بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (528)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 531 إلى صـ 539
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] ، وقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء [ 6 \ 133 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 531 ] إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 14 \ 19 - 20 ] ، وقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس الآية [ 4 \ 133 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وننشئكم في ما لا تعلمون [ 56 \ 61 ] ، فيه للعلماء أقوال متقاربة .
قال بعضهم : " ننشئكم " بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات ، كأن ننشئكم قردة وخنازير ، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم .
وقال بعضهم : " ننشئكم " فيما لا تعلمونه من الصفات ، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه ، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون .
تضمنت هذه الآية الكريمة برهانا قاطعا ثانيا على البعث وامتنانا عظيما على الخلق بخلق أرزاقهم لهم ، فقوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، يعني أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها أي تحريكها وتسويتها أأنتم تزرعونه أي تجعلونه زرعا ، ثم تنمونه إلى أن يصير مدركا صالحا للأكل أم نحن الزارعون له ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال : أنت يا ربنا هو الزارع المنبت ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك فيقال لهم : كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل من هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم . وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث - جاء موضحا في آيات كقوله : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] ، وقوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية ، وغير ذلك من المواضع ، [ ص: 532 ] وأحلنا عليها مرارا .
تنبيه :
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، لأن الله - جل وعلا - وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق ، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره ، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم ، وذلك قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
والمعنى : انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه ، من هو الذي خلق الماء الذي صار سببا لإنباته ، هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء ؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود ، ثم هب أن الماء خلق ، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقي به الأرض من غير هدم ولا غرق ؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض ، من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع ؟ ثم هب أن الزرع طلع ، فمن هو الذي يقدر على إخراج السنبل منه ؟ ثم هب أن السنبل خرج منه ، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحا للأكل ؟
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، والمعنى : انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفا لا يصلح للأكل ، وانظروا إلى ينعه ، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعا مدركا صالحا للأكل ، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه - قادر على كل شيء ، منعم عليكم عظيم الإنعام ; ولذا قال : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر .
قوله تعالى : ثم شققنا الأرض [ 80 \ 25 ] أي عن النبات شقا إلى آخر ما بيناه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 65 ] ، يعني لو نشاء تحطيم ذلك الزرع لجعلناه حطاما ، أي فتاتا وهشيما ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم . ومفعول فعل المشيئة محذوف للاكتفاء عنه بجزاء الشرط ، وتقديره كما ذكرنا . وقوله : فظلتم تفكهون [ 56 \ 65 ] [ ص: 533 ] قال بعض العلماء : المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم .
وقال بعض العلماء : تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى : فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها [ 18 \ 42 ] .
وقال بعض العلماء : تندمون على معصية الله التي كانت سببا لتحطيم زرعكم . والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر .
قوله تعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون .
تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانا عظيما على خلقه بالماء الذي يشربونه ، وذلك أيضا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه ، والمعنى : أفرأيتم الماء الذين تشربون ، الذي لا غنى لكم عنه لحظة ، ولو أعدمناه لهلكتم جميعا في أقرب وقت : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] .
والجواب الذي لا جواب غيره - هو أنت يا ربنا ، هو منزله من المزن ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك . فيقال لهم : إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكرا لنعمة هذا الماء ، كما أشار له هنا بقوله : فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] - جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 25 \ 48 - 49 ] ، وقوله تعالى : وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : لو نشاء جعلناه أجاجا [ 56 \ 70 ] ، أي لو نشاء جعله أجاجا لفعلنا ، ولكن جعلناه عذبا فراتا سائغا شرابه ، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين .
[ ص: 534 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب - جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 : 30 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] ، لأن الذهاب بالماء وجعله غورا لم يصل إليه وجعله أجاجا ، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء . وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة أأنتم أنزلتموه من المزن [ 56 \ 69 ] ، يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك ، أن أصله كله نازل من المزن ، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض [ 23 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين الآية [ 15 \ 22 ] ، وفي سورة " سبأ " في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، فلولا بمعنى هلا ، وهي حرف تحضيض ، وهو الطلب بحث وحض ، والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض .
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده .
فشكر العبد لربه ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى . فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها ، وهكذا في جميع الجوارح . وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان . وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا : فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل ، ومنه قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] ، وقوله تعالى : إن ربنا لغفور شكور [ 35 \ 34 ] ، [ ص: 535 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة ، وإلى المنعم أخرى ، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي [ 27 \ 19 ] ، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك : نحمد الله ونشكر له ، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام ، كقوله : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، وقوله : أن اشكر لي ولوالديك [ 31 \ 14 ] ، وقوله : واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 16 \ 114 ] ، وقوله : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه هي اللغة الفصحى ، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن ، ومن ذلك قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
وقول جميل بن معمر :
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما على عذبة الأنياب طيبة النشر
فإنكما إن عجتما لي ساعة شكرتكما حتى أغيب في قبري
وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب " لو " باللام ، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ ، لأنه تعالى قال : لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 65 ] ، باللام ثم قال : لو نشاء جعلناه أجاجا [ 56 \ 70 ] ، بدونها .
قوله تعالى : أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين .
قوله تعالى : التي تورون [ 56 \ 71 ] ، أي توقدونها من قولهم : أورى النار إذا قدحها وأوقدها ، والمعنى : أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها ، أي أوجدتموها من العدم ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها ، ونحن [ ص: 536 ] لا قدرة لنا بذلك فيقال : كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء ؟
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث - جاء موضحا في " يس " في قوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون [ 36 \ 79 - 80 ] . فقوله في آخر " يس " : توقدون [ 36 \ 80 ] هو معنى قوله في الواقعة : تورون [ 56 \ 71 ] . وقوله في آية " يس " : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا [ 36 \ 80 ] ، بعد قوله : يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث . وقوله هنا أأنتم أنشأتم شجرتها [ 56 \ 72 ] ، أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار ، ومن أمثال العرب : في كل شجر نار ، واستنجد المرخ والعفار ، لأن المرخ والعفار هما أكثر الشجر نصيبا في استخراج النار منهما ، يأخذون قضيبا من المرخ ويحكمون به عودا من العفار فتخرج من بينهما النار ، ويقال : كل شجر فيه نار إلا العناب .
وقوله : نحن جعلناها تذكرة [ 56 \ 73 ] أي نذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا شدة حرارتها - نار الآخرة التي هي أشد منها حرا لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم : أن حرارة نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة ، فهي تفوقها بتسع وستين ضعفا ، كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا .
وقوله تعالى : ومتاعا للمقوين [ 56 \ 73 ] ، أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض ، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد ، وهم المسافرون ، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعا عظيما في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد .
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة - كون اللفظ واردا للامتنان . وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوما للمقوين ، لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضا لغير المقوين من الحاضرين بالعمران ، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى ، فالرجال إذا كان في الخلا قيل له : أقوى . والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت .
ومنه قول نابغة ذبيان :
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقول عنترة :
[ ص: 537 ]
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل للمقوين : أي للجائعين ، وقيل غير ذلك ، والذي عليه الجمهور هو ما ذكرنا .
قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم .
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم .
قوله تعالى : إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم .
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، وأكد إخباره بأن هذا القرآن العظيم هو حق اليقين ، وأمر نبيه بعد ذلك بأن يسبح باسم ربه العظيم .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية ذكره الله - جل وعلا - في آخر سورة الحاقة في قوله في وصفه للقرآن وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم [ 69
- 52 ] ، والحق هو اليقين .
وقد قدمنا أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين أسلوب عربي ، وذكرنا كثرة وروده في القرآن وفي كلام العرب ، ومنه في القرآن قوله تعالى : ولدار الآخرة [ 12 \ 109 ] ، و " لدار " هي الآخرة ، وقوله : ومكر السيئ [ 35 \ 43 ] ، والمكر هو السيئ بدليل قوله بعده : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .
وقوله : من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، والحبل هو الوريد ، وقوله : شهر رمضان [ 2 \ 185 ] ، والشهر هو رمضان .
ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
والبكر هي المقاناة .
وقول عنترة :
ومشك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
لأن مراده بالمشك هنا الدرع نفسها بدليل قوله : هتكت فروجها ، يعني الدرع ، وإن كان أصل المشك لغة السير الذي تشد به الدرع ، لأن السير لا تمكن إرادته في بيت [ ص: 538 ] عنترة هذا خلافا لما ظنه صاحب تاج العروس ، بل مراد عنترة بالمشك الدرع ، وأضافه إلى السابغة التي هي الدرع كما ذكرنا ، وإلى هذا يشير ما ذكروه في باب العلم ، وعقده في الخلاصة بقوله :
وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف
لأن الإضافة المذكورة من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، وقد بينا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن قوله في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
إن الذي يظهر لنا من استقراء القرآن والعربية أن ذلك أسلوب عربي ، وأن الاختلاف بين اللفظين كاف في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، وأنه لا حاجة إلى التأويل مع كثرة ورود ذلك في القرآن والعربية .
ويدل له تصريحهم بلزوم إضافة الاسم إلى اللقب إن كانا مفردين نحو سعيد كرز ، لأن ما لا بد له من تأويل لا يمكن أن يكون هو اللازم كما ترى ، فكونه أسلوبا أظهر .
وقوله : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 96 ] ، التسبيح : أصله الإبعاد عن السوء ، وتسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وذلك التنزيه واجب له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، والظاهر أن الباء في قوله : باسم ربك [ 56 \ 96 ] داخلة على المفعول ، وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة الآية [ 19 \ 25 ] أدلة كثيرة من القرآن وغيره على دخول الباء على المفعول الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، كقوله : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، والمعنى : وهزي جذع النخلة .
وقوله : ومن يرد فيه بإلحاد [ 22 \ 25 ] ، أي إلحادا إلى آخر ما قدمنا من الأدلة الكثيرة ، وعليه فالمعنى : سبح اسم ربك العظيم كما يوضحه قوله في الأعلى سبح اسم ربك الأعلى [ 87 \ 1 ] .
وقال القرطبي : الاسم هنا بمعنى المسمى ، أي سبح ربك ، وإطلاق الاسم بمعنى المسمى معروف في كلام العرب ، ومنه قول لبيد :
[ ص: 539 ]
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ولا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا لإمكان كون المراد نفس الاسم ، لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون عن كل ما لا يليق ، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن ، وفي ذلك أكمل تنزيه لها لأنها مشتملة على صفاته الكريمة ، وذلك في قوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] ، وقوله تعالى : أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] .
ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى ، هل الاسم هو المسمى أو لا ؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية ، والعلم عند الله تعالى .