الحديث الصحيح : " عجبا لأمر المؤمن ! شأنه كله خير : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن " ، فمفهومه أن غير المؤمنين بخلاف ذلك ، وهو الذي ينطبق عليه الوصف المذكور في الآية : أنه هلوع .
    قوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون

    وصف الله تعالى من استثناهم من الإنسان الهلوع بتسع صفات :

    [ ص: 269 ] اثنتان منها تختص بالصلاة ، وهما الأولى والأخيرة ; مما يدل على أهمية الصلاة ، ووجوب شدة الاهتمام بها . وهذا من المسلمات في الدين ; لمكانتها من الإسلام ، وفي وصفهم هنا بأنهم : ( على صلاتهم دائمون ) ، وفي الأخير : ( على صلاتهم يحافظون ) [ 70 \ 34 ] .

    قال في الكشاف : الدوام عليها المواظبة على أدائها لا يخلون بها ، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل .

    وذكر حديث عائشة مرفوعا : " أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل " .

    ويشهد لهذا الذي قاله قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما [ 24 \ 36 - 37 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ 62 \ 9 ] .

    قال : والمحافظة عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ، وهذا يشهد له قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 1 - 2 ] .

    وحديث المسيء صلاته ، حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - : " ارجع فصل ; فإنك لم تصل " ، فنفى عنه أنه صلى مع إيقاعه الصلاة أمامه ; وذلك لعدم الحفاظ عليها بتوفيتها حقها .

    وقد بدأ الله أولئك المستثنين وختمهم بالصلاة ، مما يفيد أن الصلاة أصل لكل خير ، ومبدأ لهذا المذكور كله ; لقوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ 2 \ 45 ] ، فهي عون على كل خير .

    ولقوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، فهي سياج من كل منكر ، فجمعت طرفي المقصد شرعا ، وهما العون على الخير والحفاظ من الشر ، أي : جلب المصالح ودرء المفاسد ; ولذا فقد عني بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كل عنايتها ، كما هو معلوم ، إلى الحد الذي جعلها الفارق والفيصل بين الإسلام والكفر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " العهد الذي بيننا [ ص: 270 ] وبينهم الصلاة ، من ترك الصلاة فقد كفر " .

    واتفق الأئمة - رحمهم الله - على قتل تاركها . وكلام العلماء على أثر الصلاة على قلب المؤمن وروحه وشعوره ، وما تكسبه من طمأنينة وارتياح ، كلام كثير جدا توحي به كله معاني سورة ( الفاتحة ) .
    قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم

    هذا هو الوصف الثاني ، ويساوي إيتاء الزكاة ; لأن الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض ، وهو قول أكثر المفسرين . ولا يمنع أن السورة مكية ; فقد يكون أصل المشروعية بمكة ، ويأتي التفصيل بالمدينة ، وهو في السنة الثانية من الهجرة ، وهنا إجمال في هذه الآية .

    الأول : في الأموال .

    والثاني : في الحق المعلوم . أي : القدر المخرج ، ولم تأت آية تفصل هذا الإجمال إلا آية : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، وقد بينت السنة هذا الإجمال .

    أما الأموال ، فهي لإضافتها تعم كل أموالهم ، وليس للأمر كذلك ، فالأموال الزكوية بعض من الجميع ، وأصولها عند جميع المسلمين هي :

    أولا : النقدان : الذهب والفضة .

    ثانيا : ما يخرج من الأرض من حبوب وثمار .

    ثالثا : عروض التجارة .

    رابعا : الحيوان ، ولها شروط وأنصباء . وفي كل من هذه الأربعة تفصيل ، وفي الثلاثة الأولى بعض الخلاف .


  5. #565
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (564)
    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    صـ 271 إلى صـ 278


    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان كل ما يتعلق بأحكامها جملة وتفصيلا عند آيتي : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] وقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ 63 \ 141 ] ، ولم يتقدم ذكر لزكاة الحيوان [ ص: 271 ] ولا زكاة الفطر ، وعليه نسوق طرفا من ذلك لتفصيل النصاب في كل منها ، وما يجب في النصاب ، وما تدعو الحاجة لذكره من مباحث في ذلك كالخلطة مثلا ، والصفات في المزكى ، والراجح فيما اختلف فيه ، ثم نتبع ذلك بمقارنة بين هذه الأنصباء في بهيمة الأنعام وأنصباء الذهب والفضة ; لبيان قوة الترابط بين الجميع ، ودقة الشارع في التقدير .

    أولا : بيان النوع الزكوي من الحيوان .

    اعلم - رحمنا الله وإياك - : أن مذهب الجمهور : أنه لا زكاة في الحيوان إلا في بهيمة الأنعام الثلاثة : الإبل ، والبقر ، والغنم ، الضأن والمعز سواء . وألحق بالبقر الجواميس ، والإبل تشمل العراب والبخاتي ، والخلاف في الخيل .

    ولأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - دليل أبي حنيفة - رحمه الله - استدل لوجوب الزكاة في الخيل بالقياس في حملها على الأصناف الثلاثة الأخرى ، إذا كانت للنسل أي : كانت ذكورا وإناثا ، بخلاف ما إذا كانت كلها ذكورا بجامع التناسل في كل واشترط لها السوم أيضا .

    وبحديث : " ما من صاحب ذهب لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار ، فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره " الحديث . وفيه ذكر الأموال الزكوية كلها ، والإبل ، والبقر ، والغنم . فقالوا : والخيل يا رسول الله ؟ فقال " الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، ولرجل وزر . أما التي لرجل أجر : فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة " إلى آخر ما جاء في هذا القسم . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر . ورجل ربطها رياء وفواء لأهل الإسلام ; فهي على ذلك وزر .

    فقال - رحمه الله - : إن حق الله في رقابها وظهورها هو الزكاة . وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد ، ووافقه زفر ، وبما رواه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر مرفوعا " في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم " .

    أدلة الجمهور على عدم [ ص: 272 ] وجوب الزكاة فيها والرد على أدلة أبي حنيفة - رحمه الله - :

    واستدل الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " .

    والفرس اسم جنس يعم ، وبعدم ذكرها مع بقية الأجناس الأخرى حتى سئل عنها - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كانت مثلها في الحكم لما تركها في الذكر .

    وحديث " قد عفوت عن الخيل ; فهاتوا زكاة الرقة " . رواه أبو داود .

    وأجابوا على استدلال أبي حنيفة ، بأن حق الله في رقابها ، وظهورها إعارتها ، وطرقها إذا طلب ذلك منه .

    كما أجابوا على حديث جابر بما نقله الشوكاني والدارقطني من أنه : لا تقوم به حجة .

    ورد أبو حنيفة على دليل الجمهور : بأن فرسه مجمل ، وهو يقول بالحديث إذا كان الفرس للخدمة . أما إذا كانت الخيل للتناسل ، فقد خصها القياس ، وعلى حديث ( عفوت عن الخيل ) بأنه لم يثبت ، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات ، فقد ذكر الشوكاني أنه حسن .

    ولعل مما يرد استدلال أبي حنيفة نفس الحديث الذي استدل به من قرينة التقسيم ، إذا أناط الأجر فيها بالجهاد عليها ، ولم يذكر الزكاة ، مع أن الزكاة قد تكون ألزم من الأجر أو أعم من الجهاد ; لأنها تكون لمن لا يستطيع الجهاد : كالمرأة مثلا فتزكي ; فلو كانت فيها الزكاة لما خرجت عن قسم الأجر .

    ثانيا : لو كان حق الله في المذكور هو الزكاة لما ترك لمجرد تذكرها وخيف تعرض للنسيان ; لأن زكاة الأصناف الثلاثة الأخرى لم تترك لذلك بل يطالب بها صاحبها ، ويأتي العامل فيأخذها ، وإن امتنع صاحبها أخذت جبرا عليه ، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور في عدم الوجوب .

    ومن ناحية أخرى ، فقد اختلف القول عن أبي حنيفة - رحمه الله - فيما تعامل به ، وفيما يخرج في زكاتها ، فقيل : إنه مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو عشرة دراهم ، وبين أن يقومها ويدفع عن كل مائتي درهم خمسة دراهم .

    وقد جعل الأحناف زكاتها لصاحبها ، ولا دخل للعامل فيها ، ولا يجبر الإمام عليها ، [ ص: 273 ] وقد أطال في الهداية الكلام عليها ، ولعل أحسن ما يقال في ذلك ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - في سنن الدارقطني ، قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر - رضي الله عنه - ، فقالوا : إنا قد أصبنا أموالا وخيلا ورقيقا ، وإنا نحب أن نزكيه ، فقال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا ، ثم استشار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : حسن ، وسكت علي ، فسأله ، فقال : هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك . فأخذ من الفرس عشرة دراهم ، وفيه : فوضع على الفرس دينارا .

    وفي المنتقى عن أحمد - رحمه الله - أنهم قالوا : نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور ، فهي إذا دائرة بين الاستحباب والترك .

    وقد جاء في نفس الحديث الطويل المتقدم أنهم قالوا : والحمر يا رسول الله ؟ فقال " ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] رواه الستة إلا الترمذي .

    وعليه ; فإن الأحاديث التي هي نص في الوجوب أو للترك لم تصلح للاحتجاج ، والحديث الذي فيه الاحتمال في معنى حق الله في ظهورها ورقابها ، قال ابن عبد البر : إنه مجمل ، فلم يكن في النصوص المرفوعة متمسك للأحناف في قولهم : بوجوب زكاة الخيل ، وبقي مفهوم الحديث ، وقول عمر - رضي الله عنه - .

    أما مفهوم الحديث ; فقد أشرنا إلى القرائن التي فيه على عدم الوجوب .

    وأما فعل عمر - رضي الله عنه - ففيه قرائن أيضا ، بل أدلة على عدم الوجوب ، وهي :

    أولا : لأنهم هم الذين طلبوا منه أن يزكيها ويطهرها بالزكاة ، وإيجاب الزكاة لا يتوقف على رغبة المالك .

    ثانيا : توقف عمر وعدم أخذها منهم لأول مرة ، ولو كانت معلومة له مزكاة لما خفيت عليه ولما توقف .

    ثالثا : تصريحه بأنه لم يفعله صاحباه من قبله ، فكيف يفعله هو ؟ ! .

    رابعا : قول علي : ما لم تكن جزية من بعدك . أي : إن أخذها عمر استجابة لرغبة أولئك فلا بأس لتبرعهم بها ، ما لم يكن ذلك سببا لجعلها لازمة على غيرهم فتكون كالجزية على المسلمين .

    ومما يستدل به للجمهور حديث : " قد عفوت عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة [ ص: 274 ] أموالكم " . رواه أبو داود .

    قال الشوكاني بإسناد حسن : وهذا ما يتفق مع حديث : " ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده " رواه الجماعة .

    وقد أجاب الأحناف على تردد عمر : بأن الخيل لم تكن تعرف سائمة للنسل عند العرب ، ولكنها ظهرت بعد الفتوحات في عهد عمر . وفي هذا القول نظر . وعليه فلا دليل على وجوب الزكاة في الخيل فتبقى على البراءة الأصلية ، ولهذا لم يأت للخيل ذكر في كتاب أنصباء بهيمة الأنعام ، ولا يرد عليه أن البقر لم يأت ذكرها أيضا فيه ; لأن زكاة البقر جاءت فيها نصوص متعددة لأصحاب السنن .

    وللبخاري وغيره بيان أنصباء الزكاة وما يؤخذ فيها : معلوم أنه لم يأت نص من كتاب الله يفصل ذلك ، ولكن تقدم في مقدمة الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أن من أنواع البيان بيان القرآن بالسنة ، وهو نوع من بيان القرآن ; لقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] .

    وقد بينت السنة أركان الإسلام : كعدد الركعات وأوقات الصلوات مفصلة ومناسك الحج .

    فكذلك بينت السنة مجمل هذا الحق ، وفي أي أنواع الأموال ، وإن أجمع نص في ذلك هو كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه وقرنه بسيفه ، وقد عمل به أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ومضى عليه العمل فيما بعد .

    وقد رواه الجماعة عن أنس - رضي الله عنه - ، قال أرسل إلي أبو بكر كتابا ، وكان نقش الخاتم عليه : " محمد " سطر ، و " رسول " سطر ، و " الله " سطر :

    بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطه : في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة ، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض ، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون ، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل ، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين [ ص: 275 ] ففيها بنتا لبون ، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل ، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون ، وفي كل خمسين حقة ، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة .

    وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين فيها شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه ، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة .

    فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة ، واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فلا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية
    . الحديث .

    فقد بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الكتاب أنصباء الإبل والغنم وما يجب في كل منهما ، ولم يتعرض لأنصباء البقر ، ولكن بين أنصباء البقر حديث معاذ عند أصحاب السنن .

    قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثني إلى اليمن ، ألا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين ، فإذا بلغت : ففيها عجل تبيع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة .

    ولهذين النصين الصحيحين يكتمل بيان أنصباء بهيمة الأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم . وهو الذي عليه الجمهور وعليه العمل .

    وما روي عن سعيد بن المسيب : في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع ، فلم يعمل به أحد .
    تنبيه .

    وليس في الوقص في بهيمة الأنعام زكاة ، والوقص هو ما بين كل نصاب والذي يليه ، كما بين الخمسة والتسعة من الإبل ، وما بين الأربعين والعشرين ومائة من الغنم ، وما بين الثلاثين والأربعين من البقر ، وهذا باتفاق ، إلا خلاف للأحناف في وقص البقر فقط ، والصحيح هو مذهب الجمهور في الجميع ; لحديث معاذ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة " ، فمفهومه أنه لا زكاة بعد الثلاثين حتى تبلغ أربعين ، فما بين [ ص: 276 ] الثلاثين والأربعين لا زكاة فيه .

    وأبو حنيفة يقول فيه بنسبة من التبيع ، وقد اشترط لزكاة بهيمة الأنعام النسل والسوم ، وأنه لا زكاة في المعلوفة ، ولا التي للعمل : كالإبل للحمل عليها ، والبقر للحرث ، ونحو ذلك .

    وقال مالك : في المعلوفة وفي العوامل الزكاة ، قال في الموطإ ما نصه : في الإبل النواضح والبقر السواقي وبقر الحرث ; إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله إذا وجبت فيه الصدقة . واستدلوا لمالك في ذلك بأمرين :

    الأول : من جهة النصوص .

    والثاني : من جهة المعنى .

    أما النصوص ; فما جاء عاما في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - في أنصباء الزكاة في أربع وعشرين من الإبل فما دونه الغنم ، في كل خمس شاة ، لعمومه في السائمة والمعلوفة . هذا في الإبل ، وكذلك في الغنم في كل أربعين شاة شاة ، أي : بدون قيد السوم .

    وأما من جهة المعنى : فقال الباجي : إن كثرة النفقات وقلتها إذا أثرت في الزكاة ; فإنها تؤثر في تخفيفها وتثقيلها ولا تؤثر في إسقاطها ولا إثباتها : كالخلطة ، والتفرقة ، والسقي ، والنضح ، والسبح ، ولا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا تخفيف النفقة وتثقيلها .

    وأما التمكن من الانتفاع بها فعلى حد واحد لا يمنع علفها من الدر والنسل ، ورد الجمهور على أدلة مالك أيضا بأمرين :

    الأول : من جهة النصوص .

    والثاني : من جهة المعنى .

    أما النصوص : فما جاء من الإبل في حديث بهز بن حكيم ، وفيه : " في كل أربعين من الإبل سائمة ابنة لبون " رواه أبو داود ، والنسائي ، وغيرهما .

    وفي الغنم حديث : " في سائمة الغنم الزكاة " وهو حديث صحيح .

    وفي كتاب أبي بكر وعمر ، فقالوا : جاء قيد السوم في الحديثين ، وأدلة مالك مطلقة ; ويحمل المطلق على المقيد كما هو معلوم .

    [ ص: 277 ] ومما يدل على رجحان أدلة الجمهور : أن في حديث الغنم جاء المطلق في بيان العدد في كل أربعين شاة شاة ، فهو لبيان النصاب أكثر منه لبيان الوصف .

    وحديث : " في سائمة الغنم الزكاة " : لبيان محل الوجوب أكثر منه لبيان العدد ، ومن جهة أخرى يعتبر الحديثان مترابطين ، وأن كلا منهما عام من وجه ، خاص من وجه آخر ، فحديث : " في سائمة الغنم الزكاة " عام في الغنم بدون عدد ، خاص في السائمة .

    وحديث : " في كل أربعين شاة شاة " . عام في الشياه ، خاص بالأربعين . فيخصص عموم كل منهما بخصوص الآخر ، فيقال : في سائمة الغنم الزكاة إذا بلغت أربعين ، ويقال : في كل أربعين شاة شاة إذا كانت سائمة ، وبهذا تلتئم الأدلة في الإبل والغنم ; لاشتراط السوم وتحديد العدد .

    أما البقر : فقد حكي الإجماع على اعتبار السوم ، ومن أدلة الجمهور من جهة المعنى أن السوم والنسل للنماء ، فيحتمل المواساة ، أما المعلوفة والعوامل فليست تحتمل المواساة . ومما تقدم يترجح قول الجمهور في اشتراط السوم والنسل . والله تعالى أعلم .

    ما جاء في الخلطة ، وهي اختلاط المالين معا لرجلين أو أكثر ، وهي على قسمين :

    أولا : خلطة أعيان .

    ثانيا : خلطة أوصاف .

    فخلطة الأعيان : أن يكون المال مشتركا بين الخلطاء على سبيل المشاع ، كمن ورثوا غنما أو بقرا مثلا ولم يقتسموه ، أو أهدي إليهم ولم يقتسموه . وهذه الخلطة يكون حكم المال فيها كحكمه لو كان لشخص واحد ، أو خلطة الأوصاف ، فهي أن يكون المال متميزا ، وكل منهم يعرف حصته وماله بعدد وأوصاف ، سواء بألوانها أو بوسمها أو نحو ذلك . ولكنهم خلطوا المال ليسهل القيام عليه ، كاختلاطهم في الراعي والمرعى ، والمسرح والمراح ، والفحل والدلو والمحلب .

    ونحو ذلك مما هو منصوص عليه ; لما فيه من الرفق والاكتفاء بواحد من كل ذلك لجميع المال ، ولو فرق لاحتاج كل مال منه إلى واحد من ذلك كله ، فهذه الخلطة لها تأثير في الزكاة عند الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - ، ولا تأثير لها عند أبي [ ص: 278 ] حنيفة - رحمه الله - ، وإنما التأثير عنده في خلطة المشاع .

    واختلف القائلون بتأثيرها في الزكاة على من تؤثر :

    فقال أحمد ، والشافعي : تؤثر على جميع الخلطاء ، من يملكون نصابا ، ومن لا يملك .

    وقال مالك : لا تؤثر إلا على من ملك نصابا فأكثر ، ومن لا يملك نصابا فلا تأثير لها عليه . ودليل الجمهور على أبي حنيفة في تأثيرها هو قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب بيان أنصباء الصدقة : ( ولا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق ; خشية الصدقة ، وما كان من خليطين ; فإنهم يتراجعان بالسوية ) .

    فقال الجمهور : النهي عن تفريق المجتمع لا يتأتى إلا في اجتماع الأوصاف ; لأن اجتماع المشاع لا يتأتى تفريقه خشية الصدقة ، وكذلك التراجع بالسوية لا يقال إلا في خلطة الأوصاف ; لأن خلطة المشاع ما يؤخذ منها مأخوذ من المجموع وعلى المشاع أيضا ; لأن كل شريك على المشاع له حصته من كل شاة على المشاع .

    مثال ذلك عند الجميع ، وإليك المثال للجميع : لو أن ثلاثة أشخاص يملك كل واحد منهم أربعين شاة ، فإن كان كل منهم على حدة ، فعلى كل واحد منهم شاة ، فإن اختلطوا كانت عليهم جميعا شاة واحدة بالسوية بينهم ; لأن مجموعهم مائة وعشرون ، وهو حد الشاة .

    وهذا عند الأئمة الثلاثة القائلين بتأثير الخلطة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، ولو أن للأول عشرين شاة وللثاني أربعين وللثالث ستين ، ففيها أيضا شاة .

    ولكن عند أحمد والشافعي كل بحصته ، فلو كانت الشاة بستين درهما ، لكان على الأول عشرة دراهم بنسبة غنمه من المجموع ، وعلى الثاني عشرون ، وعلى الثالث ثلاثون ; كل بنسبة غنمه من المجموع .

    وعند مالك : لا شيء على الأول ; لأنه لم يملك نصابا ، والشاة على الثاني والثالث فقط ، وبنسبة غنمهما من المجموع ، فعلى الثاني خمسا القيمة أربعة وعشرون . وعلى الثالث ثلاثة أخماسها ستة وثلاثون درهما وهكذا .



  6. #566
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (565)
    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    صـ 279 إلى صـ 286


    [ ص: 279 ] والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق ; خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنما يتراجعان بالسوية " .

    فقال الجمهور : النهي عن تفريق المجتمع وتقاسمهما بالسوية دليل على تأثير الخلطة في الزكاة ; لما فيه من إرفاق .

    قال الباجي : كما في الإرفاق في سقي الحرث ما سقي بالنضح وما سقي بغير النضح .

    وقال أبو حنيفة : ما كان من خليطين يعني : الشريكين ، ولكن يرده قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يتراجعان بالسوية " ; لأن التراجع لا يتحقق إلا في خلطة الجوار والأوصاف .

    وقال مالك : لا تأثير للخلطة على من لم يملك النصاب ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " في كل أربعين شاة شاة " ، فمن لم يملك أربعين شاة فلا زكاة عليه ، ولا تأثير للخلطة عليه . ولعل من النصوص المقدمة يكون الراجح مذهب أحمد والشافعي في قضية الخلطة . والله تعالى أعلم .

    الشروط المؤثرة في الخلطة عند القائلين بها كالآتي : عند أحمد - رحمه الله تعالى - خمسة أوصاف ، وهي اتحاد المالين في الآتي : المرعى . المسرح . المبيت . المحلب . الفحل .

    وعند الشافعي - رحمه الله - ذكر النووي عشرة أوصاف ، الخمسة الأولى . وزاد أن يكون الشريكان من أهل الزكاة : أن يكون المال المختلط نصابا ، أن يمضي عليهم حول كامل ، اتحاد المشرب ، اتحاد الراعي .

    وعند مالك : الراعي ، والفحل ، والمراح ، والدلو ، والمراد بالدلو : المشرب عند الشافعي ، وعليه : يكون الجميع متفقين تقريبا في الأوصاف ، وما زاده الشافعي معلوم شرعا ; لأنها شروط في أصل وجوب الزكاة . ولكن اختلفوا في المراد من هذه الأوصاف : هل تشترط جميعها أو يكفي وجود بعضها ؟ .

    الواقع أنه لا نص في ذلك ، ولكن يرجع إلى تحقيق المناط فيما يكون به الإرفاق ، فمالك اكتفى ببعضها : كالفحل ، والمرعى ، والراعي . والشافعي : اشترط توفر جميع تلك [ ص: 280 ] الأوصاف ، وإلا فلا تكون الخلطة مؤثرة ، ولكل في مذهبه خلاف في تلك الأوصاف لا نطيل الكلام بتتبعه ، وإنما يهمنا بيان الراجح فيما فيه الخلاف في أصل المسألة ، وقد ظهر أن الراجح هو الآتي :

    أولا : صحة تأثير الخلطة .

    ثانيا : اشتراط الأوصاف التي تتحقق بها الخلطة عرفا .

    ملحوظة .

    لقد عرفنا أنصباء بهيمة الأنعام جملة وتفصيلا ، وبقي علينا الإجابة عن سؤال طال ما جال تفكر كل دارس فيه ، وهو ما يقوله جميع الفقهاء : إن المقادير توقيفية ، ومنها أنصباء الزكاة . ومعنى توقيفية : أنه لا اجتهاد فيها ، ولكن هل هي جاءت لغوية ، أو أن بين هذه الأنصباء ارتباطا ونسبة مطردة .

    الواقع : أنه وإن كان الواجب على كل مسلم - والذي عليه المسلمون قديما وحديثا - هو الامتثال والطاعة ، إلا أننا لما كنا في عصر مادي ، والنظام الاقتصادي هو الأصل في سياسة العالم اليوم ; فإن البعض قد يتطلع إلى الإجابة عن هذا السؤال .

    وقد حاولت الإجابة عليه بعمل مقارنة عامة توجد بها نسبة مطردة كالآتي :

    أولا : في النقدين ; معلوم أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ، والفضة مائتا درهم ، وفي كل منهما ربع العشر ، وكان صرف الدينار عشرة دراهم ، فيكون نصاب الذهب من ضرب عشرين في عشرة فيساوي مائتين ، فهي نسبة مطردة كما ترى .

    وإذا جئنا للنسبة بين الذهب والفضة - وهي أصل الأثمان - وبين الغنم نجد الآتي :

    أولا : في حديث عروة البارقي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ; ليتشري لهم شاة ، فذهب وأتاهم بشاة ودينار ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " ماذا فعلت ؟ " فقال : اشتريت شاتين بالدينار ، ثم لقيني رجل فقال : أتبيعني شاة فبعته شاة بدينار ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " بارك الله لك في صفقة يمينك " .

    معنى هذا : أن الدينار قيمته الشرائية تعادل شاتين ، من ضرب عشرين دينارا في اثنتين فيساوي أربعين شاة ، وهذا هو نصاب الغنم ، وفي الأربعين شاة شاة ، وقيمتها الشرائية نصف الدينار ، وهي خمسة دراهم وهي ما يؤخذ في العشرين مثقالا ; فاطردت النسبة أيضا [ ص: 281 ] بين الذهب والفضة وبين الغنم .

    أما بين الغنم والإبل : فقد وجدنا أن البدنة عن سبع شياه في الهدي ، ونصاب الإبل خمسة وتضربها في سبع فيساوي خمسة وثلاثين ، ولو جعلت ستا لكانت تعادل اثنين وأربعين ، فأخذنا بالأقل ; احتياطا لحق المسكين ، فكان بين نصاب الإبل ونصاب الغنم نسبة مطردة .

    وكذلك نصاب الغنم ونصاب النقدين نسبة مطردة . فظهرت الدقة واطراد النسبة في الأنصباء .
    ما يجوز أخذه وما لا يجوز أخذه في الزكاة .

    اتفقوا على أنه لا تؤخذ الذكور في الزكاة ، اللهم إلا ابن لبون لمن لم تكن عنده بنت مخاض .

    واختلف فيما لو كان النصاب كله ذكورا ، والواقع أن هذا نادر ، ولكن اتفقوا على أنه لا تؤخذ السخال مع وجوب الاعتداد بها على صاحبها .

    كما جاء عن عمر - رضي الله عنه - : اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي ، ولا تأخذها منهم ، ولا يجوز أخذ فحل الإبل ولا تيس الغنم ، ولا الربى ، ولا الحلوبة ; لما في ذلك من المضرة على صاحب المال .

    كما لا تؤخذ السخلة ولا العجفاء ; لما فيه من مضرة المسكين ، والأصل في ذلك ما رواه مالك - رحمه الله - في الموطأ ، قال : اعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ، ولا تأخذها ، ولا تأخذ الأكولة ، ولا الربى ، ولا الماخض ، ولا فحل الغنم ، وتأخذ الجذعة والثنية ، وذلك عدل بين غذاء الغنم وخيارها ، وغذاء الغنم صغارها ، وخيارها كبارها وأسمنها ; فهي عدل ، أي : وسط .

    وهنا تتحتم كلمة ، يعتبر كل نظام مالي في العالم نظاما ماديا بحتا يقوم على مباني الأرقام والإحصاء ، فهو جاف في شكله ، كالجسم بدون روح ، إلا نظام الزكاة ; فهو نظام حي له روحه وعاطفته .

    ففي الوقت الذي يلزم الغني بدفع قسط للفقير ، يحظر على العامل أن يأخذ فوق [ ص: 282 ] ما وجب ، أو أحسن ما وجد .

    كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " وإياك وكرائم أموالهم " .

    وفي الوقت الذي يدفع الغني فيه جزءا من ماله ، يستشعر أنه يدفعه لوجه الله وينتظر أجره - جل وعلا - فأصبحت الزكاة بين عامل متحفظ وبين مالك متطوع ، عامل يخشى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ، ومالك يرجو في الحسنة عشر أمثالها وسبعمائة ، وزيادة مضاعفة .

    وقد وقعت قضية مذهلة لم يشهد نظام مالي في العالم مثلها ، وهي أنه : ذهب عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصدقة ، فمر برجل في قرية قريبة من المدينة بصاحب إبل ، فحسبها ، فقال لصاحبها : أخرج بنت لبون . فقال صاحب الإبل : كيف أخرج بنت لبون في الزكاة ; وهي لا ظهر يركب ولا ضرع يحلب ، ولكن هذه ناقة كوماء ، فخذها في سبيل الله . فقال العامل : وكيف آخذ شيئا لم يجب عليك ؟ فتلاحيا معا - العامل وصاحب المال - وأخذا ، قال له العامل : إن كنت ولا بد مصرا ، فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك قريب بالمدينة . اذهب بها إليه فإن قبلها منك أخذتها ، فذهب بها ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " أعن طيب نفس ؟ " قال : نعم يا رسول الله . فأمر العامل بأخذها ، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ; فعاش حتى عهد معاوية . فكانت زكاة إبله هذه هي روح الزكاة في الإسلام ، لا ما يفعله أصحاب الأموال في النظم الأخرى .

    أما نظام الضرائب حيث يتهربون ، ويقللون ويتخذون دفاتر متعددة بعضها لمصلحة الضرائب يقلل فيها دخله وكسبه لتخف الضريبة عليه ; لأنه يراها مغرما كالجزية ، وبعضها لنفسه ليعرف حقيقة ماله .

    أما الزكاة : فإن مالكها يقدم زكاتها لوجه الله ; ليطهر ماله ; لقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] .

    وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحدكم ليتصدق بالصدقة ، وإنها لتقع أول ما تقع في كف الرحمن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه - أي : ولد فرسه - حتى تكون مثل جبل أحد " .

    [ ص: 283 ] وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما نقصت صدقة من مال " .
    زكاة الفطر .

    إن أهم مباحث زكاة الفطر هي الآتي :

    أولا : حكمها ، صدر تشريعها .

    ثانيا : على من تكون .

    ثالثا : مم تكون .

    رابعا : كم تكون .

    خامسا : متى تكون .

    سادسا : هل تجزئ فيها القيمة أم لا ؟

    وكذلك القيمة في غيرها من الزكوات .

    أما حكمها : فهي فرض عين عند أحمد والشافعي ، وعند أبي حنيفة هي واجب على اصطلاحه ، أي : ما وجب بالسنة .

    وعند المالكية واجبة ، وقيل : سنة .

    قال في مختصر خليل بن إسحاق : يجب بالسنة الصاع . إلخ .

    والسبب في اختلافهم هذا ، هل هي داخلة في عموم : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، أي : شرعت بأصل مشروعية الزكاة في الكتاب والسنة ، أم أنها شرعت بنص مستقل عنها .

    فمن قال بفرضيتها ، قال : إنها داخلة في عموم إيجاب الزكاة ، ومن قال بوجوبها ، فهذا اصطلاح للأحناف . ولا يختلف الأمر في نتيجة التكليف إلا أن عندهم لا يكفر بجحودها .

    وقال المالكية : يجب بالسنة صاع من بر إلخ . أي : أن وجوبها بالسنة لا بالكتاب .

    وعندهم : لا يقاتل أهل بلد على منعها ، ويقتل من جحد مشروعيتها ، وهذا هو الفرق بينهم وبين الأحناف .

    [ ص: 284 ] ولكن في عبارة مالك في الموطأ إطلاق الوجوب أنه قال : أحسن ما سمعت فيما يجب على الرجل من زكاة الفطر : أن الرجل يؤدي ذلك عن كل من يضمن نفقته . إلخ .

    ومن أسباب الخلاف بين الأئمة - رحمهم الله - نصوص السنة ، منها قولهم : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . الحديث .

    فلفظة فرض : أخذ منها من قال بالفرضية ، وأخذ منها الآخرون ، بمعنى قدر ; لأن الفرض : القدر والقطع .

    وحديث قيس بن سعد بن عبادة عند النسائي ، قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله " .

    فمن قال بالوجوب والفرض . قال : الأمر للأول للوجوب ، وفرضية زكاة المال شملتها بعمومها . فلم يحتج معها لتجديد أمر ولم تنسخ فنهى عنها ، وبقيت على الوجوب الأول ، وحديث : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ; طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " . فمن لم يقل بفرضيتها قال : إنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين ، فهي لعلة مربوطة بها وتفوت بفوات وقتها ، ولو كانت فرضا لما فاتت بفوات الوقت . وأجاب الآخرون بأن ذلك على سبيل الحث على المبادرة لأدائها ، ولا مانع من أن تكون فرضا وأن تكون طهرة .

    ويشهد لهذا قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، فهي فريضة وهي طهرة . والراجح من ذلك كله أنها فرض ; للفظ الحديث " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر " ; لأن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب ، وإن كان بمعنى قدر ، فيكون الوجوب بعموم آيات الزكاة ، وهو أقوى .

    وحديث " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بصدقة الفطر صاعا من تمر " الحديث . رواه أبو داود . والأمر للوجوب ، ولا صارف له هنا .

    [ ص: 285 ] وقد قال النووي : إن القول بالوجوب هو قول جمهور العلماء ، وهذا هو القول الذي تبرأ به الذمة ، ويخرج به العبد من العهدة ، والله تعالى أعلم .

    أما مم تكون : فالأصل في ذلك أثر أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، ورواه مالك في الموطأ عنه .

    قال : كنا نخرج صاعا من طعام ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب .

    وجاء لفظ السلت ، وجاء لفظ الدقيق ، وجاء لفظ السويق . فوقف قوم عند المنصوص عليه فقط وهم الظاهرية . ونظر الجمهور إلى عموم الطعام والغرض من مشروعيتها على خلاف في التفصيل عند الأئمة - رحمهم الله - كالآتي :

    أولا : عند الشافعية يجوز إخراجها من كل قوت ; لأثر أبي سعيد ، وفيه لفظ الطعام .

    ثانيا : من غالب قوت المكلف بها ; لأنها الفاضل عن قوته .

    ثالثا : من غالب قوت البلد ; لأنها حق يجب في الذمة تعلق بالطعام كالكفارة .

    وقال النووي : تجوز من كل حب معشر ، وفي الأقط خلاف عن الشافعي المالكية .

    روى مالك في الموطأ حديث أبي سعيد المتقدم . وقال الباجي في شرحه : تخرج من القوت ، ونقل عن مالك في المختصر : يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته . وهو مثل قول النووي : من كل حب معشر . وناقش الباجي مسألة إجزائها من الأرز والذرة والدخن . فقال : لا تجوز منها عند أشهب ويجوز عند مالك . وناقش القطاني : الحمص ، والترمس ، والجلبان ، فقال : مالك يجوزها إذا كانت قوته ، وابن حبيب : لا يجوزها ; لأنها ليست من المنصوص .

    واتفق مذهب المالكية : أن المطعوم الذي يضاف إلى غيره كالأبازير : كزبرة ، وكمون ونحوه ، أنها لا تجزئ .

    الحنابلة ، قال في المغني : من كل حبة وثمرة تقتات .

    وقال في الشرح : أي عند عدم الأجناس المنصوص عليها ، فيجزئ كل مقتات من الحبوب والثمار .

    [ ص: 286 ] قال : وظاهر هذا أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن ، وعند انعدام هذه أيضا يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها .

    وعن ابن حامد عندهم : حتى لحم الحيتان والأنعام ، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار ، ويجزئ الأقط لأهل البادية إن كان قوتهم . وعندهم : من قدر على المنصوص عليه فأخرج غيره لم يجزه .

    الأحناف : تجوز من البر ، والتمر ، والشعير ، والزبيب ، والسويق ، والدقيق . ومن الخبز مع مراعاة القيمة ، وتجوز القيمة عندهم عوضا عن الجميع ، مع الاختلاف عندهم في مقدار الواجب من هذه الأصناف بين الصاع أو نصف الصاع ، على ما يأتي إن شاء الله .

    وقد ناقشهم ابن قدامة في المغني عند قوله :

    ومن أعطى القيمة لم تجزئه ، ونقل عن أحمد : أخاف ألا تجزئه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذا العرض نجد الأئمة - رحمهم الله - اتفقوا على المنصوص عليه في أثر أبي سعيد ، وزاد بعضهم من غير المنصوص عليه غير المنصوص : إما بعموم لفظ الطعام ، وإن كان يراد به عرفا القمح ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ وهو العرف اللغوي . وإما بعموم مدلول المعنى العام ، والخلاف في الأقط . والنص يقضي به .

    وانفرد الأحناف بالقول بالقيمة وبالنظر إلى المعنى العام لمعنى الزكاة ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " طعمة للمسكين ، وطهرة للصائم " . وقوله : ( أغنوهم بها عن السؤال ) . لوجدنا إشارة إلى جواز إخراجها من كل ما هو طعمة للمساكين ، ولا نحده بحد أو نقيده بصنف ، فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص بجامع العلة متجه ، أما القيمة : فقد ناقش مسألتها صاحب فتح القدير شرح الهداية في باب زكاة الأموال ، وعمدة أدلتهم الآتي :

    أولا : بين الجذعة والمسنة في الإبل بشاتين .

    ثانيا : قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير ؟ أهون عليكم ، وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري .



  7. #567
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (566)
    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    صـ 287 إلى صـ 294


    [ ص: 287 ] ثالثا : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة حسنة في إبل الصدقة ، فقال : " ما هذه ؟ " قال صاحب الصدقة : إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل ؟ . قال : " نعم " .

    رابعا : مثلها مثل الجزية ; يؤخذ فيها قدر الواجب كما تؤخذ عينه . والجواب عن هذا كله كالآتي : أما التعويض بين الجذعة والمسنة أو الحقة إلى آخره في الإبل بشاتين أو عشرين درهما ، وهو المنصوص في حديث أنس في كتاب الأنصباء المتقدم ، ونصه : ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده ، وعنده حقة ، فإنه تقبل منه الحقة ، ويجعل معها شاتين أو عشرين درهما ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده ، وعنده الجذعة ، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون ، فإنها تقبل منه ابنة لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما . إلى آخر الحديث .

    فليس في هذا دليل على قبول القيمة في زكاة الفطر ; لأن نص الحديث فمن وجبت عليه سن معينة وليست عنده ، وعنده أعلى أو أنزل منها ; فللعدالة بين المالك والمسكين جعل الفرق لعدم الحيف ، ولم يخرج عن الأصل وليس فيه أخذ القيمة مستقلة ، بل فيه أخذ الموجود ، ثم جبر الناقص .

    فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزئ لصرح بها - صلى الله عليه وسلم - .

    ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب ، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة ، وهذا واضح .

    وقال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح : لو كانت القيمة مقصودة لاختلفت حسب الزمان والمكان ، ولكنه تقدير شرعي .

    أما قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير " . فقد ناقشه ابن حجر في الفتح من حيث السند والمعنى . ولكن السند ثابت ، أما المعنى ، فقيل : إنه في الجزية .

    ورد هذا : بأن فيه مكان الذرة والشعير ، والجزية ليست منها .

    [ ص: 288 ] وقيل : إنه بعد أن يستلم الزكاة الواجبة من أجناسها يستبدلها من باب البيع والمعاوضة عملا بما فيه المصلحة للطرفين .

    وقيل : إنه اجتهاد منه - رضي الله عنه - ، ولكنه اجتهاد أعرفهم بالحلال والحرام إلى غير ذلك .

    والصحيح الثاني : أنه تصرف بعد الاستلام وبلوغها محلها ولا سيما مع نقلها إلى المدينة ، بخلاف زكاة الفطر فليست تنقل ابتداء ، ولأن مهمة زكاة المال أعم من مهمة زكاة الفطر ; ففيها النقدان والحيوان .

    أما زكاة الفطر فطعمة للمسكين في يوم الفطر ; فلا تقاس عليها .

    أما الناقة الحسنة التي رآها - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها بدل من بعيرين ، فهو من جنس الاستبدال بالجنس عملا للمصلحة ، لم تخرج عن جنس الواجب .

    وأما الجزية يؤخذ منها قدر الواجب : فلا دليل فيه ; إذ زكاة الفطر فيها جانب تعبد وارتباط بركن في الإسلام .

    وأما الجزية : فهي عقوبة على أهل الذمة عن يد وهم صاغرون ، فأيما أخذ منهم فهو واف بالغرض ، فلم يبق للقائلين بالقيمة في زكاة الفطر مستند صالح ، فضلا عن عدم النص عليها .

    وختاما : إن القول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين :

    الجهة الأولى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر ، كما ذكر العوض في زكاة الإبل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أشفق وأرحم بالمسكين من كل إنسان .

    الجهة الثانية : - وهي القاعدة العامة - أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه ، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل .

    كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم : إن الأشنان يجزئ عن التراب في الولوغ . أي : لأنه ليس من جنسه ويسقط العمل به .

    وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة ; لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة ، [ ص: 289 ] فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال ، فيبطل .

    ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلا بمثل ، علما بأن الأحناف لا يجيزون القيمة في الهدي ; لأن الهدي فيه جانب تعبد ، وهو النسك .

    ويمكن أن يقال لهم أيضا : إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد ; طهرة للصائم ، وطعمة للمساكين ، كما أن عملية شرائها ومكيلتها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة . أما تقديمها نقدا فلا يكون فيها فرق عن أي صدقة من الصدقات ، من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام .

    وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ; لأن القول بالقيمة فيها جرأ الناس على ما هو أعظم ، وهو القول بالقيمة في الهدي وهو ما لم يقله أحد على الإطلاق حتى ولا الأحناف .
    بيان القدر الواجب في زكاة الفطر

    اتفق الجميع على أن الواجب في زكاة الفطر على كل شخص عن نفسه ، إنما هو صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأصناف المتقدم ذكرها .

    وخالف أبو حنيفة في القمح ، فقال : نصف الصاع فقط منها يكفي . وسيأتي بيان الراجح في ذلك . إن شاء الله .

    ثم اختلفوا بعد ذلك في مقدار الصاع الواجب من حيث الوزن . فقال الجمهور : هو خمسة أرطال وثلث . وقال أبو حنيفة : هو ثمانية أرطال ، وخالفه أبو يوسف ، ووافق الجمهور . ما مقدار الصاع ، فهو في العرف الكيل ، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين ، ولتفاوت الناس في ذلك عمد العلماء إلى بيان مقداره بالوزن .

    وقد نبه النووي أن المقدار بالوزن تقريبي ; لأن المكيلات تختلف في الوزن ثقلا وخفة باختلاف أجناسها : كالعدس ، والشعير مثلا ، وما كان عرفه الكيل لا يمكن ضبطه بالوزن ، ولكنه على سبيل التقريب .

    ولهذا المعنى قال صاحب المغني : إن من أخرج الزكاة بالوزن عليه أن يزيد بالقدر الذي يعلم أنه يساوي الكيل ، ولا سيما إذا كان الموزون ثقيلا .

    [ ص: 290 ] ونقل عن أحمد : أن من أخرج وزن الثقيل من الخفيف يكون قد أخرج الواجب بالتأكيد .
    أقوال العلماء في وزن الصاع .

    قال الجمهور : هو خمسة أرطال وثلث ، الرطل بالعراقي .

    وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : هو ثمانية أرطال ، وخالفه أبو يوسف كما تقدم ، وسبب الخلاف هو : أن أبا حنيفة أخذ بقول أنس : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بمد " وهو رطلان ، ومعلوم أن الصاع أربعة أمداد ، فعليه يكون ثمانية أرطال .

    ودليل الجمهور : هو أن الأصل في الكيل هو عرف المدينة ، كما أن الأصل في الوزن هو عرف مكة ، وعرف المدينة في صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خمسة أرطال وثلث . كما جاء عن أحمد - رحمه الله - ، قال : أخذت الصاع من أبي النضر . وقال أبو النضر : أخذته عن أبي ذؤيب ، وقال : هذا صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرف بالمدينة .

    قال أبو عبد الله : فأخذنا العدس فعبرنا به ، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به ; لأنه لا يتجافى عن موضعه ، فكلنا به ، ثم وزناه ، فإذا هو خمسة أرطال وثلث ، وقال : هذا أصلح ما وقفنا عليه ، وما تبين لنا من صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وإذا كان الصاع خمسة أرطال وثلثا من البر والعدس وهما أثقل الحبوب ، فما عداهما من أجناس الفطرة أخف منهما ، فإذا أخرج منهما خمسة أرطال وثلث فهي أكثر من صاع .

    وقال النووي : نقل الحافظ عبد الحق في كتاب الأحكام عن أبي محمد بن علي بن حزم : أنه قال : وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يؤدي به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف ، ولا دون رطل وربع .

    وقال بعضهم : هو رطل وثلث ، وقال : ليس هذا اختلافا ، ولكنه على حسب رزنه بالراء ، أي : رزانته وثقله من البر والتمر والشعير . قال : وصاع ابن أبي ذؤيب خمسة أرطال [ ص: 291 ] وثلث ، وهو صاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ومن أدلة الجمهور ، وسبب رجوع أبي يوسف عن قول أبي حنيفة ، ما جاء في المغني وغيره : أن أبا يوسف لما قدم المدينة وسألهم عن الصاع ، فقالوا : خمسة أرطال وثلث ، فطالبهم بالحجة ، فقالوا : غدا ، فجاء من الغد سبعون شيخا كل واحد منهم أخذ صاعا تحت ردائه ، فقال : صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي ، حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ أبو يوسف يقارنها فوجدها كلها سواء ، فأخذوا واحدا منها وعايره بالماش - وهو العدس غير المدشوش - ، فكان خمسة أرطال وثلثا ، فرجع إلى قول أهل المدينة .

    وفي تلك القصة : أنه رجع إلى العراق ، فقال لهم : أتيتكم بعلم جديد ; الصاع خمسة أرطال وثلث ، فقالوا له : خالفت شيخ القوم ، فقال : وجدت أمرا لم أجد له مدفعا .

    أما وزن الرطل العراقي فأساس الوحدة فيه هي الدرهم ، وقد ذكر النووي عنه ثلاثة أقوال :

    الأول : أنه مائة وثلاثون درهما بدراهم الإسلام .

    والثاني : أنه مائة وثمانية وعشرون .

    والثالث : أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، وهي تسعون مثقالا .

    وقال في المغني : وقد زادوه مثقالا فصار واحدا وتسعين مثقالا ، وكمل به مائة وثلاثون درهما ، وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم .

    ثم قال : والعمل الأول .

    أما بالنسبة لبقية الأرطال في الأمصار الأخرى ، فكالآتي نقلا من كشاف القناع :

    الرطل البعلي : تسعمائة درهم .

    والقدسي : ثمانمائة .

    والحلبي : سبعمائة وعشرون .

    والدمشقي : ستمائة .

    والمصري : مائة وأربعة وأربعون . وكل رطل اثنتا عشرة أوقية في سائر البلاد ، مقسوم [ ص: 292 ] عليها الدراهم .

    وعليه ; فالصاع يساوي ستمائة وخمسة وثمانين وخمسة أسباع الدرهم ، وأربعمائة وثمانين مثقالا .

    وعليه أيضا ; يكون الصاع بالأرطال الأخرى . هو المصري أربعة أرطال وتسع أواق وسبع أوقية ، وبالدمشقي رطل وخمسة أسباع أوقية . وبالحلبي أحد عشر رطلا وثلاثة أسباع أوقية ، وبالقدسي عشر أواق وسبعا أوقية .

    وإذا كانت موازين العالم اليوم قد تحولت إلى موازين فرنسية ، وهي بالكيلوجرام ، والكيلو ألف جرام ، فلزم بيان النسبة بالجرام ، وهي : أن المكيلات تتفاوت ثقلا وكثافة ، فأخذت الصاع الذي عندي ، وعايرته أولا على صاع آخر قديما ، فوجدت أمرا ملفتا للنظر عند المقارنة ، وهو أن الصاع الذي عندي يزيد عن الصاع الآخر قدر ملء الكف ، فنظرت فإذا القدر الذي فوق فتحة الصاعين مختلفة ; لأن أحد الصاعين فتحته أوسع . فكان الجزء المعلى فوق فتحته يشكل مثلثا قاعدته أطول من قاعدة المثلث فوق الصاع الآخر ، فعايرتهما مرة أخرى على حد الفتحة فقط بدون زيادة فكانا سواء . فعايرتهما بالماء حيث إن الماء لا يختلف وزنه غالبا ما دام صالحا للشرب وليس مالحا ، وأنه لا يسمح بوجود قدر زائد فوق الحافة ، فكان وزن الصاع بعد هذا التأكيد هو بالعدس المجروش 2 ، 600 كيلوين وستمائة جرام .

    وبالماء 3 ، 100 ثلاثة كيلوات ومائة جرام .

    وأرجو أن يكون هذا العمل كافيا لبيان الوزن التقريبي للصاع النبوي في الزكاة .
    زكاة الورق المتداول .

    من المعلوم أن التعامل بالورق بدلا عن الذهب والفضة أمر قد حدث بعد عصور الأئمة الأربعة ، وعصور تدوين الفقه الإسلامي ، وما انتشرت إلا في القرن الثامن عشر ميلاديا فقط ، ولهذا لم يكن لأحد الأئمة - رحمهم الله - رأي فيها ، ومنذ أن وجدت وعلماء المسلمين مختلفون في تقييمها وفي تحقيق ماهيتها ما بين كونها سندات : عن ذهب أو فضة ، أو عروض تجارة ، أو نقد بذاتها .

    والخلاف في ذلك مشهور ، وإن كان الذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنها وثائق ضمان [ ص: 293 ] من السلطان .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إبداء وجهة نظره فيها في الربا ، وهل يباع بها الذهب والفضة نسيئة أم لا ؟

    ومهما يكن من نظريات في ماهيتها ، فإنها باتفاق الجميع تعتبر مالا ، وهي داخلة في عموم قوله تعالى : وفي أموالهم [ 70 \ 24 ] ; لأنها أصبحت ثمن المبيعات وعوض السلع .

    فعليه تكون الزكاة فيها واجبة . والنصاب بالنسبة إليها يعتبر بما يشترى بها من ذهب وفضة في أي عملة كانت هي .

    ففي السعودية مثلا ينظر كم يشترى بها عشرون مثقالا ذهبا ، أو مائتا درهم فضة ، فيعتبر هذا القدر هو النصاب ، وفيه الزكاة ، وهو ربع العشر سواء بسواء .

    وهكذا مثل الإسترليني ، والروبية والدولار ; لأن كل عملة من ذلك وثيقة ضمان من السلطان الذي أصدرها ، أي : الدولة التي أصدرتها . سواء قيل : إن الزكاة فيما ضمنته تلك الوثيقة ، أو فيها بعينها ، أو في قيمتها كعرض ، فهي لن تخرج بحال من الأحوال عن دائرة التمول والاستبدال ، وإن تحصيل الفقير لشيء منها أيا كانت ; فإنه بها سيحصل على مطلوبه من مأكل وملبس وما يشاء من مصالح وفق ما يحصل عليه بعين الذهب والفضة .

    وفي هذا رد على من يقول : لا زكاة فيها ; لأنها ليست بنقد ذهب ولا فضة ، ولا يخفى أن إسقاط الزكاة عنها إسقاط للزكاة من أغلبية العالم ، إن لم يكن من جميعه .

    تنبيه .

    سبق أن سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في موضوع زكاة العروض في قول المالكية :

    يشترط أن ينص في يد التاجر المدير ولو درهما أثناء الحول ، وإلا لما وجبت عليه زكاة في عروض تجارته .

    فقال - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : لو كان مالك - رحمه الله - موجودا اليوم لم يقل ذلك ; لأن العالم اليوم كله لا يكاد يعرف إلا هذه الأوراق ، وقد لا ينص في يده درهم [ ص: 294 ] واحد فضة . ويترتب على ذلك إسقاط الزكاة عن عروض التجارة ، وهي غالب أموال الناس اليوم .

    فكذلك يقال لمن لا يرى الزكاة في الأوراق النقدية : أنه يترتب عليه باطل خطير ; وهو تعطيل ركن الزكاة ، وحرمان المسكين من حقه المعلوم في أموال الأغنياء ، وما ترتب عليه باطل ; فهو باطل .

    ولعلنا بهذا العرض الموجز ، نكون قد أوردنا عجالة ما بقي من مبحث الزكاة ، وإن لم يكن على سبيل التفصيل المعهود من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، فقد قدمنا أنه لن يجارى في تفصيله ، وأن تتبع الجزئيات في هذا المبحث سيطيل الكتابة ، وهو - بحمد الله - مبسوط في كتب الفقه ، وإنما قصدنا بيان أهم المسائل ، وبيان ما هو الراجح فيما اختلف فيه . وبالله تعالى التوفيق .
    قوله تعالى : والذين يصدقون بيوم الدين

    يوم الدين : هو يوم الحساب . كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة ( الفاتحة ) .
    قوله تعالى : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون

    أي : خائفون ; كما بينه تعالى بقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] .

    وقوله : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [ 52 \ 26 - 27 ] .


  8. #568
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (567)
    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    صـ 295 إلى صـ 302


    قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قد أفلح المؤمنون ، وما بعدها ، وفي سورة " النساء " ، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله : فأولئك هم العادون ، وخاصة من قال بنكاح المتعة ; لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة .

    [ ص: 295 ] تنبيه .

    والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما ، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم ، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم ، إذ ينص الحللي - وهو من أئمتهم - في باب النكاح : أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحا مؤقتا ، وهو نكاح المتعة ، بأي عدد شاء من النساء وبدون حد ، فجعل هذا العقد كملك اليمين ، والحال أن المعقود عليها حرة ، وهذا متناقض .

    وفي كتاب الطلاق ، قال : إن المطلقة ثلاثا لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجا غيره ، في نكاح دائم وليس مؤقتا .

    وهنا يقال لهم : إما أن تعتدوا بنكاحها الثاني المؤقت ، فيلزم أن يحلها للأول ; لأنه تعالى قال : حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، فإن اعتبرتموه نكاحا لزم إحلالها به للزوج الأول . وإن لم تعتبروه نكاحا لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب .

    وبهذا يظهر أن مبتغي وراء ذلك ، أي : أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون .
    قوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في أول سورة قد أفلح المؤمنون .

    وفي المسألة السادسة من مسائل مبحث : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] .
    قوله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون

    قرئ " بشهاداتهم " بالجمع ، وقرئ " بشهادتهم " بالإفراد ، فقيل : إن الإفراد يؤدي معنى الجمع للمصدر ، كما في قوله : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [ 31 \ 19 ] . فأفرد في الصوت مرادا به الأصوات .

    وقيل : الإفراد لشهادة التوحيد مقيمون عليها . والجمع لتنوع الشهادات بحسب متعلقها ، ولا تعارض بين الأمرين ; فما يشهد لذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ 41 \ 30 ] .

    [ ص: 296 ] قال أبو بكر - رضي الله عنه - : أي داموا على ذلك حتى ماتوا عليه .

    ويدل للثاني عمومات آية الشهادة المتنوعة في البيع ، والطلاق ، والكتابة في الدين ، وغير ذلك . والله تعالى أعلم .

    وفي هذه الآية عدة مسائل :

    المسألة الأولى : أطلق القيام بالشهادة هنا وبين أن قيامهم بها إنما هو لله في قوله تعالى : وأقيموا الشهادة لله [ 65 \ 2 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم [ 4 \ 135 ] .

    المسألة الثانية قوله : بشهاداتهم قائمون في معرض المدح ، وإخراجهم من وصف إن الإنسان خلق هلوعا [ 70 \ 19 ] يدل بمفهومه أن غير القائمين بشهاداتهم غير خارجين من ذلك الوصف الذميم .

    وقد دلت آيات صريحة على هذا المفهوم ، منها قوله تعالى : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، وقوله : ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين [ 5 \ 106 ] .

    وكذلك في معرض المدح في وصف عباد الرحمن في قوله : والذين لا يشهدون الزور [ 25 \ 72 ] .

    وفي الحديث من عظم جرم شهادة الزور ، وكان - صلى الله عليه وسلم - متكئا فجلس ، فقال " ألا وشهادة الزور ، ألا وشهادة الزور " ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " .
    تنبيه .

    قوله : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، يفيد القيام بالشهادة مطلقا ، وجاء قوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] ، فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها .

    وفي الحديث : " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " .

    [ ص: 297 ] وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها ، ويشهدون قبل أن يستشهدوا . وقد جمع العلماء بين الحديثين ; بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده من شهادة ، أو يتوقف على شهاداته حق شرعي : كرضاع ، وطلاق ونحوه ، والثاني بعكس ذلك .

    وقد نص ابن فرحون : أن الشهادة في حق الله على قسمين : قسم تستديم فيه الحرمة : كالنكاح ، والطلاق ، فلا يتركها ، وتركها جرحة في عدالته . وقسم لا تستديم فيه الحرمة : كالزنى ، والشرب ، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها ; لحديث هزال في قصة ماعز حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - : " هلا سترته بردائك " .

    المسألة الثالثة : مواطن الشهادة الواردة في القرآن ، والتي يجب القيام فيها ، نسوقها على سبيل الإجمال .

    الأول : الإشهاد في البيع في قوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] .

    الثاني : الطلاق ، والرجعة لقوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] .

    الثالث : كتابة الدين ; لقوله تعالى : فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .

    الرابع : الوصية عند الموت ; لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [ 5 \ 106 ] .

    الخامس : دفع مال اليتيم إليه إذا رشد ; لقوله تعالى : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ 4 \ 6 ] .

    السادس : إقامة الحدود ; لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .

    السابع : في السنة عقد النكاح ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحق الله ، وحق العباد من : حفظ للمال ، والعرض ، والنسب ، وفي حق الحي والميت ، واليتيم والكبير ، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، والتحذير من كتمانها : ولا تكتموا الشهادة ومن [ ص: 298 ] يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] .

    وقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ 2 \ 140 ] .

    وقوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] .

    المسألة الرابعة : قوله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، كلها صيغ الجمع ، والشهادة قد تكون من فرد ، وقد تكون من اثنين ، وقد تكون من ثلاثة ، وقد تكون من أربعة ، وقد تكون من جماعة .

    وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي إجمالا : رجل واحد ، ورجل ويمين ، ورجل وامرأتان ، ورجلان ، وثلاثة رجال ، وأربعة ، وطائفة من المؤمنين ، وامرأة ، وامرأتان ، وجماعة الصبيان .

    وقد جاءت النصوص بذلك صريحة . أما الواحد ، فقال تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل [ 12 \ 26 ] .

    فهو ، وإن كان ملفت النظر إلى القرينة في شق القميص ، إلا أنه شاهد واحد .

    وجاء في السنة : شهادة خزيمة - رضي الله عنه - ، لما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراء الفرس من الأعرابي ، وجعلها - صلى الله عليه وسلم - بشهادة رجلين .

    وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب ، والقائف ، والخارص ، ونحوهم .

    وجاء في ثبوت رمضان ، فقد قبل - صلى الله عليه وسلم - شهادة أعرابي ، وقبل شهادة عبد الله بن عمر ، سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطا لرمضان .

    وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي ، فلحديث ابن عباس : " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين " وتكلم عليه ابن عبد البر ، وأطال في تصحيحه وتوجيهه .

    وعند مالك ، ومذهب لأحمد شهادة امرأتين ، ويمين المدعي ، وخالفهما الجمهور .

    وأما شهادة رجل وامرأتين ، فلقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .

    وبين تعالى توجيه ذلك بقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .

    [ ص: 299 ] وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك ، والمذهب المحكي عن أحمد ; لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل التسوية بالشهادة .

    وأما شهادة الرجلين ; فلقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .

    وأما ثلاثة رجال ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الفاقة والإعسار : " حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانة فاقة " الحديث . وهو حديث قبيصة عند مسلم وأحمد .

    وأما الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة ، وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ذلك في أول سورة " النور " .

    وأما الطائفة ففي إقامة الحدود ; لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .

    وأما شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة ، كما في حديث عقبة بن الحارث : " جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : إني أرضعتهما ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " فارقها " ، فقال : كيف أفارقها لقول امرأة ؟ فقال له : " كيف وقد قيل ؟ " وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ، ولكن الصحيح ما قدمنا .

    وأما المرأتان فعند من لم يقبل شهادة المرأة ، وقيل عند استهلال الصبي ; لأن الغالب حضور أكثر من واحدة .

    وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض ، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير . وفيه خلاف .

    ورجح الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - العمل بها في مذكرة أصول الفقه ، في مبحث رواية الصغار .

    المسألة الخامسة : اتفقوا أنه لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود ، وإنما تكون في المال أو ما يئول إلى المال ، وفيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء .

    وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء ، كتبصرة الحكام [ ص: 300 ] لابن فرحون وغيره .

    وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية ، وابن فرحون في تبصرة الحكام ، لمن أحب الرجوع إليه ، ولكن مما لا بد منه هو شروط الشاهد المعتبرة ، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به ; لأمرين أساسيين هما : الضبط ، كما في قوله تعالى في حق النسوة : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .

    والثاني : العدالة ، والصدق ، كما في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ 49 \ 6 ] .

    وهنا مبحث مشهور ، وهو : هل الأصل في المسلمين العدالة حتى يظهر جرحه أم العكس ؟

    والصحيح الأول .

    وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر - رضي الله عنه - ، فقال له : أدرك الناس ; لقد تفشت شهادة الزور . فقال عمر : بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم .

    وقد أورد ابن فرحون في مراتب الشهود إحدى عشرة مرتبة ، وهي :

    الأولى : الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة ، فتجوز شهادته في كل شيء وتجريحه ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه ، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة .

    الثانية : المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة ، فحكمه كالأول ، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .

    الثالثة : الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة ، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها ، وهي : التزكية ، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة ، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها ، ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .

    الرابعة : المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة ، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .

    [ ص: 301 ] الخامسة : الشاهد المعروف بالعدالة ; إذا قذف قبل أن يحد ، فاختلف في قبول شهادته ، وأجازها ابن القاسم ، وهو مذهب مالك .

    السادسة : الذي يتوسم فيه العدالة ; تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات ، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته ; لأنه هو المعروف بمجهول الحال .

    والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره .

    السابعة : الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة ; فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية ، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء ، فتوجب اليمين ، وتوجب الحميل ، وتوقيف الشيء على المدعى عليه .

    الثامنة : الذي يتوسم فيه الجرحة ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكما .

    التاسعة : الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق ، وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها ، ونزوعه منها ، والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك ; لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق ، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخبر .

    العاشرة : المقيم على الجرحة المشهود بها ; فلا تجوز شهادته ، ولا تقبل التزكية فيه وإن زكي ، وإنما تقبل تزكيته فيما يستقبل إذا تاب .

    الحادية عشرة : شاهد الزور ; فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله ، وروى أبو زيد عن ابن القاسم : أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح .

    قال : ولا أعلمه إلا في قول مالك ، فقيل : إن ذلك اختلاف من القول .

    وقيل : معنى رواية أبي زيد إذا جاء تائبا مقرا على نفسه بشهادة الزور قبل أن تظهر عليه ، وهو الأظهر . والله سبحانه وتعالى أعلم . اهـ .

    وقد أوردنا هذه المراتب ; لأنها شملت أنواع الشهود قوة وضعفا ، وفيما تقبل شهاداتهم .
    [ ص: 302 ] تنبيه .

    وقد قيل في تفريق الشهود : إن هذا في الزنا خاصة ، وقيل : للقاضي أن يفرقهم متى ما رأى ذلك ، وأن أول من فرقهم علي - رضي الله عنه - ، وذكر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفريق الشهود في قصة سليمان ، وهو كلام في قضية المرأة التي رميت بالزنا ، واختلف في تحليف الشاهد .

    فالجمهور : لا يحلف ، ورجح ابن القيم جوازه فيما تقبل شهادته للضرورة كالمرأة الواحدة ، والكافر في السفر ، ومدار قبول الشهادة على الطمأنينة لصدق الشاهد ، وذلك يدور على أصلين :

    الأول : هو الضابط كما في قوله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .

    والثاني : العدالة ، كما في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ 49 \ 6 ] ، والعلم عند الله تعالى .

    وللشهادة مباحث عديدة اكتفينا بما أوردنا .

    وقد بحث ابن القيم - رحمه الله - مباحث الشهادة من حيث العدد والموضوع في كتاب الطرق الحكمية .


  9. #569
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (568)
    سُورَةُ نُوحٍ
    صـ 303 إلى صـ 310


    تنبيه .

    للشهادة علاقة باليمين في الحكم ، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " شاهدان أو يمينه " .

    فما هي تلك العلاقة ؟ وبين هذه العلاقة قوله تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم [ 6 \ 19 ] ، وقوله : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [ 41 \ 53 ] ، وقوله : وكنا لحكمهم شاهدين [ 21 \ 78 ] ، وقوله : هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم [ 46 \ 8 ] . ونحو ذلك من الآيات ; لأنه تعالى : شاهد ومطلع على أحوال العباد لا تخفى عليه خافية ، يعلم [ ص: 303 ] خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فإذا أعوز المدعي شاهدا حلف مع الشاهد كأنه قال : أستشهد بالله الذي يعلم مني صدق دعواي .

    وكذلك المدعى عليه ، إذا عجز المدعي عن البينة وكانت الدعوى متوجهة ، ومما يشبه ، كما يقول المالكية : فإن المدعى عليه يقول : لدي البينة والشهادة على عدم ثبوت ما ادعى به علي ، ألا وهو خير الشاهدين .

    من هو أكبر شهادة مما عجز عنها المدعي ألا وهو الاستشهاد بالله تعالى ، فيحلف على براءة ذمته مما ادعى به عليه .

    تنبيه .

    ومن هنا يعلم حقيقة قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف بغير الله فقد أشرك " أي ; لأن الحالف يقيم المحلوف به مقام الشهود الذين رأوا أو سمعوا ، والمخلوق إذا كان غائبا لا يرى ولا يسمع ، فإذا حلف به كان قد أعطاه صفات من يرى ويسمع ، والحال أنه بخلاف ذلك ، ومن ناحية أخرى الحالف والمستحلف بالله يعلمان أن الله تعالى قادر على أن ينتقم من صاحب اليمين الغموس ، وغير الله إذا ما حلف به لا يقوى ولا يقدر على شيء من ذلك . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين

    " مهطعين " : أي مسرعين نافرين ، " وعزين " جمع عزة ، وهم الجماعة ، أي : ما بال أولئك الكفار المنصرفين عنك متفرقين ، وعليه قول الكميت :


    ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزين


    وكذلك هنا فهم متفرقون عنه - صلى الله عليه وسلم - جماعات من كل جهة عن اليمين وعن الشمال . تفرقت بهم الأهواء ، وأخذتهم الحيرة ، كقوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [ 74 \ 49 - 51 ] .

    ونقل ابن كثير عن أحمد - رحمه الله - في أهل الأهواء ، فهم مخالفون للكتاب ، مختلفون ، متفقون على مخالفة الكتاب .
    قوله تعالى : إنا خلقناهم مما يعلمون

    [ ص: 304 ] أجمل ما يعلمون في ما الموصولة " مما " ، وقد بينه تعالى في عدة مراحل : من تراب أولا ، ثم من نطفة . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في أكثر من موضع ، وأصرح نص في ذلك قوله تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين [ 77 \ 20 ] ، وقوله : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] أي : ماء الرجل وماء المرأة يختلطان معا ، كما في قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 1 - 2 ] .

    وقوله تعالى : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ليس لمجرد الإخبار ; لأنهم يعلمون ، والعالم ليس في حاجة إلى إخبار ، ولكن يراد بذلك لازم الخبر ، وهو إفهامهم بأن من خلقهم من هذا الذي يعلمون قادر على إعادتهم وبعثهم ومجازاتهم ، كما في سورة " الدهر " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [ 76 \ 2 ] . ثم قال : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] . ثم بين المصير إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .
    قوله تعالى : فلا أقسم برب المشارق والمغارب

    قوله تعالى فلا أقسم ظاهره النفي ، والحال أنه أقسم بدليل جواب القسم بعده إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم [ 70 \ 40 - 41 ] ، وللعلماء في مجيء " لا " هذه كلام كثير ، وقد فصله الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب في سورة " البلد " ، وسيطبع إن شاء الله في نهاية هذه التتمة .

    وقوله : برب المشارق والمغارب [ 70 \ 40 ] فهو الله تعالى رب كل شيء ومليكه ، وقد نص على نظيره في سورة " الرحمن " : رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 17 - 18 ] .

    وقد جمعت " المشارق " هنا ، وثنيت في " الرحمن " وأفردت في قوله تعالى ولله المشرق والمغرب [ 2 \ 115 ] ، فالجمع على مشارق الشمس في السنة لكل يوم مشرق [ ص: 305 ] كما قال ابن عباس والتثنية لمشرق الشمس والقمر والإفراد على الجهة ، وسيأتي في دفع إيهام الاضطراب أيضا .
    قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا

    بين هنا حالة الخروج من الأجداث وهي القبور ، وهي أنهم يخرجون سراعا ، وبين في موضع آخر أنهم يخرجون مبعثرين هنا وهناك . في قوله تعالى : إذا بعثر ما في القبور [ 100 \ 9 ] ، وفي قوله تعالى : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم [ 99 \ 6 ] .
    قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة

    حالة ثانية ، وقد جمع الحالات في سورة " اقتربت الساعة " في قوله تعالى يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 6 - 8 ] . نسأل الله تعالى السلامة والعافية .

    وفي ختام السورة الكريمة لهذا الوصف والوعيد الشديد تأييد للقول ; بأن سؤالهم في أولها " بعذاب واقع " ، إنما هو استخفاف واستبعاد . فبين لهم تعالى بعد عرض السورة نهاية ما يستقبلون به ; ليأخذوا حذرهم ويرجعوا إلى ربهم . فارتبط آخر السورة بأولها .
    [ ص: 306 ]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ نُوحٍ .

    قوله تعالى : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم

    فيه بيان أن الله تعالى أرسل رسوله نوحا لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب ، فالنذارة أولا وهي عامة في جميع الأمم والرسل .

    كقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ; وذلك لإقامة الحجة أولا ، كما في قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه المسألة في سورة " بني إسرائيل " على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
    قوله تعالى : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم الآية . جعل الطاعة هنا لنبي الله نوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وعلق عليها مغفرة الله لذنوبهم .

    وقد بين تعالى أن طاعة النبي هي طاعة الله ، فهي في الأصل طاعة لله ; لأنه مبلغ عن الله كما في قوله تعالى في سورة " النساء " وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 79 - 80 ] .
    قوله تعالى : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا

    أي : على الدوام كما قال : ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 8 - 9 ] .

    أي : أن نبي الله نوحا عليه - وعلى نبينا الصلاة والسلام - بذل كل ما يمكنه في سبيل الدعوة إلى الله ، وقد بين تعالى مدة مكثه فيهم على تلك الحالة في قوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ 29 \ 14 ] .
    [ ص: 307 ] قوله تعالى : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا

    بين تعالى الغرض من جعل الأصابع في الآذان لعدم السماع ، كما في قوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن [ 41 \ 26 ] ، وإصرارهم واستكبارهم إنما هو عن اتباع ما دعاهم إليه نوح - عليه السلام - .

    كما قالوا : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل [ 11 \ 27 ] ، وقريب منه قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] .
    قوله تعالى : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا

    رتب إرسال السماء عليهم مدرارا على استغفارهم ، وهذا يدل على أن الاستغفار والتوبة والعمل الصالح قد يكون سببا في تيسير الرزق .

    وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث : " من أراد أن ينسأ له في عمره ، ويوسع له في رزقه ; فليصل رحمه " .

    وقد تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على هذه المسألة في سورة " هود " عند قوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا [ 11 \ 3 ] .

    كما دلت الآية الأخرى في هذه السورة على أن المعصية سبب للهلاك في قوله : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] .
    قوله تعالى : وقد خلقكم أطوارا هي المبينة في قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 12 \ 12 - 14 ] .

    وهذا مروي معناه عن ابن عباس . قاله ابن كثير والقرطبي .

    وقيل : " أطوارا " : شبابا ، وشيوخا ، وضعفاء .

    وقيل : " أطوارا " أي : أنواعا : صحيحا ، وسقيما ، وبصيرا ، وضريرا ، وغنيا ، وفقيرا .

    [ ص: 308 ] وقيل : " أطوارا " : اختلافهم في الأخلاق والأفعال . قاله القرطبي .

    ولكن كما قدم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أنه إذا تعددت الأقوال في الآية وكان فيها قرينة دالة على أحد الأقوال فإنه يبينه ، وهنا قرينة في الآية على أن المراد هو الأول ، وإن كان الجميع صحيحا ، والقرينة هي أن الآية في قضية الخلق وهو الإيجاد الأول ; لأن ما بعد الإيجاد صفات عارضة .

    وقد جاء نظير الآية في سورة " المؤمنون " كما قدمنا ، وقد ذيلت بقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] .

    ومنها أن الآية سيقت في الدلالة على قدرة الله على بعثهم بعد موتهم لمجازاتهم ، فكان الأنسب بها أن يكون متعلقها كمال الخلقة والقدرة على الإيجاد .

    والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين ، ثم تطويرها إلى علقة ، ثم تطوير العلقة مضغة ، ثم خلق المضغة عظاما ، ثم كسو العظام لحما . ثم نشأته نشأة أخرى .

    إنها قدرة باهرة وسلطة قاهرة .

    ومثله في " الواقعة " : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] .

    وفي " الطور " في أصل الخلقة : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] .

    إن أصل الخلقة والإيجاد ، وهو أقوى دليل على القدرة ، وهو الذي يجاب به على الكفرة ، كما في قوله تعالى :قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ثم قال : من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره [ 80 \ 18 - 19 ] ذلك كله دليل على أن المراد بالأطوار في الآية ، هو ما جاء عن ابن عباس المشتملة عليه سورة " المؤمنون " .

    تنبيه .

    إن بيان أطوار خلقة الإنسان على النحو المتقدم أقوى في انتزاع الاعتراف بقدرة الله [ ص: 309 ] من العبد ، من يحيي المخلوق جملة ; لأنه يوقفه على عدة مراحل من حياته وإيجاده ، وكل طور منها آية مستقلة ، وهذا التوجيه موجود في الظواهر الكونية أيضا من سماء وأرض ، فالسماء كانت دخانا وكانت رتقا ففتقهما ، والأرض كانت على غير ما هي عليه الآن ، وبين الجميع في قوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها [ 79 \ 27 - 32 ] . وأجمع من ذلك كله في قوله تعالى في " فصلت " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا [ 41 \ 9 - 12 ] . ثم ختم تعالى هذا التفصيل الكامل بقوله : ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] ، ففيه بيان أن تلك الأطوار في المخلوقات بتقدير معين ، وأنه بعلم ، ومن العزيز سبحانه ، فكان من الممكن خلقها دفعة واحدة ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .

    ولكن العرض على هذا التفصيل أبعد أثرا في نفس السامع وأشد تأثيرا عليه . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا في هذه الآية مع ما قبلها ثلاثة براهين من براهين البعث الأربعة التي كثر مجيئها في القرآن :

    الأولى : خلق الإنسان : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .

    والثانية : خلق السماوات والأرض : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .

    [ ص: 310 ] والثالثة : إحياء الأرض بعد موتها : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] .

    والرابع : الذي لم نذكر هنا هو إحياء الموتى بالفعل ، كقتيل بني إسرائيل : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى [ 2 \ 73 ] .

    وقد تقدم تفصيل ذلك في أكثر من موضع للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - وهنا سياق هذه البراهين للرد على المكذبين بالبعث ، ولكن في هذا السياق إشكال فيما يبدو كبير وهو قوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا [ 71 \ 15 ] .

    وإذا كان السياق للاستدلال بالمعلوم المشاهد على المجهول الغيبي ، فإن خلق الإنسان أطوارا محسوس مشاهد ومسلم به ، وإنبات الإنسان من الأرض بإطعامه من نباتها ، وإحياؤها بعد موتها ، واهتزازها ، وإنباتها النبات أمر محسوس .

    ويمكن أن يقال للمخاطب : كما شاهدت خلق الإنسان من عدم وتطوره أطوارا ، وشاهدت إحياء الأرض الميتة ، فإن الله الذي خلقك وأحيا لك الأرض الميتة قادر على أن يعيدك ويخرجك منها إخراجا .

    ولكن كيف تقول : وكما شاهدت خلق السماوات سبعا طباقا ، فإن القادر على ذلك قادر على بعثك . والحال أن الإنسان لم يشاهد خلق السماوات سبعا طباقا ، ولا رأى كيف خلقها الله سبعا طباقا ، والإشكال هنا هو كيف قيل لهم : ألم تروا كيف [ 71 \ 15 ] .

    والكيف للحالة والهيئة ، وهم لم يشاهدوها كما قال تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] .

    وكيف يستدلون بالمجهول عندهم على المغيب عنهم ؟

    وهنا تساءل ابن كثير تساؤلا واردا ، وهو قوله : طباقا أي : واحدة فوق واحدة ، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس ، مما علم من التسيير والكسوفات . وأظنه يعني التسيير من السير ، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا ، فأدناها القمر في السماء الدنيا ، وذكر الكواكب السبعة في السماوات السبع ، وكلام أهل الهيئة ولم يتعرض للإشكال بحل يركن إليه .



  10. #570
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (569)
    سُورَةُ الْجِنِّ
    صـ 311 إلى صـ 318


    [ ص: 311 ] وقال القرطبي : قوله تعالى : ألم تروا كيف على جهة الإخبار لا المعاينة .

    كما تقول : ألم تر كيف فعلت بفلان كذا ؟

    وعلى كلام القرطبي يرد السؤال الأول ، إذا كان ذلك على جهة الإخبار ، فكيف يجعل الخبر دليلا على خبر آخر لا يدرك إلا بالسمع ؟

    والجواب عن ذلك مجملا مما تشير إليه آيات القرآن الكريم كالآتي :

    أولا : إن تساؤل ابن كثير هل يتلقى ذلك من جهة السمع فقط ؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس ، لا محل له ; لأنه لا طريق إلا النقل فقط ، كما قال تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] ، أي : آدم . فلم نعلم كيف خلق ، ولا كيف سارت الروح في جسم جماد صلصال ، فتحول إلى جسم حساس نام ناطق .

    وأما قول القرطبي : إنه على جهة الإخبار لا المعاينة ، فهو الذي يشهد له القرآن .

    ويجيب القرآن على السؤال الوارد عليه ، وذلك في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 9 - 13 ] ; لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعا ; لقوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين .

    وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعا من خلق الأرض في يومين ، ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ، ومن استوائه إلى السماء وهي دخان .

    ومن قوله لها وللأرض : ائتيا طوعا أو كرها .

    ومن قولهما : أتينا طائعين .

    [ ص: 312 ] ومن قضائهن سبع سماوات في يومين .

    ومن وحيه في كل سماء أمرها .

    كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء ، ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات ، فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار .

    وعقبه بقوله : ذلك تقدير العزيز العليم ; فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم ، أن يصدقوا أو أن يؤمنوا . وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعا بصدقه من كل من هو واثق بقوله : يقول الخبر ، وكان لقوة صدقه ملزما لسامعه ، ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه .

    ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة : فإن أعرضوا أي : بعد إعلامهم بذلك كله ، فلا عليك منهم : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .

    وحيث إن الله خاطبهم هنا ألم تروا كيف فكان هذا أمرا لفرط صدق الإخبار به ، كالمشاهد المحسوس الملزم لهم

    وقد جاءت السنة ، وبينت تلك الكيفية أنها سبع طباق ، بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، وشمل كل سماء وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام .

    وقد يقال : إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة ، ولكن في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج ; حيث عرج به ورأى السبع الطباق ، وكان يستأذن لكل سماء . ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع ، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه - صلى الله عليه وسلم - ولحقيقة معرفتهم إياه - صلى الله عليه وسلم - في الصدق من قبل . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ينص تعالى هنا أن قوم نوح اتبعوا من هذا وصفه مع أن المال يزيد الإنسان نفعا . وقد بين تعالى أن المال فعلا قد يورث خسارة وهلاكا كما في قوله تعالى : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، أي : بالطغيان يكون إهلاكا .
    قوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا

    [ ص: 313 ] في هذا نص على أن نبي الله نوحا طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعا ، مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم ، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد ، وأنهم لم يلدوا إلا فاجرا كفارا ، فكيف دعا على قومه هذا الدعاء ، وكيف حكم على المواليد فيما بعد ؟

    والقرآن الكريم بين هذين الأمرين :

    أما الأول : فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم ، أما تحديهم ففي قولهم : يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا [ 11 \ 32 ] .

    وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ 54 \ 9 - 10 ] .

    وأما يأسه منهم ; فلقوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] .

    وأما إخباره عمن سيولد : بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار ، فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفا ; لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن ، فسواء في الحاضر أو المستقبل .

    وكذلك بدليل الاستقراء ، وهو دليل معتبر شرعا وعقلا ، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل ، كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط ، فكان دليلا على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له ، وهو دليل نبي الله موسى - عليه السلام - أيضا على قومه .

    كما قال تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 88 ] .

    فأخبر نبي الله موسى عن قومه : أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى : فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 21 - 24 ] .

    وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله : [ ص: 314 ] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ 7 \ 133 ] .

    وقوله تعالى بعدها : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون [ 7 \ 134 - 135 ] .

    فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم ، لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .

    وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قومه ، استدل به على عكس الأقوام الآخرين ، حينما رجع من الطائف ، وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه ، وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال ، واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين ، فقال : " لا ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله " وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - علم باستقراء حالهم ; أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم ، وأنهم في حاجة إلى التعليم .

    فإذا علموا تعلموا ، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم ; لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن ، وخوطبوا بخطاب العقل ، ووعوا ما يخاطبون به ، وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى ، فإنهم يستجيبون حالا كما حدث لعمر وغيره - رضي الله عنهم - إلا من أعلمه الله بحاله مثل : الوليد بن المغيرة : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا إلى قوله إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إلى قوله سأصليه سقر [ 74 \ 11 - 26 ] فعلم - صلى الله عليه وسلم - حاله ومآله ، ولذا فقد دعا عليه يوم بدر .

    ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب [ 111 \ 3 - 4 ] فلكون العرب أهل فطرة ، ولكون الإسلام دين الفطرة أيضا كانت الاستجابة إليه أقرب .

    انظر مدة مكثه - صلى الله عليه وسلم - من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثا وعشرين سنة ، كم عدد من أسلم فيها بينما نوح - عليه السلام - يمكث ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن معه إلا القليل .

    [ ص: 315 ] ولذا كان قول نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، كان بدليل الاستقراء من قومه ، والعلم عند الله تعالى .

    وقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا لم يبين هنا هل استجيب له أم لا ؟ وبينه في مواضع أخر ، منها قوله : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له [ 21 \ 76 ] .

    وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا [ 71 \ 25 ] ، فجمع الله لهم أقصى العقوبتين : الإغراق ، والإحراق ، مقابل أعظم الذنبين : الضلال ، والإضلال .

    وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه في قوله : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا الآية [ 54 \ 10 - 14 ] .

    قال ابن كثير : لقد أغرق الله كل من على وجه الأرض من الكفار ، حتى ولد نوح من صلبه . وهنا تنبيه على قضية ولد نوح في قوله يابني اركب معنا إلى قوله فكان من المغرقين [ 11 \ 42 - 43 ] لما أخذت نوحا العاطفة على ولده ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، إلى قوله : إنه ليس من أهلك [ 11 \ 45 - 46 ] أثار بعض الناس تساؤلا حول ذلك في قراءة : إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] إنه عمل ماض يعمل ، أي : بكفره .

    وتساءلوا حول صحة نسبه ، والحق أن الله تعالى قد عصم نساء الأنبياء ; إكراما لهم ، وأنه ابنه حقا ; لأنه لما قال : إن ابني من أهلي تضمن هذا القول أمرين : نسبته إليه في بنوته ، ثانيا : نسبته إليه في أهله ، فكان الجواب عليه من الله بنفي النسبة الثانية لا الأولى ، " إنه ليس من أهلك " . ولم يقل : إنه ليس ابنك ، والأهل أعم من الابن ، ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، والعكس بالعكس ، فلما نفى نسبته إلى أهله علمنا أن نسبته إليه بالبنوة باقية ، ولو لم يكن ابنه لصلبه لكان النفي ينصب عليها .

    ويقال : إنه ليس ابنك ، وإذا نفى عنه البنوة انتفت عنه نسبته إلى أهله ، وكذلك قوله [ ص: 316 ] تعالى بعدها : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ 11 \ 37 ] أي ; لأن الظالمين ليسوا من الأهل بالنسبة للدين ; لأن الدين يربط البعيدين ، والظلم الذي هو بمعنى الكفر يفرق القريبين . والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 317 ]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْجِنِّ .

    قوله تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا

    فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به ، وهدايتهم بهديه ، وإيمانهم بالله . وتقدمت الإشارة بذلك من كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأحقاف " عند قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن [ 46 \ 29 ] ، وفي آية " الأحقاف " بيان لما قام به النفر من الجن بعد سماعهم القرآن ، بأنهم لما قضي سماعهم ولوا إلى قومهم منذرين .

    وفيها : بيان أنهم عالمون بكتاب موسى وهو التوراة ، وقد شهدوا بأن القرآن مصدق لما بين يديه ، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم ، كما جاء هنا قوله : يهدي إلى الرشد .
    قوله تعالى : وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا

    والشطط : البعيد المفرط في البعد ، قال عنترة في معلقته :


    شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا على طلابها ابنة مخرم


    وروي :
    حلت بأرض الزائرين فأصبحت
    وأنشد أيضا لغيره :


    شط المزار بجذوي وانتهى الأمل
    ففي كلا البيتين الشطط : الإفراط في البعد ، إذ في الأول قال : فأصبحت عسرا على طلابها ، وفي الثاني قال : وانتهى الأمل ، وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص ، [ ص: 318 ] وهو البعد عن الحق ، كما في قوله تعالى : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط [ 38 \ 22 ] .

    ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك ، وهو المراد هنا كما في سورة " الكهف " في قوله : لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] ; لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق .

    ويدل على أن المراد هنا ما جاء في هذه السورة : فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 72 \ 2
    قوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا

    بين تعالى المراد بتلك الحراسة : بأنه لحفظها عن استراق السمع ، كما في قوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا [ 37 \ 6 - 7 ] ، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع ، فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن ، فيكذب معها مائة كذبة ، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم .

    كما في قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] .



  11. #571
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (570)
    سُورَةُ الْجِنِّ
    صـ 319 إلى صـ 326


    قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا

    فيه نص على أن الجن لا تعلم الغيب ، وقد صرح تعالى في قوله : فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [ 34 \ 14 ] .

    وقد يبدو من هذه الآية إشكال ، حيث قالوا أولا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به [ 72 \ 1 - 2 ] ثم يقولون وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [ 72 \ 10 ] والواقع أنهم تساءلوا لما لمسوا السماء فمنعوا منها لشدة حراستها ، وأقروا أخيرا لما سمعوا القرآن وعلموا السبب في تشديد حراسة السماء ; لأنهم لما منعوا ما كان يخطر ببالهم أنه من أجل الوحي ; لقوله وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا [ 72 \ 7 ] .

    وقوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا [ 72 \ 8 ] يدل بفحواه أنهم منعوا من السمع ، كما قالوا : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] [ ص: 319 ] ولكن قد يظن ظان أنهم يحاولون السماع ولو مع الحراسة الشديدة ، ولكن الله تعالى صرح بأنهم لم ولن يستمعوا بعد ذلك ، كما قال تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] .
    قوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا كما قال تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [ 5 \ 66 ] ، وقوله : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] فكلها نصوص على أن الأمة إذا استقامت على الطريقة القويمة شرعة الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض .

    ومثل ذلك قوله تعالى : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] .

    ومفهوم ذلك : أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجبا لحرمانه من نعمة الله تعالى عليه ، كما جاء صريحا في قوله : واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر [ 18 \ 10 - 34 ] .

    فهذه نعمة كاملة ، كما وصف الله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا إلى قوله : وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ 18 \ 34 - 43 ] .

    وما أشبه الليلة بالبارحة فيما يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين الاتجاهين المتناقضين الشيوعي والرأسمالي . وما أثبته الواقع من أن المعسكر الشيوعي الذي أنكر وجود الله ، وكفر بالذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلا ، فإنه وكل من يسير في فلكه مع مدى تقدمه الصناعي ، فإنه مفتقر لكافة الأمم الأخرى في استيراد القمح ، وإن روسيا بنفسها [ ص: 320 ] لتفرج عن بعض احتياطها من الذهب لتشتري قمحا . ولا زالت تشتريه من المعسكر الرأسمالي .

    وهكذا الدول الإسلامية التي تأخذ في اقتصادياتها بالمذهب الاشتراكي المتفرع من المذهب الشيوعي ; فإنها بعد أن كانت تفيض بإنتاجها الزراعي على غيرها ، أصبحت تستورد لوازمها الغذائية من خارجها ، وتلك سنة الله في خلقه ، ولو كانوا مسلمين كما قص الله تعالى علينا قصة أصحاب الجنة : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، إلى قوله فأصبحت كالصريم ، إلى قوله قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين [ 68 \ 17 - 29 ] .

    ولذا كانت الزكاة طهرة للمال ونماء له .

    وقوله لنفتنهم فيه [ 72 \ 17 ] ، أي : نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله ، أم الطغيان بها ومنع حقها ؟ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 15 - 16 ] .
    قوله تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

    " المساجد " : جمع مسجد . والمسجد لغة اسم مكان على وزن مفعل ، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس ، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود .

    وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها ; لأوصاف طارئة عليها ، وهي المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفوق الحمام ، ومواضع الخسف ، ومعاطن الإبل ، والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها ، والبيع .

    وقد عد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تسعة عشر موضعا عند قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] في الكلام على حكم أرض الحجر ، ومواطن الخسف ، وساق كل موضع بدليله ، وهو بحث مطول مستوفى ; والمسجد عرفا [ ص: 321 ] كل ما خصص للصلاة ، وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى ، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله ، أي : بعبادته وذكره ، كما قال تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة [ 24 \ 36 - 37 ] .

    ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة ، كما في الحديث : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له : لا أربح الله تجارتك " رواه النسائي ، والترمذي وحسنه .

    وكذلك إنشاد الضالة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد ، فقولوا له : لا ردها الله عليك ; فإن المساجد لم تبن لذلك " رواه مسلم .

    وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال له - صلى الله عليه وسلم - : " إن هذه المساجد لم تبن لذلك ; إنما هي لذكر الله وما والاه " ، وفي موطأ مالك : أن عمر - رضي الله عنه - بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى : البطحاء . وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة .

    واللغط هو : الكلام الذي فيه جلبة واختلاط . وأل في المساجد : للاستغراق ; فتفيد شمول جميع المساجد ، كما تدل في عمومها على المساواة ، ولكن جاءت آيات تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص ، وهي :

    المسجد الحرام ; خصه الله تعالى بما جاء في قوله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 96 - 97 ] . فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه : أول بيت وضع للناس ، ومبارك ، وهدى للعالمين ، وفيه آيات بينات ، ومقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، والحج والعمرة إليه ، وآيات أخر .

    والمسجد الأقصى ; قال تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ 17 \ 1 ] فخص بكونه مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وبالبركة حوله ، وأري - صلى الله عليه وسلم - فيه من آيات ربه .

    [ ص: 322 ] وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف مكة ، ومن المسجد الحرام ، ولكن ليريه من آيات الله : كعلامات الطريق ; لتكون دليلا له على قريش في إخباره بالإسراء والمعراج ، وتقديم جبريل له الأقداح الثلاثة : بالماء ، واللبن ، والخمر ، واختياره اللبن رمزا للفطرة . واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في المسجد الأقصى ، بينما رآهم في السماوات السبع ، وكل ذلك من آيات الله أريها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الأقصى .

    والمسجد النبوي ، ومسجد قباء : فمسجد قباء : نزل فيه قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ 9 \ 108 ] .

    فجاء في صحيح مسلم : أن أبا سعيد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم ؟ فأخذ - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده ، وقال : " مسجدكم هذا " .

    وجاء في بلوغ المرام وغيره : حديث ابن عباس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء ، فقال : " إن الله يثني عليكم " ، فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء ، رواه البزار بسند ضعيف .

    قال ابن حجر : وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بدون ذكر الحجارة .

    وقال صاحب وفاء الوفاء : وروى ابن شيبة من طرق ما حاصله أن : الآية لما نزلت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل قباء .

    وفي رواية : أهل ذلك المسجد .

    وفي رواية : بني عمرو بن عوف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما بلغ من طهوركم ؟ قالوا : نستنجي بالماء " .

    قال : وروى أحمد ، وابن شيبة ، واللفظ لأحمد عن أبي هريرة ، قال : انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا لنا : انطلقوا إلى مسجد التقوى ، فانطلقنا نحوه . فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه ، فقال : من هؤلاء يا أبا بكر ؟ فقال : عبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وجندب .

    [ ص: 323 ] فحديث مسلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلك النصوص في مسجد قباء .

    وقد قال ابن حجر - رحمه الله - : والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى : فيه رجال يحبون أن يتطهروا [ 9 \ 108 ] ظاهر في أهل قباء .

    وقيل : إن حديث مسلم في خصوص مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء ردا على اختلاف رجلين في المسجد المعني بها ، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة بمسجد قباء ، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو معلوم في الأصول .

    وعليه ، فالآية إذا اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان ، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى ، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها ، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه [ 9 \ 107 - 108 ] .

    ومعلوم أن مسجد الضرار كان بمنطقة قباء ، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي لهم فيه تبركا في ظاهر الأمر ، وتقريرا لوجوده يتذرعون بذلك ، ولكن الله كشف عن حقيقتهم .

    وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين ، فقال تعالى له : لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا الآية [ 9 \ 108 ] .

    وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم [ 9 \ 109 - 110 ] .

    وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين ، وأن الأولية في الآية في قوله : من أول يوم [ 9 \ 108 ] أولية نسبية ، أي : بالنسبة لكل مسجد في أول [ ص: 324 ] يوم بنائه ، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة ، وهو أول يوم وصل - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ونزل بقباء ، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا .

    وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة ، أهمها : تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي ، ففي البيت الحرام قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] .

    وفي المسجد الأقصى ما جاء في الأثر عنه : أن الله أوحى إلى نبيه داود أن ابن لي بيتا ، قال : وأين تريدني أبنيه لك يا رب ؟ قال : حيث ترى الفارس المعلم شاهرا سيفه . فرآه في مكانه الآن ، وكان حوشا لرجل من بني إسرائيل . إلى آخر القصة في البيهقي .

    وفي مسجد قباء بسند فيه ضعف . لما نزل - صلى الله عليه وسلم - قباء ، قال : " من يركب الناقة " إلى أن ركبها علي ، فقال له : " أرخ زمامها " فاستنت ، فقال : " خطوا المسجد حيث استنت " .

    وفي المسجد النبوي : جاء في السير كلها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بحي من أحياء المدينة ، وقالوا له : هلم إلى العدد والعدة ، فيقول : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " ، حتى وصلت إلى أمام بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - . وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود ، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد .

    وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله ، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم - عليه السلام - ، أي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة ، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل [ 2 \ 127 ] .

    وكذلك بيت المقدس ، وبينه وبين البيت أربعون سنة ، كما في حديث عائشة في البخاري ، أي : تجديد بنائه .

    وكذلك مسجد قباء ، فقد شارك - صلى الله عليه وسلم - في بنائه ، وجاء في قصة بنائه أن رجلا لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حاملا حجرا ، فقال : دعني أحمله عنك يا رسول الله ، فقال له : " انطلق وخذ غيرها ، فلست بأحوج من الثواب مني " .

    وكذلك مسجده الشريف بالمدينة المنورة ، حين بناه أولا من جذوع النخل وجريده [ ص: 325 ] ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك .

    ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة ، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا .

    ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها ، أصلها الصلاة ، كما بوب لهذا البخاري بقوله : باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة . وساق الحديثين .

    الأول حديث : " لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

    والحديث الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .

    كما اختص المسجد النبوي بروضته ، التي هي روضة من رياض الجنة .

    وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ومنبري على ترعة من ترع الجنة " ، وهو حديث مشهور : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .

    واختص مسجد قباء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين ، كان له كأجر عمرة " ، أخرجه ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد ، ورواه أحمد والحاكم ، وقال : صحيح بسند .

    قال في وفاء الوفاء : وقال عمر بن شبة : حدثنا سويد بن سعيد ، قال حدثنا أيوب بن حيام ، عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلس وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! : ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .

    وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة ، حتى قال عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :


    فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء من اللائي سوالفهن غيد
    عليهن الملاحة بالبهاء


    [ ص: 326 ] وروى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، قالت : سمعت أبي يقول : لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين . لو يعلمون ما في قباء ; لضربوا إليه أكباد الإبل ، وغير ذلك من الآثار مرفوعة وموقوفة ، مما يؤكد هذا المعنى من أن قباء اختص بأن من تطهر في بيته وأتى إليه عامدا ، وصلى فيه ركعتين ; كان له كأجر عمرة .
    تنبيه .

    وهنا سؤال يفرض نفسه : لماذا كان مسجد قباء دون غيره ، ولماذا اشترط التطهر في بيته لا من عند المسجد ؟ ولقد تطلبت ذلك طويلا فلم أقف على قول فيه ، ثم بدا لي من واقع تاريخه ، وارتباطه بواقع المسلمين والمسجد الحرام : أن مسجد قباء له ارتباطات عديدة بالمسجد الحرام :

    أولا : من حيث الزمن ، فهو أسبق من مسجد المدينة .

    ومن حيث الأولية النسبية ، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس .

    ومسجد قباء أول مسجد بناه المسلمون .

    والمسجد الحرام بناه الخليل .

    ومسجد قباء بناه خاتم المرسلين .

    والمسجد الحرام كان مكانه باختيار من الله ، وشبيه به مكان مسجد قباء .

    ومن حيث الموضوعية; فالمسجد الحرام مأمن وموئل للعاكف والباد .

    ومسجد قباء مأمن ومسكن وموئل للمهاجرين الأولين ، ولأهل قباء ، فكان للصلاة فيه شدة ارتباط بالمسجد الحرام تجعل المتطهر في بيته والقاصد إليه للصلاة فيه كأجر عمرة . ولو قيل : إن اشتراط التطهير في بيته لا عند المسجد شدة عناية به أولا ، وتمحيص القصد إليه ثانيا ، وتشبيه أو قريب بالفعل من اشتراط الإحرام للعمرة من الحل ، لا من عند البيت في العمرة الحقيقة ، لما كان بعيدا . فالتطهر من بيته والذهاب إلى قباء للصلاة فيه كالإحرام من الحل والدخول في الحرم للطواف والسعي ، كما فيه تعويض المهاجرين عما فاتهم من جوار البيت الحرام قبل الفتح . - والله تعالى أعلم - .



  12. #572
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (571)
    سُورَةُ الْجِنِّ
    صـ 327 إلى صـ 334



    تنبيه آخر .

    إن مما ينبغي أن يعلم : أن للمسجد في المجتمع الإسلامي رسالة عظمى ، ألزم ما يكون على المسلمين إحياؤها : وهي أن المسجد لهم هو بيت الأمة فيهم ، لجميع مصالحهم العامة والخاصة تقريبا مما يصلح له ، فكأن المسجد النبوي في أول أمر المسلمين المثال لذلك .

    إذ كان المصلى الذي تتضاعف فيه الصلاة ، وكان المعهد لتلقي العلم منه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جبريل - عليه السلام - ومن الأئمة ورثة الأنبياء ، ولا يزال - بحمد الله - كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما كعالم المدينة " .

    وكما قال : " من راح إلى مسجدي لعلم يتعلمه أو يعلمه كان كمن غزا في سبيل الله " ، وكان فيه تعليم الصبيان للقراءة والكتابة ، وكان ولا يزال كذلك إلى اليوم - بحمد الله - ، وكان مقرا للإفتاء ، ومجلسا للقضاء ، ومقرا للضيافة ، ومنزلا للأسارى ، ومصحا للجرحى .

    وقد ضربت لسعد فيه قبة لما أصابه سهم ليعوده - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، ومقرا للقيادة ، فتعقد فيه ألوية الجهاد ، وتبرم فيه معاهدات الصلح ، ومنزلا للوفود : كوفد تميم وعبد القيس ، وبيتا للمال : كمجيء مال البحرين وحراسة أبي هريرة له .

    ولما نقب بيت مال المسلمين ، قال عمر - رضي الله عنه - لعامله هناك : انقله إلى المسجد فلا يزال المسجد فيه مصلي ، أي : ليتولى حراسته ومقيلا للعزاب ومبيتا للغرباء . إلى غير ذلك مما لا يوجد في أي مؤسسة أخرى . ولا تتأتى إلا في المسجد ، مما يؤكد رسالة المسجد ، ويستدعي الانتباه إليه وحسن الاستفادة منه .
    وبمناسبة اختصاص هذه المساجد الأربعة بمزيد الفضل وزيادة مضاعفة الصلاة ، فإن في المسجد النبوي خاصة عدة مباحث طالما أشير إليها في عدة مواضع وهي من الأهمية بمكان ، وأهمها أربعة مباحث نوردها بإيجاز ، وهي :

    الأول : مضاعفة الصلاة بألف . وهل هي خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من بنائه - صلى الله عليه وسلم - ، أم يشمل ذلك ما دخله من زيادات .

    وكذلك امتداد الصفوف خارجه عن الزحمة ، وهل هي في الفرض فقط أم فيه وفي النفل ؟ ، وهل هي للرجال والنساء أم للرجال فقط ؟ .

    [ ص: 328 ] وقضية الأربعين صلاة الثانية بعد التوسعة الأولى لعمر وعثمان ، ونقل المحراب إلى القبلة عن الروضة ، فأي الصفين أفضل ؟ الصف الأول أم صفوف الروضة .

    الثالثة : صلاة المأمومين عند الزحام أمام الإمام .

    الرابعة : حديث شد الرحال والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يأتي مبحث موجب الربط بين أول الآية وآخرها ، وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا

    لما فيه من التنويه والإيماء إلى بناء المساجد على القبور مع تمحيص العبادة لله وحده .

    وتلك المباحث كنت قد فصلتها في رسالة المسجد النبوي التي كتبتها من قبل ، ونجمل ذلك هنا .

    المبحث الأول .

    هل الفضلية خاصة بالفرض ، أم بالنفل ؟ اتفق الجمهور على الفرض ، ووقع الخلاف في النفل ، ما عدا تحية المسجد ركعتين بعد الجمعة وركعتين قبل المغرب .

    وأما الخلاف في النوافل الراتبة في الصلوات الخمس وفي قيام الليل ، وسبب الخلاف هو عموم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " فمن حمله على العموم شمله بالنافلة ، ومن حمل العموم على الأصل فيه قصره على الفريضة ، إذ العام على الإطلاق يحمل على الأخص منه ، وهي الفريضة .

    وقد جاء حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وغيره : " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " .

    وجاء التصريح بمسجده بقوله : " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " .

    وما جاء عن الترمذي في الشمائل ومجمع الزوائد : أن عبد الله بن سعد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في بيته والصلاة في المسجد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ; فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد ، إلا أن تكون المكتوبة " .

    وفي رواية : " أرأيت قرب بيتي من المسجد ؟ " ، قال : بلى . قال : " فإني [ ص: 329 ] أصلي النافلة في بيتي "
    .
    المبحث الثاني .

    أقوال الأئمة - رحمهم الله - ، وعلى هذا التفصيل كانت أقوال الأئمة - رحمهم الله - كالتالي :

    قول الإمام أبي حنيفة : إن النافلة في البيت أفضل ، وإذا وقعت في المسجد النبوي كان لها نفس الأجر ، أي : أنها عامة في كل الصلوات . ولكنها في البيت أفضل هي منها في المسجد .

    وعند الشافعي : اختلفت الرواية عنه ، فذكر النووي في شرح مسلم العموم . وجاء عنه في المجموع ما يفيد الخصوص وإن لم يصرح به .

    والنصوص في صلاة النافلة في البيت عديدة ، منها : " اجعلوا صلاتكم في بيوتكم " .

    ومنها : " أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم " .

    وذكر القرطبي عن مسلم : " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده ; فليجعل لبيته نصيبا من صلاته " .

    وعند المالكية : يعم الفرض والنفل ، واستدل لذلك بأن الحديث في معرض الامتنان ، والنكرة إذا كانت في سياق الامتنان تعم ، أي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، فصلاة لفظ نكرة .

    وفي معرض الامتنان والتفضل بهذا الأجر العظيم ، فكان عاما في الفرض والنفل ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - لا خلاف بين الفريقين . إذ فضيلة الألف حاصلة لكل صلاة صلاها الإنسان فيه فرضا كانت أو نفلا .

    وصلاة النافلة في البيت تكون أفضل منها في المسجد بدوام صلاته - صلى الله عليه وسلم - النوافل في البيت مع قرب بيته من المسجد ، كما أن هذه الفضيلة تشمل صلاة الرجل والمرأة .

    [ ص: 330 ] ولكن صلاة المرأة مع ذلك أفضل في بيتها منها في المسجد ، وهذا هو المبحث الثاني ، أي : أيهما أفضل للمرأة : صلاتها في بيتها أم في المسجد النبوي ؟ .

    وهذه المسألة قد بحثها فضيلة الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [ 24 \ 37 ] .

    وأن مفهوم " رجال " مفهوم صفة في هذه المسألة لا مفهوم لقب ; وعليه فالنساء يسبحن في بيوتهن ، وقد ساق البحث وافيا في عموم المساجد وخصوص المسجد النبوي ، مما يكفي توسعا .
    المبحث الثالث .

    وهو : هل المضاعفة خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي بناه ، والذي كان موجودا أثناء حياته - صلى الله عليه وسلم - ، أو أنها توجد فيه وفيما دخله من الزيادة من بعده .

    أما مثار البحث هو ما جاء في نص الحديث اسم الإشارة في مسجدي هذا ، فقال بعض العلماء : اسم الإشارة موضوع للتعيين ، وقال علماء الوضع : إنه موضوع بوضع عام لموضوع له خاص ، فيختص عند الاستعمال بمفرد معين ، وهو ما كان صالحا للإشارة الحسية ، وهو عين ما كان موجودا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    ومعلوم أن الإشارة لم تتناول الزيادة التي وجدت بعد تلك الإشارة ، فمن هنا جاء الخلاف والتساؤل .

    وقد نشأ هذا التساؤل في زمن عمر - رضي الله عنه - عند أول زيادة زادها في المسجد النبوي ، فرأى بعض الصحابة يتجنبون الصلاة في تلك الزيادة ويرغبون في القديم منها ، فقال لهم : لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد توسعة المسجد لما وسعته ، ووالله إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو امتد إلى ذي الحليفة ، أو ولو امتد إلى صنعاء ، فهذا مثار البحث وسببه .

    ولكن لو قيل : إنه في نفس الحديث مبحث لغوي آخر وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في [ ص: 331 ] مسجدي " ، بالإضافة إليه - صلى الله عليه وسلم - ، والإضافة تفيد التخصيص أو التعريف .

    وفيه معنى العموم والشمول ، والآن مع الزيادة في كل زمان وعلى مر الأيام ، فإنه لم يزل هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه كان تصريح عمر : إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    أقوال العلماء : الجمهور على أن المضاعفة في جميع أجزائه بما فيها الزيادة ، ونقل عن النووي في شرح مسلم : أنها خاصة بالمسجد .

    الأول : قبل الزيادة ، وقيل : إنه رجع عنه . وهذا الرجوع موجود في المجموع شرح المهذب ، وعليه فلم يبق خلاف في المسألة .

    وقال ابن فرحون : وقفت على كلام لمالك ، سئل عن ذلك فقال : ما أراه - عليه السلام - أشار بقوله : " في مسجدي هذا " إلا لما سيكون من مسجد بعده ، وأن الله أطلعه على ذلك .

    وقد قدمت الإشارة إلى أن عمر - رضي الله عنه - ما زاد في المسجد إلا بعد أن سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبته في الزيادة ، فيكون تأييدا لقول مالك - رحمه الله - . وروي أيضا : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوما وهو في مصلاه في المسجد : " لو زدنا في مسجدنا " ، وأشار بيده نحو القبلة .

    وفي رواية : " إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا " ، مما يدل على أن الزيادة كانت في حسبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ومع الرغبة في الزيادة لم تأت إشارة إلى ما يغير حكم الصلاة في تلك الزيادة المنتظرة ، ولا يقال : إنها قبل وجودها لا يتعلق بها حكم ; لأننا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رتب أحكاما على أمور لم توجد بعد : كمواقيت الإحرام المصري والشامي والعراقي ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ستفتح اليمن ، وستفتح الشام ، وستفتح العراق " ، ومع كل منها يقول : " سيؤتى بأقوام يبسون هلم إلى الرخاء والسعة فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .

    وقال البعض : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في مسجدي هذا " لدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد ، لا لإخراج ما سيزاد في المسجد النبوي . قاله [ ص: 332 ] السمهودي . اهـ .

    ولكن لم يعلم أنه كانت هناك عدة مساجد له - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن إلا المسجد والمصلى ، وبقية المساجد أطلقت عليها اصطلاحا .

    ولابن تيمية كلام موجز في ذلك ، وهو أن الزيادة كانت في عهدي عمر وعثمان - رضي الله عنهما - .

    وقعت زيادة كل منهما من جهة القبلة ، ومع هذا فإن كلا منهما كان إذا صلى بالناس قام في القبلة الواقعة في تلك الزيادة ، فيمتنع أن تكون الصلاة في تلك الزيادة ليست لها فضيلة المسجد ، إذ يلزم عليه صلاةعمر وعثمان بالناس .

    وصلاة الناس معهم في الصفوف الأولى في المكان المفضول مع ترك الأفضل . اهـ .

    ومن كل ما قدمنا يتضح أن : حكم الزيادة في المسجد النبوي كحكم الأصل في مضاعفة الأجر إلى الألف .

    وقد كنت سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ما يفيد ذلك ، وسيأتي ذلك - إن شاء الله - في مبحث الأربعين صلاة ، وصلاة الناس في الصف خارج المسجد .

    تنبيه .

    هذه المضاعفة أجمعوا على أنها في الكيف لا في الكم ، فلو أن على إنسان فوائت يوم خمس صلوات ، وصلى صلاة هي خير من ألف صلاة ، لن تسقط عنه شيئا من تلك الفوائت ، فهي في نظري بمثابة ثوب وثوب آخر أحدهما قيمته ألف درهم ، والآخر بدرهم واحد ، فكل منهما ثوب في مهمته ، ولن يلبسه أكثر من شخص في وقت مهما كان ثمنه .

    وكذلك كالقلم والقلم ، فمهما غلا ثمن القلم ، فلن يكتب به شخصان في وقت واحد .

    تنبيه آخر .

    مما لا شك فيه أن للمسجد الأساسي خصائص لم توجد في بقية المسجد : كالروضة من الجنة . والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، بعض السواري ذات التاريخ .

    [ ص: 333 ] وقد قال النووي : إذا كان الشخص سيصلي منفردا أو نفلا ، فإن الأفضل أن يكون في الروضة وإلا ففي المسجد الأول ، وإذا كان في الجماعة ، فعليه أن يتحرى الصف الأول ، وإلا ففي أي مكان من المسجد ، وهذا معقول المعنى . والحمد لله .
    المبحث الرابع .

    وهو بعد هذه التوسعة وانتقال الصف الأول عن الروضة ، فهل الأفضل الصلاة في الجماعة في الصف الأول ، أم في الروضة مع تخلفه عن الأول ؟ ولتصوير هذه المسألة نقدم الآتي :

    أمام المصلى موضعان :

    أحدهما الروضة ; بفضلها روضة من رياض الجنة .

    والصف الأول : وفيه : " لو يعلمون ما الصف الأول لاستهموا عليه " ، فأي الموضعين يقدم على الآخر ؟

    ومعلوم أنهم كانوا قبل التوسعة يمكنهم الجمع بين الفضيلتين ، إذ الصف الأول كان في الروضة .

    أما الآن وبعد التوسعة فقد انفصل الصف الأول عن الروضة ، ما دام الإمام يصلي في مقدمة المسجد ، ولم أقف على تفصيل في المسألة .

    ولكن عمومات للنووي ، ولابن تيمية - على ما قدمنا في مبحث شمول المضاعفة للزيادة ، ولكن توجد قضية يمكن استنتاج الجواب منها ، وهي قبل التوسعة كان للصف الأول ميمنة وميسرة ، وكان للميمنة فضيلة على الميسرة . ومعلوم أن ميمنة الصف قبل التوسعة كانت تقع غربي المنبر ، أي : خارجة عن الروضة ، والميسرة كلها كانت في الروضة ، ومع ذلك فقد كانوا يفضلون الميمنة على الميسرة لذاتها ، عن الروضة لذاتها أيضا ، فإذا كانت الميمنة - وهي خارج الروضة - مقدمة عندهم عن الروضة ، فلأن يقدم الصف الأول من باب أولى .

    وهناك حقيقة فقهية ذكرها النووي ، وهي تقديم الوصف الذاتي على الوصف العرضي ، وهو هنا الصف الأول وصف ذاتي للجماعة . وفضل الروضة وصف عرضي للمكان . أي : لكل حال من ذكر أو صلاة فريضة أو نافلة ، فتقديم الصف الأول لكونه ذاتيا

    [ ص: 334 ] بالنسبة للجماعة أولى من تقديم الروضة ; لكونه وصفا عرضيا .

    وقد مثل لهذه القاعدة النووي بقوله : فلو أن إنسانا في طريقه إلى الصلاة بالمسجد النبوي فوجد مسجدا آخر يصلي جماعة ، فكان بين أن يدرك الجماعة مع هؤلاء أو يتركها ويمضي إلى المسجد النبوي ، وتفوته الصلاة فيصلي منفردا بألف صلاة ، فقال : يصلي في هذا المسجد جماعة أولى له ; لأنه تحصيل الجماعة وصف ذاتي للصلاة ، وتحصيل خير من ألف صلاة وصف عرضي بسبب فضل المسجد النبوي . اهـ . ملخصا .

    وقد يقال أيضا : إن العبد مكلف بإيقاع الصلاة في جماعة أكثر منه تكليفا بإيقاعها في المسجد النبوي .

    وهكذا الحال ; فإنا مطالبون بالصف الأول على الإطلاق حيث ما كان ، أكثر منا مطالبة بالصلاة في الروضة . والعلم عند الله تعالى .
    المبحث الخامس .

    وهو في حالة ازدحام المسجد وامتداد الصفوف إلى الخارج في الشارع أو البرحة ، فهل لامتداد الصفوف تلك المضاعفة أم لا ؟

    لنعلم أن فضيلة الجماعة حاصلة بلا خلاف . أما المضاعفة إلى ألف ، فلم أقف على نص فيها ، وقد سألت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن ذلك مرتين ، ففي الأولى : مال إلى اختصاص المسجد بذلك ، وفي المرة الثانية - وبينهما نحو من عشر سنوات - : مال إلى عموم الأجر ، وقال ما معناه : إن الزيادة تفضل من الله ، وهذا امتنان على عباده ، فالمؤمل في سعة فضل الله أنه لا يكون رجلان في الصف متجاورين أحدهما على عتبة المسجد إلى الخارج ، والآخر عليها إلى الداخل ، ويعطي هذا ألفا ويعطي هذا واحدة . وكتفاهما متلاصقتان ، وهذا واضح . والحمد لله .

    وقد رأيت في مسألة الجمعة عند المالكية نصا ، وكذلك عند غيرهم ممن يشترطون المسجد للجمعة ، فإنهم متفقون أن الصفوف إذا امتدت إلى الشوارع والرحبات خارج المسجد أن الجمعة صحيحة ، مع أنهم أوقعوها في غير المسجد ، لكن لما كانت الصفوف ممتدة من المسجد إلى خارجه انجر عليها حكم المسجد وصحت الجمعة .

    فنقول هنا : كذلك لما كانت الصفوف خارجة عن المسجد النبوي : ينجر عليها حكم المسجد - إن شاء الله - . والله تعالى أعلم .

    [ ص: 335 ] وقد يستدل لذلك بالعرف وهو : لو سألت من صلى في مثل ذلك : أين صليت ؟ أفي قباء ؟ أم في المسجد النبوي ؟ لقال : بل في المسجد النبوي . فلم يخرج بذلك عن مسمى المسجد عرفا .





  13. #573
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (572)
    سُورَةُ الْجِنِّ
    صـ 335 إلى صـ 342


    المبحث السادس .

    وهو عند الزحام في المسجد النبوي خاصة ، وفي بقية المساجد عامة . حينما يضيق المكان ويضطر المصلون للصلاة في صفوف عديدة خارج المسجد ، وأمام الإمام متقدمين عليه بعدة صفوف ، فما حكم صلاة هؤلاء ؟

    قد ذكر النووي في المجموع الخلاف عن الشافعي . وأن الصحيح من المذهب هو الصحة مع الكراهة .

    وذكر المالكية الصحة كذلك ، وقد استدلوا لها بصلاة ابن عباس - رضي الله عنه - ذات ليلة عند ميمونة - رضي الله عنها - بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وابن عباس آنذاك غلام ، فقام على يساره - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه ; تكريما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما شعر به - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن كبر ودخل في الصلاة ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - بيده ونقله من ورائه ، وجعله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه بحذائه في موقف الواحد ، كما هو معلوم من حكم المنفرد مع الإمام .

    ومحل الاستدلال في ذلك هو أن الجهات بالنسبة للإمام أربع : خلفه ; وهي للكثيرين من اثنين فصاعدا . وعن يمينه ; وهو موقف الفرد ، ويساره وأمامه . أما اليسار ; فقد وقف فيه ابن عباس وليس بموقف ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - وجعله عن يمينه .

    ولكن بعد أن دخل في الصلاة وأوقع بعض صلاته في ذلك المقام ، وقد صحت صلاته حيث بنى على الجزء الذي سبق أن أوقعه عن اليسار ; لضرورة الجهل بالموقف .

    وبقيت جهة الإمام ; فليست بجهة موقف ، ولكن عند الضرورة وللزحمة لم يكن من التقدم على الإمام بد ، فجازت أو فصحت للضرورة ، كما صحت عن يساره - صلى الله عليه وسلم - . - والله تعالى أعلم - .

    ويقوي هذا الاستدلال : أنه لو جاء شخص إلى الجماعة ولم يجد له مكانا إلا بجوار

    [ ص: 336 ] الإمام ، فإنه يقف عن يمينه
    بجواره ، كما لو كان منفردا مع وجود الصفوف العديدة . ولكن صح وقوفه للضرورة .
    المبحث السابع .

    موضوع الأربعين صلاة ، وهو من جهة خاص بالمسجد النبوي ، ومن جهة عام في كل مسجد ، ولكن لا بأربعين صلاة بل بأربعين يوما . أما ما يخص المسجد النبوي ، فقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة ; كتبت له براءة ونجاة من العذاب ، وبرئ من النفاق " .

    قال المنذري في الترغيب والترهيب : رواته رواة الصحيح . أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط .

    وفي مجمع الزوائد : رجاله ثقات . وهو عند الترمذي بلفظ : " من صلى أربعين يوما في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق " .

    قال الترمذي : هو موقوف على أنس ، ولا أعلم أحدا رفعه .

    وقال ملا علي القاري : مثل هذا لا يقال بالرأي ، وقد تكلم بعض الناس في هذا الحديث بروايتين :

    أما الأولى : فبسبب نبيط بن عمر .

    وأما الثانية : فمن جهة الرفع والوقف . وقد تتبع هذين الحديثين بعض أهل العلم بالتدقيق في السند ، وأثبت صحة الأول ، وحكم الرفع للثاني . وقد أفردهما الشيخ حماد الأنصاري برسالة رد فيها على بعض من تكلم فيهما من المتأخرين . نوجز كلامه في الآتي :

    قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة : نبيط بن عمر ، ذكره ابن حبان في الثقات ، فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان والمنذري والبيهقي وابن حجر ، ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن . فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن ولا أن يضعف من وثقه أئمة معتبرون ، ولم يخالفهم إمام من أئمة الجرح والتعديل . وكفى من ذكروا من أئمة هذا الشأن قدوة .

    [ ص: 337 ] ذلك ; ولو فرض وقدر جدلا أنه في السند مقال ، فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة ، بل كان باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به ; لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد .

    ونقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد ، وابن المبارك .

    أما حديث إدراك تكبيرة الإحرام في أي مسجد ، فهذا أعم من موضوع المسجد النبوي الذي نتحدث عنه ، وكل أسانيده ضعيفة ، ولكن قال الحافظ ابن حجر : يندرج ضمن ما يعمل به في فضائل الأعمال . انتهى ملخصا .

    وهذا الحث على أربعين صلاة في المسجد النبوي ، لعله - والله تعالى أعلم - من باب التعود والتزود ، لما يكسبه ذلك العمل من مداومة ، وحرص على أداء الصلوات الخمس ثمانية أيام في الجماعة ، واشتغاله الدائم بشأن الصلاة وحرصه عليها ، حتى لا تفوته صلاة مما يعلق قلبه بالمسجد ، فتصبح الجماعة له ملكة ، ويصبح مرتاحا لارتياد المسجد ، وحريصا على بقية الصلوات في بقية أيامه لا تفوته الجماعة إلا من عذر .

    فلو كان زائرا ورجع إلى بلاده رجع بهذه الخصلة الحميدة ، ولعل في مضاعفة الصلاة بألف تكون بمثابة الدواء المكثف الشديد الفعالية ، السريع الفائدة ، أكثر مما جاء في عامة المساجد بأربعين يوما لا تفوته تكبيرة الإحرام ، إذ الأربعون صلاة في المسجد النبوي تعادل أربعين ألف صلاة فيما سواه ، وهي تعادل حوالي صلوات اثنين وعشرين سنة .

    ولو راعينا أجر الجماعة : خمسا وعشرين درجة ، لكانت تعادل صلاة المنفرد : خمسمائة وخمسين سنة ، أي : في الأجر والثواب لا في العدد ، أي : كيفا لا كما ، كما قدمنا . وفضل الله عظيم .

    وليعلم أن الغرض من هذه الأربعين هو كما أسلفنا التعود والحرص على الجماعة .

    أما لو رجع فترك الجماعة وتهاون في شأن الصلاة ، عياذا بالله ، فإنها تكون غاية النكسة . نسأل الله العافية ، كما نعلم أن هذه الأربعين صلاة لا علاقة لها لا بالحج ولا بالزيارة ، على ما تقدم للشيخ - رحمه الله - في آداب الزيارة في سورة " الحجرات " .

    وأن الزيارة تتم بصلاة ركعتي تحية المسجد ، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى

    [ ص: 338 ] صاحبيه - رضوان الله تعالى علينا وعليهم - ، ثم الدعاء لنفسه وللمسلمين بالخير ، ثم إن شاء انصرف إلى أهله ، وإن شاء جلس ما تيسر له . وبالله تعالى التوفيق .
    مبحث السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان جانب من جوانب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الكلام على قوله تعالى : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] في التحذير من مبطلات الأعمال وبيان ما هو حق لله فلا يصرف لغيره ، وما هو حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتجاوز به .

    وقد يجر الحديث عن السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضله وفضيلته إلى موضوع شد الرحال إلى المسجد ، وإلى السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
    شد الرحال إلى المسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ومما اختص به المسجد النبوي ، بل ومن أهم خصائصه بعد الصلاة ، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من داخل هذا المسجد قديما وحديثا .

    كما جاء في الصحيح : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " ومجمعون أن ذلك يحصل لمن سلم عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي ، سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة في المسجد .

    ومعلوم أن أول آداب الزيارة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، البدء بصلاة ركعتين تحية المسجد ، وبعد السلام ينصرف عن المواجهة ، ويدعو ما شاء وهو في أي مكان من المسجد .

    وهنا مسألة طالما أثير النزاع فيها : وهي شد الرحال للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    وهي إن كان محلها مبحث الزيارة وأحكامها وآدابها ، إلا أننا نسوق موجزا عنها بمناسبة حديث شد الرحال ، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .

    من المعلوم أن أصل هذه المسألة هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " المتقدم ذكره ; لاختلافهم في تقدير المستثنى منه . والمراد بشد الرحال إليه في تلك [ ص: 339 ] المساجد ، أهو خصوص الصلاة أم للصلاة وغيرها ؟ .

    ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا : أن البحث في هذه المسألة له ثلاث حالات :

    الأولى : شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة . وهذا مجمع عليه .

    الثانية : زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه من قريب بدون شد الرحال ، وهذا أيضا مجمع عليه .

    الثالثة : شد الرحال للزيارة فقط . وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ، ومثار النقاش السابق .

    قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال : قال الكرماني : وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنفت فيها مسائل من الطرفين .

    قلت : - أي : ابن حجر - يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على تقي الدين بن تيمية ، وما انتصر به الحافظ : شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا . اهـ . وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه .

    وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله : إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن حديث : " لا تشد الرحال " إنما يقصد به خصوص الصلاة ، وليس مكان أولى من مكان بالصلاة تشد له الرحال إلا المساجد الثلاثة ; لما خصت من فضيلة مضاعفة الصلاة فيها .

    تقي الدين جعل موضوع النهي عن شد الرحال عاما للصلاة وغيرها . واعترض عليه باتفاق الأمة على جواز شد الرحال لأي مكان ; لعدة أمور كما هو معلوم .

    ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة ، ما روي عن مالك : كراهية أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وأجيب عن ذلك : بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا لا أنه كره أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال ، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع [ ص: 340 ] بلا نزاع . والله الهادي إلى الصواب . اهـ .

    ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور ; لأنه أتى في نفس الباب ، بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال هو فضيلة الصلاة ، فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ، ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة ; لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى .

    وقد ناقش ابن حجر لفظ الحديث ، ورجح هذا المذهب حيث قال :

    قال بعض المحققين : قوله : " إلا إلى ثلاثة مساجد " المستثنى منه محذوف . فإما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة . أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني .

    والأولى : أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة . فيبطل بذلك قول : من منع شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - . وغيره من قبور الصالحين . والله أعلم .

    وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة تفضل لذاتها حتى تشد إليها الرحال غير البلاد الثلاثة . ومرادي بالفضل : ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا . أما غيرها من البلاد ، فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات .

    قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه . فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان ، إلا إلى الثلاثة المذكورة . وشد الرحال إلى زيارة أو طلب ليس إلى المكان ، بل إلى من في ذلك المكان . والله أعلم . اهـ .

    [ ص: 341 ] وبتأمل كلام ابن حجر ، نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط :

    الأولى : أن يقال : لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لخصوص الصلاة ، ولا تشد لغيرها من الأماكن لأجل الصلاة ، فيكون النهي منصبا على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة ; من أجل أن يصلي فيما عداها . فيبقى غير الصلاة خارجا عن النهي ; فتشد له الرحال لأي مكان كان .

    وغير الصلاة يشمل : طلب العلم ، والتجارة ، والنزهة ، والاعتبار ، والجهاد ، ونحو ذلك ، والنصوص في ذلك كله متضافرة .

    ففي طلب العلم ما قدمنا من نصوص ، وقد رحل نبي الله موسى إلى الخضر ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، إلى قوله : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلى قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا [ 18 \ 60 - 66 ] .

    وفي السفر للتجارة قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] . وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ، وغيرها كثيرة .

    والسفر للعبرة قوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا [ 27 \ 69 ] .

    وقوله ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 136 - 138 ] .

    وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 45 - 46 ] .

    فقد أمر الله العباد بالسير ; ليعقلوا بقلوبهم حالة تلك القرى الخاوية ليتعظوا بأحوال أهلها .

    [ ص: 342 ] فهذه نصوص جواز السفر لعدة أمور ، فيكون من ضمنها السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه . حيث إن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة بلا نزاع ، والحالة الثانية : أن يكون النهي عاما لجميع الأماكن في جميع الأمور ; فلا تشد الرحال قط إلا إلى ثلاثة المساجد وبلدانها الثلاثة . ولكن لا لخصوص الصلاة فقط ، بل لكل شيء مشروع بأصله مما قدمنا أنواعه من طلب العلم والتجارة والعظة والنزهة وغير ذلك : كصوم ، واعتكاف ، ومجاورة ، وحج ، وعمرة ، وصلة رحم ، ومشاهدة معالم تاريخية ونحو ذلك .

    ومن هذا كله السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا شد الرحال إلى المدينة لكل شيء كان منها الزيارة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا معارضة على حالة من الحالتين ، ولا يتعارض معهما الحديث المذكور ، على أي تقدير المستثنى منه في هذا الحديث .
    وجهة نظر .

    وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها ، يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل ، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي . ولا وجود له عمليا .

    وتحقيق ذلك كالآتي : وهو ما داموا متفقين على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومتفقون على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال ; فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد ، ولا يخطر ذلك على بال إنسان ، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان . وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر ; لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم - ، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .

    فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده .

    ومن ناحية أخرى : هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، لينال فضل رد السلام عليه منه - صلى الله عليه وسلم - ، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه ؟





  14. #574
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (573)
    سُورَةُ الْجِنِّ
    صـ 3435 إلى صـ 350




    [ ص: 343 ] وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد ؟

    وبهذا ; فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لزيارته - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد ، فلا موجب لهذا النزاع .

    وهنا وجهة نظر أخرى وهي : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " . فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه .

    فيقال : إن هذه فضيلة عظيمة ، ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها ، والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة ، كالسعي إلى الجمعة واجب ; لأن أداء الجمعة واجب ، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب ; لأن التجمل إليها مندوب ، ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها .

    وقد رأيت لابن تيمية مناقشة هذه المسألة ، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش ، فقال : ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة ، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد ، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم . والثاني : مشروط فيه إذن الزوج .

    والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم ، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره .

    وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل ، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها . فالأصل فيه المنع حتى تحصل على الإذن .

    وعلى هذا يقال : لو كان شد الرحل إليها غير مشروع ، لما كان لفاعله نصيب في فضلها ، ولا يحصل على رد السلام منه - صلى الله عليه وسلم - .

    ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته ; لعدم تأخير البيان ، فكأن يقال مثلا : فأرد عليه السلام ، إلا من شد الرحل لذلك . أو يقال : من أتاني من قريب فسلم علي . . . إلخ . ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه .

    وليعلم أن ابن تيمية - رحمه الله - يفرق بين السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عامة المسلمين ، لما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقوق وخصائص ليست لغيره من : وجوب محبة ، وتعظيم ، وفرضية صلاة ، [ ص: 344 ] وتسليم في صلواتنا ، وعند دخول المساجد والخروج منها ، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط .

    كما أن زيارة غيره - صلى الله عليه وسلم - للدعاء له والترحم عليه ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ; ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام .

    وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره .

    وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري ابن تيمية معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال .

    ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام . أي : يلازم كلامه حينما قال :

    لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة ، عملا بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة . ولو حمل كلامه على النفي بدلا من النهي لكان موافقا ، أي : لا يتأتى ذلك ; لأنه لم يمنع زيارته - صلى الله عليه وسلم - ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد ، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في كتبه .

    قال في بعض رسائله وردوده ما نصه :
    فصل

    قد ذكرت فيما كتبته من المناسك : أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب .

    وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه ، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين . فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة ، كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن قال :

    والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين ، لم يقل أحد من أئمة [ ص: 345 ] المسلمين : إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده ، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور .

    إلى أن قال :

    وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة ، فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى .

    ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين ، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة ، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ، مسجده وغير مسجده ، وعند الخروج منه ; فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة .

    والسفر إلى مسجده مشروع ، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره ، حين كره مالك - رحمه الله - أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده ، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم . اهـ .

    وإذا كان هذا كلامه ، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية . إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - مشروع وإن كان يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ويسلم عليه ، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال .

    أي : وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر .

    وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد . فلا موجب لهذا النقاش ، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال .

    وقد صرح بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه ، إذ يقول في ج 27 ص 342 من المجموع ، ما نصه :

    [ ص: 346 ] فمن سافر إلى المسجد الحرام ، أو المسجد الأقصى ، أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء ، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح .

    ومن أنكر هذا السفر ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .

    وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا يسلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع ضال ، مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولإجماع أصحابه ، ولعلماء الأمة .

    وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم . والثاني : أنه لا شيء عليه ، ولا أجر له .

    والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين . إلى أن قال : وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه . اهـ .

    فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول ، فإن كان في قوله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع . . إلخ .

    فمن من المسلمين يجيز لمسلم : أن يشد رحله إلى المدينة ; لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ودون أن يصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة .

    فدل كلامه أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ، ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع . والحمد لله رب العالمين .

    وصرح في موضع آخر ص 346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد أربعة أقوال . الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا - عليه الصلاة والسلام - .

    وقال في التعليل لهذا القول : إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده [ ص: 347 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل .

    وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي ، إلى أن قال : وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم ، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان .

    وبعد نقله لأقوال العلماء ، قال ما نصه :

    وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر ، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة ، يثاب عليها بالصلاة في مسجده .

    وأما نفس القصد ، فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده ، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي .

    وهذا غاية في التصريح منه أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء .

    ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه ، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر . اهـ .

    وقد أكثرنا النقول عنه ; لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس ، حتى قال ابن حجر في فتح الباري فيها : وهذا أعظم ما أخذ على ابن تيمية ، فهي وإن كانت شهادة من ابن حجر أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع ، إلا أنها - بحمد الله - بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه ، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله فلم يترك جانبا إلا وبينه ، سواء في حق العالم أو الجاهل . وبالله تعالى التوفيق .

    هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى المدينة المنورة للمسجد وللزيارة معا ، على التفصيل المتقدم .

    أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة ، فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك ، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط ، أيا كانت تلك البقعة أو [ ص: 348 ] كانت تلك العبادة . وذلك لحديث أبي هريرة في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة ، قال : " خرجت إلى الطور ، فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق آدم وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس ; شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .

    قال كعب : ذلك في كل سنة يوم . فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور . فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس " يشك أبو هريرة .

    ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم .

    قال الباجي : على هذا الحديث : خروج أبي هريرة إلى الطور يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه ، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه ، إلا أن قول بصرة : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت . دليل على أن فهم منه التقرب بقصده . وسكوت أبي هريرة حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده . أقول : لقد صرح أبو هريرة أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد لأحمد عن شهر ، وقال : حسن .

    والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد البصرة أو الكوفة أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه ; لحديث بصرة المنصوص في ذلك ، وذلك أن النذر يكون فيما فيه القربة . ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض ، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة ; فإنها تختص بالفضيلة .

    وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء [ ص: 349 ] بنذره ; لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها ، بل قد اقترن بذلك الرباط ، فوجب الوفاء به .

    ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة ، إلا ما قاله محمد بن مسلمة في المبسوط . فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو مسجد قباء ، فقال : من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك . اهـ .

    ولعل مقصد محمد بن مسلمة في إضافته مسجد قباء ، العمل بما جاء في مسجد قباء من أثر اختص به عن أنس بن مالك فيما رواه عمر بن شبة ، قال : حدثنا سويد بن سعيد ، قال : حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .

    وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله :

    وكان هذا الحكم معلوما عند العامة ، حتى قال ابن شبة : قال أبو غسان : ومما يقوي هذه الأخبار ، ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة ، قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :
    فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء .

    من اللاتي سوالفهن غيد عليهن الملاحة بالبهاء


    تنبيه .

    إن قول أنس ليشعر بجواز شد الرحل إلى قباء لو كان بعيدا ، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى ، فلا يتعارض مع الحديث الأول .

    تنبيه آخر .

    أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين لقباء ، واجتماع الرجال والنساء .

    [ ص: 350 ] تنبيه ثالث .

    يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين زيارة عموم المقابر لعامة الناس ، وخصوص زيارة القبور الثلاثة . إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها ، وتذكر الآخرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة " .

    أما هذه الثلاثة المشرفة ، فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها :

    أولا : ومن حيث الموضوع : ارتباطها بالمسجد النبوي أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها .

    ثانيا : عظيم حق من فيها على المسلمين ، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب ، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ، وهداية الأمة ، والقيام بأمر الله ، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه ، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - .

    وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء ، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له .

    ثالثا : عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن يرد الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - روحه فيرد عليه السلام ، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر . وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم .




  15. #575
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (574)
    سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .
    صـ 351 إلى صـ 358


    مسألة .

    في هذه الآية الكريمة : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [ 72 \ 18 ] ، جمع بين مسألتين ، فكأن الأولى تدل على الثانية بمفهومها ، وكأن الثانية تكون منطوق الأولى ; لأن كون المساجد لله يقتضي إفراده تعالى بالعبادة وألا يدعى معه أحد .

    أما إفراده بالعبادة ، فقد كتب الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على ذلك مبحثا كاملا في سورة " الحجرات " في مسألة من المسائل على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] .

    [ ص: 351 ] وبين في هذه المسألة ما هو حق لله ، وما هو حق لرسول الله ، ووجوب إفراد الله تعالى بما هو حقه تعالى ، وبين فيها آداب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن وضع اليد على اليد كهيأة الصلاة نوع من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى . اهـ .

    وأن الجمع هنا بين المفهوم والمنطوق بنفس المفهوم ، لما يدل على شدة الاهتمام به والعناية بأمره ، وإنه ليلفت النظر إلى ما جاء في الأحاديث الصحيحة من النهي الأكيد والوعيد الشديد بالنسبة لقضية المساجد ودعوة التوحيد ، وما كان يفعله الأولون من بناء المساجد على القبور ، ويفتحون بذلك بابا مطلا على الشرك . كحديث أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما - عند البخاري ومسلم ، في قصتيهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاهدتاه بالحبشة من هذا القبيل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح ، أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ; أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " .

    وكحديث الصحيحين : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، أي : خشية اتخاذه مسجدا " .

    حديث الموطأ قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فكل ذلك مما يشدد الحذر من الجمع بين القبور والمساجد ; خشية الفتنة وسدا للذريعة ، ويشهد لهذا ما ذكره علماء التفسير - رحمهم الله - من سبب النزول ، أن اليهود والنصارى كانوا إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم ، أشركوا مع الله غيره ، فحذر الله المسلمين أن يفعلوا ذلك .

    وهذه المسألة مما تفشت في كثير من البلدان الإسلامية مما يستوجب التنبه لها ، وربط هذه الآية بها مع تلك النصوص النبوية الصريحة في شأنها مهما كان المسجد .

    وذكر ابن كثير ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية لم يكن في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ، ومسجد إيلياء ، بيت المقدس .

    تنبيه .

    قد أثير في هذه المسألة تساؤلات من بعض الناس بالنسبة للمسجد النبوي وموضع الحجرة منه بعد إدخالها فيه .

    [ ص: 352 ] وقد أجاب عن ذلك ابن حجر في فتح الباري بقوله على حديث عائشة - رضي الله عنها - : إنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا . رواه البخاري في كتاب الجنائز .

    وفي بعض رواياته : غير أنه خشي ، فقال ابن حجر : وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي ، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة ; حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة . اهـ .

    وذكرت كتب السيرة وتاريخ المسجد النبوي بعض الأخبار في ذلك ، من ذلك ما رواه السمهودي في وفاء الوفاء ، قال : وعن المطلب ، قال : كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم ، وكان في الجدار كوة فأمرت بالكوة فسدت هي أيضا . ونقل عن ابن شبة ، قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد - وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم - : لم يزل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ظاهرا ، حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور الذي هو عليه اليوم ، حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وإنما جعله مزورا ; كراهة أن يشبه تربيع الكعبة ، وأن يتخذ قبلة يصلى إليه .

    قال أبو زيد بن شبة ، قال أبو غسان : وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم : أن عمر بن عبد العزيز بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه ، وسمعت من يقول : بنى على بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجدر فدون القبر ثلاثة أجدر : جدار بناء بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه - يعني عمر بن عبد العزيز - ، وجدار الخطار الظاهر ، وقال : قال أبو غسان فيما حكاه الأقشهدي : أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن منصور بن ربيعة ، عن عثمان بن عروة ، قال : قال عروة : نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة ، فأبى وقال : كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه .

    قال : قلت : فإن كان لا بد فاجعل له جؤجؤا . أي : وهو الموضع لنزور خلف الحجرة . اهـ .

    [ ص: 353 ] فهذه منازلة في موضوع الحجرة والمسجد ، وهذا جواب عمر بن عبد العزيز .

    وقد آلت إليه الخلافة وهو الخليفة الراشد الخامس ، وقد أقر هذا الوضع لما اتخذت تلك الاحتياطات من أن يكون القبر قبلة للمصلين ، وهذا مما لا شك فيه في خير القرون الأولى ، ومشهد من أكابر المسلمين ، مما لا يدع لأحد مجالا لاعتراض أو احتجاج أو استدلال ، وقد بحثت هذه المسألة من علماء المسلمين في كل عصر .

    وقال القرطبي : بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعلوا حيطان تربته ، وسدوا المدخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال ; حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره . اهـ . من فتح المجيد .

    وقد قال بعض العلماء : إن هذا العمل الذي اتخذ حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه ، إنما هو استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " ، كما قال ابن القيم في نونيته ، كابن تيمية قال :


    فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه
    في عزة وحماية وصيان


    وقال صاحب فتح المجيد : ودل الحديث أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عبد لكان وثنا . ولكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس ; فلا يوصل إليه .

    ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها . اهـ .

    وهذا الذي قاله حقيقة دقيق مأخذها ; لأنه لو لم يكن بعد إدخال الحجرة في مأمن من الصلاة إليه لكان وثنا ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - يكون في حياته داعيا إلى الله وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يكون قبره وثنا ينافي التوحيد ، ويهدم ما بناه في حياته .

    وكيف يرضى الله لرسوله ذلك حاشا وكلا . هذا مجمل ما قيل في هذه المسألة .
    [ ص: 354 ] وجهة نظر .

    وهنا وجهة نظر ، وإن كنت لم أقف على قول فيها ، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ; بأن يكون القبر أولا ثم يتخذ عليه المسجد . كما جاء في قصة أصحاب الكهف : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا أي : أن القبر أولا والمسجد ثانيا .

    أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك ، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانيا ، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري . والله تعالى أعلم .

    ومن ناحية أخرى ، لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور ، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة ، أي : بما فيها ، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن : أنه ما سجد إليه من قريب .

    وعليه فما من مصل يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر . ولا يعتبر مصليا إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه ، وإن كان البعد نسبيا . فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة ، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها ، والحمد لله رب العالمين .

    وأيضا لابن تيمية - رحمه الله - كلام في ذلك ملخصه من المجموع : مجلد 27 ص 323 وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ودفن في حجرة عائشة - رضي الله عنها - ، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه ، لم يكن شيء من ذلك داخلا المسجد . واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة .

    ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته ، وسع المسجد ، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة . فإن الوليد كتب إلى نائبه - عمر بن عبد العزيز - : أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهن كن توفين كلهن - رضي الله عنهن - ، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد ، فهدمها وأدخلها في المسجد ، وبقيت حجرة عائشة على حالها . وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ، ولا لدعاء ، ولا غير ذلك . إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة .

    وقال في صفحة 328 : ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه [ ص: 355 ] وبعدها كانت مغلقة ، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر .

    فكل ذلك صيانة له - صلى الله عليه وسلم - ، أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا . وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم ، وكلهم معظمون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم ; بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد . ولا يتخذ بيته عيدا ، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . انتهى .

    وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث ، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم ، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله ، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها ، أي : تلك المسافة محراب كبير ، وهذا كان في المسجد سابقا ، أي : قبل الشبك . مما يدل على بعد ما بين المصلي في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة ، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة . والحمد لله رب العالمين .

    وفي ختام هذه المسألة ، وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 1394 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول :

    لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال . أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير ، ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرنا ، فلا مجال للقول إذا .

    ومن ناحية أخرى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت على ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو موضوع بناء الكعبة ، وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ، ولها باب واحد ، ومرتفع عن الأرض .

    وكان باستطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد بناءها على الوجه الأصح ، فتستوعب قواعد إبراهيم ، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض . ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك ; لاعتبارات بينها في حديثعائشة - رضي الله عنها - .

    ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وما وسع السلف - رحمهم الله - في عين الحجرة .

    [ ص: 356 ] ومن ناحية ثالثة : لو أنه أخذ بقولهم ، فأخرجت من المسجد ، أي : جعل المسجد من دونها على الأصل الأول .

    ثم جاء آخرون ، وقالوا : نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد - رحمهما الله - في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير ، وأعادها الحجاج ، وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير ، فقال له مالك - رحمه الله - : لا تفعل ; لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك . فيقال : هنا أيضا فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج . وفيه من الفتنة ما فيه . والعلم عند الله تعالى .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .


    قوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا

    بين تعالى المراد من المقدار المطلوب قيامه بما جاء بعده نصفه أو انقص منه [ 73 \ 3 ] ، أي : من نصفه أو زد عليه ، أي : على نصفه ، وفي هذه الآية الكريمة وما بعدها بيان لمجمل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك الآية [ 17 \ 79 ] .

    وفيها بيان لكيفية القيام ، وهو بترتيل القرآن ، وفيها رد على مسألتين اختلف فيهما .

    الأولى منهما : عدد ركعات قيام الليل ، أهو ثماني ركعات أو أكثر ؟

    وقد خير - صلى الله عليه وسلم - بين هذه الأزمنة من الليل ، فترك ذلك لنشاطه واستعداده وارتياحه . فلا يمكن التعبد بعدد لا يصح دونه ولا يجوز تعديه ، واختلف في قيام رمضان خاصة ، والأولى أن يؤخذ بما ارتضاه السلف ، وقد قدمنا في هذه المسألة رسالة عامة هي رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي - عليه السلام - ، وقد استقر العمل على عشرين في رمضان .

    والمسألة الثانية : ما يذكره الفقهاء في كيفية قيام الليل عامة : هل الأفضل كثرة الركعات لكثرة الركوع والسجود ؟ ، وحيث إن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ، أم طول القيام للقراءة ؟ حيث إن للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، فهنا قوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، نص على أن العبرة بترتيل القرآن ترتيلا ، وأكد بالمصدر تأكيدا لإرادة هذا المعنى ، كما قال ابن مسعود : " لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذ الشعر ؟ قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة " .

    وقد بينت أم سلمة - رضي الله عنها - تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولها : كان يقطع قراءته آية آية : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] . رواه أحمد .

    [ ص: 358 ] وفي الصحيح عن أنس : سئل عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كانت مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم .

    تنبيه .

    إن للمد حدودا معلومة في التجويد حسب تلقي القراء - رحمهم الله - ، فما زاد عنها فهو تلاعب ، وما قل عنها فهو تقصير في حق التلاوة .

    ومن هذا يعلم أن المتخذين القرآن كغيره في طريقة الأداء من تمطيط وتزيد لم يراعوا معنى هذه الآية الكريمة ، ولا يمنع ذلك تحسين الصوت بالقراءة ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " زينوا القرآن بأصواتكم " .

    وقال أبو موسى - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي ; لحبرته لك تحبيرا . وهذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة ، وهو التدبر والتأمل ، كما في قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن [ 4 \ 82 ] ، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من تخشع القلب ، كما في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، ولا تتأثر به القلوب والجلود إلا إذا كان مرتلا ، فإذا كان هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم ، وإذا كان مطربا كالأغاني لما أثر . فوجب الترتيل كما بين - صلى الله عليه وسلم - .




  16. #576
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (575)
    سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .
    صـ 359 إلى صـ 366




    قوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا

    معلوم أن القول هنا هو القرآن كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم [ 69 \ 40 ] وقوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [ 28 \ 51 ] .

    وقوله : إنه لقول فصل [ 86 \ 13 ] ، وقوله ومن أصدق من الله قيلا [ 4 \ 122 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    ولكن وصفه بالثقل مع أن الثقل للأوزان وهي المحسوسات .

    فقال بعض المفسرين : إن الثقل في وزن الثواب ، وقيل في التكاليف به ، وقيل من أثناء نزول الوحي عليه ، وكل ذلك ثابت للقرآن الكريم : فمن جهة نزوله ، فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه الوحي أخذته [ ص: 359 ] برحاء شديدة ، وكان يحمر وجهه كأنه مذهبة ، وكان إذا نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفره على راحلته بركت به الناقة ، وجاء عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واضعا رأسه على فخذه ، فأتاه الوحي ، قال أنس : فكان فخذي تكاد تنفصل مني ، ومن جانب تكاليفه فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ، كما هو معلوم .

    ومن جانب ثوابه : فقد جاء في حديث مسلم : " الحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " .

    وحديث البطاقة وكل ذلك يشهد بعضه لبعض ولا ينافيه .

    وقد بين تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين ، كما في الصلاة في قوله : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 45 - 46 ] ، وكذلك القرآن ثقيل على الكفار ، خفيف على المؤمنين محبب إليهم .

    وقد جاء في الآثار أن بعض السلف كان يقوم الليل كله بسورة من سور القرآن تلذذا وارتياحا ، كما قال تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ 54 \ 17 ] ، فهو ثقيل في وزنه ثقيل في تكاليفه ، ولكن يخففه الله وييسره لمن هداه ووفقه إليه .
    قوله تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا

    أي : ما تنشأه من قيام الليل أشد مواطأة للقلب ، وأقوم قيلا في التلاوة والتدبر والتأمل ، وبالتالي بالتأثر ، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول ، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة .

    وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - قوله : لا يثبت القرآن في الصدر ، ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به من جوف الليل ، وقد كان - رحمه الله تعالى - لا يترك ورده من الليل صيفا أو شتاء ، وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] ، فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .

    وهكذا هنا فإن ناشئة الليل كانت عونا له - صلى الله عليه وسلم - على ما سيلقى عليه من ثقل القول .

    مسألة :

    قيل : إن قيام الليل كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تفرض الصلوات الخمس ; لقوله [ ص: 360 ] تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، والنافلة : الزيادة ، وقيل : كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى عامة المسلمين ; لقوله تعالى في هذه السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ، ثم خفف هذا كله بقوله :

    فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إلى قوله : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] .

    ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملا داوم عليه ، فكان يقوم الليل شكرا لله كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " أفلا أكون عبدا شكورا " ، وبقي سنة لغيره بقدر ما يتيسر لهم . - والله تعالى أعلم - .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .


    قوله تعالى : يا أيها المدثر قم فأنذر

    الإنذار إعلام بتخويف ، فهو أخص من مطلق الإعلام ، وهو متعد لمفعولين المنذر باسم المفعول والمنذر به ، ولم يذكر هنا واحد منهما .

    أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين ، كما في قوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ; تخويفا لهم .

    وقد يكون للمؤمنين ; لأنهم المنتفعون به كما في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] .

    وقد يكون للجميع ، أي : لعامة الناس كما في قوله تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا [ 10 \ 2 ] .

    وأما المنذر به فهو ما يكون يوم القيامة .

    وقد قدر الأمرين هنا ابن جرير بقوله : فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفصيل ذلك عند قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] في سورة الأعراف .
    قوله تعالى : وثيابك فطهر

    قد اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي : الثياب ، وفطهر ، هل هما دلا على الحقيقة ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات ؟ أم هما على الكناية ؟ والمراد بالثوب : البدن ، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها ، أم على الحقيقة والكناية ؟ ، فقد ذكر ابن جرير وغيره نحوا من خمسة أقوال :

    [ ص: 362 ] الأول : عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك أن معناه : لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة ، واستشهد بقول غيلان :


    وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع


    وقول الآخر :


    إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل


    فاستعمل اللفظين في الكناية ، وقد يستدل له بقوله : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .

    وورد عن ابن عباس : لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب ، فاستعمل الثياب في الحقيقة ، والتطهير في الكناية .

    وعن مجاهد : أصلح عملك ، وعملك فأصلح ، فاستعملهما معا في الكناية عن العمل الصالح .

    وعن محمد بن سيرين ، وابن زيد : على حقيقتهما ، فطهر ثيابك من النجاسة .

    ثم قال : والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك .

    وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف . والله أعلم بمراده .

    وقال غيره : ثيابك هي نساؤك ، كما في قوله هن لباس لكم [ 2 \ 187 ] ، فأمرهن بالتطهر ، وتخيرهن طاهرات خيرات .

    هذه أقوال المفسرين واختيار ابن جرير منها ، والواقع في السياق ما يشهد لاختيار ابن جرير ، وهو حمل اللفظين على حقيقتهما .

    وترجيح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة ، والقرينة في الآية أنها اشتملت على أمرين :

    الأول : طهارة الثوب ، والثاني : هجر الرجز .

    ومن معاني الرجز : المعاصي ، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته ، وهو الرجز على حقيقته لمعنى جديد أولى .

    [ ص: 363 ] وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بقسميها أصرح من ذلك في قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان [ 8 \ 11 ] - . والله تعالى أعلم - .

    وقد جعل الشافعي هذه الآية دليلا على الطهارة للصلاة .
    قوله تعالى : فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير

    الناقور : هو الصور ، وأصل الناقور الصوت ، وقوله : يوم عسير على الكافرين غير يسير .

    قيل : عسير وغير يسير على الكافرين .

    وقال الزمخشري : إن غير يسير كان يكفي عنها يوم عسير ، إلا أنه ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره ، كعسر الدنيا ، وأن فيه زيادة وعيد للكافرين .

    ونوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم ، ولعل المعنيين مستقلان ، وأن قوله تعالى : يوم عسير ، هذا كلام مستقل وصف لهذا اليوم ، وبيان للجميع شدة هوله ، كما جاء في وصفه في قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 1 - 2 ] ، ومثل قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] ، ونحو ذلك .

    ثم بين تعالى أن اليوم العسير أنه على الكافرين غير يسير ، كما قال تعالى عنهم فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، بينما يكون على المؤمنين يسيرا ، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله ، إلا أن الله ييسره على المؤمنين ، كما بين تعالى هذه الصورة بجانبها في قوله تعالى من سورة " النمل " :

    ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب إلى قوله من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 87 - 90 ] . \ 5 [ ص: 364 ] فالفزع من صعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض ، ولكن استثنى الله من شاء ، ثم بين تعالى هؤلاء المستثنين ومن يبقى في الفزع ، فبين الآمنين وهم من جاء بالحسنة ، والآخرون من جاء بالسيئة .
    قوله تعالى : عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر

    في قوله تعالى : وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين :

    الأول : التحريق كما في قوله : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] .

    والثاني : الابتلاء . وقد تقدم للشيخ مرارا في كتابه ودروسه ، أن أصل الفتنة الاختبار . تقول : اختبرت الذهب إذا أدخلته النار ; لتعرف زيفه من خالصه .

    ولكن السياق يدل على الثاني ، وهو الاختبار والابتلاء; لقوله تعالى :

    وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا .

    وقوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو أي : عددهم ، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار ، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ، ولما كان يصلح أن يجعل مثلا ، ولما كان الحديث عن عدد جنود ربك بحال ، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة .

    الأولى : جعل المثل المذكور ، أي : جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان ، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون ، كما ذكر تعالى في صريح قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ 2 \ 62 ] .

    ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] [ ص: 365 ] فهذه الآية من سورة " البقرة " مبينة تماما لآية " المدثر " .

    المسألة الثانية : قوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة ، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم .

    وقد ذكر القرطبي حديثا في ذلك واستغربه ، ولكن النص يشهد لذلك .

    المسألة الثالثة : أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ، ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق .

    المسألة الرابعة : بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى . وهو أعلم بما رواه .

    وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع ، وهذا أمر واسع ، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات ، وتقدم المخترعات ، وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام ، فإنا نود أن نقول :

    إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه ، علمنا الحكمة أو لم نعلم ; لأن علمنا قاصر ، وفهمنا محدود ، والعليم الحكيم الرءوف الرحيم - سبحانه - لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة .

    ومجمل القول أن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة :

    القسم الأول : حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة ، جاء : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، وهذه حكمة جليلة ، والزكاة جاء عنها أنها : تطهرهم وتزكيهم [ 9 \ 103 ] .

    وفي الصوم جاء فيه : لعلكم تتقون [ 2 \ 183 ] .

    وفي الحج جاء فيه : ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 28 ] . فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية .




  17. #577
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (576)
    سُورَةُ الْقِيَامَةِ .
    صـ 367 إلى صـ 374



    وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست ، حفظ الدين ، والعقل ، والدم ، [ ص: 366 ] والعرض ، والنسب ، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن ، وصيانة المجتمع ، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك .

    وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ، ولكنه لم يخل من حكمة : كالطواف ، والسعي ، والركوع ، والسجود ، والوضوء ، والتيمم ، والغسل ، ونحو ذلك .

    وقسم ابتلاء وامتحان أولا ، ولحكمة ثانيا : كتحويل القبلة ، كما قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .

    وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة [ 2 \ 150 ] .

    والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد ، كما قال عمر عند استلامه للحجر : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك .

    فقبله امتثالا واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : بلى يا أمير المؤمنين ، إنه يضر وينفع ، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله ; لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي - رضي الله عنه - .

    وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - ، إذ خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، وكلها أعمال لم يعلم لها موسى - عليه السلام - حكمة ، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها .

    وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم ، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

    وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم ، في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو .

    فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : [ ص: 367 ] ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين

    في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين ، وسبب دخولهم النار ، وكان الجواب : أنهم لم يكونوا من المصلين ، ولم يكونوا يطعموا المسكين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين . وكانوا يكذبون بيوم الدين ، فجمعوا بين الكفر بتكذيبهم بيوم الدين وبين الفروع ، وهي ترك الصلاة والزكاة المعبر عنها بإطعام المسكين إلى آخره ، فهذه الآية من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مناقشة هذه المسألة عند قوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 41 \ 7 ] في سورة " فصلت " .
    قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين

    فيه : أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، كما أن فيها إثبات الشفاعة للشافعين ، ومفهوم كونها لا تنفع الكفار أنها تنفع غيرهم .

    وقد جاءت نصوص في الشفاعة لمن ارتضاهم الله ، وقد دلت نصوص على كلا الأمرين ، فمن عدم الشفاعة للكفار قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع [ 40 \ 18 ] .

    وقوله : وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين [ 26 \ 99 - 100 ] ونحو ذلك من الآيات .

    وفي القسم الثاني قوله تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] .

    وكذلك الشفيع لا يشفع إلا من أذن له ، ولا يشفعون إلا فيمن أذنوا فيه ، كما قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن [ 20 \ 109 ] .

    ومبحث الشفاعة واسع مقرر في كتب العقائد .

    وخلاصة القول فيها : أنها لا تكون إلا بإذن من الله للمأذون له فيها ، وقد ثبت [ ص: 368 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود ، وعدة شفاعات بعدها منها ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - كالشفاعة العظمى ودخول الجنة ، والشفاعة في غير مسلم وهو عمه أبو طالب للتخفيف عنه ، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصلحاء . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة

    في هذه الآية تشبيه المدعوين في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة ، بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد ، وقد شبه أيضا العالم غير المنتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفارا ، فهما تشبيهان بالداعي والمدعو إذا لم تنفعه الدعوة ، وتقدم للشيخ في مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْقِيَامَةِ .


    قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة

    قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءة قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : " لا أقسم " مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج ، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرءان ذلك : " لأقسم بيوم القيامة " . بمعنى : أقسم بيوم القيامة .

    ثم دخلت عليها لام القسم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع " لا " مفصولة ، " أقسم " مبتدأة على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه .

    وقد اختلف الذين قرءوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله ، فقال بعضهم : لا صلة ، وإنما معنى الكلام : " أقسم بيوم القيامة " ، وعزاه إلى سعيد بن جبير .

    وقال آخرون : بل دخلت " لا " توكيدا للكلام .

    وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله : " لا أقسم " توكيد للقسم ، كقوله : لا والله .

    وقال بعض نحوي الكوفة : " لا " رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار .

    ثم ابتدئ القسم ، فقيل : أقسم بيوم القيامة ، وكان يقول : كل يمين قبلها رد كلام ، فلا بد من تقديم " لا " قبلها ; ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف ، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحق ، وإذا قلت : لا والله ، إن الرسول لحق ، فكأنك أكذبت قوما أنكروه ، واختلفوا أيضا في ذلك هل هو قسم أم لا ؟ .

    وذكر الخلاف في ذلك ، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام ، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة ؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها ؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم ؟ وهل وقع إقسام أم لا ؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير .

    [ ص: 370 ] وقد تناولها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين ، الأول : في هذه السورة . والثاني : في سورة " البلد " عند قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] ، فبين في الموضع الأول أنها - أي " لا " - : نافية لكلام قبلها ; فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلا الواقع في قوله تعالى : واليوم الموعود [ 85 \ 2 ] .

    والثاني : أنها صلة ، وقال : سيأتي له زيادة إيضاح ، والموضع الثاني : لا أقسم بهذا البلد ، ساق فيه بحثا طويلا مهما جدا نسوق خلاصته . وسيطبع الكتاب - إن شاء الله - مع هذه التتمة فليرجع إليه .

    خلاصة ما ساقه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - :

    قال : الجواب عليها من أوجه . الأول - وعليه الجمهور - : أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] . يعني أن تتبعني .

    وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] .

    وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] .

    وقول امرئ القيس :


    فلا وأبيك ابنة العامري لا يدع القوم أني أفر


    يعني وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر :


    ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر


    يعني وعمر ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :


    في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح شجر


    والحور : الهلكة : يعني في بئر هلكة ، وأنشد غيره :


    تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع


    والوجه الثاني : أن " لا " نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

    [ ص: 371 ] وقوله : أقسم : إثبات مستأنف .

    وقيل : إن هذا الوجه ، وإن قال به كثير من العلماء ، إلا أنه ليس بوجيه عندي ; لقوله تعالى في سورة القيامة : ولا أقسم بالنفس اللوامة ; لأن قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله " أقسم " والله تعالى أعلم .

    الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به . فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد أنه لا يعظم بالقسم ، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أو لا . وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من نظر .

    الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء ، أشبعت فتحتها . والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف ، والكسرة بياء ، والضمة بواو . ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن الحارث :


    وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا


    فالأصل : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .

    وقول الراجز :


    إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق


    وقول عنترة في معلقته :


    ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل العتيق المكدم


    فالأصل ينبع ، يعني العرق ، ينبع من الذفرى : من ناقته ، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع ، وقال : ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر .

    ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة ، ثم قال : يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن . والعلم عند الله تعالى اهـ . ملخصا .

    فأنت ترى أنه - رحمه الله - قدم فيها أربعة أوجه : صلة ، ونفي الكلام قبلها ، وتأكيد [ ص: 372 ] للقسم ، ولام ابتداء . واستدل له بقراءة قنبل ، أي : " لأقسم " متصلة ، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن ، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة ; لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة : لا أقسم .

    ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم ، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه

    هذا الحسبان قد جاء مصرحا به في قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] .

    وجاءه الجواب : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .
    قوله تعالى : بلى قادرين على أن نسوي بنانه

    كل المفسرين على أن المعنى نجعل بنانه متساوية ملتحمة كخف البعير ، أي : لا يستطيع أن يتناول بها شيئا ولا يحسن بها عملا .

    وهذا في الواقع لم نفهم له وجها مع السياق ، فهو وإن كان دالا على قدرة الله وعجز العبد . ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده ومجيء نظير ذلك في سورة " يس " ، يرشد إلى أن سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب وتحول عظامه رميما ، فهو قادر على أن يعيده تماما ، كما أنشأه أول مرة ، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه ، أي : يعدلها وينشؤها كما كانت أول مرة ، والعلم عند الله تعالى .

    ويرشد له قوله تعالى : وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، ومن الخلق ما كان عليه خلق هذا الإنسان المكذب المعترض ، فهو سبحانه يعيده على ما كان عليه تماما ، وهذا أبلغ في القدرة وأبلغ في الإلزام يوم القيامة . والعلم عند الله .
    قوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر

    قرئ " برق " بكسر الراء وفتحها ; فبالكسر : فزع ودهش ، أصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمة :

    [ ص: 373 ]
    لو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق


    وقول الأعشى :


    وكنت أرى في وجه مية لمحة فأبرق مغشيا علي مكانيا


    و " برق " بالفتح : شق بصره ، وهو من البريق ، أي : لمع بصره من شدة شخوصه .

    قال أبو حيان : والواقع أنه لا مانع من إرادة المعنيين ما دامت القراءتان صحيحتين ، وقد يشهد لهذا النص في سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم [ 14 \ 42 - 43 ] .

    قال ابن كثير : ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر من شدة الرعب .

    وقوله : يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر ، تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ص " على قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
    قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

    المراد : " بما قدم " هنا هو ما قدمه من عمل ليوم القيامة ، كما في قوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 23 - 24 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى وبدا لهم سيئات ما كسبوا [ 39 \ 48 ] من سورة " الزمر " .
    قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة

    بينه قوله تعالى : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] .

    وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وتقدم في سورة " الكهف " .
    قوله تعالى : ولو ألقى معاذيره

    أي : أنها لا تنفعه آنذاك ، كما في قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم [ 40 \ 52 ] .

    [ ص: 374 ] وقد بين تعالى بعض معاذيرهم تلك في مثل قوله تعالى : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] .

    وقوله : فأغويناكم إنا كنا غاوين [ 37 \ 32 ] .

    وقوله : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 106 - 108 ] .

    وقوله : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 10 - 11 ] .
    قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه

    فيه النهي عن تحريك لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان أن الله تعالى عليه جمعه وقرآنه ، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ، يحرك لسانه عند الوحي فنهي عن ذلك .

    وقد بين تعالى مدى هذا النهي ومدة هذه العجلة في قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وفيه الإيماء إلى حسن الاستماع والإصغاء عند الإيحاء به ، كما في آداب الاستماع : فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ 7 \ 204 ] .

    وقوله : إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 17 ] ، قد بين تعالى أن جمعه وقراءته عليه في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .

    تنبيه .

    إن في قوله تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فيه إشارة إلى أنه نزل مفرقا ، وإشارة إلى أن جمعه على هذا النحو الموجود برعاية وعناية من الله تعالى وتحقيقا ; لقوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه ، ويشهد لذلك أن هذا الجمع الموجود من وسائل حفظه ، كما تعهد تعالى بذلك . والله تعالى أعلم .

    [ ص: 375 ] وقال أبو حيان : إن علينا جمعه في صدرك . " وقرآنه " ، أي : تقرؤه .





  18. #578
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (577)
    سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
    صـ 375 إلى صـ 382




    قوله تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه

    تقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى : علمه شديد القوى [ 53 \ 5 ] ، من سورة " النجم " .
    قوله تعالى : ثم إن علينا بيانه

    قد نبه تعالى كما جاء في مقدمة الأضواء أنه ما من مجمل إلا وجاء تفصيله في مكان آخر ، وقد نص تعالى على هذا في كثير من الآيات ، كما في قوله : كتاب فصلت آياته [ 41 \ 3 ] ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، بيان ذلك في أول " فصلت " .
    قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة

    تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، عند قوله تعالى : قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني [ 7 \ 143 ] .
    قوله تعالى : كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق

    لم يبين ما هي التي بلغت التراقي ولكنه معلوم أنها الروح ، كما في قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون إلى قوله ترجعونها إن كنتم صادقين [ 56 \ 83 - 87 ] ، فهذه حالات النزع ، والروح تبلغ الحلقوم وتبلغ التراقي . وقد يترك التصريح للعلم كما في قوله تعالى : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ، وهكذا هنا فلمعرفتها بالقرائن ترك التصريح بالروح أو النفس ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] .

    وقوله تعالى : وقيل من راق

    اختلف في معنى راق هذه ، فقيل من الرقية أي : قال من حوله : من يرتقيه هل من طبيب يرقيه ؟ أي حالة اشتداد الأمر عليه رجاء لشفائه أو استبعادا بأنه لا ينفعه ، وقيل : من الرقي أي تقول الملائكة : من الذي سيرقى بروحه [ ص: 376 ] أملائكة العذاب أم ملائكة الرحمة ؟

    ولكن في الآية قرينة على أن الأول أرجح ; لأن قول الملائكة يكون في حق الشخص المتردد في أمره ، وهذا هنا ليس موضع تردد ; لأن نهاية السياق فيه فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، إلى ما بعده .

    وقال أبو حيان : على أنه على قول الملائكة من يرقى بروحه ، يكون ذلك كراهية منهم أن يصعدوا بها ، وفي هذا نظر ; لأن الله تعالى جعل ملائكة للمشركين وهم ملائكة العذاب ، وملائكة للمؤمنين ، وهم ملائكة الرحمة . ولا يستكره فريق منهما أن يصعد بما تخصص له ، بل قد لا يسمح للآخر بما يخصه .

    كما في حديث الذي قتل مائة نفس ، وأدركته الوفاة في منتصف الطريق ، فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون أيهم يصعد بروحه ، كل يريد أن يتولى قبض روحه ، أولئك يقولون : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا قط ، وأولئك يقولون : إنه خرج تائبا إلى الله تعالى .

    وهذا كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - من ترجيح أحد المعنيين المختلف فيهما بين المفسرين ; لوجود قرينة في الآية . وقد وجدت القرينة وهي ما في آخر الآية والسياق من أنه ليس موضع تردد : فلا صدق ولا صلى الآية [ 75 \ 31 ] . والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى

    رد على زعم أنه خلق سدى وهملا ، وأنه لا يحاسب ولا يسأل وبالتالي لا يبعث .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] ، أي : تعالى الله عن العبث ، وقد ساق الشيخ الأدلة الوافية هناك .
    قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى

    [ ص: 377 ] بلى إنه على كل شيء قدير ، مجيء هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري ، بعد أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، وسوق هذه الآيات العظيمات الدالة على القدرة الباهرة ، فيه رد على إنكار ضمني وهو أنه لا يعتقد وجوده سدى ، ولا حساب عليه إلا من استبعد البعث .

    ولو أقر بالبعث لآمن بالجزاء واعترف بالسؤال ، وعلم أنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى . ولكن لما أنكر البعث ظن وحسب أنه يترك سدى ، فجاء تذكيره بأصل خلقته وتطوره ليستخلص منه اعترافه ; لأن من قدر على خلقه من مني يمنى ، وتطويره إلى علقة ثم إلى خلق سوي ، فهو قادر على بعثه مرة أخرى .

    وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه الأطوار في أكثر من موضع ، وأحال عليها عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] في سورة " النجم " .
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

    سُورَةُ الْإِنْسَانِ .


    قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا

    اتفق المفسرون على أن " هل " هنا بمعنى قد ، أي : أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم .

    ولفظ الإنسان في هل أتى على الإنسان ، وقيل : هو الإنسان الأول آدم - عليه السلام - ، أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن شيئا يذكر .

    وقيل : هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول ، أن آدم - عليه السلام - أتى عليه حين من الدهر ، قيل : أربعون سنة .

    ذكر عن ابن عباس : كان طينا ، ثم صلصالا ، حتى نفخ فيه الروح .

    ويكون على الثاني : أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر ، هو أربعون يوما نطفة ، ثم أربعون يوما علقة ، ثم أربعون يوما مضغة ، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكورا ، أي ضعيفا ، وكلاهما محتمل .

    ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، اتفقوا على أنه عام في بني آدم ; لأنه هو الذي خلق من نطفة أمشاج أخلاط ، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد ، وهو المعنى العام ; ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة .

    ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله ، وهي أن قوله تعالى : نبتليه قطعا لبني آدم ; لأن آدم - عليه السلام - انتهى أمره بالسمع والطاعة : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] ، ولم يبق مجال لابتلائه ، إنما ذلك لبنيه . والله [ ص: 379 ] تعالى أعلم .

    وقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج فيه بيان مبدأ خلق الإنسان ، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ، ثم مضغة ، ثم خلقا آخر ، وكل ذلك من لا شيء قبله . كما قال تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
    قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا

    الهداية هنا بمعنى البيان ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .

    والسبيل : الطريق السوي ، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه ، مقابل لها بالشكر ، أو كافر جاحد .

    وقوله : إما شاكرا ، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد ، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين :

    الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها .

    والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة ، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولا كسب للعبد فيها أيضا .

    وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها :

    الأولى : وجوده بعد العدم .

    الثانية : نعمة الإيمان .

    الثالثة : دخول الجنة .

    وقالوا : الإيجاد من العدم ، تفضل من الله تعالى كما قال : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] ، ومن جعله الله عقيما فلن [ ص: 380 ] ينجب قط .

    والثانية : الإنعام بالإيمان ، كما في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .

    وقد جاء في الحديث : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " . الحديث .

    وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين ، لا كسب له في ذلك .

    والثالثة : الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ; إلا أن يتغمدني الله برحمته " .

    وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة ، وهما خلق الإنسان بعد العدم ، وهدايته السبيل .

    والثالثة : تأتي ضمنا في ذكر النتيجة : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ; لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم : شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 3 - 5 ] .

    وقوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] تقدم أنها هداية بيان .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الهداية العامة والخاصة . والجمع بينهما في أكثر من موضع ، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ، ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر .

    وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة ، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى .

    وقال ابن تيمية : إن قراءتهما معا في ذلك اليوم ; لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ، ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه آدم ، ومبدأ خلق عموم الإنسان ، ويتذكر مصيره ومنتهاه ; ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهل هو شاكر أو كفور . اهـ ملخصا .

    ومضمون ذلك كله أنه يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة ، أن يوم [ ص: 381 ] الجمعة هو يوم آدم - عليه السلام - فيه خلق ، وفيه نفخ فيه الروح ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم الساعة .

    كما قيل : يوم الجمعة يوم آدم ، ويوم الإثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي : فيه ولد وفيه أنزل عليه ، وفيه وصل المدينة في الهجرة ، وفيه توفي .

    ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها ، إيجادا من العدم ، وإنعاما عليه بسكنى الجنة ، وتواجده على الأرض ، وتلقي التوبة عليه من الله ; أي : يوم الإنعام عليه حسا ومعنى ، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة " السجدة " في فجر يوم الجمعة ; لما فيها من قصة خلق آدم في قوله : الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه [ 32 \ 7 - 9 ] .

    وفيها قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، مما يبث الخوف في قلوب العباد ، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو ، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير ، وأشد خوفا من الشر .

    ثم حذر من نسيان يوم القيامة : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 32 \ 14 ] .

    وهكذا في الركعة الأولى ، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول .

    وكذلك يأتي في الركعة الثانية بقصته هو منذ بدأ خلقه : من نطفة أمشاج ، ويذكره بالهدي الذي أنزل عليه ، ويرغبه في شكر نعمه عليه ، ويحذره من جحودها وكفرانها .

    وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين : إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .

    فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه ، حيث فيه تقوم الساعة ، فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله ; فلا يكذب بالبعث . وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب ، وقد علم منتهاه ، وهذا في غاية الحكمة كما ترى .

    [ ص: 382 ] ومما يشهد لما ذهب إليه - رحمه الله - ، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور ، كما في قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فجميع الشهور من حيث الزمن سواء ، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلا للصوم ، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله ، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين ، وتتضاعف فيه الأعمال .

    وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر ، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر ، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] السورة بتمامها .
    مسألة .

    لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها ، ووقع فيها الإفراط والتفريط ، وكما قيل :


    كلا طرفي قصد الأمور ذميم


    ومنطلقا من كلام ابن تيمية ، نقدم هذه النبذة في هذه المسألة ، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة ، أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة ، نجد المناسبات قسمين : مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال ، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها . ومناسبة لم تعتبر ، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها .

    فمن الأول يوم الجمعة ، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة " الجمعة " ، وكلام ابن تيمية وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر ، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها ، كما تقدم في سورة " الجمعة " .

    ولكن من غير غلو ولا إفراط ، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده ، دون أن يسبق بصوم قبله ، أو يلحق بصوم بعده ، كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام ، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة ، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله ، أي بدون إفراط أو تفريط .





  19. #579
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (578)
    سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
    صـ 383 إلى صـ 390




    [ ص: 383 ] ومنها يوم الإثنين كما أسلفنا ، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن صيامه يوم الإثنين ، فقال : " هذا يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة ، وكان يوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد احتفى به - صلى الله عليه وسلم - للمسببات المذكورة ، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة .

    فيوم مولده - صلى الله عليه وسلم - وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة ، وإهلاك جيشه إرهاصا بمولده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ظهور نجم بني الختان ، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : أنها أتيت حين حملت به - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لها : " إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي :


    أعيذه بالواحد من شر كل حاسد


    ثم سميه محمدا " ، وذكر ابن هشام : أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام .

    وذكر ابن هشام : أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا : ويلك ! ما لك ؟ ، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .

    وساق ابن كثير في تاريخه ، والبيهقي في خصائصه ، وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - ، نوجز منها الآتي :

    عن عثمان بن أبي العاص : أن أمه حضرت مولده - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور ، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي .

    وعن أبي الحكم التنوخي ، قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة ، فأكفأن عليه - صلى الله عليه وسلم - برمة ، فانفلقت عنه ، ووجد مفتوح العينين ، شاخصا ببصره إلى السماء .

    وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله .

    ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها ، وارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط بعض شرفه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبلها ، وغاضت بحيرة ساوة ، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام ، ودخول الفرس في الإسلام ، ثم كان بدء الوحي [ ص: 384 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين .
    الحفاوة بهذا اليوم .

    لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين : مولد سيد الخلق ، وبدء إنزال أفضل الكتب ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحتفي به ، وذلك بصيامه ، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه ، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين .

    أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر ، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ، ولا الثالث ، وهي القرون المشهود لها بالخير ، وأول إحداثه في القرن الرابع .

    وقد افترق الناس فيه إلى فريقين : فريق ينكره ، وينكر على من يفعله ; لعدم فعل السلف إياه ، ولا مجيء أثر في ذلك . وفريق يراه جائزا ; لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة .

    لابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف ، نورد موجزه لجزالته ، والله الهادي إلى سواء السبيل .

    قال ابن تيمية في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة ، حيث خطب - صلى الله عليه وسلم - ، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته ، ثم أتى إلى عمل المولد ، فقال :

    وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا ، مع اختلاف الناس في مولده ، أي : في ربيع أو في رمضان ، فإن هذا لم يفعله السلف - رضي الله عنهم - مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه .

    ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له منا ، وهم على الخير أحرص .

    وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنا [ ص: 385 ] وظاهرا ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين منالمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه . وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه . وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلا ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها .

    واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع .

    وفيه أيضا من بدعة وغيرها ، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره ، فقال : فعليك هنا بأدبين : أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا . الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ; فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه .

    ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير ، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء .

    ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون ، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون .

    وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به . . .

    ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد .

    [ ص: 386 ] ولهذا قيل لأحمد : إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا ، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور ، ككتب الأسمار والأصفار ، أو حكمة فارس والروم .

    ومراتب الأعمال ثلاث : إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه .

    والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع .

    والثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلا .

    فأما الأولى : فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أعمال السابقين الأولين .

    وأما الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضا ، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع ، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين ، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ .

    لقد عالج - رحمه الله - هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها .

    ولكن قد حدث بعده - رحمه الله - أمور لم تكن من قبل ، ابتلي بها العالم الغربي ، وغزا بها العالم الشرقي ، ولبس بها على المسلمين ، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري ، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فسلفية ، ارتفع شأنها في قومهم ، ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا ، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ، ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا ، فقام من المسلمين من يقول :

    نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ، ولا طريقا سلفيا ، ولا عمل القرون المشهود لها بالخير ، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة ، والذكريات بالذكرى ، لنجمع شباب المسلمين [ ص: 387 ] على سيرة سيد المرسلين ، ويكون ذلك من باب : يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره .

    وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب ، ولكن انطلاقا من كلام ابن تيمية المتقدم ، يمكن أن يقال : إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق ; حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين ، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد ، وفي كل إقامة لأداء صلاة ، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا . جهرا يملأ الأفق ، وسرا يملأ القلب والحس .

    ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة : في المأكل باليمين ; لأنه السنة ، وفي الملبس في التيامن ; لأنه السنة ، وفي المضجع على الشق الأيمن ; لأنه السنة ، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإن كان المراد التعبير عن المحبة ، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وولده ، وماله ، والناس أجمعين " .

    فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب ، وفعل ما يحبه ، وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه ، ومن هذا يمكن أن يقال : إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع ، وأعمال في أشكال لا أصل لها ، يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - عما لا يرضاه - صلى الله عليه وسلم - .

    وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم هذا اليوم بالصوم ، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة . فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ، ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما ، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور .

    ومع ذلك ، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين ، بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة ، وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية .

    وختاما ; فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير ، أن يكون عملا إيجابيا فيه حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع ، كما قال ابن تيمية . وبالله تعالى التوفيق .

    ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها ; لقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] [ ص: 388 ] ثم بين تعالى مقدارها بقوله : ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 3 ] ، وبين خواصها بقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر [ 97 \ 4 - 5 ] .
    الحفاوة بها .

    لقد بين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر كلها ; التماسا لتلك الليلة ، فكان يحييها قائما في معتكفه ، كما جاء في الحديث : " وإذا جاء العشر : شد مئزره ، وطوى فراشه ، وأيقظ أهله " ، فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم ، بل اجتهاد في العبادة .

    وكذلك شهر رمضان بكامله ; لكونه أنزل فيه القرآن أيضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله ، لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كماله بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع .

    ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وجد اليهود يصومونه ، فقال لهم : " لم تصومونه ؟ " ، فقالوا : يوما نجى الله فيه موسى من فرعون ، فصامه شكرا لله فصمناه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم " ، فصامه ، وأمر الناس بصيامه . إنها مناسبة عظمى : نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان .

    وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم ، نحن معشر الأنبياء أبناء علات ، ديننا واحد " .

    وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى - عليه السلام - به في صيامه شكرا لله .

    وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة ، لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات [ ص: 389 ] المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية ، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا ; حيث لا مدد للمسلمين ، ولا سبيل للانسحاب ، ولا بد لهم من إتمام العمرة .

    فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ، ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " ، فهرولوا في الطواف ، وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين ، حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك ، وسلم المسلمون .

    فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غدر قريش ، فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين .

    قال العلماء : بقي هذا العمل ; تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا ، وتذكروا لهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة .

    وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم :

    اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة .

    إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض ، وحصى الجمار ، وأيام الأسبوع . إلخ .

    وذلك لتصل إلى أقصى الجهد ، وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء ، وتتوجه بكليتها وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها .

    فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له .

    وهكذا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة [ ص: 390 ] كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [ 37 \ 102 ] .

    إنه حدث خطير ، وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد :

    ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال .

    والكل ماض في سبيل التنفيذ : فلما أسلما وتله للجبين [ 37 \ 103 ] ، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ، ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟

    إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن - رحمة الله - أوسع ، وفرجه من عنده أقرب : وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 104 - 105 ] .

    فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة ، خلدها الإسلام في الهدي والضحية .

    وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى .

    وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية .

    لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح ، والعهد الذي وثق بين الطرفين ، وقد سماه الله فتحا ، كما قال تعالى : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .




  20. #580
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الثامن
    الحلقة (579)
    سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
    صـ 391 إلى صـ 398





    [ ص: 391 ] ونزلت سورة " الفتح " في عودته - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية .

    وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم .

    وكذلك يوم فتح مكة ، وتحطيم الأصنام ، والقضاء نهائيا على دولة الشرك في البلاد العربية ، ومن قبل ذلك ليلة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ونزوله في الغار ، إذ كان فيها نجاته - صلى الله عليه وسلم - من فتك المشركين ، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار ، حينما كان يسير أحيانا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحيانا خلفه ، فسأل - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتذكر الرصد فأكون أمامك ، وأتذكر الطلب فأكون خلفك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ " .

    فقلت : نعم ; فداك أبي وأمي يا رسول الله ; فإني إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك
    " .

    وكذلك وصوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة ، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملا خاصا به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى ، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ ، فهل يقفون صما بكما أم ينطقون بكلمة تعبير ؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال ، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر ، وما لا يرضي الله ولا رسوله .

    إنه إن يكن من شيء ، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل تلك المناسبات من عبادة في : صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت .

    وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء ، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد ، وتكون ضمن عموم قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وضمن قوله تعالى فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] رأي بقصص الماضين .

    ونحن أيضا نقص على أجيالنا بعد هذه القرون ، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا ؟

    وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة . وبالله تعالى التوفيق .
    تنبيه .

    مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على [ ص: 392 ] قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] .

    قال عندها : وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عوف ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال : قوله : اليوم أكملت لكم دينكم ، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عشية عرفة في يوم جمعة .

    ورواه البخاري ، عن الحسن بن الصباح ، عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضا مسلم ، والترمذي ، والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق ، قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة .

    وساق عن ابن جرير ، قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه .

    فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : اليوم أكملت لكم دينكم

    فأجابه عمر بما أجاب به سابقا ، وقال : في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد .

    ونقل عن ابن جرير ، عن ابن عباس قرأ الآية ، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة .

    ومحل الإيراد أن عمر سمع اليهودي يشيد بيوم نزولها ، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه ، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولها عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن .

    وكذلك ابن عباس ; أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه ، فلم ينكر عليه كما لم ينكر عمر ، مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد ، لكان من المحتمل أن تتخذ عيدا . ولكنه صادف عيدا أو عيدين ، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين [ ص: 393 ] وإتمام النعمة .

    قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، الأمشاج : الأخلاط ، كما قال تعالى : من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] .
    قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا

    بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل ، وهو بعد الهداية إما شاكرا وإما كفورا .

    وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] ، كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلا من الله على من شاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الجمع بين الآيتين ، ومعنى الهداية العامة والخاصة .
    قوله تعالى : سلاسل وأغلالا

    بين تعالى نوع هذه السلاسل بذرعها في قوله تعالى : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا [ 69 \ 32 ] .
    قوله تعالى : يشربون من كأس

    مادة يشرب تتعدى بنفسها ، فيقال : يشرب كأسا بدون مجيء " من " ، و " من " للتبعيض وللابتداء ، فقيل : هي هنا للابتداء ، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر ، وهو : يتنعمون ويرتوون كما قالوا في : عينا يشرب بها عباد الله [ 76 \ 6 ] . إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا ، فهم يتنعمون بها .

    والذي يظهر أن " من " للتبعيض فعلا ، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ ، وهي عادة المترفين المنعمين ، يشربون بعض الكأس لا كله .

    وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمأ ، كما في قوله تعالى لآدم : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] ، وسيأتي تعدية [ ص: 394 ] يسقون بنفسها إلى الكأس : ويسقون فيها كأسا [ 76 \ 17 ] ، ويأتي قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .

    ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في : عينا يشرب بها عباد الله ، فهو هنا واضح .

    وهناك التبعيض ظاهر .
    قوله تعالى : يوفون بالنذر

    تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث النذر وافيا عند قوله تعالى : وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] في سورة " الحج " .
    قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا

    اختلف في مرجع الضمير في على حبه ، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى ؟ أي : ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه ، أم على حب الله رجاء ثواب الله ؟

    وقد رجح ابن كثير المعنى الأول ، وهو اختيار ابن جرير ، وساق الشواهد على ذلك كقوله : وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وقوله لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .

    والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما في هذه الآية ، ولكن أقرب دليلا وأصرح قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] .

    وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم ، وهي قوله تعالى بعدها : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ 76 \ 9 ] ; لأنها في معنى حب الله ، مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله . والتأسيس أولى من التأكيد ، فيكون السياق : ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه ، ولوجه الله تعالى . - والله تعالى أعلم - .

    مسألة .

    في قوله تعالى : مسكينا ويتيما وأسيرا ، جمع أصناف ثلاثة :

    الأول والثاني من المسلمين غالبا ، أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار ، وإن [ ص: 395 ] كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم .

    وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس : أنها في الفرس من المشركين ، وساق قصة أسارى بدر .

    واختار ابن جرير أن الأسرى هم الخدم ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي ; لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين : اليتيم ، والمسكين ، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر ، لم يبق لهم حول ولا طول . فلم يبق إلا الإحسان إليهم .

    وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه ، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السماوية السامية حتى مع أعدائه ، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم [ 60 \ 8 ] ، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين .
    قوله تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا

    تقدم معنى قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة [ 75 \ 22 ] ، وهنا جمع لهم بين النضرة والسرور ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن النضرة لما يرون من النعيم ، والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم . - والله تعالى أعلم - .
    قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا

    فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة .

    وجاء بصحاف من ذهب وأكواب ، وهي محرمة في الدنيا كما هو معلوم ، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم : ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .

    وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الطور " عند قوله : ويطوف عليهم غلمان لهم [ 52 \ 24 ] [ ص: 396 ] والقوارير جمع قارورة ، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة ، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة ، مما يدل على صحة إطلاق القارورة على غير آنية الزجاج كالفضة مثلا .

    قال صاحب اللسان : والقارورة : ما قر فيه الشراب وغيره ، وقيل : لا يكون إلا من الزجاج خاصة .

    وقوله تعالى : قوارير بآنية من فضة ، قال بعض أهل العلم : معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير ، قال ابن سيده : وهذا أحسن . اهـ .

    وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة في مادة قر : القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد ، والآخر على تمكن ، وذكر من التمكن : استقر ومستقر ، كما ذكر صاحب اللسان كثيرا من ذلك ، ثم قال : ومن الباب القر - بضم الراء - : صب الماء في الشيء . يقال : قررت الماء ، والقر : صب الكلام في الأذن ، وذكر منه الإقرار : ضد الجحود ; لاستقرار الحق به .

    ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس ، فقال : وهذه مقاييس صحيحة ، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام ، كما بلغنا عن بعضهم أنه قال : سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره ، فليس هذا من مذهبنا . وقد قلنا : إن كلام العرب ضربان : منه ما هو قياس وقد ذكرناه ، ومنه ما وضع وضعا .

    والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب ، أو أنها توضع بالقياس ؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلا يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص : إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] ، أو أنها محرمة قياسا على الخمر بجامع علة الإسكار ؟ وعليه فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياسا ، فهو أقوى في الحكم ; بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة . ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع : من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي .

    وفي قوله تعالى : قدروها تقديرا [ 76 \ 16 ] توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير ، والمقاسات .
    [ ص: 397 ] قوله تعالى : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا

    وقبلها قال تعالى : كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ، فقد قيل : هما معا ، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل .
    قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا

    وهذا وصف شراب الجنة ، والشراب هنا هو الخمر ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهورا ; لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة ، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة [ 76 \ 15 ] ، مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا ; لحديث : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها .

    وكذلك ينعمون بخمر الجنة ، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، كما أوضحه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] في سورة " الواقعة " .
    قوله تعالى : إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا

    " نزلنا " " تنزيلا " : يدل على التكرار بخلاف " أنزلنا " ، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة " القدر " : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] ، وهنا إثبات التنزيل .

    وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ 17 \ 106 ] .

    وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه المسألة في سورة " الفرقان " ، والإحالة فيها على بيان سابق .
    قوله تعالى : فاسجد له وسبحه ليلا طويلا

    تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة " المزمل " في قوله تعالى : [ ص: 398 ] ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه الآية [ 73 \ 4 ] .
    قوله تعالى : نحن خلقناهم وشددنا أسرهم

    الأسر : الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطبا ، وهو القد ، وسمي الأسير أسيرا لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب ، وهو هنا تقوية بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب ، وهو كناية عن الإتقان والقوة في الخلق .

    وقد بين تعالى ذلك في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقوله : الذي أحسن كل شيء خلقه [ 32 \ 7 ] .
    قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا

    السبيل هنا منكر ، ولكنه معين بقوله : إلى ربه ; لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم .

    كما قال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم [ 6 \ 151 ] ، وفي النهاية قال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه [ 6 \ 153 ] ، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه - صلى الله عليه وسلم - .

    كما في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] وهو القرآن الكريم كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] بعد قوله : اهدنا الصراط المستقيم ، كأنه قال : الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة : هو القرآن الكريم : هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب [ 2 \ 2 - 3 ] إلى آخر " الصفات " ، فيكون السبيل هنا معلوما .

    وقوله تعالى قبلها : إن هذه تذكرة [ 76 \ 29 ] مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها .

    وقوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من [ ص: 399 ] شاء ، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 \ 30 ] ، وهذه مسألة القدر .

    وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثها بحثا وافيا عند قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] في " يونس " وأحال على " النساء " . إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله : إن الله كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة .





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •