تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 27 من 28 الأولىالأولى ... 171819202122232425262728 الأخيرةالأخيرة
النتائج 521 إلى 540 من 550

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #521
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الطَّلَاقِ
    الحلقة (521)
    صــ 280 إلى صــ 294






    [ ص: 280 ] والأحاديث تعضد هذا القول،كقوله عليه الصلاة والسلام: "خلق فرعون في بطن أمه كافرا، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا"، وقوله: "فيؤمر الملك بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد .

    والثاني: أن تمام الكلام عند قوله تعالى: خلقكم ثم وصفهم، فقال تعالى: فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، واختلف أرباب هذا القول فيه على أربعة أقوال .

    أحدها: فمنكم كافر يؤمن، ومنكم مؤمن يكفر، قاله أبو الجوزاء عن ابن عباس .

    والثاني: فمنكم كافر في حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن في حياته كافر في العاقبة، قاله أبو سعيد الخدري .

    والثالث: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر [ ص: 281 ] بالكواكب، قاله عطاء بن أبي رباح، وعنى بذلك شأن الأنواء .

    والرابع: فمنكم كافر بالله خلقه، ومؤمن بالله خلقه، حكاه الزجاج . والكفر بالخلق مذهب الدهرية، وأهل الطبائع . وما بعد هذا قد سبق إلى قوله تعالى: وصوركم فأحسن صوركم قال الزجاج: أي: خلقكم أحسن الحيوان كله . وقرأ الأعمش (صوركم) بكسر الصاد . ويقال في جمع صورة: صور، وصور، كما يقال في جمع لحية: لحى، ولحى . وذكر ابن السائب أن معنى فأحسن صوركم أحكمها . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: ويعلم ما تسرون وروى المفضل عن عاصم ( يسرون ) و ( يعلنون ) بالياء فيهما ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل هذا خطاب لأهل مكة خوفهم ما نزل بالكفار قبلهم، فذلك قوله تعالى: فذاقوا وبال أمرهم أي: جزاء أعمالهم، وهو ما أصابهم من العذاب في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة "ذلك" الذي أصابهم بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فينكرون ذلك، ويقولون: أبشر أي: ناس مثلنا يهدوننا؟! والبشر اسم جنس معناه الجمع، وإن كان لفظه واحدا فكفروا وتولوا أي: أعرضوا عن الإيمان واستغنى الله عن إيمانهم وعبادتهم .

    زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين [ ص: 282 ] فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم

    قوله تعالى: زعم الذين كفروا كان ابن عمر يقول: ( زعموا ) كناية الكذب . وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان .

    قوله تعالى: وذلك على الله يسير يعني: البعث ، "والنور" هو القرآن، وفيه بيان أمر البعث والحساب والجزاء .

    قوله تعالى: يوم يجمعكم هو منصوب بقوله تعالى: لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم يوم يجمعكم ليوم الجمع وهو يوم القيامة . وسمي بذلك لأن الله تعالى يجمع فيه الجن والإنس، وأهل السموات، وأهل الأرض ذلك يوم التغابن تفاعل من الغبن، وهو فوت الحظ . والمراد في تسميته يوم القيامة بيوم التغابن فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه ليس من كافر، إلا وله منزل وأهل في الجنة فيرث ذلك المؤمن، فيغبن حينئذ الكافر، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس .

    [ ص: 283 ] والثاني: غبن أهل الجنة أهل النار، قاله مجاهد، والقرظي . والثالث: أنه يوم غبن المظلوم الظالم، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبونا، فصار في الآخرة غابنا، ذكره الماوردي .

    والرابع: أنه يوم يظهر فيه غبن الكافر بتركه للإيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان، ذكره الثعلبي . قال الزجاج: وإنما ذكر ذلك مثلا للبيع والشراء، كقوله تعالى: فما ربحت تجارتهم [البقرة: 16]، وقوله تعالى: هل أدلكم على تجارة [الصف: 10] وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: يكفر عنه سيئاته قرأ نافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم "نكفر" "وندخله" بالنون فيهما . والباقون: بالياء ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله قال ابن عباس: بعلمه وقضائه ومن يؤمن بالله يهد قلبه فيه ستة أقوال .

    أحدها: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من قبل الله تعالى، فيسلم، ويرضى .

    والثاني: يهد قلبه للاسترجاع، وهو أن يقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون قاله مقاتل .

    والثالث: أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، قاله ابن السائب، وابن قتيبة .

    والرابع: يهد قلبه، أي: يجعله مهتديا، قاله الزجاج . والخامس: [يهد وليه بالصبر والرضى، قاله أبو بكر الوراق . والسادس: ] يهد قلبه لاتباع السنة إذا صح إيمانه، قاله أبو عثمان الحيري . وقرأ أبو بكر الصديق، وعاصم الجحدري، وأبو نهيك: "يهد" بياء مفتوحة . [ ص: 284 ] ونصب الدال "قلبه" بالرفع . قال الزجاج: هذا من هدأ يهدأ: إذا سكن .

    فالمعنى: إذا سلم لأمر الله سكن قلبه . وقرأ عثمان بن عفان، والضحاك، وطلحة بن مصرف، والأزرق عن حمزة: "نهد" بالنون . وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو عبد الرحمن: "يهد" بضم الياء، وفتح الدال "قلبه" بالرفع . وما بعد هذا ظاهر إلى قوله تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم سبب نزولها أن الرجل كان يسلم . فإذا أراد الهجرة منعه أهله، وولده، وقالوا: ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال . فمنهم من يرق لهم، ويقيم فلا يهاجر، فنزلت هذه الآية . فلما هاجر أولئك، ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أهلهم الذين منعوهم، فأنزل الله تعالى: وإن تعفوا وتصفحوا إلى آخر الآية، هذا قول ابن عباس . وقال الزجاج: لما أرادوا الهجرة قال لهم أزواجهم، وأولادهم: قد صبرنا لكم على مفارقة الدين ولا نصبر لكم على مفارقتكم، ومفارقة الأموال، والمساكن، فأعلم الله عز وجل أن من كان بهذه الصورة، فهو عدو، وإن كان ولدا، أو كانت زوجة . وقال مجاهد: كان حب الرجل ولده وزوجته يحمله على قطيعة رحمه ومعصية ربه . وقال قتادة: كان من أزواجهم، وأولادهم من ينهاهم عن الإسلام، ويثبطهم عنه، فخرج في قوله تعالى: عدوا لكم ثلاثة أقوال .

    [ ص: 285 ] أحدها: بمنعه من الهجرة، وهذا على قول ابن عباس . والثاني: بكونهم سببا للمعاصي، وعلى هذا قول مجاهد . والثالث: بنهيهم عن الإسلام، وهذا على قول قتادة .

    قوله تعالى: فاحذروهم قال الفراء: لا تطيعوهم في التخلف .

    قوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي: بلاء وشغل عن الآخرة . فالمال والأولاد يوقعان في العظائم إلا من عصمه الله . وقال ابن قتيبة: أي: إغرام . يقال: فتن فلان بالمرأة، وشغف بها، أي: أغرم بها . وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل "من" في قوله تعالى: إن من أزواجكم لأنه ليس كل الأزواج، والأولاد أعداء . ولم يذكر "من" في قوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنها لا تخلو من الفتنة، واشتغال القلب بها . وقد روى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب، فجاء الحسن، والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله عز وجل: إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان، ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي، ورفعتهما .

    قوله تعالى: والله عنده أجر عظيم أي: ثواب جزيل وهو الجنة . [ ص: 286 ] والمعنى: لا تعصوه بسبب الأولاد، ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم فاتقوا الله ما استطعتم أي: ما أطقتم "واسمعوا" ما تؤمرون به "وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم" وفي هذه النفقة ثلاثة أقوال .

    أحدها: الصدقة، قاله ابن عباس .

    والثاني: نفقة المؤمن على نفسه، قاله الحسن .

    والثالث: النفقة في الجهاد، قاله الضحاك ومن يوق شح نفسه حتى يعطي حق الله في ماله . وقد تقدم بيان هذا في [الحشر: 9] وما بعده قد سبق بيانه إلى آخر السورة [البقرة: 254، والحديد: 18،11، والحشر: 24،23] .

    سُورَةُ الطَّلَاقِ
    وتسمى سورة النساء القصرى، وهي مدنية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا

    قوله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء قال الزجاج: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . والمؤمنون داخلون معه فيه . ومعناه: إذا أردتم طلاق النساء، كقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة [المائدة: 6] وفي سبب نزول هذه الآية قولان .

    أحدهما: أنها نزلت حين طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، وقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وهي من إحدى زوجاتك في الجنة، قاله أنس بن مالك .

    والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنه طلق امرأته حائضا، [ ص: 288 ] فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، قاله السدي .

    قوله تعالى لعدتهن أي: لزمان عدتهن، وهو الطهر . وهذا للمدخول بها، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها .

    والطلاق على ضربين: سني، وبدعي .

    فالسني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، وذلك هو الطلاق للعدة ، لأنها تعتد بذلك الطهر من عدة وتقع في العدة عقيب الطلاق، فلا يطول عليها زمان العدة .

    والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، فهو واقع، وصاحبه آثم . وإن جمع الطلاق الثلاث في طهر واحد، فالمنصور من مذهبنا أنه بدعة .

    قوله تعالى: وأحصوا العدة أي: زمان العدة . وفي إحصائها فوائد . منها: مراعاة زمان الرجعة، وأوان النفقة، والسكنى، وتوزيع الطلاق على الإقرار إذا أراد أن يطلق ثلاثا، وليعلم أنها قد بانت، فيتزوج بأختها، وأربع سواها .

    [ ص: 289 ] قوله تعالى: واتقوا الله ربكم أي: فلا تعصوه فيما أمركم به . و لا تخرجوهن من بيوتهن فيه دليل على وجوب السكنى . ونسب البيوت إليهن، لسكناهن قبل الطلاق فيهن، ولا يجوز لها أن تخرج في عدتها إلا لضرورة ظاهرة . فإن خرجت أثمت إلا أن يأتين بفاحشة وفيها أربعة أقوال .

    أحدها: المعنى: إلا أن يخرجن قبل انقضاء المدة فخروجهن هو الفاحشة المبينة، وهذا قول عبد الله بن عمر، والسدي، وابن السائب .

    والثاني: أن الفاحشة: الزنا، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والشعبي، وعكرمة، والضحاك . فعلى هذا يكون المعنى: إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن .

    والثالث: الفاحشة: أن تبذؤ على أهلها، فيحل لهم إخراجها، رواه محمد ابن إبراهيم عن ابن عباس .

    والرابع: أنها إصابة حد، فتخرج لإقامة الحد عليها، قاله سعيد ابن المسيب .

    قوله تعالى: وتلك حدود الله يعني: ما ذكر من الأحكام ومن يتعد [ ص: 290 ] حدود الله التي بينها، وأمر بها فقد ظلم نفسه أي: أثم فيما بينه وبين الله تعالى لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا أي: يوقع في قلب الزوج المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين . وهذا يدل على أن المستحب في الطلاق تفريقه، وأن لا يجمع الثلاث .

    فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا

    قوله تعالى: فإذا بلغن أجلهن أي: قاربن انقضاء العدة "فأمسكوهن بمعروف" وهذا مبين في [البقرة: 231] "وأشهدوا ذوي عدل منكم" قال المفسرون: أشهدوا على الطلاق، أو المراجعة . واختلف العلماء: هل الإشهاد على المراجعة واجب، أم مستحب؟ وفيه عن أحمد روايتان، وعن الشافعي قولان ثم قال للشهداء: "وأقيموا الشهادة لله" أي: اشهدوا بالحق، وأدوها على الصحة، طلبا لمرضاة الله، وقياما بوصيته . وما بعده قد سبق بيانه [البقرة: 232] إلى قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا فذكر أكثر [ ص: 291 ] المفسرين أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، أسر العدو ابنا له، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه الفاقة، فقال: اتق الله، واصبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففعل الرجل ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم، وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت هذه الآية .

    وفي معناها للمفسرين خمسة أقوال .

    أحدها: ومن يتق الله ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة، قاله ابن عباس .

    والثاني: بأن مخرجه: علمه بأن ما أصابه من عطاء أو منع، من قبل الله، وهو معنى قول ابن مسعود .

    والثالث: ومن يتق الله، فيطلق للسنة، ويراجع للسنة، يجعل له مخرجا، قاله السدي .

    والرابع: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة، يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة، قاله ابن السائب .

    والخامس: يجعل له مخرجا من الحرام إلى الحلال، قاله الزجاج . والصحيح أن هذا عام، فإن الله تعالى يجعل للتقي مخرجا من كل ما يضيق عليه . ومن لا يتقي، يقع في كل شدة . قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجا من كل ما يضيق [ ص: 292 ] على الناس "ويرزقه من حيث لا يحتسب" أي: من حيث لا يأمل، ولا يرجو . قال الزجاج: ويجوز أن يكون: إذا اتقى الله في طلاقه، وجرى في ذلك على السنة، رزقه الله أهلا بدل أهله "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي: من وثق به فيما نابه، كفاه الله ما أهمه "إن الله بالغ أمره " وروى حفص، والمفضل عن عاصم بالغ أمره مضاف . والمعنى: يقضي ما يريد "قد جعل الله لكل شيء قدرا" أي: أجلا ومنتهى ينتهي إليه، قدر الله ذلك كله فلا يقدم ولا يؤخر . قال مقاتل: قد جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء قدرا، فقدر متى يكون هذا الغني فقيرا، وهذا الفقير غنيا .

    واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا

    قوله تعالى: واللائي يئسن من المحيض في سبب نزولها قولان . [ ص: 293 ] أحدهما: أنها لما نزلت عدة المطلقة، والمتوفى عنها زوجها في [البقرة: 227، 232] قال أبي بن كعب : يا رسول الله إن نساء من أهل المدينة يقلن: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء . قال: "وما هو؟" قال: الصغار والكبار، وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية، قاله عمرو بن سالم .

    والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن . . . الآية [البقرة: 228] قال خلاد بن النعمان الأنصاري: يا رسول الله، فما عدة التي لا تحيض، وعدة التي لم تحض، وعدة الحبلى؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل . ومعنى الآية: "إن ارتبتم" أي: شككتم فلم تدروا ما عدتهن "فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن" كذلك .

    فصل

    قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالارتياب ها هنا: ارتياب المخاطبين في مقدار عدة الآيسة والصغيرة كم هو؟ وليس المراد به ارتياب المعتدات في اليأس من المحيض، أو اليأس من الحمل للسبب الذي ذكر في نزول الآية . ولأنه لو أريد [ ص: 294 ] بذلك النساء لتوجه الخطاب إليهن، فقيل: إن ارتبتن، أو ارتبن، لأن الحيض إنما يعلم من جهتهن .

    وقد اختلف في المرأة إذا تأخر حيضها لا لعارض كم تجلس؟ فمذهب أصحابنا أنها تجلس غالب مدة الحمل، وهو تسعة أشهر، ثم ثلاثة . والعدة: هي الثلاثة التي بعد التسعة . فإن حاضت قبل السنة بيوم، استأنفت ثلاث حيض، وإن تمت السنة من غير حيض، حلت، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة، والشافعي في الجديد: تمكث أبدا حتى يعلم براءة رحمها قطعا، وهي أن تصير في حد لا يحيض مثلها، فتعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر .

    قوله تعالى: واللائي لم يحضن يعني: عدتهن ثلاثة أشهر أيضا، لأنه كلام لا يستقل بنفسه، فلا بد له من ضمير، وضميره تقدم ذكره مظهرا، وهو العدة بالشهور . وهذا على قول أصحابنا محمول على من لم يأت عليها زمان الحيض: أنها تعتد ثلاثة أشهر . فأما من أتى عليها زمان الحيض، ولم تحض، فإنها تعتد سنة .

    قوله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقات، والمتوفى عنهن أزواجهن، وهذا قول عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وفقهاء الأمصار . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: تعتد آخر الأجلين . ويدل على قولنا عموم الآية . وقول ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت "وأولات الأحمال" إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، [ ص: 295 ] وقول أم سلمة: إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج .

    قوله تعالى: ومن يتق الله أي: فيما أمر به "يجعل له من أمره يسرا" يسهل عليه أمر الدنيا والآخرة، وهذا قول الأكثرين . وقال الضحاك: ومن يتق الله في طلاق السنة، يجعل الله له من أمره يسرا في الرجعة "ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله" بطاعته "يكفر عنه سيئاته" أي: يمح عنه خطاياه "ويعظم له أجرا" في الآخرة .





  2. #522
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ التَّحْرِيمِ
    الحلقة (522)
    صــ 295 إلى صــ 309





    أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا

    "أسكنوهن من حيث سكنتم" و"من" صلة قوله: "من وجدكم" [ ص: 296 ] قرأ الجمهور بضم الواو . وقرأ أبو هريرة، وأبو عبد الرحمن، وأبو رزين، وقتادة، وروح عن يعقوب بكسر الواو . وقرأ ابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة: بفتح الواو . قال ابن قتيبة: أي: بقدر وسعكم . والوجد: المقدرة، والغنى، يقال: افتقر فلان بعد وجد . قال الفراء: يقول: على ما يجد، فإن كان موسعا عليه، وسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان مقترا عليه، فعلى قدر ذلك .

    قوله تعالى: ولا تضاروهن بالتضييق عليهن في المسكن، والنفقة، وأنتم تجدون سعة . قال القاضي أبو يعلى: المراد بهذا: المطلقة الرجعية دون المبتوتة، بدليل قوله تعالى: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [الطلاق: 1] وقوله: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف [الطلاق: 2] فدل ذلك على أنه أراد الرجعية .

    وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة: هل لها سكنى، ونفقة في مدة العدة، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة: لها السكنى، والنفقة . وقال مالك والشافعي: لها السكنى، دون النفقة . وقد رواه الكوسج عن أحمد . ويدل على الأول حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها، فلا نفقة ولا سكنى . ومن حيث المعنى: إن النفقة إنما تجب لأجل التمكين من الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها . [ ص: 297 ] واختلفوا في الحامل، والمتوفى عنها زوجها، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وأبو العالية، والشعبي، وشريح، وإبراهيم: نفقتها من جميع المال، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري . وقال ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء: نفقتها في مال نفسها، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه . وعن أحمد كالقولين .

    قوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن يعني: أجرة الرضاع . وفي هذا دلالة على أن الأم إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها وأتمروا بينكم بمعروف ، أي: لا تشتط المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرضاع، ولا يقصر الزوج عن المقدار المستحق وإن تعاسرتم في الأجرة، ولم يتراض الوالدان على شيء فسترضع له أخرى لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، أي: فليسترضع الوالد غير والدة الصبي .

    لينفق ذو سعة من سعته أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم . وقرأ ابن السميفع ( لينفق ) بفتح القاف . ومن قدر عليه رزقه أي: ضيق عليه من المطلقين . وقرأ أبي بن كعب ، وحميد (قدر) بضم القاف وتشديد الدال . وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة (قدر) بفتح القاف وتشديد الدال . (رزقه) بنصب القاف . فلينفق مما آتاه الله على قدر ما أعطاه . لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها أي: على قدر ما أعطاها من المال . سيجعل الله بعد عسر يسرا أي: بعد ضيق وشدة، غنى وسعة، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك .

    [ ص: 298 ] وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا

    قوله تعالى: "وكأين" أي: وكم "من قرية عتت عن أمر ربها ورسله، أي: عن أمر رسله . والمعنى: عتا أهلها . قال ابن زيد: عتت، أي: كفرت، وتركت أمر ربها، فلم تقبله . وفي باقي الآية قولان .

    أحدهما: أن فيها تقديما، وتأخيرا . والمعنى: عذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع، والسيف، والبلايا، وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة، قاله ابن عباس، والفراء في آخرين .

    والثاني: أنها على نظمها، والمعنى: حاسبناها بعملها في الدنيا، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها، فذلك قوله تعالى: "وعذبناها" فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة . والحساب الشديد: الذي لا عفو فيه، والنكر: المنكر "فذاقت وبال أمرها" أي: جزاء ذنبها "وكان عاقبة أمرها خسرا" في الدنيا، والآخرة، وقال ابن قتيبة: الخسر: الهلكة .

    قوله تعالى: قد أنزل الله إليكم ذكرا أي: قرآنا . رسولا أي: وبعثه رسولا، قاله مقاتل . وإلى نحوه ذهب السدي . وقال ابن السائب: الرسول ها هنا: جبرائيل، فعلى هذا: يكون الذكر والرسول جميعا منزلين . وقال ثعلب: الرسول: هو الذكر . وقال غيره: معنى الذكر هاهنا: الشرف .

    [ ص: 299 ] وما بعده قد تقدم [البقرة: 257، والأحزاب: 43، والتغابن: 9] إلى قوله تعالى: قد أحسن الله له رزقا يعني: الجنة التي لا ينقطع نعيمها .

    الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما

    قوله: ومن الأرض مثلهن أي: وخلق الأرض بعددهن . وجاء في الحديث: " كثافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بينها وبين الأخرى كذلك، و كثافة كل أرض خمسمائة عام، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك " . وقد [ ص: 300 ] روى أبو الضحى عن ابن عباس قال: " في كل أرض آدم مثل آدمكم، ونوح مثل نوحكم، وإبراهيم مثل إبراهيمكم، وعيسى كعيسى"، فهذا الحديث [تارة] يرفع إلى ابن عباس، وتارة يوقف على أبي الضحى، وليس له معنى إلا ما حكى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت أن معناه: إن في كل أرض خلقا من خلق الله لهم سادة، يقوم كبيرهم ومتقدمهم في الخلق مقام آدم فينا، وتقوم ذريته في السن والقدم كمقام نوح . وعلى هذا المثال سائرهم . وقال كعب: ساكن الأرض الثانية: البحر العقيم، وفي الثالثة: حجارة جهنم، والرابعة: كبريت جهنم، والخامسة: حيات جهنم، والسادسة: عقارب جهنم، والسابعة: فيها إبليس .

    قوله تعالى: يتنزل الأمر بينهن في الأمر قولان .

    أحدهما: قضاء الله وقدره، قاله الأكثرون . قال قتادة: في كل أرض [ ص: 301 ] من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه .

    والثاني: أنه الوحي، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما أعلمكم بهذا لتعلموا قدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء .

    سُورَةُ التَّحْرِيمِ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا

    قوله تعالى: لم تحرم ما أحل الله لك في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أن حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدث عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم [الذي] يأتي فيه عائشة ، [ ص: 303 ] فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة . فلما دخلت حفصة قالت: قد رأيت من كان عندك . والله لقد سؤتني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لأرضينك، وإني مسر إليك سرا فاحفظيه" قالت: وما هو؟ قال "إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضى لك"، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فقالت لها: أبشري، إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه فتاته، فنزلت هذه الآية رواه العوفي عن ابن عباس . وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى، وقال فيه: فقالت حفصة: كيف تحرمها عليك، وهي جاريتك؟! فحلف لها أن لا يقربها، فقال لها: "لا تذكريه لأحد" فذكرته لعائشة، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا، فنزلت هذه الآية وقال الضحاك: قال لها: "لا تذكري لعائشة ما رأيت"، فذكرته، فغضبت عائشة، ولم تزل بنبي الله حتى حلف أن لا يقربها، فنزلت هذه الآية، وإلى هذا المعنى: ذهب سعيد بن جبير ، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، ومسروق، ومقاتل، والأكثرون . [ ص: 304 ] والثاني: ما روى عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل، وكان إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه، فدخل على حفصة بنت عمر، واحتبس عندها، فسألت عن ذلك، فقيل: أهدت لها امرأة من قومها عكة من عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أما والله لنحتالن له، فقلت لسودة: إنه سيدنو منك إذا دخل عليك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جرست نحله العرفط وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي فيه، قالت: تقول: سودة سبحان الله، والله لقد حرمناه قلت لها: اسكتي، أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" . وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس: [ ص: 305 ] أن التي شرب عندها العسل سودة، فقالت له عائشة: إني لأجد منك ريحا، ثم دخل على حفصة، فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: " إني أراه من شراب شربته عند سودة، والله لا أشربه" ، فنزلت هذه الآية . وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول . قال أبو عبيد: المغافير: شيء شبيه بالصمغ فيه حلاوة . وخرج الناس يتمغفرون: إذا خرجوا يجتنونه . ويقال: المغاثير بالثاء، مثل جدث، وجدف . وقال الزجاج: المغافير: صمغ متغير الرائحة، فخرج في المراد بالذي أحل الله له قولان . [ ص: 306 ] أحدهما: أنه جاريته . والثاني: العسل .

    قوله تعالى: تبتغي مرضات أزواجك أي: تطلب رضاهن بتحريم ذلك . والله غفور رحيم غفر الله لك التحريم . قد فرض الله لكم قال مقاتل: قد بين الله لكم تحلة أيمانكم أي: كفارة أيمانكم، وذلك البيان في [المائدة: 89] قال المفسرون: وأصل "تحلة" تحللة على وزن تفعلة، فأدغمت، والمعنى: قد بين الله لكم تحليل أيمانكم بالكفارة، فأمره الله أن يكفر يمينه، فأعتق رقبة .

    [ ص: 307 ] واختلفوا هل حرم مارية على نفسه بيمين، أم لا؟ على قولين .

    أحدهما: حرمها من غير ذكر يمين، فكان التحريم موجبا لكفارة اليمين، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه حلف يمينا حرمها بها، قاله الحسن . والشعبي، وقتادة، والله مولاكم أي: وليكم وناصركم .

    قوله تعالى: وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا يعني: حفصة من غير خلاف علمناه .

    وفي هذا السر ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه قال لها: " إني مسر إليك سرا فاحفظيه، سريتي هذه علي حرام "، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، والشعبي، والضحاك، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابنه، والسدي .

    [ ص: 308 ] والثاني: أنه قال لها: " أبوك، وأبو عائشة ، واليا الناس من بعدي، فإياك أن تخبري أحدا "، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث: أنه أسر إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي، قاله ميمون بن مهران . [ ص: 309 ] قوله تعالى: فلما نبأت به أي: أخبرت به عائشة "وأظهره الله عليه" أي: أطلع الله نبيه على قوله حفصة لعائشة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، لأنه استكتم حفصة ذلك، ثم دعاها، فأخبرها ببعض ما قالت، فذلك قوله تعالى: عرف بعضه وأعرض عن بعض وفي الذي عرفها إياه قولان .

    أحدهما: أنه حدثها ما حدثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر، وسكت عما أخبرت عائشة من تحريم مارية، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن الذي عرف: تحريم مارية، والذي أعرض عنه: ذكر الخلافة لئلا ينتشر، قاله الضحاك، وهذا اختيار الزجاج . قال: ومعنى "عرف بعضه" عرف حفصة بعضه . وقرأ الكسائي، "عرف" بالتخفيف . قال الزجاج: على هذه القراءة قد عرف كل ما أسره، غير أن المعنى جار على بعضه كقوله تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله [البقرة: 179]، أي: يعلمه ويجاز عليه، وكذلك: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [الزلزلة: 7] أي: ير جزاءه . فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فكان ذلك جزاءها عنده، فأمره الله أن يراجعها . وقال مقاتل بن حيان: لم يطلقها، وإنما هم بطلاقها، فقال له جبريل: لا تطلقها، فإنها صوامة قوامة . وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، ثم قرأ عرف [ ص: 310 ] بعضه وأعرض عن بعض . وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن السميفع "عراف" برفع العين، وتشديد الراء وبألف "بعضه" بالخفض .





  3. #523
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمُلْكِ
    الحلقة (523)
    صــ 310 إلى صــ 324




    قوله تعالى: فلما نبأها به أي: أخبر حفصة بإفشائها السر "قالت من أنبأك هذا" أي: من أخبرك بأني أفشيت سرك؟ قال نبأني العليم الخبير ثم خاطب عائشة وحفصة، فقال: إن تتوبا إلى الله أي: من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء فقد صغت قلوبكما قال ابن عباس: زاغت، وأثمت . قال الزجاج: عدلت، وزاغت عن الحق . قال مجاهد: كنا نرى قوله تعالى: فقد صغت قلوبكما شيئا هينا حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود: فقد زاغت قلوبكما . وإنما جعل القلبين جماعة لأن كل اثنين فما فوقهما جماعة . وقد أشرنا إلى هذا في قوله تعالى: فإن كان له إخوة [النساء: 11] وقوله تعالى: إذ تسوروا المحراب [ص: 11] . قال المفسرون: وذلك أنهما أحبا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته، "وإن تظاهرا" وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن ومجاهد، والأعمش "تظاهرا" بتخفيف الظاء، أي: تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء "فإن الله هو مولاه" أي: وليه في العون، والنصرة "وجبريل" وليه "وصالح المؤمنين" وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال .

    أحدها: أنهم أبو بكر وعمر، قاله ابن مسعود، وعكرمة، والضحاك .

    والثاني: أبو بكر، رواه مكحول عن أبي أمامة .

    والثالث: عمر، قاله ابن جبير، ومجاهد .

    والرابع: خيار المؤمنين، قاله الربيع بن أنس .

    [ ص: 311 ] والخامس: أنهم الأنبياء، قاله قتادة، والعلاء بن زياد العدوي، وسفيان .

    والسادس: أنه علي رضي الله عنه، حكاه الماوردي . قاله الفراء: "وصالح المؤمنين" موحد في مذهب جميع، كما تقول: لا يأتيني إلا سائس الحرب، فمن كان ذا ساسة للحرب، فقد أمر بالمجيء، ومثله قوله تعالى: والسارق والسارقة [المائدة: 38]، وقوله تعالى: واللذان يأتيانها منكم [النساء: 16]، وقوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا [المعارج: 19] في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع .

    قوله تعالى: والملائكة بعد ذلك ظهير أي: ظهرا، وهذا مما لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجميع، ومثله يخرجكم طفلا [غافر: 67]، وقد شرحناه هناك . ثم خوف نساءه، فقال تعالى: عسى ربه إن طلقكن وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطاب قال: بلغني بعض ما آذى به رسول الله نساؤه، فدخلت عليهن، فجعلت أستقرئهن واحدة واحدة، فقلت: والله لتنتهن، أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية . والمعنى: واجب من الله "إن طلقكن" رسوله "أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات" أي: خاضعات لله بالطاعة "مؤمنات" مصدقات بتوحيد الله "قانتات" أي: طائعات "سائحات" فيه قولان . [ ص: 312 ] أحدهما: صائمات، قاله ابن عباس، والجمهور . وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله تعالى: السائحون [التوبة: 112] .

    والثاني: مهاجرات، قاله زيد بن أسلم، وابنه . "والثيبات" جمع ثيب، وهي المرأة التي قد تزوجت، ثم ثابت إلى بيت أبويها، فعادت كما كانت غير ذات زوج . "والأبكار": العذارى .

    يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير

    قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقاية النفس: بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، ووقاية الأهل: بأن يؤمروا بالطاعة، وينهوا عن المعصية . وقال علي رضي الله عنه: علموهم وأدبوهم "وقودها الناس والحجارة" وقد [ ص: 313 ] ذكرناه في [البقرة: 24] عليها ملائكة غلاظ على أهل النار شداد عليهم .

    وقيل: غلاظ القلوب شداد الأبدان . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: خزنة النار تسعة عشر، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، وقوته: أن يضرب بالمقمعة، فيدفع بتلك الضربة سبعين ألفا، فيهوون في قعر جهنم "لا يعصون الله ما أمرهم" أي: لا يخالفون فيما يأمر "ويفعلون ما يؤمرون" فيه قولان .

    أحدهما: لا يتجاوزون ما يؤمرون . والثاني: يفعلونه في وقته لا يؤخرونه، ولا يقدمونه . ويقال لأهل النار: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم .

    قوله تعالى: توبوا إلى الله توبة نصوحا قرأ أبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع "نصوحا" بضم النون . والباقون بفتحها . قال الزجاج: فمن فتح فعلى صفة التوبة، ومعناه: توبة بالغة في النصح، "وفعول" من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف . تقول: رجل صبور، وشكور . ومن قرأ بالضم، فمعناه: ينصحون فيها نصوحا، يقال: نصحت له نصحا، ونصاحة، ونصوحا . وقال غيره: من ضم أراد: توبة نصح لأنفسكم . وقال [ ص: 314 ] عمر بن الخطاب: التوبة النصوح: أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدث نفسه أنه لا يعود . وسئل الحسن البصري عن التوبة النصوح، فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود . وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية .

    قوله تعالى: يوم لا يخزي الله النبي قد بينا معنى "الخزي" في [آل عمران: 192] وبينا معنى قوله تعالى: نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في [الحديد: 12] يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم [نورهم]، ويبلغهم به الجنة . قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة . فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهم يقولون: "ربنا أتمم لنا نورنا" .

    يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

    قوله تعالى: جاهد الكفار والمنافقين قد شرحناه في [براءة: 73] .

    قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح قال المفسرون منهم مقاتل: هذا المثل يتضمن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن عصيا ربهما لم يغن [ ص: 315 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما شيئا . قال مقاتل: اسم امرأة نوح "والهة" وامرأة لوط "والغة" .

    قوله تعالى: كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين يعني: نوحا ولوطا عليهما السلام فخانتاهما قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على الأضياف، فإذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار دخنت ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف . وقال السدي: كانت خيانتهما: كفرهما .

    وقال الضحاك: نميمتهما . وقال ابن السائب: نفاقهما .

    قوله تعالى: فلم يغنيا عنهما من الله شيئا أي: فلم يدفعا عنهما من عذاب الله شيئا . وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره .

    ثم أخبر أن معصية الغير لا تضر المطيع بقوله تعالى: وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون وهي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها . وقال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما . ثم ضرب لهما هذا المثل يرغبهما في التمسك بالطاعة . وكانت آسية قد آمنت بموسى .

    قال أبو هريرة: ضرب فرعون لامرأته أوتادا في يديها ورجليها، وكانوا إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة، فقالت: "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة" فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته قبل موتها "ونجني من فرعون وعمله" فيه قولان .

    [ ص: 316 ] أحدهما: أن عمله: جماعه . والثاني: أنه دينه رويا عن ابن عباس "ونجني من القوم الظالمين" يعني: أهل دين المشركين .

    قوله تعالى: والتي أحصنت فرجها قد ذكرنا فيه قولين في سورة [الأنبياء: 92] فمن قال: هو فرج ثوبها، قال: "الهاء" في قوله تعالى: فنفخنا فيه يرجع إليه، وذلك أن جبريل مد جيب درعها، فدخل فيه . ومن قال هو مخرج الولد، قال: "الهاء" كناية عن غير مذكور، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها .

    قوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وفيه قولان .

    أحدهما: أنها قول جبريل إنما أنا رسول ربك [مريم: 19] .

    والثاني: أن الكلمات هي التي تضمنتها كتب الله المنزلة . وقرأ أبي ابن كعب ، وأبو مجلز، وعاصم الجحدري "بكلمة ربها" على التوحيد "وكتبه" قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم "وكتابه" على التوحيد، وقرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم، وخارجة عن نافع "وكتبه" [ ص: 317 ] جماعة، وهي التي أنزلت على الأنبياء، ومن قرأ "وكتابه" فهو اسم جنس على ما بينا في خاتمة [البقرة: 285] وقد بينا فيها القنوت مشروحا [البقرة: 116] .

    ومعنى الآية: وكانت من القانتين، ولذلك لم يقل: من القانتات .

    سُورَةُ الْمُلْكِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ ص: 319 ] قوله تعالى: تبارك قد شرحناه في [الأعراف: 54] .

    قوله تعالى: الذي بيده الملك قال ابن عباس: يعني: السلطان يعز ويذل .

    قوله تعالى: الذي خلق الموت والحياة قال الحسن: خلق الموت المزيل للحياة، والحياة التي هي ضد الموت ليبلوكم أيكم أحسن عملا قد شرحناه في [هود: 7] قال الزجاج: والمعلق بـ "أيكم" مضمر تقديره: ليبلوكم، فيعلم أيكم أحسن عملا، وهذا علم وقوع . وارتفعت "أي" بالابتداء، ولا يعمل فيها ما قبلها، لأنها على أصل الاستفهام، ومثله "أي الحزبين أحصى" [الكهف: 12] . والمعنى: خلق الحياة ليختبركم فيها، وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم . وقال غيره: اللام في "ليبلوكم" متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء بالحياة، الذي خلق سبع سماوات طباقا أي: خلقهن مطابقات، أي: بعضها فوق بعض "ما ترى" يا ابن آدم "في خلق الرحمن من تفاوت" قرأ حمزة والكسائي: "من تفوت" بتشديد الواو من غير ألف . وقرأ الباقون بألف . قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة، كما تقول: تعاهدت الشيء، وتعهدته . والتفاوت: الاختلاف . وقال ابن قتيبة: التفاوت: الاضطراب والاختلاف، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئا، فيقع الخلل، ولكنه متصل بعضه ببعض .

    قوله تعالى: فارجع البصر أي: كرر البصر هل ترى من فطور [ ص: 320 ] وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي "هل ترى" بإدغام اللام في التاء، أي: هل ترى فيها فروجا وصدوعا .

    قوله تعالى: ثم ارجع البصر كرتين أي: مرة بعد مرة "ينقلب إليك البصر خاسئا" قال ابن قتيبة: أي: مبعدا من قولك: خسأت الكلب: إذا باعدته "وهو حسير" أي: كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه . وقال الزجاج: قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا .

    قوله تعالى: ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وقد شرحناه في [حم السجدة: 12] وجعلناها رجوما للشياطين أي: يرجم بها مسترقو السمع . وقد سبق بيان هذا المعنى [الحجر: 18] "وأعتدنا لهم" أي: في الآخرة "عذاب السعير" وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: سمعوا لها شهيقا أي: صوتا مثل صوت الحمار . وقد بينا معنى الشهيق في [هود: 106] "وهي تفور" أي: تغلي بهم كغلي المرجل "تكاد تميز" أي: تتقطع من تغيظها عليهم "كلما ألقي فيها فوج" أي: جماعة منهم سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟! وهذا سؤال توبيخ .

    قوله تعالى: إن أنتم أي: قلنا للرسل: "إن أنتم إلا في ضلال" أي: في ذهاب عن الحق بعيد . قال الزجاج: ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا: "لو كنا نسمع" أي: سماع من يعي ويفكر "أو نعقل" عقل من يميز وينظر "ما كنا" من أهل النار "فسحقا" أي: بعدا . وهو منصوب على المصدر، المعنى: أسحقهم الله سحقا، أي: باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق: البعيد . وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس "فسحقا" أي: بعدا وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح: السحق: واد في جهنم يقال له: سحق .

    [ ص: 321 ] إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور

    قوله تعالى: إن الذين يخشون ربهم بالغيب قد شرحناه في سورة [الأنبياء: 49] "لهم مغفرة" لذنوبهم "وأجر كبير" وهو: الجنة . ثم عاد إلى خطاب الكفار، فقال تعالى: وأسروا قولكم أو اجهروا به قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبرائيل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد .

    قوله تعالى: ألا يعلم من خلق؟! أي: ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! واللطيف مشروح في [الأنعام: 103] والخبير في [البقرة: 234] .

    قوله تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا أي: مذللة سهلة لم يجعلها ممتنعة بالحزونة والغلظ .

    قوله تعالى: فامشوا في مناكبها فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: طرقاتها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد .

    والثاني: جبالها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، قال: لأن المعنى: سهل لكم السلوك فيها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ في التذليل .

    [ ص: 322 ] والثالث: في جوانبها، قاله مقاتل، والفراء، وأبو عبيدة، واختاره ابن قتيبة، قال: ومنكبا الرجل: جانباه .

    قوله تعالى: وإليه النشور أي: إليه تبعثون من قبوركم .

    أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير

    ثم خوف الكفار فقال: "أأمنتم" قرأ ابن كثير: "وإليه النشور وأمنتم" وقرأ نافع، وأبو عمرو: "النشورآمنتم" بهمزة ممدودة . وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: "أأمنتم" بهمزتين "من في السماء" قال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء، وهو الله عز وجل؟! "وتمور" بمعنى: تدور . قال مقاتل: والمعنى: تدور بكم إلى الأرض السفلى .

    قوله تعالى: أن يرسل عليكم حاصبا وهي: الحجارة، كما أرسل على قوم لوط "فستعلمون كيف نذير" أي: كيف كانت عاقبة إنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب "ولقد كذب الذين من قبلهم" يعني: كفار الأمم "فكيف كان نكير" أي: إنكاري عليهم بالعذاب .

    "أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات" أي: تصف أجنحتها في الهواء، وتقبض أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط "ما يمسكهن" أن يقعن "إلا الرحمن" .

    [ ص: 323 ] أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون

    قوله تعالى: أمن هذا الذي هو جند لكم هذا استفهام إنكار . ولفظ "الجند" موحد، فلذلك قال تعالى: " هذا الذي هو " والمعنى: لا جند لكم "ينصركم" أي: يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم "إن الكافرون إلا في غرور" وذلك أن الشيطان يغرهم، فيقول: إن العذاب لا ينزل بكم أمن هذا الذي يرزقكم المطر وغيره "إن أمسك" الله ذلك عنكم "بل لجوا في عتو" أي: تماد في كفر "ونفور" عن الإيمان .

    ثم ضرب مثلا، فقال تعالى: أفمن يمشي مكبا على وجهه قال ابن قتيبة: أي: لا يبصر يمينا، ولا شمالا، ولا من بين يديه . يقال: أكب فلان على وجهه بالألف، وكبه الله لوجهه، وأراد: الأعمى . قال المفسرون: هذا مثل للمؤمن، والكافر . و"السوي" المعتدل، أي: الذي يبصر الطريق . وقال قتادة: هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبا على وجهه، والمؤمن يمشي سويا .

    قوله تعالى: قليلا ما تشكرون فيه قولان .

    [ ص: 324 ] أحدهما: أنهم لا يشكرون، قاله مقاتل . والثاني: يشكرون قليلا، قاله أبو عبيد .

    قوله تعالى ذرأكم أي: خلقكم "ويقولون متى هذا الوعد" يعنون بالوعد: العذاب "فلما رأوه زلفة" أي: رأوا العذاب قريبا منهم "سيئت وجوه الذين كفروا" قال الزجاج: أي: تبين فيها السوء . وقال غيره: قبحت بالسواد "وقيل هذا الذي كنتم به تدعون" فيه قولان .

    أحدهما: أن "تدعون" بالتشديد، بمعنى تدعون بالتخفيف، وهو "تفتعلون" من الدعاء . يقال: دعوت، وادعيت، كما يقال: خبرت واختبرت، ومثله: يدكرون، ويدكرون هذا قول الفراء، وابن قتيبة .

    والثاني: أن المعنى: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، تدعون أنكم إذا متم لا تبعثون؟! وهذا اختيار الزجاج . وقرأ أبو رزين ، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وابن أبي عبلة، ويعقوب: "تدعون" بتخفيف الدال، وسكونها، بمعنى تفعلون من الدعاء . وقال قتادة: كانوا يدعون بالعذاب .





  4. #524
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْقَلَمِ
    الحلقة (524)
    صــ 325 إلى صــ 339




    قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين

    قوله تعالى: قل أرأيتم إن أهلكني الله بعذابه "ومن معي" من المؤمنين . قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم: "معي" بفتح الياء . وقرأ أبو بكر عن عاصم، والكسائي: "معي" بالإسكان "أو رحمنا" فلم يعذبنا "فمن يجير الكافرين" أي: يمنعهم ويؤمنهم "من [ ص: 325 ] عذاب أليم" ومعنى الآية: إنا مع إيماننا، بين الخوف والرجاء: فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟! أي: لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين "قل هو الرحمن" الذي نعبد "فستعلمون" وقرأ الكسائي: "فسيعلمون" بالياء عند معاينة العذاب من الضال نحن أم أنتم .

    قوله تعالى: إن أصبح ماؤكم غورا قد بيناه في [الكهف: 41] "فمن يأتيكم بماء معين" أي: بماء ظاهر تراه العيون، وتناله الأرشية .

    سُورَةُ الْقَلَمِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

    قوله تعالى: "ن" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وحفص: "ن والقلم" النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو، وهذا اختيار الفراء . وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يبين النون من "نون" . وبها قرأ الكسائي، وخلف، ويعقوب، وهو اختيار الزجاج . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والأعمش: "نون والقلم" بكسر النون . وقرأ الحسن، وأبو عمران، وأبو نهيك: "ن والقلم" برفع النون .

    وفي معنى نون سبعة أقوال .

    أحدها: أنها الدواة . روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ ص: 327 ] "أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون، وهي الدواة" وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير، وبه قال الحسن وقتادة .

    والثاني: أنه آخر حروف الرحمن، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والثالث: أنه الحوت الذي على ظهر الأرض، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، وهو مذهب مجاهد، والسدي، وابن السائب، ومقاتل .

    والرابع: أنه لوح من نور، قاله معاوية بن قرة .

    والخامس: أنه افتتاح اسمه "نصير"، و"ناصر"، قاله عطاء .

    والسادس: أنه قسم بنصرة الله للمؤمنين، قاله القرظي .

    والسابع: أنه نهر في الجنة، قاله جعفر الصادق .

    [ ص: 328 ] وفي "القلم" قولان .

    أحدهما: أنه الذي كتب به في اللوح المحفوظ .

    والثاني: أنه الذي يكتب به الناس . وإنما أقسم به، لأن كتبه إنما تكتب() و"يسطرون" بمعنى: يكتبون . وفي المشار إليهم قولان .

    أحدهما: أنهم الملائكة . وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان . أحدهما: أنه الذكر، قاله مجاهد، والسدي . والثاني: أعمال بني آدم، قاله مقاتل .

    والقول الثاني: أنهم جميع الكتبة، حكاه الثعلبي "ما أنت بنعمة ربك بمجنون" أي: ما أنت بإنعام ربك عليك بالإيمان والنبوة بمجنون . قال الزجاج: هذا جواب قولهم: إنك لمجنون . وتأويله: فارقك الجنون بنعمة الله .

    قوله تعالى: وإن لك بصبرك على افترائهم عليك، ونسبتهم إياك إلى الجنون "لأجرا غير ممنون" أي: غير مقطوع ولا منقوص، "وإنك لعلى خلق عظيم" فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: دين الإسلام، قاله ابن عباس .

    والثاني: أدب القرآن، قاله الحسن .

    والثالث: الطبع الكريم . وحقيقة "الخلق" ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، فسمي خلقا، لأنه يصير كالخلقة في صاحبه . فأما ما طبع عليه فيسمى: "الخيم" فيكون الخيم: الطبع الغريزي، والخلق: الطبع المتكلف . هذا قول الماوردي . وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 329 ] فقالت: كان خلقه القرآن . تعني: كان على ما أمره الله به في القرآن .

    قوله تعالى: فستبصر ويبصرون يعني: أهل مكة . وهذا وعيد لهم بالعذاب . والمعنى: سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب ببدر "بأيكم المفتون" وفيه أربعة أقوال .

    أحدها: الضال، قاله الحسن . والثاني: الشيطان، قاله مجاهد . والثالث: المجنون، قاله الضحاك . والمعنى: الذي قد فتن بالجنون . والرابع: المعذب، حكاه الماوردي .

    وفي الباء قولان .

    أحدهما: أنها زائدة، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة . وأنشدوا:


    نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج


    [ ص: 330 ] والثاني: أنها أصلية، وهذا قول الفراء، والزجاج . قال الزجاج: ليس كونها لغوا بجائز في العربية في قول أحد من أهلها .

    وفي الكلام قولان للنحويين .

    أحدهما: أن المفتون ها هنا: الفتون . والمصادر تجيء على المفعول . تقول العرب ليس: هذا معقود رأي، أي: عقد رأي، وتقول: دعه إلى ميسوره، أي: يسره . والمعنى: بأيكم الجنون .

    والثاني: بأيكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها، أم بفرقة الكفار؟ فيكون المعنى: في أي الفرقتين المجنون . وقد ذكر الفراء نحو ما شرحه الزجاج . وقد قرأ أبي بن كعب ، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: "في أي المفتون" . ثم أخبر أنه عالم بالفريقين بما بعد هذا .

    فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم

    قوله تعالى: فلا تطع المكذبين وذلك أن رؤساء أهل مكة دعوه إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطيعهم "ودوا لو تدهن فيدهنون" فيه سبعة أقوال .

    أحدها: لو ترخص فيرخصون، قاله ابن عباس .

    والثاني: لو تصانعهم في دينك فيصانعون في دينهم، قاله الحسن .

    [ ص: 331 ] والثالث: لو تكفر فيكفرون، قاله عطية، والضحاك، ومقاتل .

    والرابع: لو تلين فيلينون لك، قاله ابن السائب .

    والخامس، لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون، قاله زيد بن أسلم .

    والسادس: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم . وكانوا أرادوه على أن يعبد آلهتهم مدة، ويعبدوا الله مدة، قاله ابن قتيبة . وقال أبو عبيدة: هو من المداهنة .

    والسابع: لو تقاربهم فيقاربونك، قاله ابن كيسان .

    قوله تعالى: ولا تطع كل حلاف وهو كثير الحلف بالباطل "مهين" وهو الحقير . الدنيء وروى العوفي عن ابن عباس قال: المهين: الكذاب .

    واختلفوا فيمن نزل هذا على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الوليد بن المغيرة، قاله ابن عباس، ومقاتل . والثاني: الأخنس بن شريق، قاله عطاء، والسدي . والثالث: الأسود بن عبد يغوث، قاله مجاهد . [ ص: 332 ] قوله تعالى: هماز قال ابن عباس: هو المغتاب . وقال ابن قتيبة: هو العياب .

    قوله تعالى: مشاء بنميم أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقل الكلام السيئ من بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم "مناع للخير" فيه قولان .

    أحدهما: أنه منع ولده وعشيرته الإسلام، قاله ابن عباس .

    والثاني: مناع للحقوق في ماله، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: معتد أي: ظلوم "أثيم" "فاجر" "عتل بعد ذلك" أي: مع ما وصفناه به . وفي "العتل" سبعة أقوال .

    أحدها: أنه العاتي الشديد المنافق، قاله ابن عباس . والثاني: أنه المتوفر الجسم، قاله الحسن . والثالث: الشديد الأشر، قاله مجاهد . والرابع: القوي في كفره، قاله عكرمة . والخامس: الأكول الشروب القوي الشديد، قاله عبيد بن عمير . والسادس: الشديد الخصومة بالباطل، قاله الفراء . والسابع: أنه الغليظ الجافي، قاله ابن قتيبة .

    [ ص: 333 ] وفي "الزنيم" أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الدعي في قريش وليس منهم، رواه عطاء عن ابن عباس، وهذا معروف في اللغة أن الزنيم: هو الملتصق في القوم وليس منهم، وبه قال الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . قال حسان:


    وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد


    والثاني: أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس .

    والثالث: أنه الذي له زنمة مثل زنمة الشاة . وقال ابن عباس: نعت فلم يعرف حتى قيل: زنيم، فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها . ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه من ذكر عيوب الوليد، لأنه وصفه بالحلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنميمة، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدعوة، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة . والزنمتان: المعلقتان عند حلوق المعزى . وقال ابن فارس: يعني التي تتعلق من أذنها .

    والرابع: أنه الظلوم، رواه الوالبي عن ابن عباس .

    قوله تعالى: أن كان ذا مال وبنين قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم: "أن كان" على الخبر، أي: لأن كان . والمعنى: لا تطعه لماله وبنيه . وقرأ ابن عباس بهمزتين، الأولى: مخففة . والثانية: ملينة، وفصل بينهما بألف أبو جعفر . وقرأ حمزة: "أأن كان" بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وله وجهان .

    [ ص: 334 ] أحدهما: لأن كان ذا مال تطيعه؟!

    والثاني: ألأن كان ذا مال وبنين؟! "إذا تتلى عليه آياتنا" يكفر بها؟ فيقول: "أساطير الأولين" ذكر القولين الفراء . وقرأ ابن مسعود: "أن كان" بهمزة واحدة مقصورة . ثم أوعده فقال تعالى: سنسمه على الخرطوم الخرطوم: الأنف . وفي هذه السمة ثلاثة أقوال .

    أحدها: سنسمه بالسيف، فنجعل ذلك علامة على أنفه ما عاش، فقاتل يوم بدر فخطم بالسيف، قاله ابن عباس .

    والثاني: سنلحق به شيئا لا يفارقه، قاله قتادة، واختاره ابن قتيبة .

    والثالث: أن المعنى: سنسود وجهه . قال الفراء: و"الخرطوم" وإن كان قد خص بالسمة، فإنه في مذهب الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن البعض . وقال الزجاج: سنجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم . وجائز - والله أعلم - أن يفرد بسمة لمبالغته في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين بها عن غيره .

    إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين . أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون . أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا إنا لضالون . بل نحن محرومون . قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون . قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون . قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . [ ص: 335 ] إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين . ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون . إن لكم فيه لما تخيرون . أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون . سلهم أيهم بذلك زعيم . أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين .

    قوله تعالى: إنا بلوناهم يعني: أهل مكة، أي: ابتليناهم بالجوع، والقحط كما بلونا أصحاب الجنة حين هلكت جنتهم .

    وهذه الإشارة إلى قصتهم

    ذكر أهل التفسير أن رجلا كان بناحية اليمن له بستان، وكان مؤمنا . وذلك بعد عيسى بن مريم عليهما السلام، وكان يأخذ منه قدر قوته، وكان يتصدق بالباقي . وقيل: كان يترك للمساكين ما تعداه المنجل، وما يسقط من رؤوس النخل، وما ينتثر عند الدراس، فكان يجتمع من هذا شيء كثير، فمات الرجل عن ثلاث بنين، فقالوا: والله إن المال لقليل، وإن العيال لكثير، وإنما كان أبونا يفعل هذا إذ كان المال كثيرا، والعيال قليلا، وأما الآن فلا نستطيع أن نفعل هذا . فعزموا على حرمان المساكين، وتحالفوا بينهم ليغدن قبل خروج الناس، فليصرمن نخلهم، فذلك قوله تعالى: إذ أقسموا أي: حلفوا "ليصرمنها" أي: ليقطعن نخلهم مصبحين أي: في أول الصباح . وقد بقيت من الليل ظلمة لئلا يبقى للمساكين شيء .

    وفي قوله تعالى: ولا يستثنون قولان .

    أحدهما: لا يقولون: إن شاء الله، قاله الأكثرون .

    [ ص: 336 ] والثاني: لا يستثنون حق المساكين، قاله عكرمة "فطاف عليها طائف من ربك" أي: من أمر ربك . قال الفراء: الطائف لا يكون إلا بالليل . قال المفسرون: بعث الله عليها نارا بالليل، فاحترقت، فصارت سوداء، فذلك قوله تعالى: فأصبحت كالصريم وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: كالرماد الأسود، قاله ابن عباس .

    والثاني: كالليل المسود، قاله الفراء . وكذلك قال ابن قتيبة: أصبحت سوداء كالليل محترقة . والليل: هو الصريم، والصبح أيضا: صريم، لأن كل واحد منهما ينصرم عن صاحبه .

    والثالث: أصبحت وقد ذهب ما فيها من الثمر، فكأنه قد صرم، أي: قطع، وجذ حكاه ابن قتيبة أيضا .

    قوله تعالى: فتنادوا مصبحين أي: نادى بعضهم بعضا لما أصبحوا "أن اغدوا على حرثكم" يعني: الثمار والزروع والأعناب "إن كنتم صارمين" أي: قاطعين للنخل، "فانطلقوا" أي: ذهبوا إلى جنتهم "وهم يتخافتون" قال ابن قتيبة: يتساررون بـ "أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد" فيه ثمانية أقوال .

    أحدهما: على قدرة، قاله ابن عباس .

    والثاني: على فاقة، قاله الحسن في رواية .

    والثالث: على جد، قاله الحسن في رواية، وقتادة، وأبو العالية، والفراء، ومقاتل .

    والرابع: على أمر مجمع قد أسسوه بينهم، قاله مجاهد، وعكرمة .

    والخامس: أن الحرد: اسم الجنة، قاله السدي .

    [ ص: 337 ] والسادس: أنه الحنق والغضب على المساكين، قاله الشعبي، وسفيان . وأنشد أبو عبيدة:


    أسود شرى لاقت أسود خفية تساقوا على حرد دماء الأساود


    والسابع: أنه المنع مأخوذ من حاردت السنة فليس فيها مطر، وحاردت الناقة فليس لها لبن، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة:

    والثامن: أنه القصد . يقال: حردت حردك، أي: قصدت قصدك، حكاه الفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . وأنشدوا:


    قد جاء سيل كان من أمر الله يحرد حرد الجنة المغله


    أي: يقصد قصدها . قال ابن قتيبة: وفيها لغتان: حرد، وحرد، كما يقال: الدرك، والدرك، [ ص: 338 ] وفي قوله تعالى: قادرين ثلاثة أقوال .

    أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة .

    والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي . والثالث: أن المعنى: منعوا وهم قادرون، أي: واجدون، قاله ابن قتيبة . قالوا: "فلما رأوها" محترقة "قالوا إنا لضالون" أي: قد ضللنا طريق جنتنا، فليست هذه . ثم علموا أنها عقوبة، فقالوا: "بل نحن محرومون" أي: حرمنا ثمر جنتنا بمنعنا المسكين "قال أوسطهم" أي: أعدلهم، وأفضلهم "لولا" أي: هلا "تسبحون" وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: هلا تستثنون عند قولكم: "ليصرمنها مصبحين" قاله ابن جريج والجمهور . والمعنى: هلا قلتم: إن شاء الله . قال الزجاج: وإنما قيل للاستثناء: تسبيح، لأن التسبيح في اللغة: تنزيه الله عز وجل عن السوء . والاستثناء تعظيم لله، وإقرار بأنه لا يقدر أحد أن يفعل فعلا إلا بمشيئة الله .

    والثاني: أنه كان استثناؤهم قول: "سبحان الله "قاله أبو صالح .

    والثالث: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم، حكاه الثعلبي .

    وقوله تعالى: قالوا سبحان ربنا فنزهوه أن يكون ظالما فيما صنع، وأقروا على أنفسهم بالظلم فقالوا: "إنا كنا ظالمين" بمنعنا المساكين "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" أي: يلوم بعضهم بعضا في منع المساكين حقوقهم . يقول هذا [ ص: 339 ] لهذا: أنت أشرت علينا، ويقول الآخر: أنت فعلت، ثم نادوا على أنفسهم بالويل، فقالوا: "يا ويلنا إنا كنا طاغين" حين لم نصنع ما صنع آباؤنا، ثم رجعوا إلى الله تعالى فسألوه أن يبدلهم خيرا منها، فذلك قوله: عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها . وقرأ قوم: "يبدلنا" بالتخفيف، وهما لغتان . وفرق قوم بينهما، فقالوا: التبديل: تغيير حال الشيء وصفته والعين باقية . والإبدال: إزالة الشيء ووضع غيره مكانه . ونقل أن القوم أخلصوا، فبدلهم الله جنة العنقود منها وقر بغل .

    قوله تعالى: كذلك العذاب ما فعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا . وها هنا انتهت قصة أهل الجنة . ثم قال تعالى: ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني: المشركين . ثم ذكر ما للمتقين عنده بما بعد هذا فقال المشركون: إنا لنعطى في الآخرة أفضل مما تعطون، فقال تعالى مكذبا لهم أفنجعل المسلمين كالمجرمين قال الزجاج: هذه ألف الاستفهام مجازها ها هنا مجاز التوبيخ، والتقرير .

    قوله تعالى: كيف تحكمون أي: كيف تقضون بالجور أم لكم كتاب أنزل من عند الله "فيه" هذا تدرسون أي: تقرؤون ما فيه "إن لكم" في ذلك الكتاب "لما تخيرون" أي: ما تختارون وتشتهون . وقرأ أبو الجوزاء، وعاصم الجحدري، وأبو عمران: أن لكم بفتح الهمزة . وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ما يتمنون من الباطل "سلهم أيهم بذلك زعيم" "أم لكم أيمان علينا بالغة" أي: ألكم عهود على الله تعالى حلف لكم على ما تدعون بأيمان بالغة، أي: مؤكدة . وكل شيء متناه في الجودة والصحة فهو بالغ . ويجوز أن يكون المعنى: بالغة إلى يوم القيامة، أي: تبلغ تلك الأيمان إلى يوم القيامة في لزومها وتوكيدها "إن لكم لما تحكمون" لأنفسكم به من الخير والكرامة عند [ ص: 340 ] الله تعالى . قال الفراء: والقراء على رفع بالغة إلا الحسن فإنه نصبها على مذهب المصدر، كقوله تعالى: حقا [الروم: 47] . ومعنى الآية: هل لكم أيمان علينا بالغة بأن لكم ما تحكمون؟! . فلما كانت اللام في جواب "إن" كسرتها .





  5. #525
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْحَاقَّةِ
    الحلقة (525)
    صــ 340 إلى صــ 354




    قوله تعالى: سلهم أيهم بذلك زعيم فيه قولان .

    أحدهما: أنه الكفيل، قاله ابن عباس، وقتادة . والمعنى: أيهم كفل بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير .

    والثاني: أنه الرسول، قاله الحسن .

    قوله تعالى: أم لهم شركاء يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله تعالى، والمعنى: ألهم أرباب يفعلون بهم هذا الذي زعموا . وقيل: يشهدون لهم بصدق ما ادعوا "فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين" في أنها شركاء الله . وإنما أضيف الشركاء إليهم لادعائهم أنهم شركاء الله .

    يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون

    "يوم يكشف" المعنى: فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق . قرأ الجمهور: "يكشف" بضم الياء، وفتح الشين . وقرأ ابن أبي عبلة، وعاصم الجحدري، وأبو الجوزاء، بفتح الياء، وبكسر الشين . وقرأ أبي بن كعب ، وابن عباس: "تكشف" بتاء مفتوحة، وكسر الشين . وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وابن يعمر، والضحاك: "نكشف" بنون [ ص: 341 ] مفتوحة مع كسر الشين . وهذا اليوم هو يوم القيامة . وقد روى عكرمة عن ابن عباس: "يوم يكشف عن ساق" قال: يكشف عن شدة، وأنشد:


    وقامت الحرب بنا على ساق


    وهذا قول مجاهد، وقتادة .

    قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، واللغويين . وقد أضيف هذا الأمر إلى الله تعالى . فروي في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "يكشف عن ساقه"، وهذا إضافة إليه، لأن الكل له وفعله . وقال أبو عمر الزاهد: يراد بها النفس، ومنه قول علي رضي الله عنه: أقاتلهم ولو تلفت ساقي، أي: نفسي . فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم .

    قوله تعالى: ويدعون إلى السجود يعني: المنافقين "فلا يستطيعون" كأن في ظهورهم سفافيد الحديد . قال النقاش: وليس ذلك بتكليف لهم أن [ ص: 342 ] يسجدوا، وهم عجزة، ولكنه توبيخ لهم بتركهم السجود "خاشعة أبصارهم" أي: خاضعة "ترهقهم ذلة" أي: تغشاهم وقد كانوا يدعون إلى السجود يعني: بالأذان في دار الدنيا، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة "وهم سالمون" أي: معافون ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد . وفي هذا وعيد لمن ترك صلاة الجماعة . وكان كعب يقول: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث" يعني: القرآن . والمعنى: خل بيني وبينه . قال الزجاج: أي: لا تشغل قلبك به، كله إلي فأنا أكفيك أمره . وذكر بعض المفسرين أن هذا القدر من الآية إلى قوله: "الحديث" منسوخ بآية السيف . وما بعد هذا مفسر في [الأعراف: 182 . 183] إلى قوله تعالى: أم تسألهم أجرا فإنها مفسرة والتي قبلها في [الطور: 40،39] .

    فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين

    قوله تعالى: فاصبر لحكم ربك أي: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت . وقيل: معنى الأمر بالصبر منسوخ بآية السيف .

    قوله تعالى: ولا تكن كصاحب الحوت وهو يونس . وفيماذا نهي أن يكون مثله قولان .

    أحدهما: أنه العجلة، والغضب، قاله قتادة .

    والثاني: الضعف عن تبليغ الرسالة، قاله ابن جرير .

    قال ابن الأنباري: وهذا لا يخرج يونس من أولي العزم، لأنها خطيئة . [ ص: 343 ] ولو قلنا: إن كل مخطئ من الأنبياء ليس من أولي العزم، خرجوا كلهم إلا يحيى . ثم أخبر عن عقوبته إذ لم يصبر، فقال تعالى: إذ نادى وهو مكظوم قال الزجاج: مملوء غما وكربا .

    قوله تعالى: لولا أن تداركه وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن أبي عبلة: "لولا أن تداركته" بتاء خفيفة، وبتاء ساكنة بعد الكاف مع تخفيف الدال . وقرأ أبو هريرة، وأبو المتوكل : "تداركه" بتاء واحدة خفيفة مع تشديد الدال . وقرأ أبي بن كعب "تتداركه" بتاءين خفيفتين "نعمة من ربه" فرحمه بها، وتاب عليه من معاصيه "لنبذ بالعراء وهو مذموم" وقد بينا معنى " العراء " في [الصافات: 145] . ومعنى الآية: أنه نبذ غير مذموم لنعمة الله عليه بالتوبة والرحمة . وقال ابن جريج: ( نبذ بالعراء ) وهي: أرض المحشر، فالمعنى: أنه كان يبقى مكانه إلى يوم القيامة فاجتباه ربه أي: استخلصه واصطفاه، وخلصه من الذم "فجعله من الصالحين" فرد عليه الوحي، وشفعه في قومه ونفسه "وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم" قرأ الأكثرون بضم الياء من أزلقته، وقرأ أهل المدينة، وأبان بفتحها من زلقته أزلقه، وهما لغتان مشهورتان في العرب . قال الزجاج: يقال: زلق الرجل رأسه وأزلقه: إذا حلقه . وفي معنى الآية للمفسرين قولان .

    أحدهما: أن الكفار قصدوا أن يصيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين، وكان فيهم رجل يمكث اليومين والثلاثة لا يأكل شيئا، ثم يرفع جانب خبائه، فتمر به النعم، فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها عدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين، فعصم الله نبيه، وأنزل هذه الآية، هذا قول الكلبي، وتابعه قوم من المفسرين [ ص: 344 ] تلقفوا ذلك من تفسيره، منهم الفراء .

    والثاني: أنهم كانوا ينظرون إليه بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقه من شدته، أي: يلقيه إلى الأرض . وهذا مستعمل في كلام العرب . يقول القائل: نظر إلي فلان نظرا كاد يصرعني . وأنشدوا:


    يتقارضون إذا التقوا في موطن نظرا يزيل مواطن الأقدام


    أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالعداوة يكاد يزيل الأقدام، وإلى هذا ذهب المحققون، منهم ابن قتيبة، والزجاج . ويدل على صحته أن الله تعالى قرن هذا النظر بسماع القرآن، وهو قوله تعالى: لما سمعوا الذكر والقوم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة، فيحدون النظر إليه بالبغضاء . وإصابة العين، إنما تكون مع الإعجاب والاستحسان، لا مع البغض، فلا يظن بالكلبي أنه فهم معنى الآية . "وما هو" يعني: القرآن "إلا ذكر" أي: موعظة .

    سُورَةُ الْحَاقَّةِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية

    "الحاقة": القيامة . قال الفراء: إنما قيل لها: حاقة، لأن فيها حواق الأمور . وقال الزجاج: إنما سميت الحاقة، لأنها تحق كل إنسان بعمله من خير وشر .

    قوله تعالى: ما الحاقة هذا استفهام، معناه التفخيم لشأنها، كما تقول: زيد، وما زيد؟ على التعظيم لشأنه . ثم زاد في التهويل بأمرها، فقال تعالى: وما أدراك ما الحاقة أي: لأنك لم تعاينها، ولم تدر ما فيها من الأهوال .

    ثم أخبر عن المكذبين بها، فقال تعالى: كذبت ثمود وعاد بالقارعة قال ابن عباس: القارعة: اسم من أسماء يوم القيامة . قال مقاتل: وإنما سميت [ ص: 346 ] بالقارعة، لأن الله تعالى يقرع أعداءه بالعذاب . وقال ابن قتيبة: القارعة: القيامة لأنها تقرع، يقال: أصابتهم قوارع الدهر . وقال الزجاج: لأنها تقرع بالأهوال . وقال غيرهم: لأنها تقرع القلوب بالفزع . فأما "الطاغية" ففيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها طغيانهم وكفرهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة . قال الزجاج : ومعنى الطاغية عند أهل اللغة: طغيانهم . و"فاعلة" قد يأتي بمعنى المصادر، نحو عاقبة، وعافية .

    والثاني: بالصيحة الطاغية، قاله قتادة . وذلك أنها جاوزت مقدار الصياح فأهلكتهم .

    والثالث: أن الطاغية: عاقر الناقة، قاله ابن زيد . والريح الصرصر قد فسرناها في [حم السجدة: 16] . والعاتية: التي جاوزت المقدار . وجاء في التفسير أنها عتت على خزانها يومئذ، فلم يكن لهم عليها سبيل .

    قوله تعالى: سخرها عليهم أرسلها وسلطها . والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار . وفي قوله تعالى: حسوما ثلاثة أقوال .

    أحدها: تباعا قاله ابن عباس . قال الفراء: الحسوم: التباع، يقال في الشيء إذا تتابع، فلم ينقطع أوله عن آخره: حسوم . وإنما أخذ - والله أعلم - من حسم الداء: إذا كوي صاحبه، لأنه يحمى ثم يكوى، ثم يتابع الكي عليه .

    والثاني: كاملة، قاله الضحاك . فيكون المعنى: أنها حسمت الليالي والأيام فاستوفتها على الكمال، لأنها ظهرت مع طلوع الشمس، وذهبت مع غروبها . قال مقاتل: هاجت الريح غدوة، وسكنت بالعشي في اليوم الثامن، [ ص: 347 ] وقبضت أرواحهم في ذلك اليوم، ثم بعث الله طيرا أسود فالتقطهم حتى ألقاهم في البحر .

    والثالث: أنها حسمتهم، فلم تبق منهم أحدا، أي: أذهبتهم وأفنتهم، هذا قول ابن زيد .

    قوله تعالى: فترى القوم فيها أي: في تلك الليالي والأيام "صرعى" وهو جمع صريع، لأنهم صرعوا بموتهم كأنهم أعجاز نخل أي: أصول نخل "خاوية" أي: بالية . وقد بينا هذا في سورة [القمر: 20] .

    قوله تعالى: فهل ترى لهم من باقية فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: من بقاء، قاله الفراء .

    والثاني: من بقية، قاله أبو عبيدة . قال: وهو مصدر كالطاغية .

    والثالث: هل ترى لهم من أثر؟ قاله ابن قتيبة "وجاء فرعون ومن قبله" قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي، وأبان : بكسر القاف، وفتح الباء .

    والباقون: بفتح القاف، وإسكان الباء . فمن كسر القاف أراد: من يليه ويحف به من جنوده وأتباعه . ومن فتحها أراد: من كان قبله من الأمم الكافرة . وفي "المؤتفكات" ثلاثة أقوال .

    أحدها: قرى قوم لوط . والمعنى: وأهل المؤتفكات، قاله الأكثرون .

    والثاني: أنهم الذين ائتفكوا بذنوبهم، أي: هلكوا بالذنوب التي معظمها الإفك، وهو الكذب، قاله الزجاج .

    والثالث: أنه قارون وقومه، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: بالخاطئة قال ابن قتيبة: أي: بالذنوب، وقال الزجاج: [ ص: 348 ] الخاطئة: الخطأ العظيم "فعصوا رسول ربهم" أي: كذبوا رسلهم "فأخذهم أخذة رابية" أي: زائدة على الأحداث "إنا لما طغى الماء" أي: تجاوز حده حتى علا على كل شيء في زمن نوح "حملناكم" يعني: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم "في الجارية" وهي: السفينة التي تجري في الماء "لنجعلها" أي: لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح، ونجاة من حملنا معه "تذكرة" أي: عبرة، وموعظة "وتعيها أذن واعية" أي: أذن تحفظ ما سمعت، وتعمل به . وقال الفراء: لتحفظها كل أذن، فتكون عظة لمن يأتي بعده .

    فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون

    قوله تعالى: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وفيها قولان .

    أحدهما: أنها النفخة الأولى، قاله عطاء .

    والثاني: الأخيرة، قاله ابن السائب، ومقاتل . "وحملت الأرض [ ص: 349 ] والجبال" أي: حملت الأرض والجبال وما فيها "فدكتا دكة واحدة" أي: كسرتا، ودقتا دقة واحدة، لا يثنى عليها حتى تستوي بما عليها من شيء، فتصير كالأديم الممدود . وقد أشرنا إلى هذا المعنى في [الأعراف] عند قوله تعالى: جعله دكا [آية: 143] . قال الفراء: وإنما قال: فدكتا، ولم يقل: فدككن، لأنه جعل الجبال كالشيء الواحد، كقوله تعالى: أن السماوات والأرض كانتا رتقا [الأنبياء: 30]، وأنشدوا:


    هما سيدانا يزعمان وإنما يسوداننا أن يسرت غنماهما


    والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت، أو تهيأت للولادة .

    قوله تعالى: فيومئذ وقعت الواقعة أي: قامت القيامة وانشقت السماء لنزول من فيها من الملائكة فهي يومئذ واهية فيه قولان .

    أحدهما: أن وهيها: ضعفها وتمزقها من الخوف، قاله مقاتل .

    والثاني: أنه تشققها، قاله الفراء "والملك" يعني: الملائكة، فهو اسم جنس "على أرجائها" أي: على جوانبها . قال الزجاج: ورجاء كل شيء: ناحيته، مقصور . والتثنية: رجوان، والجمع: أرجاء . وأكثر المفسرين على أن [ ص: 350 ] المشار إليها السماء . قال الضحاك: إذا انشقت السماء كانت الملائكة على حافتها حتى يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض، فيحيطون بها، ومن عليها . وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: على أرجاء الدنيا .

    قوله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: فوق رؤوسهم، أي: العرش على رؤوس الحملة، قاله مقاتل .

    والثاني: فوق الذين على أرجائها، أي: أن حملة العرش فوق الملائكة الذين هم على أرجائها .

    والثالث: أنهم فوق أهل القيامة، حكاهما الماوردي "يومئذ" أي: يوم القيامة "ثمانية" فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ثمانية أملاك . وجاء في الحديث أنهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة أملاك آخرين، هذا قول الجمهور .

    والثاني: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل، قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة .

    [ ص: 351 ] والثالث: ثمانية أجزاء من الكروبيين لا يعلم عددهم إلا الله، قاله مقاتل . وقد روى أبو داود في "سننه" من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" .

    قوله تعالى: يومئذ تعرضون على الله لحسابكم (لا تخفى) عليه . قرأ حمزة، والكسائي: "لا يخفى" بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . والمعنى: لا يخفى عليه (منكم خافية) أي: نفس خافية، أو فعلة خافية . وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال، ومعاذير وأما الثالثة، فعندها تتطاير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه، وآخذ بشماله، وكان عمر بن الخطاب يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ لا تخفى منكم خافية .

    (فيقول هاؤم) قال الزجاج: "هاؤم" أمر من الجماعة . بمنزلة هاكم . تقول للواحد: ها يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان . وللثلاثة: هاؤم يا رجال .

    [ ص: 352 ] قال المفسرون: إنما يقول هذا ثقة بسلامته وسرورا بنجاته . وذكر مقاتل أنها نزلت في أبي سلمة بن عبد الأسد .

    قوله تعالى: إني ظننت أي: علمت وأيقنت في الدنيا "أني ملاق حسابيه" أي: أبعث، وأحاسب في الآخرة (فهو في عيشة) أي: حالة من العيش "راضية" قال الفراء: أي: فيها الرضى .

    وقال الزجاج: أي: ذات رضى يرضاها من يعيش فيها . وقال أبو عبيدة: مجازها مجاز مرضية "في جنة عالية" أي: عالية المنازل "قطوفها" أي: ثمارها "دانية" أي: قريبة ممن يتناولها، وهي جمع قطف . والقطف: ما يقطف من الثمار . قال البراء بن عازب: يتناول الثمرة وهو نائم .

    قوله تعالى: كلوا أي: يقال لهم: كلوا "واشربوا هنيئا بما أسلفتم" أي: قدمتم من الأعمال الصالحة في "الأيام الخالية" الماضية، وهي أيام الدنيا . (وأما من أوتي كتابه بشماله) قال مقاتل: نزلت في الأسود بن عبد الأسود، قتله حمزة ببدر، وهو أخو أبي سلمة . وقيل: نزلت في أبي جهل .

    قوله تعالى يا ليتني لم أوت كتابيه وذلك لما يرى فيه من القبائح (ولم أدر ما حسابيه) لأنه لا حاصل له في ذلك الحساب، إنما كله عليه . وكان ابن مسعود، وقتادة، ويعقوب، يحذفون الهاء من "كتابيه" و"حسابيه" في الوصل . قال الزجاج: والوجه أن يوقف على هذه الهاآت، ولا توصل، لأنها أدخلت للوقف . وقد حذفها قوم في الوصل، ولا أحب مخالفة المصحف، وكذلك قوله تعالى: وما أدراك ما هيه [القارعة: 10] .

    قوله تعالى: يا ليتها يعني: الموتة التي ماتها في الدنيا (كانت القاضية) [ ص: 353 ] أي: القاطعة للحياة، فكأنه تمنى دوام الموت، وأنه لم يبعث للحساب (هلك عني سلطانيه) فيه قولان .

    أحدهما: ضلت عني حجتي، قاله مجاهد، وعكرمة، والضحاك، والسدي .

    والثاني: زال عني ملكي، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: خذوه أي: يقول الله تعالى: خذوه فغلوه أي: اجمعوا يده إلى عنقه (ثم الجحيم صلوه) أي: أدخلوه النار . وقال الزجاج: اجعلوه يصلى النار (ثم في سلسلة) وهي حلق منتظمة (ذرعها سبعون ذراعا) قال ابن عباس: بذراع الملك . وقال نوف الشامي: كل ذراع سبعون باعا، الباع أبعد مما بينك وبين مكة، وكان في رحبة الكوفة . وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعا . وقال مقاتل: ذرعها سبعون ذراعا بالذراع الأول . ويقال: إن جميع أهل النار في تلك السلسلة .

    قوله تعالى: فاسلكوه أي: أدخلوه . قال الفراء: وذكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها . والمعنى: ثم اسلكوا فيه السلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسي في القلنسوة، وأدخلتها في رأسي . ويقال: الخاتم لا يدخل في يدي، وإنما اليد تدخل في الخاتم، وإنما استجازوا ذلك، لأن معناه معروف .

    قوله تعالى: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم أي: لا يصدق بوحدانيته وعظمته (ولا يحض على طعام المسكين) أي: لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه [ ص: 354 ] (فليس له اليوم ها هنا حميم) أي: قريب ينفعه، أي: يشفع له (ولا طعام إلا من غسلين) فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه صديد أهل النار، قاله ابن عباس . قال مقاتل: إذا سال القيح، والدم بادروا أكله قبل أن تأكله النار .

    والثاني: شجر يأكله أهل النار، قاله الضحاك، والربيع: .

    والثالث: أنه غسالة أجوافهم، قاله يحيى بن سلام . قال ابن قتيبة: وهو "فعلين" من "غسلت" كأنه غسالة .

    وقوله تعالى: إلا الخاطئون يعني الكافرين .





  6. #526
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    الحلقة (526)
    صــ 355 إلى صــ 369






    فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين

    قوله تعالى: فلا أقسم "لا" رد لكلام المشركين، كأنه قيل: ليس الأمر كما يقول المشركون "أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون" وقال قوم: "لا" زائدة مؤكدة . والمعنى: أقسم بما ترون، وما لا ترون، فأراد جميع الموجودات . وقيل: الأجسام والأرواح "إنه" يعني: القرآن "لقول رسول كريم" فيه قولان .

    أحدهما: محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأكثرون .

    والثاني: جبريل، قاله ابن السائب، ومقاتل . قال ابن قتيبة: لم يرد أنه قول الرسول، وإنما أراد أنه قول الرسول عن الله تعالى، وفي الرسول ما يدل على ذلك، فاكتفى به من أن يقول عن الله "وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون" [ ص: 355 ] وقرأ ابن كثير: "يؤمنون" "ويذكرون" بالياء فيهما . قال الزجاج: "ما" مؤكدة، وهي لغو في باب الإعراب . والمعنى: قليلا تؤمنون . وقال غيره: أراد نفي إيمانهم أصلا . وقد بينا معنى "الكاهن" في [الطور: 29] قال الزجاج: وقوله تعالى: "تنزيل" . مرفوع بـ "هو" مضمرة يدل عليها قوله تعالى: وما هو بقول شاعر هو تنزيل .

    ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم

    قوله تعالى: ولو تقول علينا أي: لو تكلف محمد أن يقول علينا ما لم نقله "لأخذنا منه باليمين" أي: لأخذناه بالقوة والقدرة، قاله الفراء، والمبرد، والزجاج . قال ابن قتيبة: إنما أقام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه .

    قوله تعالى: ثم لقطعنا منه الوتين وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه . قال أبو عبيدة: الوتين: نياط القلب، وأنشد الشماخ:


    إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين


    وقال الزجاج: الوتين: عرق أبيض غليظ كأنه قصبة .

    [ ص: 356 ] قوله تعالى: فما منكم من أحد عنه حاجزين أي: ليس منكم أحد يحجزنا عنه، وإنما قال تعالى: "حاجزين" لأن أحدا يقع على الجمع، كقوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله [البقرة: 285]، هذا قول الفراء، وأبي عبيدة، والزجاج . ومعنى الكلام: أنه لا يتكلف الكذب لأجلكم مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه، ثم لم يقدر على دفع عقوبتنا عنه "وإنه" يعني: القرآن "لحسرة على الكافرين" في يوم القيامة . يندمون إذ لم يؤمنوا به "وإنه لحق اليقين" أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين، كقوله تعالى: ولدار الآخرة [يوسف: 109] . وقال الزجاج: المعنى: وإنه لليقين حق اليقين، وقد شرحنا هذا المعنى، وما بعده في [الواقعة: 96: 95] .

    سُورَةُ الْمَعَارِجِ

    سُورَةُ سَأَلَ سَائِلٌ، وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْمَعَارِجِ، وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْوَاقِعِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى

    قوله تعالى: سأل سائل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [الأنفال: 32]، وهذا مذهب الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد . وقال الربيع بن أنس: هو أبو جهل . قرأ أبو جعفر ، ونافع، وابن عامر: [ ص: 358 ] "سال" بغير همز . والباقون: بالهمز . فمن قرأ: "سأل" بالهمز ففيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: دعا داع على نفسه بعذاب واقع .

    والثاني: سأل سائل عن عذاب واقع لمن هو؟ وعلى من ينزل؟ ومتى يكون؟ وذلك على سبيل، الاستهزاء فتكون الباء بمعنى "عن" وأنشدوا:


    فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب


    والثالث: سأل سائل عذابا واقعا، والباء زائدة .

    ومن قرأ بلا همز ففيه قولان .

    أحدهما: أنه من السؤال أيضا، وإنما لين الهمزة، يقال: سأل، وسال، وأنشد الفراء:


    تعالوا فسالوا يعلم الناس أينا لصاحبه في أول الدهر تابع


    والثاني: المعنى: سال واد في جهنم بالعذاب للكافرين، وهذا قول زيد بن ثابت، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن . وكان ابن عباس في آخرين يقرؤون "سال سيل" بفتح السين، وسكون الياء من غير ألف ولا همز .

    [ ص: 359 ] وإذا قلنا: إنه من السؤال، فقوله تعالى: للكافرين جواب للسؤال، كأنه لما سأل: لمن هذا العذاب؟ قيل: للكافرين . والواقع: الكائن . والمعنى: أن العذاب للذي سأله هذا الكافر كائن لا محالة في الآخرة "للكافرين ليس له دافع من الله" قال الزجاج: المعنى: ذلك العذاب واقع من الله للكافرين .

    قوله تعالى: ذي المعارج فيه قولان .

    أحدهما: أنها السموات، قاله ابن عباس . وقال مجاهد: هي معارج الملائكة . قال ابن قتيبة: وأصل "المعارج" الدرج وهي من عرج: إذا صعد . قال الفراء: لما كانت الملائكة تعرج إليه، وصف نفسه بذلك . قال الخطابي: المعارج: الدرج، واحداها: معرج، وهو المصعد، فهو الذي يصعد إليه بأعمال العباد، وبأرواح المؤمنين . فالمعارج: الطرائق التي يصعد فيها .

    والثاني: أن المعارج: الفواضل والنعم، قاله قتادة .

    قوله تعالى تعرج الملائكة قرأ الكسائي: "يعرج" بالياء .

    "والروح" في "الروح" قولان .

    أحدهما: جبريل، قاله الأكثرون .

    والثاني: روح الميت حين تقبض، قاله قبيصة بن ذؤيب .

    قوله تعالى إليه أي: إلى الله عز وجل "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" فيه قولان .

    أحدهما: أنه يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرظي، وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق . وفي [ ص: 360 ] الحديث: "إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة" وقيل: بل لو ولي حساب الخلق سوى الله عز وجل لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، والحق يفرغ منه في ساعة من نهار . وقال عطاء: يفرغ الله من حساب الخلق في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا . فعلى هذا يكون المعنى: ليس دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقيل المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير .

    والثاني: أن مقدار صعود الملائكة من أسفل الأرض إلى العرش لو صعده غيرهم قطعه في خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد .

    قوله تعالى: فاصبر أي: اصبر على تكذيبهم إياك "صبرا جميلا" لا جزع فيه، وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم، ثم نسخ بآية السيف "إنهم يرونه" يعني: العذاب "بعيدا" غير كائن "ونراه قريبا" كائنا، لأن كل ما هو آت قريب . ثم أخبر متى يكون فقال تعالى: يوم تكون السماء كالمهل وقد شرحناه في [الكهف: 29] "وتكون الجبال كالعهن" أي: كالصوف، فشبهها في ضعفها ولينها بالصوف . وقيل: شبهها به في خفتها وسيرها، لأنه قد نقل أنها تسير على صورها، وهي كالهباء . قال الزجاج: "العهن" الصوف واحدته: عهنة، ويقال: عهنة، وعهن، مثل: صوفة، وصوف . وقال ابن قتيبة: "العهن" الصوف المصبوغ . [ ص: 361 ] وقوله تعالى: ولا يسأل حميم حميما قرأ الأكثرون: "يسأل" بفتح الياء . والمعنى: لا يسأل قريب عن قرابته، لاشتغاله بنفسه . وقال مقاتل: لا يسأل الرجل قرابته، ولا يكلمه من شدة الأهوال . وقرأ معاوية، وأبو رزين، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، وأبو جعفر بضم الياء . والمعنى: لا يقال للحميم: أين حميمك؟

    قوله تعالى: يبصرونهم أي: يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، وهو مع ذلك لا يسأل عن شأنه، ولا يكلمه اشتغالا بنفسه . يقال: بصرت زيدا كذا: إذا عرفته إياه . قال ابن قتيبة: معنى الآية: لا يسأل ذو قرابة عن قرابته، ولكنهم يبصرونهم، أي: يعرفونهم . وقرأ قتادة، وأبو المتوكل ، وأبو عمران، "يبصرونهم" بإسكان الباء، وتخفيف الصاد، وكسرها .

    قوله تعالى: يود المجرم يعني: يتمنى المشرك لو قبل منه الفداء "يومئذ ببنيه وصاحبته" وهي الزوجة "وفصيلته" قال ابن قتيبة: أي: عشيرته . وقال الزجاج: هي أدنى قبيلته منه . ومعنى "تؤويه" تضمه، فيود أن يفتدي بهذه المذكورات "ثم ينجيه" ذلك الفداء "كلا" لا ينجيه ذلك "إنها لظى" قال الفراء: هو اسم من أسماء جهنم، فلذلك لم يجر، وقال غيره: معناها في اللغة: اللهب الخالص . وقال ابن الأنباري: سميت لظى لشدة توقدها وتلهبها، يقال: هو يتلظى، أي: يتلهب ويتوقد . وكذلك النار تتلظى يراد بها هذا المعنى . وأنشدوا:


    جحيما تلظى لا تفتر ساعة ولا الحر منها غابر الدهر يبرد


    "نزاعة للشوى" قرأ الجمهور "نزاعة للشوى" بالرفع على معنى: هي نزاعة .

    [ ص: 362 ] وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، ومجاهد، وعكرمة، وابن أبي عبلة، وحفص عن عاصم "نزاعة" بالنصب . قال الزجاج: وهذا على أنها حال مؤكدة، كما قال تعالى: هو الحق مصدقا [فاطر: 31] ويجوز أن ينصب على معنى "إنها تتلظى نزاعة" .

    وفي المراد بـ "الشوى" أربعة أقوال .

    أحدها: جلدة الرأس، قاله مجاهد . والثاني: محاسن الوجه، قاله الحسن، وأبو العالية . والثالث: العصب، والعقب، قاله ابن جبير . والرابع: الأطراف: اليدان، والرجلان، والرأس، قاله الفراء، والزجاج .

    قوله تعالى: تدعو من أدبر عن الإيمان "وتولى" عن الحق . قال المفسرون: تقول: إلي يا مشرك، إلي يا منافق "وجمع فأوعى" قال الفراء: أي جمع المال في وعاء فلم يؤد منه زكاة، ولم يصل منه رحما .

    إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين فذرهم [ ص: 363 ] يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون

    قوله تعالى: إن الإنسان خلق هلوعا قال مقاتل: عنى به أمية بن خلف الجمحي . وفي الهلوع سبعة أقوال .

    أحدها: أنه الموصوف بما يلي هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة، والزجاج .

    والثاني: أنه الحريص على ما لا يحل له، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: البخيل، قاله الحسن، والضحاك .

    والرابع: الشحيح، قاله ابن جبير .

    والخامس: الشره، قاله مجاهد .

    والسادس: الضجور، قاله عكرمة، وقتادة، ومقاتل، والفراء .

    والسابع: الشديد الجزع، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: إذا مسه الشر أي: أصابه الفقر "جزوعا" لا يصبر، ولا يحتسب "وإذا مسه الخير" أصابه المال "منوعا" بمنعه من حق الله عز وجل "إلا المصلين" وهم أهل الإيمان بالله . وإنما استثنى الجمع من الإنسان، لأنه اسم جنس "الذين هم على صلاتهم دائمون" وفيهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم الذين يحافظون على المكتوبات، وهو معنى قول ابن مسعود .

    والثاني: أنهم لا يلتفتون عن أيمانهم وشمائلهم في الصلاة، قاله عقبة بن عامر، واختاره الزجاج . قال: ويكون اشتقاقه من الدائم، وهو الساكن، كما جاء [ ص: 364 ] في الحديث أنه نهى عن البول في الماء الدائم .

    والثالث: أنهم الذين يكثرون فعل التطوع، قاله ابن جريج . والذين في أموالهم حق معلوم قد سبق شرح هذه الآية والتي بعدها في [الذاريات: 19] وبينا معنى "يوم الدين" في "الفاتحة" . وما بعد هذا قد شرحناه في [المؤمنين: 7 8] إلى قوله تعالى: لأماناتهم قرأ ابن كثير وحده: "لأمانتهم"، "والذين هم بشهاداتهم" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "بشهادتهم" على التوحيد . وقرأ حفص عن عاصم: "بشهاداتهم" جمعا "قائمون" أي: يقومون فيها بالحق ولا يكتمونها "فمال الذين كفروا قبلك مهطعين" نزلت في جماعة من الكفار جلسوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يستهزؤون بالقرآن، ويكذبون به . قال الزجاج: والمهطع: المقبل ببصره على الشيء لا يزايله، وكانوا ينظرون إلى النبي نظر عداوة . وقد سبق الخلاف في قوله تعالى: مهطعين [إبراهيم: 43،والقمر: 8] .

    قوله: عن اليمين وعن الشمال عزين . قال الفراء: العزون: الحلق، الجماعات، واحدتها: عزة، وكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: إن دخل هؤلاء الجنة، كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنها قبلهم، فنزل قوله تعالى: أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم وقرأ ابن مسعود، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش، والمفضل عن عاصم "أن يدخل" بفتح الياء، وضم الخاء . وقال أبو عبيدة: عزين جمع عزة، مثل ثبة، وثبين، فهي [ ص: 365 ] جماعات في تفرقة .

    قوله تعالى: كلا أي: لا يكون ذلك "إنا خلقناهم مما يعلمون" فيه قولان .

    أحدهما: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فالمعنى: لا يستوجب الجنة أحد بما يدعيه من الشرف على غيره، إذ الأصل واحد، وإنما يستوجبها بالطاعة .

    والثاني: إنا خلقناهم من أقذار . فبماذا يستحقون الجنة ولم يؤمنوا؟! وقد روى بشر بن جحاش عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية "إنا خلقناهم مما يعلمون" ثم بزق، قال: يقول الله عز وجل: أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه؟! حتى إذا سويتك، وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك [ ص: 366 ] وئيد، فجمعت، ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة؟! .

    قوله تعالى: فلا أقسم قد تكلمنا عليه في [الحاقة: 38] والمراد بالمشارق، والمغارب: شرق كل يوم ومغربه "إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم" أي: نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوا وما نحن بمسبوقين مفسر في [الواقعة: 60] "فذرهم يخوضوا" في باطلهم "ويلعبوا" أي: يلهوا في دنياهم "حتى يلاقوا" وقرأ ابن محيصن "يلقوا يومهم الذي يوعدون" وهو يوم القيامة . وهذا لفظ أمر، معناه الوعيد . وذكر المفسرون أنه منسوخ بآية السيف . وإذا قلنا: إنه وعيد بلقاء يوم القيامة، فلا وجه للنسخ "يوم يخرجون من الأجداث سراعا" أي: يخرجون بسرعة كأنهم يستبقون .

    قوله تعالى: كأنهم إلى نصب قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم بضم النون والصاد . وقال ابن جرير: وهو واحد الأنصاب، وهي آلهتهم التي كانوا يعبدونها . فعلى هذا يكون المعنى: كأنهم إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها يسرعون . وقرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بفتح النون وسكون الصاد، وهي في معنى القراءة الأولى، إلا أنه مصدر . كقول القائل: نصبت الشيء أنصبه نصبا . قال قتادة: معناه: كأنهم إلى شيء منصوب يسرعون . وقال ابن جرير: تأويله: كأنهم إلى صنم منصوب يسرعون . وقرأ ابن عباس، [ ص: 367 ] وأبو مجلز، والنخعي "نصب" برفع النون، وإسكان الصاد . وقرأ الحسن، وأبو عثمان النهدي، وعاصم الجحدري "إلى نصب" بفتح النون والصاد جميعا . قال ابن قتيبة: النصب: حجر ينصب أو صنم، يقال: نصب، ونصب، ونصب . وقال الفراء: النصب والنصب واحد، وهو مصدر، والجمع: الأنصاب . وقال الزجاج: النصب، والنصب: العلم المنصوب . قال الفراء: والإيفاض: الإسراع .

    قوله تعالى: ترهقهم ذلة قرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعمرو ابن دينار "ذلة ذلك اليوم" بغير تنوين، وبخفض الميم . وباقي السورة قد تقدم بيانه [المعارج: 42] .

    سُورَةُ نُوحٍ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون

    قوله تعالى: أن أنذر قومك أي: بأن أنذر قومك . و"العذاب الأليم" الغرق .

    قوله تعالى أن اعبدوا الله قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي، وعلي بن نصر عن أبي عمرو "أن اعبدوا الله" بضم النون . وقرأ عاصم، وحمزة، وعبد الوارث عن أبي عمرو "أن اعبدوا الله" بكسر النون . قال أبو علي: من ضم كره الكسر .

    قوله تعالى: وأطيعون أثبت الياء في الحالين يعقوب .

    قوله تعالى من ذنوبكم "من" ها هنا صلة . والمعنى: يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي ومقاتل . وقال الزجاج: إنما دخلت "من" ها هنا لتختص الذنوب من سائر الأشياء . ولم تدخل لتبعيض الذنوب، ومثله فاجتنبوا الرجس من [ ص: 369 ] الأوثان [الحج: 30] وذهب بعض أهل المعاني إلى أنها للتبعيض . والمعنى: يغفر لكم من ذنوبكم إلى وقت الإيمان "ويؤخركم" أي: عن العذاب "إلى أجل مسمى" وهو منتهى آجالهم . والمعنى: فتموتوا عند منتهى آجالكم غير ميتة المعذبين "إن أجل الله" فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه أجل الموت، قاله مجاهد . فيكون المعنى: إن أجل الله الذي أجلكم إليه لا يؤخر إذا جاء، فلا يمكنكم حينئذ الإيمان .

    والثاني: أنه أجل البعث، قاله الحسن .

    والثالث: أجل العذاب، قاله السدي ومقاتل .




  7. #527
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمَعَارِجِ
    الحلقة (527)
    صــ 370 إلى صــ 384






    قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا قوله تعالى: فلم يزدهم دعائي إلا فرارا أي: تباعدا من الإيمان "وإني كلما دعوتهم" إلى الإيمان والطاعة "جعلوا أصابعهم في آذانهم" لئلا يسمعوا صوتي "واستغشوا ثيابهم" أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني "وأصروا" على كفرهم "واستكبروا" عن الإيمان بك واتباعي "ثم إني دعوتهم جهارا" أي: معلنا لهم بالدعاء . قال ابن عباس: بأعلى صوتي "ثم إني أعلنت لهم" أي: كررت الدعاء معلنا "وأسررت لهم إسرارا: قال ابن عباس: يريد أكلم الرجل بعد الرجل في السر، وأدعوه إلى توحيدك وعبادتك "فقلت استغفروا ربكم" قال المفسرون: منع الله عنهم القطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فقال لهم نوح: "استغفروا ربكم" من الشرك، أي: استدعوا مغفرته بالتوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا قد شرحناه في أول [الأنعام: 6] ومعنى الكلام أنه أخبرهم أن الإيمان يجمع لهم خير الدنيا والآخرة .

    قوله تعالى: ما لكم لا ترجون لله وقارا؟ فيه أربعة أقوال .

    أحدها: لا ترون لله عظمة، قاله الفراء، وابن قتيبة .

    والثاني: لا تخافون عظمة الله، قاله الفراء، وابن قتيبة .

    والثالث: لا ترون لله طاعة، قاله ابن زيد .

    والرابع: لا ترجون عاقبة الإيمان والتوحيد، قاله الزجاج .

    "وقد خلقكم أطوارا" أي: وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم من نطفة، ثم من علقة شيئا بعد شيء إلى آخر الخلق . قال ابن الأنباري: الطور: الحال، وجمعه: أطوار . وقال ابن فارس: الطور: التارة، طورا بعد طور، أي: تارة بعد تارة . وقيل: أراد بالأطوار: اختلاف المناظر والأخلاق، من طويل، وقصير، وغير ذلك، ثم قررهم، فقال تعالى: ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وقرأ ابن مسعود، وابن أبي عبلة "طباق" بتنوين القاف، وكسرها من غير ألف . وقد بينا هذا في سورة [الملك: 3] .

    قوله تعالى: وجعل القمر فيهن نورا فيه قولان .

    أحدهما: أن وجه القمر قبل السموات، وظهره قبل الأرض يضيء لأهل السموات، كما يضيء لأهل الأرض، وكذلك الشمس، هذا قول عبد الله بن عمرو .

    والثاني: أن القمر في السماء الدنيا . وإنما قال: "فيهن" لأنهن كالشيء الواحد، ذكره الأخفش والزجاج، وغيرهما . وهذا كما تقول: أتيت بني تميم، وإنما أتيت بعضهم، وركبت السفن، "وجعل الشمس سراجا" يستضيء بها العالم "والله أنبتكم من الأرض" يعني: أن مبتدأ خلقكم من الأرض، هو آدم "نباتا" قال الخليل: معناه: فنبتم نباتا . وقال الزجاج: "نباتا" محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى أنبتكم: جعلكم تنبتون نباتا . قال ابن قتيبة: هذا مما جاء فيه المصدر، على غير المصدر لأنه جاء في نبت . ومثله: وتبتل إليه تبتيلا [المزمل: 8] فجاء على "بتل"

    قال الشاعر:


    وخير الأمر ما استقبلت من ه وليس بأن تتبعه اتباعا


    فجاء على اتبعت .

    وقال الآخر:


    وإن شئتم تعاودنا عوادا


    فجاء على "عاودنا" وإنما تجيء المصادر مخالفة الأفعال، لأن الأفعال وإن اختلفت أبنيتها، واحدة في المعنى .

    قوله تعالى سبلا فجاجا قال الفراء: هي الطرق الواسعة .

    قوله تعالى: واتبعوا من لم يزده ماله وولده قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وعاصم، "وولده" بفتح اللام والواو . وقرأ الباقون "ولده" بضم الواو، وسكون اللام . قال الزجاج: وهما بمعنى واحد، مثل العرب، والعرب، والعجم، والعجم . وقرأ الحسن، وأبو العالية، وابن يعمر، والجحدري: "وولده" بكسر الواو، وإسكان اللام . قال المفسرون: المعنى: أن الأتباع، والفقراء اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء .

    قوله تعالى: ومكروا مكرا كبارا قرأ أبو رجاء، وأبو عمران: "كبارا" برفع الكاف وتخفيف الباء . وقرأ ابن يعمر، وأبو الجوزاء، وابن محيصن "كبارا" بكسر الكاف مع تخفيف الباء . والمعنى "كبيرا" يقال: كبير، وكبار . وقد شرحنا هذا في أول [ص] ومعنى "المكر": السعي في الفساد . وذلك أن الرؤساء منعوا أتباعهم من الإيمان بنوح "وقالوا لا تذرن آلهتكم" أي: لا تدعن عبادتها "ولا تذرن ودا" قرأ أبو جعفر ، ونافع بضم الواو . والباقون بفتحها . وهذا الاسم وما بعده أسماء آلهتهم . وجاء في التفسير أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم ونوح، ونشأ قوم بعدهم يأخذون بأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم كان أنشط لكم، وأشوق للعبادة، ففعلوا . ثم نشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، وكان ابتداء عبادة الأوثان من ذلك الوقت . وسميت تلك الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوروها على صور أولئك القوم المسمين بهذه الأسماء . وقيل: إنما هي أسماء لأولاد آدم، مات منهم واحد، فجاء الشيطان فقال: هل لكم أن أصور لكم صورته، فتذكرونه بها؟ فصورها . ثم مات آخر، فصور لهم صورته، إلى أن صور صورا خمسة . ثم طال الزمان، وتركوا عبادة الله، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ فقالوا: لمن نعبد؟ قال: هذه آلهتكم، وآلهة آبائكم، ألا ترونها مصورة في مصلاكم؟! فعبدوها .

    وقال الزجاج: هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم صارت إلى العرب، فكان "ود" لكلب، "وسواع" لهمدان، و"يغوث" لبني غطيف، وهم حي من مراد . وقيل: لما جاء الطوفان غطى على هذه الأصنام وطمها التراب، فلما ظهرت بعد الطوفان صارت إلى هؤلاء المذكورين، قال الواقدي: كان "ود" على صورة رجل، و"سواع" على صورة امرأة، و"يغوث" على صورة أسد، و"يعوق" على صورة فرس، و"نسر" على صورة النسر من الطير .

    قوله تعالى: وقد أضلوا كثيرا فيه قولان .

    أحدهما: وقد أضلت الأصنام كثيرا من الناس، أي: ضلوا بسببها .

    والثاني: وقد أضل الكبراء كثيرا من الناس "ولا تزد الظالمين" يعني: الكافرين "إلا ضلالا" وهذا دعاء من نوح عليهم، لما أعلمه الله أنهم لا يؤمنون .

    مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا

    قوله تعالى: مما خطيئاتهم "ما" صلة . والمعنى: من خطيآتهم: أي: من أجلها، وسببها . وقرأ أبو عمرو "مما خطاياهم" وقرأ أبو الجوزاء، والجحدري "خطيئتهم" من غير ألف "أغرقوا فأدخلوا نارا" قال ابن السائب: المعنى: سيدخلون في الآخرة نارا، فجاء لفظ الماضي بمعنى الاستقبال، لأن الوعد حق، هذا قول الأكثرين . وقال الضحاك: فأدخلوا نارا في الدنيا، وذلك أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويحترقون في الماء من جانب .

    [ ص: 375 ] قوله تعالى: فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا أي: لم يجدوا أحدا يمنعهم من عذاب الله .

    قوله تعالى: ديارا قال ابن قتيبة: أي: أحدا . يقال: ما بالمنازل ديار أي: ما بها أحد، وهو من الدار، أي: ليس بها نازل دارا . وقال الزجاج: أصلها: "ديوار" فيعال، فقلبت الواو ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى . وإنما دعا عليهم نوح، لأن الله تعالى أوحى إليه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [هود: 36] .

    قوله تعالى: يضلوا عبادك وذلك أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إلى نوح فيحذره تصديقه .

    وقوله تعالى: ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا قال المفسرون: إن الله تعالى أخبر نوحا أنهم لا يلدون مؤمنا، فلذلك علم الفاجر الخارج عن الطاعة .

    قوله تعالى: رب اغفر لي ولوالدي قال الحسن: وذلك أنهما كانا مؤمنين . وقرأ أبو بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والجحدري، والجوني "ولوالدي" ساكنة الياء على التوحيد . وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، وابن يعمر، والزهري، والنخعي "ولولدي" من غير ألف على التثنية "ولمن دخل بيتي" وقرأ حفص عن عاصم "بيتي" بفتح الياء . وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: منزله، قاله ابن عباس . والثاني: مسجده، قاله الضحاك . والثالث: سفينته، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: وللمؤمنين والمؤمنات هذا عام في كل من آمن "ولا تزد الظالمين" يعني: الكافرين "إلا تبارا" أي: هلاكا . ومنه قوله تعالى: تبرنا تتبيرا [الفرقان: 39] .

    سُورَةُ الْجِنِّ

    كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ ص: 377 ] قوله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في [الأحقاف: 29] وبينا هنالك سبب استماعهم . ومعنى "النفر" وعددهم، فأما قوله تعالى: قرآنا عجبا فمعناه: بليغا يعجب منه لبلاغته "يهدي إلى الرشد" أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان "ولن نشرك بربنا" أي: لن نعدل بربنا أحدا من خلقه . وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله .

    قوله تعالى: وأنه تعالى جد ربنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي: "وأنه تعالى"، "وأنه كان يقول"، "وأنا ظننا"، "وأنه كان رجال"، "وأنهم ظنوا"، " وأنا لمسنا"، "وأنا كنا"، " وأنا لا ندري"، "وأنا منا"، " وأنا ظننا أن لن نعجز الله"، "وأنا لما سمعنا"، "وأنا منا"، ففتح الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع "وأنه تعالى"، "وأنه كان يقول"، "وأنه كان رجال"، وكسر الباقيات .

    وقرأ الباقون بكسرهن . وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه: "أن" بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: "إن" بالكسر . معطوف على قوله تعالى: إنا سمعنا قرآنا عجبا وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جد ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا . فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله تعالى: فآمنا به وبأنه تعالى جد ربنا . وكذلك ما بعد هذا . وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض . ولكن وجهه [ ص: 378 ] أن يكون محمولا على معنى آمنا به، فيكون المعنى: وصدقنا أنه تعالى جد ربنا . وللمفسرين في معنى "تعالى جد ربنا" سبعة أقوال .

    أحدها: قدرة ربنا، قاله ابن عباس . والثاني: غنى ربنا، قاله الحسن . والثالث: جلال ربنا، قاله مجاهد، وعكرمة . والرابع: عظمة ربنا، قاله قتادة . والخامس: أمر ربنا، قاله السدي . والسادس: ارتفاع ذكره وعظمته، قاله مقاتل . والسابع: ملك ربنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة "وأنه كان يقول سفيهنا" فيه قولان .

    أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة .

    والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل . و"الشطط" الجور، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد . ثم قالت الجن: " وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا" وقرأ يعقوب: "أن لن تقول" بفتح القاف، وتشديد الواو . والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظنناهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عز وجل : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح . ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه: [ ص: 379 ] يا سرحان أرسله . فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم "وأنه كان رجال من الإنس . . . " الآية .

    وفي قوله تعالى: فزادوهم رهقا قولان .

    أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقا لتعوذهم بهم، قاله مقاتل . والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس .

    والثاني: أن الجن زادوا الإنس رهقا، ذكره الزجاج . قال أبو عبيدة: زادوهم سفها وطغيانا . وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالا . وأصل الرهق: العيب . ومنه يقال: فلان يرهق في دينه .

    قوله تعالى وأنهم ظنوا يقول الله عز وجل: ظن الجن "كما ظننتم" [ ص: 380 ] أيها الإنس المشركون أنه لا بعث . وقالت الجن: " وأنا لمسنا السماء" أي: أتيناها "فوجدناها ملئت حرسا شديدا" وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع "وشهبا" جمع شهاب، وهو النجم المضيء : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع" أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رمينا بالشهب . ومعنى "رصدا" قد أرصد له المرمى به " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض" بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون "أم أراد بهم ربهم رشدا" وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل . والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء . ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: "وأنا منا الصالحون" وهم المؤمنون المخلصون "ومنا دون ذلك" فيه قولان .

    أحدهما: أنهم المشركون .

    والثاني: أنهم أهل الشر دون الشرك "كنا طرائق قددا" قال الفراء: أي: فرقا مختلفة أهواؤنا . وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القدد: قدة، أي: ضروبا وأجناسا ومللا . قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة .

    قوله تعالى: وأنا ظننا أي: أيقنا "أن لن نعجز الله في الأرض" أي: لن نفوته إذا أراد بنا أمرا "ولن نعجزه هربا" أي: أنه يدركنا حيث كنا "وأنا لما سمعنا الهدى" وهو القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم "آمنا به" أي: صدقنا أنه من عند الله عز وجل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا" أي: نقصا من الثواب "ولا رهقا" أي: ولا ظلما ومكروها يغشاه "وأنا منا المسلمون" قال مقاتل: المخلصون لله "ومنا القاسطون" وهم المردة . قال [ ص: 381 ] ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون . يقال: قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل . قال المفسرون: هم الكافرون "فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا" أي: توخوه، وأموه . ثم انقطع كلام الجن . قال مقاتل: ثم رجع إلى كفار مكة فقال تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي، واختاره الزجاج . قال: لأن الطريقة ها هنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى . وذهب قوم إلى أن المراد بها: طريقة الكفر، قاله محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان . فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسعنا عليهم "لنفتنهم" أي: لنختبرهم "فيه" فننظر كيف شكرهم؟ ، والماء الغدق: الكثير . وإنما ذكر الماء مثلا، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إذ كان سببه . وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفارا كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك . وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح "ومن يعرض عن ذكر ربه" يعني: القرآن "يسلكه" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر "نسلكه" بالنون . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالياء . "عذابا صعدا" قال ابن قتيبة: أي: عذابا شاقا . يقال: تصعدني الأمر: إذا شق علي . ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح .

    ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشقات . وجاء في التفسير أنه جبل في النار يكلف صعوده، وسنذكره عند قوله تعالى: سأرهقه [ ص: 382 ] صعودا [المدثر: 17] إن شاء الله تعالى .

    وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا

    قوله تعالى: وأن المساجد لله فيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت الصلوات، قاله ابن عباس . قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم .

    والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير ، وابن الأنباري، وذكره الفراء . فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره . [ ص: 383 ] والثالث: أن المراد بالمساجد ها هنا: البقاع كلها، قاله الحسن . فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها .

    والرابع: أن المساجد: السجود، فإنه جمع مسجد . يقال: سجدت سجودا، ومسجدا، كما يقال: ضربت في الأرض ضربا، ومضربا، ثم يجمع، فيقال: المساجد، والمضارب . قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مسجدا: بفتح الجيم . والمعنى: أخلصوا له، ولا تسجدوا لغيره . ثم رجع إلى ذكر الجن فقال تعالى: وأنه لما قام عبد الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "يدعوه" أي: يعبده . وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في [الأحقاف: 29] "كادوا يكونون عليه لبدا" قرأ الأكثرون: "لبدا" بكسر اللام، وفتح الباء . وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن "لبدا" بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها . قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد . يقال: لبدة، ولبدة . قال الزجاج: والمعنى: كاد يركب بعضهم بعضا . ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش . وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لبدته . وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: "لبدا" بضم اللام مع تشديد الباء . قال الفراء: فعلى هذه القراءة يكون صفة للرجال، كقولك: ركعا وركوعا، وسجدا وسجودا . قال الزجاج: هو جمع لابد، مثل راكع، وركع . وفي معنى الآية ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم . والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضا، حرصا على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس .

    والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود فكأنهم قالوا: [ ص: 384 ] لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبدا . وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس .

    والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد .

    قوله تعالى: قل إنما أدعو ربي قرأ عاصم، وحمزة "قل إنما أدعو ربي" بغير ألف . وقرأ الباقون "قال" على الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا أي: لا أدفعه عنكم "ولا" أسوق إليكم "رشدا" أي: خيرا، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا "قل إني لن يجيرني من الله أحد" أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك "ولن أجد من دونه ملتحدا" وقد بيناه في [الكهف 27] "إلا بلاغا من الله" فيه وجهان ذكرهما الفراء .

    أحدهما: أنه استثناء من قوله تعالى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا أن أبلغكم .






  8. #528
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ
    الحلقة (528)
    صــ 385 إلى صــ 399







    والثاني: لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالته . وبالأول قال ابن السائب . [ ص: 385 ] وبالثاني قال مقاتل . وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني "ومن يعص الله ورسوله" بترك الإيمان والتوحيد .

    قوله تعالى: حتى إذا رأوا يعني: الكفار "ما يوعدون" من العذاب في الدنيا، وهو القتل، وفي الآخرة "فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا" أي: جندا ونصرا، أهم، أم المؤمنون؟ "قل إن أدري" أي: ما أدري "أقريب ما توعدون" من العذاب "أم يجعل له ربي أمدا" أي: غاية وبعدا . وذلك لأن علم الغيب لله وحده "فلا يظهر" أي: فلا يطلع على غيبه الذي يعلمه أحدا من الناس "إلا من ارتضى من رسول" لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارهم بالغيب . والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه . وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدل على الغيب فهو كافر . ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال تعالى: فإنه يسلك من بين يديه أي: [ ص: 386 ] من بين يدي الرسول "ومن خلفه رصدا" أي: يجعل له حفظة من الملائكة يحفظون الوحي من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، فيتكلمون به قبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الناس . وقال الزجاج: يسلك من بين يدي الملك ومن خلفه رصدا . وقيل: يسلك من بين يدي الوحي . فالرصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي .

    قوله تعالى: ليعلم فيه خمسة أقوال .

    أحدها: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلغ إليه، قاله ابن جبير .

    والثاني: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله "قد أبلغوا رسالات ربهم" وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة .

    والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد .

    والرابع: ليعلم الله عز وجل ذلك موجودا ظاهرا يجب به الثواب، فهو كقوله تعالى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم [آل عمران: 142]، قاله ابن قتيبة .

    والخامس: ليعلم النبي أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج .

    وقرأ رويس عن يعقوب "ليعلم" بضم الياء على ما لم يسم فاعله . وقال ابن قتيبة: ويقرأ "لتعلم" بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلغت عن إلاههم بما رجوا من استراق السمع "وأحاط بما لديهم" أي: علم الله ما عند الرسل "وأحصى كل شيء عددا" فلم يفته شيء حتى الذر والخردل .

    سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    إلا أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: سوى آيتين منها، قوله تعالى: واصبر على ما يقولون والتي بعدها [المزمل: 11،10] . وقال ابن يسار، ومقاتل: فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم [المزمل: 20] .

    يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ ص: 388 ] قوله تعالى: يا أيها المزمل وقرأ أبي بن كعب ، وأبو العالية، وأبو مجلز، وأبو عمران، والأعمش "المتزمل" بإظهار التاء . وقرأ عكرمة، وابن يعمر: "المزمل" بحذف التاء، وتخفيف الزاي . قال اللغويون: "المزمل" الملتف في ثيابه، وأصله "المتزمل" فأدغمت التاء في الزاي، فثقلت . وكل من التف بثوبه فقد تزمل . قال الزجاج: وإنما أدغمت فيها لقربها منها . قال المفسرون: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزمل في ثيابه في أول ما جاء جبريل فرقا منه حتى أنس به . وقال السدي: كان قد تزمل للنوم . وقال مقاتل: خرج من البيت وقد لبس ثيابه، فناداه جبريل: يا أيها المزمل . وقيل: أريد به متزمل النبوة . قال عكرمة في معنى هذه الآية: زملت هذا الأمر فقم به . وقيل: إنما لم يخاطب بالنبي والرسول ها هنا، لأنه لم يكن قد بلغ، وإنما كان في بدء الوحي .

    قوله تعالى: قم الليل أي: للصلاة . وكان قيام الليل فرضا عليه "إلا قليلا نصفه" هذا بدل من الليل، كما تقول: ضربت زيدا رأسه . فإنما ذكرت زيدا لتوكيد الكلام، لأنه أوكد من قولك: ضربت رأس زيد . والمعنى: قم من الليل النصف إلا قليلا "أو انقص منه قليلا" أي: من النصف "أو زد عليه" أي: على النصف . قال المفسرون: انقص من النصف إلى الثلث، أو زد عليه إلى الثلثين، فجعل له سعة في مدة قيامه، إذ لم تكن محدودة، فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى، وكم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . الآية، هذا مذهب جماعة من المفسرين . وقالوا: ليس في القرآن [ ص: 389 ] سورة نسخ آخرها أولها سوى هذه السورة . وذهب قوم إلى أنه نسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك [الإسراء: 79]، ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس . وقيل: نسخ عن الأمة، وبقي عليه فرضه أبدا . وقيل: إنما كان مفروضا عليه دونهم . وفي مدة فرضه قولان .

    أحدهما: سنة، قال ابن عباس: كان بين أول "المزمل" وآخرها سنة .

    والثاني: ستة عشر شهرا، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: ورتل القرآن قد ذكرنا الترتيل في [الفرقان: 32] .

    قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وهو القرآن . وفي معنى ثقله ستة أقوال .

    أحدها: أنه كان يثقل عليه إذا أوحي إليه، وهذا قول عائشة . قالت: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، يعني يتخلص عنه، [ ص: 390 ] وإن جبينه ليتفصد عرقا .

    والثاني: أن العمل به ثقيل في فروضه وأحكامه، قاله الحسن، وقتادة .

    والثالث: أنه يثقل في الميزان يوم القيامة، قاله ابن زيد .

    والرابع: أنه المهيب، كما يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح، قاله عبد العزيز بن يحيى .

    والخامس: أنه ليس بالخفيف ولا السفساف، لأنه كلام الرب عز وجل، قاله الفراء .

    والسادس: أنه قول له وزن في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رصين، وهذا قول وزن: إذا استجدته، ذكره الزجاج .

    قوله تعالى: إن ناشئة الليل قال ابن مسعود، وابن عباس: هي قيام الليل بلسان الحبشة . وهل هي في وقت مخصوص من الليل، أم في جميعه؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنها في جميع الليل . وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: الليل كله ناشئة . وإلى هذا ذهب اللغويون . قال ابن قتيبة: ناشئة الليل: [ ص: 391 ] ساعاته الناشئة، من نشأت: إذا ابتدأت . وقال الزجاج: ناشئة الليل: ساعات الليل، كل ما نشأ منه، أي: كل ما حدث . وقال أبو علي الفارسي: كأن المعنى: إن صلاة ناشئة، أو عمل ناشئة الليل .

    والثاني: أنها في وقت مخصوص من الليل . ثم فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنها ما بين المغرب والعشاء، قاله أنس بن مالك .

    والثاني: أنها القيام بعد النوم، وهذا قول عائشة ، وابن الأعرابي . وقد نص عليه أحمد في رواية المروذي .

    والثالث: أنها ما بعد العشاء، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو مجلز .

    والرابع: أنها بدء الليل، قاله عطاء، وعكرمة .

    والخامس: أنها القيام من آخر الليل، قاله يمان، وابن كيسان .

    قوله تعالى: هي أشد وطئا قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، "وطاء" بكسر الواو مع المد، وهو مصدر واطأت فلانا على كذا مواطأة، ووطاء، وأراد أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم للقرآن والإحكام لتأويله . ومنه قوله تعالى: ليواطئوا عدة ما حرم الله [التوبة: 37] . وقرأ الباقون "وطأ" بفتح الواو مع القصر . والمعنى: إنه أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدت على القوم وطأة السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشدد وطأتك على مضر" . ذكر معنى القراءتين ابن قتيبة: وقرأ ابن محيصن "أشد وطاء" بفتح الواو، والطاء، وبالمد .

    [ ص: 392 ] قوله تعالى: وأقوم قيلا أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات فتخلص القراءة، ويفرغ القلب لفهم التلاوة، فلا يكون دون سمعه وتفهمه حائل .

    قوله تعالى: إن لك في النهار سبحا طويلا أي: فراغا لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، قاله ابن عباس، وعطاء . وقرأ علي، وابن مسعود، وأبو عمران، وابن أبي عبلة "سبخا" بالخاء المعجمة . قال الزجاج: ومعناها في اللغة صحيح . يقال: قد سبخت القطن بمعنى نفشته . ومعنى، نفشته: وسعته، فيكون المعنى: إن لك في النهار توسعا طويلا .

    قوله تعالى: واذكر اسم ربك أي: بالنهار أيضا "وتبتل إليه تبتيلا" قال مجاهد . أخلص له إخلاصا . وقال ابن قتيبة: انقطع إليه، من قولك: بتلت الشيء: إذا قطعته . وقال الزجاج: انقطع إليه في العبادة . ومنه قيل لمريم: البتول، لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة . وكذلك صدقة بتلة: منقطعة من مال المصدق . والأصل في مصدر تبتل تبتلا . وإنما قوله تعالى: تبتيلا محمول على معنى: تبتل "رب المشرق" قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم "رب" بالرفع . وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بالكسر . وما بعد هذا قد سبق [الشعراء: 28] إلى قوله تعالى: واصبر على ما يقولون من التكذيب لك والأذى "واهجرهم هجرا جميلا" لا جزع فيه . وهذه الآية عند المفسرين منسوخة بآية السيف "وذرني والمكذبين" أي: لا تهتم بهم، فأنا أكفيكهم "أولي النعمة" يعني: التنعم . وفيمن عني بهذا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم المطعمون ببدر، قاله مقاتل بن حيان . [ ص: 393 ] والثاني: أنهم بنو المغيرة بن عبد الله، قاله مقاتل بن سليمان .

    والثالث: أنهم المستهزئون، وهم صناديد قريش، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: ومهلهم قليلا قالت عائشة: فلم يكن إلا اليسير حتى كانت وقعة بدر . وذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وليس بصحيح .

    قوله تعالى: إن لدينا أنكالا وهي القيود، واحدها: نكل . وقد شرحنا معنى "الجحيم" في [البقرة: 119] "وطعاما ذا غصة" وهو الذي لا يسوغ في الحلق . وفيه للمفسرين أربعة أقوال .

    أحدها: أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج، قاله ابن عباس، وعكرمة . والثاني: الزقوم، قاله مقاتل . والثالث: الضريع، قاله الزجاج .

    والرابع: الزقوم والغسلين والضريع، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: يوم ترجف الأرض قال الزجاج: هو منصوب بقوله تعالى: إن لدينا أنكالا والمعنى: ينكل الكافرين ويعذبهم "يوم ترجف الأرض" أي: تزلزل وتحرك أغلظ حركة .

    قوله تعالى: وكانت الجبال قال مقاتل: المعنى: وصارت بعد الشدة، والقوة "كثيبا" قال الفراء: "الكثيب": الرمل . و"المهيل": الذي تحرك أسفله، فينهال عليك من أعلاه . والعرب تقول: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول . وقال الزجاج: الكثيب جمعه كثبان، وهي القطع العظام من الرمل . والمهيل: السائل .

    قوله تعالى: إنا أرسلنا إليكم يعني أهل مكة "رسولا" يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم [ ص: 394 ] "شاهدا عليكم" بالتبليغ وإيمان من آمن، وكفر من كفر "كما أرسلنا إلى فرعون رسولا" وهو موسى عليه السلام . والوبيل: الشديد . قال ابن قتيبة: هو من قولك: استوبلت المكان: [إذا استوخمته] ويقال: كلأ مستوبل أي: لا يستمرأ . قال الزجاج: الوبيل: الثقيل الغليظ جدا . ومنه قيل للمطر العظيم: وابل . قال مقاتل: والمراد بهذا الأخذ الوبيل: الغرق . وهذا تخويف لكفار مكة أن ينزل بهم العذاب لتكذيبهم، كما نزل بفرعون .

    قوله تعالى: فكيف تتقون إن كفرتم يوما أي: عذاب يوم . قال الزجاج: المعنى: بأي شيء تتحصنون من عذاب يوم من هوله يشيب الصغير من غير كبر . وقرأ أبي بن كعب ، وأبو عمران "نجعل الولدان" بالنون .

    قوله تعالى: السماء منفطر به قال الفراء: السماء تذكر وتؤنث . وهي ها هنا في وجه التذكير . قال الشاعر:


    فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب


    قال الزجاج: وتذكير السماء على ضربين .

    أحدهما: على أن معنى السماء معنى السقف .

    والثاني: على قولهم: امرأة مرضع على جهة النسب . فالمعنى: السماء ذات انفطار، كما أن المرضع ذات الرضاع . وقال ابن قتيبة: ومعنى الآية: السماء منشق به، أي: فيه، يعني في ذلك اليوم .

    [ ص: 395 ] قوله تعالى: كان وعده مفعولا وذلك أنه وعد بالبعث، فهو كائن لا محالة .

    إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم .

    "إن هذه" يعني: آيات القرآن "تذكرة" أي: تذكير وموعظة "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" بالإيمان والطاعة .

    قوله تعالى: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى أي: أقل "من ثلثي الليل ونصفه وثلثه" وقرأ ابن كثير، وأهل الكوفة بفتح الفاء والثاء . والباقون: بكسرهما .

    قوله تعالى: وطائفة من الذين معك يعني: المؤمنين "والله يقدر الليل والنهار" يعلم مقاديرهما، فيعلم القدر الذي تقومون به من الليل "علم أن لن تحصوه" وفيه قولان .

    أحدهما: لن تطيقوا قيام ثلثي الليل، ولا ثلث الليل، ولا نصف الليل، قاله مقاتل . [ ص: 396 ] والثاني: لن تحفظوا مواقيت الليل، قاله الفراء . "فتاب عليكم" أي: عاد عليكم بالمغفرة والتخفيف "فاقرءوا ما تيسر" عليكم "من القرآن" يعني: في الصلاة، من غير أن يوقت وقتا . وقال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء . ثم ذكر أعذارهم فقال تعالى: علم أن سيكون منكم مرضى فلا يطيقون قيام الليل "وآخرون يضربون في الأرض" وهم المسافرون للتجارة "يبتغون من فضل الله" أي: من رزقه فلا يطيقون قيام الليل "وآخرون يقاتلون في سبيل الله" وهم المجاهدون فلا يطيقون قيام الليل "فاقرءوا ما تيسر من القرآن" وذكروا أن هذا نسخ عن المسلمين بالصلوات الخمس، فذلك قوله تعالى: وأقيموا الصلاة أي: الصلوات الخمس في أوقاتها "وأقرضوا الله قرضا حسنا" وقد سبق بيانه [الحديد: 18] . قال ابن عباس: يريد سوى الزكاة في صلة الرحم، وقرى الضيف "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" أي: تجدوا ثوابه في الآخرة . "هو خيرا" قال أبو عبيدة: المعنى: تجدوه خيرا . قال الزجاج: ودخلت "هو" فصلا . وقال المفسرون: ومعنى "خيرا" أي: [ ص: 397 ] أفضل مما أعطيتم "وأعظم أجرا" من الذي تؤخرونه إلى وقت الوصية عند الموت .

    سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ

    وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ آيَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً [الْمُدَّثِّرِ: 31] .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من [ ص: 399 ] يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر كلا والقمر والليل إذ أدبر والصبح إذا أسفر إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر

    فأما سبب نزولها، فروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث جابر بن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر أحدا، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو في الهواء "يعني: جبريل عليه السلام" فأقبلت إلى خديجة، فقلت: دثروني دثروني ، فأنزل الله عز وجل "يا أيها المدثر قم فأنذر" قال المفسرون: فلما رأى جبريل وقع مغشيا عليه، فلما أفاق دخل إلى خديجة، ودعا بماء فصبه عليه، وقال: دثروني ، فدثروه بقطيفة، فأتاه جبريل فقال: "يا أيها المدثر" وقرأ أبي بن كعب ، وأبو عمران، والأعمش "المتدثر" بإظهار التاء . وقرأ أبو رجاء، وعكرمة، وابن يعمر "المدثر" بحذف التاء، وتخفيف الدال . قال اللغويون: وأصل "المدثر" المتدثر، فأدغمت التاء، كما ذكرنا في المتزمل، وهذا في قول الجمهور من التدثير بالثياب . وقيل المعنى: يا أيها المدثر بالنبوة، وأثقالها . قال عكرمة: دثرت هذا الأمر فقم به .




  9. #529
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ
    الحلقة (529)
    صــ 400 إلى صــ 414








    [ ص: 400 ] قوله تعالى: قم فأنذر كفار مكة العذاب إن لم يوحدوا "وربك فكبر" أي: عظمه عما يقول عبدة الأوثان "وثيابك فطهر" فيه ثمانية أقوال .

    أحدها: لا تلبسها على معصية، ولا على غدر . قال غيلان بن سلمة الثقفي:


    وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع


    روى هذا المعنى عكرمة عن ابن عباس .

    والثاني: لا تكن ثيابك من مكسب غير طاهر، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: طهر نفسك من الذنب، قاله مجاهد، وقتادة . ويشهد له قول عنترة:


    فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم


    أي: نفسه، وهذا مذهب ابن قتيبة . قال: المعنى: طهر نفسك من الذنوب، فكنى عن الجسم بالثياب، لأنها تشتمل عليه . قالت ليلى الأخيلية وذكرت إبلا:


    رموها بأثواب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا


    أي: ركبوها، فرموها بأنفسهم . والعرب تقول للعفاف: إزار، لأن العفيف كأنه استتر لما عف .

    [ ص: 401 ] والرابع: وعملك فأصلح، قاله الضحاك .

    والخامس: خلقك فحسن، قاله الحسن، والقرظي .

    والسادس: وثيابك فقصر وشمر، قاله طاووس .

    والسابع: قلبك فطهر، قاله سعيد بن جبير . ويشهد له قول امرئ القيس .


    فإن يك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل


    أي: قلبي من قلبك .

    والثامن: اغسل ثيابك بالماء، ونقها، قاله ابن سيرين، وابن زيد .

    قوله تعالى: والرجز فاهجر قرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة، وعاصم إلا أبا بكر، ويعقوب، وابن محيصن، وابن السميفع "والرجز" بضم الراء . والباقون بكسرها . ولم يختلفوا في غير هذا الموضع . قال الزجاج: ومعنى القراءتين واحد . وقال أبو علي: قراءة الحسن بالضم، وقال: هو اسم صنم . وقال قتادة: صنمان: إساف، ونائلة . ومن كسر، فالرجز: العذاب . فالمعنى: ذو العذاب فاهجر .

    وفي معنى "الرجز" للمفسرين ستة أقوال .

    أحدها: أنه الأصنام، والأوثان، قاله ابن عباس . ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والسدي، وابن زيد .

    [ ص: 402 ] والثاني: أنه الإثم، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: الشرك، قاله ابن جبير، والضحاك .

    والرابع: الذنب، قاله الحسن .

    والخامس: العذاب، قاله ابن السائب . قال الزجاج: الرجز في اللغة: العذاب . ومعنى الآية: اهجر ما يؤدي إلى عذاب الله .

    والسادس: الشيطان، قاله ابن كيسان . "ولا تمنن تستكثر" فيه أربعة أقوال .

    أحدها: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة . قال المفسرون: معناه: أعط لربك وأرد به الله، فأدبه بأشرف الآداب . ومعنى "لا تمنن" لا تعط شيئا من مالك لتعطى أكثر منه، وهذا الأدب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته إثم أن يهدي هدية يرجو بها ثوابا أكثر منها .

    والثاني: لا تمنن بعملك تستكثره على ربك، قاله الحسن .

    والثالث: لا تضعف عن الخير أن تستكثر منه، قاله مجاهد .

    والرابع: لا تمنن على الناس بالنبوة لتأخذ عليها منهم أجرا، قاله ابن زيد .

    [ ص: 403 ] "ولربك" فيه أربعة أقوال .

    أحدها: لأجل ربك . والثاني: لثواب ربك . والثالث: لأمر ربك . والرابع: لوعد ربك "فاصبر" فيه قولان .

    أحدهما: على طاعته وفرائضه . والثاني: على الأذى والتكذيب .

    قوله تعالى: فإذا نقر في الناقور أي: نفخ في الصور . وهل هذه النفخة هي الأولى أو الثانية؟ فيه قولان "فذلك يومئذ يوم عسير" أي: يعسر الأمر فيه "على الكافرين غير يسير" غير هين "ذرني" قد شرحناه في [المزمل: 11] "ومن خلقت" أي: ومن خلقته "وحيدا" فيه قولان .

    أحدهما: خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، قاله مجاهد .

    والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، قاله الزجاج . قال ابن عباس: جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا، فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله، فقال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا . قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، فوالله ما يشبهها الذي يقول، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى . قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه . فقال: هذا سحر يؤثر: يأثره عن غيره، فنزلت "ذرني ومن خلقت وحيدا . . . " الآيات كلها . وقال مجاهد: قال الوليد لقريش: إن لي إليكم [ ص: 404 ] حاجة فاجتمعوا في دار الندوة، فقال: إنكم ذوو أحساب وأحلام، وإن العرب يأتونكم، وينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا على شيء واحد . ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: نقول: إنه شاعر، فعبس عندها، وقال: قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر . فقالوا: نقول: إنه كاهن، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه يحدث بما يحدث به الكهنة، قالوا: نقول: إنه مجنون، قال: إذن يأتونه فلا يجدونه مجنونا . فقالوا: نقول: إنه ساحر . قال: وما الساحر؟ قالوا: بشر يحببون بين المتباغضين، ويبغضون بين المتحابين، قال: فهو ساحر، فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلا قال: يا ساحر، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله عز وجل "يا أيها المدثر" إلى قوله تعالى: إن هذا إلا سحر يؤثر وذكر بعض المفسرين أن قوله تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا منسوخ بآية السيف ولا يصح .

    قوله تعالى: وجعلت له مالا ممدودا في معنى الممدود ثلاثة أقوال .

    أحدها: كثيرا، قاله أبو عبيدة . والثاني: دائما، قاله ابن قتيبة . والثالث: غير منقطع، قاله الزجاج .

    وللمفسرين في مقداره أربعة أقوال .

    أحدها: غلة شهر بشهر، قاله عمر بن الخطاب .

    والثاني: ألف دينار، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير . قال الفراء: [ ص: 405 ] نرى أن الممدود: جعل غاية للعدد، لأن "ألف" غاية للعدد يرجع في أول العدد من الألف .

    والثالث: أربعة آلاف، قاله قتادة .

    والرابع: أنه بستان كان له بالطائف لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: وبنين شهودا أي: حضروا معه لا يحتاجون إلى التصرف والسفر فيغيبوا عنه . وفي عددهم أربعة أقوال .

    أحدها: عشرة، قاله مجاهد، وقتادة . والثاني: ثلاثة عشر، قاله ابن جبير . والثالث: اثنا عشر، قاله السدي . والرابع: سبعة، قاله مقاتل "ومهدت له تمهيدا" أي: بسطت له العيش، وطول العمر، "ثم يطمع أن أزيد" فيه قولان . أحدهما: يطمع أن أدخله الجنة . ،قاله الحسن . والثاني: أن أزيده من المال والولد، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: كلا أي: لا أفعل، فمنعه الله المال والولد حتى مات فقيرا "إنه كان لآياتنا عنيدا" أي: معاندا .

    وفي المراد بالآيات هنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه القرآن، قاله ابن جبير . والثاني: الحق، قاله مجاهد . والثالث: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله السدي .

    وقوله تعالى: سأرهقه صعودا قال الزجاج سأحمله على مشقة من العذاب . وقال غيره: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له منها . وقال ابن قتيبة: "الصعود": [ ص: 406 ] العقبة الشاقة، وكذلك "الكؤود" . وفي حديث أبي سعيد عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: سأرهقه صعودا قال: جبل من نار يكلف أن يصعده، فإذا وضع رجله عليها ذابت، فإذا رفعها عادت . يصعد سبعين خريفا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا . وذكر ابن السائب أنه جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف أن يصعدها حتى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه سلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة .

    قوله تعالى: إنه فكر أي: تفكر ماذا يقول في القرآن "وقدر" القول في نفسه "فقتل" أي: لعن "كيف قدر ثم قتل كيف قدر" أي: لعن على أي حال قدر ما قدر من الكلام . وقيل: "كيف" ها هنا بمعنى التعجب والإنكار والتوبيخ . وإنما كرر تأكيدا "ثم نظر" في طلب ما يدفع به القرآن، ويرده ، "ثم عبس وبسر" قال اللغويون: أي: كره وجهه وقطب . يقال: بسر الرجل وجهه، أي: قبضه . وأنشدوا لتوبة: [ ص: 407 ]


    وقد رابني منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتي وبسورها


    قال المفسرون: كره وجهه، ونظر بكراهية شديدة، كالمهتم المتفكر في الشيء "ثم أدبر" عن الإيمان "واستكبر" أي: تكبر حين دعي إليه "فقال: "إن هذا" أي: ما هذا القرآن "إلا سحر يؤثر" أي: يروى عن السحرة "إن هذا إلا قول البشر" أي: من كلام الإنس، وليس من كلام الله تعالى، فقال الله تعالى: سأصليه سقر أي: سأدخله النار . وقد ذكر "سقر" في سورة [القمر: 48] "وما أدراك ما سقر" لعظم شأنها "لا تبقي ولا تذر" أي: لا تبقي لهم لحما إلا أكلته، ولا تذرهم إذا أعيدوا خلقا جديدا "لواحة" أي: مغيرة . يقال: لاحته الشمس، أي: غيرته . وأنشدوا:


    يا ابنة عمي لاحني الهواجر


    وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن أبي عبلة "لواحة" بالنصب . وفي البشر قولان .

    أحدهما: أنه جمع بشرة، وهي جلدة الإنسان الظاهرة، وهذا قول مجاهد، والفراء، والزجاج .

    والثاني: أنهم الإنس من أهل النار، قاله الأخفش، وابن قتيبة في آخرين .

    قوله تعالى: عليها تسعة عشر وهم خزانها، مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين [ ص: 408 ] منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر . قد نزعت منهم الرحمة . فلما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: يخوفكم محمد بتسعة عشر، أما له من الجنود إلا هؤلاء! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطش بواحد منهم، ثم يخرجون من النار! فقال أبو الأشدين - قال مقاتل: اسمه: أسيد بن كلدة . وقال غيره: كلدة بن خلف الجمحي : (يا معشر قريش: أنا أمشي بين أيديكم فأرفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، فندخل الجنة، فأنزل الله تعالى: وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة لا أدميين، فمن يطيقهم ومن يغلبهم؟! "وما جعلنا عدتهم" في هذه القلة "إلا فتنة" أي: ضلالة "للذين كفروا" حتى قالوا ما قالوا "ليستيقن الذين أوتوا الكتاب" أن ما جاء به محمد حق، لأن عدتهم في التوراة تسعة عشر "ويزداد الذين آمنوا" من أهل الكتاب "إيمانا" أي: تصديقا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ وجدوا ما يخبرهم موافقا لما في كتابهم "ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون" أي: ولا يشك هؤلاء في عدد الخزنة "وليقول الذين في قلوبهم مرض" وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه النفاق، ذكره الأكثرون،

    والثاني: أنه الشك، قاله مقاتل: وزعم أنهم يهود أهل المدينة، وعنده أن هذه الآية مدنية .

    [ ص: 409 ] والثالث: أنه الخلاف، قاله الحسين بن الفضل . وقال: لم يكن بمكة نفاق . وهذه مكية . فأما "الكافرون" فهم مشركو العرب، "ماذا أراد الله" أي: أي شيء أراد الله؟، "بهذا" الحديث والخبر "مثلا" والمثل يكون بمعنى الحديث نفسه . ومعنى الكلام: يقولون: ما هذا من الحديث "كذلك" أي: كما أضل من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدق "يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء" وأنزل في قول أبي جهل: أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر: "وما يعلم جنود ربك إلا هو" يعني: من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار . وذلك أن لكل واحد من هؤلاء التسعة عشر من الأعوان ما لا يعلمه إلا الله . وذكر الماوردي في وجه الحكمة في كونهم تسعة عشر قولا محتملا، فقال: التسعة عشر: عدد يجمع أكثر القليل، وأقل الكثير، لأن الآحاد أقل الأعداد، وأكثرها تسعة، وما سوى الآحاد كثير . وأقل الكثير: عشرة، فوقع الاقتصار على عدد يجمع أقل الكثير، وأكثر القليل . ثم رجع إلى ذكر النار فقال تعالى: وما هي إلا ذكرى أي: ما النار في الدنيا إلا مذكرة لنار الآخرة "كلا" أي: حقا "والقمر . والليل إذ أدبر" قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم "إذا أدبر" وقرأ نافع، وحمزة، وحفص، والمفضل عن عاصم، ويعقوب "إذ" بسكون الذال من غير ألف بعدها "أدبر" بسكون الدال، وبهمزة قبلها . وهل معنى القراءتين واحد، أم لا؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد . يقال: دبر الليل، وأدبر . ودبر الصيف وأدبر، هذا قول الفراء، والأخفش، وثعلب . [ ص: 410 ] والثاني: أن "دبر" بمعنى خلف، و"أدبر" بمعنى ولى . يقال: دبرني فلان: جاء خلفي، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيدة وابن قتيبة .

    قوله تعالى إذا أسفر أي: أضاء وتبين "إنها" يعني سقر "لإحدى الكبر" قال ابن قتيبة: الكبر، جمع كبرى،مثل الأول، والأولى، والصغر والصغرى . وهذا كما يقال: إنها لإحدى العظائم . قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أوهى منها .

    وقال ابن السائب، ومقاتل: أراد بالكبر: دركات جهنم السبعة .

    قوله تعالى: نذيرا للبشر قال الزجاج: نصب "نذيرا" على الحال . والمعنى: إنها لكبيرة في حالة الإنذار . وذكر "النذير"، لأن معناه معنى العذاب . ويجوز أن يكون "نذيرا" منصوبا متعلقا بأول السورة، على معنى: قم نذيرا للبشر .

    قوله تعالى لمن شاء منكم بدل من قوله تعالى: للبشر "أن يتقدم أو يتأخر" فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عن معصيته، قاله ابن جريج .

    والثاني: أن يتقدم إلى النار، أو يتأخر عن الجنة، قاله السدي .

    والثالث: أن يتقدم في الخير، أو يتأخر إلى الشر، قاله يحيى بن سلام .

    والرابع: أن يتقدم في الإيمان، أو يتأخر عنه . والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن أقر أو كفر .

    [ ص: 411 ] كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة

    قوله تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: كل نفس بالغة مرتهنة بعملها لتحاسب عليه "إلا أصحاب اليمين" وهم أطفال المسلمين، فإنه لا حساب عليهم، لأنه لا ذنوب لهم، قاله علي، واختاره الفراء .

    والثاني: كل نفس من أهل النار مرتهنة في النار، إلا أصحاب اليمين، وهم المؤمنون، فإنهم في الجنة، قاله الضحاك .

    والثالث: كل نفس مرتهنة بعملها لتحاسب عليه إلا أصحاب اليمين، فإنهم لا يحاسبون، قاله ابن جريج .

    قوله تعالى: يتساءلون عن المجرمين قال مقاتل: إذا خرج أهل التوحيد من النار قال المؤمنون لمن بقي في النار: "ما سلككم في سقر؟" قال المفسرون: سلككم بمعنى: أدخلكم . وقال مقاتل: ما حبسكم فيها؟ "قالوا لم نك من المصلين" لله في دار الدنيا "ولم نك نطعم المسكين" أي: لم نتصدق لله "وكنا نخوض مع الخائضين" أهل الباطل والتكذيب "وكنا نكذب بيوم الدين" أي" بيوم الجزاء والحساب "حتى أتانا اليقين" وهو الموت . يقول الله تعالى: فما تنفعهم [ ص: 412 ] شفاعة الشافعين وهذا إنما جرى بعد شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء والمؤمنين . وهذا يدل على نفع الشفاعة لمن آمن "فما لهم عن التذكرة معرضين؟" يعني: كفار قريش حين نفروا من القرآن والتذكير بمواعظه . والمعنى: لا شيء لهم في الآخرة إذ أعرضوا عن القرآن فلم يؤمنوا به، ثم شبههم في نفورهم عنه بالحمر، فقال تعالى: كأنهم حمر مستنفرة قرأ أبو جعفر ، ونافع، وابن عامر، والمفضل عن عاصم بفتح الفاء . والباقون بكسرها . قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: من قرأ بفتح الفاء أراد: مذعورة، استنفرت فنفرت . ومن قرأ بكسر الفاء أراد: نافرة . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حمر مستنفرة . وناس من العرب يكسرون الفاء . والفتح أكثر في كلام العرب . وقراءتنا بالكسر . أنشدني الكسائي:


    احبس حمارك إنه مستنفر في إثر أحمرة عمدن لغرب


    "وغرب" موضع .

    وفي "القسورة" سبعة أقوال .

    أحدها: أنه الأسد، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس . وبه قال أبو هريرة، وزيد بن أسلم، وابنه . قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه، فكذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم هربوا منه، [ ص: 413 ] وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، والزجاج . قال ابن قتيبة: كأنه من القسر والقهر . فالأسد يقهر السباع .

    والثاني: أن القسورة: الرماة، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال أبو موسى الأشعري، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، وابن كيسان .

    والثالث: أن القسورة: حبال الصيادين، رواه عكرمة عن ابن عباس .

    والرابع: أنهم عصب الرجال، رواه أبو حمزة عن ابن عباس . واسم أبي حمزة: نصر بن عمران الضبعي .

    والخامس: أنه ركز الناس، وهذا في رواية عطاء أيضا عن ابن عباس . وركز الناس: حسهم وأصواتهم .

    والسادس: أنه الظلمة والليل، قاله عكرمة .

    والسابع: أنه النبل، قاله قتادة .

    قوله تعالى: يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة فيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرك أن نتبعك، فليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله تعالى إلى فلان بن فلان يؤمر فيه باتباعك، قاله الجمهور .

    والثاني: أنهم أرادوا براءة من النار أن لا يعذبوا بها، قاله أبو صالح .

    والثالث: أنهم قالوا: كان الرجل إذا أذنب في بني إسرائيل وجده مكتوبا إذا أصبح في رقعة . فما بالنا لا نرى ذلك؟ فنزلت هذه الآية، قاله الفراء . فقال الله تعالى: كلا أي: لا يؤتون الصحف "بل لا يخافون الآخرة" أي: لا يخشون عذابها . والمعنى: أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات بعد قيام [ ص: 414 ] الدلالة "كلا" أي: حقا . وقيل: معنى "كلا": ليس الأمر كما يريدون ويقولون "إنه تذكرة" أي: تذكير وموعظة "فمن شاء ذكره" الهاء عائدة على القرآن فالمعنى: فمن شاء أن يذكر القرآن ويتعظ به ويفهمه، ذكره . ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال تعالى: "وما يذكرون إلا أن يشاء الله" أي: إلا أن يريد لهم الهدى "هو أهل التقوى" أي: أهل أن يتقى "وأهل المغفرة" أي: أهل أن يغفر لمن تاب . روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية، فقال: قال ربكم عز وجل: أنا أهل أن أتقى، فلا يشرك بي غيري . وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي غيري أن أغفر له .




  10. #530
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الْقِيَامَةِ
    الحلقة (530)
    صــ 415 إلى صــ 429






    سُورَةُ الْقِيَامَةِ

    وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره

    قوله تعالى: لا أقسم اتفقوا على أن المعنى "أقسم" واختلفوا في "لا" فجعلها بعضهم زائدة، كقوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد: 29] وجعلها بعضهم ردا على منكري البعث . ويدل عليه أنه "أقسم" على كون البعث . قال ابن قتيبة: زيدت "لا" على نية الرد على المكذبين، كما تقول: لا والله ما ذاك، ولو حذفت جاز، ولكنه أبلغ في الرد . وقرأ ابن كثير إلا ابن فليح "لأقسم" بغير ألف بعد اللام، فجعلت لاما دخلت على "أقسم"، وهي قراءة ابن عباس، وأبي عبد الرحمن، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، [ ص: 416 ] وابن محيصن . قال الزجاج: من قرأ "لأقسم" فاللام لام القسم والتوكيد . وهذه القراءة بعيدة في العربية، لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا مع النون، تقول: لأضربن زيدا . ولا يجوز: لأضرب زيدا .

    قوله تعالى: ولا أقسم بالنفس اللوامة قال الحسن: أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية . وقال قتادة: حكمها حكم الأولى .

    وفي "النفس اللوامة" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها المذمومة، قاله ابن عباس . فعلى هذا: هي التي تلوم نفسها حين لا ينفعها اللوم .

    والثاني: أنها النفس المؤمنة، قاله الحسن . قال: لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه على كل حال .

    والثالث: أنها جميع النفوس . قال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قال: هلا زدت . وإن كانت عملت سوءا، قال ليتني لم أفعل .

    قوله تعالى: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه المراد بالإنسان ها هنا: الكافر . وقال ابن عباس: يريد أبا جهل . وقال مقاتل: عدي بن ربيعة، وذلك أنه قال: أيجمع الله هذه العظام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "نعم" فاستهزأ [ ص: 417 ] منه، فنزلت هذه الآية . قال ابن الأنباري: وجواب القسم محذوف، كأنه: لتبعثن، لتحاسبن، فدل قوله تعالى: أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه على الجواب، فحذف .

    قوله تعالى: بلى وقف حسن . ثم يبتدأ "قادرين" على معنى: بلى نجمعها قادرين . ويصلح نصب "قادرين" على التكرير: بلى فليحسبنا قادرين "على أن نسوي بنانه" وفيه قولان .

    أحدهما: أن نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير، وحافر الحمار، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة والخياطة، هذا قول الجمهور .

    [ ص: 418 ] والثاني: نقدر على أن نسوي بنانه كما كانت، وإن صغرت عظامها، ومن قدر على جمع صغار العظام، كان على جمع كبارها أقدر، هذا قول ابن قتيبة، والزجاج . وقد بينا معنى البنان في [الأنفال: 12]

    قوله تعالى: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فيه قولان .

    أحدهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، قاله ابن عباس .

    والثاني: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، ويقول: سوف أتوب، قاله سعيد بن جبير . فعلى هذا: يكون المراد بالإنسان: المسلم . وعلى الأول: الكافر .

    قوله تعالى: يسأل أيان يوم القيامة أي: متى هو؟ تكذيبا به، وهذا هو الكافر "فإذا برق البصر" قرأ أهل المدينة، وأبان عن عاصم "برق" بفتح الراء، والباقون بكسرها . قال الفراء: العرب تقول: برق البصر يبرق، وبرق يبرق: إذا رأى هولا يفزع منه . و"برق" أكثر وأجود . قال الشاعر:


    فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق


    [ ص: 419 ] بالفتح . يقول: لا تفزع من هول الجراح التي بك . قال المفسرون: يشخص بصر الكافر يوم القيامة، فلا يطرف لما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا . وقال مجاهد: برق البصر عند الموت .

    قوله تعالى: وخسف القمر قال أبو عبيدة: كسف وخسف بمعنى واحد، أي: ذهب ضوؤه .

    قوله تعالى: وجمع الشمس والقمر إنما قال "جمع" لتذكير القمر، هذا قول أبي عبيدة . وقال الفراء: إنما لم يقل: جمعت، لأن المعنى: جمع بينهما . وفي معنى الآية قولان .

    أحدهما: جمع بين ذاتيهما . وقال ابن مسعود: جمعا كالبعيرين القرينين . وقال عطاء بن يسار: يجمعان ثم يقذفان في البحر . وقيل: يقذفان في النار . وقيل يجمعان، فيطلعان من المغرب .

    والثاني: جمع بينهما في ذهاب نورهما، قاله الفراء، والزجاج .

    قوله تعالى: يقول الإنسان يعني: المكذب بيوم القيامة "أين المفر" قرأ الجمهور بفتح الميم، والفاء، وقرأ ابن عباس، ومعاوية، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وعكرمة، والضحاك، وابن يعمر، وابن أبي عبلة: [ ص: 420 ] بكسر الفاء . قال الزجاج: فمن فتح، فالمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر، فالمعنى: أين مكان الفرار؟ تقول: جلست مجلسا بالفتح، يعني: جلوسا . فإذا قلت: مجلسا بالكسر، فأنت تريد المكان .

    قوله تعالى: كلا لا وزر قال ابن قتيبة: لا ملجأ . وأصل الوزر: الجبل الذي يمتنع فيه "إلى ربك يومئذ المستقر" أي: المنتهى والمرجع .

    "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" فيه ستة أقوال .

    أحدها: بما قدم قبل موته، وما سن من شيء فعمل به بعد موته، قاله ابن مسعود، وابن عباس .

    والثاني: ينبأ بأول عمله وآخره . قاله مجاهد .

    والثالث: بما قدم من الشر، وأخر من الخير، قاله عكرمة .

    والرابع: بما قدم من فرض، وأخر من فرض، قاله الضحاك .

    والخامس: بما قدم من معصية، وأخر من طاعة .

    والسادس: بما قدم من أمواله، وما خلف للورثة، قاله زيد بن أسلم .

    قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة قال الفراء: المعنى: بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي: رقباء يشهدون عليه بعمله، وهي: الجوارح . قال ابن قتيبة: فلما كانت جوارحه منه، أقامها مقامه . وقال أبو عبيدة: جاءت الهاء في "بصيرة" في صفة الذكر، كما جاءت في رجل "راوية"، و"طاغية"، وعلامة .

    قوله تعالى: ولو ألقى معاذيره في المعاذير قولان .

    أحدهما: أنه جمع عذر، فالمعنى: لو اعتذر، وجادل عن نفسه، فعليه من يكذب عذره، وهي: الجوارح، وهذا قول الأكثرين .

    [ ص: 421 ] والثاني: أن المعاذير جمع معذار، وهو: الستر . والمعاذير: الستور . فالمعنى: ولو أرخى ستوره، هذا قول الضحاك، والسدي، والزجاج . فيخرج في معنى "ألقى" قولان .

    أحدهما: قال، ومنه "فألقوا إليهم القول" [النحل: 36]، وهذا على القول الأول .

    والثاني: أرخى، وهذا على القول الثاني .

    لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة

    قوله تعالى: لا تحرك به لسانك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يشتد عليه حفظه، وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، مخافة أن لا يحفظه، فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعناها: لا تحرك بالقرآن لسانك لتعجل بأخذه "إن علينا جمعه وقرآنه" قال ابن قتيبة: أي: ضمه وجمعه في صدرك "فإذا قرأناه" أي: جمعناه "فاتبع قرآنه" أي: جمعه . قال المفسرون: [ ص: 422 ] يعني: اقرأ إذا فرغ جبريل من قراءته . قال ابن عباس: فاتبع قرآنه، أي: اعمل به . وقال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه "ثم إن علينا بيانه" فيه أربعة أقوال .

    أحدها: نبينه بلسانك، فتقرؤه كما أقرأك جبريل . وكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب، قرأه كما وعده الله، قاله ابن عباس .

    والثاني: إن علينا أن نجزي به يوم القيامة بما فيه من وعد ووعيد، قاله الحسن .

    والثالث: إن علينا بيان ما فيه من الأحكام، والحلال، والحرام، قاله قتادة .

    والرابع: علينا أن ننزله قرآنا عربيا، فيه بيان للناس، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: كلا قال عطاء: أي: لا يؤمن أبو جهل بالقرآن وبيانه، وقال ابن جرير: المعنى: ليس الأمر كما تقولون من أنكم لا تبعثون، ولكن دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للعاجلة .

    قوله تعالى بل تحبون العاجلة قرأ ابن كثير، وأبو عمرو "بل يحبون العاجلة ويذرون" بالياء فيهما . وقرأ الباقون بالتاء فيهما . والمراد: كفار مكة، يحبونها ويعملون لها "ويذرون الآخرة" أي: يتركون العمل لها إيثارا للدنيا عليها .

    قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة أي: مشرقة بالنعيم "إلى ربها ناظرة" روى عطاء عن ابن عباس قال: إلى الله ناظرة . قال الحسن: حق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وهذا مذهب عكرمة . ورؤية الله عز وجل [ ص: 423 ] حق لا شك فيها . والأحاديث فيها صحاح، قد ذكرت جملة منها في "المغني" و"الحدائق" .

    قوله تعالى: ووجوه يومئذ باسرة قال ابن قتيبة: أي: عابسة مقطبة .

    قوله تعالى: تظن قال الفراء: أي: تعلم، و"الفاقرة" الداهية . قال ابن قتيبة: إنه من فقارة الظهر، كأنها تكسره، يقال: فقرت الرجل: إذا كسرت فقاره، كما يقال: رأسته: إذا ضربت رأسه، وبطنته: إذا ضربت بطنه . قال ابن زيد: والفاقرة: دخول النار . قال ابن السائب: هي أن تحجب عن ربها، فلا تنظر إليه .

    كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى

    قوله تعالى: كلا قال الزجاج: "كلا" ردع وتنبيه . المعنى: ارتدعوا [ ص: 424 ] عما يؤدي إلى العذاب . وقال غيره: معنى "كلا": لا يؤمن الكافر بهذا .

    قوله تعالى: إذا بلغت يعني: النفس . وهذه كناية عن غير مذكور .

    و "التراقي" العظام المكتنفة لنقرة النحر عن يمين وشمال . وواحدة التراقي: ترقوة، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاء على الموت، "وقيل من راق" فيه قولان .

    أحدهما: أنه قول الملائكة بعضهم لبعض: من يرقى روحه، ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب؟ رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية ومقاتل .

    والثاني: أنه قول أهله: هل من راق يرقيه بالرقى؟ وهو مروي عن ابن عباس أيضا، وبه قال عكرمة، والضحاك، وأبو قلابة، وقتادة، وابن زيد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج .

    قوله تعالى: وظن أي: أيقن الذي بلغت روحه التراقي "أنه الفراق" للدنيا "والتفت الساق بالساق" فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أمر الدنيا بأمر الآخرة، رواه الوالبي عن ابن عباس: وبه قال مقاتل .

    والثاني: اجتمع فيه الحياة والموت، قاله الحسن . وعن مجاهد كالقولين .

    والثالث: التفت ساقاه في الكفن، قاله سعيد بن المسيب .

    والرابع: التفت ساقاه عند الموت، قاله الشعبي . [ ص: 425 ] والخامس: الشدة بالشدة، قاله قتادة . قال الزجاج: آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة .

    قوله تعالى إلى ربك يومئذ المساق أي: إلى الله المنتهى "فلا صدق ولا صلى" قال أبو عبيدة: "لا" ها هنا" في موضع "لم" . قال المفسرون: هو أبو جهل "ولكن كذب وتولى" عن الإيمان "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" أي: رجع إليهم يتبختر ويختال . قال الفراء: "يتمطى" أي: يتبختر، لأن الظهر هو المطا، فيلوي ظهره متبخترا . وقال ابن قتيبة: أصله يتمطط، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل: يتظنى، وأصله: يتظنن، ومنه المشية المطيطاء . وأصل الطاء في هذا كله دال . إنما هو مد يده في المشي إذا تبختر . يقال: مططت ومددت بمعنى .

    قوله تعالى: أولى لك فأولى قال ابن قتيبة: هو تهديد ووعيد . وقال الزجاج: العرب تقول: أولى لفلان: إذا دعت عليه بالمكروه، ومعناه: وليك المكروه يا أبا جهل .

    قوله تعالى أيحسب الإنسان يعني: أبا جهل "أن يترك سدى" قال ابن قتيبة: أي: يهمل فلا يؤمر ولا ينهى ولا يعاقب، يقال: أسديت الشيء، أي: أهملته . ثم دل على البعث بقوله تعالى: ألم يك نطفة من مني يمنى قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "تمنى" بالتاء . وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم، ويعقوب "يمنى" بالياء . وعن [ ص: 426 ] أبى عمرو كالقراءتين . وقد شرحنا هذا في [النجم: 24] "ثم كان علقة" بعد النطفة "فخلق" فيه الروح، وسوى خلقه "فجعل منه" أي: خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا "أليس ذلك" الذي فعل هذا "بقادر؟" وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري "يقدر" "على أن يحيي الموتى؟!" وهذا تقرير لهم، أي: إن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة . قال ابن عباس: إذا قرأ أحدكم هذه الآية، فليقل: اللهم بلى .

    سُورَةُ الدَّهْرِ

    سُورَةُ هَلْ أَتَى: وَيُقَالُ لَهَا: سُورَةُ الْإِنْسَانِ

    وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أحدها: أنها مدنية كلها، قاله الجمهور منهم، مجاهد وقتادة .

    والثاني: مكية، قاله ابن يسار، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس .

    والثالث: أن فيها مكيا ومدنيا . ثم في ذلك قولان .

    أحدهما: أن المكي منها آية، وهو قوله تعالى: ولا تطع منهم آثما أو كفورا وباقيها جميعه مدني، قاله الحسن وعكرمة .

    والثاني: أن أولها مدني إلى قوله تعالى: إنا نحن نزلنا عليك القرآن [الإنسان: 24] ومن هذه الآية إلى آخرها مكي، حكاه الماوردي .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا

    قوله تعالى: هل أتى قال الفراء: معناه: قد أتى . و"هل" تكون خبرا، وتكون جحدا، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل وعظتك؟ هل [ ص: 428 ] أعطيتك؟ فتقرره بأنك قد فعلت ذلك . والجحد، أن تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا؟ وهذا قول المفسرين، وأهل اللغة . وفي هذا الإنسان قولان .

    أحدهما: أنه آدم عليه السلام . والحين الذي أتى عليه: أربعون سنة، وكان مصورا من طين لم ينفخ فيه الروح، هذا قول الجمهور .

    والثاني: أنه جميع الناس، روي عن ابن عباس، وابن جريج، فعلى هذا يكون الإنسان اسم جنس، ويكون الحين زمان كونه نطفة، وعلقة، ومضغة .

    قوله تعالى: لم يكن شيئا مذكورا المعنى: أنه كان شيئا، غير أنه لم يكن مذكورا .

    قوله تعالى: إنا خلقنا الإنسان يعني: ولد آدم "من نطفة أمشاج" قال ابن قتيبة: أي: أخلاط . يقال: مشجته، فهو مشيج، يريد: اختلاط ماء المرأة بماء الرجل .

    قوله تعالى نبتليه قال الفراء: هذا مقدم، ومعناه التأخير، لأن المعنى: خلقناه وجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه . قال الزجاج: المعنى: جعلناه كذلك لنختبره . وقوله تعالى: إنا هديناه السبيل أي: بينا له سبيل الهدى بنصب الأدلة، وبعث الرسول "إما شاكرا" أي: خلقناه إما شاكرا "وإما كفورا" قال [ ص: 429 ] الفراء: بينا له الطريق إن شكر، أو كفر .

    إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا [ ص: 430 ] أمثالهم تبديلا إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما




  11. #531
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثامن

    سُورَةُ الدَّهْرِ
    الحلقة (531)
    صــ 430 إلى صــ 444






    قوله تعالى: ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا ) قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، "سلاسل" بغير تنوين، ووقفوا بألف . ووقف أبو عمرو بألف . قال مكي بن أبي طالب النحوي: "سلاسل" و"قوارير" أصله أن لا ينصرف، ومن صرفه من القراء، فإنها لغة لبعض العرب . وقيل: إنما صرفه لأنه وقع في المصحف بالألف، فصرفه لاتباع خط المصحف . قال مقاتل: السلاسل في أعناقهم، والأغلال في أيديهم . وقد شرحنا معنى "السعير" في [النساء: 10] .

    قوله تعالى إن الأبرار واحدهم بر، وبار، وهم الصادقون . وقيل: المطيعون . وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر "يشربون من كأس" أي: من إناء فيه شراب "كان مزاجها" يعني: مزاج الكأس "كافورا" وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الكافور المعروف، قاله مجاهد، ومقاتل، فعلى هذا في المراد "بالكافور" ثلاثة أقوال . أحدها: برده، قاله الحسن . والثاني: ريحه، قاله قتادة . والثالث: طعمه، قاله السدي .

    والثاني أنه اسم عين في الجنة، قاله عطاء، وابن السائب .

    والثالث أن المعنى: مزاجها كالكافور لطيب ريحه، أجازه الفراء، والزجاج .

    قوله تعالى: عينا قال الفراء: هي المفسرة للكافور، وقال الأخفش: هي منصوبة على معنى: أعني عينا . وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من عين، "يشرب بها" فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 431 ] أحدها: يشرب منها . والثاني: يشربها، والباء صلة . والثالث: يشرب بها عباد الله الخمر يمزجونها بها . وفي هذه العين قولان .

    أحدهما: أنها الكافور الذي سبق ذكره .

    والثاني: التسنيم، "وعباد الله" ها هنا: أولياؤه "يفجرونها تفجيرا" قال مجاهد: يقودونها إلى حيث شاؤوا من الجنة . قال الفراء: حيث ما أحب الرجل من أهل الجنة فجرها لنفسه .

    قوله تعالى: يوفون بالنذر قال الفراء: فيه إضمار "كانوا" يوفون بالنذر . وفيه قولان .

    أحدهما: يوفون بالنذر إذا نذروا في طاعة الله، قاله مجاهد، وعكرمة .

    والثاني: يوفون بما فرض الله عليهم، قاله قتادة . ومعنى "النذر" في اللغة: الإيجاب . فالمعنى: يوفون بالواجب عليهم "ويخافون يوما كان شره مستطيرا" قال ابن عباس: فاشيا . وقال ابن قتيبة: فاشيا منتشرا . يقال: استطار الحريق: إذا انتشر، واستطار الفجر إذا انتشر الضوء . وانشدوا للأعشى:


    فبانت وقد أسأرت في الفؤا د صدعا على نأيها مستطيرا


    [ ص: 432 ] وقال مقاتل: كان شره فاشيا في السموات، فانشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس والقمر في الأرض، ونسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل، وبناء، وفشا شر يوم القيامة فيها .

    قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

    أحدهما: نزلت في علي بن أبي طالب . آجر نفسه ليسقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح . فلما قبض الشعير طحن ثلثه، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه، فلما استوى أتى مسكين، فأخرجوه إليه، ثم عمل الثلث الثاني، فلما تم أتى يتيم، فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي، فلما استوى جاء أسير من المشركين، فأطعموه وطووا يومهم ذلك، فنزلت هذه الآيات، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني: أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري صام يوما، فلما أراد أن يفطر جاء مسكين، ويتيم، وأسير، فأطعمهم ثلاثة أرغفة، وبقي له ولأهله رغيف واحد، فنزلت فيهم هذه الآية، قاله مقاتل .

    [ ص: 433 ] وفي هاء الكناية في قوله تعالى: على حبه قولان .

    أحدهما: ترجع إلى الطعام، فكأنهم كانوا يؤثرون وهم محتاجون إليه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والزجاج، والجمهور .

    والثاني: ترجع إلى الله تعالى، قاله الداراني . وقد سبق معنى "المسكين واليتيم" [البقرة: 83] . وفي الأسير أربعة أقوال .

    أحدها: أنه المسجون من أهل القبلة، قاله عطاء، ومجاهد، وابن جبير . والثاني: أنه الأسير المشرك، قاله الحسن، وقتادة . والثالث: المرأة، قاله [ ص: 434 ] أبو حمزة الثمالي . والرابع: العبد، ذكره الماوردي .

    فصل

    وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تضمنت مدحهم على إطعام الأسير المشرك . قال: وهذا منسوخ بآية السيف . وليس هذا القول بشيء، فإن في إطعام الأسير المشرك ثوابا، وهذا محمول على صدقة التطوع . فأما الفرض فلا يجوز صرفه إلى الكفار، ذكره القاضي أبو يعلى .

    قوله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله أي: لطلب ثواب الله . قال مجاهد، وابن جبير: أما إنهم ما تكلموا بهذا، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب .

    قوله تعالى: لا نريد منكم جزاء أي: بالفعل "ولا شكورا" بالقول "إنا نخاف من ربنا يوما" أي: ما في يوم "عبوسا" قال ابن قتيبة: أي: تعبس فيه الوجوه، فجعله من صفة اليوم، كقوله تعالى: "في يوم عاصف" [إبراهيم: 18]، أراد عاصف الريح . فأما "القمطرير" فروى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه الطويل . وروى عنه العوفي أنه قال: هو الذي يقبض فيه الرجل ما بين عينيه . فعلى هذا يكون اليوم موصوفا بما يجري فيه، كما قلنا في "العبوس" لأن اليوم لا يوصف بتقبيض ما بين العينين . وقال مجاهد، وقتادة: [ ص: 435 ] "القمطرير" الذي يقلص الوجوه، ويقبض الحياة، وما بين الأعين من شدته . وقال الفراء: هو الشديد . يقال: يوم قمطرير، ويوم قماطر . وأنشدني بعضهم:


    بني عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذا ما كان يوم قماطر


    وقال أبو عبيدة: العبوس، والقمطرير، والقماطر، والعصيب، والعصبصب: أشد ما يكون من الأيام، وأطوله في البلاء .

    قوله تعالى: فوقاهم الله شر ذلك اليوم بطاعتهم في الدنيا "ولقاهم نضرة" أي: حسنا وبياضا في الوجوه "وسرورا" لا انقطاع له . وقال الحسن: النضرة في الوجوه، والسرور في القلوب "وجزاهم بما صبروا" على طاعته، وعن معصيته "جنة وحريرا" وهو لباس أهل الجنة "متكئين فيها" قال الزجاج: هو منصوب على الحال، أي جزاهم جنة في حال اتكائهم فيها .

    وقد شرحنا هذا في [الكهف: 31] .

    قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا فيؤذيهم حرها ولا "زمهريرا" وهو البرد الشديد . والمعنى: لا يجدون فيها الحر والبرد . وحكي عن ثعلب أنه قال: الزمهرير: القمر، وأنشد:


    وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر


    أي: لم يطلع القمر .

    [ ص: 436 ] قوله تعالى: ودانية قال الفراء: المعنى: وجزاهم جنة، ودانية عليهم ظلالها، أي: قريبة منهم ظلال أشجارها "وذللت قطوفها تذليلا" قال ابن عباس: إذا هم أن يتناول من ثمارها تدلت إليه حتى يتناول ما يريد . وقال غيره: قربت إليهم مذللة كيف شاؤوا، فهم يتناولونها قياما، وقعودا، ومضطجعين، فهو كقوله تعالى:قطوفها دانية [الحاقة: 23] . فأما "الأكواب" فقد شرحناها في [الزخرف: 71] "كانت قواريرا" أي: تلك الأكواب هي قوارير، ولكنها من فضة . قال ابن عباس: لو ضربت فضة الدنيا حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، وقوارير الجنة من فضة في صفاء القارورة . وقال الفراء: وابن قتيبة: هذا على التشبيه، المعنى: كأنها من فضة، أي: لها بياض كبياض الفضة وصفاء كصفاء القوارير . وكان نافع، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم يقرؤون "قواريرا قواريرا" فيصلونهما جميعا بالتنوين . ويقفون عليهما بالألف . وكان ابن عامر وحمزة يصلانهما جميعا بغير تنوين، ويقفان عليهما بغير ألف . وكان ابن كثير يصل الأول بالتنوين، ويقف عليه بالألف، ويصل الثاني بغير تنوين، ويقف بغير ألف . وروى حفص عن عاصم أنه كان يقرأ "سلاسل" و"قوارير قوارير" يصل الثلاثة بغير تنوين، ويقف على الثلاثة بالألف . وكان أبو عمرو يقرأ الأول "قواريرا" فيقف عليه بالألف، ويصل بغير تنوين . وقال الزجاج: الاختيار عند النحويين أن لا يصرف "قوارير" لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف . ومن قرأ "قواريرا" يصرف الأول علامة رأس آية، وترك صرف الثاني لأنه ليس بآخر آية . ومن صرف الثاني: أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب [ ص: 437 ] الشيء لتتبع اللفظ اللفظ، كما قالوا: جحر ضب خرب . وإنما الخرب من نعت الجحر .

    قوله تعالى قدروها تقديرا وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو عمران، والجحدري، وابن يعمر "قدروها" برفع القاف، وكسر الدال، وتشديدها . وقرأ حميد، وعمرو بن دينار "قدروها" بفتح القاف، والدال، وتخفيفها .

    ثم في معنى الآية قولان .

    أحدهما: قدروها في أنفسهم، فجاءت على ما قدروا، قاله الحسن . وقال الزجاج: جعل الإناء على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه على تقديرهم .

    والثاني: قدروها على مقدار لا يزيد ولا ينقص، قاله مجاهد . وقال غيره: قدر الكأس على قدر ريهم، لا يزيد عن ريهم فيثقل الكف، ولا ينقص منه فيطلب الزيادة، وهذا ألذ الشراب . فعلى هذا القول يكون الضمير في "قدروا" للسقاة والخدم . وعلى الأول للشاربين .

    قوله تعالى: ويسقون فيها يعني في الجنة "كأسا كان مزاجها زنجبيلا" والعرب تضرب المثل بالزنجبيل والخمر ممزوجين . قال المسيب بن علس يصف فم امرأة:


    فكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته وسلافة الخمر


    [ ص: 438 ] وقال آخر:


    كأن القرنفل والزنجبي لـ باتا بفيها وأريا مشارا


    الأري: العسل . والمشار: المستخرج من بيوت النحل . قال مجاهد: والزنجبيل: اسم العين التي منها شراب الأبرار . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: الزنجبيل معرب . وقال الدينوري: ينبت في أرياف عمان، وهي عروق تسري في الأرض، وليس بشجرة تؤكل رطبا، وأجود ما يحمل من بلاد الصين . قال الزجاج: وجائز أن يكون فيها طعم الزنجبيل، والكلام فيه كالكلام السابق في الكافور . وقيل: شراب الجنة على برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك .

    قوله تعالى: عينا فيها قال الزجاج: يسقون عينا . وسلسبيل: اسم العين، إلا أنه صرف لأنه رأس آية . وهو في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة . فكأن العين وصفت وسميت بصفتها . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قوله تعالى: تسمى سلسبيلا قيل: هو اسم أعجمي نكرة، فلذلك انصرف . وقيل: هو اسم معرفة، إلا أنه أجري، لأنه رأس آية . وعن مجاهد قال: حديدة الجرية . وقيل: سلسبيل: سلس ماؤها، مستقيد لهم . وقال ابن الأنباري: السلسبيل صفة للماء، لسلسه وسهولة مدخله في الحلق . يقال: شراب سلسل، وسلسال، وسلسبيل . وحكى الماوردي: أن عليا قال: المعنى: سل سبيلا إليها، ولا يصح .

    [ ص: 439 ] قوله تعالى: ويطوف عليهم ولدان مخلدون قد سبق بيانه [الواقعة: 17] "إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا" أي: في بياض اللؤلؤ وحسنه، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظرا . وإنما شبهوا باللؤلؤ المنثور، لانتشارهم في الخدمة . ولو كانوا صفا لشبهوه بالمنظوم . "وإذا رأيت ثم" يعني: الجنة "رأيت نعيما" لا يوصف "وملكا كبيرا" أي: عظيما واسعا لا يريدون شيئا إلا قدروا عليه، ولا يدخل عليهم ملك إلا باستئذان .

    قوله تعالى: عاليهم قرأ أهل المدينة، وحمزة، والمفضل عن عاصم بإسكان الياء، وكسر الهاء . وقرأ الباقون بفتح الياء، إلا أن الجعفي عن أبي بكر قرأ "عاليتهم" بزيادة تاء مضمومة . وقرأ أنس بن مالك، ومجاهد، وقتادة "عليهم" بفتح اللام، وإسكان الياء من غير تاء، ولا ألف .

    قال الزجاج: فأما تفسير إعراب "عاليهم" بإسكان الياء، فيكون رفعه بالابتداء، ويكون الخبر"ثياب سندس" وأما "عاليهم" بفتح الياء، فنصبه على الحال من شيئين، أحدهما: من الهاء والميم، والمعنى: يطوف على الأبرار ولدان مخلدون عاليا للأبرار ثياب سندس، لأنه وصف أحوالهم في الجنة، فيكون المعنى: يطوف عليهم في هذه الحال هؤلاء . ويجوز أن يكون حالا من الولدان . المعنى: إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب . وأما "عاليتهم" فقد قرئت بالرفع وبالنصب، وهما وجهان جيدان في العربية، إلا أنهما يخالفان المصحف، فلا أرى القراءة بهما، وتفسيرها كتفسير "عاليهم" .

    قوله تعالى: ثياب سندس خضر قرأ ابن عامر، وأبو عمرو "خضر" رفعا "وإستبرق" خفضا . وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم "خضر" [ ص: 440 ] خفضا "وإستبرق" رفعا . وقرأ نافع، وحفص عن عاصم "خضر وإستبرق" كلاهما بالرفع . وقرأ حمزة، والكسائي "خضر وإستبرق" كلاهما بالخفض . قال الزجاج: من قرأ "خضر" بالرفع، فهو نعت الثياب، ولفظ الثياب لفظ الجمع، ومن قرأ "خضر" فهو من نعت السندس، والسندس في المعنى راجع إلى الثياب . ومن قرأ "وإستبرق" فهو نسق على "ثياب" المعنى: وعليهم إستبرق . ومن خفض، عطفه على السندس، فيكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين . وقد بينا في [الكهف 31] معنى السندس، والإستبرق، والأساور .

    قوله تعالى: وسقاهم ربهم شرابا طهورا فيه قولان .

    أحدهما: لا يحدثون ولا يبولون عن شرب خمر الجنة، قاله عطية .

    والثاني: لأن خمر الجنة طاهرة، وليست بنجسة كخمر الدنيا، قاله الفراء . وقال أبو قلابة: يؤتون بعد الطعام بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بذلك بطونهم، ويفيض من جلودهم عرق مثل ريح المسك .

    قوله تعالى: إن هذا يعني: ما وصف من نعيم الجنة "كان لكم جزاء" بأعمالكم "وكان سعيكم" أي: عملكم في الدنيا بطاعته "مشكورا" قال عطاء: يريد: شكرتكم عليه، وأثيبكم أفضل الثواب "إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا" أي: فصلناه في الإنزال، فلم ننزله جملة واحدة "فاصبر لحكم ربك" وقد سبق بيانه في مواضع [الطور: 48،والقلم: 48] . والمفسرون يقولون: هذا منسوخ بآية السيف، ولا يصح، "ولا تطع منهم" أي: من مشركي أهل مكة "آثما أو كفورا" "أو" بمعنى الواو، كقوله تعالى: أو الحوايا [الأنعام: 146] . وقد سبق هذا . وللمفسرين في المراد بالآثم والكفور ثلاثة أقوال .

    [ ص: 441 ] أحدها: أنهما صفتان لأبي جهل . والثاني: أن الآثم: عتبة بن ربيعة، والكفور: الوليد بن المغيرة . والثالث: الآثم: الوليد . والكفور: عتبة، وذلك أنهما قالا له: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج .

    "واذكر اسم ربك" أي: اذكره بالتوحيد في الصلاة "بكرة" يعني: الفجر "وأصيلا" يعني: العصر . وبعضهم يقول: صلاة الظهر والعصر "ومن الليل فاسجد له" يعني: المغرب والعشاء . "وسبحه ليلا طويلا" وهي: صلاة الليل، كانت فريضة عليه، وهي لأمته تطوع "إن هؤلاء" يعني: كفار مكة "يحبون العاجلة" أي: الدار العاجلة، وهي الدنيا "ويذرون وراءهم" أي: أمامهم "يوما ثقيلا" أي: عسيرا شديدا . والمعنى: أنهم يتركون الإيمان به، والعمل له . ثم ذكر قدرته، فقال تعالى: "نحن خلقناهم وشددنا أسرهم" أي: خلقهم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج . قال ابن قتيبة: يقال: امرأة حسنة الأسر، أي: حسنة الخلق، كأنها أسرت، أي: شدت . وأصل هذا من الإسار، وهو: القد . [الذي تشد به الأقتاب] يقال: ما أحسن ما أسر قتبه، أي: ما أحسن ما شده [بالقد] . وروي عن أبي هريرة قال: مفاصلهم . وعن الحسن قال: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب "وإذا شئنا بدلنا أمثالهم" أي: إن شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم، فجعلناهم بدلا منهم "إن هذه تذكرة" قد شرحنا الآية في [المزمل: 19] .

    قوله تعالى: وما تشاءون إيجاد السبيل "إلا أن يشاء الله" ذلك لكم . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، "وما يشاؤون" بالياء .

    [ ص: 442 ] قوله تعالى: يدخل من يشاء في رحمته قال المفسرون: الرحمة ها هنا: الجنة "والظالمين" المشركون . قال أبو عبيدة: نصب "الظالمين" بالجوار . المعنى: ولا يدخل الظالمين في رحمته . وقال الزجاج: إنما نصب "الظالمين" لأن قبله منصوبا . المعنى: يدخل من يشاء في رحمته، ويعذب الظالمين، ويكون قوله تعالى: أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر، وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وابن أبي عبلة "والظالمون" رفعا .

    سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ

    مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ

    وحكي عن ابن عباس، وقتادة، ومقاتل أن فيها آية مدنية، وهي قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [المرسلات: 48] .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا إنما توعدون لواقع فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ويل يومئذ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن [ ص: 444 ] لهم فيعتذرون ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون

    قوله تعالى: والمرسلات عرفا فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنها الرياح يتبع بعضها بعضا، رواه أبو العبيدين عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة .

    والثاني: أنها الملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه، رواه مسروق عن ابن مسعود، وبه قال أبو هريرة، ومقاتل . وقال الفراء: هي الملائكة .

    فأما قوله تعالى: عرفا فيقال: أرسلت بالمعروف، ويقال: تتابعت كعرف الفرس . والعرب تقول: يركب الناس إلى فلان عرفا واحدا: إذا توجهوا إليه فأكثروا . قال ابن قتيبة: يريد أن الملائكة متتابعة بما ترسل به . وأصله من عرف الفرس، لأنه سطر مستو بعضه في إثر بعض، فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا .




  12. #532
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ النَّبَإِ
    الحلقة (532)
    صــ 3 إلى صــ 10




    والثالث: أنهم الرسل بما يعرفون به من المعجزات، وهذا معنى قول أبي صالح، ذكره الزجاج .

    والرابع: الملائكة والريح، قاله أبو عبيدة . قال: ومعنى "عرفا": يتبع بعضها بعضا . يقال: جاؤوني عرفا . وفي "العاصفات" قولان .

    أحدهما: أنها الرياح الشديدة الهبوب، قاله الجمهور .

    والثاني: الملائكة، قاله مسلم بن صبيح . قال الزجاج: تعصف بروح الكافر . وفي "الناشرات" خمسة أقوال .

    أحدها: أنها الرياح تنشر السحاب، قاله ابن مسعود، والجمهور .

    والثاني: الملائكة تنشر الكتب، قاله أبو صالح .

    والثالث: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد، قاله الضحاك .

    والرابع: البعث للقيامة تنشر فيه الأرواح، قاله الربيع .

    والخامس: المطر ينشر النبات، حكاه الماوردي .

    وفي "الفارقات" أربعة أقوال .

    أحدها: الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل، قاله الأكثرون .

    والثاني: آي القرآن فرقت بين الحلال والحرام، قاله الحسن، وقتادة، وابن كيسان .

    والثالث: الريح تفرق بين السحاب فتبدده، قاله مجاهد .

    والرابع: الرسل، حكاه الزجاج .

    "فالملقيات ذكرا" قولان .

    أحدهما: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء، وهذا مذهب ابن عباس، وقتادة، والجمهور .

    والثاني: الرسل يلقون ما أنزل عليهم إلى الأمم، قاله قطرب .

    قوله تعالى: عذرا أو نذرا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم "عذرا" خفيفا "أو نذرا" مثقلا . وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص، وخلف "عذرا أو نذرا" خفيفتان . قال الفراء: وهو مصدر، مثقلا كان أو مخففا . ونصبه على معنى: أرسلت بما أرسلت به إعذارا من الله وإنذارا . وقال الزجاج: المعنى: فالملقيات عذرا أو نذرا . ويجوز أن يكون المعنى: فالملقيات ذكرا للإعذار والإنذار . وهذه المذكورات مجرورات بالقسم . وجواب القسم "إنما توعدون لواقع" قال المفسرون:إن ما توعدون به من أمر الساعة، والبعث، والجزاء لواقع، أي: لكائن . ثم ذكر متى يقع فقال تعالى: فإذا النجوم طمست أي: محي نورها "وإذا السماء فرجت" أي: شقت "وإذا الجبال نسفت" قال الزجاج: أي: ذهب بها كلها بسرعة . يقال: انتسفت الشيء: إذا أخذته بسرعة .

    قوله تعالى: وإذا الرسل أقتت قرأ أبو عمرو "وقتت" بواو مع تشديد القاف . ووافقه أبو جعفر ، إلا أنه خفف القاف . وقرأ الباقون: "أقتت" بألف مكان الواو مع تشديد القاف . قال الزجاج: وقتت وأقتت بمعنى واحد . فمن قرأ "أقتت" بالهمز، فإنه أبدل الهمزة من الواو لانضمام الواو . وكل واو انضمت، وكانت ضمتها لازمة، جاز أن تبدل منها همزة . وقال الفراء: الواو إذا كانت أول حرف، وضمت، همزت تقول: صلى القوم أحدانا . وهذه أجوه حسان . ومعنى "أقتت": جمعت لوقتها يوم القيامة . وقال ابن قتيبة: جمعت لوقت، وهو يوم القيامة . وقال الزجاج: جعل لها وقت واحد لفصل القضاء بين الأمة .

    قوله تعالى: لأي يوم أجلت أي: أخرت . وضرب الأجل لجمعهم، يعجب العباد من هول ذلك اليوم . ثم بينه فقال تعالى: ليوم الفصل وهو يوم يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق . ثم عظم ذلك اليوم بقوله: "وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين" بالبعث . ثم أخبر الله تعالى عما فعل بالأمم المكذبة، فقال: "ألم نهلك الأولين" يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم "ثم نتبعهم الآخرين" والقراء على رفع العين في "نتبعهم"، وقد قرأ قوم منهم أبو حيوة بإسكان العين . قال الفراء: "نتبعهم" مرفوعة . ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود "وسنتبعهم الآخرين: . ولو جزمت [ ص: 448 ] على معنى: ألم نقدر على إهلاك الأولين وإتباعهم الآخرين كان وجها جيدا . وقال الزجاج: الجزم عطف على "نهلك"، ويكون المعنى: لمن أهلك أولا وآخرا . والرفع على معنى: ثم نتبع الأول الآخر من كل مجرم . وقال مقاتل: ثم نتبعهم الآخرين: يعني"كفار مكة حين كذبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن جرير: الأولون: قوم نوح، وعاد، وثمود، والآخرون: قوم إبراهيم، ولوط، ومدين .

    قوله تعالى: كذلك أي: مثل ذلك "نفعل بالمجرمين" يعني: المكذبين .

    فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله تعالى: " ويل يومئذ للمكذبين " ؟

    فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئا قال: "ويل يومئذ للمكذبين" بهذا .

    قوله تعالى: ألم نخلقكم قرأ قالون عن نافع بإظهار القاف . وقرأ الباقون بإدغامها .

    قوله تعالى: من ماء مهين أي: ضعيف "فجعلناه في قرار مكين" يعني: الرحم "إلى قدر معلوم" وهو مدة الحمل "فقدرنا" قرأ أهل المدينة، والكسائي "فقدرنا" بالتشديد . وقرأ الباقون: بالتخفيف . وهل بينهما فرق؟ .

    فيه قولان .

    أحدهما: أنهما لغتان بمعنى واحد . قال الفراء: تقول العرب: قدر عليه، وقدر عليه . وقد احتج من قرأ بالتخفيف فقال: لو كانت مشددة لقال: فنعم المقدرون، فأجاب الفراء فقال: قد تجمع العرب بين اللغتين،كقوله تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [الطارق: 17] . قال الشاعر:


    وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا


    يقول: ما أنكرت إلا ما يكون في الناس .

    والثاني: أن المخففة من القدرة والملك، والمشددة من التقدير والقضاء . ثم بين لهم صنعه ليعتبروا فيوحدوه . فقال تعالى: ألم نجعل الأرض كفاتا قال اللغويون: الكفت في اللغة: الضم . والمعنى: أنها تضم أهلها أحياء على ظهرها، وأمواتا في بطنها . قال ابن قتيبة: يقال: اكفت هذا إليك، أي: ضمه . وكانوا يسمون بقيع الغرقد: كفتة، لأنه مقبرة يضم الموتى .

    وفي قوله تعالى: أحياء وأمواتا قولان .

    أحدهما: أن المعنى: تكفتهم أحياء وأمواتا، قاله الجمهور . قال الفراء: وانتصب الأحياء والأموات بوقوع الكفات عليهم، كأنك قلت: ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات، فإذا نونت نصبت كما يقرأ "أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما" [البلد: 14] . وقال الأخفش: انتصب على الحال .

    والقول الثاني: أن المعنى: ألم نجعل الأرض أحياء بالنبات والعمارة، وأمواتا بالخراب واليبس، هذا قول مجاهد، وأبي عبيدة .

    قوله تعالى: وجعلنا فيها رواسي قد سبق بيان "شامخات" أي: عاليات "وأسقيناكم" قد سبق معنى "أسقينا"، [الحجر: 22: والجن: 16] ومعنى "الفرات" [الفرقان: 53، وفاطر: 12] والمعنى: إن هذه الأشياء أعجب من البعث . ثم ذكر ما يقال لهم في الآخرة: "انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون" في الدنيا، وهو النار "انطلقوا إلى ظل" قرأ الجمهور هذه الثانية بكسر اللام على الأمر . وقرأ أبي بن كعب وأبي عمران، ورويس عن يعقوب بفتح اللام على الخبر بالفعل الماضي . قال ابن قتيبة: "والظل" هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار "لا ظليل" أي: يظلكم من حر هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس . قال مجاهد: تكون شعبة فوق الإنسان، وشعبة عن يمينه، وشعبة عن شماله، فتحيط به . وقال الضحاك: الشعب الثلاث: هي الضريع، والزقوم، والغسلين . فعلى هذا القول يكون هذا بعد دخول النار .

    قوله تعالى: ولا يغني من اللهب أي: لا يدفع عنكم لهب جهنم . ثم وصف النار فقال تعالى: إنها ترمي بشرر ، وهو جمع شررة ، وهو ما يتطاير من النار متفرقا "كالقصر" قرأ الجمهور بإسكان الصاد على أنه واحد القصور المبنية . وهذا المعنى في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول الجمهور . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، ومجاهد، وأبو الجوزاء "كالقصر" بفتح الصاد . وفي أفراد البخاري من حديث ابن عباس قال: كنا نرفع الخشب [بقصر] ثلاثة أذرع أو أقل [فنرفعه] للشتاء، فنسميه: القصر . قال ابن قتيبة: من فتح الصاد أراد: أصول النخل المقطوعة . المقلوعة قال الزجاج: أراد أعناق الإبل . وقرأ سعد ابن أبي وقاص، وعائشة، وعكرمة، وأبو مجلز، وأبو المتوكل ، وابن يعمر "كالقصر" بفتح القاف، وكسر الصاد . وقرأ ابن مسعود، وأبو هريرة، والنخعي "كالقصر" برفع القاف والصاد جميعا . وقرأ أبو الدرداء، وسعيد بن جبير "كالقصر" بكسر القاف، وفتح الصاد، وقرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ "كالقصر" بضم القاف وإسكان الصاد .

    قوله تعالى: كأنه جمالت قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم "جمالات" بألف، وكسر الجيم . وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم "جمالة" على التوحيد . وقرأ رويس عن يعقوب "جمالات" بضم الجيم . وقرأ أبو رزين ، وحميد، وأبو حيوة "جمالة" برفع الجيم على التوحيد . قال الزجاج: من قرأ "جمالات" بالكسر، فهو جمع جمال، كما تقول: بيوت، وبيوتات، وهو جمع الجمع، فالمعنى: كأن الشرارات كالجمالات . ومن قرأ "جمالات" بالضم، فهو جمع "جمالة" ومن قرأ جمالة" فهو جمع جمل وجمالة، كما قيل: حجر، وحجارة . وذكر، وذكارة . وقرئت "جمالة" على ما فسرناه في جمالات بالضم . و"الصفر" هاهنا: السود . يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى الصفرة: إبل صفر . وقال الفراء: الصفر: سود الإبل لا يرى الأسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة، فلذلك سمت العرب سود الإبل: صفرا، كما سموا الظباء: أدما لما يعلوها من الظلمة في بياضها .

    قوله تعالى: هذا يوم لا ينطقون قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة . قال عكرمة: تكلموا واختصموا، ثم ختم على أفواههم، فتكلمت أيديهم، وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون بحجة تنفعهم . وقرأ أبو رجاء، والقاسم ابن محمد، والأعمش، وابن أبي عبلة "هذا يوم لا ينطقون" بنصب الميم .

    قوله تعالى: هذا يوم الفصل أي: بين أهل الجنة وأهل النار "جمعناكم" يعني مكذبي هذه الأمة "والأولين" من المكذبين الذين كذبوا أنبياءهم [ ص: 452 ] "فإن كان لكم كيد فكيدون" أثبت فيها الياء في الحالين يعقوب أي: إن قدرتم على حيلة، فاحتالوا لأنفسكم . ثم ذكر ما للمؤمنين، فقال تعالى: "إن المتقين في ظلال" يعني: ظلال الشجر، وظلال أكنان القصور "وعيون" الماء، وهذا قد تقدم بيانه، إلى قوله تعالى كلوا أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون في الدنيا بطاعة الله . ثم قال لكفار مكة: "كلوا وتمتعوا قليلا" في الدنيا إلى منتهى آجالكم "إنكم مجرمون" أي: مشركون بالله .

    قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا فيه قولان .

    أحدهما: أنه حين يدعون إلى السجود يوم القيامة، رواه العوفي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه في الدنيا كانوا إذا قيل لهم: اركعوا، أي: صلوا "لا يركعون" أي: لا يصلون . وإلى نحو هذا ذهب مجاهد في آخرين، وهو الأصح . وقيل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نحني، فإنها مسبة علينا، فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع .

    قوله تعالى: فبأي حديث بعده يؤمنون أي: إن لم يصدقوا بهذا القرآن، فبأي كتاب بعده يصدقون، ولا كتاب بعده: !

    تم - بعون الله تعالى وتوفيقه - الجزء الثامن من كتاب "زاد المسير في علم التفسير للإمام ابن الجوزي، ويليه الجزء التاسع ، وأوله تفسير سورة

    سُورَةُ النَّبَإِ

    ويقال لها: سورة التساؤل

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا إن يوم الفصل كان ميقاتا يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرابا إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا جزاء وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا وكل شيء أحصيناه كتابا فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون [ ص: 4 ] منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا .

    قوله تعالى: عم يتساءلون أصله " عن ما " فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف " ما " كقولهم: فيم، وبم . قال المفسرون: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به؟ ويتجادلون، ويختصمون فيما بعث به، فنزلت هذه الآية . واللفظ لفظ استفهام، والمعنى: تفخيم القصة، كما يقولون: أي شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه . ثم بين ما الذي يتساءلون عنه، فقال تعالى: عن النبإ العظيم يعني: عن الخبر العظيم الشأن . وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: القرآن، قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء . قال الفراء: فلما أجاب صارت " عم " كأنها في معنى: لأي شيء يتساءلون عن القرآن .

    والثاني: البعث، قاله قتادة .

    والثالث: أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، حكاه الزجاج .

    قوله تعالى: الذي هم فيه مختلفون من قال: إنه القرآن، فإن المشركين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: [ ص: 5 ] أساطير الأولين، إلى غير ذلك . وكذلك من قال: هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأما من قال: إنه البعث والقيامة، ففي اختلافهم فيه قولان .

    أحدهما: أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به، فمنهم من صدق وآمن، ومنهم من كذب، وهذا معنى قول قتادة .

    والثاني: أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه، فصدق به المسلمون، وكذب به المشركون، قاله يحيى بن سلام .

    قوله تعالى: كلا قال بعضهم: هي ردع وزجر . وقال بعضهم: هي نفي لاختلافهم، والمعنى: ليس الأمر على ما قالوا سيعلمون عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثم كلا سيعلمون وعيد على إثر وعيد . وقرأ ابن عامر " ستعلمون " في الحرفين بالتاء . ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال تعالى: ألم نجعل الأرض مهادا أي: فراشا وبساطا والجبال أوتادا للأرض لئلا تميد وخلقناكم أزواجا أي: أصنافا، وأضدادا، ذكورا، وإناثا، سودا، وبيضا، وحمرا . وجعلنا نومكم سباتا قال ابن قتيبة: أي: راحة لأبدانكم . وقد شرحنا هذا في [الفرقان: 47] وشرحنا هناك قوله تعالى: وجعلنا الليل لباسا .

    قوله تعالى: وجعلنا النهار معاشا أي: سببا لمعاشكم . والمعاش: العيش، وكل شيء يعاش به، فهو معاش . والمعنى: جعلنا النهار مطلبا للمعاش . وقال ابن قتيبة: معاشا، أي: عيشا، وهو مصدر وبنينا فوقكم سبعا شدادا قال مقاتل: هي السموات، غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك، وهي فوقكم يا بني آدم . فاحذروا أن تعصوا فتخر عليكم .

    [ ص: 6 ] قوله تعالى: وجعلنا سراجا يعني: الشمس وهاجا قال ابن عباس: هو المضيء . وقال اللغويون: الوهاج: الوقاد . وقيل: الوهاج يجمع النور والحرارة .

    قوله تعالى: وأنزلنا من المعصرات فيها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها السموات، قاله أبي بن كعب، والحسن، وابن جبير .

    والثاني: أنها الرياح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل . وقال زيد بن أسلم: هي الجنوب . فعلى هذا القول تكون " من " بمعنى " الباء " فتقديره: بالمعصرات . وإنما قيل للرياح: معصرات، لأنها تستدر المطر .

    والثالث: أنها السحاب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية . والضحاك، والربيع . قال الفراء: السحابة المعصر: التي تتحلب بالمطر ولما يجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تحض . وكذلك قال ابن قتيبة: شبهت السحاب بمعاصير الجواري، والمعصر: الجارية التي قد دنت من الحيض . وقال الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجز الزرع، فهو مجز، أي: صار إلى أن يجز، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر، فقد أعصر .

    قوله تعالى: ماء ثجاجا قال مقاتل: أي: مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا . وقال غيره: يقال: ثج الماء يثج: إذا انصب لنخرج به أي: بذلك الماء حبا ونباتا وفيه قولان .

    أحدهما: أن الحب: ما يأكله الناس، والنبات: ما تنبته الأرض مما يأكل [ ص: 7 ] الناس والأنعام، هذا قول الجمهور . وقال الزجاج: كل ما حصد حب، وكل ما أكلته الماشية من الكلإ، فهو نبات .

    والثاني: أن الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب . قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطرا، إلا أنبت به في البحر لؤلؤا، وفي الأرض عشبا .

    قوله تعالى: وجنات يعني: بساتين ألفافا قال أبو عبيدة: أي: ملتفة من الشجر ليس بينها خلال، الواحدة: لفاء، وجنات لف، وجمع الجمع: ألفاف . قال المفسرون: فدل بذكر المخلوقات على البعث . ثم أخبر عن يوم القيامة فقال تعالى: إن يوم الفصل أي: يوم القضاء بين الخلائق كان ميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب . يوم ينفخ في الصور فتأتون من قبوركم أفواجا أي: زمرا زمرا من كل مكان وفتحت السماء قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " وفتحت " بالتشديد . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، وإنما تفتح لنزول الملائكة فكانت أبوابا أي: ذات أبواب وسيرت الجبال عن أماكنها فكانت سرابا أي: كالسراب، لأنها تصير هباء منبثا فيراها الناظر كالسراب بعد شدتها وصلابتها إن جهنم كانت مرصادا قال المبرد: مرصادا يرصدون به، أي: هو معد لهم يرصد بها خزنتها الكفار . وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو . ثم بين لمن هي مرصاد فقال تعالى: للطاغين قال ابن عباس: للمشركين مآبا أي: مرجعا .

    قوله تعالى: لابثين وقرأ حمزة " لبثين " والمعنى: فيهما واحد . يقال: هو لابث بالمكان، ولبث . ومثله طامع، وطمع، وفاره، وفره . وأما الأحقاب فجمع حقب، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في [الكهف: 60] .

    [ ص: 8 ] فإن قيل: ما معنى ذكر الأحقاب، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب . ولو أنه قال " لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة " دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة، والجمهور . وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية .

    والثاني: أن المعنى: أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون في الأحقاب بردا ولا شرابا فأما خلودهم في النار فدائم . هذا قول الزجاج . وبيانه أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب . وفي المراد " بالبرد " ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه برد الشراب . روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لا يذوقون فيها برد الشراب، ولا الشراب .

    والثاني: أنه الروح والراحة، قاله الحسن، وعطاء .

    والثالث: أنه النوم، قاله مجاهد، والسدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وأنشدوا:


    فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


    قال ابن قتيبة: النقاخ: الماء، والبرد: النوم، سمي بذلك لأنه تبرد فيه الحرارة . [ ص: 9 ] وقال مقاتل: لا يذوقون فيها بردا ينفعهم من حرها، ولا شرابا ينفعهم من عطش إلا حميما وغساقا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " غساقا " بالتخفيف . وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وحفص عن عاصم بالتشديد .

    وقد تقدم ذكر الحميم، والغساق [ص: 57] جزاء وفاقا قال الفراء: وفقا لأعمالهم . وقال غيره: جوزوا جزاء وفاقا لأعمالهم على مقدارها فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار .

    إنهم كانوا لا يرجون حسابا فيه قولان .

    أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور .

    والثاني: لا يرجون ثواب حساب، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وكذبوا بآياتنا كذابا قال الفراء: الكذاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذبت به كذابا، وخرقت القميص خراقا، وكل " فعلت " فمصدره في لغتهم مشدد . قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحلق أحب إليك، أم القصار؟ وأنشدني بعض بني كلاب:


    لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائيا


    وأما أهل نجد، فيقولون: كذبت به تكذيبا . وقال أبو عبيدة: الكذاب أشد من الكذاب، وهما مصدر المكاذبة . قال الأعشى:






  13. #533
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ النَّازِعَاتِ
    الحلقة (533)
    صــ 10 إلى صــ 24




    فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه


    قوله تعالى: وكل شيء أحصيناه قال الزجاج: " كل " منصوب بفعل مضمر تفسيره: أحصيناه، والمعنى: أحصينا كل شيء، و كتابا توكيد لـ " أحصيناه " ، لأن معنى " أحصيناه " و " كتبناه " فيما يحصل ويثبت واحد . فالمعنى: كتبناه كتابا . قال المفسرون: وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فذوقوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء فعالكم فلن نزيدكم إلا عذابا إن للمتقين الذين لم يشركوا مفازا وفيه قولان .

    أحدهما: متنزها، قاله ابن عباس، والضحاك .

    والثاني: فازوا بأن نجوا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة . قال ابن قتيبة: " مفازا " في موضع " فوز " حدائق قال ابن قتيبة: الحدائق: بساتين نخل، واحدها: حديقة .

    قوله تعالى: وكواعب قال ابن عباس: الكواعب: النواهد . قال ابن فارس: يقال: كعبت المرأة كعابة، فهي كاعب: إذا نتأ ثديها . وقد ذكرنا معنى " الأتراب " في [ص: 52] .

    قوله تعالى: وكأسا دهاقا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الملأى، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد .

    [ ص: 11 ] والثاني: أنها المتتابعة . رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير . وعن مجاهد كالقولين .

    والثالث: أنها الصافية، قاله عكرمة .

    قوله تعالى: لا يسمعون فيها أي: في الجنة إذا شربوها لغوا وقد ذكرناه في [الطور: 23] وغيرها ولا كذابا أي: لا يكذب بعضهم بعضا، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلموا بالباطل، وأهل الجنة منزهون عن ذلك .

    قال الفراء: وقراءة علي رضي الله عنه " كذابا " بالتخفيف، كأنه -والله أعلم- لا يتكاذبون فيها . وكان الكسائي يخفف هذه ويشدد، " وكذبوا بآياتنا كذابا " لأن " كذبوا " يقيد " الكذاب " بالمصدر، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيرها مصدرا . وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة . وقال أبو علي الفارسي: " الكذاب " بالتخفيف مصدر " كذب " ، مثل " الكتاب " مصدر " كتب " .

    قوله تعالى: جزاء قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاء، وكذلك " عطاء " ، لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد . و حسابا معناه: ما يكفيهم، أي: فيه كل ما يشتهون . يقال: أحسبني كذا بمعنى كفاني . رب السماوات قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو ، والمفضل: " رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن " برفع الباء من " رب " والنون من " الرحمن " على معنى: هو رب السموات . وقرأ عاصم، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من " ربك " . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون، واختار هذه القراءة الفراء، ووافقه على هذا جماعة، وعللوا بأن الرب قريب من المخفوض، والرحمن بعيد منه .

    [ ص: 12 ] قوله تعالى: لا يملكون منه خطابا فيه قولان .

    أحدهما: لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب . والثاني: لا يقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: يوم يقوم الروح فيه سبعة أقوال .

    أحدها: أنه جند من جند الله تعالى، وليسوا بملائكة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون .

    والثاني: أنه ملك أعظم من السموات والجبال، والملائكة، قاله ابن مسعود، ومقاتل بن سليمان . وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح: ملك ما خلق الله أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم .

    والثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجسام، رواه عطية عن ابن عباس .

    والرابع: أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك .

    [ ص: 13 ] والخامس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن، وقتادة .

    والسادس: أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم .

    والسابع: أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيان .

    قوله تعالى: والملائكة صفا قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة . فعلى هذا يكون المعنى: يوم يقوم الروح صفا، والملائكة صفا . وقال ابن قتيبة: معنى قوله تعالى: صفا صفوفا .

    قوله تعالى: لا يتكلمون يعني: الخلق كلهم إلا من أذن له الرحمن في الكلام وقال صوابا أي: قال في الدنيا صوابا، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين . وقال مجاهد: قال حقا في الدنيا، وعمل به ذلك اليوم الحق الكائن الواقع بلا شك فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي: مرجعا إليه بطاعته . ثم خوف كفار مكة، فقال تعالى: إنا أنذرناكم عذابا قريبا وهو عذاب الآخرة، وكل آت قريب يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي: يرى عمله مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا يا ليتني لم أبعث . وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا: إبليس، وذلك أنه عاب آدم، لأنه خلق من التراب، فتمنى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم، فقال: يا ليتني كنت ترابا .

    سُورَةُ النَّازِعَاتِ

    مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا بِإِجْمَاعِهِمْ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة يقولون أإنا لمردودون في الحافرة أإذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة .

    قوله تعالى: والنازعات فيه سبعة أقوال .

    أحدها: أنها الملائكة تنزع أرواح الكفار، قاله علي، وابن مسعود . وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تنزع نفوس بني آدم، وبه قال مسروق .

    والثاني: أنه الموت ينزع النفوس، قاله مجاهد .

    والثالث: أنها النفس حين تنزع، قاله السدي .

    والرابع: أنها النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان .

    [ ص: 15 ] والخامس: أنها القسي تنزع بالسهم، قاله عطاء، وعكرمة .

    والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي .

    والسابع: أنها الرماة، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: غرقا اسم أقيم مقام الإغراق . قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقا، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد .

    قوله تعالى: والناشطات نشطا فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام قولان . أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغم، قاله علي رضي الله عنه . قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه أي: يجذبها- كما ينشط السفود من الصوف المبتل . والثاني: أنها تنشط أرواح المؤمنين بسرعة، كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس . وقال الفراء: الذي سمعته من العرب: كما أنشط من عقال بألف . تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته .

    والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا . وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك .

    [ ص: 16 ] والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد .

    والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش . ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع . قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها . قال هميان بن قحافة:


    أمست همومي تنشط المناشطا الشام بي طورا وطورا واسطا


    والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السدي .

    قوله تعالى: والسابحات سبحا فيه ستة أقوال .

    أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله علي رضي الله عنه . قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء . فأحيانا ينغمس، وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها حتى تستريح .

    والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء .

    والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضا .

    والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء .

    والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة .

    والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي .

    [ ص: 17 ] قوله تعالى: فالسابقات سبقا فيه خمسة أقوال .

    أحدها: أنها الملائكة . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله علي، ومسروق . والثاني: أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق . والثالث: أنها سبقت بني آدم إلى الإيمان، قاله الحسن .

    والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقا إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود .

    والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضا .

    والرابع: أنها الخيل، قاله عطاء .

    والخامس: أنها النجوم يسبق بعضها بعضا في السير، قاله قتادة .

    قوله تعالى: فالمدبرات أمرا قال ابن عباس: هي الملائكة . قال عطاء: وكلت بأمور عرفهم الله العمل بها . وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة أملاك: جبريل، وهو موكل بالرياح والجنود . وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات . وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس . وإسرافيل، وهو ينزل بالأمر عليهم . وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور . وقال ابن قتيبة: فالمدبرات أمرا: تنزل بالحلال والحرام .

    فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام، فعنه جوابان .

    أحدهما: أن الجواب قوله تعالى: إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ، قاله مقاتل .

    [ ص: 18 ] والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره: لتبعثن، ولتحاسبن، ويدل على هذا قوله تعالى: أإذا كنا عظاما نخرة قاله الفراء .

    قوله تعالى: يوم ترجف الراجفة ، وهي النفخة الأولى التي يموت منها جميع الخلائق . و " الراجفة " صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمحض . و " ترجف " بمعنى: تتحرك حركة شديدة تتبعها الرادفة وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها . وكل شيء جاء بعد شيء فهو يردفه قلوب يومئذ واجفة أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال القيامة أبصارها خاشعة أي: ذليلة لمعاينة النار . قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام . ويدل على هذا أنه ذكر منكري البعث، فقال تعالى: يقولون أإنا لمردودون في الحافرة قرأ ابن عامر وأهل الكوفة " أئنا " بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف نافع وأبو عمرو .

    وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن الحافرة: الحياة بعد الموت . فالمعنى: أنرجع أحياء بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي . قال الفراء: يعنون: أنرد إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلانا، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت . قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج .

    والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فسميت حافرة، والمعنى: محفورة، كما يقال: ماء دافق [الطارق: 6] و عيشة راضية [الحاقة: 21] وهذا قول مجاهد، والخليل . فيكون المعنى: أئنا لمردودون إلى الأرض خلقا جديدا؟!

    [ ص: 19 ] قال ابن قتيبة: " في الحافرة " أي: إلى أول أمرنا . ومن فسرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنا منها بدئنا . قال الشاعر:


    أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من سفه وعار


    [كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا " بعد ما شبت وصلعت؟! " .

    والثالث: أن الحافرة: النار، قاله ابن زيد] .

    قوله تعالى: أإذا كنا عظاما نخرة وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم " ناخرة " . قال الفراء: وهما بمعنى واحد في اللغة . مثل طمع، وطامع . وحذر، وحاذر . وقال الأخفش: هما لغتان . وقال الزجاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر . مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن . وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الريح كالنخير . قال المفسرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نرد أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تلك إذا كرة خاسرة أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا مما يعدنا به محمد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال تعالى: فإنما هي يعني النفخة الأخيرة زجرة واحدة أي: صيحة في الصور يسمعونها من إسرافيل وهم في الأرض فيخرجون فإذا هم بالساهرة وفيها أربعة أقوال .

    [ ص: 20 ] أحدها: أن الساهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، واللغويون . قال الفراء: كأنها سميت بهذا الاسم، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم .

    والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبه .

    والثالث: أنها جهنم، قاله قتادة .

    والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان .

    هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم .

    قوله تعالى: هل أتاك حديث موسى أي: قد جاءك . وقد بينا هذا في [طه: 9] وما بعده إلى قوله تعالى: طوى اذهب قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : " طوى اذهب " غير مجراة . وقرأ الباقون " طوى " منونة فقل هل لك إلى أن تزكى وقرأ ابن كثير، ونافع: " تزكى " بتشديد الزاي، أي: تطهر من الشرك وأهديك إلى ربك أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فتخشى عذابه فأراه الآية الكبرى وفيها قولان .

    [ ص: 21 ] أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين . والثاني: أنها اليد، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: فكذب أي بأنها من الله، وعصى نبيه ثم أدبر أي: أعرض عن الإيمان يسعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فحشر أي: فجمع قومه وجنوده فنادى لما اجتمعوا فقال أنا ربكم الأعلى أي: لا رب فوقي . وقيل: أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربها وربكم . وقيل: أراد: أنا رب السادة والقادة .

    قوله تعالى: فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أن الأولى قوله: " ما علمت لكم من إله غيري " [القصص: 38] والآخرة قوله: " أنا ربكم الأعلى " ، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء . ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد . قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة . قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة . قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذا نكالا للآخرة والأولى .

    والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة . وقال الربيع بن أنس: عذبه الله في أول النهار بالغرق، وفي آخره بالنار .

    والثالث: أن الأولى: تكذيبه وعصيانه . والآخرة قوله: " أنا ربكم الأعلى " ، قاله أبو رزين .

    والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد . قال الزجاج: النكال: منصوب مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة [ ص: 22 ] والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذبه في الآخرة .

    قوله تعالى: إن في ذلك الذي فعل بفرعون لعبرة أي: لعظة لمن يخشى الله .

    ثم خاطب منكري البعث، فقال تعالى: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين إلى أن قوله تعالى: بناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها . وقال قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقا، أم السماء أشد خلقا . ثم بين كيف خلقها، فقال تعالى: بناها قال المفسرون: أخلقكم بعد الموت أشد عندكم، أم السماء في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد . ومعنى: " بناها " رفعها . وكل شيء ارتفع فوق شيء فهو بناء . ومعنى: رفع سمكها رفع ارتفاعها وعلوها في الهواء فسواها بلا شقوق، ولا فطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وأغطش ليلها أي: أظلمه فجعله مظلما . قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كله بمعنى أظلم .

    قوله تعالى: وأخرج ضحاها أي: أبرز نهارها . والمعنى: أظهر نورها بالشمس . وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران والأرض بعد ذلك أي: بعد خلق السماء دحاها أي: بسطها . وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن " بعد " هاهنا بمعنى " قبل " كقوله [ ص: 23 ] تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر [الأنبياء: 105] . وبعضهم يقول: هي بمعنى " مع " كقوله تعالى: عتل بعد ذلك زنيم [القلم: 13]، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل السماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص . وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في [البقرة: 29] . ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله تعالى: دحاها .

    أخرج منها ماءها أي: فجر العيون منها ومرعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام والجبال أرساها قال الزجاج: أي: أثبتها متاعا لكم أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك . وقال ابن قتيبة: " متاعا لكم " أي: منفعة [لكم] .

    فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها .

    قوله تعالى: فإذا جاءت الطامة الكبرى والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها، أي: تعلو فوقه . وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث .

    [ ص: 24 ] والثاني: أنها حين يقال لأهل النار; قوموا إلى النار .

    والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار .

    قوله تعالى: يتذكر الإنسان ما سعى أي: ما عمل من خير وشر وبرزت الجحيم لمن يرى أي: لأبصار الناظرين . قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق . وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع " لمن ترى " بالتاء . وقرأ ابن عباس، ومعاذ القاريء " لمن رأى " بهمزة بين الراء والألف .

    قوله تعالى: فأما من طغى في كفره وآثر الحياة الدنيا على الآخرة فإن الجحيم هي المأوى قال الزجاج: أي هي المأوى له . وهذا جواب " فإذا جاءت الطامة " فإن الأمر كذلك .

    قوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه قد ذكرناه في سورة [الرحمن: 46] .

    قوله تعالى: ونهى النفس عن الهوى أي: عما تهوى من المحارم . قال مقاتل: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها .

    قوله تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قد سبق في [الأعراف: 187] فيم أنت من ذكراها أي: لست في شيء من علمها وذكرها . والمعنى: أنك لا تعلمها إلى ربك منتهاها أي: منتهى علمها إنما أنت منذر من يخشاها وقرأ أبو جعفر " منذر " بالتنوين . ومعنى الكلام: إنما أنت مخوف من يخافها . والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها، وهو المؤمن بها . وأما من لا يخافها فكأنه لم ينذر كأنهم يعني: كفار قريش يوم يرونها أي: يعاينون القيامة لم يلبثوا في الدنيا . وقيل: في قبورهم إلا عشية أو ضحاها أي: قدر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع [ ص: 25 ] الشمس . قال الزجاج: والهاء والألف في " ضحاها " عائدان إلى العشية .





  14. #534
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ عَبَسَ
    الحلقة (534)
    صــ 25 إلى صــ 39






    والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية . قال الفراء:

    فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟

    فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتها، أو آتيك الغداة، أو عشيتها، فتكون العشية في معنى " آخر " ، والغداة في معنى " أول " . أنشدني بعض بني عقيل:


    نحن صبحنا عامرا في دارها عشية الهلال أو سرارها


    أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيتها .

    سُورَةُ عَبَسَ

    مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة .

    قوله تعالى: عبس وتولى قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأمية وأبيا ابني خلف، ويدعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال: علمني يا رسول الله مما علمك الله، وجعل يناديه، ويكرر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل على القوم يكلمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحبا بمن عاتبني فيه [ ص: 27 ] ربي . وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم اشتغالا بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات .

    ومعنى عبس قطب وكلح وتولى أعرض بوجهه أن جاءه أي: لأن جاءه . وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " أن جاءه " بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة . وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع " أأن " بهمزتين مقصورتين مفتوحتين . و الأعمى هو ابن أم مكتوم، واسمه عمرو بن قيس . وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو وما يدريك لعله يزكى أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلمه منك . وقال مقاتل: لعله يؤمن أو يذكر أي: يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فتنفعه الذكرى قرأ حفص عن عاصم " فتنفعه " بفتح العين، والباقون برفعها . قال الزجاج: من نصب، فعلى جواب " لعل " ، ومن رفع، فعلى العطف على " يزكى " .

    قوله تعالى: أما من استغنى قال ابن عباس: استغنى عن الله وعن الإيمان بماله . قال مجاهد: " أما من استغنى " عتبة، وشيبة، فأنت له تصدى . قرأ ابن كثير، ونافع: " تصدى " بتشديد الصاد . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، [ ص: 28 ] وابن عامر، وحمزة، والكسائي: " تصدى " بفتح التاء، والصاد وتخفيفها، وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وعمرو بن دينار: " تتصدى " بتاءين مع تخفيف الصاد . قال الزجاج: الأصل: تتصدى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين . ومن قرأ: " تصدى " بإدغام التاء، فالمعنى أيضا: تتصدى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد . قال ابن عباس: " تصدى " تقبل عليه بوجهك . وقال ابن قتيبة: تتعرض . وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، والجحدري: " تصدى " بتاء واحدة مضمومة، وتخفيف الصاد .

    قوله تعالى: وما عليك أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام؟ يعني: أنه ليس عليه إلا البلاغ .

    وأما من جاءك يسعى فيه قولان .

    أحدهما: يمشي .

    والثاني: يعمل في الخير، وهو ابن أم مكتوم وهو يخشى الله فأنت عنه تلهى وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وأبو الجوزاء " تتلهى " بتاءين .

    وقرأ أبي بن كعب، وابن السميفع، والجحدري " تلهى " بتاء واحدة خفيفة مرفوعة . قال الزجاج: أي: تتشاغل عنه . يقال: لهيت عن الشيء ألهى عنه: إذا تشاغلت عنه .

    قوله تعالى: كلا أي: لا تفعل ذلك . إنها في المكني عنها قولان .

    أحدهما: آيات القرآن، قاله مقاتل .

    والثاني: هذه السورة، قاله الفراء " والتذكرة " بمعنى التذكير فمن شاء ذكره مفسر في آخر [المدثر: 55] . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده، فقال تعالى: [ ص: 29 ] في صحف مكرمة أي: هو في صحف، أي: في كتب مكرمة، وفيها قولان .

    أحدهما: أنها اللوح المحفوظ، قاله مقاتل .

    والثاني: كتب الأنبياء، ذكره الثعلبي . فعلى هذا يكون معنى " مرفوعة " عالية القدر . وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء .

    وفي معنى " المطهرة " أربعة أقوال .

    أحدها: مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن . والثاني: مطهرة من الشرك والكفر، قاله مقاتل . والثالث: لأنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله الفراء . والرابع: مطهرة من الدنس، قاله يحيى بن سلام .

    قوله تعالى: بأيدي سفرة فيهم قولان .

    أحدهما: أنهم الملائكة، قاله الجمهور .

    والثاني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قاله وهب بن منبه .

    وفي معنى " سفرة " ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم الكتبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج . قال الزجاج: واحدهم: سافر، وسفرة، مثل كاتب، وكتبة، وكافر، وكفرة . وإنما قيل للكتاب: سفر، وللكاتب: سافر، لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه . يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء . وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها . ومنه: سفرت بين القوم، أي: كشفت ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأصلح بينهم .

    والثاني: أنهم القراء، قاله قتادة .

    [ ص: 30 ] والثالث: أنهم السفراء، وهم المصلحون . قال الفراء: تقول العرب: سفرت بين القوم، أي: أصلحت بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله، كالسفير الذي يصلح بين القوم . قال الشاعر:


    وما أدع السفارة بين قومي وما أمشي بغش إن مشيت


    قوله تعالى: كرام أي: على ربهم بررة أي: مطيعين . قال الفراء: واحد " البررة " في قياس العربية: بار، لأن العرب لا تقول: فعلة ينوون به الجمع إلا والواحد منه فاعل، مثل كافر، وكفرة، وفاجر، وفجرة .

    قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم .

    قوله تعالى: قتل الإنسان أي: لعن . والمراد بالإنسان هاهنا: الكافر . وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه أشار إلى كل كافر، قاله مجاهد . والثاني: أنه أمية بن خلف، قاله الضحاك . والثالث: عتبة بن أبي لهب، قاله مقاتل .

    وفي قوله تعالى: ما أكفره ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما أشد كفره، قاله ابن جريج .

    [ ص: 31 ] والثاني: أي شيء أكفره؟ قاله السدي . فعلى هذا يكون استفهام توبيخ .

    الثالث: أنه على وجه التعجب، وهذا التعجب يؤمر به الآدميون، والمعنى: اعجبوا أنتم من كفره، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: من أي شيء خلقه ثم فسره فقال تعالى: من نطفة خلقه . وفي معنى: " فقدره " ثلاثة أقوال .

    أحدها: قدر أعضاءه: رأسه، وعينيه، ويديه، ورجليه، قاله ابن السائب .

    والثاني: قدره أطوارا: نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، قاله مقاتل .

    والثالث: فقدره على الاستواء، قاله الزجاج .

    ثم السبيل يسره فيه قولان .

    أحدهما: سهل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن، ومجاهد . قال الفراء: والمعنى: ثم يسره للسبيل .

    والثاني: يسر له السبيل في خروجه من بطن أمه، قاله السدي، ومقاتل .

    قوله تعالى: فأقبره قال الفراء: أي: جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير، فكأن القبر مما أكرم به المسلم . ولم يقل: قبره، لأن القابر هو الدافن بيده .

    والمقبر الله، لأنه صيره مقبورا، فليس فعله كفعل الآدمي . والعرب تقول: بترت ذنب البعير، والله أبتره، وعضبت قرن الثور، والله أعضبه . وطردت فلانا عني، والله أطرده، أي: صيره طريدا . وقال أبو عبيدة: أقبره: أي: أمر أن يقبر، وجعل له قبرا . قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل [ ص: 32 ] صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحا، فقال: دونكموه . والذي يدفن بيده هو القابر . قال الأعشى:


    لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم يسلم إلى قابر


    قوله تعالى: ثم إذا شاء أنشره أي: بعثه . يقال: أنشر الله الموتى، فنشروا، ونشر الميت: حيي [هو] بنفسه، وواحدهم ناشر . قال الأعشى:


    حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر


    قوله تعالى: كلا قال الحسن: حقا لما يقض ما أمره به ربه، ولم يؤد ما فرض عليه . وهل هذا عام، أم خاص؟ فيه قولان .

    أحدهما: أنه عام . قال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه .

    [ ص: 33 ] والثاني: أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة، قاله يحيى بن سلام . ولما ذكر خلق ابن آدم، ذكر رزقه ليعتبر وليستدل بالنبات على البعث، فقال تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه قال مقاتل: يعني به عتبة بن أبي لهب . ومعنى الكلام: فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بين فقال تعالى: أنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " إنا " بالكسر . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: أنا صببنا بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل، فإذا ابتدأ كسر . قال الزجاج: من كسر " إنا " فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح، فعلى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان أنا صببنا . قال المفسرون: أراد بصب الماء: المطر ثم شققنا الأرض بالنبات شقا فأنبتنا فيها حبا يعني به جميع الحبوب التي يتغذى بها وعنبا وقضبا قال الفراء: هو الرطبة . وأهل مكة يسمون القت: القضب . قال ابن قتيبة: ويقال: إنه سمي بذلك، لأنه يقضب مرة بعد مرة، أي: يقطع، وكذلك القصيل، لأنه يقصل، أي: يقطع .

    قوله تعالى: وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا قال الفراء: كل بستان كان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل: حديقة . والغلب: ما غلظ من النخل . قال أبو عبيدة: يقال: شجرة غلباء: إذا كانت غليظة . وقال ابن قتيبة: الغلب: الغلاظ الأعناق . وقال الزجاج: هي المتكاثفة، العظام .

    [ ص: 34 ] قوله تعالى: وفاكهة يعني: ألوان الفاكهة وأبا فيه قولان .

    أحدهما: أنه ما ترعاه البهائم، قاله ابن عباس، وعكرمة، واللغويون . وقال الزجاج: هو جميع الكلإ التي تعتلفه الماشية .

    والثاني: أنه الثمار الرطبة، رواه الوالبي عن ابن عباس .

    متاعا لكم ولأنعامكم قد بيناه في السورة التي قبلها [النازعات: 33] .

    فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة .

    قوله تعالى: فإذا جاءت الصاخة وهي الصيحة الثانية . قال ابن قتيبة: الصاخة تصخ صخا، أي: تصم . يقال: رجل أصخ، وأصلخ: إذا كان [ ص: 35 ] لا يسمع . والداهية صاخة أيضا . وقال الزجاج: هي الصيحة التي تكون عليها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها . ثم فسر في أي وقت تجيء، فقال تعالى: يوم يفر المرء من أخيه قال المفسرون: المعنى: لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه، لعظم ما هو فيه . قال الحسن: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أمه وأبيه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح . وقال قتادة: يفر هابيل من قابيل، والنبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم من أبيه، ولوط من صاحبته، ونوح من ابنه .

    قوله تعالى: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه قال الفراء: أي: يشغله عن قرابته . وقال ابن قتيبة: أي: يصرفه ويصده عن قرابته، يقال: اغن عني وجهك، أي: اصرفه، واغن عني السفيه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع، وابن محيصن، وابن أبي عبلة " يعنيه " بفتح الياء والعين غير معجمة . قال الزجاج: معنى الآية: له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره . وكذلك قراءة من قرأ: " يغنيه " بالغين، معناه: له شأن لا يهمه معه غيره .

    [ ص: 36 ] وقد روى أنس بن مالك قال: قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: أنحشر عراة؟ قال: نعم . قالت: واسوءتاه، فأنزل الله تعالى: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه .

    قوله تعالى: وجوه يومئذ مسفرة أي: مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحكة لسرورها مستبشرة أي: فرحة بما نالها من كرامة الله عز وجل ووجوه يومئذ عليها غبرة أي: غبار . وقال مقاتل: أي: سواد وكآبة ترهقها أي: تغشاها قترة أي: ظلمة . وقال الزجاج: يعلوها سواد كالدخان . ثم بين من أهل هذه الحال؟ ، فقال تعالى: أولئك هم الكفرة الفجرة وهو جمع كافر وفاجر .

    سُورَةُ التَّكْوِيرِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت .

    روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إذا الشمس كورت .

    وفي قوله تعالى: كورت أربعة أقوال .

    [ ص: 38 ] أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء: ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل .

    والثاني: ذهبت، رواه عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلت .

    والثالث: غورت، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري، وهذا من قول الناس بالفارسية: كوربكرد . وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: هو بالفارسية كوربور .

    والرابع: أنها تكور مثل تكوير العمامة، فتلف وتمحى، قاله أبو عبيدة .

    قال الزجاج: ومعنى: " كورت " جمع ضوؤها، ولفت كما تلف العمامة . ويقال: كورت العمامة على رأسي أكورها: إذا لففتها . قال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف ويرمى بها في البحر . وقيل: في النار . وقيل: تعاد إلى ما خلقت منه .

    قوله تعالى: وإذا النجوم انكدرت أي: تناثرت، وتهافتت . يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقض وإذا الجبال سيرت عن وجه الأرض، فاستوت مع الأرض وإذا العشار عطلت قال المفسرون وأهل اللغة: العشار: النوق الحوامل، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك، وذلك الوقت أحسن زمان حملها، وهي تضع إذاوضعت لتمام في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها إلا لإتيان ما يشغلهم عنها، وإنما [ ص: 39 ] خوطبت العرب بأمر العشار، لأن أكثر عيشهم ومالهم من الإبل . ومعنى " عطلت " سيبت وأهملت، لاشتغالهم عنها بأهوال القيامة .

    قوله تعالى: وإذا الوحوش يعني: دواب البحر حشرت وفيه قولان .

    أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس .

    والثاني: جمعت إلى القيامة، قاله السدي . وقد زدنا هذا شرحا في [الأنعام: 111] .

    قوله تعالى: وإذا البحار سجرت قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، " سجرت " بتخفيف الجيم، وقرأ الباقون بتشديدها .

    وفي المعنى ثلاثة أقوال .

    أحدها: أوقدت فاشتعلت نارا، قاله علي وابن عباس .

    والثاني: يبست، قاله الحسن .

    والثالث: ملئت بأن صارت بحرا واحدا، وكثر ماؤها، قاله ابن السائب، والفراء، وابن قتيبة .

    قوله تعالى: وإذا النفوس زوجت فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: قرنت بأشكالها، قاله عمر رضي الله عنه . الصالح مع الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن، وقتادة .

    والثاني: ردت الأرواح إلى الأجساد، فزوجت بها، قاله الشعبي . وعن عكرمة كالقولين .

    والثالث: زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل .







  15. #535
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ الِانْفِطَارِ
    الحلقة (535)
    صــ 40 إلى صــ 54




    [ ص: 40 ] قوله تعالى: وإذا الموءودة سئلت قال اللغويون: الموؤودة: البنت تدفن وهي حية، وكان هذا من فعل الجاهلية . ويقال: وأد ولده، أي: دفنه حيا . قال الفرزدق:


    ومنا الذي منع الوائدا ت فأحيا الوئيد ولم يوأد


    يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جد الفرزدق . قال الزجاج: ومعنى سؤالها: تبكيت قاتليها في القيامة، لأن جوابها: قتلت بغير ذنب . ومثل هذا التبكيت قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين؟! [المائدة: 116] . وقرأ علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو: " سألت " بفتح السين، وألف بعدها بأي ذنب قتلت بإسكان اللام، وضم التاء الأخيرة . وسؤالها هذا أيضا تبكيت لقاتليها . قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاما حبسته .

    قوله تعالى: وإذا الصحف نشرت قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب " نشرت " بالتخفيف، والباقون بالتشديد . والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم تنشر للحساب وإذا السماء كشطت قال الفراء: نزعت، فطويت . وفي قراءة عبد الله: " قشطت " بالقاف، وهكذا تقوله قيس، وتميم، وأسد: بالقاف . وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى واحد . [ ص: 41 ] والعرب تقول: القافور، والكافور، والقسط، والكسط . وإذا تقارب الحرفان في المخرج تعاقبا في اللغات، كما يقال: حدث، وحدت . قال ابن قتيبة: كشطت كما يكشط الغطاء عن الشيء، فطويت . وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف . و سعرت أوقدت . وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: " سعرت " مشددة . قال الزجاج: المعنى واحد . إلا أن معنى المشدد: أوقدت مرة بعد مرة . و أزلفت قربت من المتقين . وجواب هذه الأشياء علمت نفس ما أحضرت أي: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كل نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبت على قدر عملها . وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله تعالى: علمت نفس ما أحضرت : لهذا جرى الحديث . وقال ابن عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في الدنيا، وستة في الآخرة .

    فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .

    قوله تعالى: فلا أقسم لا زائدة، والمعنى: أقسم بالخنس وفيها خمسة أقوال .

    [ ص: 42 ] أحدها: أنها خمسة أنجم تخنس بالنهار فلا ترى، وهي: زحل، وعطارد، والمشتري، والمريخ، والزهرة، قاله علي، وبه قال مقاتل، وابن قتيبة . وقيل: اسم المشتري: البرجس . واسم المريخ: بهرام .

    والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة .

    والثالث: أنها بقر الوحش، قاله ابن مسعود .

    والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير .

    والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي . والأكثرون على أنها النجوم .

    قال ابن قتيبة: وإنما سماها خنسا، لأنها تسير في البروج والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تخنس، أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كر راجعا إلى أوله، وسماها كنسا، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء . وقال الزجاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها . وإذا كان المراد الظباء فهو يدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر . ووقف يعقوب على " الجواري " بالياء .

    قوله تعالى: والليل إذا عسعس فيه قولان .

    أحدهما: ولى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء .

    والثاني: إذا أقبل . قاله ابن جبير، وقتادة . قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل . وعسعس: إذا أدبر . واستدل من قال: إن المراد: إدباره [ ص: 43 ] بقوله تعالى والصبح إذا تنفس وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن قرط:


    حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا


    وفي قوله تعالى: تنفس قولان .

    أحدهما: أنه طلوع الفجر، قاله علي وقتادة .

    والثاني: طلوع الشمس، قاله الضحاك . قال الزجاج: معناه: إذا امتد حتى يصير نهارا بينا . وجواب القسم في قوله: فلا أقسم بالخنس وما بعده .

    قوله: إنه لقول رسول كريم يعني: أن القرآن نزل به جبريل . وقد بينا هذا في [الحاقة: 40] . ثم وصف جبريل بقوله تعالى: ذي قوة وهو كقوله تعالى: ذو مرة وقد شرحناه في [النجم آية: 6] ذي قوة عند ذي العرش مكين يعني: في المنزلة مطاع ثم أمين أي: في السموات تطيعه الملائكة . فمن طاعة الملائكة له: أنه أمر خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمد صلى الله عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتح له عنها حتى نظر إليها . وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة: " ثم " بضم الثاء . ومعنى: " أمين " على وحي الله ورسالاته . قال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير إذن .

    قوله تعالى: وما صاحبكم بمجنون يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة . قال الزجاج: وهذا أيضا من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدا ليس بمجنون كما يقول أهل مكة .

    [ ص: 44 ] قوله تعالى: ولقد رآه بالأفق المبين قال المفسرون: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته بالأفق . وقد ذكرنا هذا في سورة [النجم :7] .

    قوله تعالى: وما هو يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم على الغيب أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض بضنين قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، والكسائي، ورويس " بظنين " بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد . وقال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمتهم على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم بعلم ما غاب عنكم مما ينفعكم . وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم الكاهن ليأخذ الأجر عليه .

    قوله تعالى: وما هو يعني: القرآن بقول شيطان رجيم قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به الشيطان، فيلقيه على لسان محمد .

    قوله تعالى: فأين تذهبون قال الزجاج: معناه: فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم؟ إن هو أي: ما هو، يعني: القرآن إلا ذكر للعالمين أي: موعظة للخلق أجمعين لمن شاء منكم أن يستقيم على الحق والإيمان . والمعنى: أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق . وقد بينا سبيل الاستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل . ثم أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بينا هذا في سورة [الإنسان: 30] قال أبو هريرة: لما نزلت لمن شاء منكم أن يستقيم قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزل قوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وقيل: القائل لذلك أبو جهل . وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " وما يشاؤون " بالياء .

    [ ص: 45 ] فصل

    وقد زعم بعض ناقلي التفسير أن قوله تعالى: لمن شاء منكم أن يستقيم وقوله تعالى في [عبس: 12]: فمن شاء ذكره ، وقوله تعالى في سورة [الإنسان: 29] وفي سورة [المزمل: 18]: " فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " كله منسوخ بقوله تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ولا أرى هذا القول صحيحا، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته توجه النسخ . فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته، فليس للنسخ وجه .

    سُورَةُ الِانْفِطَارِ
    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .

    قوله تعالى: إذا السماء انفطرت انفطارها: انشقاقها . و انتثرت بمعنى تساقطت . و فجرت بمعنى فتح بعضها في بعض فصارت بحرا واحدا . وقال الحسن: ذهب ماؤها، و بعثرت بمعنى أثيرت . قال ابن قتيبة: قلبت فأخرج ما فيها . يقال: بعثرت المتاع وبحثرته: إذا جعلت أسفله أعلاه .

    [ ص: 47 ] قوله تعالى: علمت نفس ما قدمت وأخرت هذا جواب الكلام . وقد شرحناه في قوله تعالى: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [القيامة: 13] .

    قوله تعالى: يا أيها الإنسان فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنه عني به أبو الأشدين، وكان كافرا، قاله ابن عباس، ومقاتل . وقد ذكرنا اسمه في [المدثر: 30] .

    والثاني: أنه الوليد بن المغيرة، قاله عطاء .

    والثالث: أبي بن خلف، قاله عكرمة .

    والرابع: أنه أشار إلى كل كافر، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: ما غرك قال الزجاج: أي: ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك؟ . وقال غيره: المعنى: ما الذي أمنك من عقابه وهو كريم متجاوز إذ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم القيامة، وقال: ما غرك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرني ستورك المرخاة . وقال يحيى بن معاذ: لو قال لي: ما غرك بي؟ قلت: برك سالفا وآنفا . قيل: لما ذكر الصفة التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقن عبده الجواب، ليقول: غرني كرم الكريم .

    قوله تعالى: الذي خلقك ولم تك شيئا فسواك إنسانا تسمع وتبصر [ ص: 48 ] فعدلك قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر: " فعدلك " بالتشديد . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: " فعدلك " بالتخفيف . قال الفراء: من قرأ بالتخفيف، فوجهه -والله أعلم-: فصورك إلى أي صورة شاء، إما حسن، وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير . وقيل: في صورة أب، في صورة عم، في صورة بعض القرابات تشبيها . ومن قرأ بالتشديد، فإنه أراد -والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدل الخلقة . وقال غيره: عدل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رجل على رجل، وعدل بك أن يجعلك حيوانا بهيما .

    قوله تعالى: في أي صورة ما شاء ركبك قال الزجاج: يجوز أن تكون " ما " زائدة . ويجوز أن تكون بمعنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك . وفي معنى الآية أربعة أقوال .

    أحدها: في أي صورة من صور القرابات ركبك، وهو معنى قول مجاهد .

    والثاني: في أي صورة، من حسن، أو قبح، أو طول، أو قصر، أو ذكر، أو أنثى، وهو معنى قول الفراء .

    والثالث: إن شاء أن يركبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله مقاتل . وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير .

    والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير . وإن شاء في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو خنزير بالشره، ذكره الثعلبي .

    قوله تعالى: بل تكذبون بالدين وقرأ أبو جعفر " بالياء " أي بالجزاء والحساب، تزعمون أنه غير كائن . ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال [ ص: 49 ] تعالى: وإن عليكم لحافظين أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كراما على ربهم كاتبين يكتبون أعمالكم يعلمون ما تفعلون من خير وشر، فيكتبونه عليكم .

    قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وذلك في الآخرة إذا دخلوا الجنة وإن الفجار وفيهم قولان .

    أحدهما: أنهم المشركون .

    والثاني: الظلمة . ونقل عن سليمان بن عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟ فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده، فقال: وأين أجده؟ قال: عند قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين .

    قوله تعالى: يصلونها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين حرها يوم الدين أي: يوم الجزاء على الأعمال وما هم عنها أي: عن الجحيم بغائبين وهذا يدل على تخليد الكفار . وأجاز بعض العلماء أن تكون " عنها " كناية عن القيامة، فتكون فائدة الكلام تحقيق البعث . ويشتمل هذا على الأبرار والفجار . ثم عظم ذلك اليوم بقوله تعالى: وما أدراك ما يوم الدين ثم كرر ذلك تفخيما لشأنه، وكان ابن السائب يقول: الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى: يوم لا تملك نفس لنفس قرأ ابن كثير، وأبو عمرو " يوم " [ ص: 50 ] بالرفع، والباقون: بالفتح . قال الزجاج: من رفع " اليوم " ، فعلى أنه صفة لقوله تعالى: " يوم الدين " . ويجوز أن يكون رفعه بإضمار " هو " ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يوم لا تملك نفس لنفس شيئا قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا يملك الأمر أحد إلا الله، ولم يملك أحدا من الخلق شيئا كما ملكهم في الدنيا . وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفس كافرة شيئا من المنفعة . والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلا فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين . والشفاعة إنما تكون عن أمر الله وتمليكه .

    سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ

    وفيها ثلاثة أقوال

    أحدها: أنها مكية، قاله ابن مسعود، والضحاك، ويحيى بن سلام .

    والثاني: مدنية، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، ومقاتل، إلا أن ابن عباس، وقتادة قالا: فيها ثماني آيات مكية، من قوله تعالى: إن الذين أجرموا [المطففين: 29] إلى آخرها . وقال مقاتل: فيها آية مكية، وهي قوله تعالى: إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين [المطففين: 13] .

    والثالث: أنها نزلت بين مكة، والمدينة، قاله جابر بن زيد وابن السائب، وذكر هبة الله ابن سلامة المفسر: أنها نزلت في الهجرة بين مكة والمدينة، نصفها يقارب مكة، ونصفها يقارب المدينة .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين .

    قوله تعالى: ويل للمطففين قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 52 ] المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك . وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية . وقد شرحنا معنى " الويل " في [البقرة: 79] . وقال ابن قتيبة: المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طفان: إذا لم يكن مملوءا . وقال الزجاج: إنما قيل: مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طف الشيء، وهو جانبه .

    قوله تعالى: الذين إذا اكتالوا على الناس أي: من الناس . فـ " على " بمعنى " من " في قول المفسرين واللغويين . قال الفراء: " على " ، و " من " يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك [كيلا]، وإذا قلت: اكتلت منك، فهو كقولك: استوفيت منك [كيلا] . قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتزنوا، ولم يذكر " إذا اتزنوا " لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن، فأحدهما يدل على الآخر وإذا كالوهم أي: كالوا لهم أو وزنوهم أي: وزنوا لهم . يخسرون أي: ينقصون في الكيل، والوزن . فعلى هذا لا يجوز أن يقف على " كالوا " ، ومن الناس من يجعل " هم " توكيدا لما كالوا، ويجوز أن يقف على " كالوا " والاختيار الأول . قال الفراء: سمعت أعرابية تقول: [ ص: 53 ] إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل .

    قوله تعالى: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن ليوم عظيم يعني به يوم القيامة يوم يقوم الناس منصوب بقوله تعالى مبعوثون . قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين . ومعنى: يقوم الناس، أي: من قبورهم لرب العالمين أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه . وقيل: يقومون بين يديه لفصل القضاء . وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " . وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام . قال مقاتل: وذلك إذا خرجوا من قبورهم .

    كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون .

    [ ص: 54 ] قوله تعالى: كلا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا . وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء . وكان أبو حاتم يقول: " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى " حقا " إن كتاب الفجار قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم لفي سجين وفيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل . وروي عن مجاهد قال: " سجين " صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم .

    والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن .

    والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة .

    والرابع: لفي حبس، فعيل من السجن، قاله أبو عبيدة .

    قوله تعالى: وما أدراك ما سجين هذا تعظيم لأمرها . وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .




  16. #536
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
    الحلقة (536)
    صــ 55 إلى صــ 69



    قوله تعالى: كتاب مرقوم أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب [ ص: 55 ] مرقوم، أي: مكتوب . قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب . قال أبو ذؤيب:


    عرفت الديار كرقم الدوا ة يزبره الكاتب الحميري


    وأنشده الزجاج: " يذبرها " بالذال المعجمة، وكسر الباء . قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ . وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي- كتبت . وذبرت بالذال- أتقنت ما حفظت . قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم . وقال ابن قتيبة: يروى " يزبرها " و " يذبرها " وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبره، ويزبره . وذبره يذبره، ويذبره . وقال قتادة: رقم له بشر، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر . وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به .

    قوله تعالى: ويل يومئذ للمكذبين هذا منتظم بقوله تعالى: يوم يقوم الناس ، وما بينهما كلام معترض . وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: بل ران على قلوبهم قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وابن عامر: " بل ران " بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم: " بل ران " مدغمة بكسر الراء . وقرأ حفص عن عاصم " بل " بإظهار اللام " ران " بفتح الراء . قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران . قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى . ويقال: ران على قلبه الذنب يرين رينا: إذا [ ص: 56 ] غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدإ يغشى على القلب . وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن " كلا بل ران " وفي الحديث: " إنه ليغان على قلبي " وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب " بالغين " ، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما . قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم . قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب .

    قوله تعالى: كلا أي: لا يصدقون . ثم استأنف إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته . وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه . وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضى . وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى [ ص: 57 ] في القيامة . ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خست منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم . ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى: ثم إنهم لصالو الجحيم .

    قوله تعالى: ثم يقال أي: يقول لهم خزنة النار: هذا العذاب الذي كنتم به تكذبون كلا أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم أعلم أين محل كتاب الأبرار فقال تعالى: لفي عليين وفيها سبعة أقوال .

    أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد .

    والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة . وقال مقاتل: ساق العرش .

    والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك .

    والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن . وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع .

    والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وما أدراك ما عليون هذا تعظيم لشأنها .

    قوله تعالى: كتاب مرقوم الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها .

    [ ص: 58 ] قوله تعالى: يشهده المقربون أي: يحضر المقربون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: ينظرون وفيه قولان .

    أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة .

    والثاني: إلى أعدائهم حين يعذبون .

    قوله تعالى: تعرف في وجوههم نضرة النعيم وقرأ أبو جعفر، ويعقوب " تعرف " بضم التاء، وفتح الراء " نضرة " بالرفع . قال الفراء: بريق النعيم ونداه . قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور . وفي " الرحيق " ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور . ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال . أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد . والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش . والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل . والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة .

    والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن .

    والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج . وفي قوله تعالى: مختوم ثلاثة أقوال .

    أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود .

    والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد .

    [ ص: 59 ] والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: ختامه مسك، أي: عاقبته . هذا قول أبي عبيدة .

    ختامه مسك قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وحمزة " ختامه " بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعة الميم . وقرأ الكسائي " خاتمه " بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة . وروى الشيزري " خاتمه " مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء . وقرأ أبي بن كعب، وعروة، وأبو العالية: " ختمه " بفتح الخاء والتاء و [بضم] الميم من غير ألف .

    وللمفسرين في قوله تعالى: ختامه مسك أربعة أقوال .

    أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد .

    والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، [قاله ابن عباس .

    والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة .

    والرابع: أن آخر طعمه مسك] قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين .

    قوله تعالى: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون أي: فليجدوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله . والتنافس: كالتشاح على الشيء، والتنازع فيه .

    قوله تعالى: ومزاجه من تسنيم فيه قولان .

    [ ص: 60 ] أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين .

    والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك . قال مقاتل: وإنما سمي تسنيما، لأنه يتسنم عليه من جنة عدن، فينصب عليهم انصبابا، فيشربون الخمر من ذلك الماء . قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة . ويقال: إنه يمتزج بماء ينزل من تسنيم، أي: من علو . وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور . وهذا أعجب إلي، لقول المسيب بن علس في وصف امرأة:


    كأن بريقتها للمزا ج من ثلج تسنيم شيبت عقارا


    أراد: كأن بريقتها عقارا شيبت للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلا . قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عينا تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يتسنم عليهم من الغرف . فـ " عينا " في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما [البلد: 15] . ويجوز أن تكون " عينا " منصوبة بقوله: يسقون عينا، أي: من عين . وقد بينا معنى " يشرب بها " في [هل أتى: 6] .

    إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون .

    قوله تعالى: إن الذين أجرموا أي: أشركوا كانوا من الذين آمنوا يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمار، وبلال، وخباب، وغيرهم . يضحكون [ ص: 61 ] على وجه الاستهزاء بهم وإذا مروا يعني: المؤمنين بهم أي: بالكفار يتغامزون أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاء بهم وإذا انقلبوا يعني: الكفار إلى أهلهم انقلبوا فكهين أي: متعجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم . وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر: " فكهين " بغير ألف . وقد شرحنا معنى القراءتين في [يس: 55] وإذا رأوهم أي: رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إن هؤلاء لضالون يقول الله تعالى: وما أرسلوا يعني الكفار عليهم أي: على المؤمنين حافظين يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يوكلوا بحفظ أعمالهم فاليوم يعني: في الآخرة الذين آمنوا من الكفار يضحكون إذا رأوهم يعذبون في النار . قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غلقت أبوابها دونهم . والمؤمنون على الأرائك ينظرون إلى عذاب عدوهم . قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذبون، فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى .

    قوله تعالى: هل ثوب الكفار وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو: " هل ثوب " بإدغام اللام . أي: هل جوزوا وأثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الاستفهام بمعنى التقرير .

    سُورَةُ الِانْشِقَاقِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور .

    قوله تعالى: إذا السماء انشقت قال المفسرون: انشقاقها من علامات الساعة . وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن . [الفرقان: 225، الرحمن: 37، الحاقة: 16] وأذنت لربها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا:


    صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


    [ ص: 63 ] وحقت أي: حق لها أن تطيع ربها الذي خلقها وإذا الأرض مدت قال ابن عباس: تمد مد الأديم، ويزاد في سعتها . وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناء إلا دخل فيها .

    قوله تعالى: وألقت ما فيها من الموتى والكنوز وتخلت أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء . واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال .

    أحدها: أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردد في القرآن .

    والثاني: أنه يا أيها الإنسان ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس ترون ما عملتم، فيجعل: يا أيها الإنسان هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، كأن المعنى: يرى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت، وذكر القولين الفراء .

    والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه إذا السماء انشقت " قاله المبرد .

    والرابع: أن الجواب مدلول عليه بقوله تعالى: " فملاقيه " . فالمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: إنك كادح إلى ربك كدحا فيه قولان .

    أحدهما: إنك عامل لربك عملا، قاله ابن عباس .

    والثاني: ساع إلى ربك سعيا، قاله مقاتل . قال الزجاج: و " الكدح " في اللغة: السعي، والدأب في العمل في باب الدنيا والآخرة . قال تميم بن مقبل:


    وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح


    [ ص: 64 ] وفي قوله تعالى: إلى ربك قولان .

    أحدهما: عامل لربك . وقد ذكرناه عن ابن عباس .

    والثاني: إلى لقاء ربك، قاله ابن قتيبة . وفي قوله تعالى: فملاقيه قولان .

    أحدهما: فملاق عملك . والثاني: فملاق ربك، كما ذكرهما الزجاج .

    قوله تعالى: فسوف يحاسب حسابا يسيرا وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له . وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: " فسوف يحاسب حسابا يسيرا " ؟! قال: ذلك العرض . قوله تعالى: وينقلب إلى أهله يعني: في الجنة من الحور العين والآدميات مسرورا بما أوتي من الكرامة وأما من أوتي كتابه وراء ظهره قال المفسرون: تغل يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كل من وقع في هلكة .

    قوله تعالى: ويصلى سعيرا قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي: " ويصلى " بضم الياء، وتشديد اللام . وقرأ عاصم، وأبو عمرو ، وحمزة: " ويصلى " بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها . وقد شرحناه في سورة [النساء: 11] .

    [ ص: 65 ] قوله تعالى: إنه كان في أهله يعني في الدنيا مسرورا باتباع هواه، وركوب شهواته إنه ظن أن لن يحور أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر . قال اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد:


    وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع



    بلى إن ربه كان به بصيرا فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون .

    قوله تعالى: بلى قال الفراء: المعنى: بلى ليحورن، ثم استأنف، فقال تعالى: إن ربه كان به بصيرا قال المفسرون: بصيرا على جميع أحواله .

    قوله تعالى: فلا أقسم قد سبق بيانه .

    فأما " الشفق " فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض، فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل .

    وللمفسرين في المراد " بالشفق " هاهنا ستة أقوال .

    أحدها: الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس . وقد روى ابن [ ص: 66 ] عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الشفق: الحمرة " ، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيب، وابن جبير، وطاووس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج . قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ: كأنه الشفق، وكان أحمر .

    والثاني: أنه النهار .

    والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد .

    والرابع: ما بقي من النهار، قاله عكرمة .

    والخامس: السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر محمد بن علي .

    والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز .

    قوله تعالى: والليل وما وسق أي: وما جمع وضم . وأنشدوا:


    إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا


    [ ص: 67 ] قال أبو عبيدة: وما وسق ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها . وقال بعضهم: معنى: " ما وسق " : ما جمع مما كان منتشرا بالنهار في تصرفه إلى مأواه .

    قوله تعالى: والقمر إذا اتسق قال الفراء: اتساقه: اجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ست عشرة .

    قوله تعالى: لتركبن طبقا عن طبق قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: " لتركبن " بفتح التاء والباء، وفي معناه قولان .

    أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم في معناه قولان . أحدهما: لتركبن سماء بعد سماء، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد . والثاني: لتركبن حالا بعد حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيكم .

    والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء . والمعنى: أنها تتغير ضروبا من التغيير، فتارة كالمهل، وتارة كالدهان، روي عن ابن مسعود أيضا .

    وقرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر " لتركبن " بفتح التاء، وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس . ومعناه: لتركبن حالا بعد حال . وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب " ليركبن " بالياء، ونصب الباء . وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر " ليركبن " بالياء، وضم الباء . و " عن " بمعنى " بعد " . وهذا قول عامة المفسرين واللغويين، وأنشدوا للأقرع بن حابس .


    إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منه إلى طبق


    [ ص: 68 ] ثم في معنى الكلام خمسة أقوال .

    أحدها: أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، [قاله الحسن .

    والثالث: أنه كون الإنسان رضيعا ثم فطيما ثم غلاما شابا ثم شيخا]، قاله عكرمة .

    والرابع: أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعا، ويتضع من كان مرتفعا، وهذا مذهب سعيد بن جبير .

    والخامس: أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة .

    وكان بعض الحكماء يقول: من كان اليوم على حالة، وغدا على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه .

    قوله تعالى: فما لهم يعني: كفار مكة لا يؤمنون أي: لا يؤمنون بمحمد والقرآن، وهو استفهام إنكار وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون فيه قولان .

    أحدهما: لا يصلون، قاله عطاء، وابن السائب .

    [ ص: 69 ] والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى . قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه .

    قوله تعالى: بل الذين كفروا يكذبون بالقرآن، والبعث، والجزاء والله أعلم بما يوعون في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب . قال ابن قتيبة: " يوعون " : يجمعون في قلوبهم . وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم .

    قوله تعالى: فبشرهم بعذاب أليم أي: أخبرهم بذلك . وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذاب الأليم . و " الممنون " عند أهل اللغة: المقطوع .





  17. #537
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ الْبُرُوجِ
    الحلقة (537)
    صــ 70 إلى صــ 84





    سُورَةُ الْبُرُوجِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ .

    قوله تعالى: والسماء ذات البروج قد ذكرنا البروج في [الحجر: 16] واليوم الموعود هو يوم القيامة بإجماعهم وشاهد ومشهود فيه أربعة وعشرون قولا .

    [ ص: 71 ] أحدها: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد . فعلى هذا سمي يوم الجمعة شاهدا، لأنه يشهد على كل عامل بما فيه، وسمي يوم عرفة مشهودا، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة .

    والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر .

    والثالث: أن الشاهد: الله عز وجل، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس .

    والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والخامس: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي .

    والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله .

    [ ص: 72 ] والسابع: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الضحاك .

    والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب .

    والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير .

    والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك .

    والحادي عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والثاني عشر: أن الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة .

    الثالث عشر: أن الشاهد: آدم عليه السلام، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار .

    والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود: الله عز وجل، قاله محمد بن كعب .

    والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم .

    والسادس عشر: أن الشاهد: عيسى عليه السلام، والمشهود: أمته، قاله أبو مالك . ودليله قوله تعالى: وكنت عليهم شهيدا [المائدة: 117] .

    والسابع عشر: أن الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [النساء: 41] .

    [ ص: 73 ] الثامن عشر: أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله لتكونوا شهداء على الناس [البقرة: 143] .

    والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه .

    والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد .

    والحادي والعشرون: أن الشاهد: الحجر الأسود، والمشهود: الحاج .

    والثاني والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه وإذ أخذ الله ميثاق النبيين . . . الآية [آل عمران: 81] .

    والثالث والعشرون: أن الشاهد: الله عز وجل، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران: 18]، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي .

    والرابع والعشرون: أن الشاهد: الأنبياء عليهم السلام، والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله .

    وفي جواب القسم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه قوله تعالى: إن بطش ربك لشديد قاله قتادة، والزجاج .

    [ ص: 74 ] والثاني: أنه قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود ، كما أن القسم في قوله تعالى: والشمس وضحاها قد أفلح ، حكاه الفراء .

    والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير .

    قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود أي: لعنوا . والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع: أخاديد . وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقوا فيها من لم يكفر .

    واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال .

    أحدها: أنه ملك كان له ساحر فبعث إليه غلاما يعلمه السحر، وكان الغلام يمر على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به الملك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله رب الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخد الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في " المغني " و " الحدائق " بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: أن ملكا من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها: [ ص: 75 ] ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أن الله عز وجل قد أحل نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسوه، خطبتهم فحرمته . ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السوط، ثم جرد السيف، فأبوا، فخد لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله علي بن أبي طالب .

    والثالث: أنهم ناس اقتتل مؤمنوهم وكفارهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر كفارهم، فأخذوهم، فقال له رجل من المؤمنين: أوقدوا نارا، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتبعكم أقحم النار فاسترحتم منه، ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة .

    والرابع: أن قوما من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا، فخد لهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس .

    والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعدما رفع عيسى، فخد لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: " قتل أصحاب الأخدود " وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل .

    والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنما، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، [ ص: 76 ] فعلموا بهم، فخدوا لهم أخدودا، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج .

    واختلفوا في الذين أحرقوا على خمسة أقوال .

    أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله علي كرم الله وجهه .

    والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس .

    والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن . وقال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة .

    والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد .

    والخامس: من النبط، قاله عكرمة .

    وفي عددهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: اثنا عشر ألفا، قاله وهب .

    والثاني: سبعون ألفا، قاله ابن السائب .

    [ ص: 77 ] والثالث: ثمانون رجلا، وتسعة نسوة، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: النار ذات الوقود هذا بدل من " الأخدود " كأنه قال: قتل أصحاب النار . و " الوقود " مفسر في [البقرة: 24] . وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة " الوقود " بضم الواو إذ هم عليها قعود أي: عند النار . وكان الملك وأصحابه جلوسا على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألقوه وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود أي: حضور، فأخبر الله عز وجل في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم .

    قوله تعالى: وما نقموا منهم قرأ ابن أبي عبلة " نقموا " بكسر القاف . قال الزجاج: أي: ما أنكروا عليهم إيمانهم . وقد شرحنا معنى " نقموا " في [المائدة: 59] و [براءة: 74] وشرحنا معنى " العزيز الحميد " في [البقرة: 129، 267] .

    قوله تعالى: والله على كل شيء شهيد أي: لم يخف عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا .

    قوله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي: أحرقوهم، وعذبوهم . كقوله تعالى: يوم هم على النار يفتنون [الذاريات: 13] ثم لم يتوبوا من شركهم وفعلهم ذلك بالمؤمنين فلهم عذاب جهنم بكفرهم ولهم عذاب الحريق بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابين في جهنم عند الأكثرين . وذهب الربيع بن [ ص: 78 ] أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا . قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسهم النار . وحكى الفراء أن المؤمنين نجوا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة .

    قوله تعالى: ذلك الفوز الكبير لأنهم فازوا بالجنة . وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة .

    قوله تعالى: إن بطش ربك قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة والجبابرة لشديد .

    قوله تعالى: إنه هو يبدئ ويعيد فيه قولان .

    أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور .

    والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس . وقد شرحنا في [هود: 90] معنى " الودود " .

    قوله تعالى: ذو العرش المجيد وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم " المجيد " بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع " المجيد " جعله من صفات الله عز وجل، ومن كسر جعله من صفة العرش .

    قوله تعالى: هل أتاك حديث أي: قد أتاك حديث الجنود وهم الذين تجندوا على أولياء الله . ثم بين من هم، فقال تعالى: فرعون وثمود بل الذين كفروا يعني: مشركي مكة في تكذيب لك والقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم والله من ورائهم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بل هو [ ص: 79 ] قرآن مجيد أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون بشعر، ولا كهانة، ولا سحر . وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع: " بل هو قرآن مجيد " بغير تنوين وبخفض " مجيد " في لوح محفوظ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله، محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه . وقرأ نافع " محفوظ " رفعا على نعت القرآن . فالمعنى: أنه محفوظ من التحريف والتبديل .

    سُورَةُ الطَّارِقِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر .

    قوله تعالى: والسماء والطارق قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي: يطلع ليلا، وكل من أتاك ليلا، فقد طرقك . ومنه قول هند ابنة عتبة:


    نحن بنات طارق نمشي على النمارق


    تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوه

    قوله تعالى: وما أدراك ما الطارق قال المفسرون: ذلك أن هذا الاسم [ ص: 81 ] يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله تعالى: النجم الثاقب يعني: المضيء، كما بينا في [الصافات: 10] .

    وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه زحل، قاله علي رضي الله عنه . وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد .

    والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد .

    والثالث: أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النيسابوري .

    قوله تعالى: إن كل نفس قرأ أبي بن كعب، وأبو المتوكل [إن] بالتشديد " كل " بالنصب لما عليها حافظ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم الجحدري، وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب " لما " بالتشديد . وقرأ الباقون بالتخفيف . قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لعليها حافظ و " ما " لغو . ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت " لما " في موضع [ ص: 82 ] " إلا " في موضعين . أحدهما: هذا . والآخر: في باب القسم . تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت . قال المفسرون: المعنى: ما من نفس إلا عليها حافظ . وفيه قولان .

    أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس . قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر .

    والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلمه إلى المقادير، قاله الفراء . ثم نبه على البعث بقوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق أي: من أي شيء خلقه الله؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته .

    قوله تعالى: من ماء دافق قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب . سر كاتم، وهم ناصب، وليل نائم، وعيشة راضية . وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا . قال الزجاج: ومذهب سيبويه، وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماء ذي اندفاق .

    قوله تعالى: يخرج من بين الصلب قرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة " الصلب " بضم الصاد، واللام جميعا . يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة . قال الفراء: يريد يخرج من الصلب والترائب . يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير . بمعنى: يخرج منهما .

    [ ص: 83 ] وفي " الترائب " ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس . قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب: موضع القلادة من الصدر، وأنشدوا لامرئ القيس:


    مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل


    قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: السجنجل: المرآة بالرومية . وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب . ويروى: البيت " بالسجنجل " .

    والثاني: أن الترائب: اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك .

    والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزجاج .

    قوله تعالى: إنه الهاء كناية عن الله عز وجل على رجعه الرجع: رد الشيء إلى أول حاله . وفي هذه الهاء قولان .

    أحدهما: أنها تعود على الإنسان . ثم فيه قولان . أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حيا بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة . قال الزجاج: ويدل على هذا القول قوله تعالى: يوم تبلى السرائر . والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر [ ص: 84 ] إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضحاك .

    والقول الثاني: أنها تعود إلى الماء . ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد . والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك . والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: يوم تبلى السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤديها من مضيعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سر، فكان زينا في الوجه، أو شينا . وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب .

    قوله تعالى: فما له من قوة أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره .




  18. #538
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ الْأَعْلَى
    الحلقة (538)
    صــ 85 إلى صــ 99






    والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إنه لقول فصل وما هو بالهزل إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .

    قوله تعالى: والسماء ذات الرجع أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعا لأنه يجيء ويرجع ويتكرر والأرض ذات الصدع أي: ذات الشق، وقيل لها هذا، لأنها تتصدع وتتشقق بالنبات، هذا قول المفسرين وأهل اللغة في الحرفين .

    قوله تعالى: إنه لقول فصل يعني به القرآن، وهذا جواب القسم . [ ص: 85 ] والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وما هو بالهزل أي: باللعب . والمعنى: أنه جد، ولم ينزل باللعب . وبعضهم يقول: الهاء في " إنه " كناية عن الوعيد المتقدم ذكره .

    قوله تعالى: إنهم يعني مشركي مكة يكيدون كيدا [أي: يحتالون] وهذا الاحتيال المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة . وأكيد كيدا أي: أجازيهم [على كيدهم] بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار . فمهل الكافرين هذا وعيد من الله لهم . ومهل وأمهل لغتان جمعتا هاهنا . ومعنى الآية: مهلهم قليلا حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك ببدر، ونسخ الإمهال بآية السيف . قال ابن قتيبة: ومعنى " رويدا " مهلا، ورويدك بمعنى أمهل . قال تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي: أمهلهم قليلا، فإذا لم يتقدمها " أمهلهم " كانت بمعنى " مهلا " . ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأمورا بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر .

    قال الشاعر:


    كأنها مثل من يمشي على رود


    أي: على مهل .

    سُورَةُ الْأَعْلَى
    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا .

    [ ص: 87 ] وفي معنى سبح خمسة أقوال .

    أحدها: قل: سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور .

    والثاني: عظم .

    والثالث: صل بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس .

    والرابع: نزه ربك عن السوء، قاله الزجاج .

    والخامس: نزه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثعلبي .

    وفي قوله تعالى: اسم ربك قولان .

    أحدهما: أن ذكر الاسم صلة، كقول لبيد بن ربيعة:


    إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر


    [ ص: 88 ] والثاني: أنه أصلي . وقال الفراء: [سبح ربك، و]سبح اسم ربك سواء في كلام العرب .

    قوله تعالى: الذي خلق فسوى أي: فعدل الخلق . وقد أشرنا إلى هذا المعنى في [الانفطار: 7] والذي قدر قرأ الكسائي وحده " قدر " بالتخفيف فهدى فيه سبعة أقوال .

    أحدها: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد .

    والثاني: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء .

    والثالث: قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي .

    والرابع: قدرهم ذكورا وإناثا، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل .

    [ ص: 89 ] والخامس: أن المعنى: قدر فهدى وأضل، فحذف " وأضل " ، لأن في الكلام دليلا على ذلك، حكاه الزجاج .

    والسادس: قدر الأرزاق، وهدى إلى طلبها .

    والسابع: قدر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثعلبي .

    قوله تعالى: والذي أخرج المرعى أي: أنبت العشب، وما ترعاه البهائم فجعله بعد الخضرة غثاء قال الزجاج: أي: جففه حتى جعله هشيما جافا كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل . وقد بينا هذا في سورة [المؤمنين: 41] فأما قوله تعالى: أحوى فقال الفراء: الأحوى: الذي قد اسود عن القدم، والعتق، ويكون أيضا: أخرج المرعى أحوى: أسود من الخضرة، فجعله غثاء كما قال تعالى: مدهامتان [الرحمن: 64] .

    قوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى قال مقاتل: سنعلمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبدا .

    قوله تعالى: إلا ما شاء الله فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 90 ] أحدها: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة .

    والثاني: إلا ما شاء الله أن تنسى شيئا، فإنما هو كقوله تعالى: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [هود: 107]، فلا يشاء .

    قوله تعالى: إنه يعلم الجهر من القول والفعل وما يخفى منهما ونيسرك لليسرى أي: نسهل عليك عمل الخير فذكر أي: عظ أهل مكة إن نفعت الذكرى وفي " إن " ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الشرطية، وفي معنى الكلام قولان، أحدهما: إن قبلت الذكرى، قاله يحيى بن سلام . والثاني: إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري .

    والثاني: أنها بمعنى " قد " ، فتقديره: قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل .

    والثالث: أنها بمعنى " ما " فتقديره: فذكر ما نفعت الذكرى، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: سيذكر سيتعظ بالقرآن من يخشى ويتجنبها [ ص: 91 ] ويتجنب الذكرى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى أي: العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثم لا يموت فيها فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه . وقال ابن جرير: تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا .

    قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .

    قوله تعالى: قد أفلح قال الزجاج: أي: صادف البقاء الدائم، والفوز من تزكى فيه خمسة أقوال .

    أحدها: من تطهر [من] الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس .

    والثاني: من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة .

    والثالث: من كان عمله زاكيا، قاله الحسن، والربيع .

    والرابع: أنها زكوات الأموال كلها: قاله أبو الأحوص .

    والخامس: تكثر بتقوى الله . ومعنى الزاكي: النامي الكثير، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: وذكر اسم ربه قد سبق بيانه [الأحزاب : 31] .

    وفي قوله تعالى: فصلى ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل .

    [ ص: 92 ] والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري .

    والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص . والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد .

    قوله تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب: " بل يؤثرون " بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أبي بن كعب: " بل أنتم تؤثرون " . فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى: أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها، وإن أريد به المسلمون، فالمعنى: يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الاستحسان من الثواب . قال ابن مسعود: إن الدنيا عجلت لنا، وإن الآخرة نعتت لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل [وتركنا الآجل] .

    قوله تعالى: ( والآخرة خير لك ) يعني: الجنة أفضل وأبقى أي: أدوم من الدنيا .

    إن هذا لفي الصحف الأولى في المشار إليه أربعة أقوال .

    [ ص: 93 ] أحدها: أنه قوله تعالى: والآخرة خير وأبقى قاله قتادة .

    والثاني: هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي .

    والثالث: أنه لم يرد [أن معنى] السورة [في الصحف الأولى]، ولا الألفاظ بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة .

    والرابع: أنه من قوله تعالى: قد أفلح من تزكى إلى قوله: وأبقى قاله ابن جرير .

    ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال: صحف إبراهيم وموسى وقد فسرناها في [النجم: 36] .

    سُورَةُ الْغَاشِيَةِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع .

    قوله تعالى: هل أتاك أي: قد أتاك، قاله قطرب . وقال الزجاج: والمعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك .

    وفي " الغاشية " قولان .

    أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة .

    والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل .

    [ ص: 95 ] قوله تعالى: وجوه يومئذ خاشعة أي: ذليلة وفيها قولان .

    أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام .

    قوله تعالى: عاملة ناصبة فيه أربعة أقوال .

    أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم .

    والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها [لم] تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن . وقال قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب . قال الضحاك: يكلفون ارتقاء جبل في النار . وقال ابن السائب: يخرون على وجوههم في النار . وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب .

    والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة، والسدي . والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها . وقد بينا معنى " النصب " في قوله تعالى: لا يمسهم فيها نصب [الحجر: 48] .

    [ ص: 96 ] قوله تعالى: تصلى نارا حامية قرأ أهل البصرة وعاصم إلا حفصا " تصلى " بضم التاء . والباقون بفتحها . قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تسقى من عين آنية أي: متناهية في الحرارة . قال الحسن: وقد [أوقدت] عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها [وردا] عطاشا .

    قوله تعالى: ليس لهم طعام إلا من ضريع فيه ستة أقوال .

    أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش " الشبرق " فإذا هاج سموه: ضريعا، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة .

    والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس .

    والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير .

    والرابع: أنه السلم، قاله أبو الجوزاء .

    والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد .

    [ ص: 97 ] والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان .

    قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يسمن ولا يغني من جوع وكذبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا، وحينئذ يسمى شبرقا، لا ضريعا، فإذا يبس يسمى: ضريعا لم يأكله شيء .

    فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: " ليس لهم طعام إلا من ضريع " وفي مكان آخر ولا طعام إلا من غسلين [الحاقة: 36] فكيف الجمع بينهما؟

    فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طعامه الزقوم، [ومنهم] من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد . قاله ابن قتيبة .

    وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم .

    [ ص: 98 ] قوله تعالى: وجوه يومئذ ناعمة أي: في نعمة وكرامة لسعيها في الدنيا راضية والمعنى: رضيت بثواب عملها في جنة عالية قد فسرناه في " الحاقة " [آية: 22] لا تسمع فيها لاغية قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، ورويس " لا يسمع " بياء مضمومة . " لاغية " بالرفع . وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاء مضمومة، والباقون بتاء مفتوحة، ونصب " لاغية " والمعنى: لا تسمع فيها كلمة [لغو] فيها سرر مرفوعة قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وأكواب موضوعة عندهم وقد ذكرنا " الأكواب " في [الزخرف: 71] ونمارق وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون . قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نمرقة، بكسر النون والراء مصفوفة بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس [التي] لها خمل رقيق [مبثوثة] كثيرة . قال ابن قتيبة: كثيرة مفرقة . قال المفسرون: لما نعت الله سبحانه ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفرة، فذكرهم صنعه، فقال تعالى: أفلا ينظرون [ ص: 99 ] إلى الإبل وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع [سرر] الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية . قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أنفس أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العبر الدالة على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم [و] من عجيب خلقها، وهي على عظمها مذللة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها . وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو: " الإبل " بإسكان الباء، وتخفيف اللام . وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو: " الإبل " بكسر الباء، وتشديد اللام . قال هارون: قال أبو عمرو: " الإبل " بتشديد اللام: السحاب الذي يحمل الماء .

    قوله تعالى: كيف خلقت وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة " خلقت " بفتح الخاء، وضم التاء .

    وكذلك قرؤوا: " رفعت " و " نصبت " و " سطحت " .




  19. #539
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سورة الفجر
    الحلقة (539)
    صــ 100 إلى صــ 118






    قوله تعالى: وإلى السماء كيف رفعت من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد وإلى الجبال كيف نصبت على الأرض لا تزول ولا تتغير وإلى الأرض كيف سطحت أي: بسطت . والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على [قدرة] خالقه فذكر أي: عظ إنما أنت مذكر أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله تعالى: لست عليهم بمصيطر أي: بمسلط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان . ثم نسختها آية السيف . وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والحلواني عن ابن عامر: " بمسيطر " بالسين . وقد سبق بيان " المسيطر " في قوله تعالى: أم هم المصيطرون [الطور: 37] .

    قوله تعالى: إلا من تولى وهذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وكفر بعد التذكر . وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير: " ألا من تولى " بفتح الهمزة وتخفيف اللام فيعذبه الله العذاب الأكبر وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عذبوا في الدنيا [ ص: 101 ] بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إن إلينا إيابهم قرأ أبي بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر: " إيابهم " بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثم إن علينا حسابهم قال مقاتل: أي: جزاءهم .

    سورة الفجر

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد .

    قوله تعالى: والفجر قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظلمة عن الصبح، وانفجر الماء: انبجس . قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال: انفجر النهر ينفجر انفجارا: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء، ومن هذا سمي الفاجر فاجرا، لأنه خرج عن طاعة الله .

    وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال .

    [ ص: 103 ] أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله علي رضي الله عنه . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي .

    والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس .

    والثالث: النهار كله، فعبر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس .

    والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد .

    والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك .

    والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة .

    قوله تعالى: وليال عشر فيها أربعة أقوال .

    أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل .

    [ ص: 104 ] والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس .

    والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك .

    والرابع: العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب .

    قوله تعالى: والشفع والوتر قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: " والوتر " بكسر الواو، وفتحها الباقون، وهما لغتان . قال الفراء: الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز .

    وللمفسرين في " الشفع والوتر " عشرون قولا .

    أحدها: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة، [رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك] .

    [ ص: 105 ] والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال قتادة .

    [ ص: 106 ] والرابع: [أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى]، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح .

    والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس .

    والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النفر الأخير، قاله عبد الله بن الزبير، واستدل بقوله تعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه [البقرة: 203] .

    والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية .

    والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس .

    والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد، ومجاهد في رواية .

    والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن .

    والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام [منى] الثلاثة، قاله الضحاك .

    [ ص: 107 ] والثاني عشر: أن الشفع: هو الله، لقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [المجادلة: 7] والوتر: هو الله، لقوله تعالى: قل هو الله أحد ، قاله سفيان بن عيينة .

    والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء . والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان .

    والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة [بعده]، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان .

    والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دركات النار لأنها سبع، فكأن الله أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل .

    والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عز وذل، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة . والوتر: انفراد صفات الله عز وجل: عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الوراق .

    والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت .

    والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس .

    والتاسع عشر: أن الشفع: القران بين الحج والتمتع، والوتر: الإفراد .

    والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة، كالصلاة، والصوم، والزكاة، [ ص: 108 ] والوتر: العبادة التي لا تتكرر، وهو الحج، حكى هذه الأقوال الأربعة الثعلبي .

    قوله تعالى: والليل إذا يسر وقرأ ابن كثير، ويعقوب: " يسري " بياء في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع، وأبو عمرو . وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: " يسر " بغير ياء في الوصل والوقف . قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتباع المصحف . وفي قوله تعالى: والليل إذا يسر قولان .

    أحدهما: أن الفعل له، ثم فيه قولان . أحدهما: إذا يسري ذاهبا، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج . والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة .

    والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة .

    وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر .

    والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جمع: قاله مجاهد وعكرمة .

    والثالث: ليلة القدر، حكاه الماوردي .

    [ ص: 109 ] قوله تعالى: هل في ذلك أي: [هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها] قسم لذي حجر أي: لذي عقل، وسمي العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلا، لأنه يعقل عما لا يحسن، وسمي العقل النهى، لأنه ينهى عما لا يحل . ومعنى الكلام: أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته . وجواب القسم قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد فاعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد فخوف أهل مكة بإهلاك من كان أشد منهم . وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر: " بعاد إرم " بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة .

    وفي " إرم " أربعة أقوال .

    أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفراء . ولم يجر " إرم " لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال . أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، [ ص: 110 ] وخالد الربعي . والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب . والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب . وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .

    والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد .

    والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل . قال الزجاج: [ ص: 111 ] وإنما لم تنصرف " إرم " لأنها جعلت اسما للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض .

    والرابع: أنه اسم لجد عاد، لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن إسحاق . قال الفراء: فإن كان اسما لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجمي، قال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: هي إرم، وهي التي قال الله تعالى: وأنه أهلك عادا الأولى [النجم: 50] .

    وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم .

    وفي قوله تعالى: إرم ذات العماد أربعة أقوال .

    أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء .

    والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة . قال الزجاج: يقال: رجل معمد: إذا كان طويلا .

    [ ص: 112 ] والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك .

    والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد . وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناء بناه بعضهم .

    قوله تعالى: التي لم يخلق مثلها في البلاد وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: " لم تخلق " بتاء مفتوحة ورفع اللام " مثلها " بنصب اللام .

    وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: " لم نخلق " بنون مفتوحة، ورفع اللام . " مثلها " بنصب اللام .

    وفي المشار إليها قولان .

    أحدهما: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة، وهذا معنى قول الحسن .

    والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة .

    وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة . وهذه الإشارة إلى ذلك .

    روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة . فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله، فلم ير خارجا ولا داخلا، فنزل عن دابته، وعقلها، وسل سيفه، ودخل من باب [ ص: 113 ] الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين [لم ير أعظم منهما] والبابان مرصعان بالياقوت [الأبيض و]الأحمر، فلما رأى ذلك دهش، ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كل قصر فوقه غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت . ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضا، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران . فلما عاين ذلك، ولم ير أحدا، هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة . فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه . وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه، فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة: [ ص: 114 ] " إرم ذات العماد " ، قال: فحدثني حديثها، فقال: إن عادا المنسوب إليهم عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد . فلما مات [عاد]، ثم مات شديد وبقي شداد، ملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعا بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى . فأمر بصنع " إرم ذات العماد " ، فأمر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة، فوقفوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند [ ص: 115 ] كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا ذلك، فأمر الملك الوزراء -وهم ألف وزير- أن يتهيئوا للنقلة إلى " إرم ذات العماد " ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد .

    [ ص: 116 ] وروى الشعبي عن دغفل الشيباني عن علماء حمير قالوا: لما هلك شداد بن عاد ومن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه مرثد بن شداد، وقد كان أبوه خلفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت وأمر [بدفنه] فحفرت له حفيرة في مفازة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحا عظيما من ذهب وكتب عليه:


    اعتبر يا أيها المغـ ـرور بالعمر المديد

    أنا شداد بن عاد
    صاحب الحصن المشيد

    وأخو القوة والبأ
    ساء والملك الحشيد

    [ ص: 117 ] دان أهل الأرض طرا
    لي من خوف وعيدي

    وملكت الشرق والغر
    ب بسلطان شديد

    وبفضل الملك والعد
    ة فيه والعديد

    فأتى هود وكنا
    في ضلال قبل هود

    فدعانا لو قبلنا
    ه إلى الأمر الرشيد

    فعصيناه ونادى
    ما لكم هل من محيد؟

    فأتتنا صيحة تهـ
    ـوي من الأفق البعيد

    فتوافينا كزرع
    وسط بيداء حصيد


    قوله تعالى: وثمود الذين جابوا الصخر قطعوه ونقبوه . قال إسحاق: والوادي: وادي القرى . وقرأ الحسن: " بالوادي " بإثبات الياء في الحالين وفرعون ذي الأوتاد مفسر في سورة [ص: 12] الذين طغوا في البلاد يعني: عادا، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبروا على أنبياء الله فأكثروا فيها الفساد القتل والمعاصي فصب عليهم ربك سوط عذاب [ ص: 118 ] قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط . وقال الزجاج: [أي جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب] إن ربك لبالمرصاد أي: يرصد من كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله تعالى: كانت مرصادا [النبإ: 21] .




  20. #540
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء التاسع

    سُورَةُ الْبَلَدِ
    الحلقة (540)
    صــ 119 إلى صــ 133





    فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .

    قوله تعالى: فأما الإنسان فيمن عنى به أربعة أقوال .

    أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس .

    والثاني: أبي بن خلف، قاله ابن السائب .

    والثالث: أمية بن خلف، قاله مقاتل .

    [ ص: 119 ] والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فأكرمه بالمال ونعمه بما وسع عليه من الإفضال فيقول ربي أكرمن فتح ياء " ربي " " أكرمني " " ربي " " أهانني " أهل الحجاز، وأبو عمرو ، أي: فضلني بما أعطاني، ويظن أن ما أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وأما إذا ما ابتلاه بالفقر فقدر عليه رزقه وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: " فقدر " بتشديد الدال، والمعنى: ضيق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فيقول ربي أهانن أي: هذا الهوان منه لي حين أذلني بالفقر .

    واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قلتها .

    [ ص: 120 ] قوله تعالى: كلا أي: ليس الأمر كما يظن . قال مقاتل: ما أعطيت [من أغنيت] هذا الغنى لكرامته علي، ولا أفقرت [من] أفقرت لهوانه علي، وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى . ثم أخبر عن الكفار فقال تعالى: بل لا تكرمون اليتيم قرأ أهل البصرة " يكرمون " و " يحضون " و " يأكلون " و يحبون " بالياء فيهن، والباقون بالتاء . ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم . والآية تحتمل معنيين .

    أحدهما: أنهم كانوا لا يبرونه .

    والثاني: لا يعطونه حقه من الميراث، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان . ويدل على المعنى الأول قوله تعالى: ولا تحاضون على طعام المسكين قرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة " تحاضون " بألف مع فتح التاء . وروى الشيرزي عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء . والمعنى: لا يأمرون بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة . ويدل على المعنى الثاني قوله تعالى: وتأكلون التراث أكلا لما قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واو، [ ص: 121 ] كما قالوا: تجاه، والأصل: وجاه، وقالوا: تخمة، والأصل: وخمة .

    و لما أي: شديدا، وهو من قولك: لممت بالشيء: إذا جمعته، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى .

    قوله تعالى: وتحبون المال أي: تحبون جمعه حبا جما أي: كثيرا فلا تنفقونه في خير كلا أي: ما هكذا ينبغي أن يكون [الأمر] . ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال تعالى: إذا دكت الأرض دكا دكا أي: مرة بعد مرة، فتكسر كل شيء عليها، وجاء ربك قد ذكرنا هذا المعنى في قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله [البقرة: 210] .

    قوله تعالى: والملك صفا صفا أي: تأتي [ملائكة] كل سماء صفا [صفا] على حدة . قال الضحاك: يكونون سبعة صفوف، وجيء يومئذ بجهنم روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله [ ص: 122 ] صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع [كل زمام] سبعون ألف ملك يجرونها " . قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش .

    قوله تعالى: يومئذ أي: يوم يجاء بجهنم يتذكر الإنسان أي: يتعظ الكافر ويتوب . قال مقاتل: هو أمية بن خلف وأنى له الذكرى أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يقول يا ليتني قدمت العمل الصالح في الدنيا لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها فيومئذ لا يعذب عذابه أحد قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل: " لا يعذب " بفتح الذال، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة .

    [ ص: 123 ] قوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال .

    أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي .

    والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك .

    والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل .

    والرابع: في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حكاه الماوردي .

    والخامس: [في] جميع المؤمنين، قاله عكرمة .

    وفي معنى " المطمئنة " ثلاثة أقوال .

    أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس . وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان .

    والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد .

    والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة .

    واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين .

    أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون .

    والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة، والضحاك .

    [ ص: 124 ] وفي قوله تعالى: ارجعي إلى ربك راضية أربعة أقوال .

    أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنت في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك .

    والثاني: ارجعي إلى ربك بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح .

    والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن .

    والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة [إلى الدنيا] ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي .

    قوله تعالى: فادخلي في عبادي أي: في جملة عبادي المصطفين . قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فادخلي في عبادي وقال الفراء: ادخلي مع عبادي . وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبي بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران: " في عبدي " على التوحيد . قال الزجاج: فعلى هذه القراءة -والله أعلم- [ ص: 125 ] يكون المعنى: ارجعي إلى ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجت منه، فادخلي فيه .

    سُورَةُ الْبَلَدِ

    وهي مكية كلها بإجماعهم

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين .

    قوله تعالى: لا أقسم قال الزجاج: المعنى: أقسم . و " لا " دخلت توكيدا، كقوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب [الحديد: 29] وقرأ عكرمة، ومجاهد، وأبو عمران، وأبو العالية: " لأقسم " قال الزجاج: وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول " القيامة " .

    قوله تعالى: وأنت حل بهذا البلد فيه ثلاثة أقوال .

    [ ص: 127 ] و " البلد " هاهنا: مكة .

    أحدها: حل لك ما صنعت في هذا البلد من قتل أو غيره، قاله ابن عباس، ومجاهد . قال الزجاج: يقال: رجل حل، وحلال، ومحل . قال المفسرون: والمعنى: إن الله تعالى وعد نبيه أن يفتح مكة على يديه بأن يحلها له، فيكون فيها حلا .

    والثاني: فأنت محل بهذا البلد غير محرم في دخوله، يعني: عام الفتح، قاله الحسن، وعطاء .

    والثالث: أن المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك وقتلك، ويحرمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: ووالد وما ولد فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه آدم وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة .

    [ ص: 128 ] والثاني: أولاد إبراهيم، وما ولد: ذريته، قاله أبو عمران الجوني .

    والثالث: أنه عام في كل والد وما ولد، حكاه الزجاج .

    قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان هذا جواب القسم .

    وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال .

    أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس .

    والثاني: أنه أبو الأشدين الجمحي، وقد سبق ذكره، [المدثر: 29، والانفطار: 5] قاله الحسن .

    [ ص: 129 ] والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب ذنبا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال لقد ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله مقاتل .

    والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد .

    والخامس: الوليد بن المغيرة، حكاه الثعلبي .

    قوله تعالى: في كبد فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: في نصب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو عبيدة، فإنهم قالوا: في شدة . قال الحسن: يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء، لأنه لا يخلو من أحدهما ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة . قال ابن قتيبة: في شدة غلبة ومكابدة لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة الأمر، وهي معاناته .

    والثاني: أن المعنى: خلق منتصبا يمشي على رجلين، وسائر الحيوان [ ص: 130 ] غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى الكبد: الاستواء والاستقامة .

    والثالث: في وسط السماء، قال ابن زيد: " لقد خلقنا الإنسان " يعني: آدم " في كبد " أي: في وسط السماء .

    قوله تعالى أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يعني الله عز وجل أي: [أيحسب أن] لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟! يقول أهلكت مالا لبدا أي: كثيرا، قال أبو عبيدة، هو فعل من التلبد، وهو المال الكثير بعضه على بعض . قال ابن قتيبة: وهو المال المتلبد، [ ص: 131 ] كأن بعضه على بعض . قال الزجاج: وهو فعل للكثرة، كما يقال: رجل حطم: إذا كان كثير الحطم . وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية، وأبو جعفر: " لبدا " بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة . وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبو المتوكل، وأبو عمران: " لبدا " بفتح اللام وتسكين الباء خفيفة . وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد: " لبدا " برفع اللام والباء وتخفيفهما . وقرأ علي، وابن أبي الجوزاء: " لبدا " بكسر اللام، وفتح الباء مخففة .

    وفيما قال لأجله ذلك قولان .

    أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد، قاله ابن السائب، فكأنه استطال بما أنفق .

    والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات مالا كثيرا، قاله مقاتل . فكأنه ندم على ما أنفق .

    قوله تعالى: أيحسب أن لم يره أحد يعني الله عز وجل . والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟! وكان قد ادعى ما لم ينفق .

    [ ص: 132 ] قوله تعالى: ألم نجعل له عينين والمعنى: ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على بعثه؟!

    قوله تعالى: وهديناه النجدين فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء . وقال ابن قتيبة: يريد طريق الخير والشر . وقال الزجاج: النجدان: الطريقان الواضحان . والنجد: المرتفع من الأرض، فالمعنى: ألم نعرفه طريق الخير والشر كتبين الطريقين العاليين .

    والثاني: سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس . وقال مجاهد: هو سبيل الشقاوة والسعادة .

    والثالث: الثديان ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال ابن المسيب، والضحاك، وقتادة .

    فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة .

    [ ص: 133 ] قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة قال أبو عبيدة: فلم يقتحم العقبة [في الدنيا] . وقال ابن قتيبة: فلا هو اقتحم العقبة . قال الفراء: لم يضم إلى قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة كلاما آخر فيه " لا " ، والعرب لا تكاد تفرد " لا " في الكلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله تعالى: فلا صدق ولا صلى [القيامة: 31]، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62] . ومعنى " لا " مأخوذ من آخر هذا الكلام، فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة، فقال: فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة ثم كان من الذين آمنوا ففسرها بثلاثة أشياء . فكأنه كان في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا، وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على وجه الاستفهام، والمعنى: فهلا أنفق ماله في فك الرقاب والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! .

    فأما: الاقتحام فقد بيناه في [ص: 59] .

    وفي العقبة سبعة أقوال .

    أحدها: أنه جبل في جهنم، قاله ابن عمر .





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •