تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 25 من 26 الأولىالأولى ... 151617181920212223242526 الأخيرةالأخيرة
النتائج 481 إلى 500 من 511

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #481
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4634 الى صـ 4648
    الحلقة (480)





    [129] وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون .

    وتتخذون مصانع أي: منازل وقصورا: لعلكم تخلدون أي: راجين الخلود في الدنيا إشارة إلى أن عملهم ذلك، لقصر نظرهم على الدنيا والإعجاب بالآثار، والتباهي بالمشيدات والغفلة عن أعمال المجدين البصيرين بالعواقب، الصالحين المصلحين.


    [130] وإذا بطشتم بطشتم جبارين

    وإذا بطشتم بطشتم جبارين أي: تأخذون بالعنف والشدة، كبرا وعتوا. يقال: بطش به أي: أخذه بالعنف والسطوة، وتناوله بشدة عند الصولة، يصفهم عليه السلام بالقسوة وعدم الرحمة والشفقة.


    [131 - 134] فاتقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون .

    فاتقوا الله أي: فيما آمركم به من التوبة والإيمان: وأطيعون واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أي: فاشكروا نعماءه وارعوا بتقواه آلاءه.


    [135] إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

    إني أخاف عليكم أي: إن لم تقوموا بواجب شكرها: عذاب يوم عظيم أي: في الدنيا والآخرة.


    [136] قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين

    قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين أي: فإنا لن نرعوي عما نحن عليه.


    [137] إن هذا إلا خلق الأولين

    إن هذا أي: ما هذا الذي نحن عليه: إلا خلق الأولين أي: عادتهم. كانوا يدينون به ويعتقدونه. فنحن بهم مقتدون. أو ما هذا الذي جئتنا به إلا عادة الأولين. كانوا يلقفون مثله.


    [138 - 146] وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين

    وما نحن بمعذبين أي: على ما نحن عليه من الأعمال: فكذبوه فأهلكناهم أي: بريح صرصر: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما ها هنا آمنين أي: من الموت والزوال والعذاب.

    قال الزمخشري : يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيمهم لا يزالون عنه. وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتنعمون فيه من الجنات وغير ذلك، مع الأمن والدعة. وقوله تعالى: في ما ها هنا أي: في الذي استقر في هذا المكان من النعيم.

    [147 - 153] في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين

    في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم أي: لطيف لين: وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي: بطرين. وقرئ (فرهين) وهو أبلغ. وقيل: فاره من (فره) بالضم، بمعنى حذق. وفره صفة من (فره) كفرح، بمعنى أشر وبطر: فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا إنما أنت من المسحرين أي: الذين سحروا حتى غلب على عقولهم.


    [154 - 166] ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ ص: 4637 ] أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون

    ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب أي: نصيب من الماء: ولكم شرب يوم معلوم أي: فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها: ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم أي: لعظم ما تسيئون.

    قال الزمخشري : عظم اليوم لحلول العذاب فيه، ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب. لأن الوقت إذا عظم بسببه، كان موقعه من العظم أشد: فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب أي: الموعود، وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون أي: مجاوزون حد الحكمة في ترك محل الحرث، الحافظ للنسل، الذي به حفظ النوع البشري، وإيثار ما لم يخلق لذلك، شرها في الشهوة الحيوانية، ومكافحة لتغيير الأوضاع الربانية.

    ونقل السيوطي في (الإكليل) عن محمد بن كعب القرظي ، أن معنى الآية: تذرون مثله من المباح. فاستدل بذلك على إباحة وطء الزوجة من دبرها. انتهى.

    وخالفه غيره. فاستدل بها على حظره. وبيانه كما في (الكشاف) و (حواشيه) أن (من) إما تبيين لما خلق، أو للتبعيض. ويراد به العضو المباح منهن، تعريضا بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم. ومن الوجه الثاني يستدل على حظر إتيان المرأة في غير المأتى. وتقريره في (الانتصاف) أن (من) لو كانت بيانا لكان المعنى حينئذ على ذمهم بترك الأزواج. [ ص: 4638 ] ولا شك أن ترك الأزواج مضموم إلى إتيان الذكران. وحينئذ يكون المنكر عليهم الجمع بين ترك الأزواج وإتيان الذكران، لا أن ترك الأزواج وحده منكر. ولا كان الأمر كذلك، لكان النصب في الثاني متوجها على الجمع. وكان إما الأفصح أو المتعين. وقد اجتمعت العامة -عامة القراء- على القراءة به مرفوعا ولا يتفقون على ترك الأفصح إلى ما لا مدخل له في الفصاحة، أو في الجواز أصلا. فلما وضح ذلك تبين أن هذا المعنى غير مراد. فتعين حمل (من) على البعضية. فيكون المنكر عليهم أمرين. كل واحد منهما مستقل بالإنكار: أحدهما إتيان الذكران. والثاني مجانبة إتيان النساء في المأتى، رغبة في إتيانهن في غيره. وحينئذ يتوجه الرفع لفوات الجمع اللازم على الوجه الأول، واستقلال كل واحد من هاتين العظيمتين بالنكير. انتهى.

    ومثله من دقيق الاستنباط الذي يوسع المدارك ويفتح للتفهم أبوابا، وإن أمكن أن يقال إن سياق الآية في الملام لهم، أعم مما ذكره ومن غيره. والله أعلم.


    [167] قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين

    قالوا لئن لم تنته يا لوط أي: عن تقبيح أمرنا: لتكونن من المخرجين أي: من قريتنا عنفا، إذ لا تجانسنا.


    [168 - 169] قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون

    قال إني لعملكم من القالين أي: المبغضين غاية البغض. أي: فأنا أرغب في الخروج عن دياركم، والراحة من مجاورتكم، لبغضي لعملكم، الآيل بكم إلى الدمار وخراب الديار. ولذا أتبعه بقوله: رب نجني وأهلي مما يعملون أي: من شؤمه وغائلته.


    [170 - 172] فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين

    فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا وهي امرأته. كما بينت في آيات: في الغابرين أي: مقدرا كونها من الباقين في العذاب. لأنها كانت راضية بعمل قومها.

    لطيفة:

    قال الناصر في (الانتصاف): كثيرا ما ورد في القرآن، خصوصا في هذه السورة، العدول عن التعبير بالفعل إلى التعبير بالصفة المشتقة. ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع. كقول فرعون: لأجعلنك من المسجونين وقولهم: سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين وقولهم: لتكونن من المرجومين وقوله: إني لعملكم من القالين وقوله تعالى في غيرها: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وكذلك: ذرنا نكن مع القاعدين وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك، والله أعلم، أن التعبير بالفعل، إنما يفهم وقوعه خاصة. وأما التعبير بالصفة، ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع، فإنه يفهم أمرا زائدا على وقوعه. وهو أن الصفة المذكورة، كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به. كأنها لقب. وكأنه من طائفة صارت كالنوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة. واعتبر ذلك لو قلت: رضوا بأن يتخلفوا، لما كان في ذلك مزيد على الإخبار بوقوع التخلف منهم لا غير.وانظر إلى المساق وهو قوله: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف كيف ألحقهم لقبا رديئا، وصيرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف، حتى صارت لقبا لاحقا به. وهذا الجواب عام في جميع ما يرد عليك من أمثال ذلك. فتأمله واقدره قدره: ثم دمرنا الآخرين أي: أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه.


    [173 - 176] وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين

    وأمطرنا عليهم مطرا أي: عظيما غير معهود، هلكوا به: فساء مطر المنذرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كذب أصحاب الأيكة المرسلين وهم أهل مدين. ووهم من زعم أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب عليه السلام: فإنهم أمة واحدة كانوا يقطنون (مدين) أضيفوا إليها تارة وأخرى إلى ما حوتها من الأيكة، وهي الأشجار الكثيرة الملتفة المجتمعة في مكان واحد.

    قال الحافظ ابن كثير : والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء. ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء. فدل ذلك على أنهما أمة واحدة.

    تنبيه:

    قال أبو عمرو : وكتب في جميع المصاحف (ليكة) في الشعراء و ، بلام من غير ألف قبلها. وفي الحجر وق: (الأيكة) ولذا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر بلام مفتوحة، من غير همز قبلها ولا بعدها. ونصب التاء غير منصرف. والباقون (الأيكة) بإسكان اللام وهمز [ ص: 4641 ] وصل قبله، وهمزة قطع مفتوحة بعده، وجر التاء. وحمزة وصلا ووقفا على أصله. وقراءة الأولين استشكلها أبو علي الفارسي وغيره، بأنه لا وجه للفتح. لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الإعراب من الكسر إلى الفتح. أي: فإن العرب تقول في الأحمر (الحمر ولحمر) وإثبات الألف واللام في (الأيكة) في سائر القرآن يدل -كما قال الزجاج - على أن حذف الهمزة منها التي هي ألف الوصل، بمنزلة قولهم: (لحمر) وقرئ (ليكة) بالجر على الإضافة في غير السبع. لكن قال الزمخشري : هو الوجه. ومن قرأ بالنصب، وزعم أن ليكة، بوزن ليلة، اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة بغير ألف. وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه. وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ. كما يكتب أصحاب النحو -لأن ولولي- على هذه الصورة، لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل. والقصة واحدة. على أن (ليكة) اسم لا يعرف. انتهى.


    [177 - 181] إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين

    إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل أي: أتموه: ولا تكونوا من المخسرين أي: حقوق الناس بإعطائهم ناقصا.


    [182 - 183] وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين

    وزنوا بالقسطاس المستقيم أي: بالميزان السوي: ولا تبخسوا الناس أشياءهم أي: لا تنقصوهم حقوقهم. قال الزمخشري : وهو عام في كل حق ثبت لأحد، أن لا يهضم. وفي كل ملك أن لا يغصب عليه مالكه، ولا يتحيف منه، ولا يتصرف فيه، إلا بإذنه تصرفا شرعيا ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي: بالقتل والغارة وقطع الطريق والجور والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.


    [184 - 186] واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين

    واتقوا الله: الذي خلقكم والجبلة الأولين أي: وذوي الجبلة الأولين، وهم من تقدمهم من الخلائق: قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين أي: فيما تدعيه من النبوة.


    [187 - 188] فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون

    فأسقط علينا كسفا من السماء قطعا منها. قرئ (كسفا) بسكون السين [ ص: 4643 ] وتحريكها. وكلاهما جمع (كسفة): إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون أي: من الكفر والمعاصي، وبما تستوجبون عليها من العذاب، بإسقاط كسف أو غيرها مما يشاؤه إذا جاء أجلكم، فإليه الحكم.


    [189] فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم

    فكذبوه أي: فاستمروا على تكذيبه ولم يتوبوا: فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم أي: لحلول العقاب فيهم، من جنس ما سألوه، من إسقاط السماء قطعا عليهم. فقد أظلتهم سحابة أطبقت عليهم، وأظلمت الجو فوقهم، وغشيهم العذاب وأحاط بهم. و(الظلة) بالضم لغة، الغاشية، وما أطبق وستر من فوق.

    قال الحافظ ابن كثير : ذكر تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن. كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق. ففي الأعراف ذكر أنهم: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه: فأخذتهم الرجفة وفي سورة هود قال: وأخذت الذين ظلموا الصيحة ذلك لأنهم استهزؤوا بنبي الله في قولهم: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء. فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال: وأخذت الذين ظلموا الصيحة وههنا قالوا: فأسقط علينا كسفا من السماء الآية، على وجه التعنت والعناد. فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه: فأخذهم عذاب يوم الظلة انتهى.


    [190 - 191] إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم .

    إن في ذلك لآية أي: على أخذ العصاة بمقتضى أعمالهم: وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم أي: الغالب على تعذيب من شاء بما شاء، الرحيم، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لئلا يكون للناس على الله حجة.

    قال الزمخشري : فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة، في أول كل قصة وآخرها، ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه. وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بما اختتمت به. ولأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس، وتثبيتا لها في الصدور. ألا ترى أنه لا طريق إلى تحفظ العلوم إلا ترديد ما يراد تحفظه منها؟

    وكلما زاد ترديده كان أمكن له في القلب، وأرسخ في الفهم، وأثبت للذكر، وأبعد من النسيان. ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق، وقلوب غلف عن تدبره، فكوثرت بالوعظ والتذكير، وروجعت بالترديد والتكرير. لعل ذلك يفتح أذنا، أو يفتق ذهنا، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل أو يجلو فهما قد غطى عليه تراكم الصدأ. وقوله تعالى:


    [192 - 195] وإنه لتنـزيل رب العالمين نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين

    " وإنه أي: ما ذكر من الآيات الناطقة بالقصص المحكية، أو القرآن المتضمن لها: لتنـزيل رب العالمين أي: منزل منه حقا: نـزل به الروح الأمين أي: جبريل عليه السلام: على قلبك لتكون من المنذرين أي: منتظما في سلك أولئك المشهورين بتلك المزية الجليلة، والمنقبة الفاضلة. وهي الرسالة الإلهية بالإنذار، إزالة للأعذار: بلسان عربي مبين أي: واضح المعنى جلي المفهوم، ليكون قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة. والجار متعلق بــ(نزل).


    [196 - 197] وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

    وإنه لفي زبر الأولين أي: في كتبهم. مع أنه صلوات الله عليه لم يصحب أهلها ولم يدرسها. فكفى بذلك شهيدا على صدقه: أولم يكن لهم آية أي: علامة على تنزيله الحق: أن يعلمه علماء بني إسرائيل أي: فيجدون مصداقه في زبرهم التي يدرسونها، كما قال تعالى: وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين


    [198 - 209] ولو نـزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ ص: 4646 ] فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين

    ولو نـزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين أي: ولو نزلناه بنظمه البديع على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية، فقرأه عليهم قراءة فصيحة، انفتق لسانه بها، خرقا للعادة، لكفروا به كما كفروا. ولتمحلوا لجحودهم عذرا. ولسموه سحرا، لفرط عنادهم: كذلك سلكناه في قلوب المجرمين أي: مكنا هذا العناد والإباء عن الإيمان به، في قلوبهم وأنفسهم. وقررناه فيها: لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أي: وهو ما هو، عياذا به منه: أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون أي: من طوال الأعمار وطيب المعايش: وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى أي: رسل ينذرونهم لأجل الموعظة والتذكرة: وما كنا ظالمين أي: فنبغتهم بالعذاب قبل الإنذار، فإن ذلك محال في حكمة الحكم العدل.


    [210 - 213] وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين

    وما تنـزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون رد لما زعمه المشركون من أن التنزيل الكريم من قبيل ما تلقيه الشياطين على الكهنة، بعد تحقيق الحق ببيان أنه نزل به الروح الأمين. وقوله تعالى: إنهم عن السمع أي: الاستماع عن الملائكة: لمعزولون لانتفاء الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق عليهم، لخباثة نفوسهم بالذات، فهم مرجومون مبعدون عن الأنوار القدسية والبراهين السبوحية: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين في الدارين، عذاب تعديد الوجهة، واضطراب الفكر، وضعف الشبهة، وتوهين العقل في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.





  2. #482
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4649 الى صـ 4660
    الحلقة (481)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [214 - 219] وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين .

    [ ص: 4648 ] " وأنذر عشيرتك الأقربين أي: الأدنين. وإنه لا يخلص أحدا منه إلا إيمانه بربه عز وجل. وقد قال عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه: « يا فاطمة ابنة محمد ! يا صفية ابنة عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئا. أنقذوا أنفسكم من النار » . وقد بسط الأحاديث الواردة في ذلك، ابن كثير . فراجعه. وقوله تعالى: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين أي: لين جانبك لهم. مستعار من حال الطائر. فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم أي: من النوم إلى التهجد: وتقلبك في الساجدين أي: المصلين. أي: تصرفك فيما بينهم بالقيام والركوع والسجود، إذا أممتهم. يعني: يراك وحدك ويراك في الجمع. والتوصيف بذلك للتذكير بالعناية بالصلاة ليلا وجمعا وفرادى. أو معنى الآية: لا يخفى عليه حالك، كلما قمت وتقلبت مع الساجدين، في كفاية أمور الدين. أو هي كناية عن رعايته صلوات الله عليه، والعناية به. كقوله تعالى: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [220 - 222] إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين تنـزل على كل أفاك أثيم .

    إنه هو السميع العليم أي: لما تقوله وبما تنويه: هل أنبئكم على من تنـزل الشياطين أي: تتنزل وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله بعد امتناع تنزلهم بالقرآن: تنـزل على كل أفاك أثيم أي: كذاب في قوله، في الكلام من وجه إلى آخر، ولا يبالي بذلك. لأنه أثيم كثير الإثم والفجور في فعله. [ ص: 4649 ] وحيث كان المقام النبوي منزها عن ذلك، اتضح استحالة تنزلهم عليه.

    قال القاشاني: لأن تنزلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها، بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والقدر والخيانة وسائر الرذائل. فمن تجرد عن صفات النفس، وترقى إلى جناب القدس، وتنورت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية، وأشرق عقله بالاتصال بالعالم الأعلى، فلا يمكن للشياطين أن يتنزلوا عليه، ولا أن يتلقفوا المعارف والحقائق والشرائع. فإنهم معزولون عن استماع كلام الملكوت الأعلى، مرجومون بشهب الأنوار القدسية. وقوله تعالى: قل هل أنبئكم تقرير لقوله تعالى: وما ينبغي لهم وما يستطيعون لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية، المستمدة من الشياطين بالمناسبة، المستدعية لإلقائهم وتنزلهم بحسب الجنسية. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [223 - 226] يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون

    يلقون أي: الأفاكون: السمع أي: إلى الشياطين وأوهامهم ووساوسهم: وأكثرهم كاذبون أي: فيما يتكهنون به، وفيما يحكونه عن الشياطين. وقوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن الكريم، من أنه من قبيل الشعر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء، ببيان حال الشعراء المنافية لحاله عليه الصلاة والسلام. بعد إبطال ما قالوا إنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل، بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله عليه الصلاة والسلام.

    والمعنى أن الشعراء [ ص: 4650 ] الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة، سواء كانت موزونة أم لا، فإنه يتبعهم: أي: يجاريهم ويسلك مسلكهم، ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن، لا غيرهم من أهل الرشد، المهتدين إلى طريق الحق، الداعين إليه. قاله أبو السعود.

    وقوله تعالى: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وتقرير له. أي: ألم تر أنهم في كل واد من أودية الخيال يهيمون على وجوههم، لا يقفون عند حد معين، بل يركبون للباطل والكذب وفضول القول كل مركب. ديدنهم الهجاء، وتمزيق الأعراض، والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار. ومدح من لا يستحق المدح، والغلو في الثناء والهجاء.

    لطيفة:

    في ذكر الوادي والهيام، تمثيل لذهابهم في شعب القول وفنونه وطرقه وشجونه. قال ابن الأثير: استعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها. وإنما خص الأودية بالاستعارة، ولم يستعر الطرق والمسالك، أو ما جرى مجراها -لأن معاني الشعر تستخرج بالفكرة والروية، والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض. فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق.

    وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي: مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم. أي: فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم، من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة، واتصف بمحاسن الصفات [ ص: 4651 ] الجليلة، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة، وحاز جميع الكمالات القدسية، وفاز بجملة الملكات الأنسية، مستقرا على المنهاج القويم، مستمرا على الصراط المستقيم، ناطقا بكل أمر رشيد، داعيا إلى صراط العزيز الحميد، مؤيدا بمعجزات قاهرة، وآيات ظاهرة، مشحونة بفنون الحكم الباهرة، وصنوف المعارف الزاهرة، مستقلة بنظم رائق، أعجز كل منطيق ماهر، وبكت كل مفلق ساحر! قاله أبو السعود.

    تنبيه:

    قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا. هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون -على قولين: وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في (الطبقات) والزبير بن بكار في كتاب (الفكاهة) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان، من أرض البصرة. وكان يقول الشعر، فقال:


    ألا هل أتى الحسناء أن خليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية
    ورقاصة تحثو على كل مبسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
    ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه
    تنادمنا بالجوسق المتهدم


    فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: إي والله! إنه ليسوؤني بذلك. ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر : (بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير أما بعد فقد بلغني قولك:


    لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم


    [ ص: 4652 ] وايم الله! إنه ليسوؤني ذلك. وقد عزلتك).

    فلما قدم على عمر . بكته بهذا الشعر. وقال: والله! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر : أظن ذلك. ولكن، والله! لا تعمل لي عملا أبدا، وقد قلت ما قلت.

    فلم يذكر أنه حده على الشراب، وقد ضمنه شعره. لأنهم يقولون ما لا يفعلون. ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به.

    وحكى الزمخشري عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:


    فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام


    فقال: وقد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله: وأنهم يقولون ما لا يفعلون

    ثم استثنى تعالى الشعراء المؤمنين الصالحين، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [227] إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون

    إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا أي: في شعرهم، بأن كان غالبه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والآداب الحسنة: وانتصروا أي: بشعرهم على عدوهم بأن هجوه: من بعد ما ظلموا أي: فكان هجاؤهم على سبيل [ ص: 4653 ] الانتصار ممن يهجوهم، جزاء وفاقا. قال الله: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وقال تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

    قال ابن كثير : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : « اهجهم، أو قال هاجهم، وجبريل معك » ويروي الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعر ما قد علمت، وكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نضح النبل » .

    تنبيهات:

    الأول: قال في (الإكليل): في قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون الآية، ذم الشعر، والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه، وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم، انتصارا. انتهى.

    وحكى الزمخشري عن عمرو بن عبيد، أن رجلا من العلوية قال له: إن صدري ليجيش بالشعر. فقال: فما يمنعك منه فيما لا بأس به؟ والقول فيه: أن الشعر باب من الكلام، محسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام.

    الثاني: ذكر ابن إسحاق أنه لما نزلت: والشعراء يتبعهم الغاوون جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون. قالوا: قد علم الله حين أنزل [ ص: 4654 ] هذه الآية أنا شعراء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال: أنتم.

    قال ابن كثير : لكن هذه السورة مكية، فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات في شعراء الأنصار؟ وفي ذلك نظر. ولم يرو فيه إلا مرسلات لا يعتمد عليها. والله أعلم. ولكن الاستثناء دخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم، حتى يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله، ثم تاب وأناب ورجع وأقلع، وعمل صالحا، وذكر الله كثيرا، في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ. فإن الحسنات يذهبن السيئات. وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه. كما قال: عبد الله بن الزبعرى، لما أسلم:


    يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت، إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغي
    ومن مال ميله مثبور


    وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو ابن عمه وأكثرهم له هجوا. فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقوله تعالى: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون تهديد شديد ووعيد أكيد، لما في "سيعلم" من تهويل متعلقه. وفي "الذين ظلموا" من إطلاقه وتعميمه. وفي "أي منقلب ينقلبون" من إبهامه وتهويله. كأنه لا يمكن معرفته، وقد رأوا ما حاق بهم في الدنيا. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    27- سُورَةُ النَّمْلِ


    قال المهايمي: سميت بها، لاشتمالها على مقالتها، الدالة على علم الحيوان بنزاهة الأنبياء وأتباعهم، عن ارتكاب المكاره عمدا، وهو مما يوجب الثقة بهم. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية وآياتها ثلاث وتسعون.

    [ ص: 4656 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 3] طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون

    طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين الإشارة إلى نفس السورة. والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل. أي: تلك السورة آيات القرآن الذي عرف بعلو الشأن. وآيات كتاب عظيم المقدار، مبين لما تضمنه من الحكم والأحكام والمواعظ والاعتبار هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أي: هو هدى من الضلالة، وبشرى برحمة الله ورضوانه، لمن آمن وعمل صالحا من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأيقن بالآخرة، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

    لطيفة:

    تكرير الضمير لإفادة الحصر والاختصاص على ما في (الكشاف).

    ولصاحب (الانتصاف) وجه آخر قال: لما كان أصل الكلام، وهم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله، عناية به، فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره، وقد حال المجرور بينهما، فطرى ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالمجرور حيث بقي على حاله مقدما: ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها، بعد ما يوجب التطرية. فأقرب منها أن الشاعر قال:


    سل ذو وعجل ذا وألحقنا بذا الشحم، إنا قد مللناه بخل


    [ ص: 4657 ] والأصل (وألحقنا بذا الشحم) فوقع منتصف الرجز أو منتهاه (على القول بأن مشطور الرجز بيت كامل) عند اللام. وبنى الشاعر على أنه لا بد، عند المنتصف أو المنتهى، من وقيفة ما. فقدر بتلك الوقفة بعدا بين المعرف وآلة التعريف. فطراها ثانية. فهذه التطرية لم تتوقف على أن يحول بين الأول وبين المكرر ولا كلمة واحدة، سوى تقديره وقفة لطيفة لا غير.

    ثم قال: فتأمل هذا الفصل فإنه جدير بالتأمل. والله أعلم.

    ثم تأثر أحوال المؤمنين بأحوال الكفرة، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4 - 8] إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين

    إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أي: مددنا لهم في غيهم، فهم يتيهون في ضلالهم. وكان هذا جزاء على ما كذبوه به من الدار الآخرة والجزاء على الأعمال كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون أي: أشد الناس [ ص: 4658 ] خسرانا للنجاة وثواب الله وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم أي: لتؤتاه وتلقنه من عند حكيم في أمره ونهيه، عليم بالأمور جليها وخفيها. فخبره هو الصدق المحض والحكمة البالغة، كما قال: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا والجملة مستأنفة، سيقت بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم، تمهيدا لما يعقبه من الأنباء الجليلة. وقد بدأ منها بما كان من أمر موسى عليه السلام واصطفائه وإيتائه من الآيات الباهرة ما أذل معانديه، وجعلهم مثل السوء. فقال سبحانه: إذ قال موسى لأهله أي: حين قفل من مدين إلى مصر، وأضل الطريق: إني آنست نارا أي: رأيتها: سآتيكم منها بخبر أي: عن الطريق: أو آتيكم بشهاب قبس أي: بشعلة مقتبسة: لعلكم تصطلون أي: تتدفئون به: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها أي: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها. ومكانها البقعة التي حصلت فيها. وتدل عليه قراءة أبي: (تباركت الأرض ومن حولها)، وعنه: بوركت النار. والذي بوركت له البقعة، وبورك من فيها وحواليها، حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم الله موسى، واستنباؤه له، وإظهار المعجزات عليه. ورب خير يتجدد في بعض البقاع، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ويبث آثار يمنه في أباعدها. فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى فـ تلك البقعة المباركة؟ كذا في (الكشاف).

    وقال السمين: (بارك) يتعدى بنفسه. فلذلك بني للمفعول: باركك الله، وبارك عليك، وبارك فيك وبارك لك. والمراد بـ(من) إما الباري تعالى وهو على حذف مضاف، أي: من قدرته وسلطانه في النار. وقيل المراد به موسى والملائكة. وكذلك قوله: ومن حولها وقيل المراد بـ(من) غير العقلاء. وهو النور والأمكنة التي حولها. انتهى.

    ولذا قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي [ ص: 4659 ] وحواليهما من أرض الشام. قال: ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وحقت أن تكون كذلك. فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم، ومهبط الوحي إليهم، وكفاتهم أحياء وأمواتا.

    ثم قال: ومعنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه، هي بشارة له بأنه قد مضى أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة. انتهى.

    وقال القرطبي : هذا تحية من الله تعالى لموسى، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: "رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت".

    وعن ابن عباس : لم تكن تلك النار نارا، وإنما كانت نورا يتوهج. وعنه: هي نور رب العالمين.

    وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام. يخفض القسط ويرفعه. يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل. حجابه النور أو النار. لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة : أن بورك من في النار ومن حولها

    قال ابن كثير : وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة : وسبحان الله رب العالمين أي: الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، ولا يكتنفه الأرض والسماوات، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. قاله ابن كثير .

    وقد أفاد أن المقام اقتضى التنزيه، دفعا لإيهام ما لا يليق من التشبيه. ثم إن موسى عليه السلام، أعلمه تعالى بأنه هو الذي يكلمه ويناجيه، لا ملك ولا خلق آخر، بل ذاته العلية المستحقة للألوهية والنعوت القدسية، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:




  3. #483
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النَّمْلِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4661 الى صـ 4672
    الحلقة (482)






    [9 - 12] يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين

    يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وفي إيثار هذه الأسماء الجليلة سر بديع. وهو الإشارة الجملية إلى روح إرساله عليه السلام. أي: أنا الله لا تلك المعبودات التي عكف عليها قوم فرعون، العزيز الغالب القاهر لكل عات متمرد، الحكيم في البعثة والإرسال، والتفضل والإفضال. ثم أمره تعالى أن يلقي عصاه من يده ليريه دليلا واضحا على أنه القادر على كل شيء، بقوله: وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان هو ضرب من الحيات، أسرعه حركة وأكثره اضطرابا: ولى أي: من الخوف: مدبرا ولم يعقب أي: لم يرجع على عقبه من شدة خوفه: يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون أي: لحفظي لهم وعنايتي بهم وعصمتي إياهم مما يؤذيهم. وفيه تبشير له باصطفائه بالرسالة والنبوة. وتشجيع له بنزع الخوف. إذ لا يتمكن من أداء الرسالة، ما لم يزل خوفه من المرسل إليه. وقوله تعالى: إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم استثناء منقطع. استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم. مع أن منهم من فرطت منه صغيرة ما، مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك، فقد فعلوا عقيبه ما يبطله، ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة. وقد قصد به التعريض بما وقع من [ ص: 4661 ] موسى عليه الصلاة والسلام، من وكزه القبطي والاستغفار. قاله أبو السعود. وسبقه الزمخشري حيث قال: يوشك أن يقصد بهذا، التعريض بما وجد من موسى. وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها، وسماه ظلما كما قال موسى: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ثم أشار تعالى إلى آية خارقة غير العصا، آتاه إياها، بقوله: وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء أي: آفة كبرص: في تسع آيات أي: غيرها تؤتاها، إذا جحد فرعون رسالتك. وهي ضرب ماء النهر بالعصا فينقلب دما. وإصعاد الضفادع على أرض مصر. وضرب التراب فتمتلئ الأرض قملا. وإرسال الجراد عليهم. والوباء الشديد. وإصابة أجسادهم بالقروح والدمامل والبثور. وإهلاك حصادهم بالبرد الشديد. وتغشيتهم بظلام كثيف، على ما روي، وفي: "تسع" أوجه: أحدها أنها حال ثالثة. أي: تخرج آية في تسع آيات. والثاني أنها متعلقة بمحذوف، أي: اذهب في تسع. والثالث أن يتعلق بقوله: وألق عصاك وأدخل يدك أي: في جملة تسع آيات. و(في) بمعنى: (مع): إلى فرعون أي: مرسلا بها إلى فرعون: وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين أي: خارجين عن الحدود، في الكفر والعدوان. وهذا تعليل للإرسال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13 - 16] فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ ص: 4662 ] وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين

    فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي: ظاهرة بينة: قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها أي: كذبوا بها بألسنتهم: واستيقنتها أنفسهم أي: عرفت أنفسهم أنها آيات يقينا، لا سيما عند إلقاء السحرة ساجدين: ظلما أي: للآيات، بتسميتها سحرا كقوله: بما كانوا بآياتنا يظلمون ولقد ظلموا بها: وعلوا أي: تكبرا عن الانقياد لموسى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: من إهلاكهم بالإغراق، لغرقهم في بحر الفساد والإفساد: ولقد آتينا داود وسليمان علما أي: بالقضاء بين الناس، وحكمة باهرة: وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود أي: العلم والحكمة والنبوة أو الملك: وقال أي: تحدثا بنعمة الله وتنويها بمنته: يا أيها الناس علمنا منطق الطير أي: فهم صوته: وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين أي: البين الظاهر. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أي: أقول هذا القول شكرا، ولا أقوله فخرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17 - 25] وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ ص: 4663 ] فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون

    وحشر لسليمان جنوده أي: جمع له عساكره: من الجن والإنس والطير فهم يوزعون أي: يحبسهم أولهم على آخرهم ليتلاحقوا: حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة أي: رأتهم متوجهين إلى واديها: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون أي: بمكانهم: فتبسم ضاحكا من قولها أي: تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها. وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة، فيما بين أصناف المخلوقات، التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه [ ص: 4664 ] الأمور، وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها. قاله أبو السعود: وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي أي ألهمني شكرها: وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي: بحجة تبين عذره: فمكث غير بعيد أي: فلبث في الغيبة أمدا غير طويل: فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ وهي مدينة: بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم أي: سرير تجلس عليه، هائل مزخرف بأنواع الجواهر: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا أي: هلا يسجدوا. كما قرأ بذلك. وجوز بعضهم أن يكون معمولا لما قبله. أي: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا، فحذف الجار مع (أن) أو تكون (لا) مزيدة، والمعنى: فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا: لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض أي: يظهر ما هو مخبوء فيهما من نبات ومعادن وغيرهما: ويعلم ما تخفون وما تعلنون قرئ بالتاء والياء على صيغة الغيبة. والجملة التحضيضية إما مستأنفة من كلامه تعالى، أو محكية عن قول الهدهد. واستظهر الزمخشري الثاني. قال: لأن في إخراج الخبء أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض. وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات والأرض، جلت قدرته ولطف علمه. ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله، مخايل كل مختص بصناعة أو فن أو من العلم، في روائه ومنطقه وشمائله.
    [ ص: 4665 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم

    الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم أي: المحيط بالشمس وسائر الكواكب وكل شيء. فما أصغر عرشها في جنب عظمته! وما أضعف معبودها -الشمس- في جانب قدرته!.

    تنبيه:

    هذه السجدة من عزائم السجدات. قال الزمخشري : لأن مواضع السجدة إما أمر بها، أو مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها. وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27 - 32] قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون

    قال أي: سليمان: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم أي: حسن مضمونه وما فيه: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين أي: لا تتكبروا علي، وأتوني منقادين لأمري: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون أي: لا أبت [ ص: 4666 ] أمرا إلا بمحضركم ومشورتكم. ولا أستبد بقضاء إلا باستطلاع آرائكم والرجوع إلى استشارتكم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33 - 35] قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .

    قالوا نحن أولو قوة أي: في العدد والعدد: وأولو بأس شديد أي: نجدة وبلاء في الحرب: والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين أي: وأمر القتال أو الصلح مفوض إلى رأيك. فانظري ما هو أبقى لشرفك وملكك: قالت أي: مشيرة إلى اختيار خطة المسالمة وإيثارها، بالنظر لحالتها ومركزها وضعفها أمام عدوها، بأن القتال إنما يؤثر إذا لم يغلب على الظن دخول العدو في قرية العدو. وألا تعين الانقياد. وذلك معنى قولها: إن الملوك إذا دخلوا قرية أي: عنوة وقهرا: أفسدوها أي: أخربوها: وجعلوا أعزة أهلها أذلة أي: بالقهر والغلبة والقتل والأسر ونهب الأموال: وكذلك يفعلون تأكيد لما وصفت من حالهم، وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة. وقيل تصديق لها منه تعالى: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون أي: وإني سأرسل إلى سليمان وملئه رسلا بهدية توجب المحبة وتشبه الانقياد. من غير اختلال لشرفنا. ثم أنتظر بأي أمر يرجع المرسلون منه، حتى أعمل على حسب ذلك.
    [ ص: 4667 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [36 - 40] فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم

    فلما جاء سليمان أي: المرسلون منها: قال أتمدونن بمال فما آتاني الله أي: من الملك والحكمة والنبوة: خير مما آتاكم أي: فلا أبالي بجميع ما عندكم فضلا عن الهدية: بل أنتم بهديتكم تفرحون أي: إذا أهدي إليكم مثلها، أو أهديتم مثلها، تفرحون استكثارا أو افتخارا: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون أي: مهانون: قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك [ ص: 4668 ] وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر أي: ليختبرني أأشكر بالطاعة والعمل بالشريعة، أم أكفر بالمعصية والمخالفة. وقوله تعالى: ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم كقوله: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وكقوله: ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41 - 42] قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين

    قال نكروا لها عرشها أي: اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل للناس: ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون أي: لمعرفته: فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو قال المهايمي: لم تقل: (هو هو) خوفا من التكذيب، مع نوع من التغيير. ولا (لا) خوفا من التجهيل.

    وقال الزمخشري : لم تقل: (هو هو) ولا (ليس به) وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتم. أي: فأتت بـ(كأن) الدالة على غلبة الظن.

    قال الشهاب: وهذا إشارة إلى أن (كأن) ليس المراد بها هنا التشبيه بل الشك وهو مشهور فيها.

    وقد أبدى صاحب (الانتصاف) فرقا بين (كأن) و(هكذا) في التشبيه. وعبارته: [ ص: 4669 ] وفي قولها: (كأنه هو) وعدولها عن مطابقة الجواب للسؤال بأن تقول: (هكذا هو) نكتة حسنة. ولعل قائلا يقول: كلتا العبارتين تشبيه. إذ كان التشبيه فيهما جميعا، وإن كانت في إحداهما داخلة على اسم الإشارة، وفي الأخرى داخلة على المضمر، وكلاهما (أعني: اسم الإشارة والمضمر) واقع على الذات المشبهة. وحينئذ تستوي العبارتان في المعنى. ويفضل قولها: هكذا هو بمطابقته للسؤال. فلا بد في اختيار: "كأنه هو" من حكمة. فنقول: حكمته، والله أعلم، أن: "كأنه هو" عبارة من قرب عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين. فكاد يقول: (هو هو) وتلك حال بلقيس. وأما (هكذا هو) فعبارة جازم بتغاير الأمرين، حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير. فلهذا عدلت إلى العبارة المذكورة في التلاوة، لمطابقتها لحالها، والله أعلم. انتهى.

    وقوله تعالى: وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام، شكرا لله على فضلهم عليها، وسبقهم إلى العلم بالله وبالإسلام. أي: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته، وبصحة ما جاء من عنده، قبل علمها الذي أومأ إليه قولها: "كأنه هو" والجملة عطف على مقدر اقتضاه المقام المقتضي، للإفاضة في وصفها برجاحة الرأي في الهداية للإسلام. والتقدير: أصابت في جوابها وقد رزقت الإسلام، وعلمت قدرة الله. وأوتينا العلم إلخ. وقيل إنه من كلام بلقيس، موصولا بقولها: "كأنه هو"، لا من كلام سليمان، كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها، فقالت: أوتينا العلم إلخ. أي: لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل. وهذا يدل على كمال عقلها.

    أو المعنى: علمنا إتيانك بالعرش قبل الرؤية، أو هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار.

    قال ابن كثير : ويؤيد الأول، أي: أنه من كلام سليمان، أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح، كما سيأتي، والله أعلم. وقوله تعالى:
    [ ص: 4670 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [43 - 44] وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين

    وصدها أي: وكان صدها عن الهداية: ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح أي: القصر، أو صحن الدار وكان سليمان عليه السلام اتخذ قصرا بديعا من زجاج، فأراد أن يريها منه عظمة ملكه وسلطانه، ومقدار ما آثره الله به: فلما رأته أي: صحنه: حسبته لجة أي: ماء عظيما: وكشفت أي: للخوض فيه: عن ساقيها قال إنه صرح ممرد أي: مملس: من قوارير أي: من الزجاج : قالت رب إني ظلمت نفسي أي: بكفرها السالف وعبادتها وقومها الشمس: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين أي: متابعة له في دينه وعبادته لله وحده لا شريك له.

    تنبيهات:

    الأول: روى كثير من المفسرين ههنا أقاصيص لم تصح سندا ولا مخبرا. وما هذا سبيله، فلا يسوغ نقله وروايته.

    قال الحافظ ابن كثير ، بعد أن ساق ما رواه ابن أبي شيبة عن عطاء مستحسنا له، ما مثاله: قلت: بل هو منكر غريب جدا. ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم.

    ثم قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم. كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى، فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب. مما كان ومما لم يكن. ومما حرف وبدل ونسخ.

    [ ص: 4671 ] وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة.

    الثاني: أشير في (التوراة) في الفصل الرابع من سفر الملوك الثالث إلى تفصيل نبأ سليمان عليه السلام وعظمة ملكه وسلطانه. ومما جاء فيه أن سليمان كان متسلطا على جميع الممالك من نهر الفرات إلى أرض فلسطين وإلى تخم مصر. وإن ملوك الأطراف كانوا يحملون له الهدايا خاضعين له كل أيام حياته أي: أنها تؤدي له الجزية، وإن كان محصورا في فلسطين. وأن الله تعالى آتاه حكمة وفهما ذكيا جدا، وسعة صدر. ففاقت حكمته حكمة جميع أهل المشرق وأهل مصر. وقال ثلاثة آلاف مثل. وتكلم. في الشجر، من الأرز الذي على لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط. وتكلم في البهائم والطير والزحافات والسمك. وأما صرحه وبيته عليه السلام، فقد جاء وصفه في الفصل الخامس من السفر المتقدم. وأنه أكمل بناءه في ثلاث عشرة سنة. وأنه بنى جازر وبيت حورون السفلى وبعلت وتدمر في أرض البرية. وجاء في الفصل العاشر من هذا السفر أيضا قصة ملكة سبأ ومقدمها من اليمن على سليمان لتخبر حكمته وعظمة ملكه، ودهشتها مما رأته وتحققته، وإيمانها بربه تعالى. ثم إعطاؤه إياها بغيتها. ثم انصرافها إلى أرضها.

    وقد ذكرنا غير مرة أن القرآن الكريم لا يسوق أنباء ما تقدم سوق مؤرخ، بل يقصها موجزة ليتحقق أنه مصداق ما بين يديه، ومهيمن عليه، ولينبه على أن القصد منها موضع العبرة والحكمة. ومثار التبصر والفطنة.

    الثالث: مما استنبط من آيات هذه القصة الجليلة، أن في قوله تعالى: فتبسم ضاحكا من قولها أنه لا بأس بالتبسم والضحك عن التعجب وغيره. وفي قوله تعالى: وتفقد الطير استحباب تفقد الملك أحوال رعيته. وأخذ منه بعضهم تفقد الإخوان، فأنشد:


    تفقد الإخوان مستحسن فمن بداه نعم ما قد بدا سن سليمان لنا سنة
    وكان فيما سنه مقتدى تفقد الطير على ملكه
    فقال: ما لي لا أر الهدهدا


    [ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

    ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون



  4. #484
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النَّمْلِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4672 الى صـ 4682
    الحلقة (483)




    [ ص: 4672 ] وأن في قوله تعالى: لأعذبنه عذابا شديدا الآية، دليلا على أن العذاب على قدر الذنب، لا على قدر الجسد. وعلى جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي وإسراعها ونحو ذلك. وأن في قوله تعالى: فقال أحطت بما لم تحط به أن الصغير يقول للكبير والتابع للمتبوع: عندي من العلم ما ليس عندك، إذا تحقق ذلك. وأن في قوله تعالى: قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين قبول الوالي عذر رعيته، ودرءه العقوبة عنهم، وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به. وأن في قوله تعالى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم إرسال الطير بالكتب. وأن في قوله تعالى: كتاب كريم استحباب ختم الكتب، لقول السدي : كريم بمعنى مختوم. وأن في قوله تعالى: قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة. وأن في قوله تعالى: أتمدونن بمال الآية، استحباب رد هدايا المشركين. كذا في (الإكليل) بزيادة.

    ثم أخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45 - 47] ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون

    ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ ص: 4673 ] أي: فريق مؤمن وفريق كافر. يختصمون خصومة لا يرجع فيها المبطل إلى الحق بعد ما تبين له. كقوله تعالى: قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة أي: بالعقوبة السيئة قبل التوبة الحسنة. أي: لم تدعون بحضور العقوبة ولا تطلبون من الله رحمته بالإيمان: لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا أي: تطيرنا أي: تشاءمنا: بك وبمن معك أي: من المؤمنين. وقد كانوا، لشقائهم، إذا أصيبوا بسوء قالوا: هذا من قبل صالح وصحبه: قال طائركم عند الله أي: سبيلكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عن الله. وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. قاله الزمخشري .

    قال الشهاب: لما كان المسافر من العرب إذا خرج مر به طائر سانحا، وهو ما وليه بميسرته، أو بارحا وهو ما وليه بميمنته - تيمنوا بالأول وتشاءموا بالثاني. ونسبوا الخير والشر إلى الطائر. ثم استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته. أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنقمة. ومنه طائر الله، لا طائرك: بل أنتم قوم تفتنون أي: مفتونون بضلالكم وكفركم. لا ترون حسنا إلا ما يوافق هواكم، ولا شؤما إلا يخالفه. ثم أخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤسائهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب صالح عليه السلام، وما آل بهم الأمر، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48 - 52] وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون [ ص: 4674 ] قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون

    وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون أي: شأنهم وعادتهم الإفساد، كما يفيده المضارع وتأكيده بقوله: "في الأرض" الدال على عموم فسادهم. وهو صفة (رهط) أو (تسعة): قالوا تقاسموا بالله أي: ليحلف كل واحد منكم على موافقة الآخرين، بالله الذي هو أعظم المعبودين: لنبيتنه أي: لنقتلنه ليلا. قرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض: وأهله أي: من آمن معه ثم لنقولن لوليه أي: الطالب ثأره علينا: ما شهدنا مهلك أهله أي: ما حضرنا مكان هلاك الأهل، مع تفرقهم في الأماكن الكثيرة، فضلا عن مكانه، فضلا عن مباشرته: وإنا لصادقون أي: ونحلف إنا لصادقون. أو: والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا: ومكروا مكرا أي: بهذه الحيلة: ومكرنا مكرا أي: بأن جعلناهم سببا لإهلاكهم: وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية أي: خالية ساقطة. لم تعمر بعدهم لأنهم استؤصلوا: بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون أي: بأنهم ما أخذوا إلا لظلمهم. وإن عاقبة الظلم الدمار والبوار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53 - 59] وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون [ ص: 4675 ] أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون

    وأنجينا الذين آمنوا يعني صالحا عليه السلام ومن معه: وكانوا يتقون ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أي: قبحها ومضادتها لحكمه تعالى وحكمته: أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة: بل أنتم قوم تجهلون أي: تفعلون فعل الجاهلين سفها وعمى عن العاقبة: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون أي: يتنزهون عن أفعالنا ويرونها رجسا. قالوه استهزاء: فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين أي: الباقين في العذاب: وأمطرنا عليهم مطرا أي: هائلا غير معهود: فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون قال الزمخشري : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته. وأن يستفتح بتحميده، والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما، على قبول ما يلقى إلى السامعين، وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع. ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب. فحمدوا الله عز وجل، وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمام [ ص: 4676 ] كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة. وتبعهم المترسلون. فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن. وقيل: هو متصل بما قبله، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم. والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين.

    ثم قال: معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم. وذلك أنه آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله. ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء، إلا لداع يدعوه إلى إيثاره، من زيادة خير ومنفعة. فقيل لهم، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير، ولكن هوى وعبثا، لينبهوا على الخطأ المفرط، والجهل المورط. وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول. وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد. ونحوه ما حكاه عن فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته.

    ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عددها في موضع آخر. ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء

    لطيفة:

    قال ابن القيم في (طريق الهجرتين) في هذه الآية: كلمة (السلام) هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي: (الحمد لله)، ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا. وعلى هذا، فيكون الوقف على الجملة الأخيرة، ويكون محلها النصب محكية بالقول.

    ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب. وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب.

    [ ص: 4677 ] وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم. وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلى الله عليهم وسلم.

    وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم.

    ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما. فلا يحسن أن يقول: قم وذهب زيد، ولا اخرج وقعد عمرو .

    ويجاب على هذا بأن جملة الطلب، قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

    فقوله: وما تغني الآيات ليس معطوفا بالقول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى.

    على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله: وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين

    والمقصود أنه على هذا القول، يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. انتهى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60 - 63] أمن خلق السماوات والأرض وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ ص: 4678 ] أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون

    أمن خلق السماوات والأرض إضراب وانتقال، من التبكيت تعريضا، إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد. أي: بل من خلق السماوات والأرض، وأودع فيهما من المنافع ما لا يحصى: وأنـزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة أي: بساتين ذات حسن ورونق يبهج النظار: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله أي: أإله آخر كائن مع الله، الذي ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة؟ وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركون به تعالى، في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية، بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد. قال أبو السعود: بل هم قوم يعدلون أي: عن طريق الحق. أو به تعالى غيره أمن جعل الأرض قرارا أي: قارة لا تنكفئ بمن عليها. أو مستقرا لمن عليها، يتمتعون بمنافعها: وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أي: برزخا مانعا من الممازجة: أإله مع الله أي: في الوجود، أو في إبداع هذه البدائع: بل أكثرهم لا يعلمون أي: شيئا من الأشياء. ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك، مع كمال ظهوره: أمن يجيب المضطر إذا دعاه وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر، إلى اللجأ والتضرع إلى الله تعالى، اسم مفعول من (الاضطرار) الذي هو افتعال من [ ص: 4679 ] (الضرورة) وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ أي: الالتجاء والاستناد.

    قال ابن كثير : ينبه تعالى أنه المدعو عند الشدائد، الموجود عند النوازل، كما قال تعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه

    وقال تعالى: ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون وهكذا قال هاهنا: أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي: من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟.

    وقال ابن القيم في (الجواب الكافي): إذا اجتمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف انكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة، ثم توسل إليه تعالى بأسمائه وصفاته وتوحيده، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا. ولا سيما إن صادف الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ثم ساقها ابن القيم مسندة.

    ثم قال: وكثيرا ما نجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، فيكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله. أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكرا لحسنته. أو صادف الدعاء وقت إجابة، ونحو ذلك، فأجيبت دعوته. فيظن الظان أن السر في لفظ ذلك الدعاء، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعا، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي. فانتفع به. فظن غيره أن استعمال هذا الدواء بمجرده، كاف في حصول المطلوب، كان غالطا. وهذا موضع يغلط فيه كثير من الناس. ومن هذا قد يتفق دعاؤه باضطرار عند قبر فيجاب. فيظن الجاهل أن السر للقبر ولم يعلم أن السر للاضطرار وصدق اللجأ إلى الله. فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله، كان أفضل وأحب إلى الله. انتهى.

    وقوله تعالى: ويكشف السوء أي: كل ما هو يسوء مما يضطر فيه وغيره: ويجعلكم خلفاء الأرض أي: خلفاء فيها. وذلك توارثهم سكانها، والتصرف فيها قرنا بعد قرن [ ص: 4680 ] أو أراد بالخلافة الملك والتسلط. قاله الزمخشري أإله مع الله قليلا ما تذكرون أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر أي: بالنجوم في السماء، والعلامات في الأرض، إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر: ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وهي المطر: أإله مع الله تعالى الله عما يشركون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64 - 65] أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون

    أمن يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد الموت بالبعث. فإن قيل: هم منكرون للإعادة، فكيف خوطبوا بها خطاب المعترف؟ أجيب بأنها لظهورها ووضوح براهينها، جعلوا كأنهم معترفون بها، لتمكنهم من معرفتها -فلم يبق لهم عذر في الإنكار. فلا حاجة إلى القول بأن منهم من اعترف بها، فالكلام بالنسبة إليه: ومن يرزقكم من السماء والأرض أي: مما ينزله من مائها وما يخرجه من نباتها: أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت. أي: هاتوا برهانا عقليا أو نقليا، يدل على أن معه تعالى إلها. لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى، فإنهم لا يدعونه صريحا. وفي إضافة (البرهان) إلى ضميرهم، تهكم بهم. لما فيها من إيهام أن لهم برهانا. وأنى لهم ذلك؟ قاله أبو السعود: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله أي: فإنه المتفرد بذلك وحده، كما قال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو في آيات [ ص: 4681 ] لا تحصى. والاستثناء منقطع، لاستحالة أن يكون تعالى ممن في السماء والأرض، أو متصل، على أن المراد ممن في السماوات والأرض، من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها مجازا مرسلا أو استعارة. فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه: وما يشعرون أيان يبعثون أي: متى ينشرون.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون

    بل ادارك علمهم في الآخرة قال السمين: فيه وجهان: أحدهما: أن في على بابها، وادارك وإن كان ماضيا لفظا، فهو مستقبل معنى، لأنه كائن قطعا. كقوله: أتى أمر الله

    وعلى هذا فـ(في) متعلق بـ(ادارك).

    والثاني: أن (في) بمعنى الباء. أي: بالآخرة.

    وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم. كقولك: (علمي بزيد كذا)، انتهى.

    والوجه الثاني على الاستفهام. أي: بل هل ادارك علمهم فيها، أي: بلغ وانتهى؟ كلا. وقد قرئ: (بل اءدرك) بهمزتين، (بل آءدرك) بألف بينهما، (أم أدرك) و(أم تدارك).

    قال الرازي: وهي (أم) التي بمعنى (بل) والهمزة. فالمعنى على الاستفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم بها، وأنهم لم يبرحوا في حضيض الجهالة بحقيتها، مع ما يتلى عليهم من أدلة ثبوتها.

    وقد جنح إلى الكلام على تقدير الاستفهام، السيوطي والمهايمي. وذهب غيرهما إلى إبقاء (بل) على أصلها من الإضراب الانتقالي. وقرروه بما فيه خفاء ودقة ويبعده ما ذكرنا [ ص: 4682 ] من القراءات الصريحة في الاستفهام. وهي مما يرجع إليها إذا اشتبه المقام. كما تقرر في قواعد التفسير: بل هم في شك منها أي: مرية، مع تقرير ما يزيله ويكشف غشاوته: بل هم منها عمون أي: في عماية وجهل كبير.

    قال الزمخشري : فإن قلت: هذه الاضطرابات الثلاثة ما معناها؟ قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم: وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث. ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة. ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه. والإزالة مستطاعة. ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض، كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم، لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل؟ ثم بما هو أسوأ حالا، وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه، وفرجه، لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه. فلذلك عداه بـ(من) دون (عن) لأن الكفر بالعاقبة والجزاء، هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67 - 70] وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون

    وقال الذين كفروا أي: بوعد الله وآياته وعلمه وقدرته وحكمته: أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون أي: من القبور: لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي سطروها بعبارة مموهة: قل سيروا في الأرض أي: لتبصروا آثار القائلين هذا القول قبلكم: فانظروا كيف كان [ ص: 4683 ] عاقبة المجرمين بإنكاره. وهي دمارهم وهلاكهم بالاستئصال: ولا تحزن عليهم أي: على قولهم وتكذيبهم. فإنه سيكون لك من المصدقين من لا يبالي معهم بهؤلاء كقوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ولا تكن في ضيق مما يمكرون أي: في حرج من مكرهم وكيدهم لك. ولا تبال بذلك، فإن الله يعصمك من الناس.




  5. #485
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النَّمْلِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4683 الى صـ 4693
    الحلقة (484)







    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71 - 76] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون

    ويقولون متى هذا الوعد أي: بالعذاب: إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم أي: لحقكم أو دنا لكم: بعض الذي تستعجلون أي: من العذاب، فحصل لهم القتل ببدر. ولعذاب الآخرة أمر. قال الزمخشري : وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم، يدل على صدق الأمر وجده، وما لا مجال للشك بعده. وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم، ووثوقهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم. فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده. انتهى. أي: لأن حقيقة الترجي محال في حقه تعالى. فهو على هذا استعارة تمثيلية. قاله [ ص: 4684 ] الشهاب: وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون أي: لذو إفضال وإنعام عليهم، بتأخير العقوبة وعدم معاجلتهم بها. ولكن أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلونها: وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون أي: من عداوة رسوله ونصب المكايد له. وهو معاقبهم على ذلك: وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين أي: وما من خافية فيهما، إلا وقد علمها الله وأحاط بها وأثبتها في اللوح البين، المثبت فيه مقدوراته تعالى. أو المراد بالكتاب القضاء العدل، على طريق الاستعارة، بتشبيهه بالكتاب الجامع للوقائع، كالسجل: إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون أي: فهو مصدق لما بين يديه، ومهيمن عليه. يقص القصص الحق، ويفصل بين ما اختلفوا فيه بالصدق. فالمعول من أنبائهم عليه، ومرد ما اختلفوا فيه إليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77 - 81] وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون

    وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين أي: بما فيه من إقامة الدلائل ورفع الشبه التي يعقلها المؤمنون المنصفون المصدقون بالحق، المذعنون له: إن ربك يقضي بينهم بحكمه أي: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، بعدله وحكمته: وهو العزيز أي: فلا يرد قضاؤه الغالب [ ص: 4685 ] في انتقامه من المبطلين: العليم أي: بالفصل بينهم وبين المحقين. ثم أمره تعالى بقلة المبالاة بأعدائه، وبالمضي في دعوته وانتظار الوعد الحق، بقوله: فتوكل على الله إنك على الحق المبين أي: الأبلج الذي لا ريب فيه.

    قال الزمخشري : وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل. ثم أشار تعالى إلى كفاية نفع دعوته للمؤمنين، الذين هم أولياؤه وحزبه، وإلى أن الكل لا يرجى منهم الهداية، كآية: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين تسلية عما كان يهمه من إيمانهم، بقوله سبحانه: إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون قال الزمخشري : شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله فكانوا أقماع القول، لا تعيه آذانهم. وكان سماعهم كلا سماع. كانت حالهم، لانتفاء جدوى السماع، كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، وكذلك تشبيههم بالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم، وأن يجعلهم هداة بصراء، إلا الله عز وجل. فإن قلت: ما معنى قوله: إذا ولوا مدبرين قلت: هو تأكيد لحال الأصم . لأنه إذا تباعد عن الداعي، بأن يولي عنه مدبرا، كان أبعد عن إدراك صوته. انتهى.

    وإيراد قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إثر ما تقدم، للمبالغة في نفي الهداية. وقوله تعالى: إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا أي: ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا، إلا من شأنه الإيمان بها فهم مسلمون تعليل لإيمانهم بها. كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق. وقيل: معناه مخلصون، من قوله: بلى من أسلم وجهه لله يعني جعله سالما لله خالصا له.
    [ ص: 4686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون

    وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون اعلم أن في هذا الوعيد وجوها من التأويل:

    الأول: أنه دنيوي، عنى به نصر الرسول صلوات الله عليه، عليهم. والمعنى أن أولئك الصم عن سماع الآيات، العمي عن النظر فيها، الجاحدين لها، سيأتيهم أنباء حقيقة ما كانوا يدعون إليه من نصر الداعي وهو الرسول وأتباعه، وتكثير سوادهم حتى يظفروا بمناوئيهم. ويظهروا على عدوهم. وذلك بأن تدب إليهم من المؤمنين دابة عظمى تملأ السهل والربا، تزلزل أركانهم وتهدم بنيانهم وتقوض خيامهم وتدك أعلامهم. فتكلمهم حينئذ بلسان الحال أو المقال، بأنهم إنما أخذوا بالعقاب، وحل بهم شديد العذاب لضلالهم وإضلالهم العباد. وسعيهم في الأرض الفساد. فإن الإيمان دعامة الصلاح والإصلاح. وقائد الفلاح والنجاح، وقد سبقت كلمته لعباده المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جنده لهم الغالبون. وقد صدق الله وعده. وأعز جنده.

    والوجه الثاني: أن الدابة حيوان بخلاف ما نعرفه. يختص خروجها بحين القيامة، قال بعضهم: والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض، كما يبعث غيره من أنواع الدواب الأخرى. وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا. قال: فليس المراد من قوله: "دابة" الفرد، بل النوع. كما في قولك: أرسل الله عليهم دودة أتلفت زرعهم، أي: ديدانا كثيرة، من نوع واحد مخصوص.

    وقد روي فيها أحاديث وآثار كثيرة، لم يصحح البخاري منها شيئا، لاضطراب متونها [ ص: 4687 ] وضعف رجالها. وأمثل مأثورها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: « إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبا » .

    ومعلوم أن أمور الآخرة من عالم الغيب. ولا يؤخذ فيها إلا بما كان قطعي الثبوت.

    الوجه الثالث: نقله الراغب في مفرداته قال: وقيل عنى بالدابة الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب. فتكون الدابة جمعا، اسما لكل ما يدب. نحو: خائنة جمع خائن. انتهى.

    ولعل الآية كقوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين فإن يأجوج ومأجوج كالدابة، لما يغطي بدبيبه وجه الأرض- فهو مثل في الكثرة. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83-84] ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون

    ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون أي: يحبس أولهم على آخرهم، حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه. كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله: فوجا فإن الفوج الجماعة الكثيرة. أفاده الزمخشري : حتى إذا جاءوا أي: إلى المحشر: قال أي: ليفضحهم في هذا اليوم المشهود: [ ص: 4688 ] أكذبتم بآياتي أي: الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله: ولم تحيطوا بها علما جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه. ومؤكدة للإنكار والتوبيخ. أي: أكذبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ وهذا نص في أن المراد بالآيات، فيما سلف في الموضعين، هي الآيات القرآنية، لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة، وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما، مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها. لا نفس الساعة وما فيها. أفاده أبو السعود: أماذا كنتم تعملون أي: بها. أو ماذا كان عملكم؟ هل هو إلا الفساد والإفساد؟ وصد السبيل عن العباد؟ ولذا حقت كلمة العذاب عليهم. كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85 - 89] ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون

    ووقع القول أي: مدلوله وهو العقاب الموعودون به: عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا أي: ليبصروا، بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ويوم ينفخ [ ص: 4689 ] في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه أي: حضروا الموقف بين يديه: داخرين أي: صاغرين: وترى الجبال عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير: تحسبها جامدة أي: ثابتة في أماكنها: وهي تمر مر السحاب أي: في تخلل أجزائها وانتفاشها. كما في قوله تعالى: وتكون الجبال كالعهن المنفوش صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون أي: فيجازيهم عليه.

    تنبيه:

    ما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو ما ذهب إليه كثير. قالوا: المراد بهذه الآية تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، حينما يبيد الله تعالى العوالم، كما قال: وسيرت الجبال فكانت سرابا وكما قال: وإذا الجبال نسفت وقال: وتكون الجبال كالعهن المنفوش

    وقال بعض علماء الفلك: لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قالوه، لعدة وجوه:

    الأول: أن قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة لا يناسب مقام التهويل والتخويف إذا أريد بها بما يحصل يوم القيامة. وكذلك قوله: صنع الله الذي أتقن كل شيء لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، على أن محل هذه الآية على المستقبل، مع أنها صريحة في إرادة الحال، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها.

    الثاني: أن سير الجبال للفناء يوم القيامة، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر كما قال: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله أي: من الملائكة. فما معنى قوله إذن: وترى الجبال تحسبها جامدة

    [ ص: 4690 ] الثالث: أن تسيير الجبال الذي يحصل يوم القيامة، إذا رآه أحد شعر به. لأنه ما دام وضعها يتغير بالنسبة للإنسان، فيحس بحركتها. وهذا ينافي قوله تعالى: تحسبها جامدة أي: ثابتة. أما في الدنيا فلا نشعر بحركتها، لأننا نتحرك معها ولا يتغير وضعنا بالنسبة لها. وهذا بخلاف ما يحصل يوم القيامة. فإن الجبال تنفصل عن الأرض وتنسف نسفا. وهذا شيء يراه كل واقف عندها.

    الرابع: ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة، لورود آية: ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا المذكورة قبلها في نفس هذا السياق، والمراد بهما ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار، ليكون ذلك دليلا على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة فإن القادر على ضبط حركات هذه الأجرام العظيمة، لا يصعب عليه أن يعيد الإنسان، وأن يضبط حركاته وأعماله ويحصيها عليه. ولذلك ختم هذه الآية بقوله: إنه خبير بما تفعلون فذكر هذه الأشياء في هذا السياق، هو كذكر الدليل مع المدلول، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم. فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائما، حتى لا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها. وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. اهـ كلامه.

    وقال العلامة المرجاني في مقدمة كتابه (وفية الأسلاف، وتحية الأخلاف) في بحث علم الهيئة، ما مثاله:

    ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية. فإنه خطاب لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية. وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة. قال: وقوله: صنع الله من المصادر المؤكدة لنفسها. وهو مضمون الجملة السابقة. يعني أن هذا المرور هو صنع الله. [ ص: 4691 ] كقوله تعالى: "وعد الله" ، صبغة الله ثم الصنع هو عمل الإنسان، بعد تدرب فيه وترو وتحري إجادة. ولا يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعا حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وقوله: الذي أتقن كل شيء كالبرهان على إتقانه، والدليل على إحكام خلقته، وتسويته مروره على ما ينبغي. لأن إتقان كل شيء، يتناول إتقانه. فهو تثنية للمراد وتكرير له، كقوله تعالى: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين قال: وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد، وأنحاء من المبالغة. فمن ذلك تعبيره (بالصنع) الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة. وإضافته إليه تعالى تعظيما له وتحقيقا لإتقانه وحسن أعماله. ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذه المرور. ثم إيراده بالجملة الاسمية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور. ثم التقييد بالحال، لتدل على أنها لا تنفك عنها دائما. فإن قوله تعالى: وهي تمر مر السحاب حال من المفعول به، وهو الجبال. ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال.

    فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة. وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام. وأن حسبانها جامدة لعدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد. فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير. على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع وإحكام. قال: والعجب من حذاق العلماء المفسرين، عدم تعرضهم لهذا المعنى، مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء. مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية، على ما شحنوا بها كتبهم. وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى، ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة، بعد أن تعتقد أن كل شيء حادث بقدرة الله تعالى وإرادته وخلقه بالاختيار، كائنا ما كان، وهو العلي الكبير، وعلى ما يشاء قدير.

    [ ص: 4692 ] واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: ألم يروا أنا جعلنا الليل الآية. اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان. ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن.

    وفائدته هنا، التنبيه على سرعة تقضي الآجال ومضي الآماد. والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود وقت المعاد. فإن انقضاء الأزمان، وتقضي الأوان، إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان. وهذا المرور وإن لم يكن مبصرا محسوسا، لكن ما ينبعث منه تبدل الأحوال، بما يطرأ من تعاقب الليل والنهار وغيره، بمنزلة المحسوس المبصر: فاعتبروا يا أولي الأبصار فيكون هذا معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، مخصوصة به، إذ لم يخبر به غيره من الأنبياء.

    فليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة ووفاء النشأة الآخرة. إذ ليس هو من (الصنع) في شيء. بل هو إفساد أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم، وإهلاك بني آدم. اهـ .كلام المرجاني.

    من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون أي: لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل. وقرئ: (فزع يومئذ) بالإضافة وكسر الميم وفتحها. وفزع منونا وفتح الميم، على أنه ظرف (لآمنون) أو المحذوف هو صفة للفزع. والتنوين في (يومئذ) عوض عن جملة محذوفة، أي: يوم إذا جاءوا بالحسنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90 - 93] ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين [ ص: 4693 ] وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون

    ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون أي: من الشرك والمعاصي: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة أي: مكة: الذي حرمها أي: جعلها حرما آمنا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها. وفيه تعريض بجحدهم نعمته تعالى في ذلك، حيث آمنهم من خوف، وأجلهم في أعين القبائل، ووقاهم من الفتن المنتشرة عند غيرهم، إجلالا لهذا البيت. وهم لم يرعوا هذه النعمة بالقيام بواجب شكرها، من عبادته تعالى وحده، وسعيهم بالإصلاح: وله كل شيء أي: خلقا وملكا. فهو خالق كل شيء ومليكه: وأمرت أن أكون من المسلمين أي: ممن أسلم وجهه لله، لا لغيره.

    وأن أتلو القرآن أي: عليكم، تلاوة الدعوة إلى الإيمان به، لما اشتمل عليه من سعادة الدارين: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه أي: فمن اتبع ما فيه من توحيد الله، ونفي الأنداد عنه، والدخول في الملة الحنيفية، واتباع ما أنزل علي من الوحي، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه، لا إلي: ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين أي: ومن ضل عن الإيمان وأخطأ بزيغه طريق الهدى، ولم يتبعني، فلا علي. وما أنا إلا رسول منذر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين: وقل الحمد لله أي: على ما هدانا لهذا الدين، ومن علينا بصراطه المستقيم: سيريكم آياته فتعرفونها كقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقوله: ولتعلمن نبأه بعد حين وما ربك بغافل عما تعملون أي: من الشرك والتكذيب ونصب المكايد. بل هو شهيد رقيب، جل جلاله وعظم نواله، ولا إله غيره.




  6. #486
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْقَصَصِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4694 الى صـ 4704
    الحلقة (485)





    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    28- سُورَةُ الْقَصَصِ

    سميت به لاشتمالها على قوله تعالى: فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين الدالة على أن من هرب من مكان الأعداء، إلى مكان الأنبياء اعتبارا بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء- أمن من الهلاك. وهذا أيضا من أعظم مقاصد القرآن، مع اشتمالها على ما لا يشتمل عليه غيرها من أنباء موسى، أفاده المهايمي.

    والسورة مكية كلها. وقيل إلا من قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا وقعة أحد.

    وقوله تعالى: إن الذي فرض عليك القرآن الآية، لما روي من نزولها بالجحفة حين الهجرة إلى المدينة. والله أعلم. وهي ثمان وثمانون آية، بالاتفاق.

    [ ص: 4695 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 4] طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين

    طسم تقدم الكلام على هذه الحروف غير ما مرة: تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون أي: نقرأ عليك، بواسطة الروح الأمين، تلاوة ملتبسة بالحق. كما قال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص ثم استأنف ما يجري مجرى التفسير للمجمل الموعود، بقوله: إن فرعون علا في الأرض أي: تكبر وتجاوز الحد في الطغيان، في أرض مصر: وجعل أهلها شيعا أي: فرقا وأصناما في استخدامه وطاعته: يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل: يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم وذلك إماتة لرجالهم، وتقليلا لعددهم، كيلا يكثروا فينازعوه الملك: إنه كان من المفسدين أي: المتمكنين في الإفساد وقهر العباد.

    ثم أشار تعالى إلى فرجه الذي جعله لتلك الطائفة، بقوله:
    [ ص: 4696 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [5 - 8] ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين

    ونريد أن نمن أي: نتفضل: على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة أي: يقتدى بهم في الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين: ونجعلهم الوارثين أي: لملك عدوهم. كما قال تعالى: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون إلى قوله: يعرشون ونمكن لهم في الأرض أي: بالتصرف فيها تصرف الملوك: ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم أي: من أولئك المستضعفين: ما كانوا يحذرون أي: من هلاكهم وذهاب ملكهم، جزاء إفسادهم وعدم إصلاحهم وطغيانهم: وأوحينا إلى أم موسى أي: إثر ولادته في تلك الشدة: أن أرضعيه فإذا خفت عليه أي: من أولئك الدباحين الذين بأيديهم الشفار المرهفة العاملة في تلك الأنفس الزكية: فألقيه في اليم أي: في البحر، وهو النيل: ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه [ ص: 4697 ] آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا أي: في هلاكهم على يديه.

    قال أبو السعود: واللام لام العاقبة. أبرز مدخولها في معرض العلة، لالتقاطهم. تشبيها له في الترتب عليه، بالغرض الحامل عليه: إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين أي: مجرمين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم، على أيديهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9 - 11] وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون

    وقالت امرأت فرعون أي: لفرعون، حين أخرجته من التابوت: قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون أي: بما سيكون: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا أي: خاليا من العقل. لما دهمها من فرط الجزع، وأطار عقلها من الدهش، لما بلغها وقوعه في يد فرعون: إن كادت لتبدي به أي: بأمره وقصته، وأنه ولدها: لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين أي: لولا أن ألهمناها الصبر. شبه بربط الشيء المنفلت ليقر ويطمئن. ومعنى: من المؤمنين أي: المصدقين بوعد الله. وهو قوله: إنا رادوه إليك

    قال الزمخشري : ويجوز، وأصبح فؤادها فارغا من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه. إن كادت لتبدي بأنه ولدها، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت. لولا أنا [ ص: 4698 ] طامنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله، لا بتبني فرعون وتعطفه: وقالت لأخته قصيه أي: اتبعي أثره لتنالي خبره: فبصرت به عن جنب بضم النون وسكونها. أي: عن بعد: وهم لا يشعرون أي: أنها تتعرف حاله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [12 - 17] وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين

    وحرمنا عليه المراضع من قبل أي: من قبل قصها أثره. و(المراضع) جمع مرضع [ ص: 4699 ] بضم الميم وكسر الضاد. وهي المرأة التي ترضع. وترك (التاء) لاختصاصه بالنساء. أو جمع (مرضع) بفتح الميم مصدر ميمي، جمع لتعدد مواده. أو اسم موضع الرضاع، وهو الثدي: فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أي: في رضاعه وتربيته: فرددناه إلى أمه كي تقر عينها أي: برؤيته: ولا تحزن أي: بفراقه: ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ولما بلغ أشده أي: كمال قوته واستوى أي: اعتدل مزاجه: آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين أي: في أعمالهم. ثم بين تعالى من نبئه عليه السلام، ما تدرج به إلى ما قدر له من الرسالة، بقوله سبحانه: ودخل المدينة أي: مصر آتيا من قصر فرعون: على حين غفلة من أهلها قيل وقت القيلولة. وقيل بين العشائين: فوجد فيها رجلين يقتتلان أي: يتنازعان: هذا أي: الواحد: من شيعته أي: ممن يشايعه على دينه وهم بنو إسرائيل: وهذا أي: الآخر: من عدوه أي: من خالفه في دينه وهم القبط: فاستغاثه أي: سأله الإغاثة: الذي من شيعته لكونه مظلوما: على الذي من عدوه لكونه ظالما. وإغاثة المظلوم واجبة فوجبت إغاثته من جهتين: فوكزه موسى أي: ضربه بجمع كفه: فقضى عليه أي: فقتله: قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين يشير إلى تأسفه على ما أفضى وكزه، من قتله. وسماه ظلما واستغفر منه بالنسبة إلى مقامه: قال رب إني ظلمت نفسي أي: بقتله: فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف. أي: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة، لأتوبن ولا أظاهر المجرمين. وأن يكون استعطافا كأنه قال: رب! اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة. فلن أكون، إن عصمتني، ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرتهم، إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده، وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. قاله الزمخشري .

    قال الناصر: لقد تبرأ عليه السلام من عظيم. لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. [ ص: 4700 ] ويروى أنه يقال يوم القيامة: أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة، أو برى لهم قلما، فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18 - 23] فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير

    فأصبح في المدينة خائفا يترقب أي: الاستقادة أو الأجناد: فإذا الذي استنصره بالأمس أي استعانه فقتل من أجله منازعه القبطي: يستصرخه أي: يستغيثه من قبطي آخر: قال له موسى إنك لغوي مبين أي: بمخاصمتك الناس مع عجزك، [ ص: 4701 ] وجرك إليهم ما لا تحمد عقباه: فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما أي: لموسى وللإسرائيلي، وهو القبطي: قال أي: ذلك العدو وهو القبطي، لا الإسرائيلي كما وهم: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين أي: بين الناس بالقول والفعل.

    قال الزمخشري : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى أي: يسرع لفرط حبه لموسى: قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك أي: يتشاورون بسببك: ليقتلوك فاخرج أي: من حد مملكتهم: إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب أي: لحوق الطالبين: قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه أي: جعل وجهه: تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل أي: فلا يلحقني فيه الطالبون: ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة أي: جماعة كثيفة: من الناس يسقون أي: مواشيهم: ووجد من دونهم امرأتين تذودان أي: تمنعان مواشيهما عن الماء، لوجود من هو أقوى منهما عنده، فلا تتمكنان من السقي: قال ما خطبكما أي: ما شأنكما في الذود: قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء أي: عاداتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم عن الماء، عجزا عن مساجلتهم، وحذرا من مخالطة الرجال: وأبونا شيخ كبير أي: فيعجز عن الخروج والسقي. أي: ما لنا رجل يقوم بذلك إلا هو، وقد أضعفه الكبر، فاضطرنا الحال إلى ما ترى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24 - 25] فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين

    [ ص: 4702 ] فسقى لهما أي: فسقى غنمهما، لأجلهما من غير أجر: ثم تولى إلى الظل أي: الذي كان هناك، من شدة الحر: فقال رب إني لما أنـزلت إلي من خير فقير أي: محتاج. والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام. وعلى الأخير حمله الأكثرون بمعونة المقام: فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص أي: أخبره بجميع ما جرى عليه إلى خروجه لما تآمروا بقتله: قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين أي: بالخروج عند حد ولايتهم، إذ لا سلطان لهم بأرضنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26 - 28] قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل

    قالت إحداهما يا أبت استأجره أي: اجعله أجيرك ليرعى غنمك، فإنه حقيق بذلك: إن خير من استأجرت القوي الأمين أي: خير من أردت جعله أجيرا، القوي على العمل المؤتمن فيه.

    قال الزمخشري : وقولها: إن خير من استأجرت القوي الأمين كلام حكيم جامع لا يزاد عليه. لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان، أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك، [ ص: 4703 ] فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول: استأجره لقوته وأمانته. انتهى.

    قال الناصر: وهو أيضا أجمل في مدح النساء للرجال، من المدح الخاص. وأبقى للحشمة. وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها عليه السلام أن يزوجها منه. وما أحسن ما أخذ الفاروق رضي الله عنه هذا المعنى فقال: أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي. ففي مضمون الشكاية سؤال الله تعالى أن يتحفه بمن جمع الوصفين، فكان قويا وأمينا: يستعين به على ما كان بصدده رضي الله عنه. انتهى. قال إني أريد أي: لقوتك وأمانتك، ما يقوي المودة ويجذب القلوب: أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج أي: على أن تكون أجيري لرعي المواشي بأجرة على ابنتي، هي مهرها عليك، ثماني سنين: فإن أتممت عشرا فمن عندك أي: فهو من عندك بطريق التفضل: وما أريد أن أشق عليك أي: بإلزام أتم الأجلين وإيجابه: ستجدني إن شاء الله من الصالحين أي: في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد: قال ذلك بيني وبينك أي: ذاك الذي عاهدتني عليه، لا نخرج عنه جميعا: أيما الأجلين قضيت أي: أتممت: فلا عدوان علي أي: بطلب الزيادة على ثمان، أو الخروج بالأهل قبل عشر: والله على ما نقول وكيل أي: شاهد وحفيظ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29 - 31] فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين [ ص: 4704 ] وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين

    فلما قضى أي: أتم: موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أي: من الطريق، من ضوئها، أو ممن عندها: أو جذوة مثلثة الجيم، وقد قرئ بها كلها، أي: عود فيه شيء: من النار لعلكم تصطلون أي: تستدفئون: فلما أتاها أي: قرب منها: نودي من شاطئ أي: جانب: الواد الأيمن أي: المبارك. يقال: يمن فهو ميمون وأيمن. وتفسيره بخلاف الأيسر بعيد، لأن ألفاظ التنزيل وآيه يفسر بعضها بعضا. وقد جاء في غير آية توصيف الوادي بالمقدس، وبقعته بالمباركة، والمعنى واحد. وإن أدهش التفنن في التعبير عنه ببديع تلك المباني: في البقعة المباركة أي: التي بورك مكانها بالتجلي الإلهي: من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز أي: تتحرك: كأنها جان أي: حية صغيرة، في سرعة الحركة: ولى مدبرا أي: أعرض بوجهه عنها. جاعلا ظهره إليها: ولم يعقب أي: لم يرجع: يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أي: من المخاوف.




  7. #487
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْقَصَصِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4705 الى صـ 4715
    الحلقة (486)







    [32 - 35] اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون [ ص: 4705 ] قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون

    اسلك يدك في جيبك أي: أدخلها فيه: تخرج بيضاء من غير سوء أي: عيب: واضمم إليك جناحك أي: يدك: من الرهب أي: الخوف. قرئ بفتحتين، وضمتين، وفتح وسكون، وضم وسكون. قال ابن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية قال ابن كثير : والظاهر أن المراد أعم من هذا. وهو أنه أمر عليه السلام، إذا خاف من شيء، أن يضم إليه يده، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف. وربما استعمل أحد ذلك، على سبيل الاقتداء، فوضع يده على فؤاده، فإنه يزول عنه ما يجد أو يخف إن شاء الله تعالى. وبه الثقة فذانك إشارة إلى العصا واليد: برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا أي: فيكون أحسن بيانا. ولا يتحمل ذلك ما لم يكلف بمثل ما كلفت به: فأرسله معي ردءا أي: معينا: يصدقني أي: لنشاط قلبي: إني أخاف أن يكذبون أي: يتفقوا على تكذيبي المؤدي إلى أنواع الأذيات.

    قال الزمخشري : فإن قلت: تصديق أخيه، ما الفائدة فيه؟ قلت: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة. فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك. لا لقوله صدقت. فإن سحبان وباقلا يستويان فيه. أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه. فأسند التصديق إلى هارون لأنه السبب فيه، إسنادا مجازيا. انتهى قال سنشد عضدك بأخيك أي: سنقويك به ونعينك.

    [ ص: 4706 ] قال الشهاب: والشد التقوية، والعضد من اليد معروف. فهو إما كناية تلويحية عن تقويته، لأن اليد تشد بشدة العضد، والجملة تشتد بشدة اليد، ولا مانع من الحقيقة كما توهم. أو استعارة تمثيلية. شبه حال موسى في تقويته بأخيه عليهما السلام، بحال اليد في تقويتها بيد شديدة ونجعل لكما سلطانا أي: غلبة ومهابة في قلوبهم أو حجة: فلا يصلون إليكما أي: بإيذاء، فضلا عن القتل: بآياتنا متعلق بمحذوف أي: اذهبا بآياتنا. أو بـ(نجعل) أي: نسلطكما بها أو بمعنى: (لا يصلون) أي: تمتنعون منهم بها. أو قسم، جوابه (لا يصلون) مقدر. أو صلة لـ(الغالبون) في قوله: أنتما ومن اتبعكما الغالبون وتقدمه، إما للفاصلة أو للحصر. أي: الغالبون عليهم، وإن غلبوكم وغلبوا العالمين قبلكم.


    [36 - 38] فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين

    فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى أي: مبتدع لم يسبق له نظير. أو تفتريه على الله بنسبته له، وأنت تعلمته من غيرك، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب: وما سمعنا بهذا أي: السحر أو ادعاء النبوة، أو بأن للعالم إلها يرسل الرسل [ ص: 4707 ] بالآيات: في آبائنا الأولين أي: كائنا في أيامهم. قال الشهاب: وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات، وإن كان عهد يوسف قريبا منهم. أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضا: وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار قال المهايمي: معناه: كفى دليلا على كونها آيات، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير. مع أن ما جئت به هدى. والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى. فإن لم تعترفوا بكونه هدى، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ويعلم ذلك بالعاقبة،

    فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة. لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار. وهي العاقبة المحمودة. والمراد بـ(الدار): الدنيا. وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان. وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة، لأنه ظالم، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال: إنه لا يفلح الظالمون أي: بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولا استدراجا، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة. وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم. وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة. ونهاية أعدائه وضيعة: وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري هذا حكاية لتمرده وعتوه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة. كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين وكما قال تعالى عنه: فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلنا بذلك. فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر: فأوقد لي يا هامان على الطين أي: نارا، فأتخذ منه آجرا.

    قال الزمخشري : ولم يقل: (اطبخ لي الآجر واتخذه)، لأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة. وهامان وزيره ومدبر رعيته: فاجعل لي أي: من الآجر: صرحا أي: قصرا رفيعا إلى السماء: لعلي أطلع إلى إله موسى [ ص: 4708 ] يعني العلي الأعلى، تبارك وتعالى: وإني لأظنه من الكاذبين أي: في دعواه الألوهية، والعلو لباري الأرض والسماوات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [39 - 43] واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون

    واستكبر هو أي: بدعوى الألوهية لنفسه، ونفيها عن الله تعالى، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه، وادعاء العمل الكلي لنفسه مع جهله بربه: وجنوده في الأرض بغير الحق أي: بل بالفساد ورد الحق، والصد عن سبيل الله: وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون بضم الياء وفتحها قراءتان: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة أي: يلعنهم كل مؤمن يسمعهم: ويوم القيامة هم من المقبوحين أي: من المطرودين، المبعدين: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس أي: أنوارا للقلوب: وهدى أي: إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها: ورحمة أي: بالإرشاد إلى العمل الصالح: لعلهم يتذكرون أي: فيتعظون به ويهتدون بسببه.

    [ ص: 4709 ] ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحيا من علام الغيوب، ببيان أنه ما فصل من هذه الأنباء لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم، وكلاهما معلوم الانتفاء، فتحقق صدق الإيحاء. وذلك قوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44 - 46] وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون

    وما كنت بجانب الغربي أي: الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة: إذ قضينا أي: قدرنا وأنهينا: إلى موسى الأمر أي: أمر الإرسال والإنباء: وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا أي: بين زمانك وزمان موسى: فتطاول عليهم العمر أي: أمد انقطاع الوحي، واندرست معالم الهدى، وعم الضلال والبغي والردى، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور: وما كنت ثاويا أي: مقيما: في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين أي: لك، وموحين إليك تلك الآيات. أي: ما كان الإنباء بها إلا وحيا مصدره الرسالة: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا أي: وقت ندائنا موسى: ولكن رحمة من ربك أي: ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره، لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أي: من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى: لعلهم يتذكرون أي: يتعظون بإنذارك.
    [ ص: 4710 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [47 - 48] ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون

    ولولا أن تصيبهم مصيبة أي: عقوبة: بما قدمت أيديهم أي: من الكفر والفساد: فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين أي: بها. وجواب: لولا الأولى محذوف، ثقة بدلالة الحال عليه. أي: ما أرسلناك. لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق. ولذا أرسلناك قطعا لمعاذيرهم.

    قال الزمخشري : ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدي، وتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب. وهذا من الاتساع في الكلام، وتصيير الأقل تابعا للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أي: من قلب العصا حية، وفلق البحر، وغيرهما من الآيات. تعنتا وعنادا، كما قالوا: لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك وما أشبه ذلك. وقوله: أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل رد عليهم، وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا، لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق. أي: أو لم يكفر أبناء جنسهم، ومن مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم وهم القبط، بما أوتي موسى من الكتاب: قالوا أي: في موسى وهارون عليهما السلام سحران تظاهرا أي: تعاونا. وقرئ: "سحران" أي: ذوا سحرين; أو جعلوهما [ ص: 4711 ] سحرين مبالغة: وقالوا إنا بكل كافرون ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبي صلوات الله عليه، هي الآيات النفسية العلمية، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره، جريا على سنة الارتقاء. فإن النوع الإنساني كان، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة. وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد، كما في الأطوار الأخرى، أرسل الله إليه رسولا يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى. وأن لا يأخذ شيئا إلا بدليل وبرهان، يوصل إلى العلم. فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه الكريمة، وما جاء به من النور والهدى، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. وقد بسط هذا في مواضعه. وهذا معنى قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49 - 55] قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون [ ص: 4712 ] وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين

    قل أي: لهؤلاء الجاحدين: قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين. والذكرى التي تزع النفوس عن الشر، وتحملها على الخير. بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين. فإن يك هذا سحرا، ولديكم ما هو أهدى: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أي: من التوراة والقرآن: أتبعه أي: ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني: إن كنتم صادقين أي: في أنهما سحران مختلقان. أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما.

    قال أبو السعود: ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته. لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين، أمر بين الاستحالة. فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام. انتهى. أي: لا للشك والتردد.

    قال الشهاب: وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم. وهذا كما يقول المدل: إن كنت صديقك القديم، فعاملني بالجهل. وكذا في إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم، نوع تهكم بهم: فإن لم يستجيبوا لك أي: فلم يأتوا بذلك الكتاب، ولم يتابعوا الكتابين: فاعلم أنما يتبعون أهواءهم أي: الزائغة من غير برهان: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله الاستفهام إنكاري للنفي. أي: لا أحد أضل منه. كيف لا؟ وهو أظلم الظلمة. بتقديم هواه على هدى الله. كما قال تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين أي: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.

    [ ص: 4713 ] قال الرازي: وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لا بد من الحجة والاستدلال. انتهى ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون أي: أنزلنا عليهم القرآن متواصلا، بعضه إثر بعض، وعدا ووعيدا، وقصصا وعبرا، ومواعظ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وقرئ (وصلنا) بالتشديد والتخفيف: الذين آتيناهم الكتاب من قبله أي: القرآن: هم به يؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم: وإذا يتلى عليهم أي: القرآن: قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله أي: من قبل نزوله: مسلمين أي: منقادين له، لما عندنا من المبشرات به. أو على دين الإسلام، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك: أولئك أي: الموصوفون بما ذكر من النعوت: يؤتون أجرهم مرتين يعني مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن: بما صبروا أي: بصبرهم وثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى من نابذهم: ويدرءون أي: يدفعون: بالحسنة السيئة أي: بالحكمة الطيبة، ما يسوؤهم: ومما رزقناهم ينفقون أي: للبؤساء والفقراء، وفي سبيل البر والخير، فرارا عن وصمة الشح، وتنبها لآفاته.

    وإذا سمعوا اللغو أي: من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره: أعرضوا عنه أي: تكريما للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفا للسمع عن سقط باطلهم: وقالوا أي: لهم: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم أي: بطريق التوديع والمتاركة; وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة حلم المؤمنين: لا نبتغي الجاهلين أي: لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم. قال الرازي: قال قوم: نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وهو بعيد. لأن ترك المسافهة مندوب. وإن كان القتال واجبا.

    تنبيه:

    قال ابن كثير عن سعيد بن جبير : إنها نزلت في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي . [ ص: 4714 ] فلما قدموا النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: يس والقرآن الحكيم حتى ختمها. فجعلوا يبكون وأسلموا.

    وقال محمد بن إسحاق في (السيرة): ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وكلموه وسألوه. ورجال من قريش في أنديتهم. حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش. فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب. بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخير الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم. لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.

    قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي ذلك كان.

    قال: ويقال، والله أعلم، إن فيهم نزلت هذه الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين

    قال: وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم. والآيات اللاتي في سورة المائدة: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا إلى قوله: فاكتبنا مع الشاهدين
    [ ص: 4715 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [56 - 58] إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين

    إنك لا تهدي من أحببت أي: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم: ولكن الله يهدي من يشاء أي: أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته: وهو أعلم بالمهتدين أي: القابلين للهداية. لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.





  8. #488
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْقَصَصِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4716 الى صـ 4726
    الحلقة (487)





    تنبيه:

    روى البخاري في (صحيحه) في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة . فقال: أي: عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، [ ص: 4716 ] ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.

    قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والله! لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» . فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء


    قال ابن كثير : وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضا من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم، عن أبي هريرة . والإمام أحمد من حديثه أيضا، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة : إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام. انتهى.

    وقال ابن حجر في (فتح الباري): لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب. انتهى. وقدمنا مرارا معنى قولهم نزلت الآية في كذا. فانظر المقدمة، وغير موضع بعدها.

    ثم ذكر تعالى من تعنتهم، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل، فيما رواه النسائي ، قوله سبحانه: وقالوا إن نتبع الهدى معك أي: ونخالف العرب: نتخطف من أرضنا أي: مكة. فرد عليهم تعالى بقوله: أولم نمكن لهم حرما آمنا أي: ألم نعصمهم من عدوهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن، لحرمة البيت الحرام، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون: يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون أي: جهلة لا يتفكرون. ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها أي: كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت: فتلك مساكنهم [ ص: 4717 ] لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين أي: منهم. إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم. وموصوف (قليلا) المستثنى، إما (زمان) أي: إلا زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم. وإما (مكان) أي: إلا مكانا قليلا يصح لسكنى البعض، واندثر الباقي. أو (مصدر) أي: سكنا قليلا من شؤم معاصيهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59 - 62] وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون

    وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا أي: الناطقة بالحق. ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب. وذلك لإلزام الحجة وقطع المعذرة: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون أي: بالكفر بالآيات وتكذيب الرسل سعيا بالفساد، وإباء عن سبيل الصلاح والرشاد: وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها أي: فهو مما يتمتع ويتزين به أياما قلائل. وهي مدة الحياة المقتضية: وما عند الله خير أي: متاعا وزينة في نفسه، لخلوه عن شوائب الألم: وأبقى لأنه أبدي لا يزول: أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا أي: بإيمانه وعمله الصالح: فهو لاقيه كمن متعناه متاع [ ص: 4718 ] الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين أي: من الذين أحضروا للحساب أو للنار أو العذاب.

    قال الشهاب: وقد غلب لفظ (المحضر) في القرآن في المعذب. وإليه أشار الزمخشري ، وصرح به في البحر: ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [63 - 68] قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون

    قال الذين حق عليهم القول أي: وجب وثبت مقتضاه. وهو لحوق الوعيد بهم. والمراد بهم، رؤساء الضلال، وقادة الكفر والفساد: ربنا هؤلاء الذين أغوينا أي: أضللناهم. قال أبو السعود: ومرادهم بالإشارة، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم. وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده: أغويناهم كما غوينا أي: أضللناهم بالوسوسة والتسويل، كما ضللنا باختيارنا، وإيثار ما يفنى على ما يبقى: تبرأنا إليك أي: من الكفر والشرك والمعاصي. أو منهم ومما اختاروه: ما كانوا إيانا يعبدون أي: بل كانوا يعبدون [ ص: 4719 ] أهواءهم وشهواتهم: وقيل ادعوا شركاءكم ليشفعوا لكم: فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون أي: تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين أي: الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق: فعميت عليهم الأنباء يومئذ أي: فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم. وأصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة. قال الشهاب: ففيه استعارة تصريحية تبعية. استعير العمى لعدم الاهتداء فهم لا يهتدون للأنباء. ثم قلب للمبالغة. فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم. وضمن معنى الخفاء. فعدي بـ(على). ففيه أنواع من البلاغة. الاستعارة والقلب والتضمين. والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل. أو ما يعمها وغيرها منكل ما يمكن الجواب به: فهم لا يتساءلون أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب. أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم. ثم إن هذا الوعيد لاحق للمصر : فأما من تاب أي: من الشرك: وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين أي: أن يفلح عند الله. و(عسى) من الكرام تحقيق. ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه. كأنه قال: فليطمع أن يفلح. قاله الزمخشري : وربك يخلق ما يشاء ويختار أي: بمقتضى مشيئته وعنايته، ما يريد: ما كان لهم الخيرة أي: في ذلك. بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.

    قال الزمخشري : الخيرة من التخير، كالطيرة من التطير، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير، وبمعنى المتخير. كقولهم: محمد خيرة الله من خلقه. والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده. ولذا قال: سبحان الله وتعالى عما يشركون من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئا ولا تختار.

    تنبيه:

    للإمام ابن القيم في مقدمة (زاد المعاد) مقالة في هذه الآية الكريمة، جديرة بأن تؤثر [ ص: 4720 ] عنه. قال رحمه الله: وبعد. فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات. قال تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار وليس المراد هاهنا بالاختيار، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار، وهو سبحانه كذلك. وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى. وهذا الاختيار داخل في قوله: "يخلق ما يشاء" فإنه لا يخلق إلا باختياره. وداخل في قوله تعالى: "ما يشاء" فإن المشيئة هي الاختيار. وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء. فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام اختيار قبل الخلق. فهو أعم وأسبق. وهذا أخص وهو متأخر. فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق. وأصح القولين أن الوقف التام على قوله: ويختار ويكون: ما كان لهم الخيرة نفيا. أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده. فكما أنه هو المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه. فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه. فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحال رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له. وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه. وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل، إلى أن (ما) في قوله تعالى: ما كان لهم الخيرة موصولة وهي مفعول (يختار) أي: ويختار الذي لهم الخيرة. وهذا باطل من وجوه:

    أحدها: أن الصلة حينئذ تخلو من العائد. لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم (كان) و(لهم) خبره. فيصير المعنى: ويختار الذي كان الخيرة لهم. وهذا التركيب محال من القول. فإن قيل: يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه. أي: ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره. قيل: هذا يفسد من وجه آخر. وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد. فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى: يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ونظائره. ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت، ورأيت الذي رغبت، ونحوه.

    الثاني: أنه لو أريد هذا المعنى لنصب (الخيرة) وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول. فكأنه يقول: ويختار ما كان لهم [ ص: 4721 ] الخيرة. أي: الذي كان هو عين الخيرة لهم. وهذا لم يقرأ به أحد البتة. مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.

    الثالث: أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم. ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرده بالاختيار، كما قال تعالى: وقالوا لولا نـزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه. وأخبر أن ذلك ليس إليهم. بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم. وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل، على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح. وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات. وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل. فهو القاسم ذلك وحده لا غيره. وهكذا هذه الآية. بين فيها انفراده بالخلق والاختيار. فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال: وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته أي: الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة، دون غيره.

    الرابع: أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال: ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه، حتى نزه نفسه عنه. فتأمله فإنه في غاية اللطف.

    الخامس: إن هذا نظير قوله في الحج: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ثم قال: الله يصطفي من [ ص: 4722 ] الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور وهذا نظير قوله في القصص: وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ونظير قوله في الأنعام: الله أعلم حيث يجعل رسالته فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محال اختياره، بما خصصها به بعلمه، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى دائرا عليه. والله أعلم.

    السادس: إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده، وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه، لمن هو أهل له. لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم. فسبحان الله وتعالى عما يشركون.

    ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فصل) فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص، المشهور أثره في هذا العالم، من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله وصدق رسوله. فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبها على ما وراءه، دالا على ما سواه. فخلق الله السماوات سبعا. فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه. وأسكنها من شاء من خلقه. فلها مزية وفضل على سائر السماوات. ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى. وهذا التفضيل والتخصيص، مع تساوي [ ص: 4723 ] مادة السماوات، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء ويختار. ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها. وفي بعض الآثار: إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه. ومن هذا اختياره من الملائكة، المصطفين منهم على سائرهم. كجبريل وميكائيل وإسرافيل. وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم. واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم. واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم. ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم. ثم اختار منهم بني كنانة بن خزيمة. ثم اختار من ولد كنانة قريشا. ثم اختار من قريش بني هاشم. ثم اختار من بني هاشم، سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم. وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين. واختار منهم السابقين الأولين. واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان. واختار لهم من الدين أكمله، ومن الشرائع أفضلها، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها. واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم. ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها. وهي البلد الحرام. فإنه سبحانه اختاره لنبيه، وجعله مناسك لعباده. وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق. فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا. وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه، ولا يلتقط لقطته للتملك. بل للتعريف ليس إلا. ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض. فخير الأيام عند الله يوم النحر. وهو يوم الحج الأكبر كما في (السنن). وأفضل الشهور شهر رمضان. وعشره الأخير أفضل الليالي. وليلة القدر أفضل من ألف شهر. ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام. انتهى ملخصا.

    وقد أوسع المقال وجود الاستدلال. فرحمه الله ورضي عنه وأرضاه. وقوله تعالى: سبحان الله أي: تنزيها لله الذي لا يزاحم اختياره اختيار: وتعالى عما يشركون
    [ ص: 4724 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [69 - 71] وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون

    وربك يعلم ما تكن أي: تخفي: صدورهم أي: من الكيد والمكر: وما يعلنون أي: من الأقوال والأفعال: وهو الله لا إله إلا هو أي: وهو المستحق للألوهية والعبادة وحده: له الحمد في الأولى والآخرة أي: لأنه المولى للنعم كلها في الدارين: وله الحكم أي: القضاء النافذ في كل شيء. يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته. ويحكم عليه بموجب إرادته: وإليه ترجعون أي: بالبعث للجزاء: قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون أي: هذا الكلام الحق، سماع تدبر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72 - 76] قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ ص: 4725 ] ونـزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين

    قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون أي: هذه المنفعة فتقوموا بشكرها: ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه أي: في الليل: ولتبتغوا من فضله أي: في النهار: ولعلكم تشكرون أي: نعمه الظاهرة والباطنة، والجسمانية والروحانية، باستعمالها فيما وجب من طاعته. وذلك فيما خلقت له.

    ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونـزعنا أي: وأخرجنا: من كل أمة شهيدا أي: نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه. كقوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد فقلنا أي: لكل أمة من تلك الأمم: هاتوا برهانكم أي: على ما أنتم عليه. أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم. وظهر برهان النبي، كما قال تعالى: فعلموا أن الحق لله أي: في الألوهية، لا يشاركه فيها أحد: وضل عنهم أي: غاب عنهم غيبة الضائع: ما كانوا يفترون أي: من الباطل والمذاهب المختلفة، والطرق المتشعبة المتفرقة.

    إن قارون كان من قوم موسى أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان. وقوم موسى، جماعته الذين أرسل إليهم، وهم القبط وطاغيتهم فرعون: فبغى عليهم أي: بالكبر والاستطالة عليهم لما غلب عليه الحرص ومحبة الدنيا، لغروره وتعززه برؤية زينة نفسه:وآتيناه من الكنوز أي: من الأموال [ ص: 4726 ] المدخرة: ما إن مفاتحه أي: مفاتيح صناديقه. على حذف مضاف. أو الإضافة لأدنى ملابسة. وقيل خزائنه: لتنوء أي: تثقل: بالعصبة أي: الجماعة الكثيرة من الرجال أو البغال: أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح أي: بزخارف الدنيا فرحا يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها: إن الله لا يحب الفرحين أي: هذا الفرح، لما فيه من إيثارها عن الآخرة، والرضا بها عنها، والإخلاد إليها. وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77 - 78] وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون .

    وابتغ فيما آتاك الله أي: اطلب من الغني الذي تفضل الله به عليك، بعد الفاقة: الدار الآخرة أي: بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب. وتجعله زادك إلى الآخرة: ولا تنس نصيبك من الدنيا وهو أن تأخذ منه ما يصلحك ويرفهك: وأحسن أي: إلى الناس. أو افعل الإحسان من وجوهه المعروفة: كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض أي: بهذا المال الذي جعله سبب صلاحها: إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أي: بطرق التجارة أو المكاسب: أولم يعلم أي: مما سمع بالتواتر: أن الله قد أهلك من قبله من القرون أي: الكثيرة، بحيث صارت سنة له: من هو أشد منه قوة أي: بالأموال والأتباع: وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم [ ص: 4727 ] المجرمون أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال، ليعتذروا عنها. بل متى حق عليها القول بفسقهم، أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر. ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، بقوله سبحانه:




  9. #489
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْقَصَصِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4727 الى صـ 4737
    الحلقة (488)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79 - 82] فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون

    فخرج أي: قارون باغيا: على قومه في زينته أي: مغترا بالنظر فيها: قال الذين يريدون الحياة الدنيا أي: جريا على سنن الجبلة البشرية، من الرغبة في السعة واليسار: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير أي: مما تتمنونه: لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها أي: هذه الكلمة التي فاه بها الذين أوتوا العلم. أو الجنة. أو السيرة والطريقة، وهي الإيمان والعمل الصالح: إلا الصابرون أي: على الطاعات عن الشهوات، وعلى زمام النفس أن [ ص: 4728 ] تجري في أعقاب المزخرفات. و(ويلك) في الأصل دعاء بالهلاك. والمراد به هنا الزجر عن هذا التمني، مجازا. وهو منصوب على المصدرية: فخسفنا به وبداره أي: المشتملة على أمواله: الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله أي: بدفع العذاب عنه: وما كان من المنتصرين أي: بقوة نفسه وماله: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده أي: من شقي وسعيد : ويقدر أي: يقبض. فلا دلالة في البسط على السعادة. ولا في القبض على الشقاوة. بل يفعل سبحانه كل واحد من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة توجب البسط، ولا لهوان يقتضي القبض: لولا أن من الله علينا أي: بعدم إيتائه متمنانا: لخسف بنا أي: كما خسف به: ويكأنه لا يفلح الكافرون أي: لنعمة الله في صرفها في غير سبيلها. أو المكذبون برسله اغترارا بزخارفهم.

    فائدة:

    في ويكأن مذاهب:

    الأول: أن (وي) كلمة برأسها. وهي اسم فعل، معناها أعجب. أي: أنا. والكاف للتعليل. و(أن) وما في حيزها مجرورة بها. أي: أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ. وقياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي .

    الثاني: أنه مركب من (وي) للتعجب (وكأن) للتشبيه. والمعنى: ما أشبه الأمر أن الله يبسط. أي: ما أشبه أمر الدنيا والناس مطلقا إلى آخر أمر قارون وما شوهد من قصته. والأمر مأخوذ من الضمير. فإنه للشأن. والمراد من تشبيه الحال بهذه الحال، أنه لتحققه وشهرته، يصلح أن يشبه به كل شيء. كما أشار إليه في الكشف.

    الثالث: قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه. إلا أنه ذهب منها معناه. وصارت للخبر واليقين. وهذا أيضا يناسبه الوقف على (وي).

    [ ص: 4729 ] الرابع: زعم الهمداني في (الفرائد) أن مذهب سيبويه والخليل أن (وي) للتندم. و(كأن) للتعجب. والمعنى: ندموا متعجبين في أن الله يبسط إلخ.

    قال الشهاب: وكون (كأن) للتعجب، لم يعهد.

    الخامس: ذهب الكوفيون إلى أنه مركب من (ويك) بمعنى (ويلك) فخفف بحذف اللام. والعامل في (أن) اعلم، المقدر. والكاف على هذا ضمير في محل جر. وهذا يناسب الوقف على الكاف. وقد فعله أبو عمرو .

    السادس: أن (ويك) كلمة برأسها. والكاف حرف خطاب. ويقرب هذا مما قبله. قال أبو البقاء : وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن معنى الخطاب هنا بعيد. والثاني: أن تقدير (وي) اعلم، لا نظير له، وهو غير سائغ في كل موضع. انتهى.

    السابع: أن (ويكأن) كلها كلمة مستقلة بسيطة. ومعناها ألم تر. وربما نقل ذلك عن ابن عباس . ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى: (أما ترى إلى صنع الله)، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى: (رحمة لك) في لغة حمير. ولم يرسم في القرآن إلا (ويكأن) و(ويكأنه) متصلة في الموضعين. فعامة القراء اتبعوا الرسم. والكسائي وقف على (وي) وأبو عمرو على (ويك).

    وهذا ما يستفاد من حواشي القاضي والسمين. وعندي أنها مركبة من (وي) للتعجب و(كأن) التي للتحقيق وهي أحد معانيها المعروفة. والوقف على (وي). ولا يشكل على ذلك كتابتها في المصاحف متصلة، لأن الكتابة -كما قال ابن كثير - أمر وضعي اصطلاحي، والمرجع إلى اللفظ العربي.

    وقد اتفق اللغويون على أن (وي) كلمة تعجب. يقال (ويك) و(وي لزيد )، وتدخل على (كأن) المخففة والمشددة، ومن شواهد الأولى قول الشاعر:


    سالتاني الطلاق. أن رأتاني قل مالي. قد جئتماني بنكر وي كأن من يكن له نشب يح
    بب ومن يفتقر يعش عيش ضر


    وهذا البيت مما يدل على ما استظهرته، بله الاستعمال إلى هذه الأجيال.

    [ ص: 4730 ] قال ابن كثير : وقد ذكر ههنا إسرائيليات، أضربنا عنها صفحا. ونحن تأسينا به، بل فقناه في الإضراب عن كثير من مرويه، الموقوف والضعيف الذي سودت به الصحف.

    ثم أشار تعالى إلى مقابل حال قارون، من حال خلص عباده، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83 - 84] تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون

    تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض أي: غلبة وتسلطا بسوء وتكبر: ولا فسادا أي: بظلم وعدوان وصد عن سبيل الله تعالى: والعاقبة أي: النهاية الحميدة: للمتقين أي: الذين يتقون ما لا يرضاه تعالى من الأقوال والأفعال.

    قال الزمخشري ، قدس الله روحه: لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد. ولكن بترك إرادتهما، وميل القلوب إليهما. كما قال: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فعلق الوعيد بالركون. وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه. فيدخل تحتها.

    وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز ، أنه كان يرددها حتى قبض. ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون، والفساد لقارون، متعلقا بقوله: إن فرعون علا في الأرض ولا تبغ الفساد في الأرض ويقول: من لم يكن [ ص: 4731 ] مثل فرعون وقارون، فله تلك الدار الآخرة. ولا يتدبر قوله: والعاقبة للمتقين كما تدبره علي والفضيل وعمر رضي الله عنهم من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون معناه: فلا يجزون إلا.. إلخ. فوضع فيه الموصول والظاهر، موضع الضمير، لتهجين حالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم، والزيادة تبغيض السيئة إلى قلوب السامعين. ومعنى قوله: إلا ما كانوا يعملون أي: مثله. وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع، أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها. ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وسبعمائة. وهو معنى قوله: فله خير منها كذا في الكشاف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85 - 86] إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين

    إن الذي فرض عليك القرآن أي: أوجب عليك تلاوته على الناس، وتبليغه إليهم، وصدعهم به: لرادك أي: بعد الموت: إلى معاد أي: مرجع عظيم. وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه. فتنوينه للتعظيم، ووجهه -كما في (العناية)- أن المعاد صار كالحقيقة في المحشر. لأنه ابتداء العود إلى الحياة، ورده على ما كان عليه فجعل معاده عظيما لعظمة مقامه فيه.

    وقال ابن كثير : المعاد هو يوم القيامة. يسأله عما استرعاه من أعباء النبوة. كما قال تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين وقال تعالى: يوم يجمع [ ص: 4732 ] الله الرسل فيقول ماذا أجبتم وقال: وجيء بالنبيين والشهداء وعن ابن عباس روايات: إلى يوم القيامة. إلى الموت. إلى الجنة أخرجت عنه من طرق. كما أسنده ابن كثير .

    والذي رواه البخاري والنسائي وابن جرير عن ابن عباس قال: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وعن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة. فنزلت الآية.

    قال ابن كثير : وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية، وإن كان مجموع السورة مكيا ، والله أعلم.

    ثم قال: ووجه الجمع بين هذه الأقوال، أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة، وهو الفتح، الذي هو عند ابن عباس على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم. كما فسر ابن عباس سورة: إذا جاء نصر الله والفتح أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه، وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك، وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله تعالى: لرادك إلى معاد بالموت. وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت. وتارة بالجنة التي هي جزاؤه على أدائه رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الجن والإنس. ولأنه أكمل خلق الله على الإطلاق. انتهى.

    قل ربي أعلم من جاء بالهدى يعني نفسه الكريمة. أي: بما يستحقه من المثوبة: ومن هو في ضلال مبين يعني المشركين. أي: بما يستحقونه من العذاب. والجملة تقرير للوعيد السابق: وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب أي: ما كنت تظن، قبل إنزال الوحي إليك، أن الوحي ينزل عليك: إلا رحمة من ربك أي: ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك: فلا تكونن ظهيرا للكافرين أي: معينا لهم. ولكن نابذهم وخالفهم. وحكى الكرماني في (الغرائب) أن معناه: فلا تكن بين ظهرانيهم، وأنه أمر بالهجرة.
    [ ص: 4733 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [87 - 88] ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون

    ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنـزلت إليك أي: عن تبليغها بعد إنزالها، والأمر بالصدع بها لضيق صدرك من مكرهم. فإن الله معك، ومعل كلمتك ومؤيد دينك. ولذا قال: وادع إلى ربك أي: إلى عبادته وحده لا شريك له: ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها آخر

    قال القاضي: هذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين من مساعدته لهم. أي: لأنه لا يتصور منه ذلك حتى ينهى عنه. فكأنه لما نهاه عن مظاهرتهم ومداراتهم، قال إن ذلك مبغوض لي كالشرك. فلا تكن ممن يفعله. أو المراد نهي أمته، وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم. كذا في (العناية).

    لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه أي: إياه و(الوجه) يعبر به عن الذات كما قال: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وفي قوله تعالى: هالك وجوه: حمله على المستقبل، أو هو عرضة للهلاك والعدم، أو هالك في حد ذاته، لأن وجوده ليس ذاتيا بل لاستناده إلى واجب الوجود، فهو بالقوة وبالذات معدوم حالا. والمراد بالمعدوم ما ليس له وجود ذاتي. لأن وجود غيره كلا وجود. إذ هو في كل آن قابل للعدم. وعن مجاهد والثوري : (إلا وجهه) أي: ما أريد به وجهه. حكاه البخاري في (صحيحه).

    [ ص: 4734 ] قال ابن جرير : ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:


    أستغفر الله ذنبا، لست محصيه رب العباد، إليه الوجه والعمل


    قال ابن كثير : وهذا القول لا ينافي القول الأول. فإن هذا إخبار عن كل الأعمال، بأنها باطلة، إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة. انتهى.

    وفيه بعد وتكلف يذهب رونق النظم، وماء الفصاحة. لا سيما وآي التنزيل يفسر بعضها بعضا. والآية الثانية التي ذكرناها بمعنى هذه. وتلك لا تحتمل ذاك المعنى، فكذا هذه: له الحكم أي: القضاء النافذ في الخلق: وإليه ترجعون أي: يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    29- سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ

    سميت بها لاشتمالها على آية مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت الآية، المشير إن من اعتمد على قوة الأصنام وحفظها عن العذاب كالعنكبوت، اعتمدت على قوة بيتها التي لا تحتمل مس أدنى الحشرات والرياح، وحفظها عن الحر والبرد. وهذا أتم في الدعوة إلى التوحيد الذي هو أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.

    وهي مكية. واستثني من أولها إلى قوله تعالى: وليعلمن المنافقين وقوله: وكأين من دابة الآية، ويقال إنها آخر ما نزل بمكة. وآيها تسع وستون. قال الداني : متفق عليه.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 3] الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين

    الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون أي: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وأظهروا القول بالإيمان، أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم وثبات أقدامهم وصحة عقائدهم. لتمييز المخلص من غير المخلص. كما قال: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وكقوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وقوله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب وكل هذه الآيات وأمثالها مما نزل بمكة في تثبيت قلوب المؤمنين، وتصبيرهم على ما كان ينالهم [ ص: 4737 ] من أذى المشركين: ولقد فتنا الذين من قبلهم أي: من أتباع الأنبياء عليهم السلام، بضروب من الفتن من أعدائهم، كما دون التاريخ اضطهادهم. أي: فصبروا وما وهنوا لما أصابهم حتى علت كلمة الله: فليعلمن الله الذين صدقوا أي: في قولهم: "آمنا": وليعلمن الكاذبين أي: فيه: وذلك بالامتحان.

    فإن قيل: يتوهم من صيغة الفعل أن علمه حدث، مع أنه قديم. إذ علمه بالشيء قبل وجوده وبعده، لا يتغير. يجاب بأن الحادث هو تعلق علمه بالمعلوم بعد حدوثه.

    وقال الناصر: فائدة ذكر العلم هاهنا، وإن كان سابقا على وجود المعلوم هو التنبيه بالسبب على المسبب. وهو الجزاء كأنه قال تعالى: ليعلمنهم فليجازينهم بحسب علمه فيهم.

    وقال المهايمي: فليعلمن الله أي: يظهر علمه عند خلقه بصدق إيمان: الذين صدقوا فيه، بدلالة ثباتهم عليه عند المصائب: وليعلمن أي: وليظهر علمه بكذب دعوى: الكاذبين لئلا يشهدوا عنده بإيمان الكاذبين، فينسب في تعذيبهم إلى الظلم. وليثق المؤمنون بمحبة الصادقين، ويستظهروا بها، ويحذروا عن مكر الكاذبين. انتهى.







  10. #490
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4738 الى صـ 4748
    الحلقة (489)







    [4 - 7] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون

    أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا أي: يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم بمساوئ أعمالهم: ساء ما يحكمون أي: بئس الذي يحكمونه حكمهم: من كان يرجو لقاء الله أي: في الجنة من رؤيته، والفوز بكرامته: فإن أجل الله وهو الموت: لآت أي: فليبادر ما يصدق رجاءه ويحقق أمله من الثواب والتواصي بالحق والصبر والرغبة فيما عنده تعالى. أو المعنى: من كان يرجو لقاء الله، من كل من صدق في إيمانه، وأخلص في يقينه، فاعلم أن أجل الله لآت. وهو الوقت الذي جعله الله أجلا وغاية لظهور النصر والفتح وعلو الحق وزهوق الباطل. أي: فلا يستبطئنه. فإنه آت بوعد الله الحق وقول الصدق. ولم أر من ذكره ولعله أنسب بقرينة السياق والسباق. والله أعلم:وهو السميع العليم أي: السميع لأقوالهم العليم بضمائرهم وأحوالهم: ومن جاهد أي: في الصبر على البلاء والثبات على الحق مع ضروب الإيذاء: فإنما يجاهد لنفسه أي: لأنه يمهد لنفسه، ما يجني به ثمر غرسه: إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون أي: أحسن جزاء أعمالهم.


    [8 - 9] ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين

    ووصينا الإنسان بوالديه حسنا أي: أمرناه أمرا مؤكدا بإيلاء والديه فعلا ذا حسن عظيم: وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما أي: في الشرك، إذا حملاك عليه. ومعنى: ما ليس لك به علم أي: لا علم لك بإلهيته. قال القاضي: عبر عن نفيها بنفي العلم بها، للإيذان بأن ما لم يعلم صحته، لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه. فكيف بما علم بطلانه؟ إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون أي: إلي مرجع من آمن منكم ومن أشرك. فأجازيكم حق جزائكم. فيه التحذير من متابعتهما على الشرك [ ص: 4739 ] والحث على الثبات والاستقامة في الدين، بذكر المرجع والوعيد. وقد روي أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم، قالت أمه: يا سعد ! بلغني أنك قد صبأت. فوالله! لا يظلني سقف بيت من الضح والريح. وإن الطعام والشراب علي حرام، حتى تكفر بمحمد وكان أحب ولدها إليها. فأبى سعد . وبقيت ثلاثة أيام كذلك. فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه. فنزلت هذه الآية، والتي في لقمان، والتي في الأحقاف. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان. وروى الترمذي عن سعد قال: قال: نزلت في أربع آيات. فذكر قصته وقال: قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت، أو تكفر. فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها. فنزلت هذه الآية. قال ابن كثير : وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا.

    وقال الترمذي : حسن صحيح: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين أي: في زمرة الراسخين في الصلاح والكمال.

    قال الزمخشري : والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى أنبياء الله.

    قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وقال في إبراهيم عليه السلام: وإنه في الآخرة لمن الصالحين أو المعنى: في مدخل الصالحين وهي الجنة. وهذا نحو قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم الآية.
    [ ص: 4740 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين

    ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله أي: جعل ما يصيبه في الصرف عن الإيمان من ضروب الإيذاء، بسببه، مثل عذاب الله في الشدة والهول، فيرتد عن الدين. مع أن مقتضى إيمانه أن يصبر ويتشجع ويتلقى ما يناله في الله بالرضا، يرى العذاب فيه عذوبة والمحنة منحة. فإن العاقبة للتقوى وسعادة الدارين لأهلها: ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين أي: من التلبيس والإخلاص. وهذه الآية كقوله تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه إلى قوله: ذلك هو الضلال البعيد وكقوله سبحانه: الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين وقال تعالى: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11 - 13] وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين [ ص: 4741 ] وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون

    وليعلمن الله الذين آمنوا أي: بإخلاصهم: وليعلمن المنافقين ثم بين تعالى حمل كفار قريش لمن آمن على الكفر بالاستمالة، بعد بيان حملهم لهم عليهم بالأذية، بقوله: وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم أي: إن كان ذلك خطيئة يؤاخذ عليها بالبعث، فتبعتها علينا وفي رقابنا.

    قال ابن كثير : كما يقول القائل: افعل كذا وخطيئتك في رقبتي. قال الله تعالى تكذيبا لهم: وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وهي أوزار أنفسهم: وأثقالا مع أثقالهم أي: وأوزارا أخر مع أوزار أنفسهم. يعني أوزار الإضلال والحمل على الكفر والصد عن سبيل الله. كما قال تعالى: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم وفي الصحيح: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا » : وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون أي: من الأكاذيب والأباطيل. ثم بين تعالى افتتان الأنبياء بأذية أممهم، إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار، تأكيد الإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء، وحثا لهم على الصبر تأسيا بالأنبياء، فقال سبحانه:
    [ ص: 4742 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [14 - 19] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير

    ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية أي: هذه الحادثة الهائلة موعظة: للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا أي: كذبا، في تسميتها آلهة وشركاء لله، وشفعاء إليه: إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون وإن [ ص: 4743 ] تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين أي: التبليغ الذي يزيل كل لبس وما عليه أن يصدقه قومه: أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إرشاد إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه مع وضوح دليله، وذلك بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين. فالذي بدأ هذا، قادر على إعادته. فإنه سهل عليه، يسير لديه. فقوله تعالى: "ثم يعيده" عطف على "أولم يروا" لا على "يبدئ" لعدم وقوع الرؤية عليه. فهو إخبار بأنه تعالى يعيد الخلق قياسا على الابتداء. وقد جوز العطف على "يبدئ" بتأويل (الإبداء) بإبداء ما يشاهده، كالنبات وأوراق الأشجار وغيرهما. والإعادة بإنشائه تعالى كل سنة، مثل ما أنشأه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما. فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث وقوعه من غير ريب. فيصح حينئذ العطف.

    قال الشهاب: لكنه غير ملاق لما وقع في غير هذه الآية.

    قال: وبهذا التقرير سقط ما قيل: إن أريد بالرؤية العلم فكلاهما معلوم. وإن أريد الإبصار فهما غير مرئيين. مع أنه يجوز أن يجعل ما أخبر به الله تعالى لتحققه، كأنه مشاهد: إن ذلك أي: ما ذكره، وهو الإعادة: على الله يسير
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20 - 24] قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ ص: 4744 ] والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

    قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق أي: كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى. فإن ترتيب النظر على السير في الأرض، مؤذي يتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها: ثم الله ينشئ النشأة الآخرة أي: الخلق الآخر: إن الله على كل شيء قدير يعذب من يشاء أي: بعد النشأة الثانية، وهم المنكرون لها: ويرحم من يشاء وهم المؤمنون بها: وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء أي: بالتواري في الأرض، ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها، لو استطعتم الرقي فيها. أو القلاع الذاهبة فيها. فيكون المراد بالسماء ما ارتفع. وقيل: المعنى: ولا من في السماء، فحذف اسم الموصول وهو مبتدأ محذوف الخبر. والتقدير: ولا من في السماء بمعجزه، والجملة معطوفة على جملة "أنتم بمعجزين" وفيه تكلف وضعف صناعي: وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أي: يدافع عنكم ما يراد بكم: والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ثم أشار تعالى إلى ما أجاب به قوم إبراهيم، بعد دعوته إياهم وعظاته البالغة، بقوله: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون
    [ ص: 4745 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [25 - 29] وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين

    وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا أي: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا، لاجتماعكم على عبادتها: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا أي تتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع. كما قال تعالى: كلما دخلت أمة لعنت أختها وقال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ومأواكم النار وما لكم من ناصرين

    [ ص: 4746 ] تنبيه:

    قال السمين: في (ما) من قوله تعالى: (إنما اتخذتم) ثلاثة أوجه:

    أحدها: أنها موصولة بمعنى (الذي) والعائد محذوف، وهو المفعول الأول و: "أوثانا" مفعول ثان. والخبر (مودة) في قراءة من رفع. والتقدير: إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة، أي: ذو مودة، أو جعل نفس المودة مبالغة. ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي: الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم، أو يكون عليكم، لدلالة قوله: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض

    والثاني: أن تجعل (ما) كافة، و(أوثانا) مفعول به. و(الاتخاذ) هاهنا متعد لواحد. أو لاثنين، والثاني هو "من دون الله" فمن رفع (مودة) كانت خبر مبتدأ مضمر، أي: هي مودة أي: ذات مودة. أو جعلت نفس المودة مبالغة. والجملة حينئذ صفة لـ(أوثانا) أو مستأنفة. ومن نصب كان مفعولا له، أو بإضمار (أعني).

    الثالث: أن تجعل (ما) مصدرية، وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول. أي: أن سبب اتخاذكم أوثانا مودة، فيمن رفع (مودة) ويجوز أن لا يقدر، بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة. ومن القراء من رفع (مودة) غير منونة وجر (بينكم) ومنهم من نصب مودة منونة ونصب بينكم ومنهم من نصب مودة منونة وجر بينكم. فالرفع تقدم. والنصب تقدم أيضا فيه وجهان. وجوز ثالث، وهو أن يجعل مفعولا ثانيا عن المبالغة والإضافة للاتساع في الظرف.

    ونقل عن عاصم أنه رفع (مودة) غير منونة ونصب (بينكم) وخرجت على إضافة مودة للظرف. وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن.

    وأشار العلامة القاشاني إلى جواز أن يكون قوله تعالى: "في الحياة الدنيا" خبرا لـ(ما) إن كانت اسمية. وهو وجه لم يتعرض له المعربون هنا، ولا مانع منه. وعبارته:

    [ ص: 4747 ] إنما اتخذتم من دون الله شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا أو: إن كل ما اتخذتم من دون الله شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا، أو: إن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة الدنيا. أو لمودة بينكم في هذه، على القراءتين.

    ثم قال: والمعنى أن المودة قسمان: مودة دنيوية، ومودة أخروية. والدنيوية منشؤها النفس، والأخروية منشؤها الروح. فكل ما يحب ويود من دون الله، لا لله ولا بمحبة الله، فهو محبوب بالمودة النفسية. وهو هوى زائل، كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات، فإنها نشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج. فإذا انحل التركيب وانحرف المزاج، تلاشت وبقي التضاد والتعاند، بمقتضى الطبائع، لقوله تعالى: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض الآية. ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن.

    وأما الأخروية فمنشؤها المحبة الإلهية. وتلك المودة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء، لتناسب الصفات، وتجانس الذوات، لا تتصفى غاية الصفاء إلا عند زوال التركيب. فيصير يوم القيامة محبة صرفة الهيئة، بخلاف تلك. انتهى.

    فآمن له أي: صدق إبراهيم فيما دعاه إليه: لوط وقال إني مهاجر أي: من أرض قومي: إلى ربي أي: لا إلى غيره بل إلى عبادته وإقامة شعائر دينه والقيام بدعوة الخلق إلى الحق من شرعه وتوحيده: إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له أي: لإبراهيم: إسحاق ويعقوب أي: ولدا ونافلة، بمباركة الذرية: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا أي: بإيتاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماء أهل الملك إليه والثناء إلى آخر الدهر والصلاة عليه: وإنه في الآخرة لمن الصالحين ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة أي: الفعلة المتناهية في القبح: ما سبقكم بها من أحد من العالمين أي: لتحاشي الطباع عنها. ثم فصلها بعد الإجمال، لزيادة تنفير النفوس منها: أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل أي: سبيل النسل بإتيان ما ليس بحرث. [ ص: 4748 ] أو بعمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال: وتأتون في ناديكم المنكر أي: ما لا يليق من الأقوال والأفعال: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30 - 33] قال رب انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين

    قال رب انصرني على القوم المفسدين أي: الذين يفسدون كل برهان عقلي ونقلي، وكل حكمة إلهية: ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى أي: بالبشارة بالولد والنافلة، وهم الملائكة. بعثوا لنصر لوط وتبشيره بهلاك قومه: قالوا أي: لإبراهيم عليه السلام: إنا مهلكو أهل هذه القرية أي: قرية سدوم: إن أهلها كانوا ظالمين أي: بتنزيلهم الرجال منزلة النساء، وقطع السبل، وفعل المنكر وترك المعروف: قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين أي: الباقين في العذاب أو القرية: ولما أن جاءت رسلنا أي: المذكورون بعد مفارقتهم لإبراهيم عليه السلام: لوطا سيء بهم أي: اعترته المساءة بسببهم مخافة أن يقصدوهم: وضاق بهم [ ص: 4749 ] ذرعا أي: ضاق بشأن ذرعه، أي: طاقته: وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك أي: مما يصيبهم من العذاب: إلا امرأتك كانت من الغابرين




  11. #491
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4749 الى صـ 4759
    الحلقة (490)







    [34 - 38] إنا منـزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين .

    إنا منـزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء أي: عذابا عظيما من جهتها: بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون يعني قصتها العجيبة، أو آثارها الخربة: وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر أي: توقعوه، وما سيقع فيه من فنون الأهوال: ولا تعثوا في الأرض مفسدين أي: بالبغي على أهلها، كنقص المكيال والميزان، وقطع الطريق على الناس، فإن عاقبة ذلك الدمار: فكذبوه فأخذتهم الرجفة أي: الصيحة التي هي منشأ الزلزلة الشديدة: فأصبحوا في دارهم أي: بلدهم أو منازلهم: جاثمين أي: هلكى ميتين: وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين أي: عقلاء متمكنين من النظر والافتكار بواسطة الرسل عليهم السلام، فإنهم أوضحوا السبل، فلم يكن لهم في ذلك عذر، ولكنهم لم يفعلوا، عنادا وكبرا.


    [39 - 40] وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين أي: فائتين الله سبحانه. بل لحقهم عذابه فدمرهم تدميرا. ولذا قال: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا أي: ريحا عاصفا، فيها حصاء، وهم قوم لوط: ومنهم من أخذته الصيحة كمدين وثمود: ومنهم من خسفنا به الأرض كقارون: ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون وقومه: وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أي: يفعل ما يوجب ذلك، من البغي والفساد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41 - 44] مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين

    مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا أي: تعتمد على قوته وتظنه محيطا بها، دافعا عنها الحر والبرد: وإن أوهن البيوت أي: أضعفها: لبيت العنكبوت أي: لأنه لا يحتمل مس أدنى الحيوانات وأضعف الرياح. ولا يدفع شيئا من الحر والبرد. وهذا مثلهم: لو كانوا يعلمون أي: شيئا ما. أو إن أولياءهم أوهى من ذلك ثم الغرض من التشبيه هو تقرير وهن دينهم، وإنه بلغ الغاية فيه، وهو إما تشبيه مركب من الهيئة المنتزعة، فمدار قطب التمثيل على أن أولياءهم بمنزلة نسج العنكبوت في ضعف الحال وعدم الصلاحية للاعتماد. وعلى هذا فقوله: وإن أوهن البيوت تذييل يعرف الغرض من التشبيه. وقوله: لو كانوا يعلمون إيغال في تجهيلهم. لأنهم لا يعلمونه مع وضوحه لدى من له أدنى مسكة. وإما أن يكون من تشبيه المفرد، لأن المقصود بيان حال العابد والمعبود. وفي الآية لطائف بيانية ذكرت في المطولات. وقوله: إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء بالياء والتاء في (تدعون) قراءتان. و(ما) إما استفهامية منصوبة بـ(يدعون) و(من) الثانية للتبيين. أو نافية و(من) مزيدة. و(شيء) مفعول (تدعون) أو مصدرية بمعنى الدعوة و(شيء) مصدر بمعناه أيضا. أو موصولة مفعول لـ(يعلم) ومفعول (يدعون) عائده المحذوف. والكلام على الأولين تجهيل لهم وتوكيد للمثل. وعلى الآخرين وعيد لهم. أفاده القاضي: وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال يعني هذا المثل ونظائره في التنزيل: نضربها للناس أي: ليقرب ما بعد من أفهامهم. فإن الأمثال والتشبيهات طرق تبرز فيها المعاني المحتجبة للأفهام: وما يعقلها أي: يدرك حسنها وفوائدها: إلا العالمون أي: الراسخون في العلم الكاملون فيه. وعن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها، إلا أحزنني. لأني سمعت الله تعالى يقول: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق أي: محقا مراعيا للحكم والمصالح، مقدسا عن أن يقصد به باطلا. فالباء للملابسة، والجار والمجرور حال. وهذا كقوله تعالى: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين إن في ذلك لآية للمؤمنين


    [45 - 46] اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون

    اتل ما أوحي إليك من الكتاب أي: تقربا إلى الله تعالى بقراءته، وتحفظا لألفاظه، واستكثارا لما في تضاعيفه من المعاني. فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أول ما قرع سمعه. وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه، من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أي: تكون سببا للانتهاء عن ذلك. ففيه تجوز في الإسناد. فإن قلت: كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته! قلت: الصلاة التي هي الصلاة عند الله، المستحق بها الثواب، أن يدخل فيها مقدما للتوبة النصوح متقيا، لقوله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين ويصليها خاشعا بالقلب والجوارح. ثم يحوطها بعد أن يصليها، فلا يحبطها، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من لم تأمره صلاته بالمعروف، وتنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.

    عن الحسن رحمه الله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه. أفاده الزمخشري . وقوله تعالى: ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون قال الزمخشري : أي: وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، كما قال: [ ص: 4753 ] فاسعوا إلى ذكر الله وإنما قال: ولذكر الله ليستقل بالتعليل. كأنه قال: وللصلاة أكبر، لأنها ذكر الله. أو: ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما، أكبر. فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ولذكر الله إياكم برحمته، أكبر من ذكركم إياه بطاعته. انتهى. فـ(ذكر) على الأولين مصدر مضاف للمفعول. وعلى ما بعدهما مضاف للفاعل، والمفعول محذوف. والمفضل عليه في الأولين غيره من الطاعات. وفي الأخير قوله: (من ذكركم).

    وقال الرازي: لما ذكر تعالى أمرين، وهما تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة، بين ما يوجب أن يكون الإتيان بهما على أبلغ وجوه التعظيم، فقال: ولذكر الله أكبر وأنتم إذا ذكرتم آباءكم بما فيهم من الصفات الحسنة، تنبشون لذلك وتذكرونهم بملء أفواهكم وقلوبكم. لكن ذكر الله أكبر، فينبغي أن يكون على أبلغ وجه التعظيم. أما الصلاة فكذلك. لأن الله يعلم ما تصنعون. وهذا أحسن صنعكم. فينبغي أن يكون على وجه التعظيم. وفي قوله: ولذكر الله أكبر مع حذف بيان ما هو أكبر منه، لطيفة. وهي أن الله لم يقل: أكبر من ذكر فلان، لأن ما نسب إلى غيره بالكبر فله إليه نسبة. إذ لا يقال الجبل أكبر من خردلة وإنما يقال: هذا الجبل أكبر من هذا الجبل. فأسقط المنسوب كأنه قال: (ولذكر الله له الكبر لا لغيره)، وهذا كما يقال في الصلاة: (الله أكبر) أي: له الكبر لا لغيره. انتهى.

    ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين، ونفع من انتفع، وحصول اليأس ممن امتنع، بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن أي: بالخصلة التي هي أحسن. وهي اللين والأناة: إلا الذين ظلموا منهم أي: بالاعتداء، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف، لتنكبهم عن جادة اللطف. وهذا كما قال تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل: وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم [ ص: 4754 ] وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون أي: مطيعون له خاصة. وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

    قال ابن كثير : يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه، فهذا لا يقدم على تكذيبه، لأنه قد يكون حقا. ولا على تصديقه، فلعله أن يكون باطلا. ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط. وهو أن يكون منزلا، لا مبدلا مؤولا. وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون » . وهذا الحديث تفرد به البخاري .

    وروى الإمام أحمد عن أبي نملة الأنصاري مرفوعا: « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله. فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم » . ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان. لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل. وما أقل الصدق فيه. ثم ما أقل فائدة كثير منه، لو كان صحيحا.

    روى البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث. تقرؤونه محضا لم يشب. وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هذا من عند الله ليشتروا [ ص: 4755 ] به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا، والله! ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

    وقال البخاري : وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري . أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة. وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد. لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن، وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة. لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة. ومع ذلك. وقرب العهد، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة، لا يعلمها إلا الله عز وجل. ومن منحه الله علما علم بذلك كل بحسبه. ولله الحمد والمنة. انتهى.


    [47 - 48] وكذلك أنـزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون

    وكذلك أنـزلنا إليك الكتاب أي: مثل ذلك الإنزال، أنزلنا إليك الكتاب. أي: أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية: فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء أي: العرب: من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك أي: فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لما [ ص: 4756 ] يكفل سعادة الدارين في شرائعه وقضاياه، على أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم، خارق للعادة. وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي، ونفي للتجوز في الإسناد: إذا لارتاب المبطلون أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ، لقالوا: لعله تعلمه أو كتبه بيده، من كتب مأثورة عن الأنبياء.

    تنبيه:

    قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. وفيها رد على من زعم أنه كتب. انتهى.

    وقال ابن كثير : وهذه صفته في الكتب المتقدمة. كما قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده. بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم، من متأخري الفقهاء، كالقاضي ابن الوليد الباجي ومن تابعه، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله . فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري : (ثم أخذ فكتب) وهذه محمولة على الرواية الأخرى: (ثم أمر فكتب) ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي، وتبرأوا منه وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل أعني الباجي فيما يظهر عنه. أنه كتب ذلك على وجه المعجزة. لا أنه كان يحسن الكتابة. وما أورده بعضهم من الحديث; أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له. انتهى.

    وقال الشهاب: وممن ذهب إلى أنه كان يحسن الكتابة، أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي من المغاربة. وصنف فيه كتابا، سبقه إليه ابن منبه . ولما قال أبو الوليد ذلك، طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة [ ص: 4757 ] على مدعاه وكتب به إلى علماء الأطراف. فأجابوا بما يوافقه. وأن معرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة. بل هي معجزة أخرى. لكونها من غير تعليم. ورد الإمام محمد بن مفوز كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: (كتب) فمعناه أمر بالكتابة. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49 - 50] بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين .

    بل هو أي: القرآن: آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم أي: العلماء به وحفاظه. وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور، يتلوه أكثر الأمة ظاهرا. بخلاف سائر الكتب. فإنها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف. ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة « صدورهم أناجيلهم » . كذا في الكشاف وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه يعنون ما كانوا يقترحونه في تعنتهم: قل إنما الآيات عند الله أي: هو يملك إنزالها، ولو شاء لفعل: وإنما أنا نذير مبين أي: ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته، لا الإتيان بما تقترحونه. ثم أشار إلى أن في آية تنزيل الكتاب، غنية عن كل آية مقترحة. لما أن الدور انقلب من الآيات الآفاقية، إلى الآيات العلمية، وفاقا لسنة الترقي، بقوله سبحانه:


    [51 - 56] أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون

    أولم يكفهم أي: آية مغنية عما اقترحوه: أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم أي: وفيه نفسه من الآيات والمعجزات ما لا يرتاب معه إلا من سفه نفسه، وكابر حسه: إن في ذلك أي: الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة بالغة ظاهرة: لرحمة أي: لنعمة عظيمة في هدايته إلى الحق وإلى صراط مستقيم: وذكرى لقوم يؤمنون أي: تذكرة لقوم، همهم الإيمان دون التعنت: قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا أي: إني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب. يعني. كفى علمه بذلك. وجوز أن يكون المعنى شهيدا بصدقي بالتأييد والحفظ، أي: هو شاهد على ما جئت به، مصدق له تصديق الشاهد لدعوى المدعي.

    قال ابن كثير : أي: فلو كنت غير محق، لانتقم مني، كما قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به. ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات. انتهى يعلم ما في السماوات والأرض أي: فلا يخفى عليه حالي وحالكم: والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب أي: استهزاء: ولولا أجل مسمى أي: لكل عذاب أو قوم، وهو وقته المعين له فيهما: لجاءهم العذاب أي: عاجلا: وليأتينهم بغتة أي: فجأة في الدنيا. كوقعة بدر. فقد كانوا لغرورهم لا يتوقعون غلبة المسلمين. أو في الآخرة عند نزول الموت بهم: يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي: ستحيط بهم. أي: يستعجلونك بالعذاب وهو واقع بهم لا محالة. أو هي كالمحيطة بهم. لأن كل آت قريب.

    يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون أي: جزاءه: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون وهذا خطاب لمن لم تمكنه عبادته تعالى وحده في أرضه، لإيذائه في الله واضطهاده في جانبه، أن يهاجر عنها إلى بلد ما، يقدر أنه فيه أسلم قلبا، وأصح دينا، وآمن نفسا. وأن يتجنب المقام في بلده على تلك الحالة، كيلا يفتنه الكافرون. أو يعرض نفسه للتهلكة، وقد جعل له منها مخرج. وكون أرض الله واسعة، مذكور للدلالة على المقدر. وهو كالتوطئة لما بعده. لأنها مع سعتها، وإمكان التفسح فيها، لا ينبغي بأرض لا يتيسر بها للمرء ما يريده. كما قيل:


    وكل مكان ينبت العز طيب


    وقال آخر:


    إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي، وكل العالمين أقاربي






  12. #492
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الرُّومِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4760 الى صـ 4770
    الحلقة (491)





    [ ص: 4760 ] وقد روى الإمام أحمد عن الزبير : قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البلاد بلاد الله والعباد عباد الله. فحيثما أصبت خيرا فأقم » . ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك فوجدوا خير نزل بها، عند ملكها النجاشي رحمه الله. ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الباقون إلى المدينة المنورة، عملا بالآية الكريمة. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57 - 61] كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون

    كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون تحريض على العبادة وإخلاص الدين بتذكير الموت والرجعى. أو تسلية للمهاجر إلى الله، وتشجيع له، بأن لا يثبطه عن هجرته خوف الموت بسببها. فلا المقام بأرضه يدفعه، ولا هجرته عنه تمنعه. وفيه استعارة بديعة لتشبيه [ ص: 4761 ] الموت بأمر كريه الطعم، مره: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين الذين صبروا أي: على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب: وعلى ربهم يتوكلون ثم أشار تعالى إلى كفالته لمن هاجر إليه، من الفقر والضيعة، بقوله سبحانه: وكأين أي: وكم: من دابة لا تحمل رزقها أي: لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله: الله يرزقها وإياكم أي: يقيض لها رزقها على ضعفها، ويرزقكم مع قوتكم واجتهادكم. فهو الميسر والمسهل لكل مخلوق من رزقه ما يصلحه. فلا يختص رزقه ببقعة دون أخرى، بل خيره عام وفضله شامل لخلقه، حيث كانوا وأنى وجدوا. وقد ظهر مصداق كفالته تعالى لأولئك المهاجرين، بما وسع عليهم وبسط لهم من طيب الرزق ورغد العيش وسيادة البلاد في سائر الأمصار. وهذا معنى ما ورد مرفوعا: « سافروا تصحوا وتغنموا» رواه البيهقي : وهو السميع العليم ولئن سألتهم يعني هؤلاء المشركين الذين يعبدون معه غيره: من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله أي: اعترافا بأنه المنفرد بخلقها: فأنى يؤفكون أي: فكيف مع هذا الاعتراف يصرفون عن عبادته وحده، ويشركون به ما لا يضر ولا ينفع. وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعرفون بذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [62 - 64] الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون

    [ ص: 4762 ] الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم أي: فيفعل بعلمه، ما تقتضيه حكمته ولئن سألتهم من نـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله أي: على أن جعل الحق بحيث لا يجترئ المبطلون على جحوده. وأنه أظهر حجتك عليهم. والمعنى: احمد الله عن جوابهم المذكور على إلزامهم وظهور نعم لا تحصى: بل أكثرهم لا يعقلون أي: فلذلك يتناقضون حيث ينسبون النعمة إليهم، ويعبدون غيره. وقوله: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب إشارة إلى ازدراء الدنيا وتحقير شأنها، وكونها في سرعة زوالها، وتقضي أمرها، كما يلهى ويلعب به الصبيان، ثم يتفرقون عنه. ولا ثمرة إلا التعب. ففي الحصر تشبيه بليغ: وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي: دار الحياة الخالدة. ففيه مضاف مقدر. و(الحيوان) مصدر سمي به ذو الحياة، في غير هذا المحل. وإيثاره على (الحياة) لما فيه من المبالغة. لأن (فعلان) بالفتح في المصادر الدالة على الحركة: لو كانوا يعلمون أي: لم يؤثروا عليها الدنيا التي حياتها عارضة. وهذا جواب الشرط المقدر. لعلمه من السياق. وكونها للتمني بعيد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65 - 67] فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون .

    فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين أي: الدعاء. لعلمهم أنه لا ينجيهم من الغرق سواه: فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم أي: من [ ص: 4763 ] نعمة النجاة وربح التجارة: فسوف يعلمون أي: عاقبة ذلك حين يعاقبون: أولم يروا أي أهل مكة: أنا جعلنا حرما آمنا أي: لا يغزى أهله، ولا يغار عليهم، مع قلتهم وكثرة العرب: ويتخطف الناس من حولهم أي: يختلسون قتلا ونهبا وسبيا: أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون أي: أفبعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها من النعم، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، يكفرون خيره، ويشركون معه غيره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [68 - 69] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين

    ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا بأن زعم أن له شريكا: أو كذب بالحق لما جاءه يعني الرسول أو الكتاب: أليس في جهنم مثوى للكافرين أي: موضع إقامة، جزاء افترائهم وكفرهم. بلى: والذين جاهدوا فينا أي: جاهدوا النفس والشيطان والهوى وأعداء الدين، من أجلنا ولوجهنا: لنهدينهم سبلنا أي: سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا. وذلك بالطاعات والمجاهدات: وإن الله لمع المحسنين أي: أعمالهم بالنصر والمعونة.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    30- سُورَةُ الرُّومِ

    قال المهايمي: سميت بها لاشتمال قصتها على معجزة تفيد للمؤمنين فرحا عظيما، بعد ترح يسير. فتبطل شماتة أعدائهم. وتدل على أن عاقبة الأمر لهم. وهذا من أعظم مقاصد القرآن.

    وهي مكية. وآيها ستون آية.

    [ ص: 4765 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 6] الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون

    غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على أن ملك فارس كان غزا بلاد الشام، وفتح دمشق، وبيت المقدس، الأولى سنة 613، والثانية سنة 614; أي: قبل الهجرة النبوية بسبع سنين -فحدث أن بلغ الخبر مكة، ففرح المشركون، وشمتوا بالمسلمين، وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس وثنيون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرن عليكم، فنزلت الآية، فتليت على المشركين، فأحال وقوع ذلك بعضهم، وتراهن مع الصديق رضي الله عنه على مائة قلوص، إن وقع مصداقها، فلم يمض من البضع -وهو ما بين الثلاث إلى التسع- سبع سنين إلا وقد نظم هرقل جنود الروم وغزا بهم بلاد فارس سنة 621; أي: قبل الهجرة بسنة، فدوخها، واضطر ملكها للهرب، وعاد هرقل بالغنائم الوافرة.

    ولا ريب أن ذلك أعظم معجزات القرآن; أعني إخباره عن غيب وقع مصداقه، [ ص: 4766 ] واستبان للجاحدين من نوره إشراقه، وفي ضمنه أن سائر غيوبه كذلك من ظهور الإسلام على الدين كله، وزهوق الباطل، وعلو الحق، وجعل المستضعفين أئمة، وإيراثهم أرض عدوهم، إلى غير ذلك.

    وما ألطف ما قال الزبير الكلائي: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة -من أواخر غلبة فارس إلى أوائل غلبة المسلمين- والأرض، (كما قال الزمخشري ): أرض العرب; لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم. والمعنى: غلبوا في أدنى أرض العرب أي: أقربها منهم، وهي أطراف الشام: لله الأمر من قبل أي: من قبل غلبة فارس على الروم: ومن بعد أي: من بعد غلبة الروم على فارس. ويقال: لله العلم والقدرة والمشيئة من قبل إبداء الخلق، ومن بعد إفناء الخلق، والمعنى: أن كلا من كونهم مغلوبين أولا، وغالبين آخرا، ليس إلا بأمره وقضائه، وعلمه ومشيئته، كما قال تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس

    ويومئذ أي: يوم إذ يغلب الروم على فارس، ويحل ما وعده الله تعالى من غلبتهم يفرح المؤمنون بنصر الله أي: تغليبه من له كتاب على من لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من كفار مكة. ويقال: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين: ينصر من يشاء أي: من عباده على عدوه: وهو العزيز أي: القاهر الغالب على أمره، لا يعجزه من شاء نصره: الرحيم أي: من نصره وتغليبه من يشاء: وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: بحكمته تعالى، في كونه وأفعاله المحكمة، الجارية على وفق العدل، لجهلهم وعدم تفكرهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7 - 8] يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ ص: 4767 ] أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون

    يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهو ما يوافق شهواتهم وأهواءهم: وهم عن الآخرة أي: التي هي المطلب الأعلى: هم غافلون أي: لا يخطرونها ببالهم، فهم جاهلون بها تاركون لعملها.

    لطائف:

    قال الزمخشري : قوله تعالى: يعلمون بدل من قوله: لا يعلمون وفي هذا الإبدال من النكتة، أنه أبدل منه وجعله بحيث يقوم مقامه، ويسد مسده، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا. وقوله: ظاهرا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة، يتزود منها إليها بالطاعة، والأعمال الصالحة. انتهى.

    وناقش الكرخي في إبدال: "يعلمون" قال: إن الصناعة لا تساعد عليه; لأن بدل فعل مثبت من فعل منفي يصح. واستظهر قول الحرفي; أن: "يعلمون" استئناف في المعنى. وأشار الناصر إلى جوابه بأن في تنكير: "ظاهرا" تقليلا لمعلومهم. وتقليله يقربه من النفي، فيطابق المبدل منه.

    أقول: التقليل هو الوحدة المشار لها بقول الزمخشري : وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا، من جملة الظواهر.

    أما قول أبي السعود: وتنكير: "ظاهرا" للتحقير والتخسيس دون الوحدة كما توهم. فغفلة عن مشاركتها للتعليل الذي به يطابق البدل المبدل منه. فافهم.

    ثم أنكر عليهم قصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا، مع الغفلة عن الآخرة بقوله: أولم يتفكروا في أنفسهم أي: يحدثوا التفكر في أنفسهم، الفارغة من الفكر [ ص: 4768 ] والتفكر. فالمجرور ظرف للتفكر، ذكره لزيادة التصوير; إذ الفكر لا يكون إلا في النفس، والتفكر لا متعلق له; لتنزيله منزلة اللازم. وجوز كون المجرور مفعول: "يتفكروا" لأنه يتعدى بـ في أي: أو لم يتفكروا في أمر أنفسهم. فالمعنى حثهم على النظر في ذواتهم وما اشتملت عليه من بديع الصنع، وقوله تعالى: ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق متعلق بقول أو علم، يدل عليه السياق; أي: ألم يتفكروا فيقولوا أو فيعلموا.

    وقال السمين: (ما) نافية، وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما -أنها مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها. والثاني- أنها معلقة للتفكر. فيكون في محل نصب على إسقاط الخافض. انتهى. والباء في قوله: "بالحق" للملابسة; أي: ما خلقها باطلا ولا عبثا بغير حكمة بالغة، ولا لتبقى خالدة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحق: وأجل مسمى أي: وبتقدير أجل مسمى، لا بد لها من أن تنتهي إليه، وهو قيام الساعة، ووقت الحساب، والثواب، والعقاب. ولذا عطف عليه قوله: وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9 - 12] أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون [ ص: 4769 ] ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون

    أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض أي قلبوها للزراعة، واستخراج المعادن، وغيرهما، مما كانوا أرقى فيه من أهل مكة: وعمروها أكثر مما عمروها أي: بالأبنية المشيدة، والصناعات الفريدة، ووفرة العدد والعدد، وتنظيم الجيوش، والتزين بزخارف أعجبوا بها، واستطالوا بأبهتها، ففسدت ملكاتهم، وطغت شهواتهم، حتى اقتضت حكمته تعالى إنذارهم بأنبيائهم، كما قال: وجاءتهم رسلهم بالبينات أي: الآيات الواضحات على حقيقة ما يدعونهم إليه: فما كان الله ليظلمهم أي: فكذبوهم فأهلكهم، فما كان الله ليهلكهم من غير جرم منهم: ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا أي: عملوا السيئات: السوأى أي: العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة، وهي جهنم، و: "السوأى" تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح، كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ثم علل سوء عاقبتهم بقوله تعالى: أن أي: لأن: كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدأ الخلق أي: ينشئهم: ثم يعيده أي: بعد الموت بالبعث: ثم إليه ترجعون أي: إلى موقف الحساب والجزاء: ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون أي: يسكتون متحيرين يائسين. يقال أبلس، إذا سكت وانقطعت حجته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13 - 18] ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ ص: 4770 ] فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون

    ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء أي: يجيرونهم من عذاب الله، كما كانوا يزعمون: وكانوا بشركائهم كافرين أي: بإلهيتهم وشركتهم لله تعالى، حيث وقفوا على كنه أمرهم: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون أي: يتميز المؤمنون والكافرون في المحال والأحوال: فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون أي: يسرون: وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون أي: لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون لما ذكر الوعد والوعيد، تأثره بما هو وسيلة للفوز والنجاة، من تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والثناء عليه بصفاته الجميلة، وأداء حق العبودية، و(الفاء) للتقريع فكأنه قيل: إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين، فقولوا: نسبح سبحان إلخ. والمعنى فسبحوه تسبيحا دائما. و(سبحان): خبر في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى وحمده; أي: الثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته، وتتجدد فيها نعمته.

    وقوله تعالى: وعشيا معطوف على: حين وتقديمه على: "حين تظهرون" لمراعاة الفواصل، وقوله: وله الحمد معترض بينهما. والمراد بثبوت حمده فيهما، استحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهلها. قال أبو السعود: والإخبار بثبوت الحمد له، ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض، في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده، وتوسيطه بين أوقات التسبيح، للاعتناء بشأنه، والإشعار بأن حقهما أن يجمع بينهما، كما ينبئ عنه قوله تعالى: ونحن نسبح بحمدك وقوله تعالى: فسبح بحمد ربك وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية جامعة للصلوات الخمس:

    تمسون صلاة المغرب والعشاء. و: تصبحون [ ص: 4771 ] صلاة الفجر. و: "عشيا" صلاة العصر. و: تظهرون صلاة الظهر. فإن قيل: لم غير الأسلوب في: "عشيا"؟ أجيب، (كما قال أبو السعود): بأن تغير الأسلوب لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي، كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك أنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس، وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا; لوصفهم بالخروج عما قبلها، والدخول فيها، كالأوقات المذكورة. فإن كلا منها وقت تتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا، أما في المساء والصباح فظاهر، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعتاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة، كما مر في سورة النور. انتهى.



  13. #493
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الرُّومِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4771 الى صـ 4781
    الحلقة (492)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19 - 21] يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

    يخرج الحي من الميت أي: كالإنسان من النطفة، والطائر من البيضة: ويخرج الميت من الحي كالنطفة والبيضة من الحيوان: ويحيي الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: وكذلك أي: ومثل ذلك الإخراج: تخرجون أي: من قبوركم.

    وقال المهايمي: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، ومن طريق الإشارة: ومن آياته أي: [ ص: 4772 ] الباهرة الدالة على قدرته على البعث: أن خلقكم من تراب أي: يعني: أصلكم آدم عليه السلام، أو النطفة والمادة، أو على تقدير مضاف; أي: ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم، وصفاتكم: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون أي: في الأرض انتشارا ملأ البسيطة وشمل الكرة، فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه.

    فسبحان من خلقهم وسيرهم، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة.

    ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أي: جنسكم: أزواجا لتسكنوا إليها أي: تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف: وجعل بينكم مودة ورحمة أي: توادا وتراحما بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22 - 25] ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ ص: 4773 ] ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون

    ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين أي: أولي العلم كما قال: وما يعقلها إلا العالمون ومن آياته منامكم بالليل والنهار أي: لاستراحة القوى، ورد ما فقدته: وابتغاؤكم من فضله أي: بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون أي: سماع تفهم واستبصار: ومن آياته يريكم البرق خوفا أي: من الصاعقة: وطمعا أي: في الغيث والرحمة، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه: وينـزل من السماء ماء فيحيي به الأرض أي: بالنبات: بعد موتها أي: يبسها: إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره أي: إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما; لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل; فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به، تعويلا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى: خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية، بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل: ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا، فقيل: ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، [ ص: 4774 ] مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما، ثم إذا دعاكم; أي: بعد انقضاء الأجل من الأرض، وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال: أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها، وذلك قوله تعالى: يومئذ يتبعون الداعي انتهى.

    لطائف:

    الأولى- الدعاء: إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل، شبه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه، أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.

    الثانية- قوله تعالى: من الأرض متعلق بـ: (دعا) كقوله: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، لا بـ: "تخرجون"; لأن ما بعد (إذا) لا يعمل فيما قبله.

    الثالثة- قال الكرخي: قال هنا: إذا أنتم تخرجون وقال في خلق الإنسان: ثم إذا أنتم بشر تنتشرون لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج، فلم يقل هنا: ثم. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26 - 27] وله من في السماوات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

    [ ص: 4775 ] وله من في السماوات والأرض أي: خلقا وملكا وتصرفا: كل له قانتون أي: منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه: وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده أي: بعد موتهم. قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: وهو أهون عليه أي: من البدء; أي: بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين; لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.

    لطائف:

    الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة بـ "أن يعيد".

    الثانية- قال الزمخشري : فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: وهو أهون عليه وقدمت في قوله: هو علي هين قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزه. فقيل: "هو علي هين"، وإن كان مستصعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما ههنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغير المعنى.

    قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.

    الثالثة- قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.

    قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بـ (ثم) إيذانا بتغاير مرتبتها وعلو شأنها. وقوله _(في الجواب)-: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص. فإن الإعادة ذكرت ههنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة، فيلزم [ ص: 4776 ] تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء، ويعود الإشكال، والمخلص، والله أعلم، جعل: "ثم" على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم. انتهى.

    وفي حواشي القاضي: إن: (ثم)، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني، والمراد عظمه في نفسه، وبالنسبة إلى المعطوف عليه، فلا ينافي قوله: وهو أهون عليه وكونه أعظم من قيام السماء والأرض; لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثري لا كلي، كما صرح به الطيبي هنا. فلا امتناع فيما منعه، وهي فائدة نفيسة، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في (شرح الكشاف).

    وقوله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما، كالقدرة العامة والحكمة التامة، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا، فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة، فكل شيء بدءا وإعادة وإيجادا وإعداما، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند.

    وقال الزجاج : المراد بالمثل قوله: وهو أهون عليه فاللام فيه للعهد، فحمل المثل على ظاهره، وعلى ما ذكر أولا، وهو مجاز عن الوصف العجيب، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل وهو العزيز أي: الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته: الحكيم الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.
    [ ص: 4777 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [28 - 29] ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين

    ضرب لكم مثلا أي: يتبين به بطلان الشرك: من أنفسكم أي: منتزعا من أحوالها، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا: هل لكم من ما ملكت أيمانكم أي: من العبيد والإماء: من شركاء في ما رزقناكم أي: من الأموال وغيرها: فأنتم فيه سواء أي: متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية: تخافونهم أي: تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم، وهو خبر آخر لـ: "أنتم": كخيفتكم أنفسكم أي: كما يخاف بعضكم بعضا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر، والمعنى نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية; أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم، مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود: كذلك نفصل الآيات أي: مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات: لقوم يعقلون بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم أي: يقين وبرهان: فمن يهدي من أضل الله أي: سبب صرف اختياره إلى كسبه; أي: لا يقدر على هدايته أحد: وما لهم من ناصرين أي: ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابا.
    [ ص: 4778 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [30 - 32] فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون

    فأقم وجهك للدين أي: فقومه له، واجعله مستقيما متوجها له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين، ورعاية حقوقه، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه: حنيفا أي: مائلا عن كل ما سواه إليه. قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه: فطرت الله التي فطر الناس عليها أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة، لكن: لا تبديل لخلق الله أي: لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال: ذلك أي: الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة: الدين القيم أي: المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايمي: وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي: أنه مقتضى الفطرة، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب; لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار.

    وقوله تعالى: منيبين إليه أي: راجعين إليه بالتوبة والإنابة: ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو حال من فاعل (الزموا)، المقدر ناصبا لـ: "فطرة" أو من فاعل: "أقم" على المعنى; إذ لم يرد به واحد بعينه، أو لأن الخطاب له صلى الله عليه وسلم، ولأمته، أو على أنه على حذف المعطوف عليه; أي: أقم أنت وأمتك، والحال من الجميع: [ ص: 4779 ] واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم أي: جعلوه أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم: وكانوا شيعا أي: فرقا: كل حزب بما لديهم فرحون أي: كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقا.

    قال القاشاني: يعني المفارقين الدين الحقيقي، المتفرقين شيعا مختلفة، كل حزب عند تكدر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.

    ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، مما يحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33 - 36] وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون أم أنـزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون

    وإذا مس الناس ضر أي: شدة: دعوا ربهم منيبين إليه أي: راجعين إليه وحده دون شركائهم: ثم إذا أذاقهم منه رحمة أي: خلاصا من تلك الشدة: إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم أي: بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة، واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي، كقوله تعالى: فتمتعوا فسوف [ ص: 4780 ] تعلمون أي: عاقبة تمتعكم ووباله.

    أم أنـزلنا عليهم سلطانا أي: حجة واضحة قاهرة: فهو يتكلم أي: تكلم دلالة، كما في قوله تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق بما كانوا به يشركون أي: بإشراكهم، وهذا استفهام إنكار، أي: لم يكن شيء من ذلك: وإذا أذقنا الناس رحمة أي: نعمة من صحة وسعة: فرحوا بها أي: بطرا وفخرا، لا حمدا وشكرا: وإن تصبهم سيئة أي: شدة: بما قدمت أيديهم أي: من المعاصي والآثام: إذا هم يقنطون أي: ييأسون من روح الله قال: هذا إنكار على الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر، وقال: ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور أي: يفرح في نفسه، يفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط، وأيس أن يحصل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في (الصحيح): « عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له » .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

    أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قال الزمخشري : أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض، فما لهم [ ص: 4781 ] يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟

    ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38 - 39] فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون

    فآت ذا القربى حقه أي: من البر والصلة، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب; لأن (آت): أمر للوجوب. والظاهر من: (الحق)، بقرينة ما قبله أنه ما لي، وهو استدلال متين: والمسكين وهو الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته: وابن السبيل أي: السائل فيه، والذي انقطع به، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة: ذلك خير للذين يريدون وجه الله أي: النظر إليه يوم القيامة، وهو الغاية القصوى، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد، كما قال تعالى: الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وأولئك هم المفلحون أي: في الدنيا والآخرة.




  14. #494
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ لُقْمَانَ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4782 الى صـ 4792
    الحلقة (493)





    وما آتيتم من ربا أي: مال ترابون فيه: ليربو في أموال الناس أي: ليزيد في أموالهم; إذ تأخذون فيه أكثر منه: فلا يربو عند الله أي: لا يزكو ولا ينمو [ ص: 4782 ] ولا يبارك فيه، بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال، وذكر في تفسيرها معنى آخر، وهو أن يهب الرجل للرجل، أو يهدي له ليعوضه أكثر مما وهب أو أهدى. فليست تلك الزيادة بحرام، وتسميتها ربا مجاز; لأنها سبب الزيادة.

    قال ابن كثير : وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك ، واستدل بقوله تعالى: ولا تمنن تستكثر أي: لا تعط العطاء، تريد أكثر منه. وقال ابن عباس : الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل، يريد فضلها وإضعافها. انتهى.

    وأقول: في ذلك كله نظر من وجوه:

    الأول- أن هذه الآية شبيهة بآية: يمحق الله الربا ويربي الصدقات وهي في ربا البيع الذي كان فاشيا في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري. فنعى عليهم حالهم، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه، ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية; مبالغة في الزجر.

    الثاني- أن الربا، على ما ذكر، مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع، أو العقل، ولا واحد منهما هنا; إذ لا موجب له.

    الثالث- دعوى أن الهبة المذكورة مباحة، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية بعيدة غاية البعد; لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات، ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية، كما تقرر في موضعه.

    الرابع- زعم أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب، وليس قاطعا; لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق، لا يقال الأصل وجوب [ ص: 4783 ] حمل اللفظ على حقيقته، وحمله على المجاز لا يكون إلا بدليل، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل- لأنا نقول: الأصل في التشريعات العموم، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص، وليس منه شيء هنا. وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعا، كآية: يا أيها النبي اتق الله وأمثالها.

    الخامس- أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفاء، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم، ما يبين أنه شامل لسائرهم، لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم. بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه، والمراد غيره، كما قالوه في كثير من الآي- لم يبعد; لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق، في سيرته الزكية، وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول، وعليه المعول. والله أعلم: وما آتيتم من زكاة أي: مال تتزكون به من رجس الشح، ودنس البخل: تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون أي: ذوو الأضعاف من الثواب، جمع (مضعف)، اسم فاعل (من أضعف)، إذا صار ذا ضعف -(بكسر فسكون)- بأن يضاف له ثواب ما أعطاه، (كأقوى وأيسر)، إذا صار ذا قوة ويسار. فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا، على أنه (من أضعف) والهمزة للتعدية، ومفعوله محذوف، وهو ما ذكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [40] الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون

    الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون قال القاضي: أثبت له [ ص: 4784 ] تعالى لوازم الألوهية، ونفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها، مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان، ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41 - 43] ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون

    ظهر الفساد في البر والبحر أي: كثرة المضار والمعاصي على وجه الأرض، وعلى ظهر السفن في لجج البحر: بما كسبت أيدي الناس أي: من الآثام والموبقات، ففشا الفساد، وانتشرت عدواه وتوارثه جيل عن جيل أينما حلوا وحيثما ساروا: ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون اللام للعاقبة، أي: ظهور الشرور بسببهم، مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم، إرادة الرجوع. وقيل اللام للعلة، على معنى أن ظهور الجدب والقحط والغرق بسبب شؤم معاصيهم، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا، وقبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة، لعلهم يرجعون عما هم عليه، كقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم

    قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان [ ص: 4785 ] أكثرهم مشركين أي: فأذاقهم سبحانه سوء العاقبة، لشركهم المستتبع لكل إثم وعصيان: فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له أي: لا يقدر أحد على رده، وقوله: من الله متعلق بـ: "يأتي" أو بـ: "مرد"; لأنه مصدر على معنى لا يرده تعالى، لتعلق إرادته بمجيئه، وفيه انتقاء رد غيره بطريق برهاني. وقيل عليه، لو كان كذلك لزم تنوينه لمشابهته للمضاف. وأجيب بأن الشبيه بالمضاف قد يحمل في ترك تنوينه، كما في الحديث « لا مانع لما أعطيت » : يومئذ يصدعون أي: يتفرقون كالفراش المبثوث، أو فريق في الجنة، وفريق في السعير، كقوله: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44 - 45] من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين .

    من كفر فعليه كفره أي: وبال كفره. قال الزمخشري : كلمة جامعة، لما لا غاية وراءه من المضار; لأن من كان ضاره كفره، فقد أحاطت به كل مضرة: ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون أي: يسوون منزلا في الجنة، أي: يوطئونه توطئة الفراش لمن يريد الراحة عليه: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46 - 47] ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين

    [ ص: 4786 ] ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات أي: بالمطر: وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره أي: في البحر عند هبوبها: ولتبتغوا من فضله أي: بتجارة البحر: ولعلكم تشكرون أي: ولتشكروا نعمة الله فيما ذكر.

    ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين هذه تسلية له صلى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له، والوعيد لمن عصاه.

    قال الزمخشري : في قوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين تعظيم للمؤمنين، ورفع من شأنهم، وتأهيل لكرامة سنية، وإظهار لفضل سابقة ومزية، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48 - 50] الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .

    الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء إما سائرا وواقفا، مطبقا وغير مطبق، من جانب دون جانب، إلى غير ذلك: ويجعله كسفا أي: قطعا تارة أخرى: فترى الودق أي: المطر: يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينـزل عليهم أي: المطر: [ ص: 4787 ] من قبله لمبلسين أي: لآيسين. قال الزمخشري : من قبله، من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ومعنى التوكيد فيه، الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

    وعكسه ابن عطية رحمه الله فقال: إنه يدل على سرعة تقلب القلوب البشرية، من الإبلاس إلى الاستبشار.

    قال الشهاب: وما ذكره ابن عطية أقرب; لأن المتبادر من القبلية الاتصال، وتأكيده دال على شدة اتصاله: فانظر إلى آثار رحمت الله أي: أثر الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار: كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك أي: العظيم الشأن الذي ذكر بعض شؤونه: لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51 - 53] ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون

    ولئن أرسلنا ريحا على الزرع: فرأوه مصفرا أي: من تأثيرها فيه: لظلوا من بعده يكفرون أي: من بعد اصفراره يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، أو يقنطون ولا يصبرون على بلائه، وفيه من ذمهم، وعدم تدبرهم، وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم، وسوء رأيهم- ما لا يخفى.

    [ ص: 4788 ] ثم أشار تعالى إلى أن من أنكر قدرته على إحياء الزرع بعد اصفراره، وقد رأى قدرته على إحياء الأرض بعد موتها، فهو ميت لا يمكن إسماعه خبر إحياء الموتى، بقوله سبحانه: فإنك لا تسمع الموتى أي: لما أن هؤلاء مثلهم، لانسداد مشاعرهم عن الحق: ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين قال أبو السعود: تقييد الحكم بما ذكر، لبيان كمال سوء حال الكفرة، والتنبيه على أنهم جامعون لخصلتي السوء، نبو أسماعهم عن الحق، وإعراضهم عن الإصغاء إليه، ولو كان فيهم إحداهما، لكفاهم ذلك، فكيف وقد جمعوهما؟ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع أي: ما تسمع: إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون أي: منقادون لما تأمرهم به من الحق.

    تنبيه:

    قال ابن كثير : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية: فإنك لا تسمع الموتى على توهيم عبد الله بن عمر في رواية مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر، بعد ثلاثة أيام، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم، حتى قال له عمر : يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال: « والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول، منهم، ولكن لا يجيبون» . وتأولته عائشة على أنه قال: إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.

    وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته، تقريعا وتوبيخا ونقمة.

    ثم قال ابن كثير : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا: « ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم، كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام » . انتهى.

    وقال ابن الهمام: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بهذه الآية ونحوها، [ ص: 4789 ] ولذا لم يقولوا: بتلقين القبر، وقالوا: لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه ميتا لا يحنث. وأورد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم في أهل القليب « ما أنتم بأسمع منهم » وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرته، وأخرى بأنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم معجزة له، أو أنه تمثيل، كما روي عن علي كرم الله وجهه ، وأورد عليه ما في مسلم من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر، مقدمة للسؤال، جمعا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54 - 55] الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون .

    الله الذي خلقكم من ضعف قرئ بفتح الضاد وضمها; أي: من أصل ضعيف هو النطفة: ثم جعل من بعد ضعف يعني حال الطفولة والنشء: قوة يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشد: ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة أي: بالشيخوخة والهرم: يخلق ما يشاء أي: من الأشياء، ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الإنسان: وهو العليم القدير أي: الواسع العلم والقدرة، كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته، المستتبع انفراده بالألوهية: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة أي: في الدنيا أو القبور، وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له، أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون: كذلك كانوا يؤفكون أي: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في (الكشاف).

    [ ص: 4790 ] وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا، فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.

    وقال الشهاب: المراد من قوله: كذلك كانوا يؤفكون تشابه حاليهم في الكذب، وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم; لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل، والغرض من سوق الآية، وصف المجرمين بالتمادي في الباطل، والكذب الذي ألفوه. انتهى.

    وقيل: كان قسمهم استقلالا لأجل الدنيا، لما عاينوا الآخرة، تأسفا على ما أضاعوا في الدنيا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [56 - 57] وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون .

    وقال الذين أوتوا العلم والإيمان ردا لما حلفوا عليه، وإطلاعا لهم على الحقيقة: لقد لبثتم في كتاب الله أي: فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته: إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون أي أنه حق، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه: فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا أي: بالشرك، أو إنكار الربوبية، أو الرسالة، أو شيء لا يجب الإيمان به: معذرتهم أي: بأنهم كفروا عن جهل; لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته، أو عن عناد: ولا هم يستعتبون أي: ولا يطلب منهم الإعتاب; أي: إزالة [ ص: 4791 ] العتب بالتوبة والطاعة; لأنهما -وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي- فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا، لا غير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58 - 60] ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون

    ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل أي: من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس، أو من كل دليل على الأمور الأخروية، والحق يجري مجرى المثل في الظهور: ولئن جئتهم بآية أي: مما اقترحوه أو غيرها: ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون أي: لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل: كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون أي: لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق، بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها; فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود.

    فاصبر أي: على ما تشاهد منهم، من الأقوال الباطلة، والأفعال السيئة: إن وعد الله حق أي: في قوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ولا يستخفنك أي: لا يحملنك على الخفة والقلق: الذين لا يوقنون أي: بما تتلو عليهم من الآيات البينة، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها; فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم، وجعله العاقبة لك، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    31- سُورَةُ لُقْمَانَ


    سميت به لاشتمالها على قصته التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك والأمر بالأخلاق والأفعال الحميدة. والنهي عن الذميمة.

    وهي معظمات مقاصد القرآن. قاله المهايمي. وهي مكية. ويقال: إلا قوله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة الآيتين. وآياتها أربع وثلاثون آية. وسيأتي الكلام على لقمان والخلاف فيه.



  15. #495
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ لُقْمَانَ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4793 الى صـ 4803
    الحلقة (494)





    [ ص: 4793 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 6] الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين

    الم تلك آيات الكتاب الحكيم أي: ذي الحكمة الناطق بها: هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون بيان لإحسانهم، يعني ما عملوه من الحسنات، أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه، لإظهار فضلها وإناقتها على غيرها. والمراد بالزكاة، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقربا بالتصديق منه، وتزكية للنفس بإيتائه، من وصمة البخل والشح المردي لها، لا أنصباؤها المعروفة; فإنها إنما بينت بالمدينة.

    أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله تعريض بالمشركين، وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم، ليضلوا أتباعهم عن الدين الحق.

    قال الزمخشري : و(اللهو): كل باطل ألهى عن الخير، وعما يعني. ولهو الحديث نحو [ ص: 4794 ] السمر بالأساطير، والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام، وما لا ينبغي، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه، ويؤثرونه على حديث الحق. وقوله تعالى: بغير علم أي: بما هي الكمالات ومنافعها، والنقائص ومضارها: ويتخذها هزوا الضمير للسبيل، وهو مما يذكر ويؤنث: أولئك لهم عذاب مهين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7 - 10] وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنـزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم

    وإذا تتلى عليه آياتنا ولى أي: أعرض عنها: مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا أي: ثقلا مانعا من السماع: فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها الضمير للسماوات، وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله: بغير عمد كما تقول لصاحبك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. والجملة لا محل لها; لأنها مستأنفة، أو في محل الجر، صفة للعمد، أو بغير عمد مرئية; يعني أنه عمدها بعمد لا ترى، [ ص: 4795 ] وهي إمساكها بقدرته. كذا في (الكشاف): وألقى في الأرض رواسي أي: جبالا ثوابت: أن تميد بكم أي: تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان: وبث فيها من كل دابة أي: من كل نوع من أنواعها: وأنـزلنا أي: لحفظكم وحفظ دوابكم، وللرفق بكم وبدوابكم: من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج أي: صنف من الأغذية والأدوية: كريم أي: كثير المنافع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11 - 12] هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد

    هذا أي: ما ذكر من السماوات والأرض، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة: خلق الله أي: مخلوقه: فأروني ماذا خلق الذين من دونه أي: مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة: بل الظالمون في ضلال مبين إضراب عن تبكيتهم بما ذكر، إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة; لاستحالة أن يفهموا منها شيئا، فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه، أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه. ووضع الظاهر موضع ضميرهم; للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه، ومتعدون عن الحدود، وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. أفاده أبو السعود.

    ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة. كيف لا؟ والتوحيد أساس الحكمة، بقوله سبحانه: ولقد آتينا لقمان الحكمة يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية، آمرين له على لسان نبي أو بطريق [ ص: 4796 ] الإلهام; (على قول الجمهور أنه حكيم). أو الوحي; (على قول عكرمة أنه نبي) أن اشكر لله أي: على ما أعطاك من نعمه، من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. كذا قاله المهايمي، والأظهر أن: "أن" مفسرة; فإن إتيان الحكمة في معنى القول. والشكر: كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة; لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله: ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه لعود ثمرات شكره عليه: ومن كفر فإن الله غني حميد أي: غني عن كل شيء، فلا يحتاج إلى الشكر، وحقيق بالحمد. بل نطق بحمده كل موجود.

    تنبيه:

    قال ابن كثير : اختلف السلف في لقمان; هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة، على قولين؟ الأكثرون على الثاني، ويقال إنه كان قاضيا على بني إسرائيل، في زمن داود عليه السلام، وما روي من كونه عبدا مسه الرق، ينافي كونه نبيا; لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة ، إن صح السند إليه; فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة . قال: كان لقمان نبيا. وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي ، وهو ضعيف. والله أعلم. انتهى.

    وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة، وكان حكيم شعب وثني، وكان منبأ عن الله تعالى، وأغرب في تقريبه، بأن الفعل العربي وهو: (لقم)، معناه بالعبري بلع. والله أعلم.

    وقد نظم السيوطي من اختلف في نبوته، فقال:


    واختلفت في خضر أهل النقول قيل نبي أو ولي أو رسول لقمان، ذي القرنين، حوا، مريم
    والوقف في الجميع رأي المعظم


    [ ص: 4797 ] ثم قرن لقمان، بوصيته إياه بعبادة الله وحده، البر بالوالدين، كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم. وقال ههنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13 - 14] وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير

    وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه أي: بالإحسان إليهما، لا سيما الوالدة; لأنه: حملته أمه وهنا على وهن أي: ضعفا فوق ضعف إلى الولادة. و: وهنا حال من: أمه أي: ذات وهن، أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال; أي: تهن وهنا. وقوله تعالى: على وهن صفة للمصدر; أي: كائنا على وهن، أي: تضعف ضعفا فوق ضعف; فإنها لا تزال يتزايد ضعفها; لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا: وفصاله أي: فطامه: في عامين ثم فسر الوصية بقوله سبحانه: أن اشكر لي ولوالديك أي: بأن تعرف نعمة الإحسان، وتقدره قدره.

    قال في (البصائر): الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فإن عدم منها واحدة، اختلت قاعدة من قواعد الشكر، وكل من تكلم في الشكر، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور. انتهى.

    [ ص: 4798 ] وقوله تعالى: إلي المصير تعليل لوجوب الامتثال; أي: إلي الرجوع، لا إلى غيري، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر.

    تنبيهات:

    الأول- قال الزمخشري : فإن قلت: قوله تعالى: حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت: لما وصى بالوالدين، ذكر ما تكابده الأم، وتعانيه من المشاق، والمتاعب في حمله، وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا، وتذكيرا بحقها العظيم مفردا. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له من أبر؟ « أمك ثم أمك ثم أمك » . ثم قال بعد ذلك: « ثم أباك » . وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه بنفسه.


    أحمل أمي وهي الحماله ترضعني الدرة والعلاله ولا يجازى والد فعاله


    الثاني - قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى: وفصاله في عامين كقوله: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر; لأنه قال في الآية الأخرى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة، وتعبها، ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا، ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى: وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا

    [ ص: 4799 ] الثالث- قال الزمخشري : فإن قلت: ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت: المعنى في توقيته بهذه المدة، أنها الغاية التي لا تتجاوز، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم، إن علمت أنه يقوى على الفطام، فلها أن تفطمه، ويدل عليه قوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون

    وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما أي: في إشراك ما لا تعلمه مستحقا للعبادة، تقليدا لهما. وقال الزمخشري : أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام. كقوله: ما يدعون من دونه من شيء

    قال في (الكشف): ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده، كما مر في القصص. وإلا لقال ما ليس بموجود. بل أراد أنه بولغ في نفيه حتى جعل كلا شيء، ثم بولغ في سلك المجهول المطلق.

    قال الشهاب: وهذا تقرير حسن، فيه مبالغة عظيمة: وصاحبهما في الدنيا معروفا أي: صحابا معروفا يرتضيه الشرع، ويقتضيه الكرم.

    قال السيوطي في (الإكليل): في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر، ومع ذلك يصحب معروفا: واتبع سبيل من أناب إلي أي: بالتوحيد والإخلاص في الطاعات، وعمل [ ص: 4800 ] الصالحات: ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون كناية عن الجزاء، كما تقدم نظائره.

    قال القاضي: والآيتان، يعني: ووصينا الإنسان إلى قوله -: تعملون معترضتان في تضاعيف وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك. كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك; فإنهما -مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة- لا يجوز أن يطاعا في الإشراك. فما ظنك بغيرهما؟ انتهى.

    ثم يبين تعالى بقية وصايا لقمان، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16 - 17] يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور

    يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل أي: إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان، إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل: فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض أي: فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر، في أخفى مكان وأحرزه، كجوف الصخرة، أو حيث كانت في العلم العلوي أو السفلي: يأت بها الله أي: يحضرها ويحاسب عليها: إن الله لطيف أي: ينفذ علمه وقدرته في كل شيء: خبير أي: يعلم كنه الأشياء، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس [ ص: 4801 ] شيئا الآية، وقوله: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

    لطيفة:

    قوله تعالى: فتكن في صخرة الآية، من البديع الذي يسمى التتميم; فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة، وهو من وادي قولها:


    كأنه علم في رأسه نار


    يا بني أقم الصلاة أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها، لتكميل نفسك بعبادة ربك: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر لتكميل غيرك: واصبر على ما أصابك أي: من المحن والبلايا، أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر; لأن الداعي إلى الحق معرض لإيصال الأذى إليه، وهو أظهر. ويطابقه آية: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر إن ذلك إشارة إلى الصبر، أو إلى كل ما أمر به: من عزم الأمور أي: مما عزمه الله من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18 - 19] ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور [ ص: 4802 ] واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير

    ولا تصعر خدك للناس أي: لا تعرض بوجهك عنهم، إذا كلمتهم أو كلموك، احتقارا منك لهم، واستكبارا عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم، كما جاء في الحديث « ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط » : ولا تمش في الأرض مرحا أي: خيلاء متكبرا: إن الله لا يحب كل مختال أي: معجب في نفسه: فخور أي: على غيره: واقصد في مشيك أي: توسط بين الدبيب والإسراع: واغضض من صوتك أي: انقص من رفعه، وأقصر، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس، إنكارهم على صوت الحمير، كما قال: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير معللا للأمر على أبلغ وجه وآكده و(أنكر) بمعنى أوحش. من قولك: (شيء نكر); إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت، كما يقال في العرف للقبيح. (وحش)، وأصله ضد الأنس والألفة. فهو إما مجاز أو كناية.

    قال الزمخشري : الحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا، وتفاديهم من اسمه، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به; فيقولون: (الطويل الأذنين). كما يكنى عن الأشياء المستقذرة، وقد عد في مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت منه الرحلة. فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه، وإخراجه مخرج الاستعارة، وأن جعلوا حميرا، وصوتهم نهاقا - مبالغة [ ص: 4803 ] شديدة في الذم والتهجين، وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه، وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. انتهى.

    تنبيه:

    جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة: منها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه » . وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع، فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار » .

    ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

    وعن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام -(يعني السلام)- ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. نقله ابن كثير رحمه الله.







  16. #496
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ السَّجْدَةِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4804 الى صـ 4814
    الحلقة (495)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20_21] ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ ص: 4804 ] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير

    ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض أي: من النجوم والشمس والقمر، التي ينتفعون من ضيائها، وما تؤثره في الحيوان، والنبات، والجماد بقدرته تعالى، وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سخرت له، وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار، ليستعملها من سخرت له فيما فيه حياته، وراحته، وسعادته: وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة أي: محسوسة ومعقولة، كإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة الشبه والعلل: ومن الناس يعني الجاحدين نعمته تعالى: من يجادل في الله أي: في توحيده وإرساله الرسل: بغير علم أي: برهان قاطع مستفاد من عقل: ولا هدى أي: دليل مأثور عن نبي: ولا كتاب منير أي: منزل من لدنه تعالى، بل لمجرد التقليد. والمنير: بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال.

    وإذا قيل لهم أي: لمن يجادل، والجمع باعتبار المعنى: اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير أي: يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال، هي أسباب العذاب، كأنه يدعوهم إلى عين العذاب. فهم متوجهون إليه حسب دعوته، ومن كان كذلك فأنى يتبع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22 - 29] ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور [ ص: 4805 ] نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير

    ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن أي: في أعماله: فقد استمسك بالعروة الوثقى أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب، وهو تمثيل لحال المؤمن المخلص المحسن، بحال من أراد رقي شاهق، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه: وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا أي: من الأعمال الظاهرة والباطنة: إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله أي: على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا: بل أكثرهم لا يعلمون أي: شيئا ما; فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافهم.

    لله ما في السماوات والأرض أي: فلا يستحق العبادة فيهما غيره: إن الله هو الغني أي: عن العالمين، وهم فقراء إليه جميعا: الحميد أي: المحمود فيما خلق وشرع، بلسان الحال والمقال: ولو أنما [ ص: 4806 ] في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده أي: من بعد نفاده: سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله أي: التي أوجد بها الكائنات، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه، والسبعة إنما ذكرت على سبيل المبالغة لا الحصر: إن الله عزيز حكيم ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي: إلا كخلقها وبعثها في سهولته: إن الله سميع بصير ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى أي: أمد قدره الله تعالى لجريهما، وهو يوم القيامة: وأن الله بما تعملون خبير أي: لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عز وجل محيطا بما يأتي ويذر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30 - 32] ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور

    ذلك إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع، واختصاص البارئ بها: بأن الله هو الحق أي: بسبب أنه الحق، وجوده وإلهيته: وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله أي: بإحسانه في تهيئة أسبابه: ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل [ ص: 4807 ] صبار أي: عظيم الصبر على البأساء والضراء: شكور أي: كثير الشكر للنعم، بالقيام بحقها: وإذا غشيهم أي: علاهم وأحاط بهم: موج كالظلل أي: كالسحب والحجب: دعوا الله مخلصين له الدين أي: التجأوا إليه تعالى وحده، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد، بما دهاهم من الضر: فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد قال ابن كثير : قال مجاهد : أي: كافر، كأنه فسر (المقتصد) ههنا بالجاحد كما قال تعالى: فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل، وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر، ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات، فمن اقتصد بعد ذلك، كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم. انتهى.

    وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار أي: غدار، ناقض للعهد الفطري، ولعقد العزيمة وقت الهول البحري: كفور أي: مبالغ في كفران نعمه تعالى، لا يقضي حقوقها، ولا يستعملها في محابه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور

    يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا أي: ليس بمغن أحدهما عن الآخر شيئا، لانقطاع الوصل في [ ص: 4808 ] ذلك اليوم الرهيب. قال أبو السعود: وتغيير النظم -في الثانية- للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة: إن وعد الله حق أي بالثواب والعقاب، لا يمكن إخلافه: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور أي: الشيطان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] إن الله عنده علم الساعة وينـزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير

    إن الله عنده علم الساعة أي: علم وقت قيامها: وينـزل الغيث أي: في وقته الذي قدره، وإلى محله الذي عينه في علمه: ويعلم ما في الأرحام أي: من ذكر أو أنثى، سعيد أو شقي: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا أي: من خير أو شر: وما تدري نفس بأي أرض تموت أي: في بلدها أو غيره; لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك، وقد جاء الخبر بتسمية هذه الخمس: مفاتح الغيب: إن الله عليم خبير أي: بما كان ويكون، وبظواهر الأشياء وبواطنها، لا إله إلا هو.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    32- سُورَةُ السَّجْدَةِ


    سميت بها، لأن آية السجدة منها، تدل على أن آيات القرآن من العظمة بحيث تخر وجوه الكل، لسماع مواعظها، وتنزه منزلها عن أن يعارض في كلامه. وبشكره على كمال هدايته. وهذا أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي. وهي مكية، وآيها ثلاثون.

    روى البخاري في (كتاب الجمعة) عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر، يوم الجمعة الم تنـزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان.

    ورواه مسلم أيضا.

    وروى الإمام أحمد عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنـزيل السجدة، وتبارك الذي بيده الملك.

    قال ابن كثير : تفرد به أحمد رحمه الله تعالى.

    [ ص: 4810 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1 - 3] الم تنـزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون

    الم تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور: تنـزيل الكتاب لا ريب فيه أي: في كونه منزلا: من رب العالمين أم يقولون افتراه أي: اختلقه من تلقاء نفسه: بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون أي: يتبعون الحق.

    وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول قبله صلى الله عليه وسلم، فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهم صلى الله عليه وسلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4 - 5] الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون

    الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على [ ص: 4811 ] العرش تقدم الكلام في ذلك: ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أي: ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق: أفلا تتذكرون أي: تتعظون بالقرآن فتؤمنوا: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض أي: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، من الملائكة وغيرها، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض: ثم يعرج إليه أي: يصعد إليه، أي: مع الملك للعرض عليه: في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون أي: مقدار صعوده على غير الملك، ألف سنة من سني الدنيا.

    قال ابن كثير : أي: يتنزل من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرضين، كما قال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن الآية. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6 - 9] ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون

    ذلك أي: المدبر: عالم الغيب أي: ما غاب عن العباد، وما يكون: والشهادة أي: ما علمه العباد، وما كان: العزيز أي: الغالب على أمره: الرحيم أي: بالعباد في تدبره: الذي أحسن كل شيء خلقه أي: أحكم خلق كل شيء; لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة: وبدأ خلق الإنسان يعني آدم: من طين ثم جعل [ ص: 4812 ] نسله أي: ذريته: من سلالة أي: من نطفة: من ماء مهين أي: ضعيف ممتهن، والسلالة الخلاصة، وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية: ثم سواه أي: قومه في بطن أمه: ونفخ فيه من روحه أي: جعل الروح فيه، وأضافه إلى نفسه تشريفا له: وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أي: خلق لكم هذه المشاعر، لتدركوا بها الحق والهدى: قليلا ما تشكرون أي: بأن تصرفوها إلى ما خلقت له.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10 - 12] وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون

    وقالوا أي: كفار مكة: أإذا ضللنا في الأرض أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه، أو غبنا فيها: أإنا لفي خلق جديد أي: نجدد بعد الموت: بل هم بلقاء ربهم أي: بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب: كافرون أي: جاحدون.

    قال أبو السعود: إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا: قل أي: بيانا للحق، وردا على زعمهم الباطل: يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم أي: يقبض أرواحكم: ثم إلى ربكم ترجعون أي: بالبعث للحساب والجزاء.

    فائدة:

    قال ابن أبي الحديد في (شــــرح نهج البـــلاغة) في هذه الآية: مذهب جمهور أصحابنا [ ص: 4813 ] أن الروح جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية، ينفذ في العروق، حالة فيها، وكذلك للقلب، وكذلك للكبد.

    وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه، لولا ذلك لتعذر عليه، وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب; لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين، في وقت واحد.

    قال أصحابنا: ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل.

    قالوا: وكيفية القبض، ولوج الملك من الفم إلى القلب; لأنه جسم لطيف هوائي، لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة، فيخالط الروح، التي هي كالشبيهة بها; لأنها بخاري، ثم يخرج من حيث دخل، وهي معه.

    وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه، وهو حضور الأجل.

    فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء، فالتزموا ذلك، وقالوا: ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء، فإن فيه مسام ومنافذ، وفي كل جسم، على قاعدتهم في إثبات المسام في الأجسام.

    قالوا: ولو فرضنا أنه لا مسام فيه، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا، كما يلجه الحجر والسمك، وغيرهما. وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره، وقوة الملك أشد من قوة الريح. انتهى.

    والأولى الوقوف، فيما لم تعلم كيفيته، عند متلوه وعدم مجاوزته، أدبا عن التهجم على الغيب وتورعا عن محاولة ما لا يبلغ كنهه، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه، وهم الخيرة والأسوة، والله أعلم.

    ولو ترى إذ المجرمون وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء: ناكسو رءوسهم عند ربهم أي: مطأطئوها من الحياء والخزي، لما قدمت أيديهم: ربنا أي: يقولون ربنا: أبصرنا [ ص: 4814 ] وسمعنا أي: علمنا ما لم نعلم، وأيقنا بما لم نكن به موقنين: فارجعنا أي: إلى الدنيا: نعمل صالحا إنا موقنون أي: مقرون بك، وبكتابك، ورسولك، والجزاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13 - 14] ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون

    ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها أي: تقواها: ولكن حق القول مني أي: في القضاء السابق: لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي: سبق القول حيث قلت لإبليس، عند قوله: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين أي: فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم، بل منعناه من أتباع إبليس، الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغي والفساد، ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها، فلما لم يختاروا الهدى، واختاروا الضلالة، لم يشأ إعطاءه لهم، وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرة، وهم المعنيون بما سيأتي من قوله تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الآية. فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم، لا تحقق القول. أفاده أبو السعود.

    فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا أي: تركتم الإقرار به، والإيمان بصدق موعوده، وعاملتموه معاملة المنسي المهجور: إنا نسيناكم أي: جازيناكم جزاء [ ص: 4815 ] نسيانكم، أو تركناكم في العذاب ترك المنسي: وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون أي: من الموبقات، والتكرير للتأكيد والتشديد، وتعيين الفعل المطوي للذوق.




  17. #497
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4815 الى صـ 4825
    الحلقة (496)





    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15 - 16] إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون .

    إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها أي: وعظوا: خروا سجدا لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم، وذلك تواضعا لله وخشوعا، وشكرا على ما رزقهم من الإسلام: وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون أي: عن الانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، قال تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين تتجافى جنوبهم عن المضاجع أي: ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم. والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم، وهم المتهجدون بالليل: يدعون ربهم أي: داعين له: خوفا من عذابه: وطمعا في رحمته: ومما رزقناهم أي: من المال: ينفقون أي: في وجوه البر والحسنات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17 - 20] فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ ص: 4816 ] أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نـزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون .

    فلا تعلم نفس ما أخفي لهم أي: ما ذخر، وأعد أي: لهؤلاء الذين عددت مناقبهم: من قرة أعين أي: مما تقر به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة: جزاء بما كانوا يعملون أي: في الدنيا من الأعمال الصالحة.

    أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا أي: كافرا جاحدا: لا يستوون أي: في الآخرة بالثواب والكرامة، كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة، ثم فصل مراتب الفريقين بقوله: أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نـزلا أي: ثوابا: بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وكقوله تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها كناية عن دوام عذابهم واستمراره: وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون أي: يقال لهم ذلك، تشديدا عليهم، وزيادة في غيظهم، وتقريعا وتوبيخا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21 - 22] ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون .

    [ ص: 4817 ] ولنذيقنهم أي: أهل مكة: من العذاب الأدنى أي: عذاب الدنيا، من الجدب، والقتل، والأسر: دون العذاب الأكبر يعني عذاب الآخرة: لعلهم يرجعون أي يتوبون عن الكفر أي: يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى، قبل الرين بكثافة الحجاب: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها أي: جحدها وكفر بها: إنا من المجرمين منتقمون أي: بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23 - 24] ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون

    ولقد آتينا موسى الكتاب أي: التوراة: فلا تكن في مرية من لقائه أي: لقاء الكتاب الذي هو القرآن، وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم، والمراد غيره على طريق الاستخدام، أو إرادة العهد، أو تقدير مضاف، أي: تلقي مثله، أي: فلا تكن في مرية من كونه وحيا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى: إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله.

    ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الشك، المقصود به نهي أمته، والتعريض بمن صدر منه مثله: وجعلناه هدى لبني إسرائيل أي: من الضلالة: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا أي: قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا: لما صبروا أي: على العمل به، والاعتصام بأوامره: وكانوا بآياتنا يوقنون أي: يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه، هدى لأمتك، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية.

    ويؤخذ من فحوى الآية، أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف، والنهي [ ص: 4818 ] عن المنكر، وفقدوا الاستيقان بحقية الإيمان، فغيروا وبدلوا، سلبوا ذلك المقام، وأديل عليهم انتقاما منهم; وتلك سنته تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ففي طي هذا الترغيب، ترهيب وأي ترهيب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25 - 27] إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون .

    إن ربك هو يفصل أي: يقضي: بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أي: فيميز الحق من الباطل، بتمييز المحق من المبطل: أولم يهد لهم أي: يتبين لكفار مكة: كم أهلكنا من قبلهم من القرون أي: الماضية بعذاب الاستئصال: يمشون في مساكنهم أي: منازلهم، كمنازل قوم شعيب، وهود، وصالح، ولوط عليهم السلام، فلا يرون فيها أحدا ممن كان يعمرها ويسكنها، ذهبوا كأن لم يغنوا فيها; كما قال: فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك أي: فبما فعلنا بهم: لآيات أي: عبرا، ومواعظ، ودلائل متناظرة: أفلا يسمعون أي: أخبار من تقدم، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل، وبغيهم الفساد في الأرض، فيحملهم ذلك على الإيمان.

    أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز وهي التي جزر نباتها، أي: قطع: فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم يعني العشب والثمار والبقول: أفلا يبصرون أي: فيستدلون به على كمال قدرته، ووجوب [ ص: 4819 ] انفراده بالإلهية. وهذا كآية: فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا الآية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28 - 29] ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون

    ويقولون أي: كفار مكة: متى هذا الفتح أي: الانتصار علينا، استعجال لوقوع البأس الرباني عليهم، الذي وعدوا به، واستبعاد له، إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون لحلول ما يغشي الأبصار، ويعمي البصائر، وظهور منار الإيمان، وزهوق الفريق الكافر.

    قال ابن كثير : أي: إذا حل بكم بأس الله، وسخطه، وغضبه في الدنيا والآخرة، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، ولا هم ينظرون، كما قال تعالى: فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة، فقد أبعد النجعة، وأخطأ فأفحش، فإن يوم الفتح، قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء، وقد كانوا قريبا من ألفين، ولو كان المراد فتح مكة، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل، كقوله: فافتح بيني وبينهم فتحا وكقوله: قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق الآية. وقال تعالى: واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد وقال تعالى: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح
    [ ص: 4820 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون

    فأعرض عنهم أي: عن المشركين، ولا تبال بهم، وبلغ ما أنزل إليك من ربك: وانتظر أي: النصرة عليهم، فإن الله سينجز لك ما وعدك، إنه لا يخلف الميعاد: إنهم منتظرون أي: ما في نفوسهم، كقوله تعالى: أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ويتربص بكم الدوائر أي: وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى، وأليم عذابه بهم.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    33- سُورَةُ الْأَحْزَابِ


    سميت بها، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايمي.

    وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).

    وقال ابن كثير : وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا.

    والله أعلم. انتهى.

    قلت: كان يصح هذا الاقتضاء، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح، فهو من الضعف بمكان.

    [ ص: 4822 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما .

    يا أيها النبي اتق الله نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه، تعظيما له. وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريما للمخاطب، ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم، والتعظيم باق كآية: محمد رسول الله لتعليم الناس بأنه رسول الله، وتلقينهم أن يسموه بذلك، ويدعوه به، وأمره عليه السلام بالتقوى تفخيما وتعظيما للتقوى نفسها، حيث أمر بها مثله; فإن مراتبها لا تنتهي، مع أن المقصود الدوام والثبات عليها، ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره; لأن سياق ما بعده لأمر يخصه، كقصة زيد رضي الله عنه: ولا تطع الكافرين والمنافقين أي: لا توافقهم على أمر، ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة، وجانبهم واحترس منهم; فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة: إن الله كان عليما حكيما أي: فهو أحق بأن تتبع أوامره ويطاع; لأنه العليم بعواقب الأمور، وبالمصالح من المفاسد، والحكيم الذي لا يفعل شيئا، ولا يأمر به، إلا بداعي الحكمة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [2 - 4] واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا [ ص: 4823 ] وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

    واتبع ما يوحى إليك من ربك أي: في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك: إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا أي: أسند أمرك إليه، وكله إلى تدبيره، فكفى به حافظا موكولا إليه كل أمر: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم قال الزمخشري : أي: ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل. والمعنى: إن الله سبحانه، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين; لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها- وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانا، موقنا شاكا، في حالة واحدة- لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجا له; لأن الأم مخدومة، مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان.

    وأن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل، وابنا له; لأن البنوة أصالة النسب، وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل، وهذا مثل ضربه الله في ( زيد بن حارثة )، وهو رجل من كلب سبي صغيرا، وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، وطلبه أبوه وعمه فخير، فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وكانوا يقولون: ( زيد بن محمد ). فأنزل الله [ ص: 4824 ] هذه الآية، وقوله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم

    والتنكير في: (رجل)، وإدخال (من)، الاستغراقية على (قلبين)، تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال: ما جعل الله لأمة الرجال، ولا لواحد منهم، قلبين البتة في جوفه.

    وفائدة ذكر (الجوف)، كالفائدة في قوله: القلوب التي في الصدور وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور والتجلي للمدلول عليه; لأنه إذا سمع به، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى: (ظاهر من امرأته)، قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية، فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.

    قال الأزهري : وخصوا (الظهر); لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت، فهو كناية تلويحية، انتقل من الظهر إلى المركوب، ومنه إلى المغشي. والمعنى: أنت محرمة علي لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في (الكشف).

    وقوله تعالى: ذلكم إشارة إلى كل ما ذكر; أي: من كونه ليس لأحد قلبان، وليست الأزواج أمهات، ولا الأدعياء أبناء، أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة: قولكم بأفواهكم أي: لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك، أن يكون ابنا حقيقيا; فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان: والله يقول الحق أي: الثابت المحقق في نفس الأمر: وهو يهدي السبيل أي: سبيل الحق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم [ ص: 4825 ] في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما .

    ادعوهم لآبائهم أي: انسبوهم إليهم، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة: هو أقسط عند الله أي: أعدل وأحكم. قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله وأخرجه مسلم وغيره.

    وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا ندعو سالما ابنا، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل علي، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: « أرضعيه تحرمي عليه.. » الحديث. ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عز وجل: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم احترازا عن زوجة الدعي، فإنه ليس من الصلب.




  18. #498
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4826 الى صـ 4836
    الحلقة (497)



    [ ص: 4826 ] فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا، بقوله صلى الله عليه وسلم في (الصحيحين): « حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب » .

    فأما دعوة الغير ابنا، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: « أبيني! ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس » .

    قال أبو عبيدة وغيره: (أبيني)، تصغير (ابني). وهذا ظاهر الدلالة; فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.

    وفي مسلم عن أنس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا بني » . رواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير .

    وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ نظر; لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما، وأما ما لا خطاب فيه سابقا، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمى نسخا اصطلاحا. فاحفظه; فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.

    [ ص: 4827 ] ولما أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه: فإن لم تعلموا آباءهم أي: فتنسبوهم إليهم: فإخوانكم أي: فهم إخوانكم: في الدين ومواليكم أي: أولياؤكم فيه; أي: فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي: وليس عليكم جناح أي إثم: فيما أخطأتم به أي: فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان، أو سبق اللسان; لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه: ولكن ما تعمدت قلوبكم أي: ففيه الجناح; لأن من تعمد الباطل كان آثما: وكان الله غفورا رحيما أي: لعفوه عن المخطئ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا

    النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أي: في كل شيء من أمور الدين والدنيا، فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب، ووقاءه إذا لقحت حرب، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم، ولا ما تصرفهم عنه، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه; لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة، والظفر بسعادة الدارين، وما صرفهم عنه، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشري .

    وهذا كما قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم [ ص: 4828 ] لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وفي (الصحيح): « والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وماله، وولده، والناس أجمعين » : وأزواجه أمهاتهم أي: في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهن، وفيما عدا ذلك كالأجنبيات; ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإن سمى بعض العلماء بناتهن، أخوات المؤمنين، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة، لا إثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية وأمثاله، خال المؤمنين؟ فيه قولان: وعن الشافعي أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين؟ فيه قولان: فصح عن عائشة المنع، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وروي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما، أنهما قرآ: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم). وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن ، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطيب بيمينه » . أفاده ابن كثير .

    وأولو الأرحام أي: ذوو القرابات: بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أي: فيما فرضه، أو فيما أوحاه إلى نبيه عليه السلام: من المؤمنين والمهاجرين بيان لأولي الأرحام، أو صلة لـ: "أولي": إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم أي: إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم: معروفا أي: من صدقة ومواساة وهدية ووصية; فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.

    [ ص: 4829 ] تنبيه:

    قال في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: وأولو الأرحام الآية، من ورث ذوي الأرحام. انتهى.

    وهو استدلال متين، وليس مع المخالف ما يقاومه، بل فهم كثيرون أن المعني بها، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة، التي كانت بينهم، ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجري كان يرث الأنصاري، دون قراباته وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.

    إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية، لا أنها خاصة بالمدعي فيها، كما أسلفنا بيانه مرارا: كان ذلك في الكتاب مسطورا أي: في القرآن، أو في قضائه وحكمه، وما كتبه وفرضه، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا

    وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة، والدعاء إلى الحق، والتعاون والتناصر والاتفاق، وإقامة الدين، وعدم التفرق فيه، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال أبو السعود: وتخصيصهم بالذكر، يعني قوله: ومنك إلخ مع اندراجهم [ ص: 4830 ] في النبيين، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم، وتقديم نبينا عليهم، عليهم الصلاة والسلام، لإبانة خطره الجليل. انتهى.

    وقال في (الانتصاف): وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك، ألا ترى إلى قوله:


    بهاليل منهم جعفر وابن أمه علي ومنهم أحمد المتخير


    فأخر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليختم به تشريفا له. وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم، فيظهر، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام، على نوح ومن بعده في الذكر، أنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لذلك.

    ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام، جرى ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.

    وقد صرح بأولي العزم هنا، وفي آية: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها وأخذنا منهم ميثاقا غليظا أي: عهدا عظيم الشأن، وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادين والمشاقين، ما تزول منه الجبال، لولا الاعتصام بالصبر عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8 - 9] ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا

    ليسأل الصادقين عن صدقهم أي: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء. ووضع [ ص: 4831 ] الصادقين موضع ضميرهم، لإيذان من أول الأمر، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه، وإنما السؤال لحكمة تقتضيه، أي: ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم، أو عن تصديقهم إياها تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم أو المصدقين لهم عن تصديقهم. أفاده أبو السعود وأعد للكافرين عذابا أليما أي: لمن كفر من أممهم عذابا موجعا. ونحن -كما قال ابن كثير - نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجلي، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة، والمعاندين، والمارقين، والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.

    يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم أي: ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق: إذ جاءتكم جنود وهم الأحزاب: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وهم الملائكة، أو ما أتى من الريح من طيور الجو وجراثيمه، المشوشة للقار المقلقلة للهادئ: وكان الله بما تعملون بصيرا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10 - 13] إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا [ ص: 4832 ] ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا

    إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم أي: من أعلى الوادي وأسفله، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه: وإذ زاغت الأبصار أي: مالت عن سننها ومستوى نظرها، حيرة وشخوصا: وبلغت القلوب الحناجر أي: منتهى الحلقوم; لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع، وبارتفاعها ترتفع القلوب، وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب وتظنون بالله الظنونا أي: أنواع الظنون المختلفة: هنالك ابتلي المؤمنون أي: اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل، والمؤمن من المنافق: وزلزلوا زلزالا شديدا أي: أزعجوا أشد الإزعاج من شدة الخوف والفزع، أو من كثرة الأعداء.

    فائدة:

    قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : "الظنونا" بإثبات ألف بعد النون، وبعد لام الرسول، في قوله: وأطعنا الرسولا ولام السبيل، في قوله: فأضلونا السبيلا وصلا ووقفا، موافقة للرسم; لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف، كذلك، وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها، وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف. فكذلك هذه الألف.

    وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالتين; لأنها لا أصل لها، وقولهم: (أجريت الفواصل مجرى القوافي). غير معتد به; لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا، والفواصل لا يلزم ذلك فيها، فلا تشبه بها، والباقون بإثباتها وقفا، وحذفها وصلا، إجراء للفواصل مجرى القوافي، في ثبوت ألف الإطلاق، ولأنها كهاء السكت، وهي تثبت وقفا، وتحذف وصلا. أفاده السمين.

    ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة، بقوله سبحانه: وإذ يقول [ ص: 4833 ] المنافقون والذين في قلوبهم مرض أي: شبهة، تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم، وفرصة لانطلاق ألسنتهم، بما تكن صدورهم; لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال، وحصر العدو لهم: ما وعدنا الله ورسوله أي: من النصر: إلا غرورا أي: باطلا: وإذ قالت طائفة منهم أي: المنافقين: يا أهل يثرب وهي أرض المدينة: لا مقام لكم بضم الميم وفتحها، قراءتان; أي: لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة، أو نواحيها لغلبة الأعداء: فارجعوا أي: إلى منازلكم من المدينة هاربين، أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.

    فائدة:

    (يثرب) من أسماء المدينة. كما في (الصحيح): « أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإذا هي يثرب » وفي لفظ: « المدينة » .

    قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى، إنما هي طابة هي طابة » . تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف. انتهى ويستأذن فريق منهم النبي أي: في الرجوع: يقولون إن بيوتنا عورة أي: غير حصينة يخشى عليها: وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14 - 16] ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا [ ص: 4834 ] ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا

    ولو دخلت أي: يثرب: عليهم من أقطارها أي: بأن دخل عليهم العدو من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب: ثم سئلوا الفتنة أي: الرجعة إلى الكفر: لآتوها أي: لفعلوها: وما تلبثوا بها إلا يسيرا أي: وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب; أي: فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم، ثم ذكرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أي: من قبل هذا الخوف: لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا أي: عن الوفاء به: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل أي: لأنه لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم، ولهذا قال: وإذا أي: فررتم: لا تمتعون إلا قليلا أي: في الدنيا بعد فراركم، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي، فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17 - 19] قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ ص: 4835 ] أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا

    قل من ذا الذي يعصمكم أي: يجيركم: من الله إن أراد بكم سوءا أي: هلاكا أو هزيمة: أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي: مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر: قد يعلم الله المعوقين منكم أي: المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المنافقون. قال الشهاب: و (قد): للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى والقائلين لإخوانهم أي: من ساكني المدينة: هلم إلينا أي: أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار: ولا يأتون البأس أي: القتال: إلا قليلا أي: إلا إتيانا قليلا; لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم: أشحة عليكم أي: بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضناء بكم ظاهرا، إن لم يحضر خوف: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم أي: في أحداقهم: كالذي يغشى عليه من الموت } أي: كنظره أو كدورانه: فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أي: بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما، فأحرقوكم وآذوكم، وأصل (السلق): بسط العضو ومده للقهر، كان يدا أو لسانا، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا: أشحة على الخير أي: على فعله: أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا
    [ ص: 4836 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [20 - 21] يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا

    يحسبون الأحزاب لم يذهبوا أي: لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم: وإن يأت الأحزاب أي: مرة أخرى: يودوا لو أنهم بادون في الأعراب أي: فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم: يسألون أي: القادمين: عن أنبائكم أي: عما جرى لكم، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: ولو كانوا فيكم أي: في حدوث واقعة ثانية: ما قاتلوا إلا قليلا أي: رياء وخوفا من التعيير.

    لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة; إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهد الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان: لمن كان يرجو الله واليوم الآخر أي: رضوان الله، ورحمته، وثواب اليوم الآخر، ونجاته; فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن; إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم، لغاية قبحه: وذكر الله كثيرا أي: وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة; أي: ذكر أمره [ ص: 4837 ] ونهيه ووعده ووعيده، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة، وعلم أن في الثبات على قتل العدو، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد، مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين.

    ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:






  19. #499
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4837 الى صـ 4847
    الحلقة (498)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22 - 23] ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

    ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله أي: لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه، في قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان: وصدق الله ورسوله أي: ظهر صدقهما فيما وعدانا به: وما زادهم أي: هذا الخطب والبلاء، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم: إلا إيمانا أي: بالله ورسوله، ومواعيدهما: وتسليما أي: لأمر الله ومقاديره.

    من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الصبر والثبات، والقيام بما كتب عليهم من القتال، لإعلاء كلمة الحق، ومن العمل بالصالحات، ومجانبة السيئات: فمنهم من قضى نحبه أي: أدى ما التزمه ووفى به، فقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، صادقا حتى قتل شهيدا.

    [ ص: 4838 ] قال الشهاب: أصل معنى (النحب) النذر، وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلى الله عليه وسلم حربا، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير: (قضاء النحب)، للموت; لأنه لكونه لا بد منه، مشبه بالنذر الذي يجب الوفاء به، فيجوز أن يكون هنا حقيقة، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.

    ومنهم من ينتظر أي: ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه: وما بدلوا تبديلا أي: ما غيروا شيئا من العهد، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به، والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24 - 25] ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا .

    ليجزي الله الصادقين أي: في عهودهم: بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ورد الله الذين كفروا بغيظهم أي: كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود، بفضله ورحمته: لم ينالوا خيرا أي: نصرا لا غنيمة: وكفى الله المؤمنين القتال أي: فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة. بل تولى كفاية ذلك وحده; ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده » : وكان الله [ ص: 4839 ] قويا أي: فلا يعارض قوته قوة شيء: عزيزا أي: غالبا على أمره.

    (ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق)

    قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة، في شوال على أصح القولين; إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع، ثم أخلفوه لأجل جدب السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي، وخالفهم موسى بن عقبة وقال: بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في (الصحيحين): أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال: وصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما- أن ابن عمر أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها.

    والثاني- أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.

    ثم قال ابن القيم رحمه الله: وكان سبب غزوة الخندق، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب.

    فخرجت [ ص: 4840 ] قريش، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مرة، وجاءت غطفان، وقائدهم عيينة بن الحصن، وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف.

    فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه وبادروا، وهجم الكفار عليهم، وكان في حفره آيات نبوته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حفر الخندق أمام سلع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.

    وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة. (وهذا غلط من خروجه يوم أحد).

    وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة، واستخلف عليها ابن أم مكتوم ، وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم. فأبى كعب بن أسد أن يفتح له، فلم يزل يكلمه حتى فتح له، فلما دخل عليه قال: لقد جئتكم بعز الدهر; جئتك بقريش، وغطفان، وأسد على قادتها لحرب محمد. قال: قال كعب : جئتني، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه، فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مع المشركين في محاربته، فسر بذلك المشركون. وشرط كعب على حيي أنه إن لم يظفروا بمحمد، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه. فأجابه إلى ذلك، ووفى له به. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بني قريظة، ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السعدين، وخوات بن جبير ، وعبد الله بن رواحة ليعرفوه: هل هم على عهدهم، أو قد نقضوه. فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنهم، ولحنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحنا يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا. فعظم ذلك على المسلمين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: « الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين » . [ ص: 4841 ] واشتد البلاء وتجهر النفاق، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا: بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا. وهم بنو سلمة بالفشل، ثم ثبت الله الطائفتين.

    وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا، ولم يكن بينهم قتال; لأجل ما حال الله به من الخندق، بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه، أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم. وكان شعار المسلمين يومئذ: (حـم لا ينصرون).

    ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف ، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. لقد كنا نحن هؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف. فصوب رأيهما وقال: « إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة » .

    ثم إن الله عز وجل، وله الحمد، صنع أمرا من عنده، خذل به بين العدو، وهزم جموعهم، وفل حدهم; فكان مما هيأ من ذلك، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر ، رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت; فإن الحرب خدعة » . فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة، وكان عشيرا لهم [ ص: 4842 ] في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة! إنكم قد حاربتم محمدا، وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين، وتركوكم ومحمدا، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش. قال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم، والله! نعيم. فبعثوا إلى يهود: إنا، والله! لا نرسل إليكم أحدا، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمدا. فقالت قريظة: صدقكم، والله! نعيم. فتخاذل الفريقان: وأرسل الله عز وجل على المشركين جندا من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها، ولا طنبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد الله عدوه بغيظه، لم ينالوا خيرا، وكفى الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

    ثم لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا، والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظهر، أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة -وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في [ ص: 4843 ] الناس: « من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة » . واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، رضوان الله عنه، برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: « لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى » . قال: نعم، يا رسول الله. قال: « لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا » . وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلى الله عليك وسلم، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.

    وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له.

    فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟ » قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فذاك إلى سعد بن معاذ » .

    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: « اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب » . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.

    وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: « قوموا إلى سيدكم » فقاموا إليه فأنزلوه.

    [ ص: 4844 ] قال ابن كثير : إعظاما وإكراما، واحتراما له، في محل وليته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما جلس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت » . وصارت تعرض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عمرو ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

    فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت. قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- (في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له)- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم » . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد : « لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة » . وفي رواية: « لقد حكمت بحكم الملك » - أي: لأن هذا جزاء الخائن الغادر- وكان سعد أصيب يوم الخندق; رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة، رماه في الأكحل. فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله. وقال سعد : اللهم! إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.

    ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم،
    وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26 - 28] وأنـزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا .

    وأنـزل الذين ظاهروهم أي: عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل الكتاب يعني بني قريظة، وهم طائفة من اليهود، كان نزل آباؤهم الحجاز لما فروا من الاضطهاد وتشتتوا كل شتات في أطراف البلاد: من صياصيهم أي: حصونهم وآطامهم التي كانوا فيها: وقذف في قلوبهم الرعب أي: الخوف، جزاء وفاقا.

    قال ابن كثير : لأنهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم -وليس من يعلم كمن لا يعلم- وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القتال، لما انشمر المشركون وراحوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا; ولهذا قال تعالى: فريقا تقتلون وتأسرون فريقا يعني قتل الرجال المقاتلة، وسبي الذراري والنساء.

    روى الإمام أحمد عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في. فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا: هل أنبت بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبت، فخلى عني، وألحقني بالسبي.

    [ ص: 4846 ] وكذا رواه أهل السنن كلهم: وقال الترمذي : حسن صحيح.

    وأورثكم أرضهم وديارهم حصونهم: وأموالهم أي: نقودهم وأثاثهم ومواشيهم: وأرضا لم تطئوها أي: أرضا لم تقبضوها بعد، يعني خيبر، وقيل مكة. رواه مالك عن زيد بن أسلم . وقيل: فارس والروم، وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مرادا. قال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم. وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يالله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح، فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم.

    وهذا ما حصل لليهود في الحجاز; فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر، ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتم عليهم ما تم، سنة الله في المفسدين، فإن الله لا يصلح أعمالهم: وكان الله على كل شيء قديرا أي: وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها.

    يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا أي: السعة والتنعم فيها: وزينتها أي: زخارفها: فتعالين أمتعكن وأسرحكن أي: أعطكن المتعة وأطلقكن. والمتعة: ما يعطى للمرأة المطلقة على حسب السعة والإقتار، من ثياب أو دراهم أو أثاث، تطوعا لا وجوبا. وقوله تعالى: سراحا جميلا أي: طلاقا من غير ضرار ولا بدعة. وقد روي أنهن سألن النبي صلى الله عليه وسلم ثياب الزينة وزيادة النفقة مما ليس عنده. فنزلت الآية. ولما نزلت، بدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، وكانت أحبهن إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختار جميعهن اختيارها، قيل: وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة رضي الله عنهن، ثم صفية بنت حيي النضرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن.




  20. #500
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    المجلد الثالث عشر
    صـ 4848 الى صـ 4858
    الحلقة (499)





    لطيفة:

    قال الرازي: وجه التعلق، وهو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: « الصلاة وما ملكت أيمانكم » . ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله، بقوله: يا أيها النبي اتق الله ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات، فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولذا قدمهن في النفقة. انتهى.


    [29 - 30] وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا .

    وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة أي: تردن رسوله. قال أبو السعود: وذكر الله عز وجل، للإيذان بجلالة محله عليه السلام، عنده تعالى: فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما أي: لا يقدر قدره. ولما خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم، واخترن الله ورسوله، أدبهن الله وهددهن، للتوقي عما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم، ويقبح بهن من الفاحشة، وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة أي: بين الشرع والعقل قبحها، إن قرئ بالفتح. أو مبينة قبحها بنفسها من غير تأمل، إن قرئ بالكسر: يضاعف لها العذاب ضعفين أي: ضعفي عذاب غيرهن. قال القاضي: لأن الذنب منهن أقبح، فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب والنعمة عليه، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم: وكان ذلك على الله يسيرا لعموم قدرته.


    [31 - 33] ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

    ومن يقنت أي: يدم مطيعا: منكن لله ورسوله أي: في إتيان الواجبات، وترك المحرمات والمكروهات: وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين أي: مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحسن الخلق، وطيب المعاشرة، والقناعة: وأعتدنا لها أي: زيادة على أجرها المضاعف في الجنة، أو فيها، وفي الدنيا: رزقا كريما أي: حسنا مرضيا: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول أي: عند مخاطبة الناس; أي: فلا تجبن بقولكن لينا خنثا، مثل كلام المريبات والمومسات: فيطمع الذي في قلبه مرض أي: ريبة وفجور: وقلن قولا معروفا أي: بعيدا من طمع المريب بجد وخشونة، من غير تخنيث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.

    وقرن في بيوتكن أي: اسكن ولا تخرجن منها. من (وقر يقر وقارا)، إذا سكن. أو من (قر يقر من باب ضرب)، حذفت الأولى من رائي (اقررن)، ونقلت كسرتها إلى القاف، فاستغنى عن همزة الوصل، ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح، من (قررت أقر)، من باب علم. وهي لغة قليلة: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى أي: تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى; إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم، والتبرج، فسر بالتبختر والتكسر في المشي، وبإظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل، وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها، وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط، وكل ذلك مما يشمله النهي; لما فيه من المفسدة والتعرض لكبيرة.

    فائدة:

    قيل: "الأولى" بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن. فيستدل بذلك لمن قال: إن الأول لا يستلزم ثانيا. قال في (الإكليل): وهو الأصح عند العلماء. فلو قال: أول ولد تلدينه فأنت طالق، لم يحتج إلى أن تلد ثانيا. انتهى.

    وقال الزمخشري : الأولى هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء، من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم، أو ما قبله، إلى زمن عيسى. والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما. ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام، ويعضده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر ، لما عير رجلا بأمه وكانت أعجمية: « إنك امرؤ فيك جاهلية » .

    والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام، تشبه جاهلية الكفر قبله: وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله أي: بموافقة أمرهما ونهيهما. ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا أي: ما أمركن ونهاكن، ووعظكن، إلا خيفة مقارفة المآثم، والحرص على التصون عنها بالتقوى. فالجملة تعليلية لأمرهن ونهيهن على سبيل الاستئناف.

    قال الزمخشري : استعار للذنوب (الرجس)، وللتقوى (الطهر); لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به. و: أهل البيت نصب على النداء، أو على المدح. والمراد بهم من حواهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وأما قول عكرمة ، إنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ومن شاء باهلته في ذلك، فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح. وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر; فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه، ثم قال: « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس » .

    وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه، إلا أن الشيخين لم يصححاه، ولذا لم يخرجاه، وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سبرة، عن زيد بن أرقم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما بعد، أيها الناس! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه. ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي -قالها ثلاثا- » . فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: آل علي، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس -رضي الله عنهم– فإنما مراد زيد، آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله. قال ابن كثير : وهذا احتمال أرجح، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة، إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظرا. انتهى.

    وقال أبو السعود: وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيرة، على كون نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضوان الله عليهم، وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء، وتلاوته صلى الله عليه وسلم الآية بعده، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك، ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتد بها، لكونها في مقابلة النص. انتهى.

    بقي أن الشيعة، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة علي رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره. قال ابن المطهر الحلي منهم: وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ: "إنما" وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: ويطهركم تطهيرا وغيرهم ليس بمعصوم إلخ. وأجاب ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) بقوله: ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم. وتحقيق ذلك في مقامين:

    أحدهما- أن قوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا كقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وكقوله: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وكقوله: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدره، ولا أنه يكون لا محالة، والدليل على ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: « اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء.

    وهذا على قول القدرية أظهر; فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فليس في كونه تعالى مريدا لذلك، ما يدل على وقوعه.

    وهذا الرافضي وأمثاله قدرية، فكيف يحتجون بقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت على وقوع المراد؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض. فلم يقع مراده. وأما على قول أهل الإثبات، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه. وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره. الأولى مثل هؤلاء الآيات. والثانية مثل قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وقول نوح: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم

    وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحدا، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئا واحدا، ثم القدرية ينفون إرادته لما بين أنه مراد في الآيات التشريع; فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد، فلا يلزم أن يكون كائنا، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم، وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب، وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر، وإذا كانت الآية دالة على وقوع أراده من التطهير وإذهاب الرجس، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه.

    ومما يبين ذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية، والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه. قال تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا إلى قوله: وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعهن الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد. لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعمم غيرهن من أهل البيت، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه. بل هو متناول لأهل البيت كلهم، وعلي، وفاطمة ، والحسن ، والحسين أخص من غيرهم بذلك، ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم، وهذا كما أن قوله: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم نزلت بسبب (مسجد قباء)، لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو (مسجد المدينة) وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: « هو مسجدي هذا » . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا وراكبا، فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة، ويأتي قباء يوم السبت، وكلاهما مؤسس على التقوى. وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه; ولهذا خصهم بالدعاء. وقد تنازع الناس في آل محمد من هم؟ فقيل: أمته. وهذا قول طائفة من أصحاب محمد، ومالك ، وغيرهم. وقيل: المتقون من أمته. ورووا حديثا « آل محمد كل مؤمن [ ص: 4854 ] تقي » رواه الخلال، وتمام في (الفوائد) له. وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، وهو حديث موضوع، وبنى على ذلك طائفة من الصوفية، أن آل محمد هم خواص الأولياء; كما ذكر الحكيم الترمذي .

    والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته، وهذا هو المنقول عن الشافعي وأحمد ، وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم. لكن هل أزواجه من أهل بيته؟ على قولين هما روايتان عن أحمد . أحدهما -أنهن لسن من أهل البيت. ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني- وهو الصحيح أن أزواجه من آله. فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه: « اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته » . ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته، وامرأة لوط من آله وأهل بيته; بدلالة القرآن. فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى، وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه; كما ثبت في (الصحيح) أنه قال: « إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين » . فبين أن أولياءه صالح المؤمنين، وكذلك في حديث آخر: « إن أوليائي المتقون، حيث كانوا وأين كانوا » . وقد قال تعالى: وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين وفي (الصحاح) عنه أنه قال: « وددت أني رأيت إخواني » . قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: [ ص: 4855 ] « بل أنتم أصحابي، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني » . وإذا كان كذلك، فأولياؤه المتقون، بينه وبينهم قرابة الدين، والإيمان، والتقوى، وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية. والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان. ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون. وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. فإن كان فاضل منهم، كعلي رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى، وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب.

    فأولياؤه أعظم درجة من آله، وإن صلى على آله تبعا، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم; فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه. وهم أفضل من أهل بيته، وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا، فالمفضول قد يختص بأمر، ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل. ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين. وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن.

    فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه، فإن دعاءه مستجاب. قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر.

    ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دل على طهارتهم، وعلى ذهاب رجسهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعو لهم، وإذهاب الرجس عنهم. لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ، والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ; فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث، كالفواحش ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب.

    والتطهير من الذنب على وجهين، كما في قوله: وثيابك فطهر وقوله: إنهم أناس يتطهرون فإنه قال فيها: من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين والتطهر من الذنوب إما بأن يفعله العبد، وإما بأن يتوب منه كما في قوله: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة، فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة، لا يتضمن الإذن فيها بحال. لكن هو سبحانه ينهى عنها، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها. وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « اللهم! باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب. واغسلني بالثلج والبرد والماء البارد. اللهم! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس » . وبالجملة، لفظ (الرجس)، أصله القذر. ويراد به الشرك. كقوله: فاجتنبوا الرجس من الأوثان ويراد به الخبائث المحرمة، كالمطعومات والمشروبات كقوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا وقوله: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وإذهاب ذلك إذهاب لكله، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث. ولفظ الرجس عام يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس. فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك. وأما قوله: "وطهرهم تطهيرا" فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة.

    وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة. ويقول مثل ذلك في قوله: فاعتبروا يا أولي الأبصار ونحو ذلك. والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق، كما إذا قيل: أكرم هذا، أي: افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما، وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا، والإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة، وترك ذلك في نظيرها. وكذلك لا يقال: هو طاهر، أو متطهر، أو مطهر، إذا كان متطهرا من شيء، متنجسا بنظيره. ولفظ الطاهر كلفظ الطيب; قال تعالى: والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات كما قال: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات وقد روي أنه قال لعمار: « ائذنوا له. مرحبا بالطيب المطيب » . وهذا أيضا كلفظ المتقي والمزكي; قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وقال: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال: قد أفلح من تزكى وقال: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب، فإن هذا -لو كان كذلك- لم يكن في الأمة متق، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين. كما قال: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيرا، كدعائه بأن يزكيهم ويطيبهم ويجعلهم متقين، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقر أمره على ذلك، فهو داخل في هذا، لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه، وقد قال: « اللهم! طهرني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد » . فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا، فقد طهره الله منه تطهيرا، ولكن من مات متوسخا بذنوبه، فإنه لم يطهر منها في حياته. وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس. والنبي صلى الله عليه وسلم، إذا دعا بدعاء، أجابه الله بحسب استعداد المحل. فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب، فإن هذا، لو كان واقعا، لما عذب مؤمن، لا في الدنيا ولا في الآخرة. بل يغفر الله لهذا بالتوبة، ولهذا بالحسنات الماحية، ويغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة، وإن واحدة بأخرى، وبالجملة، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم، ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنة عندهم، لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم. والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبي صلى الله عليه وسلم والإمام.




الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •