تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 22 من 23 الأولىالأولى ... 121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 421 إلى 440 من 450

الموضوع: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

  1. #421
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (416)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ المزمل
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 7


    ( قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ( 20 ) قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ( 21 ) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ( 22 ) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ( 23 ) )

    ( قل إنما أدعو ربي ) قرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة : " قل " على الأمر ، وقرأ الآخرون : " قال " يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما أدعو ربي " قال مقاتل : وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك ، فقال لهم : إنما أدعو ربي ( ولا أشرك به أحدا ( قل إني لا أملك لكم ضرا ) لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ( ولا رشدا ) أي لا أسوق إليكم رشدا أي : خيرا يعني أن الله يملكه . ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ) لن يمنعني من أحد إن عصيته ( ولن أجد من دونه ملتحدا ) ملجأ أميل إليه . ومعنى " الملتحد " أي : المائل . قال السدي : حرزا . وقال الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب . ( إلا بلاغا من الله ورسالاته ) ففيه الجوار والأمن والنجاة ، قاله الحسن . قال مقاتل : ذلك الذي يجيرني من عذاب الله ، يعني التبليغ . وقال قتادة : إلا بلاغا من الله فذلك الذي أملكه بعون [ ص: 244 ] الله وتوفيقه . وقيل : لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا من الله فإنما أنا مرسل به لا أملك إلا ما ملكت ( ومن يعص الله ورسوله ) ولم يؤمن ( فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا )
    ( حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا ( 24 ) قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ( 25 ) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ( 26 ) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ( 27 ) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ( 28 ) )

    ( حتى إذا رأوا ما يوعدون ) يعني العذاب يوم القيامة ( فسيعلمون ) عند نزول العذاب ( من أضعف ناصرا وأقل عددا ) أهم أم المؤمنون . ( قل إن أدري ) [ أي ما أدري ] ( أقريب ما توعدون ) يعني العذاب وقيل القيامة ( أم يجعل له ربي أمدا ) أجلا وغاية تطول مدتها يعني : أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله . ( عالم الغيب ) رفع على نعت قوله " ربي " وقيل : هو عالم الغيب ( فلا يظهر ) لا يطلع ( على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب ( فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصدا أي : يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع ، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة .

    قال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان ، فاحذره وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك . [ ص: 245 ] ( ليعلم ) قرأ يعقوب : " ليعلم " بضم الياء أي ليعلم الناس ( أن ) الرسل ( قد أبلغوا ) وقرأ الآخرون بفتح الياء أي : " ليعلم " الرسول ، أن الملائكة قد أبلغوا ( رسالات ربهم وأحاط بما لديهم ) أي : علم الله ما عند الرسل فلم يخف عليه شيء ( وأحصى كل شيء عددا ) قال ابن عباس : أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق فلم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل . ونصب " عددا " على الحال ، وإن شئت على المصدر ، أي عد [ عدا ] .
    سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( 1 ) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ( 2 ) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ( 3 ) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ( 4 ) )

    ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) أَيِ الْمُلْتَفِفُ بِثَوْبِهِ . وَأَصْلُهُ : الْمُتَزَمِّلُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَمِثْلُهُ الْمُدَّثِّرُ ، أَيِ : الْمُتَدَثِّرُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ ، يُقَالُ : تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ إِذَا تَغَطَّى بِهِ .

    وَقَالَ السُّدِّيُّ : أَرَادَ يَا أَيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ .

    قَالَ [ الْعُلَمَاءُ ] كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ، ثُمَّ خُوطِبَ بَعْدُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ . ( قُمِ اللَّيْلَ ) أَيْ لِلصَّلَاةِ ( إِلَّا قَلِيلًا ) وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ فَقَالَ : ( نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ) إِلَى الثُّلُثِ . ( أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ) عَلَى النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ ، خَيَّرَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَقُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي مَتَى ثُلْثُ اللَّيْلِ وَمَتَى نِصْفُ اللَّيْلِ وَمَتَى الثُّلْثَانِ ، فَكَانَ [ الرَّجُلُ ] يَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَنَسَخَهَا بِقَوْلِهِ : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى " الْآيَةَ . فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ . [ ص: 250 ]

    أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْإِسْفِرَايِي نِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَشِيرٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَرُوبَةَ - حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ : انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : [ أَلَسْتَ ] تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْقُرْآنُ ، قُلْتُ : فَقِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَتْ : أَلَسْتَ تَقْرَأُ : " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " قُلْتُ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ .

    قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ : كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .

    ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَيِّنْهُ بَيَانًا . وَقَالَ الْحَسَنُ : اقْرَأْهُ قِرَاءَةً بَيِّنَةً . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : تَرَسَّلْ فِيهِ تُرْسُّلًا . وَقَالَ قَتَادَةُ : تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : كَانَتْ مَدًّا مَدًّا ، ثُمَّ قَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا آدَمُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَرَأَتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ ، فَقَالَ : هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ ؟ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ [ مَنْ آلِ حَامِيمَ ] [ ص: 251 ] فِي [ كُلِّ ] رَكْعَةٍ .

    أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِيِّ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَهُ إِلَيَّ [ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ ] أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْوَاسِطِيُّ ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - قَالَ : لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْلِ وَلَا تَهْذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ .

    أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، ح ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ أَخُوهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ نَقْرَأُ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ كِتَابُ اللَّهِ وَاحِدٌ وَفِيكُمُ الْأَخْيَارُ وَفِيكُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ اقْرَءُوا [ الْقُرْآنَ ] قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَهُ ، يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ كَمَا يُقَامُ السَّهْمُ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَتَعَجَّلُونَ أَخِرَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَه ُ " .

    أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً . [ ص: 252 ]

    وَرَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ [ مِنَ الْقُرْآنِ ] وَالْآيَةُ : " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " ( الْمَائِدَةِ - 118 ) .
    ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ( 5 ) )

    ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : شديدا . قال الحسن : إن الرجل ليهذ السورة ولكن العمل بها ثقيل .

    وقال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . وقال مقاتل : ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود .

    وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام . وقال محمد بن كعب : ثقيل على المنافقين .

    وقال الحسين بن الفضل : قولا خفيفا على اللسان ثقيلا في الميزان .

    قال الفراء : ثقيل ليس بخفيف السفساف لأنه كلام ربنا .

    وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة عن [ أبيه ] عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - [ أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أحيانا يأتيني [ في ] مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " . قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه [ ص: 253 ] الوحي في اليوم الشاتي الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا .
    ( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ( 6 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إن ناشئة الليل ) أي : ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة ، سميت بذلك لأنها تنشأ أي : تبدو ، ومنه : نشأت السحابة إذا بدت ، فكل ما حدث بالليل وبدا فقد نشأ فهو ناشئ ، والجمع ناشئة .

    وقال ابن أبي مليكة : سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وقال سعيد بن جبير وابن زيد : أي : ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش [ القيام يقال ] نشأ فلان أي : قام .

    وقالت عائشة : الناشئة القيام بعد النوم .

    وقال ابن كيسان : هي القيام من آخر الليل .

    وقال عكرمة : هي القيام من أول الليل .

    روي عن علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ، ويقول : هذه ناشئة الليل . وقال الحسن : كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة من الليل .

    وقال الأزهري : " ناشئة الليل " قيام الليل ، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو .

    ( هي أشد وطئا ) قرأ ابن عامر [ وأبو عمرو ] وطاء بكسر الواو ممدودا بمعنى المواطأة والموافقة ، يقال : واطأت فلانا مواطأة ووطئا ، إذا وافقته ، وذلك أن مواطأة القلب والسمع والبصر واللسان بالليل تكون أكثر مما يكون بالنهار .

    وقرأ الآخرون : [ وطئا ] بفتح الواو وسكون الطاء ، أي : أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار لأن الليل للنوم والراحة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " . [ ص: 254 ]

    وقال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطئا يقول هي أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ .

    وقال قتادة : أثبت في الخير وأحفظ للقراءة .

    وقال الفراء : أثبت قياما أي : أوطأ للقيام وأسهل للمصلي من ساعات النهار لأن النهار خلق لتصرف العباد ، والليل للخلوة فالعبادة فيه أسهل . وقيل : أشد نشاطا .

    وقال ابن زيد : أفرغ له قلبا من النهار لأنه لا تعرض له حوائج .

    وقال الحسن : أشد وطئا للخير وأمنع من الشيطان .

    ( وأقوم قيلا ) وأصوب قراءة وأصح قولا لهدأة الناس وسكون الأصوات .

    وقال الكلبي : أبين قولا بالقرآن .

    وفي الجملة : عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة وأبلغ في الثواب [ من عبادة النهار ] .
    ( إن لك في النهار سبحا طويلا ( 7 ) )

    ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) أي : تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك ، وأصل " السبح " سرعة الذهاب ، ومنه السباحة في الماء وقيل : " سبحا طويلا " أي : فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصل من الليل .

    وقرأ يحيى بن يعمر " سبخا " بالخاء المعجمة أي : استراحة وتخفيفا للبدن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ، وقد دعت على سارق : " لا تسبخي عنه بدعائك عليه " [ أي : لا تخففي ] .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #422
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (417)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ المدثر
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 12

    [ ص: 255 ] ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ( 8 ) رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ( 9 ) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ( 10 ) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ( 11 ) إن لدينا أنكالا وجحيما ( 12 ) وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ( 13 ) يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ( 14 ) )

    ( واذكر اسم ربك ) بالتوحيد والتعظيم ( وتبتل إليه تبتيلا ) قال ابن عباس وغيره : أخلص إليه إخلاصا . وقال الحسن : اجتهد . وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته . قال سفيان : توكل عليه توكلا . وقيل : انقطع إليه في العبادة انقطاعا وهو الأصل في الباب ، يقال : تبتلت الشيء أي : قطعته وصدقة بتة : أي : مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها والتبتيل : [ التقطيع ] تفعيل منه يقال : بتلته فتبتل ، والمعنى : بتل نفسك إليه ، ولذلك قال : تبتيلا . قال زيد بن أسلم : التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى . ( رب المشرق والمغرب ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو وحفص : " رب " برفع الباء على الابتداء ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب في قوله : " واذكر اسم ربك " ( لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) قيما بأمورك ففوضها إليه . ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) نسختها آية القتال . ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ) نزلت في صناديد قريش المستهزئين . وقال مقاتل بن حيان : نزلت في المطعمين ببدر ولم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر . ( إن لدينا ) عندنا في الآخرة ( أنكالا ) قيودا عظاما لا تنفك أبدا واحدها نكل . قال الكلبي : أغلالا من حديد ( وجحيما ( وطعاما ذا غصة ) غير سائغة يأخذ بالحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع . ( وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال ) أي : تتزلزل وتتحرك ( وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) [ ص: 256 ] رملا سائلا . قال الكلبي : هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده ، يقال أهلت الرمل أهيله هيلا إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه .
    ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ( 15 ) فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ( 16 ) فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ( 17 ) السماء منفطر به كان وعده مفعولا ( 18 ) إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ( 19 ) إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ( 20 ) )

    ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ) .

    ( فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) ، شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة يخوف كفار مكة . ( فكيف تتقون إن كفرتم ) أي : كيف لكم بالتقوى يوم القيامة إذ كفرتم في الدنيا يعني لا سبيل لكم إلى التقوى إذا وافيتم يوم القيامة ؟ وقيل : معناه كيف تتقون العذاب يوم القيامة وبأي شيء تتحصنون منه إذا كفرتم ؟ ( يوما يجعل الولدان شيبا ) شمطا من هوله وشدته ، ذلك حين يقال لآدم قم فابعث بعث النار من ذريتك . ثم وصف هول ذلك اليوم فقال : ( السماء منفطر به ) متشقق لنزول الملائكة به أي : بذلك المكان . وقيل : الهاء ترجع إلى الرب أي : بأمره وهيبته ( كان وعده مفعولا ) كائنا . ( إن هذه ) أي : آيات القرآن ( تذكرة ) تذكير وموعظة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) بالإيمان والطاعة . ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى ) أقل من ( ثلثي الليل ونصفه وثلثه ) قرأ أهل مكة والكوفة : " نصفه وثلثه " بنصب الفاء والثاء وإشباع الهاءين ضما أي : وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسرا عطفا على ثلثي ( وطائفة من الذين معك ) يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ( والله يقدر الليل والنهار ) قال عطاء : يريد لا يفوته علم ما تفعلون ، أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ( علم أن لن تحصوه ) [ ص: 257 ] قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : " علم أن لن تحصوه " لن تطيقوا معرفة ذلك . وقال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال : علم أن لن تحصوه لن تطيقوا معرفة ذلك . ( فتاب عليكم ) فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) يعني في الصلاة ، قال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء .

    قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة [ ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ] ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا فقال : إن الله - عز وجل - يقول : فاقرءوا ما تيسر [ منه ]

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عثمان بن أبي صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حميد بن مخراق ، عن أنس بن مالك أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني القاسم بن زكريا حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان ، عن يحيى [ بن كثير ] عن محمد [ عبد الله ] بن عبد الرحمن مولى بني زهرة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ القرآن في كل شهر " قال قلت : إني أجد قوة ، قال : " فاقرأه في [ كل ] عشرين ليلة " قال قلت : إني أجد قوة ، قال : " فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك " . [ ص: 258 ]

    قوله - عز وجل - : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) لا يطيقون قيام الليل .

    روى إبراهيم عن ابن مسعود قال : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ عبد الله : " وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " [ يعني المسافرين للتجارة يطلبون رزق الله ] " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " .

    ( فاقرءوا ما تيسر منه ) أي [ ما تيسر عليكم ] من القرآن . [ قال أهل التفسير ] كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وذلك قوله : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ) قال ابن عباس : يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم ، وقرى الضيف . ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا ) تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ( وأعظم أجرا ) من الذي أخرتم ولم تقدموه ، ونصب " خيرا وأعظم " على المفعول الثاني ، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين ، وهو فصل في قول البصريين وعماد في قول الكوفيين لا محل لها في الإعراب .

    أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة ، أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه " ؟ قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال : " اعلموا ما تقولون " قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال [ : " ما منكم [ ص: 259 ] رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله " قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال ] " إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر " .

    ( واستغفروا الله ) لذنوبكم ( إن الله غفور رحيم ) .
    سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 ) )

    [ ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ] ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلَتُ أَبَا سَلَمَةَ [ بْنَ ] عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " قُلْتُ : يَقُولُونَ : " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " ( الْعَلَقِ - 1 ) ؟ فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلَتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ الَّذِي قُلْتَ ، فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : " جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا [ قَالَ ] فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ فَنَزَلَتْ : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ " .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : سَمِعْتُ أَبَا [ ص: 264 ] سَلَمَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ : " فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصْرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَخَشِيتُ حَتَّى هَوَيْتُ عَلَى الْأَرْضِ ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي [ فَزَمَّلُونِي ] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ " إِلَى قَوْلِهِ : " فَاهْجُرْ " قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : وَالرِّجْزُ الْأَوْثَانُ ، ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ " .
    ( قُمْ فَأَنْذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 ) )

    قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) أَيْ : أَنْذِرْ كُفَّارَ مَكَّةَ . ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) عَظِّمْهُ عَمَّا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ . ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ : نَفْسَكَ فَطَهِّرْ [ عَنِ الذَّنْبِ ] فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ : " وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ " فَقَالَ : لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غِيلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ :
    وَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ


    وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي وَصْفِ الرَّجُلِ بِالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ : إِنَّهُ طَاهِرُ الثِّيَابِ ، وَتَقُولُ لِمَنْ غَدَرَ : إِنَّهُ لَدَنِسُ الثِّيَابِ . وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : لَا تَلْبَسْهَا عَلَى غَدْرٍ وَلَا عَلَى ظُلْمٍ وَلَا إِثْمٍ ، الْبَسْهَا وَأَنْتَ بَرٌّ [ جَوَادٌ ] طَاهِرٌ .

    وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مَعْنَاهُ : وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ .

    قَالَ السُّدِّيُّ : يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا : إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ ، وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابُ . [ ص: 265 ]

    وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : وَقَلْبَكَ وَنِيَّتَكَ فَطَهِّرْ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ : وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ .

    وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ : أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ [ كَانُوا ] لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ .

    وَقَالَ طَاوُوسٌ : وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طُهْرَةٌ لَهَا .
    ( والرجز فاهجر ( 5 ) ولا تمنن تستكثر ( 6 ) )

    ( والرجز فاهجر ) قرأ أبو جعفر وحفص [ عن عاصم ] ويعقوب : " والرجز " بضم الراء ، وقرأ الآخرون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد . قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد وأبو سلمة : المراد بالرجز الأوثان ، قال : فاهجرها ولا تقربها .

    وقيل : الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " ( الحج - 30 ) .

    وروي عن ابن عباس أن معناه : اترك المآثم .

    وقال أبو العالية والربيع : " الرجز " بضم الراء : الصنم ، وبالكسر : النجاسة والمعصية .

    وقال الضحاك : يعني الشرك . وقال الكلبي : يعني العذاب .

    ومجاز الآية : اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال . ( ولا تمنن تستكثر ) أي : لا تعط مالك مصانعة لتعطى أكثر منه ، هذا قول أكثر المفسرين قال الضحاك ومجاهد : كان هذا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة . قال الضحاك : هما رباءان حلال وحرام ، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا . قال قتادة : لا تعط شيئا طمعا لمجازاة الدنيا يعني أعط لربك وأرد به الله . وقال الحسن : معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره ، قال الربيع : لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل . وروى خصيف عن مجاهد : ولا تضعف أن تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين إذا كان ضعيفا دليله : قراءة ابن مسعود : " ولا تمنن أن تستكثر " قال [ ابن ] زيد معناه : لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجرا [ ص: 266 ] أو عرضا من الدنيا .
    ( ولربك فاصبر ( 7 ) فإذا نقر في الناقور ( 8 ) فذلك يومئذ يوم عسير ( 9 ) على الكافرين غير يسير ( 10 ) ذرني ومن خلقت وحيدا ( 11 ) وجعلت له مالا ممدودا ( 12 ) )

    [ ( ولربك فاصبر ) قيل : فاصبر على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله . قال مجاهد : فاصبر لله على ما أوذيت . وقال ابن زيد : ] معناه حملت أمرا عظيما محاربة العرب والعجم فاصبر عليه لله - عز وجل - . وقيل : فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله . ( فإذا نقر في الناقور ) أي : نفخ في الصور ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، يعني النفخة الثانية . ( فذلك ) يعني النفخ في الصور ( يومئذ ) يعني يوم القيامة ( يوم عسير ) شديد . ( على الكافرين ) يعسر فيه الأمر عليهم ( غير يسير ) غير هين . قوله - عز وجل - : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) أي : خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد . نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، كان يسمى الوحيد في قومه . ( وجعلت له مالا ممدودا ) أي : كثيرا . قيل : هو ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة . واختلفوا في مبلغه ، قال مجاهد وسعيد بن جبير : ألف دينار . وقال قتادة : أربعة آلاف دينار . وقال سفيان الثوري : ألف ألف [ دينار ] . وقال ابن عباس : تسعة آلاف مثقال فضة . وقال مقاتل : كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا . وقال عطاء عن ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم [ وغنم ] وكان له عير كثيرة وعبيد وجوار . وقيل : مالا ممدودا غلة شهر بشهر .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #423
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (418)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ المدثر
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 13 إلى الاية 48

    [ ص: 267 ] ( وبنين شهودا ( 13 ) ومهدت له تمهيدا ( 14 ) ثم يطمع أن أزيد ( 15 ) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ( 16 ) سأرهقه صعودا ( 17 ) )

    ( وبنين شهودا ) حضورا بمكة لا يغيبون عنه وكانوا عشرة ، قاله مجاهد وقتادة . وقال مقاتل : كانوا سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس ، أسلم منهم [ ثلاثة ] خالد وهشام و [ عمارة ] . ( ومهدت له تمهيدا ) أي : بسطت له في العيش وطول العمر بسطا . وقال الكلبي : يعني المال بعضه على بعض كما يمهد الفرش . ( ثم يطمع ) يرجو ( أن أزيد ) أي أن أزيده مالا وولدا وتمهيدا . ( كلا ) لا أفعل ولا أزيده ، قالوا : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك . ( إنه كان لآياتنا عنيدا ) معاندا . ( سأرهقه صعودا ) سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها .

    وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الصعود جبل من نار يتصعد فيه [ الكافر ] سبعين خريفا ثم يهوي " .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، أخبرنا منجاب بن الحارث ، أخبرنا شريك ، عن عمار الدهني ، عن عطية ، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " سأرهقه صعودا " قال : " هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت [ فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله ذابت [ ص: 268 ] وإذا رفعها عادت ] "

    وقال الكلبي : " الصعود " صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها لا يترك أن يتنفس في صعوده ، ويجذب من أمامه بسلاسل من حديد ، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد ، فيصعدها في أربعين عاما فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ويجذب من أمامه ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدا [ أبدا ] .
    ( إنه فكر وقدر ( 18 ) )

    ( إنه فكر وقدر ) الآيات ، وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم إلى قوله : المصير ( غافر : 1 - 3 ) قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماعه لقراءته [ القرآن ] أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم ، فقال : [ والله ] لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه [ لمثمر ] وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى ، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : [ سحره محمد ] [ صبأ والله الوليد ، والله لتصبون قريش كلهم ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ] فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا ، فقال له الوليد : مالي أراك حزينا يا ابن أخي ؟ قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة ، لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد ، فقال : ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا ، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون [ ص: 269 ] لهم فضل من الطعام ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم : تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا قال : تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟ قالوا : لا - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمى الأمين قبل النبوة ، من صدقه - فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده ؟ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر فذلك قوله - عز وجل - : ( إنه فكر ) في محمد والقرآن ( وقدر ) في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن .
    ( فقتل كيف قدر ( 19 ) ثم قتل كيف قدر ( 20 ) ثم نظر ( 21 ) ثم عبس وبسر ( 22 ) ثم أدبر واستكبر ( 23 ) فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ( 24 ) إن هذا إلا قول البشر ( 25 ) سأصليه سقر ( 26 ) )

    ( فقتل ) لعن ، وقال الزهري : عذب ، ( كيف قدر ) على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ . ( ثم قتل كيف قدر ) كرره للتأكيد ، وقيل : معناه لعن على أي حال قدر من الكلام ، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال صنع . ( ثم نظر ) في طلب ما يدفع به القرآن ويرده . ( ثم عبس وبسر ) كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء . ( ثم أدبر ) عن الإيمان ( واستكبر ) تكبر حين دعي إليه . ( فقال إن هذا ) ما هذا الذي يقرؤه محمد ( إلا سحر يؤثر ) يروى ويحكى عن السحرة . ( إن هذا إلا قول البشر ) يعني يسارا وجبرا فهو يأثره عنهما . وقيل : يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة . قال الله تعالى ( سأصليه ) سأدخله ( سقر ) وسقر اسم من أسماء جهنم .
    [ ص: 270 ] ( وما أدراك ما سقر ( 27 ) لا تبقي ولا تذر ( 28 ) لواحة للبشر ( 29 ) عليها تسعة عشر ( 30 ) )

    ( وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ) أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئا إلا أكلته وأهلكته . وقال مجاهد : لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حيا ولا تذر من فيها ميتا كلما احترقوا جددوا . وقال السدي : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما . وقال الضحاك : إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم . ( لواحة للبشر ) مغيرة للجلد حتى تجعله أسود ، يقال : لاحه السقم والحزن إذا غيره ، وقال مجاهد : تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادا من الليل . وقال ابن عباس وزيد بن أسلم : محرقة للجلد . وقال الحسن وابن كيسان : تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانا نظيره قوله : " وبرزت الجحيم للغاوين " ( الشعراء - 91 ) و ( لواحة ) رفع على نعت " سقر " في قوله : " وما أدراك ما سقر " و " البشر " جمع بشرة وجمع البشر أبشار . ( عليها تسعة عشر ) [ أي : على ] النار تسعة عشر من الملائكة ، وهم خزنتها : مالك ومعه ثمانية عشر . وجاء في الأثر : أعينهم كالبرق الخاطف ، وأنيابهم كالصياصي ، يخرج لهب النار من أفواههم ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، نزعت منهم الرحمة ، يرفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم .

    قال عمرو بن دينار : إن واحدا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر .

    قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أي : الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم قال أبو [ الأشد ] أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، عشرة على ظهري وسبعة على بطني ، فاكفوني أنتم اثنين .

    وروي أنه قال : أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي [ ص: 271 ] الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة . فأنزل الله - عز وجل - ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) .

    ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ( 31 ) كلا والقمر ( 32 ) والليل إذ أدبر ( 33 ) والصبح إذا أسفر ( 34 ) )

    ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) لا رجالا آدميين ، فمن ذا يغلب الملائكة ؟ ( وما جعلنا عدتهم ) أي عددهم في القلة ( إلا فتنة للذين كفروا ) أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ( ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ) لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر ، ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذا وجدوا ما قاله موافقا لما في كتبهم ( ولا يرتاب ) ولا يشك ( الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ) في عددهم ( وليقول الذين في قلوبهم مرض ) شك ونفاق ( والكافرون ) [ مشركو مكة ] ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) أي شيء أراد بهذا الحديث ؟ وأراد بالمثل الحديث نفسه . ( كذلك ) أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ( يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو ) قال مقاتل : هذا جواب أبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ؟ قال عطاء : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار ، لا يعلم عدتهم إلا الله ، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار ، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله - عز وجل - ، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال : ( وما هي ) يعني [ سقر ] ( إلا ذكرى للبشر ) إلا تذكرة وموعظة للناس . ( كلا والقمر ) هذا قسم ، يقول : حقا . ( والقمر والليل إذ أدبر ) قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب " إذ " بغير ألف ، " أدبر " بالألف ، وقرأ الآخرون " إذا " بالألف " دبر " بلا ألف ، لأنه أشد موافقة لما يليه ، وهو قوله : [ ص: 272 ] ( والصبح إذا أسفر ) ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا [ ودبر وأدبر ] كلاهما لغة ، يقال : دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهبا . قال أبو عمرو : دبر لغة قريش ، وقال قطرب : دبر أي أقبل ، تقول العرب : دبرني فلان أي جاء خلفي ، فالليل يأتي خلف النهار .

    ( والصبح إذا أسفر ) أضاء وتبين .
    ( إنها لإحدى الكبر ( 35 ) نذيرا للبشر ( 36 ) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ( 37 ) كل نفس بما كسبت رهينة ( 38 ) إلا أصحاب اليمين ( 39 ) )

    ( إنها لإحدى الكبر ) يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام ، وواحد الكبر : كبرى ، قال مقاتل والكلبي : أراد بالكبر : دركات جهنم ، وهي سبعة : جهنم ، ولظى ، والحطمة ، والسعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية . ( نذيرا للبشر ) يعني النار نذيرا للبشر ، قال الحسن : والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها ، وهو نصب على القطع من قوله : " لإحدى الكبر " لأنها معرفة ، و " نذيرا " نكرة ، قال الخليل : النذير مصدر كالنكير ، ولذلك وصف به المؤنث ، وقيل : هو من صفة الله سبحانه وتعالى ، مجازه : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرا للبشر أي إنذارا لهم . قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير ، فاتقوها . وقيل : هو صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - معناه : يا أيها المدثر قم نذيرا للبشر ، [ فأنذر ] وهذا معنى قول ابن زيد . ( لمن شاء ) بدل من قوله " للبشر " ( منكم أن يتقدم ) في الخير والطاعة ( أو يتأخر ) عنها في الشر والمعصية ، والمعنى : أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر . ( كل نفس بما كسبت رهينة ) مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها . ( إلا أصحاب اليمين ) فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم . قال قتادة : علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين . واختلفوا فيهم : روي عن علي - رضي الله عنه - أنهم أطفال المسلمين .

    وروى أبو ظبيان عن ابن عباس : هم الملائكة . [ ص: 273 ]

    وقال مقاتل : هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق ، حين قال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وعنه أيضا : هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ، وعنه أيضا : هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم .

    وقال الحسن : هم المسلمون المخلصون . وقال [ القاسم ] كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل ، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به .
    ( في جنات يتساءلون ( 40 ) عن المجرمين ( 41 ) ما سلككم في سقر ( 42 ) قالوا لم نك من المصلين ( 43 ) ولم نك نطعم المسكين ( 44 ) وكنا نخوض مع الخائضين ( 45 ) وكنا نكذب بيوم الدين ( 46 ) حتى أتانا اليقين ( 47 ) فما تنفعهم شفاعة الشافعين ( 48 ) )

    ( في جنات يتساءلون عن المجرمين ) المشركين . ( ما سلككم ) أدخلكم ( في سقر ) فأجابوا ( قالوا لم نك من المصلين ) [ لله ] ( ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض ) في الباطل ( مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ) وهو الموت . قال الله - عز وجل - ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) قال ابن مسعود : تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين ، فلا يبقى في النار إلا أربعة ، ثم تلا " قالوا لم نك من المصلين " إلى قوله : ( بيوم الدين ) قال عمران بن الحصين : الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذين تسمعون .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا محمد بن حماد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصف أهل النار فيعذبون قال : " فيمر فيهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل [ ص: 274 ] منهم يا فلان قال فيقول : ما تريد فيقول : أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا ؟ قال فيقول : وإنك لأنت هو ؟ فيقول : نعم ، فيشفع له فيشفع فيه . قال : ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول : يا فلان ، فيقول : ما تريد ؟ فيقول : أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا وكذا ؟ فيقول : إنك لأنت هو ؟ فيقول : نعم فيشفع له فيشفع فيه " .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #424
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (419)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ القيامة
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 16


    ( فما لهم عن التذكرة معرضين ( 49 ) كأنهم حمر مستنفرة ( 50 ) فرت من قسورة ( 51 ) بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ( 52 ) )

    ( فما لهم عن التذكرة معرضين ) مواعظ القرآن ( معرضين ) نصب على الحال ، وقيل صاروا معرضين . ( كأنهم حمر ) جمع حمار ( مستنفرة ) قرأ أهل المدينة والشام بفتح الفاء ، وقرأ الباقون بكسرها ، فمن قرأ بالفتح فمعناها منفرة مذعورة ، ومن قرأ بالكسر فمعناها نافرة ، يقال : نفر واستنفر بمعنى واحد ، كما يقال عجب واستعجب . ( فرت من قسورة ) قال مجاهد وقتادة والضحاك : " القسورة " : الرماة ، لا واحد لها من لفظها ، وهي رواية عطاء عن ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير : هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس .

    وقال زيد بن أسلم : [ هم ] رجال أقوياء ، وكل ضخم شديد عند العرب : قسور وقسورة . وعن أبي المتوكل قال : هي لغط القوم وأصواتهم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي حبال الصيادين .

    وقال أبو هريرة : هي الأسد ، وهو قول عطاء والكلبي ، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن هربوا منه .

    قال عكرمة : هي ظلمة الليل ، ويقال لسواد أول الليل قسورة . ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا [ ص: 275 ] لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسوله نؤمر فيه باتباعك .

    قال الكلبي : إن المشركين قالوا : يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا عند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك " والصحف " الكتب ، وهي جمع الصحيفة ، و " منشرة " منشورة .
    ( كلا بل لا يخافون الآخرة ( 53 ) كلا إنه تذكرة ( 54 ) فمن شاء ذكره ( 55 ) وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ( 56 ) )

    فقال الله تعالى : ( كلا ) لا يؤتون الصحف . وقيل : حقا ، وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه ، ( بل لا يخافون الآخرة ) أي لا يخافون عذاب الآخرة ، والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة . ( كلا ) حقا ( إنه ) يعني القرآن ( تذكرة ) موعظة . ( فمن شاء ذكره ) اتعظ به . ( وما يذكرون ) قرأ نافع ويعقوب [ تذكرون ] بالتاء والآخرون بالياء ( إلا أن يشاء الله ) قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى . ( هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) أي أهل أن يتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا عمر بن الخطاب ، حدثنا عبد الله بن الفضل ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا سهيل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في هذه الآية : ( هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) قال : قال ربكم - عز وجل - : " أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري ، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر [ ص: 276 ] له " وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي ، أخو حزم القطعي .
    سورة القيامة

    مكية


    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( لا أقسم بيوم القيامة ( 1 ) ولا أقسم بالنفس اللوامة ( 2 ) )

    ( لا أقسم بيوم القيامة ) قرأ القواس عن ابن كثير : " لأقسم " الحرف الأول بلا ألف قبل الهمزة . ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) بالألف ، وكذلك قرأ عبد الرحمن الأعرج ، على معنى أنه أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس [ اللوامة ] والصحيح أنه أقسم بهما جميعا و " لا " صلة فيهما أي أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة .

    وقال أبو بكر بن عياش : هو تأكيد للقسم كقولك : لا والله .

    وقال الفراء : " لا " رد كلام المشركين المنكرين ، ثم ابتدأ فقال : أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة .

    وقال المغيرة بن شعبة : يقولون : القيامة ، وقيامة أحدهم موته . وشهد علقمة جنازة فلما دفنت قال : أما هذا فقد قامت قيامته .

    ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ، ولا تصبر على السراء والضراء .

    وقال قتادة : اللوامة : الفاجرة . [ ص: 280 ]

    وقال مجاهد : تندم على ما فات وتقول : لو فعلت ، ولو لم أفعل .

    قال الفراء : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت : هلا ازددت ، وإن عملت شرا قالت : يا ليتني لم أفعل قال الحسن : هي النفس المؤمنة ، قال : إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه ، ما أردت بكلامي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ وإن الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .

    وقال مقاتل : هي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا .
    ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ( 3 ) بلى قادرين على أن نسوي بنانه ( 4 ) )

    ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ) نزلت في عدي بن ربيعة ، حليف بني زهرة ، ختن الأخنس بن شريق الثقفي ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم اكفني جاري السوء ، يعني : عديا والأخنس . وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد حدثني عن القيامة متى تكون وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن [ بك ] أويجمع يجمع الله العظام ؟ فأنزل الله - عز وجل - : " أيحسب الإنسان " يعني الكافر ( ألن نجمع عظامه ) بعد التفرق والبلى فنحييه . قيل : ذكر العظام وأراد نفسه لأن العظام قالب النفس لا يستوي الخلق إلا باستوائها . وقيل : هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقوله : " قال من يحيي العظام وهي رميم " ( يس - 78 ) . ( بلى قادرين ) أي نقدر ، استقبال صرف إلى الحال ، قال الفراء " قادرين " نصب على الخروج من نجمع ، كما تقول في الكلام أتحسب أن لا نقوى عليك ؟ بلى قادرين على أقوى منك ، يريد : بل قادرين على أكثر من ذا

    مجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو ( على أن نسوي بنانه ) أنامله ، فنجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ، فلا [ ص: 281 ] يرتفق بها [ بالقبض ] والبسط والأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وغيرها . هذا قول أكثر المفسرين .

    وقال الزجاج وابن قتيبة : معناه : ظن الكافر أنا لا نقدر على جمع عظامه ، بلى نقدر على أن نعيد السلاميات على صغرها ، فنؤلف بينها حتى نسوي البنان ، فمن قدر على جمع صغار العظام فهو على جمع كبارها أقدر
    ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ( 5 ) يسأل أيان يوم القيامة ( 6 ) فإذا برق البصر ( 7 ) )

    ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ) يقول لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه لكنه يريد أن يفجر أمامه ، أي : يمضي قدما [ على ] معاصي الله ما عاش راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، هذا قول مجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، والسدي .

    وقال سعيد بن جبير : " ليفجر أمامه " يقدم على الذنب ويؤخر التوبة ، فيقول : سوف أتوب ، سوف أعمل حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله .

    وقال الضحاك : هو الأمل ، يقول : أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا [ ولا يذكر الموت ] .

    وقال ابن عباس ، وابن زيد : يكذب بما أمامه من البعث والحساب . وأصل " الفجور " الميل ، وسمي الفاسق والكافر : فاجرا ، لميله عن الحق . ( يسأل أيان يوم القيامة ) أي متى يكون [ ذلك ] تكذيبا به . قال الله تعالى : ( فإذا برق البصر ) قرأ أهل المدينة " برق " بفتح الراء ، وقرأ الآخرون بكسرها ، وهما لغتان .

    قال قتادة ومقاتل : شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب التي كان يكذب بها في الدنيا . قيل : ذلك عند الموت .

    وقال الكلبي : عند رؤية جهنم برق أبصار الكفار . [ ص: 282 ]

    وقال الفراء والخليل " برق " - بالكسر - أي : فزع وتحير لما يرى من العجائب و " برق " بالفتح ، أي : شق عينه وفتحها ، من البريق ، وهو التلألؤ
    ( وخسف القمر ( 8 ) وجمع الشمس والقمر ( 9 ) يقول الإنسان يومئذ أين المفر ( 10 ) كلا لا وزر ( 11 ) إلى ربك يومئذ المستقر ( 12 ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ( 13 ) )

    ( وخسف القمر ) أظلم وذهب نوره وضوءه . ( وجمع الشمس والقمر ) أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران . وقيل : يجمع بينهما في ذهاب الضياء . وقال عطاء بن يسار : يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى . ( يقول الإنسان ) أي الكافر المكذب ( يومئذ أين المفر ) أي : المهرب وهو موضع الفرار . [ وقيل : هو مصدر ، أي : أين الفرار ] قال الله تعالى : ( كلا لا وزر ) لا حصن ولا حرز ولا ملجأ . وقال السدي : لا جبل وكانوا إذا فزعوا لجئوا إلى الجبل فتحصنوا به . [ فقال الله تعالى ] لا جبل يومئذ يمنعهم . ( إلى ربك يومئذ المستقر ) أي مستقر الخلق .

    وقال عبد الله بن مسعود : المصير والمرجع ، نظيره : قوله تعالى : إلى ربك الرجعى ( العلق - 8 ) " وإلى الله المصير " ( آل عمران - 28 ) ( النور - 42 ) ( فاطر - 18 ) .

    وقال السدي : المنتهى ، نظيره : وأن إلى ربك المنتهى ( النجم - 42 ) . ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) [ قال ابن مسعود وابن عباس : " بما قدم " قبل موته من عمل صالح وسيئ ، وما أخر : بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها .

    وقال عطية عن ابن عباس : " بما قدم " من المعصية " وأخر " من الطاعة .

    وقال قتادة : بما قدم من طاعة الله ، وأخر من حق الله فضيعه . [ ص: 283 ]

    وقال مجاهد : بأول عمله وآخره . وقال عطاء : بما قدم في أول عمره وما أخر في آخر عمره .

    وقال زيد بن أسلم : بما قدم من أمواله لنفسه وما أخر خلفه للورثة
    ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ( 14 ) ولو ألقى معاذيره ( 15 ) لا تحرك به لسانك لتعجل به ( 16 ) )

    ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) قال عكرمة ، ومقاتل ، والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله ، وهي سمعه وبصره وجوارحه ودخل الهاء في البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا جوارحه ، ويحتمل أن يكون معناه " بل الإنسان على نفسه بصيرة " يعني : لجوارحه ، فحذف حرف الجر كقوله : " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم " ( البقرة - 233 ) أي لأولادكم . ويجوز أن يكون نعتا لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة .

    وقال أبو العالية ، وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، والهاء في " بصيرة " للمبالغة ، دليل هذا التأويل . قوله - عز وجل - : " كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " ( الإسراء - 14 ) . ( ولو ألقى معاذيره ) يعني يشهد عليه الشاهد ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ، كما قال تعالى : " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " ( غافر - 52 ) وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وعطاء : قال الفراء : ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذب عذره ومعنى الإلقاء : القول ، كما قال : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( النحل - 86 ) . وقال الضحاك والسدي : " ولو ألقى معاذيره " يعني : ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب . وأهل اليمن يسمون الستر : معذارا ، وجمعه : معاذير ، ومعناه على هذا القول : وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل ، فإن نفسه شاهدة عليه . قوله - عز وجل - ( لا تحرك به لسانك لتعجل به )

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله - عز وجل - : " لا تحرك به لسانك لتعجل به " قال : كان رسول الله [ ص: 284 ] - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل [ عليه ] جبريل بالوحي كان ربما يحرك لسانه وشفتيه فيشتد عليه ، وكان يعرف منه ، فأنزل الله - عز وجل - الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة : " لا تحرك به لسانك لتعجل به "
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #425
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (420)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الانسان
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 8


    ( إن علينا جمعه وقرآنه ( 17 ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( 18 ) ثم إن علينا بيانه ( 19 ) كلا بل تحبون العاجلة ( 20 ) وتذرون الآخرة ( 21 ) وجوه يومئذ ناضرة ( 22 ) إلى ربها ناظرة ( 23 ) )

    ( إن علينا جمعه وقرآنه ) قال علينا أن نجمعه في صدرك ، وقرآنه . ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فإذا أنزلناه فاستمع . ( ثم إن علينا بيانه ) علينا أن نبينه بلسانك . قال : فكان إذا أتاه جبريل - عليه السلام - أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله - عز وجل - ، ورواه محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال : كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه ، يخشى أن ينفلت منه ، فقيل له : " لا تحرك به لسانك " " إن علينا جمعه " أن نجمعه في صدرك " وقرآنه " أن تقرأه . ( كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ) قرأ أهل المدينة والكوفة " تحبون وتذرون " بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى ، ويعملون لها ، يعني : كفار مكة ، ومن قرأ بالتاء فعلى تقدير : قل لهم يا محمد : بل تحبون [ وتذرون ] ( وجوه يومئذ ) يعني يوم القيامة ( ناضرة ) قال ابن عباس : حسنة ، وقال مجاهد : مسرورة . وقال ابن زيد : ناعمة . وقال مقاتل : بيض يعلوها النور . وقال السدي : مضيئة . وقال يمان : مسفرة . وقال الفراء : مشرقة بالنعيم يقال : نضر الله وجهه ينضر نضرا ، ونضره الله وأنضره ونضر وجهه ينضر نضرة ونضارة . قال الله تعالى : " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ( المطففين - 24 ( إلى ربها ناظرة ) قال ابن عباس : وأكثر الناس تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب . قال الحسن : تنظر إلى الخالق وحق لها أن [ تنضر ] وهي تنظر إلى الخالق .

    أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحموي ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم [ ص: 285 ] الشاشي ، أخبرنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن إسرائيل ، عن ثوير قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية " ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة "
    ( ووجوه يومئذ باسرة ( 24 ) تظن أن يفعل بها فاقرة ( 25 ) كلا إذا بلغت التراقي ( 26 ) وقيل من راق ( 27 ) وظن أنه الفراق ( 28 ) )

    ( ووجوه يومئذ باسرة ) عابسة كالحة مغبرة مسودة . ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) تستيقن أن يعمل بها عظيمة من العذاب ، والفاقرة : الداهية العظيمة ، والأمر الشديد يكسر فقار الظهر . قال سعيد بن المسيب : قاصمة الظهر . قال ابن زيد : هي دخول النار . وقال الكلبي : هي أن تحجب عن رؤية الرب - عز وجل - . ( كلا إذا بلغت ) يعني النفس ، كناية عن غير مذكور ( التراقي ) فحشرج بها عند الموت ، و " التراقي " جمع الترقوة ، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق ، ويكنى ببلوغ النفس التراقي عن الإشراف على الموت . ( وقيل ) أي قال من حضره [ الموت ] هل " من راق " هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه برقيته أو دوائه .

    وقال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا .

    وقال سليمان التيمي ، ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة ، يقول بعضهم لبعض : من يرقى بروحه ؟ فتصعد بها ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب . ( وظن ) أيقن الذي بلغت روحه التراقي ( أنه الفراق ) من الدنيا .
    [ ص: 286 ] ( والتفت الساق بالساق ( 29 ) إلى ربك يومئذ المساق ( 30 ) فلا صدق ولا صلى ( 31 ) ولكن كذب وتولى ( 32 ) ثم ذهب إلى أهله يتمطى ( 33 ) أولى لك فأولى ( 34 ) ثم أولى لك فأولى ( 35 ) )

    ( والتفت الساق بالساق ) قال قتادة : الشدة بالشدة . وقال عطاء : شدة الموت بشدة الآخرة . وقال سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد ، وقال السدي : لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه .

    قال ابن عباس : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، فكان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة .

    وقال مجاهد : اجتمع فيه الحياة والموت .

    وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه .

    وقال الحسن : هما ساقاه إذا التفتا في الكفن . وقال الشعبي : هما ساقاه عند الموت . ( إلى ربك يومئذ المساق ) أي مرجع العباد [ يومئذ ] إلى الله يساقون إليه . ( فلا صدق ولا صلى ) يعني : أبا جهل ، لم يصدق بالقرآن ولا صلى لله . ( ولكن كذب وتولى ) عن الإيمان . ( ثم ذهب إلى أهله ) رجع إليهم ( يتمطى ) يتبختر ويختال في مشيته ، وقيل : أصله : " يتمطط " أي : يتمدد ، والمط هو المد . ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) هذا وعيد على وعيد من الله - عز وجل - لأبي جهل ، وهي كلمة موضوعة للتهديد والوعيد .

    وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به ، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه .

    وقيل : هي كلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها [ من الولاء ] من المولى وهو [ ص: 287 ] القرب ، قال الله تعالى : " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " ( التوبة - 123 ) .

    وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " فقال أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها! فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع ، وقتله أسوأ قتلة . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن لكل أمة فرعونا [ وإن ] فرعون هذه الأمة أبو جهل .
    ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ( 36 ) ألم يك نطفة من مني يمنى ( 37 ) ثم كان علقة فخلق فسوى ( 38 ) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ( 39 ) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( 40 ) )

    ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) هملا لا يؤمر ولا ينهى ، وقال السدي : معناه المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راع . ( ألم يك نطفة من مني يمنى ) تصب في الرحم ، قرأ حفص عن عاصم " يمنى " بالياء ، وهي قراءة الحسن ، وقرأ الآخرون بالتاء ، لأجل النطفة . ( ثم كان علقة فخلق فسوى ) فجعل فيه الروح فسوى خلقه . ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) خلق من مائه أولادا ذكورا وإناثا . ( أليس ذلك ) الذي فعل هذا ( بقادر على أن يحيي الموتى )

    أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمرو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن أشعث ، حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية قال : سمعت أعرابيا يقول سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : " أليس الله بأحكم الحاكمين " ( التين - 8 ) فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ : " لا أقسم بيوم القيامة " فانتهى إلى " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى " فليقل : بلى ، ومن قرأ : " والمرسلات " فبلغ " فبأي حديث بعده يؤمنون " فليقل : " آمنا بالله " . [ ص: 288 ]

    أخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أخبرنا القاسم بن جعفر ، أخبرنا أبو علي اللؤلئي ، أخبرنا أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال : سبحانك بلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
    سورة الإنسان

    قال عطاء : هي مكية وقال مجاهد وقتادة : مدنية . وقال الحسن وعكرمة : هي مدنية إلا آية وهي قوله : " فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا "

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ( 2 ) )

    ( هل أتى على الإنسان ) يعني آدم - عليه السلام - ( حين من الدهر ) أربعون سنة ملقى من طين بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح ( لم يكن شيئا مذكورا ) لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به . يريد : كان شيئا ولم يكن مذكورا ، وذلك من حين خلقه من طين إلى أن [ ينفخ ] فيه الروح .

    روي أن عمر سمع رجلا يقرأ هذه الآية : " لم يكن شيئا مذكورا " فقال عمر : ليتها تمت ، يريد : ليته بقي على ما كان . قال ابن عباس : ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة . ( إنا خلقنا الإنسان ) يعني ولد آدم ( من نطفة ) يعني : مني الرجل ومني المرأة . [ ص: 292 ] ( أمشاج ) أخلاط ، واحدها : مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين .

    قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد والربيع : يعني ماء الرجل [ وماء المرأة ] يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد . فماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له ، وما كان من عصب وعظم فهو من نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة .

    وقال الضحاك : أراد بالأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء وحمراء وصفراء ، ونطفة المرأة خضراء وحمراء [ وصفراء ] ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس . وكذلك قال الكلبي : قال : الأمشاج البياض في الحمرة والصفرة . وقال يمان : كل لونين اختلطا فهو أمشاج . وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة .

    وقال الحسن : نطفة مشجت بدم ، وهو دم الحيضة ، فإذا حبلت ارتفع الحيض .

    وقال قتادة : هي أطوار الخلق نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم [ عظما ] ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر .

    ( نبتليه ) نختبره بالأمر والنهي ( فجعلناه سميعا بصيرا ) قال بعض أهل العربية : فيه تقديم وتأخير ، مجازه فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ؛ لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة .
    ( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ( 3 ) إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا ( 4 ) )

    ( إنا هديناه السبيل ) أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة ، وعرفناه طريق الخير والشر ( إما شاكرا وإما كفورا ) إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا . وقيل : معنى الكلام الجزاء ، يعني : بينا له الطريق إن شكر أو كفر . ثم بين ما للفريقين فقال : ( إنا أعتدنا للكافرين سلاسل ) يعني : في جهنم قرأ أهل المدينة [ ص: 293 ] والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " سلاسلا " " وقواريرا " فقوارير بالألف في الوقف ، وبالتنوين في الوصل فيهن جميعا ، وقرأ حمزة ويعقوب بلا ألف في الوقف ، ولا تنوين في الوصل فيهن ، وقرأ ابن كثير " قوارير " الأولى بالألف في الوقف وبالتنوين في الوصل ، و " سلاسل " و " قوارير " الثانية بلا ألف ولا تنوين . وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص " سلاسلا " و " قواريرا " الأولى بالألف [ في الوقف ] على الخط وبغير تنوين في الوصل ، و " قوارير " الثانية بغير ألف ولا تنوين . قوله ( وأغلالا ) يعني : في أيديهم ، تغل إلى أعناقهم ( وسعيرا ) وقودا شديدا .
    ( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ( 5 ) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ( 6 ) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ( 7 ) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ( 8 ) )

    ( إن الأبرار ) يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم [ واحدهم ] بار مثل : شاهد وأشهاد ، وناصر وأنصار ، و " بر " أيضا مثل : نهر وأنهار ( يشربون ) في الآخرة ، ( من كأس ) [ فيها ] شراب ( كان مزاجها كافورا ) قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك . قال عكرمة : " مزاجها " طعمها . وقال أهل المعاني : أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده ؛ لأن الكافور لا يشرب ، وهو كقوله : " حتى إذا جعله نارا " ( الكهف - 96 ) أي كنار . وهذا معنى قول [ قتادة ] ومجاهد : يمازجه ريح الكافور . وقال ابن كيسان : طيبت بالكافور والمسك والزنجبيل . وقال عطاء والكلبي : الكافور اسم لعين ماء في الجنة . ( عينا ) نصب تبعا للكافور . وقيل : [ هو ] نصب على المدح . وقيل : أعني عينا . وقال الزجاج : الأجود أن يكون المعنى من عين ( يشرب بها ) [ قيل : يشربها ] والباء صلة ، وقيل بها أي منها ( عباد الله ) قال ابن عباس أولياء الله ( يفجرونها تفجيرا ) أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم ، كمن يكون له نهر يفجره هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد . ( يوفون بالنذر ) هذا من صفاتهم في الدنيا أي كانوا في الدنيا كذلك .

    قال قتادة : أراد يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة ، [ ص: 294 ] وغيرها من الواجبات ، ومعنى النذر : الإيجاب .

    وقال مجاهد وعكرمة : إذا نذروا في طاعة الله وفوا به .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) فاشيا ممتدا ، يقال : استطار الصبح ، إذا امتد وانتشر .

    قال مقاتل : كان شره فاشيا في السماوات فانشقت ، وتناثرت الكواكب ، وكورت الشمس والقمر ، وفزعت الملائكة . وفي الأرض : فنسفت الجبال ، وغارت المياه ، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء . ( ويطعمون الطعام على حبه ) أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه . وقيل : على حب الله - عز وجل - ( مسكينا ) فقيرا لا مال له ( ويتيما ) صغيرا لا أب له ( وأسيرا ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء : هو المسجون من أهل القبلة . وقال قتادة : أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك . وقيل : الأسير المملوك . وقيل : المرأة ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان " أي أسراء .

    واختلفوا في سبب نزول هذه الآية . قال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا . [ ص: 295 ]

    وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير ، [ فقبض الشعير ] فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه ، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام ، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين ، فسأل فأطعموه ، وطووا يومهم ذلك : وهذا قول الحسن وقتادة : أن الأسير كان من أهل الشرك ، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى - وإن كانوا من أهل الشرك - حسن يرجى ثوابه .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #426
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (421)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ المرسلات
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 4


    ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( 9 ) إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ( 10 ) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ( 11 ) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ( 12 ) )

    ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) والشكور مصدر كالعقود والدخول والخروج . قال مجاهد وسعيد بن جبير : إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم ، فأثنى عليهم . ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا ) تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، نسب العبوس إلى اليوم ، كما يقال : يوم صائم وليل قائم . وقيل : وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة ( قمطريرا ) قال قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل : " القمطرير " : الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس . قال الكلبي : العبوس الذي لا انبساط فيه ، و " القمطرير " الشديد . قال الأخفش : " القمطرير " أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء . يقال : يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا كريها ، واقمطر اليوم فهو مقمطر . ( فوقاهم الله شر ذلك اليوم ) الذي يخافون ( ولقاهم نضرة ) حسنا في وجوههم ، ( وسرورا ) في قلوبهم . ( وجزاهم بما صبروا ) على طاعة الله واجتناب معصيته . وقال الضحاك : على الفقر . وقال عطاء : على الجوع . ( جنة وحريرا ) قال الحسن : أدخلهم الله الجنة وألبسهم الحرير .
    [ ص: 296 ] ( متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ( 13 ) ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ( 14 ) ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ( 15 ) قواريرا من فضة قدروها تقديرا ( 16 ) ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ( 17 ) عينا فيها تسمى سلسبيلا ( 18 ) )

    ( متكئين ) نصب على الحال ( فيها ) في الجنة ( على الأرائك ) السرر في الحجال ، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعا ( لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ) أي [ صيفا ] ولا شتاء . قال مقاتل : يعني شمسا يؤذيهم حرها ولا زمهريرا يؤذيهم برده ؛ لأنهما يؤذيان في الدنيا . والزمهرير : البرد الشديد . ( ودانية عليهم ظلالها ) أي قريبة منهم ظلال أشجارها ، ونصب " دانية " بالعطف على قوله " متكئين " وقيل : على موضع قوله : " لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا " ويرون " دانية " وقيل : على المدح ( وذللت ) سخرت وقربت ( قطوفها ) ثمارها ( تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا ) يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا . ( قواريرا من فضة ) قال المفسرون : أراد بياض الفضة في صفاء القوارير ، فهي من فضة في صفاء الزجاج ، يرى ما في داخلها من خارجها .

    قال الكلبي : إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإن أرض الجنة من فضة ، فجعل منها قوارير يشربون فيها ( قدروها تقديرا ) قدروا الكأس على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص ، أي قدرها لهم السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها ثم يسقون . ( ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ) يشوق ويطرب ، والزنجبيل : مما كانت العرب تستطيبه جدا ، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة . قال مقاتل : لا يشبه زنجبيل الدنيا . قال ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل . وقيل : هو عين في الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل . قال قتادة : يشربها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة . ( عينا فيها تسمى سلسبيلا ) قال قتادة : سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا . وقال [ ص: 297 ] مجاهد : حديدة [ شديدة ] الجرية . وقال [ أبو العالية ] ومقاتل بن حيان : سميت سلسبيلا ؛ لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان ، وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك . قال الزجاج : سميت سلسبيلا ؛ لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ، ومعنى قوله : " تسمى " أي توصف ؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم .
    ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ( 19 ) وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ( 20 ) عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ( 21 ) )

    ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) قال عطاء : يريد في بياض اللؤلؤ وحسنه ، واللؤلؤ إذا نثر من الخيط على البساط كان أحسن منه منظوما . وقال أهل المعاني : إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة ، فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم . ( وإذا رأيت ثم ) أي إذا [ رأيت ] ببصرك ونظرت به ثم يعني في الجنة ( رأيت نعيما ) لا يوصف ( وملكا كبيرا ) وهو أن أدناهم منزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقال مقاتل والكلبي : هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه . وقيل : ملكا لا زوال له . ( عاليهم ثياب سندس ) قرأ أهل المدينة وحمزة : " عاليهم " ساكنة الياء مكسورة الهاء ، فيكون في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس . وقرأ الآخرون بنصب الياء وضم الهاء على [ الصفة ، أي فوقهم ، وهو نصب على الظرف ] ( ثياب سندس خضر وإستبرق ) قرأ نافع وحفص " خضر وإستبرق " [ مرفوعا ] عطفا على الثياب ، وقرأهما حمزة والكسائي مجرورين ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر " خضر " بالجر و " إستبرق " بالرفع ، وقرأ أبو جعفر وأهل البصرة والشام على ضده [ فالرفع على ] [ ص: 298 ] نعت الثياب [ والجر ] على نعت السندس [ وإستبرق بالرفع على أنه معطوف على : وثياب إستبرق فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كقوله " واسأل القرية " أي : أهل القرية ، ومثله قوله : خز أي ثوب خز ، وأما جر إستبرق فعلى أنه معطوف على سندس وهو جر بإضافة الثياب إليه ، وهما جنسان أضيفت الثياب إليهما كما تقول : ثوب خز وكتان فتضيفه إلى الجنسين ] .

    ( وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) قيل : طاهرا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا .

    وقال أبو قلابة وإبراهيم : إنه لا يصير بولا نجسا ولكنه يصير رشحا في أبدانهم ، [ ريحه كريح المسك ] ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم [ ريحا ] أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهوتهم .

    وقال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد .
    ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ( 22 ) إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ( 23 ) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ( 24 ) )

    ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) أي ما وصف من نعيم الجنة كان لكم جزاء بأعمالكم ، ( وكان سعيكم ) عملكم في الدنيا بطاعة الله مشكورا ، قال عطاء : شكرتكم عليه [ فأثيبكم ] أفضل الثواب . قوله - عز وجل - : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ) قال ابن عباس : متفرقا آية بعد آية ، ولم ينزل جملة واحدة . ( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ) يعني من مشركي مكة ( آثما أو كفورا ) يعني وكفورا ، والألف صلة . [ ص: 299 ]

    قال قتادة : أراد بالآثم الكفور أبا جهل ؛ وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أبو جهل عنها ، وقال : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه .

    وقال مقاتل : أراد ب " الآثم " عتبة بن ربيعة وب " الكفور " الوليد بن المغيرة ، قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ، قال عتبة : فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى ، فارجع عن هذا الأمر ، فأنزل الله هذه الآية .
    ( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ( 25 ) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ( 26 ) إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ( 27 ) نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ( 28 ) )

    ( واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له ) [ يعني صلاة المغرب والعشاء ] ( وسبحه ليلا طويلا ) يعني التطوع بعد المكتوبة . ( إن هؤلاء ) يعني كفار مكة ( يحبون العاجلة ) أي الدار العاجلة وهي الدنيا . ( ويذرون وراءهم ) يعني أمامهم ( يوما ثقيلا ) شديدا وهو يوم القيامة . أي يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له . ( نحن خلقناهم وشددنا ) [ قوينا وأحكمنا ] ( أسرهم ) قال مجاهد وقتادة [ ومقاتل ] " أسرهم " أي : خلقهم ، يقال : رجل حسن الأسر ، أي : الخلق .

    وقال الحسن : يعني أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب . [ ص: 300 ]

    وروي عن مجاهد في تفسير " الأسر " قال : الشرج ، يعني : موضع مصرفي البول والغائط ، إذا خرج الأذى تقبضا . ( وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ) أي : إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم .
    ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ( 29 ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ( 30 ) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ( 31 ) )

    ( إن هذه ) يعني هذه السورة ( تذكرة ) تذكير وعظة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) وسيلة بالطاعة . ( وما تشاءون ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو : " يشاءون " بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( إلا أن يشاء الله ) أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله - عز وجل - لأن الأمر إليه ( إن الله كان عليما حكيما ) ( يدخل من يشاء في رحمته والظالمين ) أي المشركين ( أعد لهم عذابا أليما )
    سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا ( 1 ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 ) )

    ( وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ أُرْسِلَتْ مُتَتَابِعَةً كَعُرْفِ الْفَرَسِ . وَقِيلَ : عُرْفًا أَيْ كَثِيرًا . تَقُولُ الْعَرَبُ : النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفٌ وَاحِدٌ ، إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فَأَكْثَرُوا ، هَذَا [ مَعْنَى ] قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ . ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ الشَّدِيدَةَ الْهُبُوبِ . ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) يَعْنِي الرِّيَاحَ اللَّيِّنَةَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ . وَقِيلَ : هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَأْتِي بِالْمَطَرِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هُمُ الْمَلَائِكَةُ يَنْشُرُونَ الْكُتُبَ . ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ : يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . وَقَالَ [ قَتَادَةُ ] وَالْحَسَنُ : هِيَ آيُ الْقُرْآنِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَرُوِيَ عَنْ [ ص: 304 ] مُجَاهِدٍ قَالَ : هِيَ الرِّيَاحُ تُفَرِّقُ السَّحَابَ وَتُبَدِّدُهُ .
    ( فالملقيات ذكرا ( 5 ) عذرا أو نذرا ( 6 ) إنما توعدون لواقع ( 7 ) فإذا النجوم طمست ( 8 ) وإذا السماء فرجت ( 9 ) وإذا الجبال نسفت ( 10 ) )

    ( فالملقيات ذكرا ) يعني الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء ، نظيرها : " يلقي الروح من أمره " ( غافر - 15 ) . ( عذرا أو نذرا ) أي للإعذار والإنذار . وقرأ الحسن " عذرا " بضم الذال . واختلف فيه عن أبي بكر عن عاصم ، وقراءة العامة بسكونها ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص " [ عذرا أو ] نذرا " ساكنة الذال فيهما ، وقرأ الباقون بضمها ، ومن سكن قال : لأنهما في موضع مصدرين بمعنى الإنذار والإعذار ، وليسا بجمع فينقلا [ وقال ابن كثير ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ويعقوب برواية رويس بن حسان : " عذرا " سكون الذال و " نذرا " بضم الذال ، وقرأ روح بالضم في العذر والنذر جميعا ، وهي قراءة الحسن . والوجه فيهما أن العذر والنذر بضمتين كالأذن والعنق هو الأصل ، ويجوز التخفيف فيهما كما يجوز التخفيف في العنق والأذن ، يقال : عذر ونذر ، وعذر ونذر ، كما يقال : عنق وعنق ، وأذن وأذن ، والعذر والنذر مصدران بمعنى الإعذار والإنذار كالنكير والعذير والنذير ، ويجوز أن يكونا جمعين لعذير ونذير ، ويجوز أن يكون العذر جمع عاذر ، كشارف وشرف ، والمعنى في التحريك والتسكين واحد على ما بينا . إلى هاهنا أقسام ] ذكرها على قوله : ( إن ما توعدون ) ( إن ما توعدون ) من أمر الساعة والبعث ( لواقع ) [ لكائن ] ثم ذكر متى يقع . فقال : ( فإذا النجوم طمست ) محي نورها . ( وإذا السماء فرجت ) شقت . ( وإذا الجبال نسفت ) قلعت من أماكنها .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #427
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (422)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ المرسلات
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 23


    [ ص: 305 ] ( وإذا الرسل أقتت ( 11 ) لأي يوم أجلت ( 12 ) ليوم الفصل ( 13 ) وما أدراك ما يوم الفصل ( 14 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 15 ) ألم نهلك الأولين ( 16 ) ثم نتبعهم الآخرين ( 17 ) كذلك نفعل بالمجرمين ( 18 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 19 ) ألم نخلقكم من ماء مهين ( 20 ) فجعلناه في قرار مكين ( 21 ) إلى قدر معلوم ( 22 ) فقدرنا فنعم القادرون ( 23 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 24 ) ألم نجعل الأرض كفاتا ( 25 ) )

    ( وإذا الرسل أقتت ) قرأ أهل البصرة " وقتت " بالواو ، وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف ، وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف ، وهما لغتان . والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم : وكدت وأكدت ، وورخت وأرخت ، ومعناهما : جمعت لميقات يوم معلوم ، وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم . ( لأي يوم أجلت ) أي أخرت ، وضرب الأجل لجمعهم فعجب العباد من ذلك اليوم ، ثم بين فقال ( ليوم الفصل ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوم يفصل الرحمن - عز وجل - بين الخلائق . ( وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين ألم نهلك الأولين ) يعني الأمم الماضية بالعذاب ، في الدنيا حين كذبوا رسلهم . ( ثم نتبعهم الآخرين ) السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب يعني كفار مكة بتكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - . ( كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين ألم نخلقكم من ماء مهين ) يعني النطفة . ( فجعلناه في قرار مكين ) يعني الرحم . ( إلى قدر معلوم ) وهو وقت الولادة . ( فقدرنا ) قرأ أهل المدينة والكسائي : " فقدرنا " بالتشديد من التقدير ، وقرأ الآخرون بالتخفيف من القدرة ؛ لقوله : " فنعم القادرون " وقيل : معناهما واحد . وقوله : ( فنعم القادرون ) أي المقدرون . ( ويل يومئذ للمكذبين ألم نجعل الأرض كفاتا ) وعاء ، ومعنى الكفت : الضم والجمع ، [ ص: 306 ] يقال : كفت الشيء : إذا ضمه وجمعه . وقال الفراء : يريد تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم ، وتكفتهم أمواتا في بطنها ، أي : تحوزهم .
    ( أحياء ‎وأمواتا ( 26 ) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا ( 27 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 28 ) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ( 29 ) انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ( 30 ) لا ظليل ولا يغني من اللهب ( 31 ) إنها ترمي بشرر كالقصر ( 32 ) )

    وهو قوله ( أحياء ‎وأمواتا وجعلنا فيها رواسي ) جبالا ( شامخات ) عاليات ، ( وأسقيناكم ماء فراتا ) عذبا . ( ويل يومئذ للمكذبين ) قال مقاتل : وهذا كله أعجب من البعث . ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون )

    ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ) في الدنيا . ( انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ) يعني دخان جهنم إذا ارتفع انشعب وافترق ثلاث فرق . وقيل : يخرج عنق من النار فيتشعب ثلاث شعب ، أما النور فيقف على رءوس المؤمنين ، والدخان يقف على رءوس المنافقين ، واللهب الصافي يقف على رءوس الكافرين . ثم وصف ذلك الظل فقال - عز وجل - ( لا ظليل ) لا يظل من الحر ( ولا يغني من اللهب ) قال الكلبي : لا يرد لهب جهنم عنكم ، والمعنى أنهم [ إذا ] استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم حر اللهب . ( إنها ) يعني جهنم ( ترمي بشرر ) وهو ما تطاير من النار ، واحدها شررة ( كالقصر ) وهو البناء العظيم ، قال ابن مسعود : يعني الحصون .

    وقال عبد الرحمن بن عياش سألت ابن عباس عن قوله تعالى : " إنها ترمي بشرر كالقصر " قال : هي الخشب العظام المقطعة ، وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندخرها للشتاء ، فكنا نسميها القصر .

    وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام ، واحدتها قصرة ، مثل [ ص: 307 ] تمرة وتمر ، وجمرة وجمر .

    وقرأ علي وابن عباس " كالقصر " بفتح الصاد ، أي أعناق النخل ، والقصرة العنق ، وجمعها قصر وقصرات .
    ( كأنه جمالة صفر ( 33 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 34 ) هذا يوم لا ينطقون ( 35 ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( 36 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 37 ) هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ( 38 ) فإن كان لكم كيد فكيدون ( 39 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 40 ) إن المتقين في ظلال وعيون ( 41 ) وفواكه مما يشتهون ( 42 ) )

    ( كأنه ) رد الكناية إلى اللفظ ( جمالة ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " جمالة " على جمع الجمل ، مثل حجر وحجارة ، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف ، أراد : الأشياء العظام المجموعة ، وقرأ الآخرون : " جمالات " بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال ، ( صفر ) جمع الأصفر ، يعني لون النار ، وقيل : " الصفر " معناه : السود ؛ لأنه جاء في الحديث : " إن شرر نار جهنم أسود كالقير " . والعرب تسمى سود الإبل صفرا ؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة كما يقال لبيض الظباء : أدم ؛ لأن بياضها يعلوه كدرة . ( ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ) وفي القيامة مواقف ، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون . ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) رفع ، عطف على قوله : " يؤذن " قال الجنيد : أي لا عذر لمن أعرض عن منعمه وكفر بأياديه ونعمه . ( ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل ) بين أهل الجنة والنار ( جمعناكم والأولين ) يعني مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم . ( فإن كان لكم كيد فكيدون ) قال مقاتل : إن كانت لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم . ( ويل يومئذ للمكذبين إن المتقين في ظلال ) جمع ظل أي في ظلال الشجر ( وعيون ) الماء .

    ( وفواكه مما يشتهون ) .
    [ ص: 308 ] ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ( 43 ) إنا كذلك نجزي المحسنين ( 44 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 45 ) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ( 46 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 47 ) وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ( 48 ) ويل يومئذ للمكذبين ( 49 ) فبأي حديث بعده يؤمنون ( 50 ) )

    ويقال لهم ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ) في الدنيا بطاعتي .

    ( إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين ) .

    ثم قال لكفار مكة : ( كلوا وتمتعوا قليلا ) في الدنيا ( إنكم مجرمون ) مشركون بالله - عز وجل - مستحقون للعذاب . ( إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا ) صلوا ( لا يركعون ) لا يصلون . وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - : إنما يقال لهم هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون . ( ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده ) بعد القرآن ( يؤمنون ) إذا لم يؤمنوا به .

    سُورَةُ النَّبَأِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) )

    ( عَمَّ ) أَصْلُهُ : " عَنْ مَا " فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْمِيمِ وَحُذِفَتْ أَلِفُ " مَا " [ كَقَوْلِهِ ] " فِيمَ " وَ " بِمَ " ؟ ( يَتَسَاءَلُونَ ) أَيْ : عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ : مَاذَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ الزَّجَّاجُ : اللَّفْظُ لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ وَمَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ ، كَمَا تَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ زَيْدٌ ؟ إِذَا عَظَّمْتَ [ أَمْرَهُ ] وَشَأْنَهُ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ عَمَّاذَا فَقَالَ : ( عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُون َ : هُوَ الْقُرْآنُ ، دَلِيلُهُ : قَوْلُهُ : " قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ " ( ص - 67 ) وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ الْبَعْثُ . ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) فَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ ( كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) " كَلَّا " نَفْيٌ لِقَوْلِهِمْ ، " سَيَعْلَمُونَ " عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ حِينَ تَنْكَشِفُ الْأُمُورُ . ( ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِثْرِ وَعِيدٍ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : " كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " يَعْنِي الْكَافِرِينَ ، " ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ " يَعْنِي : الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ ذَكَرَ صَنَائِعَهُ لِيَعْلَمُوا تَوْحِيدَهُ فَقَالَ : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا )
    ( ألم نجعل الأرض مهادا ( 6 ) والجبال أوتادا ( 7 ) وخلقناكم أزواجا ( 8 ) وجعلنا نومكم سباتا ( 9 ) وجعلنا الليل لباسا ( 10 ) وجعلنا النهار معاشا ( 11 ) وبنينا فوقكم سبعا شدادا ( 12 ) وجعلنا سراجا وهاجا ( 13 ) وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ( 14 ) )

    ( ألم نجعل الأرض مهادا ) فراشا . [ ص: 312 ] ( والجبال أوتادا ) للأرض حتى لا تميد . ( وخلقناكم أزواجا ) أصنافا ذكورا وإناثا . ( وجعلنا نومكم سباتا ) أي راحة لأبدانكم . قال الزجاج : " السبات " أن ينقطع عن الحركة والروح فيه . وقيل : معناه جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم ، لأن أصل السبت : القطع . ( وجعلنا الليل لباسا ) غطاء وغشاء يستر كل شيء بظلمته . ( وجعلنا النهار معاشا ) المعاش : العيش ، وكل ما يعاش فيه فهو معاش ، أي جعلنا النهار سببا للمعاش والتصرف في المصالح . قال [ ابن عباس ] يريد : تبتغون فيه من فضل الله ، وما قسم لكم من رزقه . ( وبنينا فوقكم سبعا شدادا ) يريد سبع سماوات . ( وجعلنا سراجا ) [ يعني الشمس ] ( وهاجا ) مضيئا منيرا . قال الزجاج : الوهاج : الوقاد . قال مقاتل : جعل فيه نورا وحرارة ، والوهج يجمع النور والحرارة . ( وأنزلنا من المعصرات ) قال مجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي : يعني الرياح التي تعصر السحاب ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس .

    قال الأزهري : هي الرياح ذوات الأعاصير ، فعلى هذا التأويل تكون " من " بمعنى الباء أي بالمعصرات ، وذلك أن الريح تستدر المطر .

    وقال أبو العالية ، والربيع ، والضحاك : المعصرات هي السحاب وهي رواية الوالبي عن ابن عباس . [ ص: 313 ]

    قال الفراء : [ المعصرات السحائب ] [ التي ] تتحلب بالمطر ولا تمطر ، كالمرأة المعصر هي التي دنا حيضها ولم تحض .

    وقال ابن كيسان : هي المغيثات من قوله فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

    وقال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان : من المعصرات أي من السماوات .

    ( ماء ثجاجا ) أي صبابا ، وقال مجاهد : مدرارا . وقال قتادة : متتابعا يتلو بعضه بعضا . وقال ابن زيد : كثيرا .
    ( لنخرج به حبا ونباتا ( 15 ) وجنات ألفافا ( 16 ) إن يوم الفصل كان ميقاتا ( 17 ) يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ( 18 ) وفتحت السماء فكانت أبوابا ( 19 ) )

    ( لنخرج به ) أي بذلك الماء ( حبا ) وهو ما يأكله الناس ( ونباتا ) ما تنبته الأرض مما تأكله الأنعام . ( وجنات ألفافا ) ملتفة بالشجر ، واحدها لف ولفيف ، وقيل : هو جمع الجمع ، يقال : جنة لفا ، وجمعها لف ، بضم اللام ، وجمع الجمع ألفاف . ( إن يوم الفصل ) يوم القضاء بين الخلق ( كان ميقاتا ) لما وعد الله من الثواب والعقاب . ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) زمرا [ زمرا ] من كل مكان للحساب . ( وفتحت السماء ) قرأ أهل الكوفة : " فتحت " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، أي شقت لنزول الملائكة ( فكانت أبوابا ) أي ذات أبواب . وقيل : تنحل ، وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق .
    [ ص: 314 ] ( وسيرت الجبال فكانت سرابا ( 20 ) إن جهنم كانت مرصادا ( 21 ) للطاغين مآبا ( 22 ) لابثين فيها أحقابا ( 23 ) )

    ( وسيرت الجبال ) عن وجه الأرض ( فكانت سرابا ) أي هباء منبثا لعين الناظر كالسراب . ( إن جهنم كانت مرصادا ) طريقا وممرا فلا سبيل لأحد إلى الجنة حتى يقطع النار .

    وقيل : " كانت مرصادا " أي : معدة لهم ، يقال : أرصدت له [ الشيء ] إذا أعددته له .

    وقيل : هو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته . " والمرصاد " المكان الذي يرصد الراصد فيه العدو . وقوله : " إن جهنم كانت مرصادا " أي ترصد الكفار .

    وروى مقسم عن ابن عباس : أن على جسر جهنم سبعة محابس يسأل العبد عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم فإن جاء به تاما جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحج فإن جاء به تاما جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن [ أجابها ] تامة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلا يقال : انظروا فإن كان له تطوع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ منه انطلق به إلى الجنة . ( للطاغين ) للكافرين ( مآبا ) مرجعا يرجعون إليه . ( لابثين ) قرأ حمزة ويعقوب : " لبثين " بغير ألف ، وقرأ العامة " لابثين " [ بالألف ] وهما لغتان . ( فيها أحقابا ) جمع حقب ، والحقب الواحد : ثمانون سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم ألف سنة . روي ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .

    وقال مجاهد : " الأحقاب " ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة . [ ص: 315 ]

    قال الحسن : إن الله لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال : " لابثين فيها أحقابا " فوالله ما هو إلا [ إذا ] مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد ، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود .

    وروى السدي عن مرة عن عبد الله قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا .

    وقال مقاتل بن حيان : الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة . قال : وهذه الآية منسوخة نسختها فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل .
    ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ( 24 ) إلا حميما وغساقا ( 25 ) جزاء وفاقا ( 26 ) إنهم كانوا لا يرجون حسابا ( 27 ) وكذبوا بآياتنا كذابا ( 28 ) وكل شيء أحصيناه كتابا ( 29 ) )

    ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) روي عن ابن عباس : أن البرد النوم ، ومثله قال الكسائي و [ قال ] أبو عبيدة ، تقول العرب : منع البرد البرد أي أذهب البرد النوم . وقال الحسن وعطاء : " لا يذوقون فيها بردا " أي : روحا وراحة . وقال مقاتل : " لا يذوقون فيها بردا " ينفعهم من حر ، " ولا شرابا " ينفعهم من عطش . ( إلا حميما وغساقا ) قال ابن عباس : " الغساق " الزمهرير يحرقهم ببرده . وقيل : صديد أهل النار ، وقد ذكرناه في سورة " ص " ( جزاء وفاقا ) أي جزيناهم جزاء وافق أعمالهم . قال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) لا يخافون أن يحاسبوا ، والمعنى : أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم محاسبون . ( وكذبوا بآياتنا ) أي بما جاءت به الأنبياء ( كذابا ) تكذيبا ، قال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون في مصدر التفعيل فعال وقال : قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحلق أحب [ ص: 316 ] إليك أم القصار ؟ . ( وكل شيء أحصيناه كتابا ) أي وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ ، كقوله : " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ( يس - 12 ) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #428
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (423)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النازعات
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 12


    ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ( 30 ) إن للمتقين مفازا ( 31 ) حدائق وأعنابا ( 32 ) وكواعب أترابا ( 33 ) وكأسا دهاقا ( 34 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ( 35 ) جزاء من ربك عطاء حسابا ( 36 ) رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ( 37 ) )

    ( فذوقوا ) أي يقال لهم : فذوقوا ، ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) قوله - عز وجل - : ( إن للمتقين مفازا ) فوزا ونجاة من النار ، وقال الضحاك : متنزها . ( حدائق وأعنابا ) يريد أشجار الجنة وثمارها . ( وكواعب ) جواري نواهد قد تكعبت ثديهن ، واحدتها كاعب ، ( أترابا ) مستويات في السن . ( وكأسا دهاقا ) قال ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد : مترعة مملوءة . وقال سعيد بن جبير ومجاهد : متتابعة . قال عكرمة : صافية . ( لا يسمعون فيها لغوا ) باطلا من الكلام ( ولا كذابا ) تكذيبا ، لا يكذب بعضهم بعضا . وقرأ الكسائي " كذابا " بالتخفيف مصدر [ كاذب ] كالمكاذبة ، وقيل : هو الكذب . وقيل : هو بمعنى التكذيب كالمشدد . ( جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي جازاهم جزاء وأعطاهم عطاء " حسابا " أي : كافيا وافيا ، يقال : أحسبت فلانا ، أي أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي . وقال ابن قتيبة : " عطاء حسابا " أي كثيرا وقيل : هو جزاء بقدر أعمالهم . ( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو : " رب " رفع على الاستئناف و " الرحمن " خبره . وقرأ الآخرون بالجر إتباعا لقوله : " من ربك " وقرأ ابن عامر ، [ ص: 317 ] وعاصم ، ويعقوب : " الرحمن " جرا إتباعا لقوله : " رب السماوات " وقرأ الآخرون بالرفع ، فحمزة والكسائي يقرآن " رب " بالخفض لقربه من قوله : " جزاء من ربك " ويقرآن " الرحمن " بالرفع لبعده منه على الاستئناف ، وقوله : ( لا يملكون ) في موضع رفع ، خبره .

    ومعنى ( لا يملكون منه خطابا ) قال مقاتل : لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه . وقال الكلبي : لا يملكون شفاعة إلا بإذنه .
    ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ( 38 ) )

    ( يوم يقوم الروح ) أي في ذلك اليوم ( والملائكة صفا ) واختلفوا في هذا الروح ، قال الشعبي والضحاك : هو جبريل .

    وقال عطاء عن ابن عباس : " الروح " ملك من الملائكة ما خلق الله مخلوقا أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا واحدا ، فيكون عظم خلقه مثلهم .

    وعن ابن مسعود قال : الروح ملك أعظم من السماوات ومن الجبال ، ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة ، يسبح كل يوم اثني عشر [ ألف ] تسبيحة ، يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده .

    وقال مجاهد ، وقتادة ، وأبو صالح : " الروح " خلق على صورة بني آدم ليسوا بناس يقومون صفا والملائكة صفا ، هؤلاء جند وهؤلاء جند .

    وروى مجاهد عن ابن عباس قال : هم خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم .

    وقال الحسن : هم بنو آدم . ورواه قتادة عن ابن عباس ، وقال : هذا مما كان يكتمه ابن عباس .

    [ ص: 318 ] " والملائكة صفا " قال الشعبي : هما سماطا رب العالمين ، يوم يقوم سماط من الروح وسماط من الملائكة .

    ( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) في الدنيا ، أي حقا . وقيل : قال : لا إله إلا الله .
    ( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ( 39 ) إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ( 40 ) )

    ( ذلك اليوم الحق ) الكائن الواقع يعني يوم القيامة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) مرجعا وسبيلا بطاعته ، أي : فمن شاء رجع إلى الله بطاعته . ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) يعني العذاب في الآخرة ، وكل ما هو آت قريب . ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) أي كل امرئ يرى في ذلك اليوم ما قدم من العمل مثبتا في صحيفته ، ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا )

    قال عبد الله بن عمرو : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشرت الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يجعل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء تنطحها ، فإذا فرغ من القصاص قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا ومثله عن مجاهد .

    وقال مقاتل : يجمع الله الوحوش والهوام والطير فيقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يقول لهم : أنا خلقتكم وسخرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين إياهم أيام حياتكم ، فارجعوا إلى الذي [ ص: 319 ] كنتم ، كونوا ترابا ، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا ، يتمنى فيقول : يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير ، وكنت اليوم ترابا .

    وعن [ أبي الزناد عبد الله بن ذكوان ] قال : إذا قضى الله بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، وقيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن عودوا ترابا فيعودون ترابا ، فحينئذ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا وبه قال ليث بن [ أبي ] سليم ، مؤمنو الجن يعودون ترابا

    وقيل : إن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم وأنه خلق من التراب وافتخر بأنه خلق من النار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والرحمة ، وما هو فيه من الشدة والعذاب ، قال : يا ليتني كنت ترابا قال أبو هريرة فيقول : التراب لا ولا كرامة لك ، من جعلك مثلي ؟
    سُورَةُ النَّازِعَاتِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( 1 ) )

    ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ ، كَمَا يُغْرِقُ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ فَيَبْلُغُ بِهَا غَايَةَ الْمَدِّ بَعْدَ مَا نَزَعَهَا حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ رَدَّهَا فِي جَسَدِهِ فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ ، وَ " الْغَرْقُ " اسْمٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِغْرَاقِ ، أَيْ : وَالنَّازِعَاتِ إِغْرَاقًا ، وَالْمُرَادُ بِالْإِغْرَاقِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ .

    قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يَنْزِعُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ [ وَأَعْوَانُهُ ] مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ وَمِنَ الْأَظَافِيرِ وَأُصُولِ الْقَدَمَيْنِ [ وَيُرَدِّدُهَا فِي جَسَدِهِ بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا ] حَتَّى إِذَا كَادَتْ تَخْرُجُ رَدَّهَا فِي جَسَدِهِ بَعْدَمَا يَنْزِعُهَا ، فَهَذَا عَمَلُهُ بِالْكُفَّارِ .

    وَقَالَ مُقَاتِلٌ : مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ يَنْزِعُونَ [ أَرْوَاحَ ] الْكُفَّارِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ الْكَثِيرُ الشُّعَبِ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ ، فَتَخْرُجُ نَفْسُهُ كَالْغَرِيقِ فِي الْمَاءِ .

    وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ الْمَوْتُ يَنْزِعُ النُّفُوسَ . [ ص: 324 ]

    وَقَالَ السُّدِّيُّ : هِيَ النَّفْسُ حِينَ تَغْرَقُ فِي الصَّدْرِ

    وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ كَيْسَانَ : هِيَ النُّجُومُ تُنْزَعُ مِنْ أُفُقٍ إِلَى أُفُقٍ تَطْلُعُ ثُمَّ تَغِيبُ . وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ : هِيَ الْقِسِيُّ . وَقِيلَ : الْغُزَاةُ الرُّمَاةُ .
    ( والناشطات نشطا ( 2 ) والسابحات سبحا ( 3 ) )

    ( والناشطات نشطا ) [ هي ] الملائكة تنشط نفس المؤمن ، أي تحل حلا رفيقا فتقبضها ، كما ينشط العقال من يد البعير ، أي يحل برفق ، حكى الفراء هذا القول ، ثم قال : والذي سمعت من العرب أن يقولوا : أنشطت العقال ، إذا حللته ، وأنشطته : إذا عقدته بأنشوطة . وفي الحديث : " كأنما أنشط من عقال " .

    وعن ابن عباس : هي نفس المؤمن تنشط للخروج عند الموت ، لما يرى من الكرامة لأنه تعرض عليه الجنة قبل أن يموت .

    وقال علي بن أبي طالب : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكرب والغم ، والنشط : الجذب والنزع ، يقال : نشطت الدلو نشطا إذا نزعتها قال الخليل : النشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك ، حتى ينحل .

    وقال مجاهد : هو الموت ينشط النفوس . وقال السدي : هي النفس تنشط من القدمين أي تجذب . وقال قتادة : هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق ، أي تذهب ، يقال : نشط من بلد إلى بلد ، إذا خرج في سرعة ، ويقال : حمار ناشط ، ينشط من بلد إلى بلد ، وقال عطاء وعكرمة : هي [ الأوهاق ] . ( والسابحات سبحا ) هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين يسلونها سلا رفيقا ، ثم يدعونها حتى تستريح كالسابح بالشيء في الماء يرفق به . [ ص: 325 ]

    وقال مجاهد وأبو صالح : هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد يقال له سابح إذا أسرع في جريه .

    وقيل : هي خيل الغزاة . وقال قتادة : هي النجوم والشمس [ والقمر ] قال الله تعالى : " كل في فلك يسبحون " ( الأنبياء - 33 ) .

    وقال عطاء : هي السفن .
    ( فالسابقات سبقا ( 4 ) فالمدبرات أمرا ( 5 ) )

    ( فالسابقات سبقا ) قال مجاهد : هي الملائكة [ تسبق ] ابن آدم بالخير والعمل الصالح .

    وقال مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة .

    وعن ابن مسعود قال : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقا إلى لقاء الله وكرامته ، وقد عاينت السرور .

    وقال قتادة : هي النجوم يسبق بعضها بعضا في السير . وقال عطاء : هي الخيل . ( فالمدبرات أمرا ) قال ابن عباس : هم الملائكة وكلوا بأمور عرفهم الله - عز وجل - العمل بها .

    قال [ عبد الرحمن ] بن سابط : يدبر [ الأمور ] في الدنيا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل ، عليهم السلام ، أما جبريل : فموكل بالريح والجنود ، وأما ميكائيل : فموكل بالقطر والنبات ، وأما ملك الموت : فموكل بقبض [ الأرواح ] وأما إسرافيل : فهو ينزل بالأمر عليهم .

    وجواب هذه الأقسام محذوف ، على تقدير : لتبعثن ولتحاسبن . [ ص: 326 ]

    وقيل : جوابه [ قوله ] " إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " .

    وقيل : فيه تقديم [ وتأخير ] تقديره : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة والنازعات غرقا .
    ( يوم ترجف الراجفة ( 6 ) تتبعها الرادفة ( 7 ) )

    قوله - عز وجل - : ( يوم ترجف الراجفة ) يعني النفخة الأولى ، يتزلزل ويتحرك لها كل شيء ، ويموت منها جميع [ الخلائق ] . ( تتبعها الرادفة ) وهي النفخة الثانية ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة .

    قال قتادة : هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء ، والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله - عز وجل - .

    وقال مجاهد : ترجف الراجفة تتزلزل الأرض والجبال ، تتبعها الرادفة حين تنشق السماء ، وتحمل الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة وقال عطاء : " الراجفة " القيامة و " الرادفة " البعث . وأصل الرجفة : الصوت والحركة .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، حدثنا محمد بن هارون الحضرمي ، حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبي بن كعب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربع الليل قام ، وقال : " يا أيها الناس اذكروا الله ، [ اذكروا الله ] جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ، [ ص: 327 ] [ جاء الموت بما فيه ] " .
    ( قلوب يومئذ واجفة ( 8 ) أبصارها خاشعة ( 9 ) يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ( 10 ) أئذا كنا عظاما نخرة ( 11 ) قالوا تلك إذا كرة خاسرة ( 12 ) )

    ( قلوب يومئذ واجفة ) خائفة قلقة مضطربة ، وسمي " الوجيف " في السير ، لشدة اضطرابه ، يقال : وجف القلب ووجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا . وقال مجاهد : وجلة . وقال السدي : زائلة عن أماكنها ، نظيره " إذ القلوب لدى الحناجر " ( غافر - 18 ) . ( أبصارها خاشعة ) ذليلة ، كقوله : " خاشعين من الذل " ( الشورى - 45 ) الآية . ( يقولون ) يعني المنكرين للبعث إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت : ( أئنا لمردودون في الحافرة ) أي : إلى أول الحال وابتداء الأمر ، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا ؟ تقول العرب : رجع فلان في حافرته ، أي رجع من حيث جاء ، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء ، [ وأول الشيء ] .

    وقال بعضهم : " الحافرة " وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم ، سميت حافرة بمعنى المحفورة ، كقوله : " عيشة راضية " أي مرضية .

    وقيل : سميت حافرة لأنها مستقر [ الحوافر ] أي أئنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا نمشي عليها ؟ وقال ابن زيد : " الحافرة " النار . ( أئذا كنا عظاما نخرة ) قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب : " أئنا " ؟ مستفهما ، " إذا " بتركه ، ضده أبو جعفر ، [ الباقون ] باستفهامهما ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو : " عظاما ناخرة " ، وقرأ الآخرون " نخرة " وهما لغتان ، مثل الطمع والطامع والحذر والحاذر ، ومعناهما البالية ، وفرق قوم بينهما ، فقالوا : النخرة : البالية ، والناخرة : المجوفة التي تمر فيها الريح فتنخر ، أي : تصوت . ( قالوا ) يعني المنكرين ( تلك إذا كرة خاسرة ) رجعة خائبة ، يعني إن رددنا بعد الموت [ ص: 328 ] لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #429
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (424)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النازعات
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 13 إلى الاية 31

    ( فإنما هي زجرة واحدة ( 13 ) فإذا هم بالساهرة ( 14 ) هل أتاك حديث موسى ( 15 ) إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ( 16 ) اذهب إلى فرعون إنه طغى ( 17 ) فقل هل لك إلى أن تزكى ( 18 ) وأهديك إلى ربك فتخشى ( 19 ) فأراه الآية الكبرى ( 20 ) )

    قال الله - عز وجل - ( فإنما هي ) يعني النفخة الأخيرة ( زجرة ) صيحة ( واحدة ) يسمعونها . ( فإذا هم بالساهرة ) يعني : وجه الأرض ، أي صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض : ساهرة . قال بعض أهل اللغة تراهم سموها ساهرة لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم . قال سفيان : هي أرض الشام وقال قتادة : هي جهنم قوله - عز وجل - : ( هل أتاك حديث موسى ) يقول : قد جاءك يا محمد حديث موسى . ( إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ) فقال يا موسى ( اذهب إلى فرعون إنه طغى ) علا وتكبر وكفر بالله . ( فقل هل لك إلى أن تزكى ) قرأ أهل الحجاز ويعقوب بتشديد الزاي : أي تتزكى وتتطهر من الشرك ، وقرأ الآخرون [ بالتخفيف ] [ وأصله تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي في القراءة الأولى وحذفت في الثانية ، ومعناه تتطهر من الشرك ] أي : تسلم وتصلح ، قال ابن عباس : تشهد أن لا إله إلا الله . ( وأهديك إلى ربك فتخشى ) أي : أدعوك إلى عبادة ربك وتوحيده فتخشى عقابه . ( فأراه الآية الكبرى ) وهي العصا واليد البيضاء .
    [ ص: 329 ] ( فكذب وعصى ( 21 ) ثم أدبر يسعى ( 22 ) فحشر فنادى ( 23 ) فقال أنا ربكم الأعلى ( 24 ) فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ( 25 ) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ( 26 ) أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ( 27 ) رفع سمكها فسواها ( 28 ) وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ( 29 ) والأرض بعد ذلك دحاها ( 30 ) )

    ( فكذب ) بأنهما من الله ( وعصى ) ( ثم أدبر ) تولى وأعرض عن الإيمان ( يسعى ) يعمل بالفساد في الأرض . ( فحشر ) فجمع قومه وجنوده ( فنادى ) لما اجتمعوا . ( فقال أنا ربكم الأعلى ) فلا رب فوقي . وقيل : أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربكم وربها . ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) قال الحسن وقتادة : عاقبه الله فجعله نكال الآخرة والأولى ، أي في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار .

    وقال مجاهد وجماعة من المفسرين : أراد بالآخرة والأولى كلمتي فرعون قوله : " ما علمت لكم من إله غيري " ( القصص - 38 ) وقوله : " أنا ربكم الأعلى " وكان بينهما أربعون سنة . ( إن في ذلك ) الذي فعل بفرعون حين كذب وعصى ( لعبرة ) لعظة ( لمن يخشى ) الله - عز وجل - . ثم خاطب منكري البعث فقال ( أأنتم أشد خلقا أم السماء ) يعني أخلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء ؟ وهما في قدرة الله واحد ، كقوله " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " ( غافر - 57 ) ثم وصف خلق السماء فقال : ( بناها ) ( رفع سمكها ) سقفها ( فسواها ) بلا شطور [ ولا شقوق ] ولا فطور . ( وأغطش ) أظلم ( ليلها ) والغطش والغبش الظلمة ( وأخرج ضحاها ) أبرز وأظهر نهارها ونورها ، وأضافهما إلى السماء لأن الظلمة والنور كلاهما ينزل من السماء . ( والأرض بعد ذلك ) بعد خلق السماء ( دحاها ) بسطها ، والدحو البسط . قال ابن عباس : خلق الله الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن [ ص: 330 ] سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .

    وقيل : معناه : والأرض مع ذلك دحاها ، كقوله - عز وجل - : " عتل بعد ذلك زنيم " ( القلم - 13 ) أي مع ذلك .
    ( أخرج منها ماءها ومرعاها ( 31 ) والجبال أرساها ( 32 ) متاعا لكم ولأنعامكم ( 33 ) فإذا جاءت الطامة الكبرى ( 34 ) يوم يتذكر الإنسان ما سعى ( 35 ) وبرزت الجحيم لمن يرى ( 36 ) فأما من طغى ( 37 ) وآثر الحياة الدنيا ( 38 ) فإن الجحيم هي المأوى ( 39 ) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ( 40 ) فإن الجنة هي المأوى ( 41 ) يسألونك عن الساعة أيان مرساها ( 42 ) فيم أنت من ذكراها ( 43 ) إلى ربك منتهاها ( 44 ) )

    ( أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامة الكبرى ) يعني النفخة الثانية التي فيها البعث وقامت القيامة ، وسميت القيامة : " طامة " لأنها تطم على كل هائلة من الأمور ، فتعلو فوقها وتغمر ما سواها ، و " الطامة " عند العرب : الداهية التي لا تستطاع . ( يوم يتذكر الإنسان ما سعى ) ما عمل في الدنيا من خير وشر . ( وبرزت الجحيم لمن يرى ) قال مقاتل يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق . ( فأما من طغى ) في كفره . ( وآثر الحياة الدنيا ) على الآخرة . ( فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ) عن المحارم التي تشتهيها ، قال مقاتل : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها . ( فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) متى ظهورها وثبوتها . ( فيم أنت من ذكراها ) لست في شيء من علمها وذكرها ، أي لا تعلمها . ( إلى ربك منتهاها ) أي منتهى علمها عند الله .
    [ ص: 331 ] ( إنما أنت منذر من يخشاها ( 45 ) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( 46 ) )

    ( إنما أنت منذر من يخشاها ) قرأ أبو جعفر : " منذر " بالتنوين أي [ إنما أنت ] مخوف من يخاف قيامها ، أي : إنما ينفع إنذارك من يخافها . ( كأنهم ) يعني كفار قريش ( يوم يرونها ) يعاينون يوم القيامة ( لم يلبثوا ) في الدنيا ، وقيل : في قبورهم ( إلا عشية أو ضحاها ) قال الفراء : ليس للعشية ضحى ، إنما الضحى لصدر النهار ، ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشية أو غداتها ، إنما معناه : آخر يوم أو أوله ، نظيره : قوله " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " ( الأحقاف - 35 ) .
    سورة عبس

    مكية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( عبس وتولى ( 1 ) أن جاءه الأعمى ( 2 ) )

    ( عبس ) كلح ( وتولى ) أعرض بوجهه . ( أن جاءه الأعمى ) [ أي : لأن جاءه الأعمى ] وهو ابن أم مكتوم ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي ، وذلك أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأخاه أمية ، يدعوهم إلى الله ، يرجو إسلامهم ، فقال ابن أم مكتوم : [ يا رسول الله ] أقرئني وعلمني مما علمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ، ولا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد : إنما أتباعه العميان والعبيد والسفلة ، فعبس وجهه وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فأنزل الله هذه الآيات ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما ، قال أنس بن مالك : فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه [ ص: 336 ] راية سوداء .
    ( وما يدريك لعله يزكى ( 3 ) أو يذكر فتنفعه الذكرى ( 4 ) أما من استغنى ( 5 ) فأنت له تصدى ( 6 ) وما عليك ألا يزكى ( 7 ) وأما من جاءك يسعى ( 8 ) وهو يخشى ( 9 ) فأنت عنه تلهى ( 10 ) كلا إنها تذكرة ( 11 ) فمن شاء ذكره ( 12 ) في صحف مكرمة ( 13 ) )

    ( وما يدريك لعله يزكى ) يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح وما يتعلمه منك ، وقال ابن زيد : يسلم . ( أو يذكر ) يتعظ ( فتنفعه الذكرى ) الموعظة قرأ عاصم : " فتنفعه " بنصب العين على جواب " لعل " بالفاء ، وقراءة العامة بالرفع نسقا على قوله : " يذكر " . ( أما من استغنى ) قال ابن عباس : عن الله وعن الإيمان بما له من المال . ( فأنت له تصدى ) تتعرض له وتقبل عليه وتصغي إلى كلامه ، وقرأ أهل الحجاز : " تصدى " بتشديد الصاد على الإدغام ، أي : تتصدى ، وقرأ الآخرون بتخفيف الصاد على الحذف . ( وما عليك ألا يزكى ) لا يؤمن ولا يهتدي ، إن عليك إلا البلاغ . ( وأما من جاءك يسعى ) يمشي يعني : ابن أم مكتوم . ( وهو يخشى ) الله - عز وجل - . ( فأنت عنه تلهى ) تتشاغل وتعرض [ عنه ] ( كلا ) زجر ، أي لا تفعل بعدها مثلها ، ( إنها ) يعني هذه الموعظة . وقال مقاتل : آيات القرآن ( تذكرة ) موعظة وتذكير للخلق . ( فمن شاء ) من عباد الله ( ذكره ) أي اتعظ به . وقال مقاتل : فمن شاء الله ، ذكره وفهمه ، واتعظ بمشيئته وتفهيمه ، والهاء في " ذكره " راجعة إلى القرآن والتنزيل والوعظ . ثم أخبر عن جلالته عنده فقال ( في صحف مكرمة ) يعني اللوح المحفوظ . وقيل : كتب الأنبياء عليهم السلام ، دليله قوله [ ص: 337 ] تعالى : " إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى " ( الأعلى 18 - 19 ) .
    ( مرفوعة مطهرة ( 14 ) بأيدي سفرة ( 15 ) كرام بررة ( 16 ) قتل الإنسان ما أكفره ( 17 ) من أي شيء خلقه ( 18 ) من نطفة خلقه فقدره ( 19 ) ثم السبيل يسره ( 20 ) ثم أماته فأقبره ( 21 ) )

    ( مرفوعة ) رفيعة القدر عند الله - عز وجل - ، وقيل : مرفوعة يعني في السماء السابعة . ( مطهرة ) لا يمسها إلا المطهرون ، وهم الملائكة . ( بأيدي سفرة ) قال ابن عباس ومجاهد : كتبة ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون ، واحدهم سافر ، يقال : سفرت أي كتبت . ومنه قيل [ للكاتب : سافر ، و ] للكتاب : سفر وجمعه : أسفار .

    وقال الآخرون : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير ، وهو الرسول ، وسفير القوم الذي يسعى بينهم للصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم . ثم أثنى عليهم فقال : ( كرام بررة ) أي : كرام على الله ، بررة مطيعين ، جمع بار . قوله - عز وجل - : ( قتل الإنسان ) أي لعن الكافر . قال مقاتل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ( ما أكفره ) ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده ، على طريق التعجب ، قال الزجاج : معناه : اعجبوا أنتم من كفره . وقال الكلبي ومقاتل : هو " ما " الاستفهام ، يعني : أي شيء حمله على الكفر ؟ ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه فقال : ( من أي شيء خلقه ) لفظه استفهام ومعناه التقرير . ثم فسره فقال : ( من نطفة خلقه فقدره ) أطوارا : نطفة ثم علقة إلى آخر خلقه ، قال الكلبي : قدر خلقه ، رأسه وعينيه ويديه ورجليه . ( ثم السبيل يسره ) أي طريق خروجه من بطن أمه . قال السدي ومقاتل ، والحسن ومجاهد : يعني طريق الحق والباطل ، سهل له العلم به ، كما قال : " إنا هديناه السبيل " ( الإنسان - 3 ) " وهديناه النجدين " ( البلد - 10 ) وقيل : يسر على كل أحد ما خلقه له وقدره عليه . ( ثم أماته فأقبره ) جعل له قبرا يوارى فيه . قال الفراء : جعله مقبورا ولم يجعله ممن يلقى كالسباع والطيور . يقال : قبرت الميت إذا دفنته ، وأقبره الله : أي صيره بحيث يقبر ، وجعله ذا قبر ، [ ص: 338 ] كما يقال : طردت فلانا والله أطرده أي صيره طريدا .
    ( ثم إذا شاء أنشره ( 22 ) كلا لما يقض ما أمره ( 23 ) فلينظر الإنسان إلى طعامه ( 24 ) أنا صببنا الماء صبا ( 25 ) ثم شققنا الأرض شقا ( 26 ) فأنبتنا فيها حبا ( 27 ) وعنبا وقضبا ( 28 ) وزيتونا ونخلا ( 29 ) وحدائق غلبا ( 30 ) وفاكهة وأبا ( 31 ) )

    ( ثم إذا شاء أنشره ) أحياه بعد موته . ( كلا ) ردا عليه ، أي : ليس كما يقول ويظن هذا الكافر ، وقال الحسن : حقا . ( لما يقض ما أمره ) أي لم يفعل ما أمره [ الله به ] ولم يؤد ما فرض عليه ، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فقال : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ( كيف قدره ربه ودبره له وجعله سببا لحياته . وقال مجاهد : إلى مدخله ومخرجه . ثم بين فقال : ( أنا ) قرأ أهل [ الكوفة ] " أنا " [ بالفتح ] على تكرير الخافض ، مجازه : فلينظر إلى أنا وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف . ( صببنا الماء صبا ) يعني المطر . ( ثم شققنا الأرض شقا ) بالنبات . ( فأنبتنا فيها حبا ) يعني الحبوب التي يتغذى بها . ( وعنبا وقضبا ) وهو القت الرطب ، سمي بذلك لأنه يقضب في كل الأيام أي يقطع . وقال الحسن : القضب : العلف للدواب . ( وزيتونا ) وهو ما يعصر منه الزيت ( ونخلا ) جمع نخلة . ( وحدائق غلبا ) غلاظ الأشجار ، واحدها أغلب ، ومنه قيل لغليظ الرقبة : أغلب . وقال مجاهد ومقاتل : الغلب : الملتفة الشجر بعضه في بعض ، قال ابن عباس : طوالا . ( وفاكهة ) يريد ألوان الفواكه ( وأبا ) يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس ، مما يأكله الأنعام والدواب . [ ص: 339 ]

    قال عكرمة : " الفاكهة " ما يأكله الناس ، و " الأب " ما يأكله الدواب . ومثله عن قتادة قال : الفاكهة لكم والأب لأنعامكم .

    وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ما أنبتت [ الأرض ] مما يأكل الناس والأنعام .

    وروي عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله : " وفاكهة وأبا " فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم .

    وروى ابن شهاب عن أنس أنه سمع عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال : كل هذا قد عرفنا فما الأب ؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال : هذا [ والله ] لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن [ أم ] عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا [ تبين ] فدعوه .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #430
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (425)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ التكوير
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 19


    ( متاعا لكم ولأنعامكم ( 32 ) فإذا جاءت الصاخة ( 33 ) يوم يفر المرء من أخيه ( 34 ) وأمه وأبيه ( 35 ) وصاحبته وبنيه ( 36 ) )

    ( متاعا لكم ) منفعة لكم يعني الفاكهة ( ولأنعامكم ) يعني العشب . ثم ذكر القيامة فقال : ( فإذا جاءت الصاخة ) يعني صيحة القيامة سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع ، أي تبالغ في الأسماع حتى تكاد تصمها . ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ) لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه . [ ص: 340 ]

    حكي عن قتادة قال في هذه الآية يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه قال : يفر هابيل من قابيل ، ويفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمه ، وإبراهيم - عليه السلام - من أبيه ، ولوط - عليه السلام - من صاحبته ، ونوح - عليه السلام - من ابنه .
    ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ( 37 ) وجوه يومئذ مسفرة ( 38 ) ضاحكة مستبشرة ( 39 ) ووجوه يومئذ عليها غبرة ( 40 ) ترهقها قترة ( 41 ) )

    ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) يشغله عن شأن غيره .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي ، عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، فقلت : يا رسول الله ، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ فقال : قد شغل الناس ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " . ( وجوه يومئذ مسفرة ) مشرقة مضيئة . ( ضاحكة ) بالسرور ( مستبشرة ) فرحة بما نالت من كرامة الله - عز وجل - . ( ووجوه يومئذ عليها غبرة ) سواد وكآبة الهم [ والحزن ] ( ترهقها قترة ) تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف . قال ابن عباس : تغشاها ذلة . قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة : أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض .
    [ ص: 341 ] ( أولئك هم الكفرة الفجرة ( 42 ) )

    ( أولئك ) الذين يصنع بهم هذا ، ( أولئك هم الكفرة الفجرة ) جمع الكافر والفاجر .
    سورة التكوير

    مكية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( إذا الشمس كورت ( 1 ) )

    ( إذا الشمس كورت ) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سهل السرخسي إملاء أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب أن ينظر في أحوال القيامة فليقرأ : ( إذا الشمس كورت )

    قوله - عز وجل - ( إذا الشمس كورت ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أظلمت ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : ذهب ضوءها . وقال سعيد بن جبير : غورت . وقال مجاهد : اضمحلت . وقال الزجاج : لفت كما تلف العمامة ، يقال : كورت العمامة على رأسي ، أكورها كورا وكورتها تكويرا ، إذا لففتها وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ، فمعناه : أن الشمس يجمع بعضها إلى بعض ثم تلف ، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها . [ ص: 346 ]

    قال ابن عباس : يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم [ القيامة ] في البحر ، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا عبد الله الداناج ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشمس والقمر يكوران يوم القيامة " .
    ( وإذا النجوم انكدرت ( 2 ) وإذا الجبال سيرت ( 3 ) وإذا العشار عطلت ( 4 ) وإذا الوحوش حشرت ( 5 ) وإذا البحار سجرت ( 6 ) )

    ( وإذا النجوم انكدرت ) أي تناثرت من السماء وتساقطت على الأرض ، يقال : انكدر الطائر أي سقط عن عشه ، قال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذ نجوما فلا يبقى نجم إلا وقع . ( وإذا الجبال سيرت ) [ قلعت ] على وجه الأرض فصارت هباء [ منثورا ] . ( وإذا العشار عطلت ) وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر ، واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة ، وهي أنفس مال عند العرب ، " عطلت " تركت [ مهملة ] بلا راع أهملها أهلها ، وكانوا لازمين لأذنابها ، ولم يكن لهم مال أعجب إليهم منها ، لما جاءهم من أهوال يوم القيامة . ( وإذا الوحوش ) يعني دواب البر ( حشرت ) جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض وروى عكرمة عن ابن عباس قال : حشرها : موتها . وقال : حشر كل شيء الموت ، غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة . وقال أبي بن كعب : اختلطت . ( وإذا البحار سجرت ) قرأ أهل مكة والبصرة بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم ، وقال مجاهد ومقاتل : يعني فجر بعضها في بعض ، العذب [ ص: 347 ] والملح ، فصارت البحور كلها بحرا واحدا . وقال الكلبي : ملئت ، وهذا أيضا معناه : " والبحر المسجور " ( الطور - 6 ) والمسجور : المملوء ، وقيل : صارت مياهها بحرا واحدا من الحميم لأهل النار . وقال الحسن : يبست ، وهو قول قتادة ، قال : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة .

    وروى أبو العالية عن أبي بن كعب ، قال ست آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، [ فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ] فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ، وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحش ، وماج بعضهم في بعض ، فذلك قوله : ( وإذا الوحوش حشرت ) [ اختلطت ] ( وإذا العشار عطلت وإذا البحار سجرت ) قال : قالت الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر : فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى [ وانشقت السماء إنشقاقة واحدة وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم .
    ( وإذا النفوس زوجت ( 7 ) )

    وعن ابن عباس أيضا قال : هي اثنتا عشرة خصلة ، ستة في الدنيا وستة في الآخرة ، وهي ما ذكره بقوله - عز وجل - : ( وإذا النفوس زوجت ) وروى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار وهذا [ معنى ] قول عكرمة .

    وقال الحسن وقتادة : ألحق كل امرئ بشيعته ، اليهودي باليهودي والنصراني بالنصراني .

    قال الربيع بن خثيم : يحشر الرجل مع صاحب عمله . وقيل : زوجت النفوس بأعمالها .

    وقال عطاء ومقاتل : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين . [ ص: 348 ]

    وروي عن عكرمة قال : وإذا النفوس زوجت ردت الأرواح في الأجساد .
    ( وإذا الموءودة سئلت ( 8 ) بأي ذنب قتلت ( 9 ) وإذا الصحف نشرت ( 10 ) وإذا السماء كشطت ( 11 ) )

    ( وإذا الموءودة سئلت ) وهي الجارية المدفونة حية ، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيئدها ، أي يثقلها حتى تموت ، وكانت العرب تدفن البنات حية مخافة العار والحاجة ، يقال : [ أود هذا ليس بصحيح من حيث البناء لأن الموءودة من الوأد لا من الأود يقال ] وأد يئد وأدا ، فهو وائد ، والمفعول موءود .

    روى عكرمة عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة ، فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاما حبسته . ( بأي ذنب قتلت ) قرأ العامة على الفعل المجهول فيهما ، وأبو جعفر يقرأ : " قتلت " بالتشديد ومعناه تسأل الموءودة ، فيقال لها : بأي ذنب قتلت ؟ ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها ، لأنها تقول : قتلت بغير ذنب .

    وروي أن جابر بن زيد كان يقرأ : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت ومثله قرأ أبو الضحى . ( وإذا الصحف نشرت ) قرأ أهل المدينة والشام وعاصم ويعقوب : " نشرت " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، كقوله : " يؤتى صحفا منشرة " ( المدثر - 52 ) يعني صحائف الأعمال تنتشر للحساب . ( وإذا السماء كشطت ) قال الفراء : نزعت فطويت . وقال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف . وقال مقاتل : تكشف عمن فيها . ومعنى " الكشط " رفعك شيئا عن شيء قد غطاه ، كما يكشط الجلد عن السنام .
    [ ص: 349 ] ( وإذا الجحيم سعرت ( 12 ) وإذا الجنة أزلفت ( 13 ) علمت نفس ما أحضرت ( 14 ) فلا أقسم بالخنس ( 15 ) الجوار الكنس ( 16 ) والليل إذا عسعس ( 17 ) والصبح إذا تنفس ( 18 ) إنه لقول رسول كريم ( 19 ) )

    ( وإذا الجحيم سعرت ) قرأ أهل المدينة والشام ، وحفص عن عاصم : " سعرت " بالتشديد ، وقرأ الباقون بالتخفيف أي : أوقدت لأعداء الله . ( وإذا الجنة أزلفت ) قربت لأولياء الله . ( علمت ) عند ذلك ( نفس ) أي : كل نفس ( ما أحضرت ) من خير أو شر ، وهذا جواب لقوله : " إذا الشمس كورت " وما بعدها . قوله - عز وجل - : ( فلا أقسم بالخنس ) " لا " زائدة ، معناه : أقسم بالخنس ( الجوار الكنس ) قال قتادة : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار ، فتخفى فلا ترى .

    وعن علي أيضا : أنها الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى ، وتكنس تأوي إلى مجاريها .

    وقال قوم : هي النجوم الخمسة : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ، تخنس في مجراها ، أي : ترجع وراءها وتكنس : تستتر وقت اختفائها وغروبها ، كما تكنس الظباء في مغارها .

    وقال ابن زيد : معنى " الخنس " أنها تخنس أي : تتأخر عن مطالعها في كل عام تأخرا تتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع ، تخنس عنه . و " الكنس " أي تكنس بالنهار فلا ترى . وروى الأعمش عن إبراهيم ، عن عبد الله أنها هي الوحش .

    وقال سعيد بن جبير : هي الظباء . وهي رواية العوفي عن ابن عباس .

    وأصل الخنوس : الرجوع إلى وراء ، والكنوس : أن تأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش . ( والليل إذا عسعس ) قال الحسن : أقبل بظلامه . وقال الآخرون : أدبر . تقول العرب : عسعس الليل وسعسع : إذا أدبر ولم يبق منه إلا اليسير . (والصبح إذا تنفس ) أقبل وبدا أوله ، وقيل : امتد ضوءه وارتفع . ( إنه ) يعني القرآن ( لقول رسول كريم ) يعني جبريل أي : نزل به جبريل عن الله تعالى .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #431
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (426)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الانفطار
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 19

    [ ص: 350 ] ( ذي قوة عند ذي العرش مكين ( 20 ) مطاع ثم أمين ( 21 ) وما صاحبكم بمجنون ( 22 ) ولقد رآه بالأفق المبين ( 23 ) )

    ( ذي قوة ) وكان من قوته أنه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها ، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى [ أقصى ] جبل بالهند ، وأنه صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين ، وأنه يهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من [ الطير ] ( عند ذي العرش مكين ) في المنزلة . ( مطاع ثم ) أي في [ السماوات ] تطيعه الملائكة ، ومن طاعة الملائكة إياه أنهم فتحوا أبواب السماوات ليلة المعراج بقوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله ، ( أمين ) على وحي الله ورسالته إلى أنبيائه . ( وما صاحبكم بمجنون ) يقول لأهل مكة : وما صاحبكم يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - بمجنون . وهذا أيضا من جواب القسم ، أقسم على أن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمدا ليس كما يقوله أهل مكة ، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون ، وما يقول يقوله من عند نفسه . ( ولقد رآه ) يعني رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - على صورته ( بالأفق المبين ) وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق ، قاله مجاهد وقتادة .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن عليوة ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، أخبرنا ابن جريج ، عن عكرمة [ ومقاتل ] عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : " إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء " قال لن تقوى على ذلك ، قال : بلى ، قال : فأين تشاء أن أتخيل لك ؟ قال : بالأبطح ، قال : لا يسعني ، قال فهاهنا ، قال : لا يسعني ، قال : فبعرفات ، قال : ذلك بالحرى أن يسعني فواعده ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة ، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر وخر مغشيا عليه . قال : فتحول جبريل في صورته فضمه إلى [ ص: 351 ] صدره ، وقال : يا محمد لا تخف فكيف لك لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله - عز وجل - حتى يصير مثل [ الصعو ] يعني العصفور ، حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته .
    ( وما هو على الغيب بضنين ( 24 ) وما هو بقول شيطان رجيم ( 25 ) فأين تذهبون ( 26 ) إن هو إلا ذكر للعالمين ( 27 ) لمن شاء منكم أن يستقيم ( 28 ) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ( 29 ) )

    ( وما هو ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( على الغيب ) أي الوحي ، وخبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائبا عنه من الأنباء والقصص ، ( بضنين ) قرأ أهل مكة والبصرة والكسائي بالظاء أي بمتهم ، يقال : فلان يظن بمال ويزن أي يتهم به : والظنة : التهمة ، وقرأ الآخرون بالضاد أي يبخل ، يقول إنه يأتيه علم الغيب فلا يبخل به عليكم بل يعلمكم ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، تقول العرب : ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضنا وضنانة فأنا به ضنين أي بخيل . ( وما هو ) يعني القرآن ( بقول شيطان رجيم ) قال الكلبي : يقول إن القرآن ليس بشعر ولا كهانة كما قالت قريش . ( فأين تذهبون ) أي أين تعدلون عن هذا القرآن ، وفيه الشفاء والبيان ؟ قال الزجاج : أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم . ثم بين فقال : ( إن هو ) أي ما القرآن ( إلا ذكر للعالمين ) موعظة للخلق أجمعين . ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي يتبع الحق ويقيم عليه . ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) أي أعلمهم أن المشيئة في التوفيق إليه وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة الله ، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق الله ولا شرا إلا بخذلانه .
    سُورَةُ الِانْفِطَارِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ( 1 ) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ( 2 ) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ( 3 ) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ( 4 ) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ( 6 ) )

    ( إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ) انْشَقَّتْ . ( وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ) تَسَاقَطَتْ . ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَاخْتَلَطَ الْعَذْبُ بِالْمِلْحُ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَقَالَ الرَّبِيعُ : " فُجِّرَتْ " فَاضَتْ . ( وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) بُحِثَتْ وَقُلِبَ تُرَابُهَا وَبُعِثَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى أَحْيَاءً يُقَالُ : بَعْثَرْتُ الْحَوْضَ وَبَحْثَرْتُهُ إِذَا قَلَبْتُهُ فَجَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ . ( عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) قِيلَ : " مَا قَدَّمَتْ " مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ أَوْ سَيِّئٍ وَ " أَخَّرَتْ " مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ . وَقِيلَ : " مَا قَدَّمَتْ " مِنَ الصَّدَقَاتِ وَ " أَخَّرَتْ " مِنَ التَّرِكَاتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ : " يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ " ( الْقِيَامَةِ - 13 ) . ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) مَا خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى أَضَعْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ . وَالْمَعْنَى : مَاذَا أَمَّنَكَ مِنْ [ عَذَابِهِ ] قَالَ عَطَاءٌ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ . [ ص: 356 ]

    وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ شُرَيْقٍ ضَرَبَ النَّبِيَّ فَلَمْ يُعَاقِبْهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ : مَا الَّذِي غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الْمُتَجَاوِزِ عَنْكَ إِذْ لَمْ يُعَاقِبْكَ عَاجِلًا بِكُفْرِكَ ؟ قَالَ قَتَادَةُ : غَرَّهُ عَدُوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ يَعْنِي الشَّيْطَانَ قَالَ مُقَاتِلٌ : غَرَّهُ عَفْوُ اللَّهِ حِينَ لَمْ يُعَاقِبْهُ فِي أَوَّلِ [ مَرَّةٍ ] . وَقَالَ السُّدِّيُّ : غَرَّهُ رِفْقُ اللَّهِ بِهِ .

    وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيَخْلُو اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ مَا غَرَّكَ بِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا [ عَلِمْتَ ] ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ ؟ .

    وَقِيلَ لِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ : لَوْ أَقَامَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ : مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ مَاذَا كُنْتَ تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ غَرَّنِي سُتُورُكَ الْمُرَخَّاةُ .

    وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : لَوْ أَقَامَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ مَا غَرَّكَ بِي ؟ [ فَأَقُولُ ] غَرَّنِي بِكَ بِرُّكَ بِي سَالِفًا وَآنِفًا .

    وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ : لَوْ قَالَ لِي : مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لَقُلْتُ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ .

    قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ : إِنَّمَا قَالَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ كَأَنَّهُ لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ حَتَّى يَقُولَ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ .
    ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ( 7 ) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ( 8 ) )

    ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ) قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ " فَعَدَلَكَ " بِالتَّخْفِيفِ أَيْ صَرَفَكَ وَأَمَالَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ حَسَنًا وَقَبِيحًا وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَوَّمَكَ وَجَعَلَكَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَالْأَعْضَاءِ . ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ : فِي أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أَوْ أَمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ .

    وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أُحْضِرَ كُلُّ عِرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ ثُمَّ قَرَأَ " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ " . [ ص: 357 ] وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ قَوْلًا آخَرَ : " فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ " إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ آخَرَ .
    ( كلا بل تكذبون بالدين ( 9 ) وإن عليكم لحافظين ( 10 ) كراما كاتبين ( 11 ) يعلمون ما تفعلون ( 12 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 13 ) وإن الفجار لفي جحيم ( 14 ) يصلونها يوم الدين ( 15 ) وما هم عنها بغائبين ( 16 ) وما أدراك ما يوم الدين ( 17 ) ثم ما أدراك ما يوم الدين ( 18 ) )

    ( كلا بل تكذبون ) قرأ أبو جعفر بالياء وقرأ الآخرون بالتاء لقوله : " وإن عليكم لحافظين " ( بالدين ) بالجزاء والحساب . ( وإن عليكم لحافظين ) رقباء من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم . ( كراما ) على الله ( كاتبين ) يكتبون أقوالكم وأعمالكم . ( يعلمون ما تفعلون ) من خير أو شر . قوله - عز وجل - : ( إن الأبرار لفي نعيم ) الأبرار الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله - عز وجل - واجتناب معاصيه . ( وإن الفجار لفي جحيم ) روي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني : ليت شعري ما لنا عند الله ؟ قال : اعرض عملك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله . قال : فأين أجد في كتاب الله ؟ قال عند قوله : " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " قال سليمان : فأين رحمة الله ؟ قال : " قريب من المحسنين " ( الأعراف - 56 ) . قوله - عز وجل - : ( يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ) يدخلونها يوم القيامة ثم عظم ذلك اليوم فقال : ( وما أدراك ما يوم الدين ) ثم كرر تعجبا لشأنه فقال ( ثم ما أدراك ما يوم الدين )
    ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ( 19 ) )

    ( يوم لا تملك ) قرأ أهل الكوفة والبصرة : " يوم " [ ص: 358 ] برفع الميم ردا على اليوم الأول وقرأ الآخرون بنصبها أي : في يوم يعني : هذه الأشياء في يوم لا تملك ( نفس لنفس شيئا ) قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئا من المنفعة ( والأمر يومئذ لله ) أي لم يملك الله في ذلك اليوم أحدا شيئا كما ملكهم في الدنيا .
    سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ

    مَدَنِيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ ( 1 ) )

    ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ ) يَعْنِي الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وَيَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ . قَالَ الزَّجَّاجُ : إِنَّمَا قِيلَ لِلَّذِي يَنْقُصُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ : مُطَفِّفٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ الطَّفِيفَ .

    أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلِيِّ الصَّيْرَفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي يَزِيدُ النَّحْوِيُّ أَنَّ عِكْرِمَةَ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ " فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ .

    وَقَالَ السُّدِّيُّ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : أَبُو جُهَيْنَةَ وَمَعَهُ صَاعَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ .

    [ ص: 362 ] فَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْوَيْلَ لِلْمُطَفِّفِين َ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُطَفِّفِينَ مَنْ هُمْ فَقَالَ :


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #432
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (427)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية 2 إلى الاية 26


    ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( 2 ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( 3 ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ( 4 ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( 5 ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 6 ) )

    ( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) وَأَرَادَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ أَيْ أَخَذُوا مِنْهُمُ وَ " مِنْ " وَ " عَلَى " مُتَعَاقِبَانِ .

    قَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ اسْتَوْفَوْا عَلَيْهِمُ الْكَيْلَ [ الْوَزْنَ ] [ وَأَرَادَ : الَّذِينَ إِذَا اشْتَرَوْا لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفَوْا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ] .

    ( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ أَيْ لِلنَّاسُ يُقَالُ : وَزَنْتُكَ حَقَّكَ وَكِلْتُكَ طَعَامَكَ أَيْ وَزَنْتُ لَكَ وَكِلْتُ لَكَ كَمَا يُقَالُ : نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَكَسَبْتُكَ وَكَسَبْتُ لَكَ .

    قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَجْعَلُهُمَا حَرْفَيْنِ يَقِفُ عَلَى " كَالُوا وَوَزَنُوا " وَيَبْتَدِئُ " هُمْ يُخْسِرُونَ " وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : وَالِاخْتِيَارُ الْأَوَّلُ يَعْنِي : أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُمْ كَتَبُوهَا بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَوْ كَانَتَا مَقْطُوعَتَيْنِ لَكَانَتْ : " كَالُوا [ وَ ] وَزَنُوا " بِالْأَلِفِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مِثْلُ جَاءُوا وَقَالُوا : وَاتَّفَقَتِ الْمَصَاحِفُ عَلَى إِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ : كِلْتُكَ وَوَزَنْتُكَ كَمَا يُقَالُ : كِلْتُ لَكَ وَوَزَنْتُ لَكَ . " يُخْسِرُونَ " أَيْ يُنْقِصُونُ قَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِالْبَائِعِ فَيَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ وَأَوْفِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ .

    ( أَلَا يَظُنُّ ) يَسْتَيْقِنُ ( أُولَئِكَ ) الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ( أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

    ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ) [ مِنْ قُبُورِهِمْ ] ( لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَيْ لِأَمْرِهِ وَلِجَزَائِهِ وَلِحِسَابِهِ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ [ ص: 363 ] أُذُنَيْهِ " .

    أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ الْكُشْمِيهَنِي ُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ : [ حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ ] حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ [ قَدْرَ ] مِيلٍ أَوِ اثْنَيْنِ " - قَالَ سُلَيْمٌ : لَا أَدْرِي أَيُّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي مَسَافَةَ الْأَرْضِ أَوِ الْمِيلَ الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ ؟ - قَالَ : " فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُ فِي الْعَرَقِ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا " فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ : " أَلْجَمَهُ إِلْجَامًا " .
    ( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين ( 7 ) )

    قوله - عز وجل - : ( كلا ) ردع ، أي ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا ، وتمام الكلام هاهنا ، وقال الحسن : " كلا " ابتداء يتصل بما بعده على معنى حقا ( إن كتاب الفجار ) الذي كتبت فيه أعمالهم ( لفي سجين ) قال عبد الله بن عمر ، وقتادة ومجاهد ، والضحاك : ( سجين ) هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا الحسن بن علويه ، أخبرنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا المسيب ، حدثنا الأعمش ، عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سجين " أسفل سبع أرضين ، و " عليون " في السماء السابعة تحت العرش .

    [ ص: 364 ] وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله - عز وجل - : " إن كتاب الفجار لفي سجين " قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض ، فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهى بها إلى سجين ، وهو موضع جند إبليس ، فيخرج لها من سجين رق ، فيرقم ويختم ، ويوضع تحت جند إبليس ، لمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير ، قال : سجين تحت جند إبليس .

    وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السفلى ، وفيها إبليس وذريته .

    وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء ، خضرة السماوات منها يجعل كتاب الفجار فيها .

    وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا قال : " سجين " صخرة تحت الأرض السفلى ، تقلب ، فيجعل كتاب الفجار فيها . وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس .

    وجاء في الحديث : " الفلق جب ، في جهنم مغطى ، وسجين جب في جهنم مفتوح " .

    وقال عكرمة : " لفي سجين " أي : لفي خسار وضلال . وقال الأخفش : هو فعيل من السجن ، كما يقال : فسيق وشريب ، معناه : لفي حبس وضيق شديد .
    ( وما أدراك ما سجين ( 8 ) كتاب مرقوم ( 9 ) )

    ( وما أدراك ما سجين ) [ قال الزجاج ] أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك .

    ( كتاب مرقوم ) ليس هذا تفسير السجين ، بل هو بيان الكتاب المذكور في قوله : " إن كتاب الفجار " أي هو كتاب مرقوم ، أي مكتوب فيه أعمالهم مثبتة عليهم كالرقم في الثوب ، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به . وقال قتادة ومقاتل : رقم عليه بشركائه كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه [ ص: 365 ] كافر . وقيل : مختوم ، بلغة حمير .
    ( ويل يومئذ للمكذبين ( 10 ) الذين يكذبون بيوم الدين ( 11 ) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ( 12 ) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ( 13 ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( 14 ) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( 15 ) )

    ( ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين كلا ) قال مقاتل : أي لا يؤمنون ، ثم استأنف فقال : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، عن ابن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه " فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .

    وأصل " الرين " الغلبة ، يقال : رانت الخمر ، على عقله ترين ، رينا وريونا إذا غلبت عليه فسكر . ومعنى الآية ، غلبت على قلوبهم المعاصي وأحاطت بها . قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب . قال ابن عباس : " ران على قلوبهم " طبع عليها .

    ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ ) يوم القيامة ( لمحجوبون ) [ قال ابن عباس : " كلا " يريد : لا يصدقون ، ثم استأنف فقال : " إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون "
    قال بعضهم : عن كرامته ورحمته [ ممنوعون ] وقال قتادة : هو ألا ينظر إليهم ولا يزكيهم . وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته [ ص: 366 ] قال الحسن : لو علم الزاهدون العابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا .

    قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته .

    وسئل مالك عن هذه الآية فقال : لما حجب [ الله ] أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه .

    وقال الشافعي - رضي الله عنه - : في قوله : " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " دلالة على أن أولياء الله يرون الله .
    ( ثم إنهم لصالو الجحيم ( 16 ) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ( 17 ) كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين ( 18 ) )

    ثم أخبر أن الكفار مع كونهم محجوبين عن الله يدخلون النار فقال : ( ثم إنهم لصالو الجحيم ) لداخلو النار .

    ( ثم يقال ) أي تقول لهم الخزنة ( هذا ) أي هذا العذاب ( الذي كنتم به تكذبون )

    ( كلا ) قال مقاتل : لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه . ثم بين محل كتاب الأبرار فقال : ( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) روينا عن البراء مرفوعا : " إن عليين في السماء السابعة تحت العرش " .

    وقال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه .

    وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش اليمنى .

    وقال عطاء عن ابن عباس : هو الجنة . وقال الضحاك : سدرة المنتهى .

    وقال بعض أهل المعاني : علو بعد علو وشرف بعد شرف ، ولذلك جمعت بالياء والنون .

    وقال الفراء : هو اسم موضوع على صيغة الجمع ، لا واحد له من لفظه ، مثل عشرين وثلاثين .
    [ ص: 367 ] ( وما أدراك ما عليون ( 19 ) كتاب مرقوم ( 20 ) يشهده المقربون ( 21 ) إن الأبرار لفي نعيم ( 22 ) على الأرائك ينظرون ( 23 ) تعرف في وجوههم نضرة النعيم ( 24 ) يسقون من رحيق مختوم ( 25 ) ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( 26 ) )

    ( وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم ) ليس بتفسير عليين ، أي مكتوب أعمالهم ، كما ذكرنا في كتاب الفجار . وقيل : كتب هناك ما أعد الله لهم من الكرامة ، وهو معنى قول مقاتل : وقولهم : رقم لهم يخبر . وتقدير الآية [ على ] التقديم والتأخير ، مجازها : إن كتاب الأبرار [ كتاب ] مرقوم في عليين ، وهو محل الملائكة ، ومثله إن كتاب الفجار كتاب مرقوم في سجين ، وهو محل إبليس وجنده .

    ( يشهده المقربون ) يعني الملائكة الذين هم في عليين ، يشهدون ويحضرون ذلك المكتوب أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين . ( إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون ) إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والنعمة ، وقال مقاتل : ينظرون إلى عدوهم كيف يعذبون .

    ( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة مما ترى في وجوههم من النور والحسن والبياض ، قال الحسن : النضرة في الوجه والسرور في القلب ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب : " تعرف " بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل " نضرة " رفع ، وقرأ الباقون بفتح التاء وكسر الراء " نضرة " نصب .

    ( يسقون من رحيق ) خمر صافية طيبة . قال مقاتل : الخمر البيضاء . ( مختوم ) ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار ، وقال مجاهد : " مختوم " أي مطين .

    ( ختامه ) أي طينه ( مسك ) كأنه ذهب إلى هذا المعنى ، قال ابن زيد : ختامه عند الله مسك ، وختام [ خمر ] الدنيا طين . وقال ابن مسعود : " مختوم " أي ممزوج ختامه أي : آخر طعمه [ ص: 368 ] وعاقبته مسك ، فالمختوم الذي له ختام ، أي آخر ، وختم كل شيء الفراغ منه . وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك .

    وقراءة العامة " ختامه مسك " بتقديم التاء ، وقرأ الكسائي " خاتمه " وهي قراءة علي وعلقمة ، ومعناهما واحد ، كما يقال : فلان كريم [ الطابع والطباع ] والختام والخاتم ، آخر كل شيء .

    ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله - عز وجل - . وقال مجاهد : فليعمل العاملون ، [ نظيره قوله تعالى : " لمثل هذا فليعمل العاملون " ( الصافات - 61 ) ] وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون وقال عطاء : فليستبق المستبقون ، وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره ، أي يضن .
    ( ومزاجه من تسنيم ( 27 ) عينا يشرب بها المقربون ( 28 ) إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( 29 ) )

    ( ومزاجه من تسنيم ) شرب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم ، وقيل : يجري [ في الهواء متسنما فينصب ] في أواني أهل الجنة على قدر ملئها ، فإذا امتلأت أمسك . وهذا معنى قول قتادة .

    وأصل الكلمة من العلو ، يقال للشيء المرتفع : سنام ، ومنه : سنام البعير . قال الضحاك : هو شراب اسمه تسنيم ، وهو أشرف الشراب .

    قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص [ للمؤمنين ] المقربين يشربونها صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة . وهو قوله : " ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون " .

    وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله : " من تسنيم " ؟ قال : هذا مما قال الله تعالى : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " ( السجدة - 17 ) .

    ( عينا ) نصب على الحال ( يشرب بها ) أي منها وقيل : يشرب بها المقربون صرفا . قوله - عز وجل - : ( إن الذين أجرموا ) أشركوا ، يعني كفار قريش : أبا جهل ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وأصحابهم من مترفي مكة ( كانوا من الذين آمنوا ) عمار ، وخباب ، [ ص: 369 ] وصهيب ، وبلال ، وأصحابهم من فقراء المؤمنين . ( يضحكون ) وبهم يستهزءون .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #433
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (428)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الانشقاق
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 19


    ( وإذا مروا بهم يتغامزون ( 30 ) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ( 31 ) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ( 32 ) وما أرسلوا عليهم حافظين ( 33 ) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( 34 ) على الأرائك ينظرون ( 35 ) )

    ( وإذا مروا بهم ) يعني من فقراء المؤمنين بالكفار ( يتغامزون ) والغمز الإشارة بالجفن والحاجب ، أي* يشيرون إليهم بالأعين استهزاء .

    ( وإذا انقلبوا ) يعني الكفار ( إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) معجبين بما هم فيه يتفكهون بذكرهم .

    ( وإذا رأوهم ) رأوا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قالوا إن هؤلاء لضالون ) يأتون محمدا - صلى الله عليه وسلم - يرون أنهم على شيء .

    ( وما أرسلوا ) يعني المشركين ( عليهم ) يعني على المؤمنين ( حافظين ) أعمالهم ، أي لم يوكلوا بحفظ أعمالهم .

    ( فاليوم ) يعني في الآخرة ( الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) قال أبو صالح : وذلك أنه يفتح للكفار في النار أبوابها ، ويقال لهم : اخرجوا ، فإذا رأوها مفتوحة أقبلوا إليها ليخرجوا ، والمؤمنون ينظرون إليهم فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا والمؤمنون يضحكون .

    وقال كعب : بين الجنة والنار كوى ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له ، كان في الدنيا ، اطلع عليه من تلك الكوى ، كما قال : " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " ( الصافات - 55 ) فإذا اطلعوا من الجنة إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا ، فذلك قوله - عز وجل - : " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " ( على الأرائك ) [ من الدر والياقوت ] ( ينظرون ) إليهم في النار .
    [ ص: 370 ] ( هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ( 36 ) )

    قال الله تعالى : ( هل ثوب ) هل جوزي ( الكفار ما كانوا يفعلون ) أي جزاء استهزائهم بالمؤمنين . ومعنى الاستفهام هاهنا : التقرير . وثوب [ وأثيب ] وأثاب بمعنى واحد .
    سُورَةُ الِانْشِقَاقِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ( 1 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 2 ) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ( 3 ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( 4 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 5 ) )

    ( إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ) انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ .

    ( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ) أَيْ سَمِعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا بِالِانْشِقَاقِ وَأَطَاعَتْهُ ، مِنَ الْأُذُنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ ، ( وَحُقَّتْ ) أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ رَبَّهَا .

    ( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ ، وَزِيدَ فِي سِعَتِهَا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : سُوِّيَتْ كَمَدِّ الْأَدِيمِ ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا بِنَاءٌ وَلَا جَبَلٌ .

    ( وَأَلْقَتْ ) أَخْرَجَتْ ( مَا فِيهَا ) مِنَ الْمَوْتَى وَالْكُنُوزِ ( وَتَخَلَّتْ ) [ خَلَتْ ] مِنْهَا .

    ( وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ) وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ " إِذَا " قِيلَ : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَرَى الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ .

    وَقِيلَ جَوَابُهُ : " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ " وَمَجَازُهُ : إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ لَقِيَ كُلُّ كَادِحٍ [ مَا ] عَمِلَهُ .

    وَقِيلَ : جَوَابُهُ : " وَأَذِنَتْ " وَحِينَئِذٍ تَكُونُ " الْوَاوُ " زَائِدَةٌ .
    [ ص: 374 ] ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( 6 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( 7 ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( 8 ) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 9 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( 10 ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( 11 ) وَيَصْلَى سَعِيرًا ( 12 ) )

    وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا ) أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ فِي عَمَلِكَ ، وَالْكَدْحُ : عَمَلُ الْإِنْسَانِ وَجُهْدُهُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى يَكْدَحَ ذَلِكَ فِيهِ ، أَيْ يُؤَثِّرَ . وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ : عَامِلٌ لِرَبِّكَ عَمَلًا ( فَمُلَاقِيهِ ) أَيْ مُلَاقِي جَزَاءَ عَمَلِكَ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا .

    ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ) دِيوَانَ [ أَعْمَالِهِ ] ( بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ ، قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا " ؟ قَالَتْ : فَقَالَ : " إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ [ فِي الْحِسَابِ هَلَكَ ] .

    ( وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ ) يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَالْآدَمِيَّات ِ ( مَسْرُورًا ) بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ .

    ( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ) فَتُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : تُخْلَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ .

    ( فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ) يُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ يَقُولُ : يَا وَيْلَاهُ يَا ثُبُورَاهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا " ( الْفُرْقَانِ - 13 ) .

    ( وَيَصْلَى سَعِيرًا ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ : وَ " يَصْلَى " بِفَتْحِ الْيَاءِ [ ص: 375 ] خَفِيفًا كَقَوْلِهِ : " يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى " ( الْأَعْلَى - 12 ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ [ وَفَتْحِ الصَّادِ ] وَتَشْدِيدِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ : " وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ " ( الْوَاقِعَةِ - 94 ) " ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ " ( الْحَاقَّةِ - 31 ) .
    ( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 13 ) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ( 14 ) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( 15 ) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( 16 ) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( 17 ) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( 18 ) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ( 19 ) )

    ( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا ، بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وَرُكُوبِ شَهْوَتِهِ .

    ( إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ) أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَيْنَا وَلَنْ يُبْعَثَ ثُمَّ قَالَ : ( بَلَى ) ( بَلَى ) أَيْ : لَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، بَلْ يَحُورُ إِلَيْنَا وَيُبْعَثُ ( إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ) مِنْ يَوْمِ خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعْثَهُ .

    قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : هُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَبْقَى فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ . وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَعْقُبُ تِلْكَ الْحُمْرَةَ .

    ( وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ) أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ ، يُقَالُ : وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقَا ، أَيْ : جَمَعْتُهُ ، وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ : إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ . وَالْمَعْنَى : وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا مِنَ الدَّوَابِّ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ أَوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ . رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : مَا لَفَّ وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : أَقْبَلَ مِنْ ظُلْمَةٍ أَوْ كَوْكَبٍ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَمَا عُمِلَ فِيهِ . ( وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ) اجْتَمَعَ وَاسْتَوَى وَتَمَّ نُورُهُ وَهُوَ فِي الْأَيْامِ الْبِيضِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : اسْتَدَارَ ، وَهُوَ افْتَعَلَ مِنَ الْوَسْقِ الَّذِي هُوَ الْجَمْعُ .

    ( لَتَرْكَبُنَّ ) قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : " لَتَرْكَبَنَّ " بِفَتْحِ الْبَاءِ يَعْنِي لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ ( طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ : سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي تُصْعَدُ فِيهَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرِّفْعَةِ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : [ ص: 376 ] " لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ " حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، قَالَ هَذَا نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

    وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ تَتَغَيَّرُ لَوْنًا بَعْدَ لَوْنٍ ، فَتَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً كَالْمُهْلِ ، وَتَنْشَقُّ بِالْغَمَامِ مَرَّةً وَتُطْوَى أُخْرَى . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْبَاءِ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ : " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ " " وَشَمَالِهِ " وَذَكَرَ مِنْ بَعْدُ : " فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ " وَأَرَادَ : لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ، يَعْنِي : الْأَحْوَالَ تَنْقَلِبُ بِهِمْ ، فَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا . وَ " عَنْ " بِمَعْنَى بَعْدَ .

    وَقَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ [ ثُمَّ الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ ] .

    وَقَالَ عَطَاءٌ : مَرَّةً فَقِيرًا وَمُرَّةً غَنِيًا . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الشَّدَائِدَ وَأَهْوَالَ الْمَوْتِ ، ثُمَّ الْبَعْثَ ثُمَّ الْعَرْضَ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : حَالًا بَعْدَ حَالٍ ، رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شَابٌ ثُمَّ شَيْخٌ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : لَتَرْكَبْنَ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَأَحْوَالَهُمْ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الصَّنْعَانِيُّ مِنَ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مِنْ [ كَانَ ] قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍ لَتَبِعْتُمُوهُ مْ " قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ .
    ( فما لهم لا يؤمنون ( 20 ) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ( 21 ) )

    قوله - عز وجل - ( فما لهم لا يؤمنون ) استفهام إنكار .

    ( وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) قال الكلبي ومقاتل : لا يصلون .

    أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عطاء بن مينا عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 377 ] في " اقرأ باسم ربك " " وإذا السماء انشقت " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، أخبرنا معمر قال : سمعت أبي قال حدثني بكر ، عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت ، فسجد فقلت : ما هذا ؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه .
    ( بل الذين كفروا يكذبون ( 22 ) والله أعلم بما يوعون ( 23 ) فبشرهم بعذاب أليم ( 24 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ( 25 ) )

    ( بل الذين كفروا يكذبون ) بالقرآن والبعث .

    ( والله أعلم بما يوعون ) في صدورهم من التكذيب . قال مجاهد : يكتمون . ( فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ) غير مقطوع ولا منقوص .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #434
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (429)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ البروج
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 17


    سُورَةُ الْبُرُوجِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ( 1 ) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( 2 ) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( 3 ) )

    ( ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ) هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ . ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَيْوبَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، أَوْ يَسْتَعِيذُ [ بِهِ ] مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ مِنْهُ " ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    وَالْأَكْثَرُون َ : أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ . [ ص: 382 ]

    وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " الشَّاهِدُ " يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، " وَالْمَشْهُودُ " يَوْمُ [ النَّحْرِ ]

    قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ : " الشَّاهِدُ " يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، " وَالْمَشْهُودُ " يَوْمُ عَرَفَةَ .

    وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " الشَّاهِدُ " مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَ " الْمَشْهُودُ " : يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ تَلَا " فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " ( النِّسَاءِ - 41 ) ، وَقَالَ : ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى : " الشَّاهِدُ " : مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَ " الْمَشْهُودُ " : اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ، بَيَانُهُ : قَوْلُهُ " وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا " .

    وَرَوَى ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " الشَّاهِدُ " آدَمُ ، وَ " الْمَشْهُودُ " يَوْمُ الْقِيَامَةِ .

    وَقَالَ عِكْرِمَةُ " الشَّاهِدُ " الْإِنْسَانُ وَ " الْمَشْهُودُ " يَوْمُ الْقِيَامَةِ . وَعَنْهُ أَيْضًا : الشَّاهِدُ الْمَلَكُ يَشْهَدُ عَلَى ابْنِ آدَمَ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ . وَتَلَا " وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ " ( ق - 21 ) و " وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ " ( هُودٍ - 103 ) وَقِيلَ : الشَّاهِدُ [ الْحَفَظَةُ وَالْمَشْهُودُ بَنُو آدَمَ . وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : الشَّاهِدُ ] آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .

    وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ .

    وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ . بَيَانُهُ : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " ( الْبَقَرَةِ - 143 ) .

    وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : سَأَلَتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ : " وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ " فَقَالَ : الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ وَالْمَشْهُودُ : نَحْنُ ، بَيَانُهُ : " وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا " ( النِّسَاءِ - 79 ) وَقِيلَ : الشَّاهِدُ أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ ، وَالْمَشْهُودُ ابْنُ آدَمَ ، بَيَانُهُ : " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ " الْآيَةَ ( النُّورِ - 24 ) وَقِيلَ : [ ص: 383 ] الشَّاهِدُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَشْهُودُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، بَيَانُهُ : قَوْلُهُ : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ إِلَى قَوْلِهِ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( آلِ عِمْرَانَ - 81 ) .
    ( قتل أصحاب الأخدود ( 4 ) )

    ( قتل أصحاب الأخدود ) أي : لعن ، و " الأخدود " الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، وجمعه : أخاديد واختلفوا فيهم :

    أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الله بن سعدان الخطيب ، أخبرني أبو أحمد محمد بن أحمد بن محمد بن قريش بن نوح بن رستم ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب ، وقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه ، وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكا [ ذلك ] إلى الراهب ، فقال : إذا [ جئت ] الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا [ جئت ] أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر ؟ فأخذ حجرا ثم قال اللهم : إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ، فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى فإن ابتليت [ فاصبر ] فلا تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك وكان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما هنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، قال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك ؟ قال : ربي - عز وجل - ، قال أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ به الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى [ فدعا [ ص: 384 ] بالمنشار ] فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع [ شقاه ] ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، [ فذهبوا به ] فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، فجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور [ إلى لجة بحر كذا ] فإن رجع عن دينه وإلا [ فاطرحوه في البحر ] فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا فجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل : بسم [ الله ] رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع [ السهم ] في كبد قوسه ، ثم قال : بسم [ الله ] رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده على صدغه في موضع السهم ، فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ثلاثا فأتي الملك ، فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك ، فخدت وأضرم بها النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له اقتحم ، قال : ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق " .

    هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن [ هدبة بن خالد عن ] حماد بن سلمة .

    وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : أن رجلا كان قد بقي على دين عيسى فوقع إلى أهل نجران [ فدعاهم ] فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير وخيرهم بين النار واليهودية ، فأبوا عليه فخد الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا ، ثم [ لما ] غلب أرياط على اليمن فخرج [ ص: 385 ] ذو نواس هاربا فاقتحم البحر بفرسه فغرق قال الكلبي : وذو نواس قتل عبد الله بن التامر .

    وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر : أن خربة احتفرت في زمن عمر بن الخطاب فوجدوا عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها انبعثت دما وإذا تركت ارتدت مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه : ربي الله ، فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه

    وروى عطاء عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له : يوسف ذو نواس بن شرحبيل بن شرحيل في الفترة قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - [ بسبعين سنة ] وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه قد سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم [ وكان ] في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت ، فأعجبه ذلك ، وذكر قريبا من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول لك ، قال : فكيف أقتلك ؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي ، ففعل الملك [ ذلك ] فقتله ، فقال الناس : لا إله إلا الله ، عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وخد أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال : ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود فأحرقه ، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، *فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ، ثم قال لها : ارجعي عن دينك ، فأبت فألقى الثاني في النار ، ثم قال لها : ارجعي ، فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع ، فقال الصبي : يا أماه لا ترجعي [ عن الإسلام ] فإنك على الحق ، ولا بأس عليك ، فألقي الصبي في النار ، وألقيت أمه على أثره .

    وقال سعيد بن جبير وابن أبزى : لما انهزم أهل اسفندهار قال عمر بن الخطاب : أي شيء يجري على المجوس من الأحكام فإنهم ليسوا بأهل كتاب ؟ فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : بلى قد كان لهم كتاب ، وكانت الخمر أحلت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت ، وما المخرج منه [ ص: 386 ] قالت : المخرج منه أن تخطب الناس ، وتقول : إن الله قد أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيبا فقال : إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات ، فقال الناس بأجمعهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا ، أو نقر به ، ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا فيه كتاب ، فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا فجرد فيهم السيف . فأبوا أن يقروا [ فخد لهم أخدودا ] وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى ولم يطعه قذفه في النار ومن أجاب خلى سبيله .

    وقال الضحاك : أصحاب الأخدود من بني إسرائيل ، أخذوا رجالا ونساء فخدوا لهم أخدودا ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها ، فقالوا : أتكفرون أم نقذفكم في النار ؟ ويزعمون أنه دانيال وأصحابه . وهذه رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما .

    وقال أبو الطفيل عن علي - رضي الله عنه - : كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي ، بعث [ نبي ] من الحبشة إلى قومه ، ثم قرأ علي - رضي الله عنه - : ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ) الآية ( غافر - 78 ) فدعاهم فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذوا وأوثق ما أفلت منهم فخدوا أخدودا فملئوها نارا فمن تبع النبي رمي فيها ، ومن تابعهم تركوه ، فجاءوا بامرأة ومعها صبي رضيع فجزعت ، فقال الصبي : يا أماه مري ولا تنافقي .

    وقال عكرمة : كانوا من النبط [ أحرقوا بالنار ] وقال مقاتل : كانت الأخدود ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وواحدة بالشام ، والأخرى بفارس ، حرقوا [ بالنار ] أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو ذو نواس يوسف ، فأما التي بالشام وفارس فلم ينزل الله فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلا مسلما ممن يقرأ الإنجيل آجر نفسه في عمل ، وجعل يقرأ الإنجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل ، فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه [ فسأله فلم يخبره ] فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام ، فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا من بين رجل وامرأة وهذا بعدما رفع عيسى - عليه السلام - إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخد لهم في الأرض وأوقد فيها نارا فعرضهم على الكفر ، فمن أبى [ ص: 387 ] أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه ، وإن امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلم ، فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار ، فجعلها الله وابنها في الجنة ، فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا ، فذلك قوله - عز وجل - : " قتل أصحاب الأخدود " .
    ( النار ذات الوقود ( 5 ) إذ هم عليها قعود ( 6 ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( 7 ) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( 8 ) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ( 9 ) )

    ( النار ذات الوقود ) بدل من الأخدود ، قال الربيع بن أنس : نجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بقبض أرواحهم قبل أن تمسهم النار ، وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم . ( إذ هم عليها قعود ) أي : عند النار جلوس [ لتعذيب ] المؤمنين . قال مجاهد : كانوا قعودا على الكراسي [ عند الأخدود ] . ( وهم ) يعني الملك وأصحابه الذين خدوا [ الأخدود ] ( على ما يفعلون بالمؤمنين ) من عرضهم على النار وإرادتهم أن يرجعوا إلى دينهم ( شهود ) حضور ، وقال مقاتل : يعني يشهدون أن المؤمنين في ضلال حين تركوا عبادة الصنم . ( وما نقموا منهم ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كرهوا منهم ( إلا أن يؤمنوا بالله ) قال مقاتل ما عابوا منهم . وقيل : ما علموا فيهم عيبا . قال الزجاج : ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم بالله ( العزيز الحميد ) ( الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء ) من أفعالهم ( شهيد )
    [ ص: 388 ] ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ( 10 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ( 11 ) إن بطش ربك لشديد ( 12 ) إنه هو يبدئ ويعيد ( 13 ) وهو الغفور الودود ( 14 ) ذو العرش المجيد ( 15 ) فعال لما يريد ( 16 ) هل أتاك حديث الجنود ( 17 ) )

    ( إن الذين فتنوا ) عذبوا وأحرقوا ( المؤمنين والمؤمنات ) يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، نظيره " يوم هم على النار يفتنون " ( الذاريات - 13 ( ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ) بكفرهم ( ولهم عذاب الحريق ) بما أحرقوا المؤمنين . وقيل : ولهم عذاب الحريق [ في الدنيا ، وذلك أن الله أحرقهم بالنار التي ] أحرقوا بها المؤمنين ، ارتفعت إليهم من الأخدود ، قاله الربيع بن أنس والكلبي . ثم ذكر ما أعد للمؤمنين فقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير ) واختلفوا في جواب القسم : فقال بعضهم : جوابه : " قتل أصحاب الأخدود " يعني لقد قتل .

    وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج . وقال قتادة : جوابه : ( إن بطش ربك لشديد ) قال ابن عباس : إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظلمة لشديد ، كقوله : " إن أخذه أليم شديد " ( هود - 102 ) . ( إنه هو يبدئ ويعيد ) أي يخلقهم أولا في الدنيا ثم يعيدهم أحياء بعد الموت . ( وهو الغفور ) لذنوب المؤمنين ( الودود ) المحب لهم ، وقيل : معناه المودود ، كالحلوب والركوب ، بمعنى المحلوب والمركوب . وقيل : يغفر ويود أن يغفر ، وقيل : المتودد إلى أوليائه بالمغفرة . ( ذو العرش المجيد ) قرأ حمزة والكسائي : " المجيد " بالجر ، على صفة العرش أي السرير العظيم . وقيل : أراد حسنه فوصفه بالمجد كما وصفه بالكرم ، فقال : " رب العرش الكريم " ( المؤمنون - 116 ) ومعناه الكمال ، والعرش : أحسن الأشياء وأكملها ، وقرأ الآخرون بالرفع على صفة ذو العرش . ( فعال لما يريد ) لا يعجزه شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه . قوله - عز وجل - ( هل أتاك حديث الجنود ) قد أتاك خبر الجموع الكافرة الذين تجندوا [ ص: 389 ] على الأنبياء
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #435
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (430)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الاعلى
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 15


    ( فرعون وثمود ( 18 ) بل الذين كفروا في تكذيب ( 19 ) والله من ورائهم محيط ( 20 ) بل هو قرآن مجيد ( 21 ) في لوح محفوظ ( 22 ) )

    ثم بين من هم فقال : ( فرعون وثمود بل الذين كفروا ) من قومك يا محمد ( في تكذيب والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) لك وللقرآن كدأب [ آل فرعون ] من قبلهم ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار . ( والله من ورائهم محيط ) ، عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، يقدر أن ينزل بهم ما أنزل بمن كان قبلهم . ( بل هو قرآن مجيد ) ، كريم شريف كثير الخير ، ليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة . ( في لوح محفوظ ) ، قرأ نافع : " محفوظ " بالرفع على نعت القرآن ، فإن القرآن محفوظ من التبديل والتغيير والتحريف ، قال الله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وهو أم الكتاب ، ومنه نسخ الكتب ، محفوظ من الشياطين ، ومن الزيادة فيه والنقصان . أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، أخبرنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسن بن علويه ، أخبرنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر ، أخبرني مقاتل وابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح : لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله - عز وجل - وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درة بيضاء ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك .

    قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش .
    سُورَةُ الطَّارِقِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ( 2 ) النَّجْمُ الثَّاقِبُ ( 3 ) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( 4 ) )

    ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالَسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا ، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ وَقَالَ : أَيُّ شَيْءٍ هَذَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَعَجِبَ أَبُو طَالِبٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ " وَهَذَا قَسَمٌ ، وَ " الطَّارِقُ " النَّجْمُ يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ .

    ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ) ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ ( النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) أَيِ الْمُضِيءُ الْمُنِيرُ ، قَالَ مُجَاهِدٌ : الْمُتَوَهِّجُ ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : أَرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ النَّجْمُ . وَقِيلَ : هُوَ زُحَلُ ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهِ ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا : قَدْ ثَقَبَ .

    ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ) جَوَابُ الْقَسَمِ ( لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَعَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ : " لَمَّا " بِالتَّشْدِيدِ ، يَعْنُونَ : مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ يَجْعَلُونَ " لَمَّا " بِمَعْنَى " إِلَّا " يَقُولُونَ : نَشَدْتُكَ اللَّهَ لَمَّا قُمْتَ ، أَيْ إِلَّا قُمْتَ .

    وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ ، جَعَلُوا " مَا " صِلَةً ، مَجَازُهُ : إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَعَلَيْهَا حَافِظٌ [ مِنْ رَبِّهَا ] [ ص: 394 ] [ وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ : كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنْ رَبِّهَا ] يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَيُحْصِي عَلَيْهَا مَا تَكْتَسِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ يَحْفَظُهَا وَيَحْفَظُ قَوْلَهَا وَفِعْلَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْمَقَادِيرِ ، ثُمَّ يُخَلِّي عَنْهَا .
    ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ( 5 ) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ( 6 ) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( 7 ) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ( 8 ) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( 9 ) )

    ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ) أَيْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ رَبُّهُ ، أَيْ فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ .

    ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ : ( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) مَدْفُوقٍ أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ ، فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ : " عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ " ( الْحَاقَّةِ - 21 ) أَيْ مَرَضِيَّةٍ ، وَالدَّفْقُ : الصَّبُّ ، وَأَرَادَ مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا ، وَجَعَلَهُ وَاحِدًا لِامْتِزَاجِهِم َا .

    ( يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) يَعْنِي صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ ، وَ " التَّرَائِبُ " جُمَعُ التَّرِيبَةِ ، وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ مِنَ الصَّدْرِ . وَرَوَى الْوَالِبِيُّ عَنْهُ : بَيْنَ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : النَّحْرُ . وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الصَّدْرُ .

    ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) قَالَ مُجَاهِدٌ : عَلَى رَدِّ النُّطْفَةِ فِي الْإِحْلِيلِ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الصُّلْبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ لِقَادِرٌ . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ : [ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ ] مِنَ الْكِبَرِ إِلَى الشَّبَابِ ، وَمِنَ الشَّبَابِ إِلَى الصِّبَا ، وَمِنَ الصِّبَا إِلَى النُّطْفَةِ ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : إِنَّهُ عَلَى حَبْسِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِقَادِرٌ حَتَّى لَا يَخْرُجَ وَقَالَ قَتَادَةُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى بَعْثِ الْإِنْسَانِ وَإِعَادَتِهِ قَادِرٌ وَهَذَا أَوْلَى الْأَقَاوِيلِ لِقَوْلِهِ : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )

    ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْلَى السَّرَائِرُ ، تُظْهَرُ الْخَفَايَا قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : تُخْتَبَرُ [ الْأَعْمَالُ ] قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ : السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ [ وَالْوُضُوءِ ] وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ ، فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ ، فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَقَالَ : صُمْتُ وَلَمْ يَصُمْ ، وَصَلَّيْتُ ، وَلَمْ يُصَلِّ ، وَاغْتَسَلْتُ وَلَمْ يَغْتَسِلْ ، فَيُخْتَبَرُ حَتَّى يَظْهَرَ مَنْ أَدَّاهَا مِمَّنْ ضَيَّعَهَا .

    قَالَ ابْنُ عُمَرَ : بِيَدَيِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّ سِرٍّ ، فَيَكُونُ زَيْنًا فِي وُجُوهٍ وَشَيْنًا فِي وُجُوهٍ ، [ ص: 395 ] يَعْنِي : مَنْ أَدَّاهَا كَانَ وَجْهُهُ مُشْرِقًا ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ وَجْهُهُ أَغْبَرَ .
    ( فما له من قوة ولا ناصر ( 10 ) والسماء ذات الرجع ( 11 ) والأرض ذات الصدع ( 12 ) إنه لقول فصل ( 13 ) وما هو بالهزل ( 14 ) إنهم يكيدون كيدا ( 15 ) وأكيد كيدا ( 16 ) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( 17 ) )

    ( فما له من قوة ولا ناصر ) أي ما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله ولا ناصر ينصره من الله .

    ثم ذكر قسما آخر فقال : ( والسماء ذات الرجع ) أي ذات المطر لأنه يرجع كل عام ويتكرر . وقال ابن عباس : هو السحاب يرجع بالمطر .

    ( والأرض ذات الصدع ) أي تتصدع وتنشق عن النبات والأشجار والأنهار .

    وجواب القسم قوله : ( إنه ) يعني القرآن ( لقول فصل ) حق وجد يفصل بين الحق والباطل .

    ( وما هو بالهزل ) باللعب والباطل .

    ثم أخبر عن مشركي مكة فقال : ( إنهم يكيدون كيدا ) يخافون النبي - صلى الله عليه وسلم - ويظهرون ما هم على خلافه .

    ( وأكيد كيدا ) وكيد الله استدراجه إياهم من حيث لا يعلمون .

    ( فمهل الكافرين ) قال ابن عباس : هذا وعيد من الله - عز وجل - لهم ( أمهلهم رويدا ) قليلا ومعنى مهل وأمهل : أنظر ولا تعجل ، فأخذهم الله يوم بدر ، ونسخ الإمهال بآية السيف .
    سُورَةُ الْأَعْلَى

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ( 1 ) )

    ( ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) [ يَعْنِي ] قُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .

    أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْبَطِينِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " فَقَالَ : " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " .

    وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّكَ الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُلْحِدُونَ ، وَجَعَلُوا الِاسْمَ صِلَةً . وَيَحْتَجُّ بِهَذَا مَنْ يَجْعَلُ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدًا ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ : سُبْحَانَ اسْمِ اللَّهِ ، وَسُبْحَانَ اسْمِ رَبِّنَا ، إِنَّمَا يَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَسُبْحَانَ رَبِّنَا ، فَكَانَ مَعْنَى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى : سَبِّحْ رَبَّكَ . [ ص: 400 ]

    وَقَالَ آخَرُونَ : نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ ، بِأَنْ تَذْكُرَهُ وَأَنْتَ لَهُ مُعَظِّمٌ ، وَلِذِكْرِهِ مُحْتَرِمٌ [ وَلِأَوَامِرِهِ مُطَاوِعٌ ] وَجَعَلُوا الِاسْمَ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ .

    وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سَبِّحِ [ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ] أَيْ : صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ الْأَعْلَى .
    ( الذي خلق فسوى ( 2 ) والذي قدر فهدى ( 3 ) والذي أخرج المرعى ( 4 ) فجعله غثاء أحوى ( 5 ) )

    ( الذي خلق فسوى ) قال الكلبي : خلق كل ذي روح ، فسوى اليدين والرجلين والعينين . وقال الزجاج : خلق الإنسان مستويا ، ومعنى " سوى " عدل قامته .

    ( والذي قدر فهدى ) قرأ الكسائي : " قدر " بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنى واحد .

    وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراتعها .

    وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه ، " فهدى " عرفها كيف يأتي الذكر الأنثى .

    وقيل : قدر الأرزاق وهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش .

    وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها .

    وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم .

    قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين سلوك [ سبيل ] ما قدر عليه .

    ( والذي أخرج المرعى ) أنبت العشب وما ترعاه [ النعم ] من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض .

    ( فجعله ) بعد الخضرة ( غثاء ) هشيما باليا ، كالغثاء الذي تراه فوق السيل . ( أحوى ) أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس اسود . [ ص: 401 ]
    ( ( سنقرئك فلا تنسى ( 6 ) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ( 7 ) ونيسرك لليسرى ( 8 ) فذكر إن نفعت الذكرى ( 9 ) سيذكر من يخشى ( 10 ) ويتجنبها الأشقى ( 11 ) الذي يصلى النار الكبرى ( 12 ) )

    ( سنقرئك ) سنعلمك بقراءة جبريل [ عليك ] ( فلا تنسى إلا ما شاء الله ) أن تنساه ، وما نسخ الله تلاوته من القرآن ، كما قال : " ما ننسخ من آية أو ننسها " ( البقرة - 106 ) والإنساء نوع من النسخ .

    وقال مجاهد ، والكلبي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه جبريل - عليه السلام - ، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأولها ، مخافة أن ينساها ، فأنزل الله تعالى : " سنقرئك فلا تنسى " [ فلم ينس بعد ] ذلك شيئا . ( إنه يعلم الجهر ) من القول والفعل ( وما يخفى ) منهما ، والمعنى : أنه يعلم السر والعلانية .

    ( ونيسرك لليسرى ) قال مقاتل : نهون عليك عمل أهل الجنة - وهو معنى قول ابن عباس - ونيسرك لأن تعمل خيرا . و " اليسرى " عمل الخير .

    وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة .

    وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : إنه يعلم الجهر مما تقرؤه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، " وما يخفى " ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : ( ونيسرك لليسرى ) أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه .

    ( فذكر ) عظ بالقرآن ( إن نفعت الذكرى ) الموعظة والتذكير . والمعنى : نفعت أو لم تنفع ، وإنما لم يذكر الحالة الثانية ، كقوله : " سرابيل تقيكم الحر " وأراد : الحر والبرد جميعا .

    ( سيذكر ) يتعظ ( من يخشى ) الله - عز وجل - .

    ( ويتجنبها ) أي يتجنب الذكرى ويتباعد عنها ( الأشقى ) الشقي في علم الله .

    ( الذي يصلى النار الكبرى ) العظيمة والفظيعة ، لأنها أعظم وأشد حرا من نار الدنيا .
    [ ص: 402 ] ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ( 13 ) قد أفلح من تزكى ( 14 ) وذكر اسم ربه فصلى ( 15 ) )

    ( ثم لا يموت فيها ) فيستريح ( ولا يحيا ) حياة تنفعه .

    ( ( قد أفلح من تزكى ) تطهر من الشرك وقال : لا إله إلا الله . هذا قول عطاء وعكرمة ، ورواية الوالبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس وقال الحسن : من كان عمله زاكيا .

    وقال آخرون : هو صدقة الفطر ، روي عن أبي سعيد الخدري في قوله : " قد أفلح من تزكى " قال : أعطى صدقة الفطر .

    ( وذكر اسم ربه فصلى ) قال خرج إلى العيد فصلى ، فكان ابن مسعود يقول : رحم الله امرءا تصدق ثم صلى ، ثم يقرأ هذه الآية . وروى نافع : كان ابن عمر إذا صلى الغداة - يعني من يوم العيد - قال : يا نافع أخرجت الصدقة ؟ فإن قلت : نعم ، مضى إلى المصلى ، وإن قلت : لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما نزلت هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وهو قول أبي العالية وابن سيرين .

    وقال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل ؟ لأن هذه السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر .

    [ قال الشيخ الإمام محيي السنة رحمه الله ] يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كما قال : " وأنت حل بهذا البلد " فالسورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح حتى قال عليه الصلاة والسلام : " أحلت لي ساعة من نهار " وكذلك نزل بمكة : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " ( القمر - 45 ) قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 403 ] يثب ، في الدرع ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر "

    وذكر اسم ربه فصلى " أي : وذكر ربه فصلى ، قيل : الذكر : تكبيرات العيد ، والصلاة : صلاة العيد ، وقيل : الصلاة هاهنا الدعاء .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #436
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (431)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الغاشية
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 26

    ( ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ( 16 ) والآخرة خير وأبقى ( 17 ) إن هذا لفي الصحف الأولى ( 18 ) صحف إبراهيم وموسى ( 19 ) )

    ( بل تؤثرون ) قرأ أبوعمرو ، ويعقوب : [ يؤثرون ] بالياء ، يعني : الأشقين الذين ذكروا ، وقرأ الآخرون بالتاء ، دليله : قراءة أبي بن كعب " بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا " [ والمراد ب " الأشقى " الجمع ، وإن كان على لفظ الواحد ، لأن الشيء إذا دخله الألف واللام للجنس صار مستغرقا ، فكأنه قال : ويتجنبه الأشقون ، ثم قال : " بل تؤثرون الحياة الدنيا "
    ( والآخرة خير وأبقى ) قال عرفجة الأشجعي : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية ، فقال لنا : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ قلنا : لا قال : لأن الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وأن الآخرة نعتت لنا ، وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل .

    ( إن هذا ) يعني ما ذكر من قوله : " قد أفلح من تزكى " [ إلى تمام ] أربع آيات ، ( لفي الصحف الأولى ) أي في الكتب الأولى التي أنزلت قبل القرآن ، ذكر فيها فلاح المتزكي والمصلي ، وإيثار الخلق الحياة الدنيا على الآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى .

    ثم بين الصحف فقال : ( صحف إبراهيم وموسى ) قال عكرمة والسدي : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى .

    أخبرنا الإمام أبوعلي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا [ ص: 404 ] محمد بن أحمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى [ بن أيوب حدثنا سعيد بن كثير حدثنا ] يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب " سبح اسم ربك الأعلى " و " قل يا أيها الكافرون " وفي الوتر ب " قل هو الله أحد " و " قل أعوذ برب الفلق " و " قل أعوذ برب الناس " .
    سُورَةُ الْغَاشِيَةِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2 ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ( 3 ) )

    ( ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) يَعْنِي : قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْقِيَامَةِ ، تَغْشَى كُلَّ شَيْءٍ بِالْأَهْوَالِ .

    ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ) يَعْنِي : يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( خَاشِعَةٌ ) ذَلِيلَةٌ .

    ( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ) قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَعْنِي الَّذِينَ عَمِلُوا وَنَصَبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، مِثْلَ الرُّهْبَانِ وَغَيْرِهِمْ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا فِي ضَلَالَةٍ ، يَدْخُلُونَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ . وَمَعْنَى النَّصَبِ : الدَّأْبُ فِي الْعَمَلِ بِالتَّعَبِ .

    وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ : عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي ، نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ فِي النَّارِ .

    وَقَالَ بَعْضُهُمْ : عَامِلَةٌ فِي النَّارِ نَاصِبَةٌ فِيهَا . قَالَ الْحَسَنُ : لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا ، فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِمُعَالَجَةِ السَّلَاسِلِ ، وَالْأَغْلَالِ . وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .

    قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : تَخُوضُ فِي النَّارِ كَمَا تَخُوضُ الْإِبِلُ فِي الْوَحْلِ .

    وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : يَجْرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ . [ ص: 408 ]

    [ وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي النَّارِ ] وَالْكَلَامُ خَرَجَ عَلَى " الْوُجُوهِ " وَالْمُرَادُ مِنْهَا أَصْحَابُهَا .
    ( ( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ( 4 ) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5 ) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ( 6 ) )

    ( تَصْلَى نَارًا ) قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَأَبُو بَكْرٍ : " تُصْلَى " بِضَمِّ التَّاءِ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ : " تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ " [ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ ( نَارًا حَامِيَةً ) قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَدْ حَمِيَتْ فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ .

    ( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ ، فَدُفِعُوا إِلَيْهَا [ وِرْدًا ] عِطَاشًا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ . هَذَا شَرَابُهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ طَعَامَهُمْ فَقَالَ : ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ : هُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لَاطِئٍ بِالْأَرْضِ ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشَّبْرَقَ فَإِذَا هَاجَ سُمَّوْهَا الضَّرِيعَ ، وَهُوَ أَخْبَثُ طَعَامٍ وَأَبْشَعُهُ . وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الْكَلْبِيُّ : لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ إِذَا يَبِسَ .

    قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ " الضَّرِيعَ " الشَّوْكُ الْيَابِسُ الَّذِي يَبِسَ لَهُ وَرَقٌ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ شَوْكٌ مِنْ نَارٍ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " الضَّرِيعُ : شَيْءٌ فِي النَّارِ [ شِبْهُ ] الشَّوْكِ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ* ، وَأَنْتُنُّ مِنَ الْجِيفَةِ ، وَأَشَدُّ حَرًّا مِنَ النَّارِ " .

    وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَالْحَسَنُ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرْسِلُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ الْجُوعَ حَتَّى يَعْدِلَ عِنْدَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ ، فَيَسْتَغِيثُون َ فَيُغَاثُونَ بِالضَّرِيعِ ، ثُمَّ يَسْتَغِيثُونَ فَيُغَاثُونَ بِطَعَامٍ ذِي غُصَّةٍ ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُجِيزُونَ الْغُصَصَ فِي الدُّنْيَا بِالْمَاءِ ، فَيَسْتَسْقُونَ ، فَيُعْطِشُهُمْ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ يُسْقُونَ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ شَرْبَةً لَا هَنِيئَةَ وَلَا مَرِيئَةَ ، فَلَمَّا أَدْنَوْهُ مِنْ وُجُوهِهِمْ ، سَلَخَ جُلُودَ وُجُوهِهِمْ وَشَوَاهَا ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى بُطُونِهِمْ قَطَعَهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ جَلَّ : " وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " ( مُحَمَّدٍ - 15 ) .
    [ ص: 409 ] ( لا يسمن ولا يغني من جوع ( 7 ) وجوه يومئذ ناعمة ( 8 ) لسعيها راضية ( 9 ) في جنة عالية ( 10 ) لا تسمع فيها لاغية ( 11 ) فيها عين جارية ( 12 ) فيها سرر مرفوعة ( 13 ) وأكواب موضوعة ( 14 ) ونمارق مصفوفة ( 15 ) وزرابي مبثوثة ( 16 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( 17 ) )

    قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية قال المشركون : إن إبلنا لتسمن على الضريع ، وكذبوا في ذلك ، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطبا ، وتسمى " شبرقا " فإذا يبس لا يأكله شيء . فأنزل الله : ( لا يسمن ولا يغني من جوع )

    ثم وصف أهل الجنة فقال : ( وجوه يومئذ ناعمة ) قال مقاتل : في نعمة وكرامة .

    ( لسعيها ) في الدنيا ( راضية ) في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها . ( في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية ) لغو وباطل ، قرأ أهل مكة والبصرة : " لا يسمع " بالياء وضمها ، " لاغية " رفع . وقرأ نافع " لا تسمع " بالتاء وضمها ، " لاغية " رفع ، وقرأ الآخرون بالتاء وفتحها " لاغية " [ بالنصب ] على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - . ( فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة ) قال ابن عباس : ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، مرتفعة ما لم يجيء أهلها ، فإذا أراد أن يجلس عليها تواضعت له حتى يجلس عليها ، ثم ترتفع إلى مواضعها .

    ( وأكواب موضوعة ) عندهم ، جمع كوب ، وهو الإبريق الذي لا عروة له .

    ( ونمارق ) وسائد ومرافق ( مصفوفة ) بعضها بجنب بعض ، واحدتها " نمرقة " بضم النون .

    ( وزرابي ) يعني البسط العريضة . قال ابن عباس : هي الطنافس التي لها خمل واحدتها زربية ، ( مبثوثة ) مبسوطة ، وقيل متفرقة في المجالس .

    ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) قال أهل التفسير : لما نعت الله تعالى في هذه السورة ما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه ، فذكرهم الله تعالى صنعه فقال : ( أفلا ينظرون إلى الإبل ) [ من بين سائر الحيوانات ] ( كيف خلقت ) وكانت الإبل من عيش العرب [ ص: 410 ] لهم فيها منافع كثيرة ، فلما صنع لهم ذلك في الدنيا صنع لأهل الجنة فيها ما صنع .

    وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات; فقال مقاتل : لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها ، ولم [ يشاهد ] الفيل إلا الشاذ منهم .

    وقال الكلبي : لأنها تنهض بحملها وهي باركة .

    وقال قتادة : ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها ، فقالوا : كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية .

    وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد بها . ثم هو [ لا خير فيه ] لا يركب ظهرها ولا يؤكل لحمها ولا يحلب درها ، والإبل أعز مال للعرب وأنفسها تأكل النوى والقت وتخرج اللبن .

    وقيل : [ إنها ] مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف ، حتى إن الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث شاء ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا إلى [ كناسة اصطبل ] حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت .
    ( وإلى السماء كيف رفعت ( 18 ) وإلى الجبال كيف نصبت ( 19 ) وإلى الأرض كيف سطحت ( 20 ) )

    ( ( وإلى السماء كيف رفعت ) عن الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عمد .

    ( وإلى الجبال كيف نصبت ) على وجه الأرض [ مرساة ] لا تزول .

    ( وإلى الأرض كيف سطحت ) [ بسطت ] قال عطاء عن ابن عباس : هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل ، أو يرفع مثل السماء ، أو ينصب مثل الجبال ، أو يسطح مثل الأرض غيري ؟ .
    [ ص: 411 ] ( ( فذكر إنما أنت مذكر ( 21 ) لست عليهم بمسيطر ( 22 ) إلا من تولى وكفر ( 23 ) فيعذبه الله العذاب الأكبر ( 24 ) إن إلينا إيابهم ( 25 ) ثم إن علينا حسابهم ( 26 ) )

    ( فذكر ) [ أي : عظ يا محمد ] ( إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان . نسختها آية القتال .

    ( إلا من تولى وكفر ) استثناء منقطع عما قبله ، معناه : لكن من تولى وكفر بعد التذكير .

    ( فيعذبه الله العذاب الأكبر ) وهو أن يدخله النار وإنما قال " الأكبر " لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر .

    ( ( إن إلينا إيابهم ) رجوعهم بعد الموت ، يقال آب يئوب أوبا وإيابا ، وقرأ أبوجعفر : " إيابهم " بتشديد الياء ، وهو شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج فإنه قال يقال : أيب إيابا ، على : فعل فيعالا .

    ( ثم إن علينا حسابهم ) يعني جزاءهم بعد المرجع إلى الله - عز وجل - .
    سورة الفجر

    مكية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( والفجر ( 1 ) وليال عشر ( 2 ) والشفع والوتر ( 3 ) )

    ( والفجر ) أقسم الله - عز وجل - بالفجر ، روى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو انفجار الصبح كل يوم وهو قول عكرمة ، وقال عطية عنه : صلاة الفجر . وقال قتادة : هو فجر أول يوم من المحرم ، تنفجر منه السنة . وقال الضحاك : فجر ذي الحجة لأنه [ قرنت ] به الليالي العشر .

    ( ( وليال عشر ) روي عن ابن عباس : أنها العشر الأول من ذي الحجة . وهو قول مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، والكلبي .

    وقال أبوروق عن الضحاك : هي العشر [ الأواخر ] من شهر رمضان .

    وروى أبوظبيان عن ابن عباس قال : هي العشر [ الأوائل ] من شهر رمضان .

    وقال يمان بن رباب : هي العشر الأول من المحرم التي عاشرها يوم عاشوراء .

    ( والشفع والوتر ) قرأ حمزة ، والكسائي : " الوتر " بكسر الواو ، وقرأ الآخرون بفتحها ، [ ص: 416 ] واختلفوا في الشفع والوتر . قيل : " الشفع : الخلق ، قال الله تعالى : " وخلقناكم أزواجا " و " الوتر " هو الله - عز وجل - . روي ذلك عن [ ابن مسعود وعن ] أبي سعيد الخدري ، وهو قول عطية العوفي .

    وقال مجاهد ومسروق : " الشفع " الخلق كله ، كما قال الله تعالى : " ومن كل شيء خلقنا زوجين " ( الذاريات - 49 ) الكفر والإيمان ، والهدى والضلالة ، والسعادة والشقاوة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والبر والبحر ، والشمس والقمر ، والجن والإنس ، والوتر هو الله - عز وجل - ، قال الله تعالى : " قل هو الله أحد " ( الإخلاص - 1 ) .

    قال الحسن وابن زيد : " الشفع والوتر " الخلق كله ، منه شفع ، ومنه وتر .

    وروى قتادة عن الحسن قال : هو العدد منه شفع ومنه وتر . وقال قتادة : هما الصلوات منها شفع ومنها وتر . وروى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعا ، وروى عطية عن ابن عباس : الشفع صلاة الغداة ، والوتر صلاة المغرب .

    وعن عبد اللهبن الزبير قال : " الشفع " يوم النفر الأول ، و " الوتر " يوم النفر الأخير . روي أن رجلا سأله عن الشفع والوتر والليالي العشر ؟ فقال : أما الشفع والوتر : فقول الله - عز وجل - : " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " ( البقرة - 203 ) فهما الشفع والوتر ، وأما الليالي العشر : فالثمان وعرفة والنحر .

    وقال مقاتل بن حيان : " الشفع " الأيام والليالي ، و " الوتر " اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة .

    وقال الحسين بن الفضل : " الشفع " درجات الجنة لأنها ثمان ، و " الوتر " دركات النار لأنها سبع ، كأنه أقسم بالجنة والنار .

    وسئل أبوبكر الوراق عن الشفع والوتر فقال : " الشفع " تضاد [ أخلاق ] المخلوقين من العز والذل ، والقدرة والعجز ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى ، و " الوتر " انفراد صفات الله عز بلا ذل ، وقدرة بلا عجز ، وقوة بلا ضعف ، وعلم بلا جهل ، وحياة بلا ممات .
    [ ص: 417 ] ( والليل إذا يسر ( 4 ) هل في ذلك قسم لذي حجر ( 5 ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( 6 ) إرم ذات العماد ( 7 ) )

    ( ( والليل إذا يسر ) أي إذا سار وذهب كما قال تعالى " والليل إذ أدبر " ( المدثر - 33 ) وقال قتادة : إذا جاء وأقبل ، وأراد كل ليلة .

    وقال مجاهد وعكرمة والكلبي : هي ليلة المزدلفة .

    قرأ أهل الحجاز ، والبصرة : " يسري " بالياء في الوصل ، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا ، والباقون يحذفونها في الحالين ، فمن حذف فلوفاق رءوس الآي ، ومن أثبت فلأنها لام الفعل ، والفعل لا يحذف منه في الوقف ، نحو قوله : هو يقضي وأنا أقضي . وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء ؟ فقال : الليل لا يسري ، ولكن يسرى فيه ، فهو مصروف ، فلما صرفه بخسه حقه من الإعراب ، كقوله : " وما كانت أمك بغيا " ولم يقل : " بغية " لأنها صرفت من باغية .

    ( هل في ذلك ) أي فيما ذكرت ( قسم ) أي : مقنع ومكتفى في القسم ( لذي حجر ) لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل ولا ينبغي ، [ كما يسمى عقلا لأنه يعقله عن القبائح ، ونهى لأنه ينهى عما لا ينبغي ] وأصل " الحجر " المنع : وجواب القسم قوله : " إن ربك لبالمرصاد " واعترض بين القسم وجوابه قوله - عز وجل - : ( ألم تر ) قال الفراء : ألم تخبر ؟ وقال الزجاج : ألم تعلم ؟ ومعناه التعجب . ( كيف فعل ربك بعاد إرم ) يخوف أهل مكة ، يعني : كيف أهلكهم ، وهم كانوا أطول أعمارا وأشد قوة من هؤلاء . واختلفوا في إرم ذات العماد ، فقال سعيد بن المسيب : " إرم ذات العماد " دمشق ، وبه قال عكرمة .

    وقال القرظي هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي أمة . وقيل : معناها : القديمة .

    وقال قتادة ، ومقاتل : هم قبيلة من عاد قال مقاتل : كان فيهم الملك ، وكانوا [ بمهرة ] وكان عاد أباهم ، فنسبهم إليه ، وهو إرم بن عاد بن إرم بن سام بن نوح . [ ص: 418 ]

    وقال محمد بن إسحاق : هو جد عاد ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح .

    وقال الكلبي : " إرم " هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد إرم ، وثمود إرم ، فأهلك الله عادا ثم ثمود ، وبقي أهل السواد والجزيرة ، وكانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا أهل جنان وزروع ، ومنازلهم بوادي القرى ، وهي التي يقول الله فيها :
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #437
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (432)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ البلد
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 2

    ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ( 8 ) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( 9 ) وفرعون ذي الأوتاد ( 10 ) )

    ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) وسموا ذات العماد [ لهذا ] لأنهم كانوا أهل عمد سيارة ، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي ، ورواية عطاء عن ابن عباس ، وقال بعضهم : سموا ذات العماد لطول قامتهم . قال ابن عباس : يعني طولهم مثل العماد . وقال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا . وقوله ( لم يخلق مثلها في البلاد ) أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والقوة ، وهم الذين قالوا : " من أشد منا قوة " .

    وقيل : سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم فشيد [ عنده ] ورفع بناءه ، يقال : بناه شداد بن عاد على صفة لم يخلق في الدنيا مثله ، وسار إليه في قومه ، فلما كان منه على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا .

    ( وثمود ) أي : وبثمود ، ( الذين جابوا الصخر ) قطعوا الحجر ، واحدتها : صخرة ، ( بالواد ) يعني [ وادي القرى ] كانوا يقطعون الجبال فيجعلون فيها بيوتا . وأثبت ابن كثير ويعقوب الياء في الوادي وصلا ووقفا على الأصل ، وأثبتها ورش وصلا والآخرون بحذفها في الحالين على وفق رءوس الآي .

    ( وفرعون ذي الأوتاد ) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد ، وقد [ ص: 419 ] ذكرناه في سورة ( ص ) .

    أخبرنا أبوسعيد الشريحي ، أخبرنا أبوإسحاق الثعلبي ، أخبرنا ابن فنجويه ، حدثنا مخلد بن جعفر ، حدثنا الحسين بن علويه ، حدثنا إسماعيل بن عيسى ، حدثنا إسحاق بن بشر عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس : أن فرعون إنما سمي " ذي الأوتاد " لأنه كانت امرأة ، وهي امرأة خازن فرعون حزبيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة ، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون ، فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها ، فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك من إله غير أبي ؟ فقالت : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ قالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له . فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت ، فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقري بأني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ، ثم أرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال لها : اكفري بإلهك وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين ، فقالت له : ولو عذبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله . وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على قرب منها . وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على قلبك ، وكانت رضيعا ، فقالت : لو ذبحت من على وجه الأرض على في ما كفرت بالله - عز وجل - ، فأتى بابنتها الصغرى فلما أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت ، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالا وقالت : يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتا في الجنة . اصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله الجنة ، قال : وبعث في طلب زوجها حزبيل فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبل كذا ، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون ، فلما رأيا ذلك انصرفا ، فقال حزبيل : اللهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ، ولم يظهر علي أحد ، فأيما هذين الرجلين كتم علي فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله ، وأيما هذين الرجلين أظهر علي فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن ، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رءوس الملأ فقال له فرعون : وهل كان معك غيرك ؟ قال : نعم فلان ، فدعا به فقال : أحق ما يقول هذا ؟ قال : لا ما رأيت مما قال شيئا فأعطاه فرعون وأجزل ، وأما الآخر فقتله ، ثم صلبه . [ ص: 420 ]

    قال : وكان فرعون قد تزوج امرأة من نساء بني إسرائيل يقال لها " آسية بنت مزاحم " فرأت ما صنع فرعون بالماشطة ، فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي به فرعون ، وأنا مسلمة وهو كافر ؟ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها ، فقالت : يا فرعون أنت شر الخلق وأخبثهم عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، قال : فلعل بك الجنون الذي كان بها قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فمزق عليها ثيابها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما ، فقال لهما : ألا تريان أن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها ؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك ، إني أشهد أن ربي وربك ورب السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال لها أبوها : يا آسية ألست من خير نساء [ العماليق ] وزوجك إله العماليق ؟ قالت أعوذ بالله من ذلك ، إن كان ما يقول حقا فقولا له أن يتوجني تاجا تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهما فرعون : اخرجا عني ، فمدها بين أربعة أوتاد يعذبها ، ففتح الله لها بابا إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون ، فعند ذلك قالت : " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين " ( التحريم - 11 ) فقبض الله روحها وأسكنها الجنة .
    ( الذين طغوا في البلاد ( 11 ) فأكثروا فيها الفساد ( 12 ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( 13 ) إن ربك لبالمرصاد ( 14 ) )

    ( الذين طغوا في البلاد ) يعني عادا وثمود وفرعون ، عملوا في الأرض بالمعاصي وتجبروا . ( فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ) قال قتادة : يعني لونا من العذاب صبه عليهم ، قال أهل المعاني : هذا على الاستعارة ، لأن السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكل نوع من العذاب . وقال الزجاج : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب .

    ( ( إن ربك لبالمرصاد ) قال ابن عباس : يعني بحيث يرى ويسمع ويبصر .

    قال الكلبي : عليه طريق العباد لا يفوته أحد . قال مقاتل : ممر الناس عليه ، والمرصاد ، والمرصد : الطريق .

    وقيل : مرجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم .

    وقال الحسن وعكرمة : يرصد أعمال بني آدم . [ ص: 421 ]

    والمعنى : أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد ، كما لا يفوت من هو بالمرصاد .

    وقال السدي : أرصد الله النار على طريقهم حتى يهلكهم .
    ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ( 15 ) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ( 16 ) كلا بل لا تكرمون اليتيم ( 17 ) ولا تحاضون على طعام المسكين ( 18 ) )

    ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ) امتحنه ( ربه ) بالنعمة ( فأكرمه ) بالمال ( ونعمه ) بما وسع عليه ( فيقول ربي أكرمن ) بما أعطاني .

    ( وأما إذا ما ابتلاه ) بالفقر ( ( فقدر عليه رزقه ) قرأ أبوجعفر وابن عامر " فقدر " بتشديد الدال ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان ، أي ضيق عليه رزقه . وقيل : " قدر " بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه . ( فيقول ربي أهانن ) أذلني بالفقر . وهذا يعني به الكافر ، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر ، فرد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة ، فقال ( كلا ) لم أبتله بالغنى لكرامته ، ولم أبتله بالفقر لهوانه ، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا تدور على المال وسعة الرزق ، ولكن الفقر والغنى بتقديره ، فيوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقدر على المؤمن لا لهوانه ، إنما يكرم المرء بطاعته ويهينه بمعصيته .

    قرأ أهل الحجاز والبصرة " أكرمني وأهانني " بإثبات الياء في الوصل ، ويقف ابن كثير ويعقوب بالياء أيضا ، والآخرون يحذفونها وصلا ووقفا .

    ( بل لا تكرمون اليتيم ) قرأ أهل البصرة : " يكرمون ، ويحضون ، ويأكلون ، ويحبون " بالياء فيهن ، وقرأ الآخرون بالتاء ، " لا تكرمون اليتيم " لا تحسنون إليه . وقيل : لا تعطونه حقه .

    قال مقاتل : كان قدامة بن مظعون يتيما في حجر أمية بن خلف وكان يدفعه عن حقه .

    ( ولا تحاضون على طعام المسكين ) أي لا تأمرون بإطعامه ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : " تحاضون " بفتح الحاء وألف بعدها ، أي لا يحض بعضكم بعضا عليه .
    [ ص: 422 ] ( وتأكلون التراث أكلا لما ( 19 ) وتحبون المال حبا جما ( 20 ) كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ( 21 ) وجاء ربك والملك صفا صفا ( 22 ) وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ( 23 ) )

    ( ( وتأكلون التراث ) أي الميراث ( أكلا لما ) شديدا وهو أن يأكل نصيبه ونصيب غيره ، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون نصيبهم .

    قال ابن زيد : الأكل اللم : الذي يأكل كل شيء يجده ، لا يسأل عنه أحلال هو أم حرام ؟ ويأكل الذي له ولغيره ، يقال : لممت ما على الخوان إذا أتيت ما عليه فأكلته .

    ( وتحبون المال حبا جما ) أي كثيرا ، يعني : تحبون جمع المال وتولعون به ، يقال : جم الماء في الحوض ، إذا كثر واجتمع .

    ( كلا ) ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر . وقال مقاتل : أي لا يفعلون ما أمروا به في اليتيم ، وإطعام المسكين ، ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم ، فقال عز من قائل : ( إذا دكت الأرض دكا دكا ) مرة بعد مرة ، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر ، فلم يبق على ظهرها شيء .

    ( وجاء ربك ) قال الحسن : جاء أمره وقضاؤه وقال الكلبي : ينزل ( والملك صفا صفا ) قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كل سماء صف على حدة . قال الضحاك : أهل كل سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفا مختلطين بالأرض ومن فيها فيكون سبع صفوف .

    ( وجيء يومئذ بجهنم ) قال عبد اللهبن مسعود ، ومقاتل في هذه الآية : [ جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها ] لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش ( يومئذ ) يعني يوم يجاء بجهنم ( يتذكر الإنسان ) يتعظ ويتوب الكافر ( وأنى له الذكرى ) قال الزجاج : يظهر التوبة ومن أين له التوبة ؟
    [ ص: 423 ] ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ( 24 ) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ( 25 ) ولا يوثق وثاقه أحد ( 26 ) يا أيتها النفس المطمئنة ( 27 ) ارجعي إلى ربك راضية مرضية ( 28 ) )

    ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) أي قدمت الخير والعمل الصالح لحياتي في الآخرة ، أي لآخرتي التي لا موت فيها .

    ( ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ) قرأ الكسائي ويعقوب " لا يعذب " " ولا يوثق " بفتح الذال والثاء على معنى لا يعذب أحد [ في الدنيا ] كعذاب الله يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه [ أحد ] يومئذ .

    وقيل : هو رجل بعينه ، وهو أمية بن خلف ، يعني لا يعذب كعذاب هذا الكافر أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد .

    وقرأ الآخرون بكسر الذال والثاء ، أي : لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب ، والوثاق : هو الإسار في السلاسل والأغلال .

    قوله - عز وجل - : ( يا أيتها النفس المطمئنة ) إلى ما وعد الله - عز وجل - المصدقة بما قال الله . وقال مجاهد : " المطمئنة " التي أيقنت أن الله تعالى ربها وصبرت جأشا لأمره وطاعته .

    وقال الحسن : المؤمنة الموقنة ، وقال عطية : الراضية بقضاء الله تعالى . وقال الكلبي : الآمنة من عذاب الله .

    وقيل : المطمئنة بذكر الله ، بيانه : " قوله " وتطمئن قلوبهم بذكر الله " .

    واختلفوا في وقت هذه المقالة ، فقال قوم : يقال لها ذلك عند الموت فيقال لها : ( ارجعي إلى ربك ) إلى الله ( راضية ) بالثواب ( مرضية ) عنك .

    وقال الحسن : إذا أراد الله قبضها اطمأنت إلى الله ورضيت عن الله ورضي الله عنها . [ ص: 424 ]

    قال عبد اللهبن عمرو : إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله - عز وجل - ملكين إليه وأرسل إليه بتحفة من الجنة ، فيقال لها : اخرجي يا أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان وربك عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه ، والملائكة على أرجاء السماء يقولون : قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة . فلا تمر بباب إلا فتح لها ولا بملك إلا صلى عليها ، حتى يؤتى بها الرحمن فتسجد ، ثم يقال لميكائيل : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين ، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره ، سبعون ذراعا عرضه ، وسبعون ذراعا طوله ، وينبذ له فيه الريحان فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره .

    وإن لم يكن جعل له نوره مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله مثل العروس ، ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه . وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين وأرسل قطعة من بجاد أنتن من كل نتن وأخشن من كل خشن ، فيقال : يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم وربك عليك غضبان .

    وقال أبو صالح في قوله : " ارجعي إلى ربك راضية مرضية " قال : هذا عند خروجها من الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل : فادخلي في عبادي وادخلي جنتي .

    وقال آخرون : إنما يقال لها ذلك عند البعث يقال : ارجعي [ إلى ربك ] أي إلى صاحبك وجسدك ، فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وهذا قول عكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس .

    وقال الحسن : معناه : ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته ، راضية عن الله بما أعد لك ، مرضية ، رضي عنك ربك .
    ( فادخلي في عبادي ( 29 ) )

    ( فادخلي في عبادي ) أي مع عبادي في جنتي . وقيل : في جملة عبادي الصالحين المطيعين المصطفين ، نظيره : " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " .
    [ ص: 425 ] ( وادخلي جنتي ( 30 ) )

    ( ( وادخلي جنتي ) وقال بعض أهل الإشارة : يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها ، والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة .

    وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته ، فجاء طائر لم [ نر ] على صورة خلقه فدخل نعشه ، ثم لم [ نر ] خارجا منه ، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ، ولم ندر من قرأها : " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " .
    سُورَةُ الْبَلَدِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) )

    ( لَا أُقْسِمُ ) يَعْنِي ، أُقْسِمُ ( بِهَذَا الْبَلَدِ ) يَعْنِي مَكَّةَ ( وَأَنْتَ حِلٌّ ) أَيْ حَلَالٌ ، ( بِهَذَا الْبَلَدِ ) تَصْنَعُ فِيهِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الْإِثْمِ . أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ، حَتَّى قَاتَلَ وَقَتَلَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، ومِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ وَغَيْرِهِمَا ، فَأَحَلَّ دِمَاءَ قَوْمٍ وَحَرَّمَ دِمَاءَ قَوْمٍ فَقَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبَلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

    وَالْمَعْنَى : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِمَكَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا مَعَ حُرْمَتِهَا ، فَوَعَدَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحِلُّهَا لَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ فِيهَا ، وَأَنْ يَفْتَحَهَا عَلَى يَدِهِ ، فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِأَنْ يُحِلَّهَا لَهُ .

    قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " وَأَنْتَ حَلُّ بِهَذَا الْبَلَدِ " قَالَ : يُحَرِّمُونَ أَنْ يَقْتُلُوا بِهَا صَيْدًا وَيَسْتَحِلُّون َ إِخْرَاجَكَ وَقَتْلَكَ ؟
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #438
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (433)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشمس
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 2


    [ ص: 430 ] ( ووالد وما ولد ( 3 ) لقد خلقنا الإنسان في كبد ( 4 ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ( 5 ) يقول أهلكت مالا لبدا ( 6 ) )

    ( ووالد وما ولد ) يعني آدم - عليه السلام - وذريته . ( ( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) روى الوالبي عن ابن عباس : في نصب . قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال قتادة : في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة .

    وقال سعيد بن جبير : [ في شدة . وقال عطاء عن ابن عباس ] : في شدة خلق حمله وولادته ورضاعه ، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته .

    وقال عمرو بن دينار : عند نبات أسنانه . قال يمان : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق . وأصل الكبد : الشدة .

    وقال مجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والضحاك : يعني منتصبا معتدل القامة ، وكل شيء خلق فإنه يمشي مكبا ، وهي رواية مقسم عن ابن عباس ، [ وأصل ] الكبد : الاستواء والاستقامة .

    وقال ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله له في خروجه انقلب رأسه إلى رجلي أمه .

    وقال مقاتل : " في كبد " أي في قوة .

    نزلت في أبي الأشدين واسمه أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ويبقى موضع قدميه . ( أيحسب ) يعني أبا الأشدين من قوته ، ( أن لن يقدر عليه أحد ) أي : يظن من شدته أن لن يقدر عليه الله تعالى . وقيل : هو الوليد بن المغيرة . ( يقول أهلكت ) يعني أنفقت ، ( مالا لبدا ) أي كثيرا بعضه على بعض ، من التلبيد ، في عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قرأ أبو جعفر لبدا بتشديد الباء على جمع لابد ، مثل راكع وركع ، وقرأ الآخرون بالتخفيف على جمع " لبدة " ، وقيل على الواحد مثل قثم وحطم .
    [ ص: 431 ] ( أيحسب أن لم يره أحد ( 7 ) ألم نجعل له عينين ( 8 ) ولسانا وشفتين ( 9 ) وهديناه النجدين ( 10 ) فلا اقتحم العقبة ( 11 ) )

    ( أيحسب أن لم يره أحد ) قال سعيد بن جبير [ وقتادة : أيظن ] أن الله لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وأين أنفقه ؟

    وقال الكلبي : إنه كان كاذبا في قوله أنفقت كذا وكذا ، ولم يكن أنفق جميع ما قال ، يقول أيظن أن الله - عز وجل - لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته ، ثم ذكره نعمه ليعتبر ، فقال : ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين ) قال قتادة : نعم الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر ، وجاء في الحديث : أن الله - عز وجل - يقول : ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك ، فقد أعنتك عليه بطبقتين ، فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق . ( ( وهديناه النجدين ) قال أكثر المفسرين : طريق الخير والشر ، والحق والباطل ، والهدى والضلالة ، كقوله : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " وقال محمد بن كعب عن ابن عباس : " وهديناه النجدين " قال : الثديين ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك ، والنجد : طريق في ارتفاع . ( فلا اقتحم العقبة ) يقول : فهلا أنفق ماله فيما يجوز به من فك الرقاب وإطعام السغبان ، فيكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، هذا قول ابن زيد وجماعة .

    وقيل : " فلا اقتحم العقبة " أي لم يقتحمها ولا جاوزها . والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد ، وذكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة ، يقول : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة ولا طعام ، وهذا معنى قول قتادة .

    وقيل : إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها .

    وروي عن ابن عمر : أن هذه العقبة جبل في جهنم . [ ص: 432 ]

    وقال الحسن وقتادة : عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله تعالى .

    وقال مجاهد ، والضحاك ، والكلبي : هي صراط يضرب على جهنم كحد السيف ، مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا ، وإن بجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان ، فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمر كالفارس ، ومنهم من يمر عليه كالرجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ، ومنهم الزالون ، ومنهم من يكردس في النار .

    قال ابن زيد : يقول فهلا سلك الطريق التي فيها النجاة .
    ( وما أدراك ما العقبة ( 12 ) فك رقبة ( 13 ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة ( 14 ) )

    ثم بين ما هي فقال : ( وما أدراك ما العقبة ) ما اقتحام العقبة . قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال : " وما أدراك " فإنه أخبر به ، وما قال : " وما يدريك " فإنه لم يخبر به . ( ( فك رقبة أو إطعام ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي : " فك " بفتح الكاف ، " رقبة " نصب ، " أو أطعم " بفتح الهمزة والميم على الماضي . وقرأ الآخرون " فك " برفع الكاف ، " رقبة " جرا ، " أو إطعام " [ بكسر الهمزة ، فألف بعد العين ، ورفع الميم منونة ] على المصدر .

    وأراد بفك الرقبة إعتاقها وإطلاقها ، ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر بن محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد ، حدثني ابن الهاد ، عن عمر بن علي بن حسين ، عن سعيد بن مرجانة قال : سمعته يحدث عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار ، حتى يعتق فرجه بفرجه " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا محمد بن كثير العبدي ، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن السلمي ، عن طلحة [ ص: 433 ] بن مصرف اليامي ، عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة ، قال : " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة " ، قال : قلت : أوليسا واحدا ؟ قال : " لا عتق النسمة : أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة : أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف وأنفق على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير " .

    وقال عكرمة قوله : " فك رقبة " ، يعني فك رقبة من الذنوب بالتوبة " أو إطعام في يوم ذي مسغبة " ، مجاعة ، يقال : سغب يسغب سغبا إذا جاع .
    ( يتيما ذا مقربة ( 15 ) أو مسكينا ذا متربة ( 16 ) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة ( 17 ) أولئك أصحاب الميمنة ( 18 ) والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة ( 19 ) عليهم نار مؤصدة ( 20 ) )

    ( ( يتيما ذا مقربة ) أي ذا قرابة ، يريد يتيما بينك وبينه قرابة . ( أو مسكينا ذا متربة ) قد لصق بالتراب من فقره وضره . وقال مجاهد عن ابن عباس : هو المطروح في التراب لا يقيه شيء . و " المتربة " مصدر ترب يترب تربا ومتربة إذا افتقر . ( ثم كان من الذين آمنوا ) بين أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان . وقيل : " ثم " بمعنى الواو ، ( وتواصوا ) أوصى بعضهم بعضا ، ( بالصبر ) على فرائض الله وأوامره ، ( وتواصوا بالمرحمة ) برحمة الناس . ( أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة ) مطبقة عليهم أبوابها ، لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم . [ ص: 434 ]

    قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وحفص : بالهمزة هاهنا ، وفي الهمزة ، وقرأ الآخرون بلا همز ، وهما لغتان ، يقال : آصدت الباب وأوصدته ، إذا أغلقته وأطبقته ، وقيل : معنى الهمز المطبقة وغير الهمز المغلقة .
    سُورَةُ الشَّمْسِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( 1 ) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ( 2 ) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( 4 ) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( 5 ) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( 6 ) )

    ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ : ضَوْءُهَا ، وَالضُّحَى : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، فَيَصْفُو ضَوْءُهَا ، قَالَ قَتَادَةُ : هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : حَرُّهَا ، كَقَوْلِهِ فِي طَهَ " وَلَا تَضْحَى " ، يَعْنِي لَا يُؤْذِيكَ الْحَرُّ . ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ) تَبِعَهَا ، وَذَلِكَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ ، إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَلَاهَا الْقَمَرُ فِي الْإِضَاءَةِ وَخَلَفَهَا فِي النُّورِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : وَذَلِكَ حِينَ اسْتَدَارَ ، يَعْنِي كَمُلَ ضَوْءُهُ تَابِعًا لِلشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ . ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ) يَعْنِي إِذَا جَلَّى الظُّلْمَةَ ، كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا . ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) يَعْنِي يَغْشَى الشَّمْسَ حِينَ تَغِيبُ فَتُظْلِمُ الْآفَاقُ . ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) قَالَ [ الْكَلْبِيُّ ] . : وَمَنْ بَنَاهَا ، وَخَلَقَهَا كَقَوْلِهِ : " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " . ( النِّسَاءِ - 3 ) أَيْ مَنْ طَابَ .

    قَالَ عَطَاءٌ : وَالَّذِي بَنَاهَا . وَقَالَ الفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ : " مَا " بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ وَبِنَائِهَا كَقَوْلِهِ : " بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي " ( يس - 27 ) . ( وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) بَسَطَهَا .
    [ ص: 438 ] ( ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( 7 ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( 8 ) )

    ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) عَدَلَ خَلْقَهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا . قَالَ عَطَاءٌ : يُرِيدُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ . ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ : بَيَّنَ لَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ : عَلَّمَهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ، وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ : عَرَّفَهَا مَا تَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ وَمَا تَتَّقِي [ مِنَ الشَّرِّ ] .

    وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ ، يَعْنِي بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى ، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا لِلْفُجُورِ . وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ هَذَا ، وَحَمَلَ الْإِلْهَامَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ التَّقْوَى وَفِي الْكَافِرِ الْفُجُورَ .

    أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَنَا [ أَحْمَدُ بْنُ ] مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ [ وَيَتَكَادَحُون َ ] فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سَبَقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا آتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَأُكِّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ؟ قُلْتُ : بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ ، قَالَ : فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ قَالَ : فَفَزِعْتُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا ، وَقُلْتُ : إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ خَلْقُهُ وَمِلْكُ يَدِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، فَقَالَ لِي : سَدَّدَكَ اللَّهُ ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِأَخْتَبِرَ عَقْلَكَ [ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَوْ مُزَيْنَةَ ] أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ وَيَتَكَادَحُون َ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ سُبِقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ نَبِيُّهُمْ وَأُكِّدَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ ؟ فَقَالَ : " لَا بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ " ، قَالَ قُلْتُ : فَفِيمَ الْعَمَلُ إذًا ؟ قَالَ : " مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْ نِ يُهَيِّئْهُ اللَّهُ لَهَا ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " [ ص: 439 ]

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ ، أَرَأَيْتَ عُمْرَتَنَا هَذِهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ قَالَ : بَلْ لِلْأَبَدِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّنَا خُلِقْنَا الْآنَ فِيمَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ ، فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ؟ قَالَ : " لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ " ، قَالَ : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَزُهَيْرُ : فَقَالَ كَلِمَةً خَفِيَتْ عَلَيَّ ، فَسَأَلَتُ عَنْهَا نِسْبَتِي بَعْدُ ، فَذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَهَا ، فَقَالَ : " اعْمَلُوا فَإِنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " .
    ( قد أفلح من زكاها ( 9 ) وقد خاب من دساها ( 10 ) كذبت ثمود بطغواها ( 11 ) )

    ( قد أفلح من زكاها ) وهذا موضع القسم ، أي فازت وسعدت نفس زكاها الله ، أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للطاعة . ( وقد خاب من دساها ) أي خابت وخسرت نفس أضلها الله فأفسدها .

    وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله - عز وجل - ، " وقد خاب من دساها " أهلكها وأضلها وحملها على المعصية ، فجعل الفعل للنفس .

    و " دساها " أصله : دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء ، فأبدلت السين الثانية ياء .

    والمعنى هاهنا : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، حدثنا أحمد بن حرب ، حدثنا أبو معاوية عن عاصم ، عن أبي عثمان وعبد الله بن الحارث ، عن زيد بن أرقم قال : لا أقول لكم إلا ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا : " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهم وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن دعوة لا يستجاب لها " . قوله - عز وجل - ( كذبت ثمود بطغواها ) بطغيانها وعدوانها ، أي الطغيان حملهم على التكذيب .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #439
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (434)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الضحى
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 3


    [ ص: 440 ] ( إذ انبعث أشقاها ( 12 ) فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ( 13 ) فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ( 14 ) ولا يخاف عقباها ( 15 ) )

    ( إذ انبعث أشقاها ) أي قام ، والانبعاث : هو الإسراع في الطاعة للباعث ، أي : كذبوا بالعذاب ، وكذبوا صالحا لما انبعث أشقاها وهو : قدار بن سالف ، وكان أشقر أزرق [ العينين ] قصيرا قام لعقر الناقة .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل [ أخبرنا موسى بن إسماعيل ] ، حدثنا وهيب ، حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] : " إذ انبعث أشقاها " ، انبعث لها رجل عزيز [ عارم ] منيع في أهله مثل أبي زمعة " . ( فقال لهم رسول الله ) صالح - عليه السلام - ، ( ناقة الله ) أي احذروا عقر ناقة الله . وقال الزجاج : منصوب على معنى : ذروا ناقة الله ، ( وسقياها ) شربها ، أي : ذروا ناقة الله وذروا شربها من الماء ، [ فلا تعرضوا ] للماء يوم شربها . ( فكذبوه ) يعني صالحا ، ( فعقروها ) يعني الناقة .

    ( فدمدم عليهم ربهم ) قال عطاء ومقاتل : فدمر عليهم ربهم فأهلكهم . قال المؤرج : الدمدمة إهلاك باستئصال . ( بذنبهم ) بتكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة ، ( فسواها ) فسوى الدمدمة عليهم جميعا ، وعمهم بها فلم يفلت منهم أحد . وقال الفراء : سوى الأمة وأنزل العذاب بصغيرها وكبيرها ، يعني سوى بينهم . ( ولا يخاف عقباها ) قرأ أهل المدينة والشام : " فلا " بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم ، وقرأ الباقون بالواو ، وهكذا في مصاحفهم ( عقباها ) عاقبتها . [ ص: 441 ]

    قال الحسن : معناه : لا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم . وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .

    وقال الضحاك ، والسدي ، والكلبي : هو راجع إلى العاقر ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها .
    سورة الليل

    مكية

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( والليل إذا يغشى ( 1 ) والنهار إذا تجلى ( 2 ) وما خلق الذكر والأنثى ( 3 ) إن سعيكم لشتى ( 4 ) فأما من أعطى واتقى ( 5 ) وصدق بالحسنى ( 6 ) )

    ( والليل إذا يغشى ) أي يغشى النهار بظلمة فيذهب بضوئه . ( والنهار إذا تجلى ) بان وظهر من بين الظلمة . ( وما خلق الذكر والأنثى ) يعني : ومن خلق ، قيل هي " ما " المصدرية أي : وخلق الذكر والأنثى ، قال مقاتل والكلبي : يعني آدم وحواء . وفي قراءة ابن مسعود ، وأبي الدرداء : والذكر والأنثى . جواب القسم قوله : ( إن سعيكم لشتى ) إن أعمالكم لمختلفة ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها .

    روى أبو مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل ، الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " . ( فأما من أعطى ) ماله في سبيل الله ، ( واتقى ) ربه . ( وصدق بالحسنى ) قال أبو عبد الرحمن السلمي والضحاك : وصدق بلا إله إلا* الله ، وهي رواية عطية عن ابن عباس .

    وقال مجاهد : بالجنة دليله : قوله تعالى " للذين أحسنوا الحسنى " يعني الجنة . [ ص: 446 ]

    وقيل : وصدق بالحسنى أي بالخلف ، أي أيقن أن الله تعالى سيخلفه . وهي رواية عكرمة عن ابن عباس .

    وقال قتادة ومقاتل والكلبي : بموعود الله - عز وجل - الذي وعده أن يثيبه .
    ( فسنيسره لليسرى ( 7 ) وأما من بخل واستغنى ( 8 ) وكذب بالحسنى ( 9 ) فسنيسره للعسرى ( 10 ) )

    ( فسنيسره ) فسنهيئه في الدنيا ، ( لليسرى ) أي للخلة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه الله - عز وجل - . ( وأما من بخل ) بالنفقة في الخير ، ( واستغنى ) عن ثواب الله فلم يرغب فيه ( وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) سنهيئه للشر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضي الله ، فيستوجب به النار . قال مقاتل : نعسر عليه أن يأتي خيرا .

    وروينا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نفس منفوسة إلا [ كتب الله ] مكانها من الجنة أو النار " فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ قال : " لا ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة " ، ثم تلا " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى " .

    قيل : نزلت في أبي بكر الصديق اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق ، فأعتقه فأنزل الله تعالى : " والليل إذا يغشى " إلى قوله : " إن سعيكم لشتى " يعني : سعي أبي بكر وأمية .

    وروى علي بن حجر عن إسحاق عن أبي نجيح عن عطاء ، قال : كان لرجل من الأنصار نخلة وكان له جار يسقط من بلحها في دار جاره ، وكان صبيانه يتناولون منه ، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بعنيها بنخلة في الجنة " فأبى ، فخرج فلقيه أبو الدحداح ، فقال له : هل لك أن تبيعها بحش [ البستان ] ، يعني حائطا له ، فقال له : هي لك ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أتشتريها مني بنخلة في الجنة ؟ قال : " نعم " قال : هي لك ، فدعا *النبي - صلى الله عليه وسلم - جار الأنصاري [ ص: 447 ] فقال : " خذها " . فأنزل الله تعالى : " والليل إذا يغشى " إلى قوله : " إن سعيكم لشتى " [ سعي أبي ] الدحداح والأنصاري صاحب النخلة .

    ( فأما من أعطى واتقى ) [ يعني أبا ] الدحداح ، ( وصدق بالحسنى ) [ الثواب ] ( فسنيسره لليسرى ) يعني الجنة ، ( وأما من بخل واستغنى ) يعني الأنصاري ، ( وكذب بالحسنى ) يعني الثواب ، ( فسنيسره للعسرى ) يعني النار .
    ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ( 11 ) إن علينا للهدى ( 12 ) وإن لنا للآخرة والأولى ( 13 ) فأنذرتكم نارا تلظى ( 14 ) لا يصلاها إلا الأشقى ( 15 ) الذي كذب وتولى ( 16 ) وسيجنبها الأتقى ( 17 ) )

    ( وما يغني عنه ماله ) الذي بخل به ، ( إذا تردى ) قال مجاهد : إذا مات . وقال قتادة وأبو صالح : هوى في جهنم . ( إن علينا للهدى ) يعني البيان . قال الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال ، وهو قول قتادة ، قال : على الله بيان حلاله وحرامه .

    قال الفراء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى : " وعلى الله قصد السبيل " ( النحل - 9 ) يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد .

    وقيل معناه : إن علينا للهدى والإضلال كقوله : " بيدك الخير " ( آل عمران - 26 ) [ فاقتصر على الهدى لدلالة الكلام عليه كقوله : " سرابيل تقيكم الحر " ( النحل - 81 ) فاقتصر على ذكر الحر ولم يذكر البرد لأنه يدل عليه ] . ( وإن لنا للآخرة والأولى ) فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق . ( فأنذرتكم ) يا أهل مكة ، ( نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى ) أي : تتلظى ، يعني تتوقد وتتوهج . ( الذي كذب ) الرسول ، ( وتولى ) عن الإيمان . ( وسيجنبها الأتقى ) يريد بالأشقى الشقي ، وبالأتقى التقي .
    [ ص: 448 ] ( الذي يؤتي ماله يتزكى ( 18 ) )

    ( الذي يؤتي ماله ) يعطي ماله ( يتزكى ) يطلب أن يكون عند الله زاكيا لا رياء ولا سمعة ، يعني أبا بكر الصديق ، في قول الجميع .

    قال ابن الزبير : كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم ، فقال أبوه : أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ؟ قال : منع ظهري أريد ، فنزل : " وسيجنبها الأتقى " ، إلى آخر السورة .

    وذكر محمد بن إسحاق قال : كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد ، فيقول وهو في ذلك البلاء : أحد أحد .

    وقال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال : مر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك ، وكانت دار أبي بكر في بني جمح ، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين ؟ قال : أنت أفسدته فأنقذه مما ترى ، قال أبو بكر : أفعل! عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى ، على دينك ، أعطيك ؟ قال : قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه ، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر ست [ رقاب ] ، بلال سابعهم ، عامر بن فهيرة شهد بدرا وأحدا ، وقتل يوم بئر معونة شهيدا ، وأم عميس ، وزنيرة فأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى [ فقالت : كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ] ، وما تنفعان فرد الله إليها بصرها ، وأعتق النهدية وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما تحطبان لها وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا . فقال أبو بكر : خلا يا أم فلان ، فقالت : خلا أنت أفسدتهما فأعتقهما ، قال [ أبو بكر - رضي الله عنه - ] فبكم ؟ قالت : بكذا وكذا ، قال : قد أخذتهما وهما حرتان ، ومر بجارية بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها . [ ص: 449 ]

    وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال : أتبيعه ؟ قال : نعم أبيعه بنسطاس عبد لأبي بكر ، صاحب عشرة آلاف دينار ، وغلمان وجوار ومواش ، وكان مشركا حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له ، فأبى فأبغضه أبو بكر ، فلما قال له أمية أبيعه بغلامك نسطاس اغتنمه وباعه منه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله :
    ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ( 19 ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( 20 ) ولسوف يرضى ( 21 ) )

    ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) أي يجازيه ويكافئه عليها . ( إلا ) لكن ( ابتغاء وجه ربه الأعلى ) يعني : لا يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد له عنده ، ولكنه يفعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب رضاه . ( ولسوف يرضى ) بما يعطيه الله - عز وجل - في الآخرة من الجنة والكرامة جزاء على ما فعل .
    سُورَةُ الضُّحَى

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالضُّحَى ( 1 ) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ( 2 ) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( 3 ) )

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ ، حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : سَمِعْتُ جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ ، لَمْ أَرَهُ قَرَبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .

    وَقِيلَ : إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ أُمُّ جَمِيلٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ .

    وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ سَأَلَتِ الْيَهُودُ ، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنِ الرُّوحِ ؟ فَقَالَ : سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا ، وَلَمْ يَقِلْ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَاحْتَبَسَ عَنْهُ الْوَحْيُ .

    وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : كَانَ سَبَبُ احْتِبَاسِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْهُ كَوْنُ جَرْوٍ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَ عَاتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِبْطَائِهِ ، فَقَالَ : إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ [ أَوْ ] صُورَةٌ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ احْتِبَاسِ الْوَحْيِ عَنْهُ ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا . وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : أَرْبَعُونَ يَوْمًا . [ ص: 454 ]

    قَالُوا : فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : إِنَّ مُحَمَّدًا وَدَعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَا جِبْرِيلُ مَا جِئْتَ حَتَّى اشْتَقْتُ إِلَيْكَ " ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : " إِنِّي كُنْتُ أَشَدُّ شَوْقًا [ إِلَيْكَ ] ، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ " ، فَأَنْزَلَ : وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ( مَرْيَمَ - 64 ) .

    قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( وَالضُّحَى ) أَقْسَمَ بِالضُّحَى وَأَرَادَ بِهِ النَّهَارَ كُلَّهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَابَلَهُ بِاللَّيْلِ [ فَقَالَ وَاللَّيْلِ ] إِذَا سَجَى ، نَظِيرُهُ : قَوْلُهُ : " أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى " ( الْأَعْرَافِ - 98 ) أَيْ نَهَارًا .

    وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ : يَعْنِي وَقْتَ الضُّحَى ، وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ ، وَاعْتِدَالُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ . ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) قَالَ الْحَسَنُ : أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنْهُ : إِذَا ذَهَبَ ، قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ : غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ بِالظُّلْمَةِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْتَوَى . وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ : سَكَنَ وَاسْتَقَرَّ ظَلَامُهُ فَلَا يَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ . يُقَالُ : لَيْلٌ سَاجٍ وَبَحْرٌ سَاجٍ [ إِذَا كَانَ سَاكِنًا ] . قَوْلُهُ تَعَالَى : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ ، أَيْ مَا تَرَكَكَ مُنْذُ اخْتَارَكَ وَلَا أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبَّكَ .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #440
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (435)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشرح
    مكية

    الاية 1 إلى الاية 3


    وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى
    ( 4 )

    وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى حَدَّثَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ [ الصَّالِحَانِيّ ُ ] ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا " .
    [ ص: 455 ] ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ( 5 ) ألم يجدك يتيما فآوى ( 6 ) )

    ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قال عطاء عن ابن عباس : هو الشفاعة في أمته حتى يرضى ، وهو قول علي والحسن .

    وروينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " اللهم أمتي أمتي وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوءك فيهم " .

    وقال حرب بن شريح سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول : إنكم يا معشر أهل العراق تقولون : أرجى آية في القرآن : " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ، وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله " ولسوف يعطيك ربك فترضى " من الثواب . وقيل : من النصر والتمكين وكثرة المؤمنين ، ( فترضى )

    ثم أخبره الله - عز وجل - عن حالته التي كان عليها قبل الوحي ، وذكره نعمه فقال جل ذكره : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي فقال : أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني ، أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري ، حدثنا محمد بن عيسى أنا أبو عمرو الجويني وأبو الربيع الزهراني قالا حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما ، وآتيت فلانا كذا وآتيت فلانا كذا ؟ قال : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك ؟ قلت : بلى ، أي رب [ قال : ألم أجدك ضالا فهديتك ؟ قلت : بلى أي رب ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك ؟ قلت : بلى أي رب " ، وزاد غيره عن حماد قال : ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك ؟ قلت : [ ص: 456 ] بلى أي رب ] .

    ومعنى الآية : ألم يجدك يتيما صغيرا فقيرا حين مات أبواك ولم يخلفا لك مالا ولا مأوى ، فجعلت لك مأوى تأوي إليه ، وضممتك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة .

    ( ووجدك ضالا فهدى ( 7 ) ووجدك عائلا فأغنى ( 8 ) )

    ( ووجدك ضالا ) يعني ضالا عما أنت عليه ( فهدى ) أي : فهداك للتوحيد والنبوة .

    قال الحسن والضحاك وابن كيسان : " ووجدك ضالا " عن معالم النبوة وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، [ كما قال ] " وإن كنت من قبله لمن الغافلين " ( يوسف - 3 ) وقال : " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان " ( الشورى - 52 ) .

    وقيل : ضالا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير ، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه فرده إلى عبد المطلب .

    وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء ناقة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة ، ورده إلى القافلة فمن الله عليه بذلك . وقيل : وجدك ضالا [ ضال ] نفسك لا تدري من أنت ، فعرفك نفسك وحالك . ( ووجدك عائلا فأغنى ) أي فقيرا فأغناك بمال خديجة ثم بالغنائم .

    وقال مقاتل : [ فأرضاك ] بما أعطاك من الرزق . واختاره الفراء . وقال : لم يكن غنيا عن كثرة المال ولكن الله [ أرضاه ] بما آتاه وذلك حقيقة الغنى . [ ص: 457 ]

    أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه أنه قال أخبرنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزغرتاني . أخبرنا أحمد بن سعيد أخبرنا أبو يحيى محمد بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثني شرحبيل بن شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " .

    ثم أوصاه باليتامى والفقراء فقال :
    ( فأما اليتيم فلا تقهر ( 9 ) )

    ( فأما اليتيم فلا تقهر ) قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما . وقال الفراء والزجاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى ، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم .

    أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا [ عبد الله ] بن محمود ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى [ بن ] سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " ، ثم قال بأصبعيه : " أنا وكافل اليتيم [ في الجنة ] [ ص: 458 ] هكذا [ وهو يشير ] بأصبعيه [ السبابة والوسطى ] " .
    ( وأما السائل فلا تنهر ( 10 ) وأما بنعمة ربك فحدث ( 11 ) )

    ( وأما السائل فلا تنهر ) قال المفسرون : يريد السائل على الباب ، يقول : لا تنهره لا تزجره إذا سألك ، فقد كنت فقيرا فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا ، يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره .

    وقال قتادة : رد السائل برحمة ولين . قال إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة .

    وقال إبراهيم : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل توجهون إلى أهليكم بشيء ؟

    وروي عن الحسن في قوله : " أما السائل فلا تنهر " ، قال : طالب العلم . ( وأما بنعمة ربك فحدث ) قال مجاهد يعني النبوة ، روى عنه أبو بشر واختاره الزجاج وقال : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك [ الله ] .

    وقال الليث عن مجاهد : يعني القرآن وهو قول الكلبي ، أمره أن [ يقرأ به ] .

    وقال مقاتل : اشكر لما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضلالة والإغناء بعد العيلة ، والتحدث بنعمة الله شكرا .

    أخبرنا أبو سعيد بكر بن محمد بن محمد بن محمي البسطامي ، حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسين النصر أبادي ، [ حدثنا [ ص: 459 ] علي بن سعيد النسوي ] أخبرنا سعيد بن عفير ، حدثنا يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل مولى الأنصاري ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبين من زور " .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ، حدثنا أبو القاسم بن منيع ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا وكيع عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن الوليد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى ، التحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب " .

    والسنة - في قراءة أهل مكة - أن يكبر من أول سورة " والضحى " على رأس كل سورة حتى يختم القرآن ; فيقول : الله أكبر .

    قال الشيخ الإمام الأجل محيي السنة ناصر الحديث قدوة الأئمة ناشر الدين ركن الإسلام إمام الأئمة مفتي الشرق أبو محمد الحسين بن مسعود رحمه الله : كذلك قرأته على الإمام المقرئ أبي نصر محمد بن أحمد بن علي الحامدي بمرو ، قال : قرأت على أبي القاسم طاهر بن علي الصيرفي ، قال : قرأت على أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران ، قال : قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفار المقرئ ، قال : قرأت على أبي بكر محمد بن موسى الهاشمي ، قال : قرأت على أبي ربيعة والحسين بن محمد الحداد ، وهما قرآ على أبي الحسين بن أبي بزة وأخبرهما [ ص: 460 ] [ ابن أبي بزة ] أنه قرأ على عكرمة بن سليمان بن كثير المكي ، وأخبره عكرمة أنه قرأ على شبل بن عباد وإسماعيل بن قسطنطين ، وأخبراه أنهما قرآ على عبد الله بن كثير ، وأخبرهما عبد الله [ بن كثير - رضي الله عنهم أجمعين ] أنه قرأ على مجاهد ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب .

    وأخبرنا الإمام المقرئ أبو نصر محمد بن أحمد بن علي وقرأت عليه بمرو ، وقال : أنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد الزيدي بالتكبير ، وقرأت عليه بثغر حران ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد الموصلي المعروف بالنقاش ، وقرأت عليه بمدينة السلام ، حدثنا أبو ربيعة محمد بن إسحاق الربعي ، وقرأت عليه بمكة قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي [ بزة ] ، وقرأت عليه قال لي : قرأته على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد قال فلما بلغت " والضحى " قالا لي : كبر حتى تختم ، مع خاتمة كل سورة ، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك ، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس [ فأمره بذلك ] ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره بذلك .

    وكان سبب التكبير أن الوحي لما احتبس قال المشركون هجره شيطانه ، وودعه ، فاغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ، فلما نزل " والضحى " كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحا بنزول الوحي ، فاتخذوه سنة .
    سُورَةُ الشَّرْحِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( 1 ) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ( 2 ) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ( 3 ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( 4 ) )

    ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) أَلَمْ نَفْتَحْ وَنُوَسِّعْ وَنُلَيِّنْ لَكَ قَلْبَكَ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ . ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) قَالَ الْحَسَنُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ : وَحَطَطْنَا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " ( الْفَتْحِ - 2 ) .

    وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : يَعْنِي الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ . وَقِيلَ : ذُنُوبُ أُمَّتِكَ [ فَأَضَافَهُ ] إِلَيْهِ لِاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِهِمْ ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو عُبَيْدَةَ : يَعْنِي خَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ النُّبُوَّةِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهَا . ( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ) أَثْقَلَ ظَهْرَكَ فَأَوْهَنَهُ حَتَّى سُمِعَ لَهُ نَقِيضٌ ، أَيْ صَوْتٌ . ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُؤَذِّنُ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَبِيبٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ يَعْنِي ابْنَ صَالِحٍ عَبْدَ الْمَلِكِ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " ؟ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي " . [ ص: 464 ]

    وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " إِذَا ذُكِرْتُ ، ذُكِرْتَ [ مَعِي ] وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يُرِيدُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَالْخُطْبَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ ، وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا عَبَدَ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ ، وَكَانَ كَافِرًا .

    وَقَالَ قَتَادَةُ : رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .

    وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ [ إِلَّا بِهِ ] وَلَا تَجُوزُ خُطْبَةٌ إِلَّا بِهِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : [ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ] يَعْنِي بِالتَّأْذِينِ .

    وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ بِبُرْهَانِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَى وَأَمْجَدُ أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلوُحُ وَيَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ مَعَ اسْمِهِ إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ : أَشْهَدُ
    وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ .

    وَقِيلَ : رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ بِأَخْذِ مِيثَاقِهِ عَلَى النَّبِيِّينَ وَإِلْزَامِهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْإِقْرَارَ بِفَضْلِهِ .

    ثُمَّ وَعَدَهُ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي شِدَّةٍ ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
    ( فإن مع العسر يسرا ( 5 ) إن مع العسر يسرا ( 6 ) )

    ( فإن مع العسر يسرا ) أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسر ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به ، " إن مع العسر يسرا " كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء .

    وقال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشروا ، قد جاءكم اليسر ، لن يغلب [ ص: 465 ] عسر يسرين " .

    قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل ، إنه لن يغلب عسر يسرين .

    قال المفسرون : ومعنى قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله تعالى كرر العسر بلفظ المعرفة واليسر بلفظ النكرة ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسما معرفا ، ثم أعادته كان الثاني هو الأول ، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادته مثله صار اثنين ، وإذا أعادته معرفة فالثاني هو الأول ، كقولك : إذا كسبت ، درهما أنفقت درهما ، فالثاني غير الأول ، وإذا قلت : إذا كسبت درهما فأنفق الدرهم ، فالثاني هو الأول ، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف ، فكان عسرا واحدا ، واليسر مكرر بلفظ [ التنكير ] ، فكانا يسرين ، فكأنه قال : فإن مع العسر يسرا ، إن مع ذلك العسر يسرا آخر .

    وقال أبو علي [ الحسن ] بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب " النظم " تكلم الناس في قوله : " لن يغلب عسر يسرين " ، فلم يحصل منه غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة ، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران ، وهذا قول مدخول ، إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا [ إن مع الفارس سيفا ] ، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين ، فمجاز قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك ، حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فاغتم النبي لذلك ، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره ، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة ، ووعده الغنى ، ليسليه بذلك عما خامره من الغم ، فقال : " فإن مع العسر يسرا " ، مجازه : لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسرا في الدنيا عاجلا ثم أنجزه ما وعده ، وفتح عليه القرى العربية ووسع عليه ذات يده ، حتى كان يعطي المئين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ثم ابتدأ فضلا آخر من أمر الآخرة ، فقال : إن مع العسر يسرا ، والدليل على ابتدائه : تعريه من الفاء والواو ، وهذا وعد لجميع المؤمنين ، ومجازه : إن مع العسر [ ص: 466 ] يسرا ، أي : إن مع العسر في الدنيا للمؤمن يسرا في الآخرة ، فربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية ، فقوله - عليه السلام - : " لن يغلب عسر يسرين " أي : لن يغلب عسر ، الدنيا اليسر الذي وعده للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، وإنما يغلب أحدهما ، هو يسر الدنيا ، وأما يسر الآخرة فدائم غير زائل ، أي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " شهرا عيد لا ينقصان " أي لا يجتمعان في النقصان .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •