بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (518)
سُورَةُ الطُّورِ .
صـ 451 إلى صـ 458
[ ص: 451 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الطُّورِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ .
هَذِهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْسَمَ بِبَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ ، وَأَقْسَمَ بِجَمِيعِهَا فِي آيَةٍ عَامَّةٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا .
أَمَّا الَّذِي أَقْسَمَ مِنْهَا إِقْسَامًا خَاصًّا فَهُوَ الطُّورُ ، وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [ 95 \ 21 ] .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَسْطُورَ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنَ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [ 43 \ 1 - 2 ] ، [ 44 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ 36 \ 1 - 2 ] ، وَقِيلَ : هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ : هُوَ السَّمَاءُ ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [ 51 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [ 85 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [ 91 \ 5 ] ، وَالرَّقُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ صَحِيفَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ الْمُرَقَّقُ لِيُكْتَبَ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : مَنْشُورٍ أَيْ مَبْسُوطٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [ 17 \ 13 ] ، وَقَوْلُهُ : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [ 74 \ 52 ] .
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ : هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْرُوفُ فِي السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بِالضُّرَاحِ بِضَمِّ الضَّادِ ، وَقِيلَ فِيهِ مَعْمُورٌ ، لِكَثْرَةِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَعَبِّدِي نَ ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ : " أَنَّهُ يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا " .
[ ص: 452 ] وَقَوْلُهُ : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجُورَ هُوَ الْمُوقَدُ نَارًا ، قَالُوا : وَسَيَضْطَرِمُ الْبَحْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ، مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ 40 \ 72 ] .
الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْمَسْجُورَ بِمَعْنَى الْمَمْلُوءِ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوءٌ مَاءً ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَسْجُورِ عَلَى الْمَمْلُوءِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا
فَقَوْلُهُ : مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً ، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ :
إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورَةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسَّاسَمَا
وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ 81 \ 6 ] ، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [ 69 \ 38 - 39 ] ، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون .
الدع في لغة العرب : الدفع بقوة وعنف ، ومنه قوله تعالى : فذلك الذي يدع اليتيم ، أي يدفعه عن حقه بقوة وعنف ، وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة .
والثاني : أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخا وتقريعا : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات أخر ، أما [ ص: 453 ] الأخير منهما ، وهو كونهم يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] ، وقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله في السجدة : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] ، وقوله في سبأ : فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون [ 34 \ 42 ] ، وقوله تعالى في المرسلات : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الأول منهما وهو كونهم يدفعون إلى النار بقوة فقد ذكره الله - جل وعلا - في آيات من كتابه كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] ، أي جروه بقوة وعنف إلى وسط النار . والعتل في لغة العرب : الجر بعنف وقوة ، ومنه قول الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل
وقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [ 55 \ 41 ] ، أي تجمع الزبانية بين ناصية الواحد منهم ، أي مقدم شعر رأسه وقدمه ، ثم تدفعه في النار بقوة وشدة .
وقد بين - جل وعلا - أنهم أيضا يسحبون في النار على وجوههم في آيات من كتابه كقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 70 - 72 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة " يوم يدعون " - بدل من قوله " يومئذ " في قوله تعالى قبله : فويل يومئذ للمكذبين [ 52 \ 11 ] .
قوله تعالى : اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار معذبون في النار لا محالة ، سواء صبروا أو لم يصبروا ، فلا ينفعهم في ذلك صبر ولا جزع ، وقد أوضح هذا المعنى في قوله : قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص [ 14 \ 21 ] .
[ ص: 454 ] قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين . ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس ، وقد بين تعالى في آيات أخر أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم ، وذلك في قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين [ 74 \ 38 - 41 ] .
ومن المعلوم أن التخصيص بيان ، كما تقرر في الأصول .
قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون .
لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه مما يشتهون ، وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] ، وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله : ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 2 ] ، وقوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون [ 37 \ 41 - 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ووصف اللحم المذكور بأنه من الطير ، والفاكهة بأنها مما يتخيرونه على غيره ، وذلك في قوله : وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 20 - 21 ] .
قوله تعالى : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم .
قرأه ابن كثير وأبو عمرو : " لا لغو " بالبناء على الفتح ، " ولا تأثيم " كذلك لأنها " لا " التي لنفي الجنس فبنيت معها ، وهي إن كانت كذلك ؛ نص في العموم ، وقرأه الباقون من السبعة لا لغو فيها ولا تأثيم بالرفع والتنوين . لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها ، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين ، وإعمالها كثير ، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية ، وقول الشاعر :
وما هجرتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل
وقوله : يتنازعون فيها كأسا : أي يتعاطون ، ويتناول بعضهم من بعض . " كأسا " أي خمرا ، فالتنازع يطلق لغة على كل تعاط وتناول ، فكل قوم يعطي بعضهم بعضا شيئا [ ص: 455 ] ويناوله إياه ، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب .
ومنه في الشراب قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة السار
فقوله : نازعته طيب الراح : أي ناولته كئوس الخمر وناولنيها ، ومنه في الكلام قول امرئ القيس :
ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
والكأس تطلق على إناء الخمر ، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء ، وهي مؤنثة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا لغو فيها ولا تأثيم يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، فخمر الآخرة لا لغو فيها ، واللغو كل كلام ساقط لا خير فيه ، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان ، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا ، فإنهم إن يشربوها سكروا وطاشت عقولهم ، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان ، وكل ذلك من اللغو .
والتأثيم : هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم ، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها ، لأنها مباحة له ، فنعم بلذتها كما قال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ 47 \ 15 ] ، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثما بخلاف خمر الدنيا ، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] ، وقوله : لا فيها غول : أي ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا . ولا هم عنها ينزفون : أي لا يسكرون ، وكقوله تعالى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] ، [ ص: 456 ] وقوله : لا يصدعون أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها .
وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة ، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] .
قوله تعالى : ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم " غلمان " جمع غلام ، أي خدم لهم ، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم [ 15 \ 53 ] .
ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به ، وذكر هنا حسنهم بقوله : كأنهم لؤلؤ مكنون في أصدافه ، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه ، وقيل : " مكنون " أي مخزون لنفاسته ، لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن .
وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين [ 56 \ 17 - 18 ] ، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين ، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب [ 76 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا [ 76 \ 15 - 16 ] .
والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله : ويطاف عليهم في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة ، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا ، وأن [ ص: 457 ] المسئول عنهم يقول للسائل : إنا كنا قبل أي في دار الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله ، ونحن بين أهلنا أحياء " فمن الله علينا " أي أكرمنا ، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم ، والسموم النار ولفحها ووهجها ، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام ، والجمع سمائم . ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
أنامل لم تضرب على البهم بالضحى بهن ووجه لم تلحه السمائم
وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد ، ومنه قول الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه الفاء في قوله : فمن الله علينا تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة منه في الآخرة - يفهم من دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته : أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع . فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ، وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور الآية [ 84 \ 10 - 14 ] .
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله : إنه كان في أهله مسرورا علة لقوله : فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا .
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف ، ويؤيد ذلك قوله بعده : إنه ظن أن لن يحور ؛ لأن معناه : ظن أن لن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة ، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب ، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء . وكون " لن يحور " بمعنى لن يرجع - معروف في كلام العرب ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي :
[ ص: 458 ]
أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله : فلا تحوري ، أي فلا ترجعي .
وقول لبيد بن ربيعة العامري :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
أي يرجع رمادا ، وقيل : يصير ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون الآية [ 56 \ 41 - 47 ] ، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله : مترفين ، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله : أئذا متنا وكنا ترابا الآية - دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ، وهو علة كونهم في سموم وحميم .
وقد قدمنا قريبا أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الآية - علة لقوله : في سموم وحميم الآية .
وقد ذكر - جل وعلا - أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ، قال تعالى في المعارج : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون إلى قوله : أولئك في جنات مكرمون الآيات [ 27 \ 35 ] ، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 57 - 61 ] ، وقد قال تعالى : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] .
وقوله في آية الواقعة المذكورة : وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ، كالشرك وإنكار البعث ، وقيل : المراد بالحنث حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] .