تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 26 الأولىالأولى ... 11121314151617181920212223242526 الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 510

الموضوع: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (398)





    - (باب كم يترك الخارص) إلى (باب فرض زكاة رمضان على الصغير)

    جاءت الأدلة الشرعية ببيان كيفية الخرص، وأبانت حكم زكاة الركاز والمعدن ونصابهما، وحكم زكاة العسل، ووجوب زكاة الفطر على الذكر والأنثى والصغير والكبير والمملوك.
    كم يترك الخارص


    شرح حديث: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كم يترك الخارص.أخبرنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة قال: سمعت خبيب بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل بن أبي حثمة قال: أتانا ونحن في السوق فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تأخذوا أو تدعوا الثلث -شك شعبة- فدعوا الربع) ].
    يقول النسائي رحمه الله: كم يترك الخارص؟ المقصود من هذه الترجمة: أن الزروع والثمار تخرص على أهلها ويترك شيء عند الخرص، يعني: لا يستقصى في الخرص بحيث أنه لا يترك شيئا، وإنما يترك شيء من أجل حاجة أهله إلى التفكه، وإلى التصدق، وإلى إعطاء الأقارب، والجيران ومن لهم به علاقة؛ لأن الزكاة تخرج تمراً يخرص وهو رطب، ولكن تخرج وهي تمر، ويترك الخارص عند الخرص لأهل الثمر مقداراً معيناً لا تؤخذ منهم فيه الزكاة؛ لأنه يخرج منهم إما بكونهم يأكلونه، ويتفكهون في وقت التفكه بالرطب، أو يعطونه لمن يشاءون من أقاربهم، وأصدقائهم وجيرانهم، أو يتصدقون، ثم ما وراء ذلك أي: ذلك المتروك لهم بأن تكون فيه الزكاة.
    وقد أورد النسائي حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [( إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تأخذوا أو تدعو الثلث -شك شعبة وهو أحد رجال الإسناد- فدعوا الربع )] وقيل: المراد بالذي يترك هو ربع الثمرة، أو ثلثها بمعنى: أنه لا يحاسب عليه في الزكاة، وقيل: إنه يترك مقدار ثلث أو ربع العشر، يعني: ما يقابله فيترك لهم، ومن العلماء من قال: يترك لهم على قدر حاجتهم بأنفسهم، أو بمن يحتاجون إلى إتحافه وإعطائه، سواء كان ذلك عن طريق الهدية والعطية، أو عن طريق الصدقة للفقراء والمساكين.
    ومن العلماء من فسره بغير ذلك، وأنه يترك لهم مقدار الثلث، أو الربع وهم يخرجونه بأنفسهم، يعني: الثلث أو الربع من الزكاة يخرجونه بأنفسهم، لكن الأظهر أن المقصود من ذلك هو أنه يخفف عليهم ولا يحصى عليهم كل شيء، ويترك شيء من المخروص من أجل أو مقابل ما يأكلونه من الرطب، وما يأكله الطير، وما يتساقط ويذهب، وما يعطونه، أو يتحفون به من شاءوا من أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم، أو ما يتصدقون به على الفقراء، ومن العلماء من قال: إن هذا من جنس الخضروات التي لا زكاة فيها، والتي هي لا تدخر، وإنما الناس يأكلونها ويتفكهون بها، فالذي يحتاجه الناس من الرطب هو مثل تلك الخضروات التي يستفيد منها أصحابها ولا زكاة فيها، فكذلك ذلك المقدار الذي يحتاج إليه أصحاب الثمار، فإنه مما يعفى عنه ولا يحاسبون عليه في الزكاة.
    وحديث سهل بن أبي حثمة هذا تكلم فيه من جهة أن فيه رجلاً وهو عبد الرحمن بن مسعود بن نيار وهو مقبول، يعني: أنه حيث يتابع، لكن جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، أما قضية الخرص وأصل الخرص فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري في غزوة تبوك، (فإنه لما ذهب إلى تبوك مر بحديقة لامرأة فخرصها عليها وقال: إن حديقتك تأتي لكذا وكذا، فأحصيها وإذا عدنا نأخذ منك الزكاة، فرجعوا ومروا عليها في الطريق بعد الرجوع، وقالت: إنها أحصتها وأنها ظهرت مطابقة لخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا منها الزكاة) فأصل الخرص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري، وفي غيره.
    والترك وهو الذي عنون له المصنف بقوله: كم يترك الخارص؟ هذا الحديث متكلم فيه، ولكن جاء عن بعض الصحابة ما يدل عليه وقالوا أيضاً: إنه من قبيل الخضروات أو يشبه الخضروات التي يتفكه الناس فيها في وقت الفاكهة، وكذلك الناس يتفكهون في وقت الرطب، وإذا خرص وبين لهم مقدار الزكاة عليهم، فإنهم يتصرفون في مالهم، وفي ذلك تيسير عليهم وتخفيف عليهم، وذلك الذي ترك لهم هو ما ينفونه على أنفسهم تفكهاً، وما يعطونه لغيرهم من أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم، وما يتصدقون به على الفقراء والمساكين.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ...)


    قوله: [أخبرنا محمد بن بشار ].هو الملقب بندار البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [ عن يحيى بن سعيد ].
    هو يحيى بن سعيد القطان البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ ومحمد بن جعفر ].
    هو محمد بن جعفر هو الملقب غندر البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو ابن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهي من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت خبيب بن عبد الرحمن ].
    هو خبيب بن عبد الرحمن الأنصاري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ يحدث عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار ].
    مقبول، أخرج حديثه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن سهل بن أبي حثمة ].
    صحابي صغير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    كيفية الخرص

    مداخلة: كيف تخرص الزروع والثمار؟الشيخ: يخرص يعني: يقول مثلاً أن هذه الثمرة تأتي أو يكون حاصلها من الثمر كذا وكذا، يعني: مثلاً كيلو أو صاع أو ما إلى ذلك، هذا هو الخرص، يعني: تقديراً.
    ولو كان يأتي مزرعة وينظر الزرع أو يأتي إلى بستان فيه نخيل قد بدا صلاحه فيقدر ويقول: إن هذا يأتي بهذا المقدار أو يخرج منه هذا المقدار الذي هو ألف كيلو، أو ألف صاع أو ما إلى ذلك، ثم يترك مقداراً من الخرص بحيث لا تكون الزكاة عليه جميعه ويترك جزءاً منه للأمور التي أشاروا إليها من ناحية التفكه، ومن ناحية الإعطاء والهدية والصدقة، وكذلك أيضاً ما يسقط ويتلف، وما يأكله الطير، وما ينفد على صاحبه.
    مثال ذلك لو كانت المزرعة ألف كيلو هو يقول لهم: مزرعتكم فيها سبعمائة وخمسين؛ لأنه ترك لهم الربع.
    هذا على القول بأنه الربع من الأصل، لكن هناك قول آخر أن الربع من مقدار الزكاة الذي هو العشر.

    شرح حديث أبي أمامة في تفسير قوله عز وجل: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله عز وجل: ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ )[البقرة:267]. أخبرنا يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب قال: حدثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي أن ابن شهاب حدثه قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه في الآية التي قال الله عز وجل: ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ )[البقرة:267] قال: هو الجعرور، ولون حبيق ].
    حُبيق، يعني بفتح الباء.
    قال [ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤخذ في الصدقة الرذالة ].
    أورد النسائي ترجمة تأويل قول الله عز وجل: ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ )[البقرة:267] المراد بالخبيث هنا الرديء؛ لأنه يطلق عليه خبيث الشيء، ورديء الشيء، ورذالة الشيء، ويطلق لفظ الخبيث على غير المحرم مثلما جاء في الحديث: ( وكسب الحجام خبيث )، مع أن كسب الحجام مباح وحلال، والرسول احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراماً لم يعطه كما ثبت ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد وصف بأنه خبيث والمقصود أنه رديء، يعني: كسب رديء، ليست مهنة شريفة يرغب فيها ويحث عليها، فهي مهنة رديئة لما فيها من تعاطي الدم وقبل ذلك كانوا يستعملونها عن طريق المص في المحاجم، يعني: يمص وقد يصل إلى حلقه شيء، ولهذا جاء في الحديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم ) حتى الحاجم يصل إلى حلقه شيء عن طريق المص، فكسب الحجام خبيث، يعني: رديء، ليس معناه أنه حرام لأن الخبيث يطلق على الرديء، وهنا: ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ )[البقرة:267] يعني: الرديء، وأما الحرام لا يجوز للإنسان أن يكتسبه أو أن يحصل عليه أو يتملكه وهو حرام؛ لأنه يؤاخذ عليه داخلاً وخارجاً، ويحاسب عليه في دخوله وفي خروجه، والإنسان يأخذ المال الحلال ويأخذ المال الطيب، لكن المقصود ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ )[البقرة:267] أي: الرديء، ولهذا قال: هو الجعرور ولون حبيق، وهما نوعان من أنواع التمر الرديء، أحدهما يقال له: جعرور، والثاني لون حبيق.
    ثم قال: [(فنهى رسول الله صلى الله عليه أن تؤخذ في الصدقة الرذالة)]، يعني: الشيء الرديء، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يؤخذ النفيس وكرائم الأموال، كما جاء في الحديث: ( فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم ) والرذالة هذه أيضاً لا تؤخذ، ويؤخذ من الوسط، لا يؤخذ من أجوده ولا من أردائه، لا يؤخذ من الجيد ولا من الرديء ولكن من الوسط؛ لأن المال ثلاثة أصناف: جيد ووسط ورديء، فالزكاة تؤخذ من أوساط المال، لا تؤخذ من أجوده ولا تؤخذ من أرذله؛ لأنها إذا أخذت من أجوده، صار فيه إضرار بأصحاب الأموال، وإذا أخذت من أرذله صار فيه إضرار بالفقراء الذين يستحقون الزكاة، فإذا أخذت من الوسط صار فيه لا ضرر ولا ضرار، لا ضرر بهؤلاء ولا بهؤلاء.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي أمامة في تفسير قوله عز وجل: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ...)


    قوله: [ أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ].هو الصدفي المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم، والنسائي ، وابن ماجه.
    و[الحارث بن مسكين المصري قراءة عليه وأنا أسمع].
    ثقة، أخرج له أبو داود ، والنسائي.
    [ عن ابن وهب ].
    هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي ].
    لا بأس به، أخرج حديثه النسائي وحده، وكلمة: لا بأس به تعادل صدوق، أو ليس به بأس هي مثل صدوق يعني: أنها أقل من ثقة، لكن عند يحيى بن معين أن لا بأس به تعادل ثقة في اصطلاح يحيى بن معين، ولهذا يقولون: لا بأس به عند يحيى بن معين توثيق؛ لأنه يطلقها على أشخاص هم في القمة، يعني: في الثقة والعدالة، فيقول: عن الشخص لا بأس به يقصد بذلك ثقة، وعلى هذا فهو اصطلاح اشتهر به ولهذا يقولون: إن لا بأس به عند يحيى بن معين توثيق.
    [ أن ابن شهاب ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة، فقيه، من صغار التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف ].
    صحابي معدود في الصحابة ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه أسعد وقيل: سعد، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    شرح حديث: (لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا يحيى عن عبد الحميد بن جعفر قال: حدثني صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة الحضرمي عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عصا وقد علق رجل قنو حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو، فقال: لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا، إن رب هذه الصدقة يأكل حشفاً يوم القيامة ) ]. أورد النسائي حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه [(أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وبيده عصا وإذا قنو معلق)] يعني: هو صدقة وهو حشف و(الحشف) هو تمر رديء أو يابس يعني: نوع من التمر رديء يابس وهو غير جيد ويقال له حشف، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل يطعن يعني: يضرب بعصاه ويقول: [( لو شاء رب هذا القنو لتصدق بأطيب من هذا، ثم قال: إن رب هذا القنو يأكل حشفاً يوم القيامة )]، يعني: معناه أن الجزاء على قدر العمل، فمعناه أنه يجازى على ذلك بالجزاء الذي يناسبه، وقيل: إنه يخلق له ذلك الشيء الذي كان يتصدق به في الدنيا، وأنه يأكل منه فيكون يشتهيه، والحاصل أن الجزاء من جنس العمل، وكما أنه قصر في العمل فإن جزاءه وثوابه يكون دون جزاء من عمل عملاً صالحاً وتصدق بصدقة جيدة، أو من النوع الجيد، وكانت العادة أن الواحد منهم يأتي بالعذق يعلقه، ومن أراد أن يأكل جاء وأكل منه، وتعليقه دليل على أنه مباح لمن يريد أن يأكل منه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب من هذا ...)


    قوله: [أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ].هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة، وهو مثل: محمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار هؤلاء الثلاثة شيوخ لأصحاب الكتب الستة والثلاثة ماتوا في سنة واحدة، وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، هؤلاء الشيوخ الثلاثة لأصحاب الكتب الستة ماتوا قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، أي: سنة ثنتين وخمسين ومائتين، محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي هذا.
    [ أخبرنا يحيى ].
    هو القطان وقد مر ذكره.
    [ عن عبد الحميد بن جعفر ].
    صدوق، وربما وهم، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ حدثني صالح بن أبي عريب ].
    مقبول، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن كثير بن مرة الحضرمي ].
    ثقة أخرج له البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن عوف بن مالك ].
    هو عوف بن مالك الأشجعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    المعدن

    شرح حديث: (ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة … وفي الركاز الخمس)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب المعدن.أخبرنا قتيبة قال: حدثنا أبو عوانة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتي، ولا في قرية عامرة ففيه، وفي الركاز الخمس ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي باب: المعدن، والمعدن فسر، بأنها: معادن الأرض التي هي الذهب والفضة وغيرها، لكن قالوا: الزكاة التي تؤخذ من الخارج من الأرض هي ما كان من قبيل الذهب والفضة، أما الأشياء الأخرى التي هي معادن مثل: الملح ، أو الحديد ، أو النحاس ، أو ما إلى ذلك من المعادن، فهذه لا يؤخذ منها شيء، ولكن الشيء الذي يؤخذ هو ما كان من الأشياء التي هي ذهب وفضة.
    وقد أورد النسائي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [(أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: ما كان منها يعني: في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفه سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك)]، يعني: فإن جاء صاحبها الذي عرف أوصافها التي عرفتها وهي مطابقة لما عندك فأعطها إياه، وإن لم يأت أحد يطلبها ويذكر أوصافها فهي لك، أي: لملتقطها، بعد أن يعرفها سنة.
    [( وما لم يكن في طريق مأتي ولا قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس )] يعني: فيه مقدار الخمس، وكذلك الركاز: وهو الذي يوجد من دفين الجاهلية يعني: مدفون من الأشياء التي في الجاهلية فإنه يكون فيها الخمس، وأما ما كان في بلاد المسلمين، وفي أرض المسلمين، وفي طريق عامرة وطريق مأتي، يعني: سالك مسلوك فإنه لقطة يعرف، وكذلك إذا كان في بلدة وجد فيها شيء وهي للمسلمين فإنه يعتبر لقطة، إن جاء صاحبها وعرفها وكانت مطابقة لما قال، فإنها تكون له وإلا تكون لصاحبها.
    أما ما كان من دفين الجاهلية وهو الركاز، وكذلك الشيء الذي يكون لا يعتبر لقطة فهذا فيه، وفي الركاز الخمس، لأنه حصل بسهولة ويسر ولا كلفة على صاحبه فيكون فيه الخمس.


    تراجم رجال إسناد حديث: (ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة فعرفها سنة … وفي الركاز الخمس)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني وبغلان قرية من قرى بلخ، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا أبو عوانة ].
    هو أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ،وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو عوانة، وهو شخص متقدم يعني: من طبقة شيوخ شيوخ أصحاب الكتب الستة، وفيه أبو عوانة صاحب المستخرج على صحيح مسلم وهذا متأخر، وهذا مشهور بكنيته وهذا مشهور بكنيته.
    [ عن عبيد الله بن الأخنس ].
    صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمرو بن شعيب ].
    هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة.
    يروي عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو ، وهو صدوق أيضاً، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وفي الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
    عن جده أي: الذي هو جد شعيب وجد أيضاً عبد الله، لكن المقصود أن الضمير يرجع إلى شعيب، وشعيب روى عن جده عبد الله بن عمرو ثبت سماعه منه فهو متصل، ولو كان شعيب يروي عن أبيه محمد يكون منقطعاً؛ لأن محمداً لم يدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون مرسلاً؛ لأنه مما يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مما لم يدركه، لكن هنا عمرو يروي عن شعيب ، وشعيب يروي عن عبد الله الذي هو جده، يروي عن أبيه محمد؛ لأنه ثبت سماعه من جده عبد الله بن عمرو، ولهذا قالوا: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فإنه يكون من قبيل الحسن؛ لأن عمرو بن شعيب صدوق، وشعيب صدوق، فإذا كان الإسناد صح إليهما، فإن ما جاء من طريقه عن عمرو بن شعيب يكون ثابتاً، ويكون من قبيل الحسن.
    وعبد الله بن عمرو بن العاص أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة رضي الله عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (العجماء جرحها جبار... وفي الركاز الخمس)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه [( العجماء جرحها جبار، والبئر جبار والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس )]، قوله عليه الصلاة والسلام: [( العجماء)] العجماء هي: البهيمة، يعني: إذا أتلفت شيئاً، أو جرحت شيئاً، فإن جرحها هدر، وهذا فيما إذا كانت مرسلة، وليست تحت يد صاحبها، فإنها إذا أتلفت شيئاً في النهار، أو حصل منها أن رفست أحداً، أو جرحته، فإنه لا شيء على صاحبها، نعم إذا كانت تلك العجماء من الصائل، التي تتابع الناس وتؤذيهم، وتفترسهم، أو تعضهم أو تؤذيهم، فهذه يجب على صاحبها أن يحفظها، ولا يجوز له أن يرسلها، أما إذا لم تكن من هذا القبيل ليست من الأشياء الصائلة التي إذا انفلتت أهلكت ما تمر به، وإنما مرسلة مثل: ناقة تركها ترعى فجاء إنسان عندها ولمسها وكذا فرفسته أو نهشته أو ما إلى ذلك فجرحها جبار، يعني: هدر، يعني: ما يلزم صاحبها أن يغرم لهذا الذي أتلفت ماله أو جرحته ليس عليه ضمان، [(العجماء جرحها جبار)].
    وأما الدابة إذا أتلفت ففيها تفصيل: إذا كان في الليل فليس جباراً، وإنما الذي يكون جباراً في النهار؛ لأن الناس عند مزارعهم، ويلاحظونها بخلاف الليل فإنهم نائمون، فعلى صاحبها أن يحفظها، إذا كانت في ملك الإنسان فهي جبار؛ لأن الإنسان لا يدخل ملك غيره. طبعاً كما هو معلوم إذا كانت في ملكه وجاء أحد وسقط فيها ليس عليه شيء، لكن لو كانت حفرة في طريق أو حفر له حفرة في طريق، وما عمل شيئاً يمنع المارة، أو يرشد المارة، ثم وقع فيها أحد فإنه يضمن.
    [(والمعدن جبار)] المعدن، هو: المكان الذي يستخرج منه المعادن، وهو ما يكون من الأرض من الحفر التي يدخل الناس فيها، ويستأجر أناس يستخرجون المعادن إذا انهار ذلك عليهم وماتوا، فإن الذي استأجرهم لا يكون ضامناً، يعني: عليه دياتهم وعليه ما حصل لهم من الضرر إذا كانوا تضرروا، فذلك جبار، وكذلك [البئر جبار]، يعني: كون الإنسان استأجر أناس يحفرون له بئراً، ونزلوا فيها فانهارت عليهم البئر، فإن المستأجر لا يكون ضامناً، وكذلك إذا عمل بئراً في الفلاة للمارة يستفيدون منها فجاء إنسان وسقط فيها، فإنه لا يكون ضامناً، يعني: إذا كان في ملكه، أو كذلك جاء أحد سقط فيه ما يكون ضامناً، وكذلك إذا كان في الفلاة، يعني: للناس يستفيدون منها وجاء أحدهم وسقط فيها، فإنه لا ضمان على صاحب البئر التي حفرها، ولا على المستأجر الذي استأجر الناس لاستخراج المعادن من الأرض.
    ثم قال: [وفي الركاز الخمس] والركاز وهو: ما يوجد من دفين الجاهلية، فإن فيها الخمس؛ لأن الحصول عليه سهل ميسور، ولا مشقة فيه، فيكون على من وجده الخمس يدفعه والباقي يكون له.


    تراجم رجال إسناد حديث: (العجماء جرحها جبار... وفي الركاز الخمس)


    قوله: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ].هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي المروزي ، وهو ثقة، ثبت، وصف، بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو محدث، فقيه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن سفيان ].
    هو سفيان بن عيينة الهلالي المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وسفيان غير منسوب، وهو يروي عن الزهري، وإذا جاء سفيان غير منسوب يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة؛ لأن الثوري ليس معروفاً بالرواية عن الزهري بل قال الحافظ ابن حجر: إنه لا يروي عنه إلا بواسطة، فعندما يأتي سفيان يروي عن الزهري مباشرة فالمراد به ابن عيينة؛ لأن سفيان الثوري يروي عنه بواسطة، ولا يروي عنه مباشرة، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال: إن سفيان بن عيينة هو المعروف بالرواية عنه، وسفيان الثوري قال في موضع آخر: إنه لا يروي عنه إلا بواسطة، أي: عن الزهري، فإذا جاء سفيان يروي عن الزهري مباشرة فالمراد به ابن عيينة وليس المراد به الزهري.
    وسفيان بن عيينة أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة والزهري مر ذكره قريباً.
    [ عن سعيد ].
    هو سعيد بن المسيب المدني، وهو ثقة، فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
    [ عن أبي هريرة ].
    هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.
    ثم قال: ح وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، وهذه طريق أخرى، شيخه فيها إسحاق بن إبراهيم بن راهويه لكنها طريق أطول وأنزل من الطريق السابقة التي فيها الزهري؛ لأن الطريق الأولى: إسحاق عن سفيان عن الزهري، والطريق الثانية: إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، يعني: بين إسحاق وبين الزهري واسطتان في الطريق الثانية، وبين إسحاق وبين الزهري في الطريق الأولى واسطة واحدة شخص واحد وهو: سفيان بن عيينة.
    [أخبرنا عبد الرزاق].
    هو ابن همام الصنعاني اليماني، ثقة مصنف صاحب المصنف وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، و[معمر بن راشد الأزدي البصري] ثم اليماني شيخ عبد الرزاق وقد أكثر عنه عبد الرزاق وهو ثقة، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الزهري ] وقد مر ذكره.
    [ عن سعيد وأبي سلمة ].
    سعيد قد مر ذكره في الإسناد الذي قبل هذا، وأبو سلمة كذلك؛ لأن الطريق الثانية هذه النازلة فيها شخص آخر يروي عنه الزهري مع سعيد وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد الفقهاء السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع؛ لأن الفقهاء السبعة، ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد بن ثابت ،وعروة بن الزبير بن العوام، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والسابع فيه ثلاثة أقوال، قيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن هذا الذي معنا وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر.
    إذاً: فهذا الإسناد فيه اثنان من الفقهاء السبعة، واحد منهم باتفاق وهو سعيد ، وواحد منهم على أحد الأقوال الذي هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    طريق ثانية لحديث: (العجماء جرحها جبار ... وفي الركاز الخمس) وتراجم رجال إسنادها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله ].ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى ولم يسق المتن، بل اكتفى بالإحالة على متن الطريق السابقة وقال: بمثله، يعني: أن المتن مثل المتن السابقة، هذا إذا قالوا: مثل، يعني: يتفق معه في اللفظ والمعنى، أما إذا قيل: نحوه فهو يتفق معه بالمعنى ويختلف معه في الألفاظ بعض الألفاظ.
    قوله: [ أخبرنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ].
    وقد مر ذكرهما.
    [ أخبرني يونس ].
    هو يونس بن يزيد الأيلي ، ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب ].
    قد مر ذكره.
    [ عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله ].
    سعيد مر ذكره، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وهم سعيد بن المسيب ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
    [ عن أبي هريرة ].
    قد مر ذكره.

    حديث: (العجماء جرحها جبار... وفي الركاز الخمس) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ) ].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [ أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب ].
    قتيبة قد مر ذكره، ومالك هو ابن أنس إمام دار الهجرة أحد أصحاب المذاهب الأربعة، وابن شهاب مر ذكره.
    [ عن سعيد ].
    عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وأبي هريرة مر ذكرهم.


    حديث: (العجماء جرحها جبار ... وفي الركاز الخمس) من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أنبأنا منصور وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( البئر جبار والعجماء جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس ) ]. أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم مشتمل على هذه الجمل الأربع: ( العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ).
    قوله: [أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ].
    هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وقد مر ذكره.
    [ حدثنا هشيم ].
    هو هشيم بن بشير الواسطي ، وهو ثقة، كثير التدليس والإرسال الخفي، والتدليس هو: رواية الراوي عن شيخه ما لم يسمع منه بلفظ موهم السماع كعن أو قال، وأما الإرسال الخفي فهو: أن يروي عمن عاصره ولم يلقه، سمي مرسلاً خفياً؛ لأن فيه خفاء؛ لأنه مدرك عصره، وإذا كان لم يدرك عصره فالإرسال يكون جلياً؛ لأنه واضح معروف أن فيه انقطاعاً، لكن إذا كان فيه إدراك للعصر فهذا فيه خفاء؛ لأنه روى عمن عاصره ولم يلقه، فالفرق بين التدليس والإرسال الخفي أن التدليس يختص بمن روى عمن عرف لقاؤه إياه، أما إن عاصره ولم يعرف أنه لقيه فهو المرسل الخفي، وحديث هشيم بن بشير الواسطي أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أنبأنا منصور ].
    هو ابن زاذان ، وهو ثقة، ثبت، عابد، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وذكروا في ترجمة منصور بن زاذان رحمة الله عليه لو قيل لـمنصور بن زاذان إن الموت أو ملك الموت بالباب ما كان بإمكانه أن يزيد شيئاً، يعني: معناه أنه دائم العبادة وعلى عمل صالح بصفة دائمة ولو قيل له: إن ملك الموت بالباب يعني: وصل إليه ليقبض روحه ما كان عنده زيادة على ما كان يعمله قبل ذلك، يعني: هذا إشارة وكناية عن ملازمته للتقوى، وملازمته للأعمال الصالحة، ومداومته عليها.
    [ وهشام ].
    هو ابن حسان، وهو ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن سيرين البصري]، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.

    زكاة النحل


    شرح حديث: (جاء هلال إلى رسول الله بعشور نحل له ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب زكاة النحل.أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن أبي شعيب عن موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: جاء هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له وسأله أن يحمي له وادياً يقال له سلبه، فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله، فكتب عمر: إن أدى إلي ما كان يؤدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عشر نحله فاحم له سلبه ذلك، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء ].
    أورد النسائي باب: زكاة النحل، والمقصود من ذلك عسل النحل، العسل الذي يخرج من النحل، وقد أورد فيه النسائي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: [جاء هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحله، يعني: معناه: بمقدار العشر من العسل الذي يحصل من نحله، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي له الوادي، وادي يقال له: سلبه، فحمى له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن الذي يعامل به هذا الرجل، يعني: صاحب هذا النحل، فقال عمر: إن أدى لك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمه، يعني: احم له الوادي، وإلا فإنه ذباب غيث يأكله من شاء الله]، المقصود [بذباب غيث] يعني: هذا النحل الذي يحصل منه العسل ذباب غيث يأكله من شاء الله، يعني: يستعمل الغيث، ويستعمل العشب، ويستفيد منه من يستفيد، ولا يختص به أحد دون أحد، لكن إن أدى إليك ما كان يؤديه فيعامل بما كان يعامل به في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه يخرج منه العشر، أي: عشر العسل الذي يخرج من النحل.
    وقد جاء في ذلك أحاديث وآثار، منها ما هو ثابت وصحيح، وقد ذكره الشيخ الألباني وخرجه وذكر الأحاديث والشواهد التي تدل على ذلك في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، والحديث إسناده لا يقل عن درجة الحسن؛ لأن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديثه من قبيل الحسن.

    تراجم رجال إسناد حديث: (جاء هلال إلى رسول الله بعشور نحل له ...)


    قوله: [أخبرني المغيرة بن عبد الرحمن ].هو المغيرة بن عبد الرحمن الحراني وهو ثقة، أخرج له النسائي.
    [ حدثنا أحمد بن أبي شعيب ].
    هو أحمد بن عبد الله بن أبي شعيب الحراني وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن موسى بن أعين ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    [ عن عمرو بن الحارث ].
    هو عمرو بن الحارث المصري وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]
    وقد مر ذكرهم.

    حكم زكاة العسل ومقدار نصابه

    مداخلة: هل زكاة النحل واجبة عليه سواء حمي له أو لم يحم؟الشيخ: هذا الحديث فيه دليل، أو إشارة إلى أن زكاة النحل ليست بواجبة؛ لأنه قال: (إن أدى إليك فأعطه كذا) ولو كانت واجبة، أو متعينة، لألزمه سواء حمى له، أو لم يحم، لكن الحديث هنا فيه إشارة، أو دلالة على أن هذا الإخراج ليس بواجب؛ لأنه إنما يخرج إذا حمي له.
    مداخلة: وما هو نصاب العسل؟
    الشيخ: أما نصابه فلا أدري، بعض العلماء يقول: إنه مائة وستون رطلاً عراقياً، لكن ما أدري ليس عندي تحقيق في هذا.
    ونخرج العشر منها؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث أنها قربة من عشر قرب، يعني: قربة من عشر قرب من العسل.


    فرض زكاة رمضان


    شرح حديث: (فرض رسول الله زكاة رمضان...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب فرض زكاة رمضان.أخبرنا عمران بن موسى عن عبد الوارث حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان على الحر والعبد والذكر والأنثى صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بر) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي باب: فرض زكاة رمضان، يعني: فرضها أي: وجوبها، وزكاة رمضان هي: زكاة الفطر التي تكون على كل نفس مسلمة، سواء كان حراً أو عبداً، ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً من المسلمين، وهي على الأنفس وهي زكاة الأنفس، وهي شكر لله عز وجل على إتمام شهر الصيام، وعلى إفطار شهر رمضان، ولهذا يقال لها: زكاة الفطر، ويقال: زكاة رمضان، يعني: إتمام شهر رمضان والفطر من شهر رمضان، والله عز وجل شرع للناس عند استكمال شهر رمضان عبادتين: إحداهما زكاة الفطر والثانية: عيد الفطر، فهناك عيد الفطر، وزكاة الفطر، وكل منهما منسوب إلى الفطر، يعني: الفطر من رمضان، وهما شكر لله عز وجل على هذه النعمة التي هي نعمة إتمام الصيام، وهي تجب على من كان موجوداً في نهاية الشهر؛ لأن من مات قبل نهاية الشهر لا تجب عليه، ومن ولد بعد مغيب الشمس في آخر يوم من رمضان لا تجب عليه؛ لأنه غير موجود حين الفطر من رمضان.
    وهي مفروضة على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، وهي صاع من تمر، أو صاع من شعير، [قال: فعدل الناس بذلك نصف صاع من بر]؛ لأنه ما جاء في الحديث ذكر البر، ولكنهم قاسوها عليها، يعني: قدروها وجعلوا أن نصف صاع يعادل صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخرج الصاع كاملاً، يعني: من البر، وقاسه على المقدار وأن هذا يكون فيه المقدار الذي هو الصاع، وأنها فرضت صاع ما فرضت أقل من ذلك، فأي طعام من طعام البلد سواء كان منصوصاً عليه أو غير منصوصاً عليه يخرج منه صاع، الذي يقتاته أهل البلد، يعني: مما ذكر أو مما لم يذكر، وبعض الصحابة عدلوا أو جعلوا نصف صاع من حنطة يعادل صاعاً من التمر، أو صاعاً من شعير الذي هو منصوص عليه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله زكاة رمضان...)

    قوله: [ أخبرنا عمران بن موسى ].صدوق أخرج له الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه.
    [ عن عبد الوارث ].
    هو عبد الوارث بن سعيد العنبري ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا أيوب ].
    هو أيوب بن أبي تميمة السختياني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن نافع ].
    هو نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ] رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهورين بهذا اللقب، وهم: عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وجابر وأنس وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.

    فرض زكاة رمضان على المملوك


    شرح حديث: (فرض رسول الله صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب فرض زكاة رمضان على المملوك.أخبرنا قتيبة حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى، والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، قال: فعدل الناس إلى نصف صاع من بر) ].
    ثم أورد النسائي حديث ابن عمر من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم، والنسائي أورده من أجل الاستدلال على زكاة الفطر، أو وجوبها على المملوك فهي واجبة على المملوك، ولكن يؤدي عنه سيده، كما تجب نفقته عليه، تجب زكاته عليه؛ لأنه لا يملك، فإذا أذن له بأن يكسب ويخرج الزكاة فله ذلك، لكن المهم أنها واجبة على السيد عن عبده، سواء كان مكتسباً أو غير مكتسب، وإن أذن له بالاكتساب، والإخراج مما يكتسبه فلا بأس بذلك، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم نص في أنها واجبة على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين.


    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك ...)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة عن حماد عن أيوب ].قتيبة وقد مر ذكره، وحماد هو ابن زيد؛ لأنه إذا جاء قتيبة يروي عن حماد فالمراد به حماد بن زيد بن درهم وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ].
    أيوب عن نافع عن ابن عمر ، مر ذكرهم.


    فرض زكاة رمضان على الصغير


    شرح حديث: (فرض رسول الله زكاة رمضان على كل صغير وكبير...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فرض زكاة رمضان على الصغير. أخبرنا قتيبة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان على كل صغير وكبير، حر وعبد، ذكر وأنثى، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي فرض زكاة رمضان على الصغير، يعني: أنها تجب عليه ولكن يؤدي عنه وليه يعني: أبوه، أو غيره، لأنه ليس مكلفاً، لكن يجب على وليه أن يؤدي عنه الزكاة؛ لأنها تتعلق بالأنفس، كل نفس مسلمة صغيرة أو كبيرة، ذكر أو أنثى، حراً أو مملوكاً، كل هؤلاء تجب عليهم الزكاة من كان مكلفاً، ومن كان غير مكلف وجبت على وليه، المملوك تجب على سيده، والصغير تجب على ولي أمره، سواء كان أباه أو غير أبيه.
    وقد جاء في بعض الروايات أن زكاة الفطر طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، وهذا إنما هو معلوم أن الصغير لا يصوم، لكن طعمة للمساكين هي موجودة في حقه، وأيضاً الصائم الذي أدى الزكاة عنه هو مأجور على ذلك، يعني: ففيه تطهير للمزكي عن نفسه، وعن غيره ممن لا تجب الزكاة عليه، وأيضاً هو طعمة للمساكين يستفيد المساكين من كل زكاة تحصل، سواء كانت عن صغير أو كبير.

    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله زكاة رمضان على كل صغير وكبير...)

    وإسناد الحديث مر ذكرهم جميعاً. وهذا الحديث إسناده رباعي، والإسناد الرباعي من أعلى الأسانيد عند النسائي؛ لأن قتيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فهو إسناد رباعي أعلى ما يكون عند النسائي؛ لأن النسائي ما عنده ثلاثيات، عنده خماسيات، وسداسيات، وسباعيات، وثمانيات وتساعيات، وسبق أن مر بنا حديث في فضل قل هو الله أحد، وكان فيه تسعة أشخاص، أو عشرة أشخاص، وقال النسائي: هذا هو أطول إسناد، فأعلى شيء عنده الرباعيات؛ لأنه ما عنده ثلاثيات، وهذا من الرباعيات العالية التي هي أعلى شيء عند النسائي، قتيبة عن مالك عن نافع عن ابن عمر.
    ثم أيضاً فيه السلسلة الذهبية عند البخاري التي قال البخاري عنها: إنها أصح الأسانيد وهي: مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهي أصح الأسانيد عند البخاري.



  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (399)

    - (باب فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين) إلى (باب الدقيق في الزكاة)


    فرضت زكاة الفطر على المسلمين عموماً ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، أحراراً وعبيداً، ومقدارها صاع من طعام أهل البلد، وبعدما فرضت زكاة المال استمر الصحابة رضوان الله عليهم في إخراج زكاة الفطر ولم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينههم عن ذلك مما يدل على استمرارية وجوب زكاة الفطر، ولا علاقة بينها وبين زكاة المال.

    فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين



    شرح حديث: (فرض زكاة الفطر ... على كل حر أو عبد، أو أنثى من المسلمين)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدينأخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له عن ابن القاسم حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: باب فرض زكاة الفطر على المسلمين دون المعاهدين، ومراد النسائي بهذه الترجمة هو أن الإسلام شرط في وجوب الزكاة، وأن من تجب عليه زكاة الفطر لا بد أن يكون مسلماً، سواء كان حراً أو عبداً، أو ذكراً أو أنثى، أو صغيراً أو كبيراً، المهم أن يكون من المسلمين وليس من الكفار؛ وذلك أن الكفار لا تنفعهم هذه الأعمال، حيث لم يوجد منهم الأصل الذي هو الشهادتان، الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإنما الأحكام هي للمسلمين، ولا يعني هذا أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فالمسألة خلافية من مسائل الأصول، وأصح الأقوال فيها: أنهم مخاطبون، وأنهم مطالبون بالأصول ومطالبون بالفروع، وثمرة ذلك أنهم يعاقبون على ترك الأصول وعلى ترك الفروع، لكن هذا لا يعني أنهم يأتون بالفروع فتنفعهم؛ لأنه لا بد من إتيانهم بالأصول ثم إتيانهم بالفروع، وعلى هذا فقد جاءت السنة بأن الزكاة -زكاة الفطر- إنما تجب على المسلمين، وكذلك زكوات الأموال إنما تجب على المسلمين؛ كما جاء في حديث معاذ بن جبل: ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ).
    فذكر الإسلام أولاً، ثم ما يليه وهو الصلاة، ثم ما يليه وهو الزكاة، وعلى هذا فزكاة الفطر إنما تجب على المسلمين، وليس على غيرهم من الكفار المعاهدين، وإنما هي من خصائص المسلمين، وقد جاء في الحديث أنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين، والكافر لا تطهير له في أي عمل من الأعمال ما دام الكفر موجوداً، وما دام الشرك موجوداً والعياذ بالله.
    ثم أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة رمضان على الناس صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين)، ومحل شاهد الترجمة كلمة: (من المسلمين) التي جاءت في آخر الحديث، يعني: يكون حراً أو عبداً، أو ذكراً أو أنثى من المسلمين.

    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض زكاة الفطر ... على كل حر أو عبد، أو أنثى من المسلمين)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن سلمة ].هو المرادي المصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
    [ والحارث بن مسكين ].
    شيخ ثاني للنسائي ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
    [ قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له ].
    قال: قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ له، يعني: أن اللفظ إنما هو للشيخ الثاني الذي هو الحارث بن مسكين ، اللفظ الموجود والمذكور هو لفظ الحارث بن مسكين الذي هو الشيخ الثاني، وليس الشيخ الأول الذي هو محمد بن سلمة المرادي المصري.
    [ عن ابن القاسم ].
    هو عبد الرحمن بن القاسم، صاحب الإمام مالك، وهو ثقة، أخرج له البخاري ، وأبو داود في المراسيل ، والنسائي.
    [حدثني مالك]
    هو ابن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر: رأس المتقنين وكبير المثبتين، يعني: أنه قمة في الثقة والعدالة، والاحتجاج بكلامه وبقوله رحمة الله عليه.
    [ عن نافع ].
    هو نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن عمر ].
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    شرح حديث: (فرض رسول الله زكاة الفطر ... على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا يحيى بن محمد بن السكن قال: حدثنا محمد بن جهضم قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ) ]. أورد النسائي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو مثل ما تقدم، إلا أنه أتم وأشمل من الذي قبله؛ لأن فيه -بالإضافة إلى ما قبله- ذكر الصغير والكبير؛ فالأول ما فيه إلا أربعة، الأول حر أو عبد، ذكر أو أنثى، ما فيه صغير أو كبير، يعني: فيه زيادة التنصيص على الصغير والكبير، وفيه أيضاً: ( وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة )، يعني: زكاة الفطر تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، أي: صلاة العيد، وهذا هو أفضل أوقات إخراجها؛ لأنه من أول النهار، حيث يستقبل الفقراء والمساكين يومهم وعندهم القوت وعندهم الطعام، وهو يوم لا يحتاجون فيه إلى أحد، ولهذا جاء في الحديث: ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم )، وجاء طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، فإعطاؤها إياهم قبل الصلاة، يعني: إعطاؤهم إياها في أول ذلك اليوم الذي هو يوم العيد، الذي أريد أن يستغنوا عن الحاجة إلى الناس، وإلى الطعام بأن لا يحتاج إلى سؤال من أجل الحصول على الطعام، بل أمر بإطعامهم هذه الزكاة الواجبة.
    وقد جاء أن صلاة عيد الفطر يشرع تأخيرها بعد دخول وقتها، وصلاة الأضحى يشرع تعجيلها بعد دخول وقتها، وتأخير صلاة العيد يوم الفطر؛ ليتسع للناس وقت إخراج الفطرة، وتعجيل صلاة الأضحى في أول وقتها؛ ليتسع للناس وقت الذبح؛ لأن الذبح يبدأ بعد الصلاة، ولهذا جاءت السنة بتعجيل صلاة الأضحى، وتأخير صلاة الفطر؛ تأخير صلاة الفطر ليتسع للناس وقت إخراج الفطرة، وتعجيل صلاة الأضحى ليتسع للناس وقت الذبح؛ لأن الذبح يوم عيد الأضحى بعد الصلاة، ولا يجوز الذبح قبل الصلاة؛ كما جاء في حديث الرجل الذي ضحى قبل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( وشاتك شاة لحم )، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين كما كان الصحابة يفعلون ذلك، ولكن أفضل أوقاتها يوم العيد قبل الصلاة.
    الحاصل: أن الحديث دال على ما ترجم له النسائي من التنصيص على كلمة المسلمين، وفيه عن الذي قبله هذه الزيادة، وهي بيان أن الزكاة تخرج يوم العيد قبل الصلاة، وفيه أيضاً: زيادة الذكر والأنثى على الحر والعبد، وفيه: ذكر الصغير والكبير زيادة على ما تقدم في الحديث الذي قبله، وهو: الحر والعبد، والذكر والأنثى.


    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله زكاة الفطر ... على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين) من طريق أخرى


    قوله: [ أخبرنا يحيى بن محمد بن السكن ].صدوق، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
    [ حدثنا محمد بن جهضم ].
    صدوق، أخرج له البخاري ومسلم ، وأبو داود والنسائي زيادة على الذي قبله مسلم.
    [ حدثنا إسماعيل بن جعفر ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمر بن نافع عن أبيه ابن عمر].
    هو عمر بن نافع، وهو ابن نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    عن نافع عن ابن عمر، وقد مر ذكرهما.


    كم فرض



    شرح حديث: (فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير)


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عيسى حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير ) ].ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: كم فرض؟ يعني: كم فرض زكاة الفطر؟ يعني: مقدارها وكميتها، هذا المقصود منه بيان المقدار الذي هو الصاع؛ لأن الحديث جاء بذكر الصاع، والمقصود من الترجمة بيان المقدار، هذا هو الذي ترجم له؛ لأنه فيما تقدم ذكر الذين تجب عليهم زكاة الفطر: الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، وأن يكون من المسلمين، ثم ذكر مقدار الزكاة وأنها صاع، وقد أورد حديث ابن عمر من طريق أخرى، وفيه ما في الذي قبله من فرضها على الذكر والأنثى، والحر والعبد، والصغير والكبير، وأنها صاعاً من تمرٍ، أو صاعاً من شعير، والمقصود هو الصاع.
    والسنة جاءت بإخراجها طعاماً، وأن يكون صاعاً، وإن كانت تلك الأشياء متفاوتة إلا أنه وحد المقدار بين التمر والشعير وبين ما ذكر من غيره، وأنها صاع، وعلى هذا فزكاة الفطر صاع من الطعام من قوت البلد، من أي طعام يقتاته الناس، وأن لا تكون قيمة ولا نقوداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين المقدار، أو أشار إلى المقدار مع أن النقود كانت موجودة، فلم يقل عليه الصلاة والسلام: صاعاً من تمر، أو صاعاً من كذا، أو عشرة دراهم، أو عشرين درهماً، ما قال هذا، وإنما كل الكلام يدور حول الطعام، والمقصود من ذلك أن النقود تكون موجودة، ويكون الطعام موجوداً، ولكنه بقلة، فيشح الناس فيه فلا يخرجونه إذا كان هناك سبيل لإخراج القيمة، فجاءت الشريعة بالنص على الطعام؛ لأن الناس بحاجة إلى أن يأكلوا في ذلك اليوم، فيعطون شيئاً يأكلونه، ولا يكون في وقت من الأوقات الطعام قليلاً والنقود كثيرة؛ فإذا أعطي الناس نقوداً ولم يحصلوا طعاماً يشترونه ما يكون في النقود فائدة، فجاءت القضية طعاماً، وعلى هذا فلم تأت السنة بذكر القيمة ولا النقود، وإنما جاءت بالطعام، فالواجب هو إخراجها طعاماً، وأن تكون صاعاً من قوت البلد الذي يقتاته الناس.


    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير)

    قوله: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ].هو ابن مخلد بن راهويه الحنظلي المروزي، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو محدث، فقيه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ حدثنا عيسى ].
    هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عبيد الله ].
    هو ابن عمر، عبيد الله بن عمر بن حفص بن عمر بن الخطاب العمري ، وهو ثقة، العمري المصغر، وليس عبد الله المكبر أخوه؛ لأن المصغر ثقة، والمكبر ضعيف، فهذا عبيد الله بن عمر العمري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن نافع عن ابن عمر ].
    وقد مر ذكرهما.
    وأما الطفل في بطن أمه، فمن العلماء من قال: إنه يخرج عنه زكاة الفطر، والأمر في ذلك واسع، ومنهم من قال: لا يخرج عنه؛ لأنه لم يكن موجوداً بعد.



    فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة



    شرح حديث: (كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا يزيد بن زريع أخبرنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن عمرو بن شرحبيل عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه، وكنا نفعله ) ].أورد النسائي هذه الترجمة، وهي فرض زكاة الفطر قبل نزول الزكاة، مقصود النسائي من هذه الترجمة أن فرض زكاة الفطر كانت متقدمة على فرض الزكاة التي هي زكاة المال، يعني: زكاة البدن التي هي على البدن وعلى الأنفس المسلمة، كانت مفروضة قبل أن ينزل فرض زكاة المال، يعني: في الخارج من الأرض، وبهيمة الأنعام والنقود، وما إلى ذلك، يعني: كان ذلك متقدماً.
    كما أن صيام عاشوراء كان متقدماً على فرض صيام رمضان، يقول قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه: كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما فرضت الزكاة وفرض رمضان لم نؤمر ولم ننه، وكنا نفعله، يعني معناه: أننا بقينا على الأمر الأول الذي هو كونهم مأمورين بأن يؤدوا الزكاة، وكذلك بقوا على صيام عاشوراء من حيث التطوع لا من حيث الفرض؛ لأن الفرض ما هناك فرض إلا رمضان، وأما زكاة الفطر فهي فرض كما أن زكاة المال فرض؛ لأن هذه تتعلق بالفطر، وتلك تتعلق بالمال ووجود النصاب وحولان الحول أو خروج الثمر والحبوب وما إلى ذلك.
    فإذاً: الحديث يدل على تقدم فرض زكاة الفطر على فرض الزكاة، وأنه لما نزل فرض الزكاة كانوا يؤدون فرض الزكاة، وكانوا يؤدون زكاة رمضان، ولم يأت شيء ينسخ، أو يأمرهم بخلاف ذلك، فكانوا على الأمر الأول يؤدون زكاة الفطر، واستمروا على ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كانوا يؤدون زكاة رمضان في يوم عيد الفطر.
    فالحاصل: أن الترجمة فيها بيان تقدم فرض زكاة رمضان على زكاة المال، ولكن لا يعني أن هذا ناسخ؛ لأن هذه زكاة وهذه زكاة، وتلك زكاة تقدمت واستمرت، وتلك التي هي زكاة المال تأخرت بعد ذلك واستمرت، فكل الزكاتان مستمرتان، زكاة البدن وزكاة المال.
    وأما صوم يوم عاشوراء فلم يكن فرضاً، ليس فرضاً بعدما فرض رمضان، ولكنه بقي مستحباً ومن آكد التطوع، وهو أفضل التطوع بعد صيام يوم عرفة؛ لأن أفضل يوم يصام تطوعاً يوم عرفة؛ إذ قال: (احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الآتية)، وصوم عاشوراء فيه أنه يكفر السنة الماضية، فهو أفضل صيام التطوع، وأفضل يوم يصام بعد يوم عرفة، وأما زكاة الفطر فهي بقيت مفروضة ولازمة ومتحتمة على كل مسلم، سواء كان حراً أو عبداً، ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به...)


    قوله: [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود ].هو أبو مسعود البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن يزيد بن زريع ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ممن وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث.
    [ عن الحكم بن عتيبة ].
    هو الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن القاسم بن مخيمرة ].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن عمرو بن شرحبيل ].
    هو الهمداني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن قيس بن سعد بن عبادة ].
    قيس بن سعد بن عبادة ، صحابي جليل، وهو ابن سيد الخزرج سعد بن عبادة؛ لأن الأنصار هم من الأوس والخزرج، والأوس سيدهم سعد بن معاذ الذي توفي على إثر ما حصل له في غزوة الخندق، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن كما جاء في الحديث.
    وسعد بن عبادة عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الخزرج، وقيس هذا هو ابنه، وهو صحابي جليل، وكان مشهوراً بالطول، قالوا عنه: إنه كان طويلاً، وذكر أن طويلاً من الروم كان يفتخر بطوله، ويسأل عن من يطاوله ومن يكون طوله، فقالوا لقيس بن سعد فأعطاهم سراويله، فلبسها الرومي فصار طرفها عند فمه، والطرف الآخر في أسفل رجله، يعني: أنه طويل، وكان ذلك الرجل الطويل الذي يفخر بطوله ويبحث عن من يطاوله لم يطاوله قيس ، ولكنه أعطاه سراويله، فلبسه ذلك الرومي فصار أسفله في أسفل رجله، وطرفه على فمه أعلاه، قيس بن سعد بن عبادة حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    شرح حديث: (أمرنا رسول الله بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ...) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار الهمداني عن قيس بن سعد رضي الله عنه أنه قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله )، قال أبو عبد الرحمن: أبو عمار اسمه عريب بن حميد ، وعمرو بن شرحبيل يكنى أبا ميسرة ، وسلمة بن كهيل خالف الحكم في إسناده، والحكم أثبت من سلمة بن كهيل ]. أورد النسائي حديث قيس بن سعد بن عبادة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله إلا أنه ليس فيه ذكر عاشوراء، وإنما فيه ذكر زكاة الفطر، وهو لا يختلف عن الذي قبله إلا أنه مختصر، يعني: ليس فيه يوم عاشوراء أو صيام عاشوراء، وإنما فيه ذكر زكاة الفطر، وأنها فرضت قبل زكاة المال، وأنه بعد أن نزلت الزكاة لم يؤمروا ولم ينهوا بزكاة الفطر، وكانوا يفعلونها، يعني: اكتفاءً بالأمر الأول، وذلك الاختلاف المتعلق لأن زكاة الفطر هي متعلقة بالصيام، وهي شكر لله عز وجل على نعمة الصيام، وهي متعلقة بالأنفس، وفي وقت معين، وأما زكاة المال فهي متعلقة فيمن كان غنياً وأعطاه الله المال، وملك نصاباً، وحال عليه الحول، فهذه متعلقها غير متعلق هذه، فهذه فرضت وجاء بعدها فرض آخر، واستمر الفرضان، فلا تنافي بين هذا وهذا، كونهم لم يؤمروا ولم ينهوا، بل كانوا يفعلون، استمروا على الأمر الأول، فليس هناك إشكال أو اختلاف بين الروايتين.
    والنسائي رحمه الله لما ذكر الرواية الثانية ذكر بعض الأشخاص الذين هم فيها، وسمى بعض الأشخاص، وقال: إن سلمة بن كهيل خالف الحكم في إسناده، والحكم أثبت من سلمة، ولكن كما هو معلوم لا تنافي بين الروايتين، بل هما متفقتان، وهما يتعلقان بموضوع معين، وهو أن زكاة الفطر متقدمة على زكاة المال، وأنهم بعد ما فرضت زكاة المال لم يؤمروا ولم ينهوا، واستمروا على فعلها، وكانوا يفعلونها اكتفاءً بالأمر الأول، فلا تنافي بين الروايتين؛ لأن مؤداهما واحد، وموضوعهما واحد، لكن اختلفوا في الإسناد، وكل منهما ثقة، ولا إشكال لا في هذا ولا في هذا، فكل من الإسنادين صحيح.


    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرنا رسول الله بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ...) من طريق أخرى

    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ].أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري وأبو داود والنسائي.
    [ حدثنا وكيع ].
    هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة مصنف، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سفيان ].
    هو الثوري، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو محدث فقيه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسفيان هنا غير منسوب، وإذا جاء سفيان غير منسوب ويروي عنه وكيع، فالمراد به الثوري؛ لأن وكيعاً معروف بكثرة الرواية عن سفيان الثوري وقليل الرواية عن سفيان بن عيينة، ثم أيضاً هما من بلد واحد؛ لأن وكيعاً كوفي، وسفيان كوفي، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان مع شيخه في بلد فاتصاله به أكثر، وأخذه عنه أكثر، بخلاف سفيان بن عيينة، فإنه مكي، وفرق المسافة بعيدة بين العراق وبين مكة، وإنما كان لقاؤه إياه إما في حج أو عمرة، أو في رحلة في طلب العلم، وأما من كان في بلده فإنه دائماً على صلة به، فيكون الأخذ عنه أكثر، ولهذا فإذا جاء وكيع يروي عن سفيان فالمراد به سفيان الثوري ؛ لأن الشخص إذا كان مكثراً من الرواية عن شخص فإنه لا ينسبه دائماً، بل يترك نسبته تخفيفاً واختصاراً؛ لأنه معلوم أو في حكم المعلوم.
    [ عن سلمة بن كهيل ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار الهمداني ].
    القاسم بن مخيمرة ، وقد مر ذكره.
    عن أبي عمار الهمداني، واسمه عريب بن حميد، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وابن ماجه.
    [ عن قيس بن سعد ].
    هو قيس بن سعد بن عبادة ، وقد مر ذكره.
    مكيلة زكاة الفطر



    شرح حديث: (...أخرجوا زكاة صومكم ... صاعاً من شعير أو تمر ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن المثنى حدثنا خالد وهو ابن الحارث قال: حدثنا حميد عن الحسن قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو أمير البصرة في آخر الشهر: ( أخرجوا زكاة صومكم! فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ قوموا فعلموا إخوانكم، فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كل ذكر وأنثى، حر ومملوك، صاعاً من شعير أو تمر، أو نصف صاع من قمح، فقاموا، خالفه هشام فقال: عن محمد بن سيرين ) ].أورد النسائي مكيلة زكاة الفطر، يعني: معناها: أنها بالكيل؛ لأن الذي تقدم الكمية، وأنها صاع، وهنا ذكر ما تقدر به الزكاة، وهو الكيل، وأنها تكون كيلاً، يعني: هذا هو المقصود بالمكيلة، وهو الفرق بين هذه الترجمة والترجمة السابقة؛ لأن هناك بيان الكمية، يعني: مقدارها، وهنا بأي شيء تقدر، يعني: هذه الترجمة المقصود منها أنها بأي شيء تقدر، أي: بالكيل، يعني: أنها كيلاً، وهناك بيان مقدارها وأنها صاع.
    أورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان أميراً على البصرة، فكان في آخر الشهر، وقال: أدوا زكاة صومكم! فنظر بعضهم إلى بعض، يعني: كأنهم يريدون أن يعرفوا أيش المقصود بالزكاة، المقصود بالمقدار، أو ما هو المقدار الذي يخرجونه؟ فقال: من ها هنا من أهل المدينة؟ قوموا علموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون، ثم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو نصف صاع من قمح).
    هذا الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه بيان مقدار زكاة الفطر، ومن تجب عليه، وأنها على الحر والعبد، والذكر والأنثى، وطلب من أهل العلم والذين عندهم علم في ذلك أن يبلغوا، أو يخبروا هؤلاء بالتفصيل، بتفصيل الزكاة، وبيان أحكام زكاة الفطر وما يتعلق بها.
    ولعل بعض الناس كان يجهل المقدار، ولا يعني ذلك أنهم كلهم يجهلون، لكنهم لما رأى بعضهم ينظر إلى بعض كأنه فهم أنهم لم يعلموا، ولهذا قال: فإنهم لا يعلمون، وأمر من كان من أهل المدينة ومن عنده علم في ذلك أن يبلغ الناس، ثم هو أيضاً بلغ شيئاً مما يتعلق بزكاة الفطر، وفيه ذكر (نصف صاع من قمح)، وهذا غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بزكاة القمح، يعني: ما جاء نص خاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت يتعلق بزكاة القمح، فجاء في بعض الروايات: أنه صاع من بر وهو غير محفوظ، وجاء نصف صاع من قمح وهذا أيضاً غير محفوظ، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم احتاجوا إلى أن يقيسوا بعد مدة، وأن يجعلوا نصفاً من الحنطة يعدل صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر.
    و أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنكر ذلك، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بصاع من الطعام، فهو يخرج كما كان يخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينقص عن الصاع من أي طعام كان، وسيأتي في حديث أبي سعيد أن الرسول فرض زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط، خمسة أشياء، وفسر بعض العلماء أن الصاع من الطعام المقصود به البر، لكن جاء عن أبي سعيد الخدري نفسه في صحيح البخاري ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض الزكاة صاعاً من طعام، ثم قال أبو سعيد: (وكان طعامنا يومئذ التمر والزبيب، والشعير والأقط)، يعني معناه: أن الطعام أنه مجمل، وأنه ليس المقصود به البر بعينه، ولكن المقصود هو القوت، أي قوت للبلد فإنه يخرج منه زكاة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذ كذا وكذا، فمعنى هذا: أنه إذا كان الطعام شيئاً آخر أو توفر طعام آخر يقتاته الناس فإن الزكاة تكون صاعاً أيضاً، ولهذا كان أبو سعيد يخرج صاعاً من بر، ويقول: إنه يخرج كما كان يخرج على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: صاع، لكن التنصيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على البر لم يثبت عنه.
    وبعض العلماء فسر هذا الحديث الذي فيه صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير، أو كذا أو كذا، قالوا: المقصود به الطعام، لكن نفس أبو سعيد روى كما في صحيح البخاري الحديث: أمرنا أن نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، ثم قال: وكان طعامنا، إذاً ما بعد الطعام تفسير للطعام الذي هو التمر والشعير والأقط والزبيب، يعني: هذا تفسير للطعام الذي هو طعامهم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (...أخرجوا زكاة صومكم ... صاعاً من شعير أو تمر ...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن المثنى ].هو الملقب الزمن ، أبو موسى العنزي البصري، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [ حدثنا خالد ].
    هو خالد بن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا حميد ].
    هو حميد بن أبي حميد الطويل، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الحسن ].
    هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، فقيه، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ قال ابن عباس ].
    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي ابن صحابي، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    قال في آخره: [ خالفه هشام فقال: عن محمد بن سيرين ].
    ثم ساق الرواية التي عن محمد بن سيرين.

    شرح حديث: (ذكر في صدقة الفطر قال: صاعاً من بر... ) من طريق ثانية


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا علي بن ميمون عن مخلد عن هشام عن ابن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( ذكر في صدقة الفطر قال: صاعاً من بر، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من سلت ) ]. أورد النسائي حديث ابن عباس من طريق أخرى، وفيه: (ذكر في صدقة الفطر قال ...).
    ذكر في زكاة الفطر فقال: صاعاً من بر، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من سلت، السلت هو نوع من أنواع الشعير، قيل: هو نوع من أنواع الشعير، يعني: يشبه الشعير، أو نوع من أنواع الشعير، وقالوا: إنه لا قشر له، وعلى هذا فهو نوع من الأطعمة الموجودة، ويأتي ذكره أحياناً، ويكتفى أحياناً بالشعير عنه؛ لأنه كما يقول نوع من أنواع الشعير.
    وأما ذكر البر فقد جاء في الحديث أنه صاع، وهو غير محفوظ الذي هو ذكر البر؛ لأن البر ما كان طعاماً مقتاتاً معروفاً عندهم، ولهذا أبو سعيد الخدري قال: كان طعامنا يومئذ التمر، والشعير، والزبيب، والأقط، يعني: هذا هو طعامهم، والصحابة احتاجوا إلى أن يقدروا زكاة الفطر من الحنطة، وقالوا: إن نصف الصاع يعدل صاعين، يعدل صاعين من الشعير، أو صاعين من التمر، يعني: نصف صاع من الحنطة يعدل صاعين، فمعاوية رضي الله عنه وأرضاه، قال: أرى أن مدين يعدلان صاعاً من هذا، فتابعه الناس على ذلك، وأنكر أبو سعيد هذا وقال: إنني لا أزال أخرجها كما كنت أخرجها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً، أي: من أي طعام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين المقادير في الطعام الموجود مع حصول التفاوت، ولم يفاوت بينها، فدل على أن المعتبر صاع سواء كان الطعام جيداً أو غير جيد، سواء كان من أنفس ما يكون أو دونه أو ما إلى ذلك، الرسول سوى بين هذه الأنواع بالمقدار الذي هو الصاع.
    زكاة الفطر تكون صاعاً من أي طعامٍ يكون ولو كان نفيساً، وعلى هذا فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان هناك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البر وأنه صاع أو نصف صاع لصاروا إليه، وما احتاجوا إلى أن يقدروا وإلى أن يختلفوا، واحد منهم يقول: لا، صاع، تمسكاً بالمقدار الذي عينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صاع، يعني: هو ما ذكر غير الصاع، والتي عينها متفاوتة، فإذاً لا ينظر إلى التفاوت، وإنما ينظر إلى أن أي طعام يخرج من صاع، وكذلك أيضاً بالنسبة لنصف الصاع أيضاً ما ثبت، ولو ثبت ذلك ما احتاج الناس إلى أن يقيسوا أو أن يعدلوا نصف صاع بصاع، ولا أن يختلفوا، وواحد منهم يقول: صاع، وواحد منهم يقول: لا، نصف صاع.


    تراجم رجال إسناد حديث: (ذكر في صدقة الفطر قال: صاعاً من بر... ) من طريق ثانية


    قوله: [ أخبرنا علي بن ميمون ].هو علي بن ميمون الرقي، وهو ثقة، أخرج له النسائي وابن ماجه.
    [ عن مخلد ].
    هو مخلد بن يزيد الرقي، هو صدوق له أوهام، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، وهو ثقة، من أثبت الناس في ابن سيرين ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن سيرين ].
    هو محمد بن سيرين، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عباس ].
    وقد مر ذكره.
    [عن ابن عباس قال: ذكر في صدقة الفطر قال: صاعاً من بر].
    هنا ما فيه التنصيص عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون الحديث موقوفاً.
    ولفظة: (صاعاً من بر) غير محفوظة.
    قوله في الأول: خالفه هشام، الضمير يعود على هشام خالف حميد بن أبي حميد يعني: ذاك روى عن الحسن، وهذا روى عن ابن سيرين.


    شرح حديث: (صدقة الفطر صاع من طعام) من طريق ثالثة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرني قتيبة قال: حدثنا حماد عن أيوب عن أبي رجاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخطب على منبركم -يعني: منبر البصرة- يقول: ( صدقة الفطر صاع من طعام )، قال أبو عبد الرحمن : هذا أثبت الثلاثة].أورد النسائي حديث ابن عباس من طريق أخرى، وفيه: أنه كان يخطب على منبرهم، أي: منبر البصرة، وكان أميراً على البصرة، ويقول: إن زكاة الفطر صاعاً من طعام، يعني: والطعام كما هو معلوم يشمل البر، ويشمل الزبيب، والشعير، والأقط، وما إلى ذلك من الأطعمة، من أي طعام يكون، قال النسائي: وهذا أثبت الثلاثة، يعني: الروايات الثلاثة المتقدمة عنه، التي فيها نصف صاع بر، والتي فيها صاع بر، والتي فيها ذكر الطعام مطلقاً الذي يشمل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما لم يأت، ما سمي وما لم يسم، كما جاء عن أبي سعيد: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذٍ التمر والشعير والزبيب والأقط ).


    تراجم رجال إسناد حديث: (صدقة الفطر صاع من طعام) من طريق ثالثة


    قوله: [ أخبرني قتيبة ].قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا حماد ].
    هو ابن زيد بن درهم البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أيوب ].
    أيوب بن أبي تميمة السختياني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي رجاء ].
    هو عمران بن ملحان العطاردي ، وهو ثقة، مخضرم، معمر، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    التمر في زكاة الفطر



    شرح حديث: (فرض رسول الله صدقة الفطر... أو صاعاً من تمر ...) من طريق رابعة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التمر في زكاة الفطرأخبرنا محمد بن علي بن حرب حدثنا محرز بن الوضاح عن إسماعيل وهو ابن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة الفطر صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط ) ].
    أورد النسائي الترجمة وهي: التمر في زكاة الفطر، أي: إخراجه في زكاة الفطر، وأورد حديث أبي سعيد من طرقه، وفيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، وفيها التمر الذي هو محل الترجمة، وقد مرت روايات عديدة فيها ذكر التمر مستدلاً بها على أمور أخرى، وهنا أورد هذه الطريق وهي مشتملة على التمر للاستدلال به على إخراجه في زكاة الفطر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه، وأنه من قوت المدينة؛ لأن المدينة ذات نخل، فالتمر قوت لأهلها.


    تراجم رجال إسناد حديث: (فرض رسول الله صدقة الفطر... أو صاعاً من تمر ...) من طريق رابعة

    قوله: [ أخبرنا محمد بن علي بن حرب ].ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ حدثنا محرز بن الوضاح ].
    مقبول، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن إسماعيل وهو ابن أمية ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب ].
    صدوق يهم، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم ، وأبو داود في المراسيل، والترمذي والنسائي وابن ماجه.
    [ عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سعيد الخدري ].
    هو سعد بن مالك بن سنان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.



    الزبيب


    شرح حديث: (كنا نخرج زكاة الفطر ... أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) من طريق خامسة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك حدثنا وكيع عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط ) ].أورد النسائي هذه الترجمة وهي الزبيب، يعني: إخراج الزبيب في زكاة الفطر، وأورد فيه حديث أبي سعيد الذي يقول فيه: (كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا يفيد بأنه في علمه وبعلمه، وأنه لا سيما والزكاة تجمع وتوصل إليه ويفرقها، ويأمر بتفريقها، وتطعم للفقراء والمساكين، فهذه العبارة تدل على رفع ذلك، وأنه مضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط)، يعني: خمسة أشياء، لكن بعض العلماء فسر الطعام هنا بأنه البر، فسر الطعام بأنه البر، لكن يشكل عليه أن أبا سعيد نفسه كما جاء في البخاري قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعاً من طعام)، ثم قال: (وكان طعامنا يومئذ التمر والزبيب والشعير والأقط).
    فعلى هذا تكون (طعام) كلمة عامة، يفسرها ما بعدها من الأمور الأربعة: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط)، هذه الأربعة، وعلى هذا كان الطعام في زمنه أربعة، والطعام يشملها، وكذلك أيضاً كل طعام يقتاته أهل بلد، فإن الزكاة تخرج منه، وهو الذي جاء عن ابن عباس: أن زكاة الفطر صاعاً من طعام، يعني: لفظ عام يشمل كل طعام يقتاته الناس، وعلى هذا فتكون صاعاً من طعام لا يراد بها البر؛ لأنه لو كان يراد بها البر لما احتاج الناس إلى أن يقيسوا وأن يختلفوا، وأن يقول أحد: صاع، وواحد يقول: لا، نصف صاع، لو كان هناك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وإذاً: فهذه الرواية فيها ذكر الطعام وما بعده كأنه تفسير له، يوضحه ذلك الحديث الذي في البخاري الذي أشرت إليه: ( زكاة الفطر صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذ ...)، ثم ذكر الأربعة.


    تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نخرج زكاة الفطر ... أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط) من طريق خامسة


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ].وقد مر ذكره.
    [ حدثنا وكيع عن سفيان ].
    وقد مر ذكرهم.
    [ عن زيد بن أسلم ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

    [ عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد ].
    عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد ، وقد مر ذكرهما.


    شرح حديث: (كنا نخرج زكاة الفطر ...) من طريق سادسة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا هناد بن السري عن وكيع عن داود بن قيس عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نخرج صدقة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم معاوية رضي الله عنه من الشام، وكان فيما علم الناس أنه قال: ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعاً من هذا، قال: فأخذ الناس بذلك ) ]. أورد النسائي حديث أبي سعيد من طرق أخرى، وهي أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر، صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، ما فيه لفظة زبيب، ذكر الأربعة فقط.
    ثم قال: ولما قدم معاوية، وجاءت سمراء الشام، وهي الحنطة الشامية، فقال: ما أرى مدين من هذا إلا يعدلان صاعاً، مدين التي هي نصف الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد، يعني: قال: ما أرى مدين من هذا إلا يعدلان صاعاً من هذا، أي: من تلك الأطعمة، فوافقه الناس، يعني: فكانوا يخرجون، لكن أبا سعيد رضي الله عنه التزم إخراج الصاع، وقال: إنه لا يخرج نصف صاع، وإنما يخرج صاعاً كما كان يخرجه بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأطعمة المعروفة في وقته وكانت متفاوتة، ومع ذلك سوى بينها بالمقدار وهو صاع، فكذلك إذا وجد طعام آخر نفيس فيكون منه صاع، يعني: صاع رز، صاع بر، وصاع من أي طعام يقتاته الناس.
    ووجه المعادلة بين الصاع فيما مضى وهذه الحنطة يعني: معاوية رضي الله عنه عندما قال: ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعاً، يعني: وجه القياس بينهما من ناحية نفاستها وقيمتها، وأنها يعني: الحنطة كانت أغلى من غيرها، وأن نصف صاع يساوي في القيمة، يعني: إذا كان مثلاً هذا صاع يباع مثلاً بعشرة دراهم، فهذا يباع بنصفها.


    تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نخرج زكاة الفطر ...) من طريق سادسة

    قوله: [أخبرنا هناد بن السري ].هو هناد بن السري أبو السري الكوفي، ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن وكيع عن داود بن قيس ].
    وكيع ، قد مر ذكره.
    [عن داود بن قيس].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد ].
    وقد مر ذكرهما.


    الدقيق



    شرح حديث: (لم نخرج على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من تمر ... أو صاعاً من دقيق...) من طريق سابعة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الدقيقأخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان عن ابن عجلان قال: سمعت عياض بن عبد الله يخبر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (لم نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من دقيق، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من سلت)، ثم شك سفيان فقال: دقيق أو سلت].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الدقيق، يعني: إخراج الدقيق وهو الطحين، البر إذا طحن، والحب إذا طحن، هذا هو المقصود به، فأورد النسائي حديث أبي سعيد :
    (لم نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من دقيق، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من سلت).
    ثم شك سفيان فقال: دقيق أو سلت، يعني: هل قال هذا أو هذا؟ فالسلت جاء في بعض الأحاديث وهو نوع من الشعير، وأما الدقيق فهو جاء في هذه الرواية، وهو غير محفوظ، ولم يأت به نص، ولكنه كما هو معلوم هو طعام، ويجوز إخراج الدقيق، لكن مقدار صاع من الحب؛ لأن الصاع إذا طحن يكون أكثر، الطحين يكون أكثر من صاع؛ لأنه لو أخرج دقيقاً لكان أقل من صاع؛ لأن الصاع إذا طحن زاد، فصار أكثر من صاع في الكيل، فلا يخرج، تخرج الدقيق إذا أخرج، يعني: على أنه صاع؛ لأنه أقل من الصاع، ولكن إذا احتيج إليه وأخرج، فليخرج معه ما يقابل الصاع إذا طحن، الصاع من الحب إذا طحن هذا هو مقداره؛ لأن المقصود صاعاً من طعام يعني: قبل أن يطحن، فإذا طحن يضاف إليه، يعني: يضاف من الدقيق ما يعادل الصاع إذا طحن؛ لأن الصاع من البر إذا طحن يكون أكثر من صاع، فلو أخرج من الدقيق صاعاً لكانت الزكاة أقل ونقصت، فإذا احتيج إليها يجوز؛ لأنه من الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الأشياء الأصلية التي لم تؤول إلى الطحن، لكن إذا احتيج إلى إخراج الدقيق لا بأس، لكن بشرط أن يضاف إليه ما يجعله موازياً للصاع من الطعام.
    وكما هو معلوم، البر لازم يطحن، وأما التمر ما يطحن، يأكله الناس بدون طحن، يعني: هذا الطحن نادر، الناس صاروا يطحنونه الآن، لكن البر ما فيه إلا الطحن، ما يأكله الناس بدون طحن، البر لا يأكل إلا مطحوناً، يعني: يطحن ثم يجعل سويقاً، ويجعل خبزاً، ويجعل رقاقاً وما إلى ذلك، والتمر كما هو معلوم يخرج، لكن لو فرض أنه عجن أو طحن أو كذا، والناس صار متوفر عندهم وأرادوا أن يخرجوا منه، فلازم يخرجون بمقدار الصاع الذي هو التمر الأصلي.


    تراجم رجال إسناد حديث: (لم نخرج على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من تمر ... أو صاعاً من دقيق...) من طريق سابعة

    قوله: [ محمد بن منصور ].هو الجواز المكي ، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو سفيان بن عيينة المكي ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عجلان ].
    هو محمد بن عجلان المدني ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة، وقد ذكر في ترجمته: إن أمه حملت به ثلاث سنوات، وكذلك قالوا عن الإمام مالك : إن أمه حملت به ثلاث سنوات.
    [ سمعت عياض بن عبد الله يخبر عن أبي سعيد الخدري].

    وقد مر ذكرهما.



  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (400)



    - (باب الحنطة في الزكاة) إلى (باب إذا أعطاها غنياً وهو لا يشعر)

    بينت السنة زكاة الفطر وأصنافها، والوقت الذي يُستحب أن تؤدى فيه، ومقدار ما يخرج، وحكم نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وأن المسلم إذا تصدق على شخص غني ظاناً أنه فقير فإنها تصح منه.
    الحنطة


    شرح حديث: (أن رسول الله فرض صدقة الفطر... نصف صاع بر، أو صاعاً من تمر أو شعير...) من طريق ثامنة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحنطة.أخبرنا علي بن حجر حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن الحسن : أن ابن عباس رضي الله عنهما خطب بالبصرة فقال: ( أدوا زكاة صومكم، فجعل الناس ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: من ها هنا من أهل المدينة، قوموا إلى إخوانكم فعلموهم، فإنهم لا يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرض صدقة الفطر على الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، نصف صاع بر، أو صاعاً من تمر، أو شعير، قال الحسن: فقال علي: أما إذا أوسع الله فأوسعوا، أعطوا صاعاً من بر أو غيره )].
    يقول النسائي رحمه الله: الحنطة، أي: الحنطة في زكاة الفطر، أي: إخراجها في زكاة الفطر، وقد أورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر بالأمس، وفيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر نصف صاع من بر، أو صاع من تمر، أو صاع من شعير)، وقد عرفنا بالأمس أن البر لم يثبت فيه شيء، وأن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه جاء عنه كما في صحيح البخاري قال: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير، والزبيب والأقط)، يعني: هذه الأمور الأربعة، والحنطة ليست مشهورة, وليست قوتاً معتاداً في المدينة، وإنما القوت في المدينة هذه الأمور الأربعة، التي قال عنها أبو سعيد : (وكان طعامنا يومئذ)، يعني: في ذلك الوقت، هذه الأمور الأربعة، ولهذا لما وجدت الحنطة وكثرت، رأى أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن مدين من الحنطة تعدلان صاعاً من الشعير، والمدان هما نصف الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد، يعني: نصف صاع من حنطة يعدل أو يساوي صاعاً من شعير، وبعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كـأبي موسى لم يرى أن يخرج نصف صاع، وإنما يخرج صاعاً من أي طعام من الأطعمة، وإن كانت متفاوتة، إذا أخرج الزكاة يخرجها صاعاً من أي طعام من قوت البلد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين هذه الأربعة التي هي طعامهم يومئذ، مع أنها ليست على حد سواء بل متفاوتة.
    فكذلك إذا وجد شيء كالبر أو كالأرز، يعني: يزيد عن تلك الأشياء، فإنه يخرج منه صاعاً، وعلى هذا، فذكر نصف الصاع من البر ليس بمحفوظ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يتعلق بالبر والتنصيص عليه، وإنما الذي ورد صاع، إما صاعاً من طعام، أو صاعاً من تلك الأطعمة التي كانت هي طعامهم في زمنه صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهي التمر والشعير، والزبيب والأقط.
    وعلى هذا فإن الزكاة تخرج طعاماً ولا تخرج نقوداً، وتخرج صاعاً ولا تقل عن صاع، وبعض العلماء أجاز، كما جاء عن معاوية وبعض الصحابة التنصيف، يعني: نصف الصاع من البر معادلاً بغيره، ولكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق، وسوى بين الأطعمة بأنها تكون صاعاً مع حصول تفاوتها، وأبو سعيد رضي الله عنه رأى أنه يخرج الصاع ولا ينقص عنه من أي طعام، فإن الأولى والذي ينبغي أن يعمل به، وأن لا يصار إلى خلافه، هو أن يخرج صاعا من أي طعام، ولو كان ذلك الطعام أنفس من غيره، وأحسن من غيره.
    ثم قال: [الحسن: قال علي رضي الله عنه: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا]، يعني: أخرجوا صاعاً من بر أو غيره، يعني: أن هذا الذي فيه خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، أن الأولى للإنسان أن يأخذ بما هو الأكمل وبما هو الأحوط، وأن يكون ذلك صاعاً من أي طعام، من بر أو غير بر، سواء كان الطعام من المسميات في ذلك الوقت، أو الأشياء التي لم تكن طعاماً، ولكنها طعام لكثير من الناس اليوم، لا سيما الرز في هذا الزمن الذي يعتبر هو القوت الرئيسي عند كثير من الناس، وهو لا يحتاج إلى طحن كالبر، فالإخراج يكون صاعاً.
    ثم إذا حصل أي تغير في بعض الأطعمة؛ لأنها لا تكون طعاماً فلا ينبغي إخراجها مثل الشعير في هذا الزمان؛ لأن الشعير كان طعاماً، ولكنه الآن لا يؤكل ولا يستعمله الناس، وإنما يشترونه علفاً للبهائم، يعلفون به البهائم، فلا ينبغي إخراج الشعير في هذا الزمان؛ لأن الناس ما يقتاتونه، وإنما يجعلونه علفاً للبهائم، فيخرج من الأطعمة التي هي قوت الناس، مثل الأرز والبر والتمر وغيرها.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله فرض صدقة الفطر... نصف صاع بر، أو صاعاً من تمر أو شعير...) من طريق ثامنة


    قوله: [أخبرنا علي بن حجر ].هو علي بن حجر بن إياس السعدي المروزي، وهو ثقة، حافظ، أخرج له البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي .
    [ حدثنا يزيد بن هارون ].
    هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا حميد ].
    هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وذكروا في ترجمته: أنه مات وهو قائم يصلي رحمة الله عليه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الحسن ].
    هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، وهو ثقة، فقيه، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أن ابن عباس ].
    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة الكرام، وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأيضاً هو أحد المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة ، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم، وعن الصحابة أجمعين.


    السلت


    شرح حديث: (كان الناس يخرجون عن صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب) من طريق تاسعة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السلت.أخبرنا موسى بن عبد الرحمن حدثنا حسين عن زائدة حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ( كان الناس يخرجون عن صدقة الفطر في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من شعير، أو تمر، أو سلت، أو زبيب )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: السلت، أي: السلت في زكاة الفطر، والسلت نوع من الشعير، وله اسم يخصه يقال له السلت؛ لأنه نوع من الشعير لا قشر له، وأورد النسائي حديث ابن عمر : [أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في زمنه صلى الله عليه وسلم صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من سلت، أو صاعاً من زبيب]، والسلت هو: نوع من الشعير، وهو طعامهم، ولهذا ما جاء ذكره في حديث أبي سعيد قال: (وكان طعامنا يومئذ الشعير والتمر والزبيب والأقط)؛ لأن السلت وإن كان طعامهم إلا أنه داخل في الشعير؛ لأنه نوع من أنواعه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كان الناس يخرجون عن صدقة الفطر صاعاً من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب) من طريق تاسعة


    قوله: [أخبرنا موسى بن عبد الرحمن ].هو موسى بن عبد الرحمن المسروقي، وهو ثقة، أخرج حديثه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [ حدثنا حسين ].
    هو حسين بن علي الجعفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن زائدة ].
    هو زائدة بن قدامة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد ].
    صدوق ربما وهم، وأخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن نافع ].
    هو نافع مولى ابن عمر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن عمر] .
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أي: هو مثل ابن عباس في أن كل منهما من العبادلة الأربعة، وأن كل واحد منهما من السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    الشعير

    شرح حديث: (كنا نخرج في عهد الرسول صاعاً من شعير...) من طريق عاشرة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الشعير. أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا داود بن قيس حدثنا عياض عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ( كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من شعير، أو تمر، أو زبيب، أو أقط، فلم نزل كذلك حتى كان في عهد معاوية ، قال: ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعاً من شعير )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الشعير، أي: إخراج الشعير في زكاة الفطر، وقد أورد النسائي فيه حديث أبي سعيد من طريق أخرى، وهو أنهم كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم يخرجون الزكاة من التمر، والشعير، والزبيب، والأقط، يعني: صاعاً من أي واحد من هذه الأشياء، قالوا: فلم يزالوا على ذلك حتى جاء معاوية، وجاءت سمراء الشام، [ فقال: ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعاً من شعير ].
    يعني: أن هذه الأربعة كانت هي القوت في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهي التي قال فيها أيضاً في البخاري: (وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط)، والنسائي أورد الحديث من أجل الشعير، وكونه يخرج في زكاة الفطر، وجاء فيه النص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه القوت في ذلك الزمان مع الثلاثة الأخرى التي معه، وهي التمر والزبيب والأقط.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نخرج في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صاعاً من شعير...) من طريق عاشرة


    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي ].هو عمرو بن علي الفلاس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [ حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا داود بن قيس ].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقا، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ حدثنا عياض ].
    هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سعيد ].
    هو أبي سعيد الخدري ، سعد بن مالك بن سنان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته أبو سعيد ، وأيضاً هو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    الأقط


    شرح حديث: (كنا نخرج في عهد الرسول صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط...) من طريق حادية عشرة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الأقط. أخبرنا عيسى بن حماد قال: حدثنا الليث عن يزيد عن عبيد الله بن عبد الله بن عثمان : أن عياض بن عبد الله بن سعد حدثه أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، لا نخرج غيره )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الأقط، أي: في زكاة الفطر، وأورد فيه حديث أبي سعيد ، وقال: [إنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر في زمنه صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط]، يعني: هذا هو قوتهم الذي يخرجون منه، وهذا يوافق ما جاء في صحيح البخاري من قوله: (وكان طعامنا يومئذ التمر والشعير والزبيب والأقط)، يعني: هذا هو طعامهم، ويخرجون من طعامهم، وهنا يقول: [لا نخرج غيره]، أي: لأن هذا كان طعامهم الذي يقتاتونه، وكانوا يعتادونه ويأكلون منه، والأقط هو: اللبن المستحجر الذي يطبخ، ثم يجفف، وييبس، وهو أحد أنواع أطعمتهم في زمنه صلى الله عليه وسلم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كنا نخرج في عهد الرسول صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط...) من طريق حادية عشرة

    قوله: [ أخبرنا عيسى بن حماد ].هو المصري الملقب زغبة، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [ حدثنا الليث ].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن يزيد ].
    هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبيد الله بن عبد الله بن عثمان ].
    مقبول، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي. ويقال: عبيد الله أو عبد الله يقال فيه هذا وهذا.
    [ أن عياض بن عبد الله بن سعد ].
    هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد مر ذكره.
    [ أنه أبا سعيد ]، وقد مر ذكره.

    كم الصاع؟


    شرح حديث: (كان الصاع على عهد الرسول مداً وثلثا ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كم الصاع؟ قال: أخبرنا عمرو بن زرارة ، قال: أخبرنا القاسم وهو ابن مالك ، عن الجعيد ، قال: سمعت السائب بن يزيد رضي الله عنه أنه قال: (كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مداً وثلثا بمدكم اليوم، وقد زيد فيه)، قال أبو عبد الرحمن : وحدثنيه زياد بن أيوب ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: كم الصاع؟ يعني: مقداره، وهو أربعة أمداد، يعني: صاع النبي صلى الله عليه وسلم، وصاع المدينة في زمنه عليه الصلاة والسلام أربعة أمداد، ولهذا قدر معاوية الزكاة من البر، فقال: (أرى مدين يعدلان صاعاً)، وهي نصف الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد، وهذا هو الصاع الذي كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، وحصل بعد ذلك تغير الأصواع وتنوعها، والزيادة فيها والنقص فيها، وهذا الحديث الذي يرويه السائب بن يزيد الذي أورده النسائي يقول: أن الصاع كان يساوي مداً وثلثاً فيما عندهم في ذلك الوقت الذي كان يحدث بالحديث، وقد زيد فيه، يعني: أن الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم هو أربعة أمداد، ولكنه يعدل مداً وثلثاً، يعني: بهذا المقدار، الذي اتخذ صاعاً من بعده، ولكن المعتبر هو الصاع الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المقدار الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا اختلفت المقادير والموازين، وزادت أو نقصت، فإنه لا عبرة بهذا التقدير، وإنما العبرة بالتقدير الذي كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، وهو الصاع الذي هو أربعة أمداد، الذي جاء في الحديث أنه يغتسل في الصاع، يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، يعني: ما يملأه الصاع يغتسل به الإنسان، وما يملأ المد يتوضأ به الإنسان، والمد ربع الصاع.
    فإذاً: التقدير إنما هو بالصاع الذي هو الصاع في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولا ينظر إلى الآصع والمكاييل إذا تغيرت بالزيادة والنقصان؛ لأنها ليست معتبرة، بل المعتبر هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وعناه النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا الصاع، أي: الصاع المعهود في زمنه، وليس المقصود أي صاع يكون بعده، سواء كبر أو صغر؛ لأنه قد يكبر، يعني: الصاع وقد يكون المد أكبر من الصاع أيضاً، مثل ما هو موجود في هذا الزمن، المد أكبر من الصاع، المد مقدار كبير عند الناس، يعني: في المدينة هو أكبر من الصاع.
    فإذاً ليست العبرة بالمكاييل التي هي بعد زمنه صلى الله عليه وسلم، بل المعتبر هو ما عناه الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما شرع للناس أن زكاة الفطر تكون صاعاً من أي نوع من أنواع الأطعمة التي يأكلها الناس.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كان الصاع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مداً وثلثا ...)


    قوله: [ أخبرنا عمرو بن زرارة ].هو عمرو بن زرارة النيسابوري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ، ومسلم ، والنسائي.
    [ أخبرنا القاسم وهو ابن مالك ].
    صدوق فيه لين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
    [ عن الجعيد ].
    هو الجعيد بن عبد الرحمن بن أوس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ سمعت السائب بن يزيد ].
    صحابي صغير، قال: حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمري سبع سنوات، يخبر عن نفسه أنه حج به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره سبع سنوات، فهو صحابي صغير له أحاديث قليلة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ وحدثنيه زياد بن أيوب ].
    قال النسائي : وحدثنيه زياد بن أيوب، يعني: مثل حديث عمرو بن زرارة، يعني: وبنفس الإسناد؛ لأنه ما ساق الإسناد بعده، وإنما اكتفى بالإشارة إلى المتقدم.

    شرح حديث: (المكيال مكيال أهل المدينة ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة )]. ثم أورد النسائي هذا الحديث، وهو حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو: [( المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة )]، يعني: أن المعتبر في المكاييل ما كان في المدينة، وهو الصاع وأجزاؤه التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتبر في الموازين ما كان في مكة، وهو عمل أهل مكة، قيل: والسبب في هذا التفريق، هو أن المعروف في زمانه أن المدينة بلاد زراعية فيها نخل وزرع، ولهذا اعتبرت فيها المكاييل، ودعا النبي صلى الله عليه لصاعها ومدها، فصار المعتبر في المكاييل عمل أهل المدينة، ومكيال أهل المدينة الذي هو الصاع والمد؛ لأن المدينة بلد زراعية فيها التمر وفيها الزرع.
    وأما مكة فهي بلاد ليست زراعية، ولهذا جاء في القرآن: ( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ )[إبراهيم:37]، يعني: مكة، ولكنهم أصحاب تجارة، وهم أصحاب رحلة الشتاء والصيف، وعندهم التجارة، والحجاج يأتون إليهم، ويبيعون ويشترون، فهي بلد تجاري، والمعتبر في الوزن هو: وزن أهل مكة، المعتبر في الموازين يعني: مقادير الذهب والفضة، وموازينها إنما يرجع فيه إلى أهل مكة، أو إلى الوزن في مكة، وإذاً فهذا التفريق والتفاوت في الموازين والمكاييل؛ لأن المدينة بلد زراعي، وكان الكيل فيها المشهور؛ لأن فيها التمر الحبوب، فاعتبر مكيال أهل المدينة، وكذلك لما كانت مكة هي البلد الذي فيه التجارة، والذي يقصده الناس ويؤمه الناس، ويبيعون ويشترون، فصار المعتبر في الوزن وزن أهل مكة.
    تراجم رجال إسناد حديث: (المكيال مكيال أهل المدينة ...)

    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان ].هو أحمد بن سليمان الرهاوي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ حدثنا أبو نعيم ].
    هو أبو نعيم الفضيل بن دكين الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو نعيم، وهو متقدم، وهو من كبار شيوخ البخاري، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وقد وصف بأن فيه تشيع، ولكن جاء عنه عبارة تدل على سلامته من التشيع، كما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمته في مقدمة الفتح يقول: ما كتبت علي الحفظة أني سببت معاوية، يعني: الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات ما كتبوا عليه سيئة أنه سب معاوية، ومن المعلوم أن بين الشيعة والرافضة في سب معاوية قدر مشترك بينهما، يجتمعون عليه ويتفقون عليه، ولكن الفرق بينهم فيمن وراءه، فإن من الشيعة من لا يسب الشيخين أبا بكر وعمر، والرافضة يسبون الشيخين وغير الشيخين، لكن معاوية قدر مشترك، الشيعة يسبونه، والزيدية الذين هم أخف الشيعة يسبون معاوية، ومن السهل عليهم سب معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
    الحاصل: أن أبا نعيم الفضل بن دكين وصف بأنه يتشيع، وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا الوصف بأنه جاء عنه هذه العبارة التي تدل على سلامته من هذا الوصف الذي هو التشيع.
    يروي عن سفيان ، وسفيان هو الثوري، سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة، ثبت، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسفيان مهمل غير منسوب، والمراد به الثوري؛ لأن أبا نعيم مكثر من الرواية عنه، ومقل من الرواية عن سفيان بن عيينة مثل وكيع؛ لأن وكيعاً مكثر من الرواية عن الثوري، ومقل من الرواية عن سفيان بن عيينة، وإذا أطلق الراوي شيخه دون أن ينسبه، يحمل على من له به كثرة اتصال، وكثرة أخذه، وكثرة رواية عنه.
    ثم أيضاً أبو نعيم الفضل بن دكين هو من أهل الكوفة، وسفيان الثوري من أهل الكوفة، فالملازمة موجودة، وابن عيينة من أهل مكة، فلا يكون الاتصال به إلا عن طريق رحلة، أو عن طريق حج أو عمرة، ومن كان من أهل البلد يكون الأخذ عنه أكثر، ولهذا كان وكيع، وأبو نعيم وكل منهما كوفي يرويان عن سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة ، ولكن يهملون سفيان فيحتمل هذا ويحتمل هذا، لكن يحمل على من أكثر عنه وهو الثوري، وقد ذكر هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: إن أبا نعيم مكثر من الرواية عن سفيان الثوري ، فإذا جاء مهملاً غير منسوب يحمل عن الثوري لإكثاره عنه، وليس عن ابن عيينة لإقلاله من الرواية عنه.
    [ عن حنظلة ].
    هو حنظلة بن أبي سفيان، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن طاوس ].
    هو طاوس بن كيسان اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عمر ].
    وقد مر ذكره.


    باب الوقت الذي يستحب أن تؤدى صدقة الفطر فيه



    شرح حديث: (أن رسول الله أمر بصدقة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الوقت الذي يستحب أن تؤدى صدقة الفطر فيه. أخبرنا محمد بن معدان بن عيسى حدثنا الحسن حدثنا زهير حدثنا موسى ، ح أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا الفضيل حدثنا موسى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصدقة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة )، قال ابن بزيع : بزكاة الفطر].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة، وهي الوقت الذي يستحب فيه أداء زكاة الفطر، والمراد به أنه قبل صلاة العيد، هذا هو أفضل أوقات إخراجها، لماذا؟ لأن الفقراء يستقبلون يومهم وعندهم قوتهم في ذلك اليوم، لا يحتاجون إلى السؤال، يستقبلون اليوم وعندهم الطعام الكافي لهم في ذلك اليوم، وقد جاء في الحديث: ( أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم )، فإذا أعطوا في ذلك الوقت، معناه: استقبلوا اليوم وعندهم الطعام الكافي لهم في يوم العيد، الذي لا يحتاجون معه إلى سؤال الناس، ولا إلى التطلع للحصول على شيء من الناس.
    ثم أيضاً زكاة الفطر هي مضافة إلى الفطر، أي: الفطر من رمضان، والفطر من رمضان يكون بغروب الشمس في آخر يوم من رمضان، عند ذلك يكون الفطر، فمن ولد بعد غروب الشمس في ذلك اليوم لا زكاة عليه؛ لأنه ما كان في الوقت الذي فيه الفطر، وإنما كان بعده، ومن مات قبله لا زكاة عليه؛ لأن ما وجد كونه أفطر شهر رمضان، إذاً فالمعتبر هو الفطر، ولهذا قيل لها: زكاة الفطر؛ لأنها مضافة إلى الفطر الذي هو إنهاء شهر رمضان، وإنهاء شهر رمضان يكون بإفطار آخر يوم منه، يعني: يوجد الفطر، ولهذا يقال للزكاة: زكاة الفطر، ويقال للعيد: عيد الفطر؛ لأنه شكر لله عز وجل على إتمام النعمة، وهي صيام شهر رمضان التي آخرها إفطار آخر يوم من رمضان، التي أداؤها يكون بإفطار آخر يوم من رمضان، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ لأنه جاء عن الصحابة أنهم كانوا يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين، فذلك جائز، ولكن أفضل أوقات إخراجها يوم العيد قبل الصلاة كما جاء في الحديث، ولهذا جاء في بعض الأحاديث مشروعية استحباب تأخير صلاة العيد يوم الفطر بعد دخول وقتها قليلاً، واستحباب تعجيل صلاة الأضحى بعد دخول وقتها؛ لأن في تأخير صلاة عيد الفطر سعة وقت إخراج الفطرة، يكون فيه سعة للناس يخرجون زكاة الفطر، وتعجيل زكاة العيد يوم الأضحى؛ ليتسع للناس وقت الذبح؛ لأن الذبح ما يكون إلا بعد صلاة العيد، ما يجوز قبل صلاة العيد، فتعجل صلاة الأضحى؛ ليتسع للناس وقت الذبح، وتؤخر صلاة عيد الفطر قليلاً ليتسع للناس وقت إخراج الفطرة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله أمر بصدقة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)


    قوله: [أخبرنا محمد بن معدان بن عيسى ].ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ حدثنا الحسن ].
    هو الحسن بن محمد بن أعين ، وهو صدوق، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي.
    [ حدثنا زهير ].
    هو زهير بن معاوية ، أبو خيثمة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا موسى ].
    هو موسى بن عقبة المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ قال: ح أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع ].
    ثم قال: ح أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع، وهو ثقة، أخرج له مسلم، والترمذي، والنسائي.
    [ حدثنا الفضيل ].
    هو الفضيل بن سليمان، وهو صدوق له خطأ كثير، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا موسى عن نافع عن ابن عمر ].
    موسى ، هو ابن عقبة، عن نافع عن ابن عمر، وقد مر ذكرهما.
    [ قال ابن بزيع: بزكاة الفطر ].
    قال ابن بزيع: زكاة الفطر، يعني: أن الفرق بين قوله وبين قول محمد بن معدان، هو أن: محمد بن معدان قال: صدقة الفطر، يعني: ساق الحديث وقال: صدقة الفطر، ومحمد بن بزيع مثله إلا أن بدل صدقة الفطر قال: زكاة الفطر، التعبير بالزكاة بدل الصدقة، لفظ هذا مثل لفظ هذا إلا في هذه الكلمة، فإنه خالفه فيها، فقال ابن بزيع : زكاة الفطر، ومحمد بن معدان قال: صدقة الفطر؛ لأنهما شيخان، الشيخ الأول اللفظ له، والسياق له، وفيه صدقة الفطر، فأشار بعد ذلك إلى أن الشيخ الثاني في الطريق الثانية الذي هو ابن بزيع عبارته ليست صدقة الفطر كعبارة محمد بن معدان ، ولكن عبارته زكاة الفطر.


    إخراج الزكاة من بلد إلى بلد


    شرح حديث: (... فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فتوضع في فقرائهم...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [إخراج الزكاة من بلد إلى بلد.أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك حدثنا وكيع حدثنا زكريا بن إسحاق وكان ثقة، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله عز وجل قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فتوضع في فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله عز وجل حجاب )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: إخراج زكاة المال من بلد إلى بلد، يعني: حكمه هل هو سائغ أو غير سائغ؟ ولهذا أطلق الترجمة، يعني: إخراج زكاة البلد، هل تخرج أو ما تخرج؟ وأورد فيه حديث ابن عباس الذي جاء في آخره [صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فتعطى لفقرائهم].
    من العلماء من قال: إن الضمائر في أغنيائهم وفقرائهم ترجع إلى أهل اليمن، وعلى هذا فلا تخرج الزكاة من بلد إلى بلد؛ لأنه ما فيه دليل؛ لأنه إذا كانت تؤخذ من أغنياء أهل اليمن وترد على فقراء أهل اليمن، معناه: أنها ما تخرج من البلد، وبعض العلماء يقول: إن الضمير يرجع للمسلمين، تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقراء المسلمين، وعلى هذا يجوز إخراجها من بلد إلى بلد، وترجمة النسائي بالاحتمال؛ لأنه ما قال: مشروعية إخراجها ولا عدم إخراجها، وإنما قال: إخراج زكاة المال ..الخ، هل تخرج أو لا تخرج؟ لكن الذي يظهر في هذا أنه إذا كانت الحاجة في البلد الذي فيه الزكاة أشد، فهم أولى به ولا تخرج؛ لأن الفقراء يرون المال ، فهم أحق بزكاته ما داموا أشد حاجة من غيرهم، أما إذا كانت حاجتهم أخف، وحاجة غيرهم أشد في البلاد الأخرى التي ليس فيها المال، فيجوز إخراجها إلى ذلك البلد الذي فيه الحاجة أشد، وإذا كانت الزكاة كثيرة، وأخرج بعضها في البلد الذي فيه المال، وبعضها في البلد الذي يكون أشد، فلعل هذا هو الأحسن، بحيث لا يحرم الفقراء في البلد منها أصلاً، ولا يترك أولئك الذين هم أشد حاجة، وهم ليسوا في البلد أصلاً، فلا يعطون شيئاً، فإذا لوحظ بأن يعطى أهل البلد منها، ويعطى غيرهم ممن هو أشد، فإن هذا هو المناسب فيما يبدو، والله تعالى أعلم.
    النسائي أورد حديث ابن عباس الطويل، والذي سبق أن مر بنا في أول حديث في كتاب الزكاة، وذكرت أن بعض المصنفين افتتح به كتاب الزكاة، مثل البخاري صدر به كتاب الزكاة من صحيحه، وصدر به كتاب التوحيد من صحيحه، والنسائي كذلك صدر به كتاب الزكاة، وبعض المؤلفين الذين ألفوا يعني: في الحديث فعلوا ذلك، مثل ابن حجر صدر به كتاب الزكاة من بلوغ المرام، وعبد الغني المقدسي صاحب عمدة الأحكام، صدر به كتاب الزكاة من عمدة الأحكام، فإذاً هذا الحديث يعتبر عمدة في الزكاة، وفي إخراج الزكاة؛ لأن فيه ترتيب الدعوة إلى الله عز وجل، والبدء بالأهم فالأهم، وفيه كون الزكاة تلي الصلاة، يدعا إليها بعد التوحيد وبعد الصلاة، أول شيء يدعا إليه بعد التوحيد وبعد الصلاة هو الزكاة، ولهذا قدموه على غيره في كتب الزكاة، جعلوه أول حديث في كتاب الزكاة عندهم، لدلالته بوضوح على عظم شأن الزكاة، وأنها تلي الصلاة.
    وقد سبق أن مر بنا الكلام هذا الحديث، وما اشتمل عليه من الدعوة إلى الله عز وجل، وأنه أول شيء يدعى إليه التوحيد، ثم يدعى إلى الصلاة؛ لأنها هي الصلة الوثيقة بين العبد وبين ربه، وهي التي يتبين بها كون الإنسان مستقيماً أو غير مستقيم، بمصاحبة الإنسان عندما يصاحب إنساناً يستطيع أن يعرف أنه مستقيم، أو غير مستقيم بكونه يصلي، أو لا يصلي، كون أمر الصلاة عنده عظيم، أو هين، بخلاف الزكاة والصيام والحج، فهذه لا تعرف؛ لأنها لا تأتي في السنة إلا مرة واحدة، والحج لا يأتي في العمر إلا مرة واحدة، لكن الصلاة في اليوم والليلة خمس مرات، إذا صاحبت إنساناً تستطيع أن تعرف أنه من أهل الخير، أو من أهل الشر، بكونه يصلي، أو لا يصلي، في خلال أربعة وعشرين ساعة تكتشفه أو بخلال أقل من أربعة وعشرين ساعة إذا جاء أول وقت من الصلاة، لكن الزكاة ما تأتي في السنة إلا مرة واحدة وعلى الأغنياء، وإذا مسك النصاب وحال عليها الحول، والصيام يأتي في السنة شهراً، والحج يأتي في العمر مرة واحدة.
    هي الصلة الوحيدة بين العبد وبين ربه، ولهذا جاء في القرآن أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ لأن الإنسان الذي يحافظ على الصلاة يرجو ثواب الله ويخشى عقاب الله إذا حدثته نفسه بسوء يتنبه ويقول: لماذا كنت أصلي؟ أخاف من العقاب، فيكون ذلك رادعاً له، ودافعاً له، وزاجراً له عن أن يقع في الأمر المحرم.
    ثم بعد ذلك الزكاة التي نفعها متعدد، يستفيد منها المتصدق المزكي والمعطى الزكاة، يستفيد طهرة لماله، وتنمية لماله، وتحصيل الأجر والثواب عند الله عز وجل على أدائه زكاة ماله، والفقير يستعمل تلك الزكاة التي فرضها الله له، فيشد بها رمقه، ويقضي بها حاجته.
    والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرشد إلى أن يدعو إلى الزكاة بعد الصلاة، قال: فإن هم أجابوك، يعني: استجابوا لأن يدفعوا الزكاة، قال: [وإياك وكرائم أموالهم]، احذر أن تأخذ كرائم الأموال، وهي: النفيسة الجيدة، أنفس الأموال وأجود الأموال، إياك وكرائم الأموال، يعني: إياك أن تأخذها؛ لأن أخذها ظلم، ثم عقب ذلك بقوله: [( واتق دعوة المظلوم )]؛ لأنك إن أخذتها تأخذ بغير حق، فتكون ظالماً، فيكون ذلك سبباً في أن يدعو عليك من ظلمته، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فيجني الإنسان على نفسه، ويتسبب بأن يجلب البلاء على نفسه بأن يأخذ ما لا يستحقه، وهو يظلم بعض الناس لبعض الناس، ويقولون في الكلمات الشائعة: شر الناس من ظلم الناس للناس، يعني: يظلم لغيره، يظلم غيره والمصلحة لغيره، وهم الفقراء والمساكين، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( إياك وكرائم أموالهم ).
    وإذاً: لا تؤخذ الزكاة من الكرائم، ولا تؤخذ من الرديء، مثلما مر في الحديث، ونهى عن الرذالة في الصدقة، يعني: أن يدفع الشيء الرذيل عند قوله: ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون )، أي: الرديء، وإذاً فالذي يؤخذ هو من الوسط، لا من الجيد ولا من الرديء؛ لأن أخذ الجيد فيه إضرار بأصحاب الأموال وظلم لهم، وأخذ الرديء فيه إضرار بالفقراء، وإذا أخذ الوسط فيه الاعتدال والتوسط في الأمور بين الجودة والرداءة، وإنما يؤخذ من أوساط المال، والمقصود من إيراد الحديث: [تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم]، من قال: أن الضمير يرجع إلى أهل اليمن يقول: لا يدل الحديث على إخراج زكاة المال إلى بلد آخر، ومن قال: الضمائر ترجع للمسلمين، قال: بأنها تخرج الزكاة من بلد إلى بلد، والذي ذكرته هو التفصيل؛ لأنه إذا كان البلد الذي فيه الفقراء والمساكين أشد، فهم أولى، وإذا كان غيرهم أشد، فإن كون أولئك يعطون وهؤلاء يعطون، هذا هو المناسب، والله تعالى أعلم.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فتوضع في فقرائهم...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ].هو محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
    [ حدثنا وكيع عن زكريا بن إسحاق ].
    عن وكيع ، وهو ابن الجراح ، وقد مر ذكره، وكيع بن الجراح الرؤاسي ، ثقة، مصنف، حديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن يحيى بن عبد الله بن صيفي ].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي معبد ].
    هو نافذ مولى ابن عباس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عباس ].
    وقد مر ذكره.
    وأما صدقة الفطر، فالحكم فيها كزكاة المال، في النقل من بلد إلى بلد، يمكن أن تنقل من بلد إلى بلد إذا كانت الحاجة أشد، وإن كانت الحاجة ليست أشد، بل البلد الذي فيه الإنسان أشد حاجة، فإنها لا تخرج.
    ولو أن إنساناً صام تسعة وعشرين كلها في بلد، وآخر يوم سافر إلى بلد آخر، ذهب إلى مكان آخر.
    فإذا كان يمكنه أن يخرج الزكاة، ويمكنه أن يوصي أهله بأن يخرجوا له معهم، وإن أخرج في بلده وهم أخرجوا في بلدهم، فهذا مناسب.


    باب: إذا أعطاها غنياً وهو لا يشعر


    شرح حديث: (... لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب إذا أعطاها غنياً وهو لا يشعر. أخبرنا عمران بن بكار حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب حدثني أبو الزناد مما حدثه عبد الرحمن الأعرج ، مما ذكر أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ( قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، فقال اللهم لك الحمد على زانية، وعلى سارق، وعلى غني، فأتى فقيل له: أما صدقتك فقد تقبلت، أما الزانية فلعلها أن تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله عز وجل )].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: إذا أعطى الصدقة لغني وهو لا يشعر، يعني: فهل تمضي أو لا تمضي أو أنه يقضيها؟ المقصود أنه: يعطيها للفقراء والمساكين، ولكن لو أعطاها لغني يظنه فقيراً، ثم تبين أنه غني فهي مجزئة، لا يقال: إنه عليه أن يقضيها؛ لأنه ما دام أنه عندما أعطاها إياه كان يظنه فقيراً، ثم تبين بعد ذلك له أنه غنياً، لا يقال: أن الصدقة عليه أن يقضيها، وأن يعطيها لفقير؛ لأن تلك أعطيت لمن لا يستحقها.
    النسائي أورد هذه الترجمة، وأورد تحتها هذا الحديث، حديث أبي هريرة في قصة رجل من بني إسرائيل من الأمم المتقدمة، وقد جاء في مسند الإمام أحمد كونه من بني إسرائيل، رجل من بني إسرائيل، وقال: لأتصدق، فألزم نفسه بالصدقة، ثم خرج بصدقته فأعطاها لامرأة، فتبين أنها زانية، فجعل الناس يتحدثون: تصدق على زانية، يتعجبون، تصدق على زانية، فسمع ذلك، فقال: الحمد لله على زانية، يعني: صدقة على زانية، الحمد لله، ثم قال: لأتصدقن، فخرج بصدقته وأعطاها لسارق، شخص صار سارقاً، وما يعرف أنه سارق، ولكنه أعطاها لشخص، يظن أنه أهل لها، وتبين أنه عاصي، صاحب سرقات، وأخذ أموال الناس، فجعل الناس يتحدثون: تصدق على سارق، فقال: الحمد لله على سارق، يعني: صدقة على سارق، ثم قال: لأتصدقن، فخرج وأعطاها لغني، فجعل الناس يتحدثون: تصدق على غني، فقال: الحمد لله على زانية، صدقة على زانية، وعلى سارق، وعلى غني، فأتي في منامه فقيل له: أما صدقتك على السارق فلعله يستعف به، أو يستغني به، يعني: عن السرقة، ويكف به عن السرقة، وعن إيذاء الناس، وصدقته على الزانية لعلها تستعف به عن الزنا، وصدقته على غني لعله يتذكر ويعتبر، وأنه يكون مثل هذا الشخص الذي أغناه الله ويتصدق، فيتصدق كما تصدق هذا الذي وضع في يده صدقة، يتذكر أن الغني يتصدق، فهو نفسه يتصدق، كما وضع في يده يضع في أيدي الناس، كما يضع في يده ذلك المتصدق وضع في يده تلك الصدقة، هو يتذكر ويتنبه ويعتبر، ويتصدق على الناس، ويعطي الناس، ويضع في أيدي الناس منه صدقة.
    ثم الاستدلال بالحديث، يعني: هذا فيه شرع من قبلنا، فهل هو شرع لنا أو ليس بشرع لنا؟ شرع من قبلنا فيه ثلاثة أحوال:
    الحال الأولى: أن يأتي في شرعنا ما يدل على أنه شرع لنا، يعني: ذكر في شرع من قبلنا، ولكن جاء في شرعنا أنه شرع لنا، فيكون شرع لنا؛ لأنه كان في شرع من قبلنا، وجاء في شرعنا أنه شرع لنا، فصار الذي علينا هو مثل الذي على من قبلنا، المثال.
    قتل النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، جاء في التوراة: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ )[المائدة:45]، وجاء في شرعنا أن هذا لنا.
    الحالة الثانية: أن يأتي في شرعنا أنه ليس لنا، ذكر في شرع من قبلنا، ولكن جاء في شرعنا أنه ليس لنا، فهذا ليس لنا؛ لأنه جاء في شرعنا أنه ليس لنا، وإن كان لمن قبلنا، يعني: مثال ذلك الجمع بين الأختين، كان في الشرائع السابقة لهم، وفي شريعتنا ليس لنا، ففي بعض الشرائع السابقة الجمع بين الأختين سائغ، شريعتنا جاء أنه ليس لنا هذا، يعني: منعنا من ذلك، وحرم علينا ذلك، فإذاً كان في شرع من قبلنا، ثم جاء في شرعنا أنه ليس لنا، فإذاً لا يكون لنا.
    الحالة الثالثة: أن يذكر في شرعنا أنه في شرع من قبلنا، لكن ما جاء في شرعنا، يعني: شيء يدل على إثباته ولا على نفيه، هذه الحال مختلف فيها بين العلماء، جمهور العلماء على أنه يكون لنا، وبعض العلماء يقول: إنه ليس لنا، والذين يقولون بأنه لنا يقولون: أنه ما ذكر لنا إلا لنعتبر ونتعظ ونستفيد؛ لأنه ذكر في شرعنا أنه في شرع من قبلنا، وما جاء في شيء يمنعنا، وما جاء في شيء يجعله لنا، إذاً يكون لنا.
    وعلى هذا فالذي جاء في شرع من قبلنا في هذا الحديث، أن ذلك الشخص أعطاها لغني وهو لا يشعر، واعتبرت صدقته، فكذلك لو أن إنساناً في شرعنا أو في هذه الأمة أعطاها لإنسان يظنه فقيراً، فبان غنياً بعد ذلك، فإن الصدقة مجزئة وهي في محلها، وخرجت مخرجها، وليس عليه قضاؤها.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني...)


    قوله: [ أخبرنا عمران بن بكار ].ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [حدثنا علي بن عياش ].
    ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ حدثنا شعيب ].
    هو شعيب بن أبي حمزة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني أبي الزناد ].
    هو عبد الله بن ذكوان المدني ، مشهور بلقبه أبو الزناد ، وهو على صيغة الكنية؛ لأنه ليس كنيته أبو الزناد، وإنما لقبه أبو الزناد على صيغة الكنية، وكنيته قيل: أبو عبد الرحمن، ولقبه: أبو الزناد، وهو مشهور بلقبه، وهو عبد الله بن ذكوان المدني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ مما حدثه الأعرج ]
    هو عبد الرحمن بن هرمز، لقبه الأعرج المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بلقبه الأعرج، ومعرفة ألقاب المحدثين من الأمور المهمة في علم المصطلح؛ لأن فائدة معرفتها أن لا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر مرة باسمه، ومرة بلقبه.
    وأبو هريرة ، عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه.



  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (401)





    - (باب الصدقة من غلول) إلى (باب جهد المقل)

    للصدقة أجر عظيم، بل هي من أفضل العبادات، فينبغي الإكثار منها، وأن ينتقي الإنسان أطيب ما يملك ليتصدق به؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
    الصدقة من غلول


    شرح حديث: (إن الله عز وجل لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الصدقة من غلول.أخبرنا الحسين بن محمد الذارع حدثنا يزيد وهو ابن زريع حدثنا شعبة أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا بشر وهو ابن المفضل حدثنا شعبة واللفظ لـبشر عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عز وجل لا يقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول )].
    يقول النسائي رحمه الله: باب الصدقة من غلول، الغلول يطلق على ما يغل من الغنيمة، وما يؤخذ من الغنيمة قبل قسمتها من بعض الناس الذين يكونون في الجهاد، ويطلق على ما هو أعم من ذلك، وهو الخيانة، وقد جاء في الحديث ما يدل على العموم، يعني: في عدم القبول في الصدقة غير الطيبة، غير هذا الحديث الذي فيه التنصيص على الغلول، وهو ما جاء عن أبي هريرة في صحيح مسلم: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، فهذا عام، يعني: أن الصدقة تكون من مال حلال، وتكون من مال طيب، وإذا كانت من مال حرام فهي لا يقبلها الله عز وجل؛ لأن أخذ الإنسان لها من الحرام، يؤاخذ عليه الإنسان، ويعاقب عليه الإنسان، وإخراجها تصدقاً لا يقبله الله عز وجل؛ لأنها خبيثة، وهي مال خبيث غير طيب، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
    وقد أورد النسائي حديث أسامة بن عمير، والد أبي المليح، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا يقبل الله صلاةً بغير طهور، ولا صدقة من غلول )، فإن الصلاة التي يؤديها الإنسان على غير وضوء، وعلى غير طهارة فإنها غير مقبولة؛ لأنه اختل شرط من شروطها، بل هو أعظم شروطها، وهو الطهارة، وكذلك قوله: ( ولا صدقة من غلول )، لا يقبلها الله عز وجل؛ لأنها مال حرام، ليس حلالاً للإنسان، بل دخوله عليه حرام، فتصرفه فيه لا ينفعه عند الله عز وجل، ( لا يقبل الله صلاة من غير طهور، ولا صدقة من غلول ).
    وقد عرفنا أن الحديث الذي جاء عن أبي هريرة يشمل الغلول وغيره، والغلول إذا فسر بالخيانة -وهي أعم من الغلول من الغنيمة- فإنه يشمل الغلول من الغنيمة وغيرها مما هو خيانة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن الله عز وجل لا يقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول)

    قوله: [ أخبرنا الحسين بن محمد الذارع ].صدوق، أخرج له الترمذي ، والنسائي.
    [ حدثنا يزيد وهو ابن زريع ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة هو ابن زريع، هذه التي زادها النسائي أو من دون النسائي؛ لأن تلميذ الحسين بن محمد الذارع لا يحتاج إلى أن يقول: هو ابن فلان، بل يسميه وينسبه كما يريد، ولكن التلميذ إذا ذكر لفظاً معيناً فإن من وراءه يلتزم بهذا التعيين وبهذا التحديد، وإذا أراد أن يأتي بما يوضح المراد فإنه يأتي بكلمة هو، أو بكلمة يعني، التي تدل على أنها من دون التلميذ من أجل تبيين هذا المهمل الذي لم ينسبه التلميذ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، يزيد بن زريع.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهي من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود ].
    هذا إسناد آخر للنسائي ، لكن ليس فيه ح التحويل كالعادة والمتبع، فهي غير موجودة، وكلمة قال هذه، الذي قالها من دون النسائي؛ لأن (قال) مثل كلمة (يعني) فيما يتعلق بالتوضيح، يعني: ابن فلان، أي: أن قائل كلمة قال هو من دون النسائي، وفاعل كلمة قال هو النسائي، ففاعلها الذي قال حدثنا إسماعيل بن مسعود هو النسائي، الذي فعل ذلك، لكن الذي قال كلمة قال هو من دون النسائي، وقد جاء هذا الإسناد بدون التحويل، لكن واضح فـإسماعيل بن مسعود من مشايخه، والإسناد يلتقي عند شعبة.
    وإسماعيل بن مسعود ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [حدثنا بشر].
    يروي عن بشر ، وهو ابن المفضل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    وشعبة ، هو ملتقى الإسنادين.
    [ قال: واللفظ لـبشر ].
    قال: واللفظ لـبشر، أي: أنه للطريق الثانية، وليس للطريق الأولى، بل للطريق الثانية التي فيها شيخ شيخه بشر بن المفضل ، فاللفظ لـابن المفضل الذي تلقاه عنه تلميذه إسماعيل بن مسعود.
    [ عن قتادة ].
    هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي المليح ].
    هو ابن أسامة بن عمير، واختلف في اسمه على أقوال، وهو مشهور بكنيته أبي المليح ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبيه ].
    هو أسامة بن عمير، وهو صحابي له حديث واحد كما في التقريب، وقد أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.

    شرح حديث: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن سعيد بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله عز وجل إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن عز وجل بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله) ]. أورد النسائي حديث أبي هريرة : إذا تصدق الإنسان من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وهذا أشمل من الحديث الذي قبله، وهو مثل ما جاء في حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، وقال في آخره: ثم ذكر ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ).
    وهنا قال يعني: مثل تلك الجملة التي جاءت في حديث أبي هريرة : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )، قال هنا: (ولا يقبل الله إلا الطيب)، إذا تصدق العبد من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وكلمة: ولا يقبل الله إلا الطيب، يعني: يفيد أن الذي يقبله الله عز وجل هو ما كان من حلال، وليس ما يكون من حرام، أخذها الرحمن بيمينه فيربيها، وإن كانت تمرة، أي: وإن كان شيئاً قليلاً مثل تمرة واحدة، فيربيها.
    [ فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل ].
    فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، يعني: هذه التي بهذا الحجم، وبهذه الصورة التي هي تمرة واحدة تعظم وتكبر عند الله عز وجل حتى تكون مثل الجبل، وهذا مثل ما جاء في الحديث الذي سبق أن مر بنا: أن سبحان الله والحمد لله تملأ الميزان، يعني: لكون الله عز وجل يجعلها على تلك الهيئة التي هي بهذا الحجم، وبهذه الضخامة، فتنمو وتربو حتى تكون مثل الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، والفلو هو ابن الفرس، يعني: إذا رباه الإنسان ونماه شيئاً فشيئاً، فإنه ينمو ويكبر، وكان قبل ذلك صغيراً، ثم بعد ذلك يكون كبيراً، (أو فصيله)، يعني: ولد الناقة أو غيره، يربى وينمى حتى يكبر، فذكر (أو) إما للشك، أو أنها للتنويع، إما للشك، يعني: بأن الذي جاء في الحديث فلوه أو فصيله، لكن شك الراوي، هل قال هذه الكلمة، أو قال هذه الكلمة، أو قال الاثنتين معاً، ولكن أو هنا للتنويع، فيكون المعنى كما يربي صاحب الفلو فلوه، وكما يربي صاحب الفصيل فصيله، وعلى ذلك ما تكون من قبيل الشك، بل تكون من قبيل التنويع.
    والحديث فيه ذكر اليمين، وصفة اليدين لله عز وجل، ووصف يده باليمين، وأخذ الله عز وجل لها، وكذلك وصفه باليد كما يليق بكماله وجلاله، يوصف الله عز وجل كما يليق بكماله وجلاله، ولكن لا يكيف، ولا يبحث عن الكيفية وعن الكنه، وإنما يثبت المعنى ويفوض الكنه والكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، فيد الله عز وجل كنهها لا يعلمها إلا هو، وأخذها لا يعلم كنهه وكيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يلزم أو ينقدح في الذهن تشبيه أو تمثيل، وأن ما يضاف إلى الله عز وجل مما جاء في الأحاديث يتصور أن يكون مشابهاً للخلق؛ لأنه لا يعقل إلا ما يشاهده الناس، ليس الأمر كذلك، بل ما يضاف إلى الباري يليق به سبحانه وتعالى، ولا يشبهه شيء من خلقه، وما يضاف إلى المخلوقين يليق بهم، ولا تشبه صفات الخالق صفات المخلوق، ولا صفات المخلوق صفات الخالق، بل الأمر كما قال الله عز وجل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[الشورى:11].
    فأثبت السمع والبصر ونفى المشابهة، لكن معنى السمع معلوم، ومعنى البصر معلوم، والكيفية التي عليها سمع الله وبصره هي التي لا يعلمها الناس، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس في الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. الاستواء معلوم؛ لأن الناس خوطبوا بكلام يفهمونه، ولكن الكيفية التي هو عليها لا يعلمها إلا الله عز وجل، والاستواء معناه: الارتفاع والعلو، استوى على العرش ارتفع عليه، وعلا عليه، لكن كيف استوى؟ هذا هو الذي يمسك عنه السلف، فيفوضون الكيف، ولا يفوضون المعنى؛ لأنهم خوطبوا بكلام يفهمون معناه، وأما قضية التفويض بالمعنى فهذه طريقة المبتدعة الذين يطلق عليهم المؤولة المفوضة، وأنهم السلف، فالسلف سلف الأمة، الصحابة ومن تبعهم ليسوا مفوضة للمعاني، ولكنهم مفوضة للكيفية، على حد قول الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، يعني: السؤال عن الكيفية؛ لأنه قال: كيف استوى؟ قال: ما معنى استوى، وإلا كان يبين أنه الارتفاع والعلو، لكن هو سأل الإمام عن الكيفية، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
    فقضية الكيفية لا يبحث عنها، ولا عن كنهها، ولا يتصور أن ما يضاف إلى الله عز وجل يكون مشابهاً لما يضاف إلى غيره؛ لأن الله تعالى أثبت السمع والبصر ونفى المشابهة، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المشبهة والمعطلة؛ لأن المشبهة عندهم إثبات وعندهم تشبيه، وأهل التعطيل عندهم تنزيه، وتعطيل، وأهل السنة والجماعة عندهم إثبات، وتنزيه؛ لأن المعطلة عندهم تنزيه وتعطيل، وأهل السنة يثبتون التنزيه، ويتركون التعطيل، والمشبهة عندهم إثبات وتشبيه، وأهل السنة يأخذون بالإثبات، ويتركون التشبيه، فعندهم إثبات مع تنزيه، فكونهم مثبتة خالفوا المعطلة؛ لأن المعطلة ما يثبتون، وكونهم منزهة خالفوا المعطلة، خالفوا المشبهة الذين يثبتون ويشبهون؛ لأن عند أهل السنة إثبات مع التنزيه، وليس إثباتاً مع التشبيه، فكونهم مثبتة خالفوا المعطلة، وكونهم مع كونهم مثبتة منزهة خالفوا المثبتة المشبهة، فصار أهل السنة والجماعة وسطاً بين التعطيل والتشبيه، عندهم إثبات مع تنزيه، وكونهم أثبتوا فارقوا المعطلة الذين ما أثبتوا، وكونهم نزهوا مع الإثبات خالفوا المشبهة الذين أثبتوا على وفق التشبيه.
    ولهذا جاء عن الإمام أحمد رحمة الله عليه أنه قال: التشبيه أن تقول: يده كيدي، ووجهه كوجهي، أو يد كيد، ووجه كوجه، وأما أن تثبت الصفة على ما يليق بالله فهذا ليس تشبيهاً، ولهذا كانت المعطلة يئول أمرهم إلى أن ينفوا المعبود، ولا يكون له وجود؛ لأنه لا يعقل أن يوجد ذات مجردة عن الصفات، ولهذا المشبهة أو المعطلة يصفون المثبتة بأنهم مشبهة؛ لأن الإثبات عندهم لا يتصور إلا مع التشبيه، فمن يثبت الصفات يقولون عنه: مشبه، ولهذا المبتدعة المعطلة يصفون أهل السنة بأنهم مشبهة في باب الصفات؛ لأنهم مثبتة، وهم ليسوا مشبهة؛ لأنهم ما أثبتوا مع التشبيه، بل أثبتوا مع التنزيه على ما يليق بكمال الله عز وجل جل جلاله وعظمته.
    ولهذا الحافظ أبو عمر بن عبد البر، الإمام المغربي في زمانه المتوفى سنة 463هـ، قال في كتابه (التمهيد): إن الذين يعطلون الصفات، صفات الباري، يصفون المثبتة لها بأنهم مشبهة، ثم يقول ابن عبد البر راداً عليهم، أو مبيناً أنهم هم الذين وقعوا في الأمر المحرم، قال: وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، وهم، أي: المعطلة، عند المثبتة نافون للمعبود، يعني: أنه لا وجود لمعبودهم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، وأما المثبت على ما يليق بالله عز وجل فهو يعبد الله عز وجل المتصف بصفات الجلال والكمال على ما يليق بكماله وجلاله، فالذين يثبتون الصفات مع التشبيه الله عز وجل ليس كما يقولون، تعالى وتنزه، والذين ينفون الصفات عن الله يئول أمرهم إلى نفي وجود الله؛ لأنه لا يعقل أن توجد ذات مجردة من جميع الصفات.
    ولهذا لما ذكر الذهبي رحمة الله عليه في كتابه (العلو) كلام ابن عبد البر، علق عليه بقوله: قلت: صدق والله، يعني: ابن عبد البر، صدق والله، ثم ذكر كلاماً عن حماد بن زيد، وحماد بن زيد من طبقة شيوخ شيوخ البخاري، توفي في أواخر القرن الثاني الهجري، هو من طبقة شيوخ شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخ أصحاب الكتب الستة.
    قال الذهبي : قلت: صدق والله، أي: ابن عبد البر في قوله: إن المعطلة نافون المعبود، قال: فإن الجهمية مثلهم، كما قال حماد بن زيد، إن جماعة قالوا: في دارنا نخلة، فقيل لهم: ألها خوص؟ قالوا: لا، ألها عسب؟ قالوا: لا، ألها ساق؟ قالوا: لا. وكل صفة من صفات النخل يسألونهم عنها يقولون: لا، ما تتصف هذه النخلة بهذه الصفات، قيل: إذاً ما في داركم نخلة، إذاً النتيجة ليس في داركم نخلة، ما دام النخلة لا توصف بأن لها ساقاً، ولا عسباً، ولا ليفاً، ولا خوصاً، ولا كذا وكل صفات النخل منفي عنها إذاً لا وجود للنخلة في دارهم، فكذلك الذي ينفي الصفات عن الله، ويقول: ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا، النتيجة أنه يكون معدوماً، وأنه عدم، ولهذا أهل السنة والجماعة توسطوا بين المشبهة والمعطلة، المشبهة الذين يعبدون الصنم، والمعطلة الذين معبودهم عدم، بل هم كما قال بعض أهل العلم يعني: في مذهبهم وأنهم متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، كاللبن الخالص السائغ للشاربين، الذي يخرج من بين فرث ودم؛ لأن المشبهة عندهم إثبات وتشبيه، والإثبات حق والتشبيه باطل، وأهل السنة عندهم الإثبات بدون التشبيه، والإثبات حق، والتشبيه باطل، والمعطلة عندهم تنزيه وعندهم تعطيل، والتنزيه حق والتعطيل باطل، فجمع أهل السنة بين الحسنيين التي هي الإثبات مع التنزيه، وتخلوا من الإساءتين التي هي التعطيل والتمثيل والتشبيه؛ إساءة المعطلة في التعطيل، وإساءة المشبهة بالتشبيه، فصار أهل السنة والجماعة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، أثبتوا مع التنزيه، فليسوا معطلة، وليسوا مشبهة.
    ومن المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يفكر في الكيفية، وأنه يأتي في ذهنه أنه لا بد أن تكون الكيفية على ما هو مشاهد بالنسبة للمخلوقين، فالله تعالى أعظم وأجل من أن يشابهه أحد من خلقه، ثم من المعلوم أنه لا يلزم أن يكون هناك تصور المشابهة، وأن الإنسان لا يعقل لو أثبتنا لله عز وجل، وأنه يأخذ بها الصدقة، وأنه يكون كما هو مشاهد ومعاين بالنسبة للمخلوقين، لا، بل ما يضاف إلى الله عز وجل هو كما يليق به، ولهذا لا يلزم أن يقال: الله عز وجل هو الكبير المتعال، والسماوات والأرضون في قبضته كالخردلة في كف واحد منا، كما يقول ابن عباس: السماوات والأرضون كالخردلة كلها، ليست بشيء أمام عظمة الله، فإذا كان الأمر كذلك فكل شيء في قبضته، وكل شيء في يده سبحانه وتعالى، ويشبه ذلك ما جاء في قوله في الحديث الآخر: ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ).
    يعني: لا يلزم أن تكون فيه حلول، وأن الله تعالى حال في المخلوقات، وأن السماوات والأراضين كلها في قبضته كالخردلة، فلا يلزم أن يكون هناك يعني: حلول واختلاط، كما قال الله عز وجل: ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )[البقرة:164]، قيل: إنه بين السماوات والأرض، لكن لا يلزم أن يكون فيه اختلاط وأنه مخالط لها؛ لأنه بينها، فكذلك قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، ما يلزم أن يكون هناك اختلاط، أو يكون هناك مماسة، أو يكون هناك كذا، بل الأمر كما يليق بالله سبحانه وتعالى.
    فالحاصل: أن هذه الأحاديث لا يجوز أن يعمل فكره فيها، وأن يبحث عن كيفية، أو يفكر عن كيفية، بل عليه أن يسلك طريقة السلف الذين يثبتون لله عز وجل ما أثبت لنفسه، وأثبته له رسوله على وجه يليق بكماله وجلاله دون تفكير في تأويل أو تعطيل، أو تشبيه أو تمثيل، بل على حد قول الله عز وجل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[الشورى:11].

    تراجم رجال إسناد حديث: (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب ...)

    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو ابن سعيد بن طريف البغلاني ، ثقة ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا الليث ].
    هو ابن سعد المصري، ثقة، فقيه، إمام مشهور، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن أبي سعيد ].
    هو المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن يسار ].
    هو سعيد بن يسار أبو الحباب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ أنه سمع أبا هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين.


    جهد المقل


    شرح حديث: (... قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [جهد المقل. قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد الحكم ، عن حجاج ، قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن علي الأزدي ، عن عبيد بن عمير ، عن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عز وجل، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه، وعقر جواده ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي جهد المقل، يعني: تصدق المقل بجهده وبقدر طاقته، وعلى قدر حاله، هذا هو المقصود بالمقل، يعني: الذي لم يوسع الله عليه بالمال، ولكن عنده غنى النفس مع قلة ما عنده، وكونه غني النفس فإنه يجود بشيء مما في يده على قدر طاقته وعلى قدر حاله، وأجره عظيم عند الله عز وجل؛ لأنه أنفق ما قدر عليه، وما أمكنه إخراجه إياه على قدر طاقته، وعلى قدر حاله، هذا هو المقصود بجهد المقل، يعني: قدر طاقته، وما يقدر عليه مما أقدره الله عليه، كما قال الله عز وجل: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
    هذا هو المقصود بالترجمة، وقد أورد حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل أسئلة، قال: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة).
    يعني: هذه الثلاثة هي خير الأعمال، قد جاءت في هذا الحديث وجاءت في حديث آخر، وجاءت مرتبة، حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور، فهذه الأمور الثلاثة التي جاءت -يعني: في هذا الحديث-، جاءت أيضاً مرتبة بثم، وبعضها وراء بعض، وأولها الإيمان بالله عز وجل، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور، فهذه الأمور الثلاثة جاءت في حديث آخر، ومرتبة بثم، على أن كل واحد أفضل من الذي يليه، وخير من الذي يليه، فهذا هو خير العمل، وأفضل العمل، الإيمان الذي هو الأساس، وبعد ذلك الجهاد في سبيل الله الذي هو الدعوة إلى الله عز وجل، والعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإدخالهم في هذا الدين الحنيف الذي بعث الله به رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ثم الحج المبرور، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لما قالت إحدى أمهات المؤمنين: (نرى أفضل العمل الجهاد أفلا نجاهد؟ قال: لكن جهاد لا قتال فيه الحج المبرور)، وهذا جوابه عليه الصلاة والسلام عن خير العمل.
    [ قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت ].
    قيل: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، والقنوت هو القيام، يعني: كون الإنسان يطيل القيام، وهذا يكون في الصلاة الخاصة للإنسان مثل صلاة الليل يطيل القنوت الذي هو القيام، ويطيل القراءة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي فيه أنه قرأ البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، يعني: ثلاث سور تبلغ خمسة أجزاء، وأتى بها في ركعة واحدة، فهذا هو طول القنوت، لكن هذا يكون فيما إذا كان الإنسان يصلي لنفسه، أما الذي يصلي بالناس، ويؤم الناس، فهذا يتوسط، ولهذا لما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل لذلك الرجل الذي جاء وعقل بعيره، أو دوابه عند المسجد، ثم دخل وأطال معاذ الصلاة، وهم أن يتركه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفتان أنت يا معاذ؟! إذا أم أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)، فطول القنوت الذي هو القيام مشروع، لكن في كون الإنسان يصلي وحده، أو يصلي صلاة الليل.
    [ قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل].
    وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث الطويل بهذه الترجمة: جهد المقل، يعني: صدقته على قدر طاقته؛ لأن عنده المال قليل، ولكن عنده غنى النفس، فتجده يجود بما عنده، أو بشيء مما عنده، يرجو ثواب الله عز وجل؛ لأنه وإن لم يكن عنده غنى اليد، فعنده غنى النفس، إن لم يكن عنده الغنى الظاهري فعنده الغنى الباطني، الذي هو غنى القلب وغنى النفس، والغنى في الحقيقة هو غنى النفس؛ لأن اليد تابعة للقلب، فقد يكون الإنسان غني اليد، ولكنه بخيل النفس، فلا يجود بالمال، ولا يعطي المال مع كثرته عنده، ومن الناس من يكونه غني القلب قليل ذات اليد، وإذا أعطي الشيء القليل، أو ملك الشيء القليل فإنه لا يبخل به، أو بشيء منه، فهذا هو جهد المقل؛ لأنه أنفق مع حاجته، ومع كونه ليس عنده ما يكفيه.
    [ قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عز وجل ].
    قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عز وجل، هذه الهجرة التي كون الإنسان يهجر المحرمات، ويترك المحرمات، يصبر عن المعاصي وإن كانت سهلة على النفوس، وتميل إليها النفوس؛ لأن العاقبة وخيمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، فهو يصبر عن المعاصي؛ لأن عواقبها وخيمة؛ لأنها مردية، يعني: لذة عاجلة تورث حسرة وندامة يوم القيامة، فالهجرة الأفضل هي هجرة من هجر ما نهى الله ورسوله عنه، وهذا الجواب يعني: الاشتقاق من قبيل الجناس؛ لأنه يتعلق بالهجرة والهجر، يعني: أن السؤال عنه الهجرة، والجواب بالهجر، وهذا مثل الحديث: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه )، فهذا مأخوذ باشتقاق، يعني: شيء من شيء؛ لأنه سئل عن هجرة فقال: من هجر، وقال في ذاك الحديث: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه )، وهذه هي الهجرة الحقيقية التي هي هجرة المعاصي، وترك المعاصي، وترك معصية الله ورسوله، والعمل بما هو طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
    [ قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه ].
    قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، يعني: أنه جاد بنفسه وجاد بماله، يعني: جاهد بالنفس والمال، فهو بماله يجاهد، وبنفسه يجاهد، يجاهد ببدنه، ويجاهد بما أعطاه الله عز وجل من المال، فهو يجاهد في الاثنين، فهذا هو خير الجهاد؛ لأنه بذلك نفسه وماله، بخلاف الذي يبذل نفسه ولا يبذل ماله، أو يبذل ماله ولا يبذل نفسه، هذا جمع بينهما، جاهد بنفسه وماله.
    [ قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده ].
    قيل: فأي القتل أفضل؟ يعني: القتال في سبيل الله؛ لأنه قال قبل ذلك: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه.
    (من جاهد المشركين بماله ونفسه)، يعني: جاهد في سبيل الله، وقاتل الكفار لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ودخولهم في هذا الدين الحنيف، ثم قال: أي القتل أفضل؟ قال: (من أهريق دمه وعقر جواده) يعني معناه: أنه خرج بنفسه وماله، ثم ذهب جواده، وذهبت نفسه، وهذا يشبه ما جاء في الحديث، حديث: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء )، يعني: هو حصل له القتل، وحصل ذهاب المال، فالذي أهريق دمه وعقر جواده، يعني معناه: أنه هذا هو الذي خرج بماله ونفسه، ذهب في سبيل الله، وفقد في سبيل الله.
    تراجم رجال إسناد حديث: (... قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل ...)

    قوله: [ أخبرنا عبد الوهاب بن عبد الحكم ].ثقة، أخرج له أبو داود ، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن حجاج ].
    هو حجاج بن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن جريج ].
    هو عبد الملك بن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، مشهور بنسبته إلى جده، وهو عبد الملك بن عبد العزيز، وهو ثقة، ويرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عثمان بن أبي سليمان ].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وابن ماجه.
    [ عن علي الأزدي ].
    هو علي بن عبد الله الأزدي، وهو صدوق ربما أخطأ، أخرج له مسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن عبيد بن عمير ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبد الله بن حبشي الخثعمي ].
    صحابي له حديث واحد هو هذا الحديث، أخرج له أبو داود، والنسائي، يعني: له هذا الحديث الواحد في الكتب الستة عند أبي داود، والنسائي.
    الحديث قال فيه: (إيمان لا شك فيه)، يعني: أنه إيمان يعني: معه كمال اليقين، ولا شك فيه، ولا خلل فيه، هذا هو المقصود بالشك، أو نفي الشك، لكن ينبغي أن يعلم أن ما يفعله المبتدعة وبعض المبتدعة أنهم يصفون أهل السنة والجماعة بأنهم شكاك، ويقصدون بذلك الاستثناء في الإيمان، بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فيصفون من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهي مشهورة عن السلف يقولون: إنهم شكاك، وهي لا تأتي للشك، وإنما تأتي للبعد عن التزكية؛ لأن الإيمان هو كمال، فالإنسان يقول عندما يسأل: أنت مؤمن؟ يقول: أرجو، أو يقول: إن شاء الله، يعني: ليس إن شاء الله شك هل هو مؤمن، أو غير مؤمن؟ وإنما ابتعاداً عن تزكية النفس، وأنه يرجو أن يكون كذلك، أي: أنه عند من هو متصف بالكمال؛ لأن الإيمان أكمل من الإسلام، ولهذا جاء في القرآن الكريم: ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )[الحجرات:14]، فالإيمان أكمل من الإسلام، وكذلك حديث سعد بن أبي وقاص عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، وفيهم رجل هو في رأي سعد بن أبي وقاص أنه خيرهم وأزكاهم فأعطاهم ولم يعطه، فقال: يا رسول الله! أعطيت القوم وفيهم فلان، وهو مؤمن، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أو مسلم )، يعني: يلقنه إلى أن يقول: مسلم؛ لأن مسلم هي الحد الأدنى لما فيه تزكية، لكن المؤمن شيء وراء ذلك، ولذلك مراتب الدين: إسلام وإيمان وإحسان، وكل واحدة أكمل من التي قبلها.
    فالإحسان أكمل الدرجات، والإيمان هو الذي يليه، وأقل الدرجات هو الإسلام، ولهذا لا يستثنون في الإسلام، إذا قيل: مسلم، لا يقول: إن شاء الله، وإنما يقول: مسلم، أنا من المسلمين؛ لأن هذا هو الحد الأدنى الذي إذا نفي عن الإنسان ما بقي عنده شيء، لكن الذي عنده الإسلام، أو هو من أهل الإسلام، ثم يسأل عن وصف كامل، ولا يزكي نفسه، ويقول: إنه من أهل الكمال، ولكن يقول: أرجو، أو إن شاء الله.
    فالحاصل أن بعض المبتدعة يصفون أهل السنة والجماعة بأنهم مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، مثل ما قال ابن عبد البر : إن المعطلة يصفون المثبتة بأنهم مشبهة، وكذلك أيضاً يصفونهم بأنهم شكاك؛ لأنهم يستثنون في الإيمان يقولون: إن شاء الله.
    فإذاً: لا شك أن المقصود بالإيمان الذي هو إيمان مع يقين وصدق، وليس المقصود من ذلك ما يضيفه بعض المبتدعة إلى أهل السنة بأنهم شكاك في الإيمان؛ لا يجزمون بإيمانهم، بل يقول واحد منهم: أنا مؤمن إن شاء الله.

    شرح حديث: (سبق درهم مائة ألف درهم ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا قتيبة ، قال: حدثنا الليث ، عن ابن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد والقعقاع ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( سبق درهم مائة ألف درهم، قالوا: وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله، فأخذ منه مائة ألف درهم، فتصدق بها )]. أورد النسائي هذا الحديث الذي يدل على ما ترجم له، وهو جهد المقل، يعني: كون الإنسان مقلاً، ويعطيه الله شيئاً قليلاً، ومع ذلك لغنى نفسه يجود، ولا يقول: والله أنا ما عندي شيء أتصدق به، أعطاه الله شيئاً قليلاً، ولكنه لغنى نفسه ما بخل بشيء مما أعطاه الله من ذلك القليل، فهو يتصدق على قدر حاله.
    أورد النسائي حديث أبي هريرة ، قال: سبق درهم مائة ألف درهم، قالوا: كيف يا رسول الله؟! قال: رجلان، رجل عنده درهمان فتصدق بواحد منهما، ورجل عمد إلى عرض ماله، عنده الأموال الطائلة، والمقادير الهائلة، فجاء إلى الأكداس من الأموال، ووضع يده في هذا وأخذ له مائة ألف من ألوف الألوف والملايين، فهذا يعني: أخرج شيئاً قليلاً، وعنده الشيء الكثير، وهذا أخرج نصف ماله؛ لأن كل ماله درهمان، فأخرج نصف ماله، وهذا أخرج جزءاً يسيراً من ماله؛ لأن هذا أخرج مائة ألف، ولكن عنده الملايين التي ما لها حد، يعني: جاء وأخذ من عرض ماله، يعني: من جانب ماله، زاوية من الزوايا للأكداس الهائلة، أخذ يعني شيئاً يعتبر قليلاً مما أعطاه الله عز وجل، وذاك أعطاه الله درهمين، فجاد بواحد منهما، فهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم الذي فسر به كلامه عليه الصلاة والسلام: ( سبق درهم مائة درهم )؛ لأن هذا أخرج نصف ماله، وهذا يمكن أخرج واحداً بالمائة من ماله؛ لأنه عمد إلى عرض ماله، أكداس هائلة، يعني: مخزن مملوء بالنقود والدراهم، فجاء ومد يده وتناول رزمة من رزم كثيرة، فهذا أخرج شيئاً قليلاً من ماله مع أن عنده الشيء الكثير، لا يحس بفقده لكثرة المال، وأما هذا أخرج نصف ماله، هذا هو جهد المقل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (سبق درهم مائة ألف درهم ...)

    قوله:[ أخبرنا قتيبة حدثنا الليث ].وقد مر ذكرهما.
    [ عن ابن عجلان ].
    هو محمد بن عجلان المدني ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري، تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن سعيد بن أبي سعيد والقعقاع ].
    سعيد بن أبي سعيد ، وهو المقبري، وقد مر، والقعقاع هو ابن حكيم، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكره.

    حديث: (سبق درهم مائة ألف...) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( سبق درهم مائة ألف، قالوا: يا رسول الله! وكيف؟ قال رجل له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، ورجل له مال كثير، فأخذ من عرض ماله مائة ألف فتصدق بها )]. أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله.
    قوله: [ أخبرنا عبيد الله بن سعيد ].
    هو عبيد الله بن سعيد السرخسي اليشكري ، وهو ثقة، مأمون، سني، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، والنسائي.
    [ حدثنا صفوان بن عيسى ].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم ].
    ابن عجلان ، قد مر ذكره.
    وزيد بن أسلم ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي صالح ].
    هو ذكوان السمان أو الزيات، يعني: اسمه ذكوان، ولقبه الزيات والسمان؛ لأنه قيل له: السمان ؛ لأنه كان يجلب السمن، ويقال: الزيات؛ لأنه يجلب الزيت، فيقال له: الزيات ويقال له: السمان، كل منهما صحيح، لا تنافي بينهما؛ لأنه يبيع السمن، ويبيع الزيت، واسمه ذكوان، وكنيته أبو صالح، وهو مشهور بكنيته، وهو يروي كثيراً عن أبي هريرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    عن [ أبي هريرة ].
    أبو هريرة وقد مر ذكره.

    شرح حديث أبي مسعود: (كان رسول الله يأمرنا بالصدقة فما يجد أحدنا شيئاً يتصدق به ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا الحسين بن حريث حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين عن منصور عن شقيق عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالصدقة فما يجد أحدنا شيئاً يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق، فيحمل على ظهره، فيجيء بالمد، فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إني لأعرف اليوم رجلاً له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم )]. أورد النسائي حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على الصدقة، ويأمرهم بالصدقة، فما كان الواحد منهم عنده شيء يستطيع أن يتصدق به، فيعمد إلى السوق ليحمل على ظهره، يعني: بضائع ويأخذ عليها أجراً، حتى يكون عنده شيء يتصدق به، فيأتي بالمد، يعني: الذي هو ربع الصاع، يعني: من الشيء الذي تصدق به، يعني: جهد المقل، يعني: شيء قليل، يعني: أولاً ما كان عنده شيء، ثم ذهب ليؤجر نفسه ويحمل على ظهره البضائع، ليحصل عليها أجراً، فيتصدق بالشيء القليل مما يحصله بهذا العمل.
    ثم قال: [إني لأعرف اليوم رجلاً له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم].
    يعني: في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصدقة وحثهم عليها، وما كان الواحد عنده شيء، ما كان عنده ولا درهم واحد وإنما يذهب يؤجر نفسه، ثم إن الله تعالى أغناهم، فصار هذا الرجل الذي يعرفه عنده مائة ألف، وهذا الرجل غير مسمى، ويحتمل أن يكون يعرفه، ويحتمل أن يكون نفسه؛ لأن بعضهم كان يكني عن نفسه، يعني: بدلاً من أن يسمي نفسه يعني: يقول: قال رجل، أو فعل رجل، أو جاء رجل، أو قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون نفس الشخص، فيحتمل أن يكون هو، ويعرف نفسه أنه ما كان عنده ذلك المقدار، ثم صار عنده، ويحتمل أن يكون غيره، كل هذا محتمل.
    الحاصل: أنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، كان الواحد منهم ما يكون عنده شيء، ثم يذهب إلى السوق، ويعمل هذا العمل الشاق المضني، وهو كونه يحمل على ظهره المتاع، ويأخذ عليه أجرة، ويحصل شيئاً قليلاً يتصدق منه بالمد الذي هو ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي مسعود: (كان رسول الله يأمرنا بالصدقة فما يجد أحدنا شيئاً يتصدق به ...)


    قوله: [أخبرنا الحسين بن حريث ].الحسين بن حريث المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [حدثنا الفضل بن موسى المروزي].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الفضل بن موسى ].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الحسين ].
    هو الحسين بن واقد، وهو ثقة، له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن منصور ].
    هو ابن المعتمر الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شقيق ].
    هو شقيق بن سلمة أبو وائل الكوفي، وهو ثقة، مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي مسعود ].
    هو عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه، صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته: أبي مسعود، مثل شهرة أبي سعيد الخدري بكنيته، هذا أيضاً مشهور بكنيته، وابن مسعود رضي الله عنه مشهور بنسبته إلى أبيه، يعني: كثيراً ما يأتي عن ابن مسعود، وهنا يأتي عن أبي مسعود، ولهذا يأتي في بعض الأحيان حصول التصحيف بين أبي مسعود وابن مسعود، مثل ما جاء في حديث أبي مسعود هذا، الحديث المشهور في صحيح مسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، فإنه يأتي في بعض الكتب عن ابن مسعود، تصحيف بين أبي وابن، فحديث: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، أظنه ببلوغ المرام، أو في سبل السلام، يعني: جاء بلفظ عن ابن مسعود، وهو أبو مسعود، ولكن للتقارب بين أبي وابن يأتي التصحيف، ولكون ابن مسعود هو المشهور، وأبو مسعود يعني: لا يأتي ذكره مثلما يأتي ابن مسعود، فيحصل التصحيف بين كلمة ابن وأبي، وهو عقبة بن عمرو الأنصاري، وقريب منه في الاسم عقبة بن عامر، هذا عقبة بن عمرو، وذاك عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب.
    عقبة بن عمرو الأنصاري أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وأيضاً مما قالوه عنه: أيضاً البدري، ويقولون: إنه لم يشهد بدراً، ولكنه سكنها، فنسبته إليها نسبة إلى غير ما يسبق إلى الذهن.

    شرح حديث أبي مسعود: ( لما أمرنا رسول الله بالصدقة فتصدق أبو عقيل بنصف صاع ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا بشر بن خالد ، قال: حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بشيء أكثر منه، فقال المنافقون: إن الله عز وجل لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِين َ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التوبة:79] )]. أورد النسائي حديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه من طريق أخرى، وفيه أن الرسول لما حث على الصدقة تصدق رجل يقال له: أبو عقيل بنصف صاع، وتصدق آخر بشيء أكثر منه، ولكن المنافقين لا يسلم منهم لا من تصدق بالقليل الذي هو على قدر طاقته، ولا من تصدق بالكثير، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء، فقالوا عن الذي تصدق بنصف صاع: إن الله لغني عن صدقة هذا، يعني: نصف صاع، هذا شيء يسير قليل، الله غني عنه، ما يسوى بهذه الصدقة، والذي تصدق بالكثير أيضاً ما سلم فهم، بل قالوا: هذا مرائي، الذي تصدق بالقيل قالوا عنه: الله غني عنه، هذه صدقة قليلة تافهة ما هي بشيء، والذي تصدق بالكثير قالوا عنه: إنه مرائي.
    فالحديث جاء من أجل أن هذا تصدق بنصف صاع، يعني معناه: الذي قدر عليه، وذاك تصدق بشيء كثير، والمنافقون ما سلم منهم لا الذي تصدق بالقليل الذي هو قدر جهده جهد المقل، ولا الذي تصدق بالكثير، فقالوا عن الذي تصدق بالقليل: إن صدقته تافهة والله غني عنها، وقالوا عن الذي تصدق بالكثير: إنه مرائي، فهم يلمزون المطوعين المؤمنين في الصدقات.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي مسعود: ( لما أمرنا رسول الله بالصدقة فتصدق أبو عقيل بنصف صاع ...)


    قوله: [ أخبرنا بشر بن خالد ].ثقة، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي .
    [ حدثنا غندر ].
    هو محمد بن جعفر البصري، لقبه غندر، يأتي باسمه أحياناً محمد بن جعفر، ويأتي بلقبه غندر، وألقاب المحدثين فائدتها أن لا يظن الشخص الواحد شخصين فيما لو جاء في رواية عن محمد بن جعفر، ثم جاءت رواية أخرى غندر، فالذي ما يعرف أن محمد بن جعفر يلقب بـغندر ، يظن أن هذا شخص وهذا شخص، مع أن هذا هو هذا، وهذا هو هذا، إلا أن هذا اسمه وهذا لقبه، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة عن سليمان ].
    شعبة ، وقد مر ذكره.
    وسليمان هو الأعمش، سليمان بن مهران الكاهلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ويأتي باسمه كما هنا، ويأتي بلقبه كثيراً الأعمش، وفي الإسناد الأول منصور ، وفي الإسناد الثاني سليمان ، وهما قرينان.
    [ عن أبي وائل ].
    هو شقيق الذي مر في الإسناد الذي قبل هذا؛ لأن هنا مر في الإسناد الأول شقيق بن سلمة، وجاء في هذا الإسناد أبو وائل، فجاء هناك باسمه، وجاء هنا بكنيته، ومعرفة الكنى أيضاً فائدتها أن لا يظن الشخص الواحد شخصين، لأن من لا يعرف أن شقيق بن سلمة كنيته أبو وائل، يظن أنه إذا جاء في إسناد شقيق بن سلمة، وجاء في إسناد آخر أبو وائل أن هذا شخص وهذا شخص.
    [عن أبي مسعود ].
    وقد مر ذكره.




  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (402)





    - (باب اليد العليا) إلى (باب إذا تصدق وهو محتاج إليه، هل يرد عليه)

    اليد العليا خير من السفلى، والعليا هي المنفقة وهي يد المعطي، وقد وضح الشرع أن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن تصدق بشيء وهو محتاج إليه فإنه يرد عليه؛ لأنه أولى بالصدقة من غيره.
    اليد العليا


    شرح حديث: (... واليد العليا خير من اليد السفلى)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ اليد العلياأخبرنا قتيبة حدثنا سفيان عن الزهري أخبرني سعيد وعروة سمعا حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: اليد العليا، أي: المقصود من ذلك هو بيان أن هناك معطياً ومعطى، متصدقاً ومتصدقاً عليه، ومحسناً ومحسناً إليه، فيد المعطي هي العليا، ويد المعطى هي السفلى، والعلو والسفول فيهما حقيقي ومعنوي، يعني: حسي ومعنوي، فهو من حيث الحسي يد المعطي فوق، ويد المعطى تحت؛ لأنه يمد يده، فذاك يضع فيها، من علو إلى سفل، فيد المعطي عالية، ويد المعطى دونها وأنزل منها وتحتها، ومن حيث المعنى: أن يد المعطي يد إحسان ويد رفعة، ويد المعطى هي دونها، لا سيما إذا كان هناك سؤال وإلحاح في السؤال، فإن فيه ذلة، ومهانة، يعني: فهناك علو حسي وعلو معنوي، وهناك سفول حسي وسفول معنوي.
    أورد النسائي حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم قال: إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى) وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث في الترجمة: (واليد العليا خير من اليد السفلى).
    حكيم بن حزام رضي الله عنه يخبر بأنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه، ثم سأله وأعطاه، ثم سأله وأعطاه، ثم بعد ذلك نصحه ووعظه، وبين له أن هذا المال حلوة خضرة، يعني: أنه تشتهيه النفوس وتميل إليه، لكن هناك من يأخذه بإلحاح وبمسألة وبرغبة في التزيد، وهناك من يأخذه بطيب نفس منه وبطيب نفس من المعطي، كما أن ذاك يأخذه بإشراف وبتطلع وبعدم طيب نفس من المعطي، فيكون هذا العطاء أحياناً بطيب نفس من المعطي وبطيب نفس من المعطى، بكونه ما عنده إلحاح ولا عنده سؤال وكثرة سؤال، وإنما هو مستغن ومتعفف، وإذا أعطي شيئاً وهو محتاج إليه أخذه.
    ولهذا جاء في الحديث: أن المحتاجين ينقسمون إلى قسمين: قسم سائل، وقسم غير سائل، قسم متعفف، وقسم لا يبالي بالسؤال والحصول على المال، ولهذا جاء في الحديث: ( ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس عنده غنى يغنيه، ولا يفطن فيتصدق عليه )، يعني: هذا هو المسكين حقاً، وإن كان ذاك مسكين، إلا أنه مسكين سائل، ويتحصل على ما يريد عن طريق السؤال، ولكن هذا متعفف، وليس عنده ما يكفيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
    ( إن هذا المال حلوة خضرة )، الحلوة الخضرة، وجعله مؤنثاً؛ لأنه المال عام يشمل ما هو مذكر ويشمل ما هو مؤنث، يعني: يشمل الدنيا بكل ما فيها من الأشياء التي تعطى؛ ففيه ما هو مؤنث، وفيه ما هو مذكر، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه كونه غير ملحف، وكونه غير سائل، وبطيب نفس من المعطي كونه يعطي ونفسه مرتاحة منشرحة، غير الذي يعطي للإلحاح عليه والحياء من السائل.
    ومن أعطي بإشراف، يعني: تطلع وحرص ورغبة لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ لأنه ما في بركة فيما بيده، يأكل ولا يشبع؛ لأن المقصود من الأكل كون الإنسان يسد رمقه، ويسد حاجته ويقضي نهمته، لكن إذا كان يأكل ولا يشبع يكون أكل بدون فائدة، يأكل ومع ذلك هو بحاجة إلى الأكل؛ لأنه غير مبارك في هذا الأكل.
    ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( واليد العليا خير من السفلى )، ثم إن الوصف بالعلو والوصف بالسفول كاف لمعرفة تفضيل اليد العليا عن اليد السفلى؛ لأنه ما دام يد وصفت بأنها عليا، ويد وصفت بأنها سفلى، فإن ذلك كافي في معرفة الفضل؛ لأنه لا يمكن أن تكون السفلى أفضل من العليا، وإنما العليا أفضل من السفلى، ولكن جاء التنصيص على الخيرية زيادة في الفضل، وزيادة في الخيرية، وزيادة في التميز، وإلا فإن مجرد الوصف بالعلو دال على الفضل وعلى التميز، ولكنه ذكر ونص على أنها خير، يعني: للتأكيد، وبيان أن كون الإنسان يكون معطياً، وأن يكون شأنه أن يكون معطياً هو الذي ينبغي أن يكون عليه، لا أن يكون سائلاً وملتمساً.
    والموظف الذي يتطلع إلى قرب انتهاء الشهر ويطمع في راتبه فهذا ليس سائلاً، هذا له حق، وله أجر، وكونه ينتظر وصول حقه، أو يتحرى وصول حقه، أو يتطلع إلى وصول حقه هذا لا يقال: إنه سائل؛ لأن هذا ما فيه سؤال ولا فيه إعطاء؛ لأن هذا حق، له أمد ينتهي إليه، ويحل له في ذلك الوقت، ويستحقه في ذلك الوقت، فهذا ليس من هذا القبيل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... واليد العليا خير من اليد السفلى)

    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سفيان عن الزهري ].
    سفيان، هو سفيان بن عيينة الهلالي المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وإذا جاء قتيبة يروي عن سفيان فالمراد به ابن عيينة وهو مهمل، وكذلك إذا جاء سفيان يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة؛ لأن ابن عيينة هو المعروف بالرواية عن الزهري، وأما سفيان الثوري فإنه كما قال الحافظ ابن حجر : لا يروي عنه الزهري إلا بواسطة، وأما سفيان بن عيينة فروى عنه كثيراً، مع أن ابن عيينة متأخر عن الثوري، الثوري توفي 161هـ، وابن عيينة توفي فوق المائة والتسعين، لكنه عمر وعاش، وأدرك الزهري الذي مات سنة 124هـ أو سنة 125هـ وعاش بعده عمر طويل، يعني: فوق الستين سنة، يعني: عاش بعده، من 125هـ إلى فوق التسعين ومائة، لكن لكون الزهري في المدينة وابن عيينة بمكة، والاتصال بين مكة والمدينة سهل ميسور، بخلاف الثوري فإنه كان في العراق في الكوفة، كان كوفياً، ولم يحصل له اللقاء، اللهم إلا أن يتم ذلك بحج أو عمرة، لكن الذي ذكر الحافظ ابن حجر أنه لا يروي عنه إلا بواسطة، أي: سفيان الثوري لا يروي عن الزهري إلا بواسطة.
    وعلى هذا إذا جاء سفيان غير منسوب يروي عن الزهري، أو يروي عنه قتيبة فهو ابن عيينة؛ لأن قتيبة عمر تسعين سنة، ولد سنة مائة وخمسين ومات مائتين وأربعين، والثوري مات سنة 161هـ، يعني معناه: مات وعمر قتيبة أحد عشر سنة، يعني: فهو لم يروِ عنه، وكذلك ابن عيينة لا يروي عن الزهري إلا بواسطة، فإذاً إذا جاء قتيبة يروي عن سفيان فهو ابن عيينة، وإذا جاء سفيان يروي عن الزهري، فالمراد به ابن عيينة.
    أما الزهري فهو: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، فقيه من صغار التابعين، مكثر من الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرني سعيد وعروة ].
    هو سعيد بن المسيب، وهو ثقة، فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    وعروة بن الزبير بن العوام، من فقهاء المدينة السبعة في عهد التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، فهذان الاثنان سعيد وعروة كل منهما من الفقهاء السبعة باتفاق؛ لأن الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين سبعة هم: سعيد وعروة هذان الاثنان في هذا الإسناد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسليمان بن يسار ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، هؤلاء ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال، قيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
    الحاصل: أن هذين اللذين في هذين الإسناد يرويان عن حكيم بن حزام، وهما من الفقهاء السبعة على ما هو متفق عليه في عدهم من الفقهاء السبعة الذين كانوا في المدينة في عصر التابعين وغلب عليهم هذا اللقب، فإذا جاء في بعض المسائل يقال: وقال بها الفقهاء السبعة، قال بها الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة، فهؤلاء هم الفقهاء السبعة، ولا يذكرون أسمائهم، ويكتفون باشتهارهم بهذا اللقب، فيعمونهم ويقولون: قال بها الفقهاء السبعة.
    [سمعنا حكيم بن حزام].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور من المعمرين، قيل: إنه عاش ستين سنة في الجاهلية، وستين سنة في الإسلام، وعمره 120 سنة، وقالوا: ومثله حسان بن ثابت فإنه كان كذلك، وحديث حكيم بن حزام أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    أيتهما اليد العليا


    شرح حديث: (يد المعطي العليا...)


    قال المصنف رحمه الله: [باب أيتهما اليد العلياأخبرنا يوسف بن عيسى حدثنا الفضل بن موسى حدثنا يزيد وهو ابن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق المحاربي رضي الله عنه أنه قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر يخطب الناس، وهو يقول: ( يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ) مختصر ].
    أورد النسائي حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله تعالى عنه، والترجمة يقول النسائي: أيتهما العليا، يعني: أي اليدين هي العليا، والمقصود أنها يد المعطي؛ لأنه جاء في الحديث بأن يد المعطي هي العليا، واليد السفلى هي يد السائل الآخذ المعطى.
    أورد النسائي حديث طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قدمنا المدينة وإذا الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، وهو يقول: يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك) .
    والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (يد المعطي العليا) أرشد إلى أن المعطي عليه أن يبدأ بمن يعول، وأن يكون إحسانه أولى الناس به أقاربه، يعني: في العطية والإحسان، فأولى الناس به أقاربه؛ لأنها صدقة وصلة، يعني: كون الإنسان ينفق على قريبه هي صدقة وصلة رحم، وفيها جمع بين أمرين، وجمع بين فائدتين ومصلحتين، وهما: الإحسان، وأن يكون على القريب صدقة.
    الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يد المعطي العليا)، وهذا هو المقصود بالترجمة، حيث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم اليد العليا بأنها يد المعطي، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن يد المعطي عالية أرشد من أحق الناس بالإعطاء، ومن أحق الناس بأن يبذل له المال، فقال: ( أمك وأباك، وأختك وأخاك )، يعني: أعطي، أو أبدأ بهؤلاء، أعط أمك وأباك، وأختك وأخاك؛ فهم أقرب الناس إلى الإنسان.
    ومن المعلوم أن أبناء الإنسان كذلك هم من أقرب الناس إليه، ونفقتهم متعينة عليه وواجبة عليه، لكن لعله ذكر هؤلاء على سبيل التمثيل للأقارب، وأن الإنسان قد يكون معطياً وليس له أولاد، ولم يتزوج، ولكن عنده المال، فيكون له الأب والأم، والأخ والأخت، وإلا فإن الأولاد هم أحق الناس ببر الإنسان، ثم إن الزكاة الواجبة ليس للإنسان أن يعطيها لأبيه، ولا لأمه، ولا لأبنائه؛ لأن نفقتهم واجبة عليه إذا كانوا محتاجين، فلا يعطيهم من الزكاة، وإنما يعطيهم من ماله الذي هو غير الزكاة، والنفقة واجبة عليه، وكذلك يحسن إليه من غير النفقة، يحسن إليهم من ماله وليس من الزكاة، الزكاة لا تعطى للأصول ولا للفروع، لا يعطيها الإنسان لأصوله ولا لفروعه؛ لأن النفقة واجبة عليه إذا كانوا في حاجة للنفقة، فالزكاة لا تعطى لمن تجب النفقة له.
    أما بالنسبة للأخ والأخت فيمكن أن يعطوا من الزكاة، لكن لا يجعل الإنسان الزكاة وقاية لماله؛ لأن بعض الناس عليه حقوق، ثم يريد أن يتخلص من الحقوق بالزكاة، يقول: أنا إذا ما أعطيتهم من الزكاة أنا أعطيهم من مالي، لكن ما دام الزكاة خارجة خارجة فأنا أعطيهم إياها، وذلك أسلم لمالي، لا ينقص منه شيء غير الزكاة، ليس للإنسان أن يجعل الزكاة وقاية للمال؛ فالأقارب لهم حق غير الزكاة، لكن إذا قل المال والإنسان لا يستطيع أن يعطي بسبب قلة المال، فإن إعطاء من يكون قريباً كالأخ والأخت أولى في إعطائه الزكاة، أما إذا كان المال فيه سعة وكثرة فإنه لا يجعل الزكاة وقاية للمال؛ لأن الله تعالى أغناه ووسع عليه، فيعطي الزكاة لمن يستحقها، وأما أقاربه فإنه يحسن إليهم من غير الزكاة إذا كان ثرياً؛ لأنه إذا فعل ذلك يجعل الزكاة وقاية لماله، يعني: سياج ومانع لماله من النقص, والزكاة يقول: خارجة خارجة، وبدل ما أعطيها لشخص بعيد ليس له علي حق أعطيها لقريب أتخلص من حقه بالزكاة.
    ( أمك وأباك، وأختك وأخاك )، فذكر الأم أولاً، وهي أولى الناس بالبر والإحسان، وهي أولى من الأب، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حث على إعطائها، وعلى الإحسان إليها أكثر مما يكون للأب؛ لأنه قال: ( أمك، ثم أمك، ثم أمك )، كررها في بعض الأحاديث قال: ( ثم أباك)، يعني معناه: أن حق الأم آكد من حق الأب، لا سيما والأم تختلف عن الأب، والمرأة تختلف عن الرجل؛ الرجل قد يكون عنده اكتساب، وقد يكون عنده شيء من القدرة، بخلاف الأم أو المرأة.
    ثم قال: ( وأختك وأخاك )، وقدم الأخت على الأخ؛ لأنها قد تكون في الغالب تكون أحوج من الرجل؛ لأن الرجل يكون عنده اكتساب، ويكون عنده قدرة ما لا يكون عند المرأة.
    ثم قال: ( ثم أدناك أدناك )، إذا أعطيت هؤلاء الأقارب، أعط ما يليهم من الأقارب الأدنى فالأدنى، سواء كان نسباً أو سبباً، يعني: كالرضاعة، أو كالمصاهرة، أو ما إلى ذلك من القرابة التي تكون بين الشخص وغيره بسبب من الأسباب.
    ثم قال: [مختصراً]، يعني: أنه هنا ذكر مختصراً، يعني: وهو أطول من هذا، وأتم من هذا، ولكنه ذكره النسائي باختصار، وقال في آخره: مختصر.

    تراجم رجال إسناد حديث: (يد المعطي العليا...)

    قوله: [أخبرنا يوسف بن عيسى ].ثقة، أخرج له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
    [ حدثنا الفضل بن موسى ].
    هو الفضل بن موسى المروزي، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا يزيد وهو ابن زياد بن أبي الجعد ].
    يزيد هو ابن زياد بن أبي الجعد، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن جامع بن شداد ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن طارق المحاربي ].
    هو طارق بن عبد الله المحاربي، وهو صحابي له حديثان أو ثلاثة، يعني: مقل من الحديث، يعني: أحاديثه في الكتب الستة حديثان أو ثلاثة، وهذا واحد منها، وخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، وأصحاب السنن الأربعة.


    اليد السفلى


    شرح حديث: (واليد السفلى السائلة)


    قال المصنف رحمه الله: [اليد السفلى أخبرنا قتيبة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: ( اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة ) ].
    ذكر النسائي هذه الترجمة وهي: اليد السفلى، يعني: من هي يده، فأورد حديث عبد الله بن عمر، وقد ذكر الصدقة والتعفف عن المسألة، فقال: ( اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، واليد السفلى السائلة )، فهنا بين اليد السفلى، وأنها يد السائل المعطى الذي يضع المعطي المال أو الصدقة في يده، فمقصود النسائي من هذه الترجمة هو أنه جاء تفسير اليد السفلى بأنها يد السائل، وتفسير اليد العليا بأنها يد المعطي.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... واليد السفلى السائلة)

    قوله: [أخبرنا قتيبة].قد مر ذكره.
    [عن مالك بن أنس].
    إمام دار الهجرة، وهو المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وهو كما قال الحافظ ابن حجر : رأس المتقنين، وكبير المثبتين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن نافع عن عبد الله بن عمر ].
    نافع هو مولى ابن عمر، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    وهذا الحديث من رباعيات النسائي التي هي أعلى الأسانيد عنده؛ لأن النسائي أعلى ما عنده الرباعيات، وهو أن يكون بين النسائي وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام أربعة أشخاص، وهنا بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيبة ومالك ونافع وعبد الله بن عمر ، فهؤلاء الأربعة هم رجال الإسناد عند النسائي في هذا الحديث، فهو إسناد عال من أعلى الأسانيد عند النسائي، وأنزل الأسانيد عند النسائي هو ما فيه عشرة أشخاص، وهو حديث واحد في فضل قل هو الله أحد، وقد مر هنا في سنن النسائي، وقال النسائي: هذا هو أطول إسناد عنده، وهو تساعي عند الإمام أحمد، وعشاري عند النسائي، يعني: بين الإمام أحمد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تسعة أشخاص، وبين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عشرة أشخاص، فأنزل إسناد عنده العشاري، وأعلى إسناد عنده الرباعي، وأصحاب الكتب الستة الذين هم: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، البخاري عنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً بالتكرار، وبدون تكرار ستة عشر حديث، وكذلك الترمذي عنده حديث واحد ثلاثي، وعند ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثية كلها بإسناد واحد وهو إسناد ضعيف.
    وأما مسلم فأعلى ما عنده الرباعيات، وأبو داود أعلى ما عنده الرباعيات، والنسائي أعلى ما عنده الرباعيات، وهذا الذي معنا هو من أعلى الأسانيد عند النسائي.
    الصدقة عن ظهر غنى


    شرح حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الصدقة عن ظهر غنىأخبرنا قتيبة حدثنا بكر عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ) .
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الصدقة عن ظهر غنى، يعني: كون الإنسان يتصدق وهو غير محتاج إلى ما يتصدق به، يعني: يكون عن ظهر غنى، يعني: وهو غني، يعني: زائد عن حاجته وحاجة من يعوله، عنده شيء زائد، فهو يتصدق من الزائد، وتلك الصدقة يعني: هي خير الصدقة؛ لأنها تكون مع عدم احتياجه، وعدم كونه يندم؛ لأنه إذا تصدق بما عنده وهو فقير، يعني: قد يحصل منه ندم على فعله، بخلاف الغني الذي عنده ما يكفيه ويكفي من يعول، ويتصدق بما هو زائد، وبما هو فاضل، هذا هو المقصود بالصدقة عن ظهر غنى، وقد سبق أن مر في حديث جهد المقل، ( إن خير الصدقة جهد المقل )، وهو الذي ليس عنده إلا القليل، ففسر بأن جهد المقل، يعني: بأن يكون وراء ما يحتاجه من يمونه وهو مقل، ومن الناس من يكون غنياً وعنده ما يكفيه وزيادة كثيرة وراء ذلك، فهذا يقال له: غني، وهذا يقال له: مقل، هذا يقال له: مكثر، وهذا يقال له: مقل من المال، يعني: معنى هذا أن الإنسان يتصدق بعد وجود ما يكفيه.
    ثم من الناس من يتصدق وليس عنده ما يكفيه، لكن عنده غنى القلب، كما حصل لـأبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فإنه تصدق بماله كله، وعمر رضي الله عنه وأرضاه لما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة، أراد أو فكر عمر بأنه يسبق أبا بكر هذه المرة، فجاء بنصف ماله، وأبو بكر جاء بماله كله، فإذا كان الإنسان عنده الصبر، وعنده قوة الإيمان، وقوة اليقين، وليس عنده التأثر والندم على ما يخرج منه، ثم أيضاً يروح يسأل الناس، بل عنده غنى النفس، وعنده القدرة على التحصيل، والقدرة على المال، ثم يجود بما عنده بكثير مما عنده، فهذا خير، لكن العلماء وفقوا بين جهد المقل وبين ظهر الغنى بأنه لا تنافي بينهما، وأن المقصود فيما إذا زاد عن الحاجة، يعني: عما هو ليس واجباً عليه، أما إذا كان عليه واجباً فإن الواجب مقدم على النفل، وهو مفترض عليه، والله تعالى يقول: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )، فكون الإنسان ينفق على أولاده وعلى من يعول هذا واجب عليه، وكونه يتصدق على الناس الأباعد، وأقربائه محتاجون، وأولاده الذين تجب عليه نفقته يذهبون ويسألون ويتكففون هذا ما يصلح، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـسعد لما أراد أن يوصي بكثير من ماله قال: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس )، حتى بعد وفاة الإنسان، يعني: كونه يفكر في أولاده وفي الإحسان إليهم وغناهم، وكونهم لا يحتاجون إلى الذل وإلى السؤال هذا ملاحظ في الشريعة.
    ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـسعد : ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة )، يعني: كونه عندما يوصي أنه يوصي بالثلث والثلث كثير، ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس )، فالصدقة عن ظهر غنى لا تنافي؛ لأن المقصود بعد الوجوب، لكن من الناس من يكون عنده الشيء القليل بعد أداء ما يجب، ومنهم من يكون عنده الكثير، ثم من الناس من يكون عنده القليل فيعطيه فيندم، وهذا غير محمود، والذي يكون عنده الكثير ولا يؤثر فيه ولا يحصل بسببه تأثر له هذا هو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )؛ لأنه ما تلحقها نفسه، ما تلحق نفسه الصدقة، أو تتعلق نفسه بها، أو يندم على حصولها.
    ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ).
    (واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول) يعني: كون الإنسان يبدأ بمن يعول، ويعطي من يعول، ومن تلزمه نفقته هو الذي يتعين عليه أن يحسن إليه، وإلا فكونه يضر من تجب نفقته عليه، ويجعلهم يتكففون الناس، ويسألون الناس، فهذا مثل ما يقولون في المثل عند العوام: إن النخلة العوجاء تسقط في غير حوضها، يعني: تمرها إذا سقط يروح في مكان بعيد، بخلاف النخلة المستقيمة فإن الذي يتساقط يكون في حوضها، وتحت أصلها، فالذي يحسن إلى الأباعد ويترك الأقارب أو من تجب نفقته عليه يضيق عليهم هذا يأثم، يأثم بفعله هذا، بل الواجب أن يبدأ الإنسان بمن يعول؛ فهم أولى الناس ببره، وأولى الناس بإحسانه، ونفقتهم واجبة عليه، ثم أيضاً من تجب نفقته عليه كفاية، ولكن عنده شيء قليل بعد ذلك، فأولى الناس به أقاربه، ولهذا قال: ( ثم أدناك أدناك )، يعني: عندما يتصدق الإنسان يكون أولى الناس بصدقته أقاربه المحتاجون.

    تراجم رجال إسناد حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى...)

    قوله: [ أخبرنا قتيبة ]. قد مر ذكره.
    [ حدثنا بكر ]
    هو ابن مضر، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن ابن عجلان ].
    هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبيه ].
    هو عجلان مولى فاطمة بنت عتبة، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم وأصحاب السنن الأربعة، يعني: مثل ابنه.
    ابن حجر قال عنه: لا بأس، وهي بمعنى صدوق، لا بأس به وهي تعادل صدوق.
    [ عن أبي هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق؛ لأن السبعة المعروفين بكثرة الحديث أكثرهم أبو هريرة، وهم: أبو هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، فهؤلاء سبعة معروفون بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر هؤلاء السبعة أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه.


    تفسير ذلك


    شرح حديث: (يا رسول الله! عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى حدثنا يحيى عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( تصدقوا، فقال رجل: يا رسول الله! عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر ) ]. أورد النسائي تفسير ذلك، يعني: تفسير ما تقدم من الصدقة عن ظهر غنى، وهي أنها تكون بعد الكفاية، وبعد كون الإنسان عنده ما يكفيه، يعني: عنده شيئاً زائداً عن حاجته فيتصدق به، لكن كما قلنا: الصدقة على القريب الذي لا تجب نفقته هي أولى من الصدقة على الأباعد عنه والأجانب عنه اللي هم ليسوا أقرباء له؛ لأنها تكونه صدقة وصلة على القريب إذا كان القريب محتاج، تكون صدقة وصلة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل قال: عندي دينار قال: (تصدق به على نفسك)، يعني: كأنه معناه أن هذا هو الذي عنده، قال: أنت أحق به، أنفقه على نفسك، واستغن به عن غيرك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك، ومن المعلوم أن الزوجة تجب نفقتها، لكن الإعطاء لأداء الواجب مع الاحتساب يؤجر عليه الإنسان، فالإنسان قد يعطي الواجب ولكنه ما يفكر في الثواب، بل من الناس من يلزم ويحكم عليه حكم بأنه ينفق على من تجب نفقته عليه، وإلا هو لا يريد أن ينفق، وإنما قد يحكم عليه حكم ويلزم بأنه يؤخذ من ماله شيء لأولاده، فهذا لا يحصل أجراً، لكن الواجب تأدى، مثل الذي أخذت منه الزكاة من غير اختياره، فإنه لا يؤجر على ذلك، لكن الوجوب سقط عنه؛ لأنه أخذ منه الواجب، لكن ما يحصل أجر؛ لأنه ما وجدت عنده النية، فكذلك الإنسان الذي ينفق على أولاده إذا احتسب ورجى الأجر والثواب فإنه يثاب على أداء الواجب، وأما إذا كان الإنسان ما يفكر في الثواب، أو من الناس من لا يريد حتى يحكم عليه، ويرفع إلى القاضي، والقاضي يحكم عليه بأنه يدفع شهرياً كذا، أو سنوياً كذا، فإنه في هذه الحالة لا يكون له أجر، لكن الوجوب تأدى، ولهذا قال: أعطه زوجتك، تصدق به على زوجتك، والزوجة نفقتها واجبة عليه، فإذاً هي أولى الناس بإحسانه، وأولى الناس بنفعه.
    ثم قال: (عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر)، يعني: إذا كثر عندك المال فابدأ بمن تعول، وبعد ذلك أعط، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الذي مر: ( ثم أدناك أدناك )، يعني: أنهم أولى من غيره، أولى من غيره ببرك وإحسانك.

    تراجم رجال إسناد حديث: (يا رسول الله! عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك...)

    قوله: [ أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ].عمرو بن علي الفلاس، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، ومحمد بن المثنى كذلك شيخ لأصحاب الكتب الستة، أخرجوا له وهو شيخ لهم، فهذان شيخان لأصحاب الكتب الستة: عمرو بن علي الفلاس ومحمد بن المثنى العنزي.
    [ حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عجلان ].
    وقد مر ذكره.
    [ عن سعيد عن أبي هريرة ].
    سعيد هو سعيد بن أبي سعيد، وقد ذكر المزي هذا الحديث تحت هذه الترجمة في تحفة الأشراف.
    ونص على أنه سعيد بن أبي سعيد المقبري، فهو ليس سعيد بن المسيب، بل هو كما ذكر عن المزي رحمة الله عليه سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وسعيد بن المسيب وسعيد المقبري يرويان عن أبي هريرة.


    إذا تصدق وهو محتاج إليه هل يرد عليه


    شرح حديث أبي سعيد في الرجل يتصدق وهو محتاج إليه


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب إذا تصدق وهو محتاج إليه هل يرد عليه؟أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عياض عن أبي سعيد رضي الله عنه: ( أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال: صل ركعتين، ثم جاء الجمعة الثانية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال: صل ركعتين، ثم جاء الجمعة الثالثة، فقال: صل ركعتين، ثم قال: تصدقوا، فتصدقوا فأعطاه ثوبين، ثم قال: تصدقوا، فطرح أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم تروا إلى هذا إنه دخل المسجد بهيئة بذة، فرجوت أن تفطنوا له فتتصدقوا عليه فلم تفعلوا، فقلت: تصدقوا فتصدقتم، فأعطيته ثوبين، ثم قلت: تصدقوا، فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك، وانتهره ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: [باب إذا تصدق وهو محتاج إليه هل يرد عليه ].
    تصدق وهو محتاج إليه، أي: إلى من تصدق به، هل يرد عليه؟ يعني: لا يمكن من الصدقة، وإنما يرد عليه ما تصدق به، أورد النسائي هذه الترجمة، وأورد تحتها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: صل ركعتين، ثم إنه دخل الجمعة الثانية، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: صل ركعتين، ثم في الجمعة الثالثة دخل والرسول يخطب، فقال له: صل ركعتين، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، وقال: إن هذا جاء بهيئة بذة، يعني: بثياب رثة، ويظهر عليه الفقر والحاجة، فقلت: لعلكم تفطنون إليه، يعني: فتتصدقون عليه، فلم تفعلوا، فقال لهم: تصدقوا، فتصدقوا وطرحوا ثياباً، فأعطاه الرسول ثوبين من هذه الثياب التي تصدق بها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: تصدقوا، فطرح أحد ثوبيه اللذان أعطاه إياهما، فالرسول رده إليه وانتهره، يعني: أن يعود إلى ذلك؛ لأنه ما دام هو محتاج، فهو أولى من غيره).
    ثم إن هذا الحديث فيه بيان أن الإنسان إذا دخل المسجد والإمام يخطب فإن عليه أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين، لا يجلس إلا وقد صلى تحية المسجد، وأن تكون ركعتين ما يزيد عليها؛ لأن الزيادة على ركعتين فيها تشاغل عن الخطبة، ولكن يصلي ركعتين فقط التي هي تحية المسجد، ثم إن الأمر بالصلاة ركعتين لا علاقة له بالرغبة في الصدقة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قال له يقوم يصلي ركعتين من أجل الناس يرونه، فلا يعني ذلك أنه إن لم يكن محتاجا يأتي ويجلس بدون ما يصلي ركعتين، لا، الرسول صلى الله عليه وسلم شرع للناس أن الإنسان إذا دخل المسجد والإمام يخطب يصلي ركعتين، ويتجوز فيهما جاء في الحديث في الصحيحين: (لما جاء رجل ودخل المسجد فقال له: أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: صل ركعتين وتجوز فيهما)، يعني: يخففهما.
    فالحديث بعض الفقهاء يقول: إن الإنسان إذا دخل المسجد لا يصلي ركعتين إذا جاء، وإنما يجلس، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر الشخص حتى يراه الناس ويتصدقوا عليه، الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره، ما قال: إنني أمرته بالصلاة حتى يتصدقوا عليه، وإنما قال: صبرت ثلاث جمع وهو يأتي وأنتم تنظرون إليه، ومع ذلك ما أحد أعطاه وتغيرت ثيابه، بل ثيابه هي هي، ما حصل له شيئاً تتغير به ثيابه، ما رأيتكم أعطيتموه شيئاً؛ لأنه لو أعطي شيئاً للبس الثياب التي هي أحسن من هذه، فلما رآه ثلاث جمع والناس ما أعطوه شيئاً قال: تصدقوا، فإذاً: لا علاقة بقوله: صل ركعتين بالصدقة، وأن الإنسان إذا دخل المسجد لا يصلي ركعتين، بل يأتي ويجلس، بل جاء في الحديث المطلق الذي جاء في البخاري ومسلم: (أنه دخل وجلس، فقال: أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين، وتجوز فيهما)، قال له: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، وقال: (أصليت ركعتين؟) لأنه يمكن أنه صلى في مكان متأخر ثم جاء يتخطى رقاب الناس، فظن أنه ما صلى أو صلى في مكان آخر، فقال له: أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين.
    فإذاً: لا علاقة لصلاة الركعتين بالحاجة أو الصدقة أو ما إلى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصلي؛ لأنه جاء وجلس ولم يصل الركعتين والإمام يخطب، فتبين لنا بهذا أن الإنسان عليه أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس، ولا يكون الحكم منوطاً أن الرسول أراد أن يتصدق عليه كما قاله بعض الفقهاء، بل السنة أن الإنسان إذا جاء يصلي ركعتين ويخففهما حتى لا يفوته شيئاً كثير من الخطبة، بل يصلي تحية المسجد ويسمع الخطبة.
    فإذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم رآه ثلاث مرات يأتي للجمعة، وثيابه رثة وسيئة، وما رآه تغيرت حاله، فما تصدق عليه، فحثهم على الصدقة فقاموا وتصدقوا، فالرسول أعطاه ثوبين مما تصدق به، فلما أمر بالصدقة طرح أحد ثوبيه، طبعاً هو محتاج، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ألم تروا إلى هذا جاء بثياب بذة، وظننت أن تفطنوا له فتتصدقوا عليه فلم تفعلوا، فأمرت بالصدقة، فأعطيته ثوبين مما تصدق به، ثم أمرت بالصدقة فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك، وانتهره، يعني: أن يعود إلى مثل هذا؛ لأن هذا الإنسان هو أولى من غيره، فما دام محتاجاً فهو أولى من غيره، ولهذا مر في الحديث مثل الذي قال: عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، يعني: أنت أولى الناس به إذا كان ما عندك إلا هو، أنفق به على نفسك حتى لا تحتاج، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجتك... الحديث الذي مر بنا قريباً.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في الرجل يتصدق وهو محتاج إليه

    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان ]. وقد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.
    [ عن عياض ].
    هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سعيد ].
    هو أبو سعيد الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان الخدري ، مشهور بكنيته أبي سعيد، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (403)



    - (باب صدقة العبد) إلى (باب أي الصدقة أفضل)


    حاجة الملهوف، والأمر بالخير، والإمساك عن الشر، كما أنه رخص للزوجة أن تتصدق من بيت زوجها فيما يأذن به الزوج، وقد بينت السنة فضل الصدقة، وأفضل أحوالها، وأن أولى الناس ببر الإنسان هو من يعوله.
    صدقة العبد

    شرح حديث: (على كل مسلم صدقة ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد حدثنا شعبة أخبرني ابن أبي بردة سمعت أبي يحدث عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( على كل مسلم صدقة، قيل: أرأيت إن لم يجدها؟ قال: يعتمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قيل: فإن لم يفعل؟ قال: يأمر بالخير، قيل: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة ) ].أورد النسائي رحمه الله تحت ترجمة: صدقة العبد، (وضربه مولاه واشتكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، لم ضربه، فقال) إنه الحديث الثاني وهو حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو في الصدقة عموماً، أي: أنه أعم من أن تكون بمال أو بغير مال، وهذه يمكن للعبد أن يقوم بها في بعض الأحوال، وذلك في غير المال، وغير الكسب الذي يكتسبه بالعمل إذا لم يكن سيده قد أذن له بذلك، فإنه يمكنه أن يتصدق بالأمور الثلاثة الأخرى الباقية التي هي: كونه يعين ذا الحاجة الملهوف، أو يأمر بالخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أو يمسك عن الشر، فإن هذه الأمور الثلاثة تمكن من العبد ومن غير العبد.
    أما فيما يتعلق بالمال فإن العبد لا يملك، وإنما الملك لسيده، فإن أذن له إذناً صريحاً أو إذناً مفهوماً على حسب شيء يعلم من حال سيده بأنه لا يمنع العبد من مثل ذلك، وأنه في حكم المعلوم، فإنه ينفق من المال بحيث لا يضر السيد في ماله، وإذا لم يحصل شيء من هذا فإن الأمور الثلاثة هي بإمكان العبد أن يفعلها، فهذا هو وجه إيراد الحديث في صدقة العبد؛ لأن المقصود بالصدقة ما هو أعم من الشيء الذي يوضع في اليد، لأنها تكون بالقول وتكون بالفعل، تكون بالأمر بالخير، وبالإمساك عن الشر، تكون بالإعانة بالقوة البدنية.
    أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [( على كل مسلم صدقة )] والمقصود من هذه الصدقة ما هو أعم من الواجبة، بل ما يكون على سبيل الاستحباب؛ لأن الزكاة الواجبة لا تجب على كل أحد، وإنما تجب على من ملك النصاب وحال عليه الحول، وهنا قال: [( على كل مسلم صدقة )]، يعني: أن كل مسلم يمكنه أن يتصدق بصدقة، سواء كانت مالية أو غير مالية، فالصحابة لما قال: [على كل مسلم صدقة] فهموا الصدقة المالية التي تعطى للإنسان، فقالوا: أرأيت إن لم يجدها؟ أرأيت إن لم يجد هذه الصدقة التي يتصدق بها، ما عنده مال يتصدق به فقال عليه الصلاة والسلام: [( يعتمل بيده ويتصدق )] يعني: يشتغل بيده، وينفع نفسه ويتصدق، يعمل الشيء الذي يمكن الحصول به على المال.
    والصحابة رضي الله عنهم لما حثهم الرسول على الصدقة، ما كان الواحد منهم يجد شيئاً يتصدق به، قال: فيذهب إلى السوق فيحمل على ظهره بالأجرة، ويحصل الشيء اليسير فيأتي بالمد ويعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم صدقة، أي: أنه يعمل بيده حتى يحصل شيئاً ينفعه وينفع غيره، يستفيد بنفسه ويفيد غيره، فلما أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث لا يوجد المال الذي يتصدق به إلى أن يأخذوا بالسبب الذي يوصل إليه وهو العمل والاكتساب.
    قيل: [( أرأيت إن لم يفعل؟ )]، ما حصل منه فعل الاكتساب والعمل، فقال: [( يعين ذا الحاجة الملهوف )]، أي: إذا رأى شخصاً في لهفة وشدة فدعاه وصاح به ليساعده فإنه يأتي ويساعده، ينقذه من هلكة، أو يعينه على دفع الظلم عنه، أو ما إلى ذلك من الأشياء، يعني: مضطر يحتاج إلى إعانته بالعمل فإنه يعينه.
    فالأول عنده مال، أو عمل على حصول المال، والثاني لا هذا ولا هذا، ولكنه يتصدق بقوته البدنية، بأن يعين شخصاً محتاجاً إلى إعانته، قيل: [( فإن لم يفعل؟ قال: يأمر بالخير )]، وجاء في بعض الروايات: (يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر)، أي: أنه يحسن بقوله؛ لأن الأول أحسن بفعله، والثاني أحسن بقوله، ولهذا قال: يأمر بالخير.
    قيل: [( أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنه له صدقة )] يعني: إذا ما حصل منه لا هذا ولا هذا فيمسك عن الشر الذي يعود مضرته عليه وحده، فتكون صدقة منه على نفسه، وكذلك يمسك عن الشر، الذي فيه إيصال الأذى إلى الناس، فتكون صدقة منه على نفسه إذ امتنع عن فعل شيء يعود عليها بالضرر، وصدقة منه على غيره لأنه لم يفعل شيئاً فيه ضرر على الغير، فهذه أحوال خمسة أرشد إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بالتدريج لمن لم يتمكن من فعلها مجتمعة، أما من يتمكن من فعلها مجتمعة فيأتي بها جميعاً، يمكن أنه يعطي إذا كان عنده مال، وكذلك يعين بقوة بدنه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بقوله، ويمسك عن الشر فتجتمع الأولى والثالثة والرابعة والخامسة؛ لأن الثانية مبنية على عدم المال، وأنه يكتسب ليحصل المال ليتصدق به، فمن كان عنده مال تصدق، وكذلك أعان بفعله، وأعان بقوله، وأمسك عن الشر، وإذا لم يكن عنده مال، فإنه يعمل ويتصدق ويعين ذا الحاجة الملهوف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويمسك عن الشر.
    وهذا الترتيب الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أتى به على تدرج: إن لم يجد، أو لم يفعل، لكن من تمكن من أن يفعل هذه الأمور فإنه يفعلها، وكلها خير وصدقة، والصدقة تكون بالقول، وتكون بالفعل، ولهذا جاء في الحديث: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، والكلمة الطيبة صدقة ) فالصدقة تكون بالمال، وتكون بالأفعال، وتكون بالأقوال، وتكون بالإمساك عن الشر كما جاء في هذا الحديث.

    تراجم رجال إسناد حديث: (على كل مسلم صدقة ...)

    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ]:هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في القدر، والترمذي، وابن ماجه.
    [ حدثنا خالد ].
    هو ابن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهي من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرني ابن أبي بردة ].
    هو سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت أبي يحدث].
    أبوه هو أبو بردة هو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه وهو أبو بردة بن أبي موسى هو مشتهر بكنيته، وأبوه مشتهر بكنيته، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي موسى الأشعري ]
    وهو عبد الله بن قيس رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    وهذا الحديث فيه رواية من روى عن أبيه عن جده؛ لأن سعيداً روى عن أبيه أبي بردة وأبو بردة روى عن أبيه أبي موسى، فهي من رواية الابن عن الأب عن الجد.


    صدقة المرأة من بيت زوجها


    شرح حديث: (إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجر ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ صدقة المرأة من بيت زوجها.أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت أبا وائل يحدث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجر، وللزوج مثل ذلك، وللخازن مثل ذلك، ولا ينقص كل واحد منهما من أجر صاحبه شيئاً، للزوج بما كسب ولها بما أنفقت ) ].
    ثم أورد النسائي صدقة المرأة من بيت زوجها، يعني: كونها تتصدق من بيت زوجها من الطعام ومن الأشياء التي هي موجودة في البيت، والتي هي كسب الزوج، ومن إنفاق الزوج، فهل تتصدق المرأة من بيت زوجها؟ إذا كان هناك إذن صريح، فالأمر في ذلك واضح، تنفق على وفق الإذن، سواء كان قليلاً أو كثيراً، تنفق في حدود المأذون لها، وإذا لم يكن هناك إذن صريح، وهناك شيء مفهوم متعارف عليه تعرفه المرأة من حال زوجها، وتعلم أنه لا يمانع في الصدقة التي لا تجحف ولا تضر، فإن لها أن تنفق من مال زوجها بذلك الإذن المفهوم من حال الزوج، أي: أن من عادته أنه يحسن ويأمر بالإحسان، ويخرجون وهو ينظر ويقرهم على ذلك، فهذا سائغ، ولكنه يتوقف على الفهم من حال الزوج.
    والنسائي أورد حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [( إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجر ولزوجها أجر، وللخازن أجر، ولا ينقص من أجورهم شيء )] يعني: كل واحد له أجره، ولا ينقص كون هذا يعطى من الأجر، ينقص أجر ذاك، بل هذا له أجره، وهذا له أجره، وذلك له أجره كله فضل من الله عز وجل، للزوج بما كسب؛ لكونه تسبب في وجود المال عن طريق الاكتساب، والتحصيل، وجلبه إلى البيت، والمرأة بما أنفقت؛ لكونها باشرت وتسببت في الإحسان، وكذلك الخازن الذي هو المؤتمن على المال والذي معه الخزانة أو الذي يباشر الإعطاء عندما تعطيه شيئاً، ليعطيه للفقير، فإن هؤلاء كلهم مأجورون.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إذا تصدقت المرأة من بيت زوجها كان لها أجر ...)

    قوله: [ أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ].محمد بن المثنى هو العنزي الملقب الزمن، وكنيته أبو موسى، وهو بصري، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، ومحمد بن بشار هو الملقب بندار وهو بصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، وهذان الشيخان للنسائي وهما من صغار شيوخ البخاري، وماتا قبل البخاري بسنة واحدة، وهي سنة اثنتي وخمسين ومائتين أي: قبل وفاة البخاري بأربع سنوات، وكانا متماثلين في الشيخ والتلاميذ، وفي كونهما من أهل البصرة، وكونهما ماتا في سنة واحدة، ولهذا قال الحافظ ابن حجر: وكانا كفرسي رهان، يعني: كالفرسين المتسابقين الذي يريد كل واحد منهما أن يسبق فلا يسبق، فهما متماثلان ومتساويان، فهما شيخان لأصحاب الكتب الستة جميعاً، هما شيخان للبخاري، ومسلم ولـأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، رووا عنهم أصحاب الكتب الستة مباشرة وبدون واسطة.
    [ عن محمد بن جعفر ].
    محمد بن جعفر هو البصري، الملقب غندر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا شعبة].
    وقد مر ذكره.
    [ عن عمرو بن مرة ].
    هو عمرو بن مرة الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي وائل ].
    هو شقيق بن سلمة الكوفي، وهو مشهور بكنيته ومشهور باسمه، فاسمه شقيق بن سلمة، وكنيته أبو وائل، وهو ثقة، مخضرم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، ومعرفة كنى المحدثين لها أهمية، وفائدتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين، إذا جاء مرة عن شقيق بن سلمة، وجاء مرة عن أبي وائل، فالذي لا يفهم يظن أن أبا وائل شخص، وأن شقيق بن سلمة شخص آخر، لكن إذا عرف أن أبا وائل هي كنية لـشقيق بن سلمة يتضح له أن الشخص شخص واحد، ولا يقع في ذهنه أن الشخص الواحد يكون شخصين، بل هما شخص واحد ذكر مرة بكنيته، ومرة باسمه.
    [ عن عائشة ].
    هي أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق، التي حفظ الله تعالى بها كثيراً من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما فيما يتعلق بالأمور المتعلقة في البيوت، والتي تقع بين الرجل وبين أهله، فإنها حفظت الشيء الكثير من ذلك، فهي من أوعية السنة، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ستة رجال وامرأة واحدة، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، هؤلاء هم الذين تميزوا على غيرهم بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    عطية المرأة بغير إذن زوجها


    شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ عطية المرأة بغير إذن زوجهاأخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد بن الحارث حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب أن أباه حدثه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة قام خطيباً فقال في خطبته: ( لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ) مختصر ].
    ثم أورد النسائي: عطية المرأة بغير إذن زوجها، وأورد فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الفتح قال في خطبته: [( لا يحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها )] والمقصود من ذلك من ماله، وهذا الحديث أورده النسائي في هذه الترجمة بعد الحديث المتقدم، الذي هو مطلق ليبين أن القضية تتعلق بالإذن، وأن المرأة كونها تعطي من مال زوجها تعطي بإذنه، ولهذا قال: [( لا يحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)]، يعني: من مال زوجها، فالحديث الأول مطلق، وهذا الحديث فيه: بيان أنه لابد من الإذن، وقد عرفنا أن الإذن يكون صريحاً، ويكون مفهوماً ومتعارفاً عليه، يعني: في الإعطاء، لا سيما الشيء اليسير.
    فالحديث يدل على أن المرأة لا تعطي عطاء إلا بإذن زوجها إما بإذن صريح، أو بإذن مفهوم متعارف عليه، يفهم من العادة، ومن حالة الرجل ومن رغبته وأمره بالإحسان، ومن كونه يحسن، وهو ينظر ويسكت ولا يمانع، فهو في حال غيبته تفعل مثل ذلك، فلا يحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، وهذا إذا كان من ماله، أما إذا كان من مالها، فإن جمهور العلماء على أنها تعطي من مالها وتتصرف بمالها كيف شاءت، وبعض الفقهاء يقول: المرأة المزوجة لا تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وجاء في ذلك حديث، لكنه محمول على حسن المعاملة، وعلى أخذ رأيه، وأن هذا من الأمور المستحسنة، أما كونها تتصرف في مالها تعطي، وتبيع، وتشتري، ولو لم يأذن الزوج فهذا حقها، وقد ثبتت الأحاديث في ذلك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن أدلة ذلك الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس يوم العيد ذهب إلى النساء ومعه بلال وقال: ( يا معشر النساء! تصدقن فإنكن أكثر حطب جهنم )، فجعلن يلقين من أقراطهن وخواتيمهن، تخلع خواتمها وتضع، تخلع القرط الذي في أذنها وتضعه، ما انتظرن حتى يستأذن الأزواج، بل تصدقن، وأنفقن من أموالهن، فالمرأة تنفق أو تتصرف في مالها بغير إذن زوجها، هذا قول الجمهور.
    فالحديث يدل على أن المرأة لا تنفق من مال زوجها إلا بإذنه وهذا مطلق، أما قضية إنفاقها من مالها بإذن زوجها فقال به بعض أهل العلم، وجمهورهم على القول بأنها تتصرف وأن ما جاء محمول على حسن المعاشرة والمشاورة وما إلى ذلك، وأما التصرف فإنها تتصرف وإن لم يأذن.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)

    قوله: [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود ].هو إسماعيل بن مسعود أبو مسعود البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده، وكنيته أبو مسعود واسم أبيه مسعود، وهو مما وافق فيه الكنية اسم الأب، ومعرفة هذا النوع من أنواع علوم الحديث فائدته ألا يظن التصحيف؛ لأنه قد يذكر الاسم والكنية، وقد يذكر الاسم والنسبة فيقال: ابن مسعود ويقال: أبو مسعود، فهو إسماعيل أبو مسعود وهو إسماعيل بن مسعود، إن جاء أبو مسعود فهو صحيح، وإن جاء ابن مسعود فهو صحيح، فالذي يفهم ابن مسعود وأخذ ابن مسعود لو جاء إسماعيل أبو مسعود يظن أن (أبو) مصحفة عن (ابن) وهي ليست مصحفة، لأنه هو أبو مسعود وهو ابن مسعود، يأتي هكذا ويأتي هكذا وكله صواب.
    [ حدثنا خالد بن الحارث ].
    هو خالد بن الحارث البصري، وقد مر ذكره.
    [ حدثنا حسين المعلم ].
    هو حسين بن ذكوان المعلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمرو بن شعيب ].
    هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن شعيب صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة وأصحاب السنن الأربعة.
    عن أبيه شعيب بن محمد، وهو صدوق، أيضاً، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وفي جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة، وهنا هذه الرواية ما فيها عن أبيه عن جده، وإنما فيها أن شعيباً يحدث عن جده، يعني: جده عبد الله بن عمرو، وقد قال الحافظ في التقريب: ثبت سماعه من جده، يعني: إذاً هو متصل؛ لأن شعيباً يروي عن جده عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمرو صحابي فهو متصل.
    وهذا الإسناد الذي معنا يوضح أو هو من شواهد ما ذكره الحافظ ابن حجر ممن ثبت سماعه عن جده؛ لأنه ما قال: عن أبيه عن جده حتى يظن أن أباه شعيب يروي عن جده محمد الذي حديثه مرسل لو كان كذلك، لكنه يحدث عن جده عبد الله بن عمرو، يعني: أبوه شعيب يحدث عن جده عبد الله بن عمرو يعني: معناه أنه سمع جده وروى عنه، فهذه الرواية توضح أن شعيباً يروي عن جده عبد الله، وأن قوله: عن أبيه عن جده أي: جده الذي هو جد أبيه، ليس جده هو؛ لأنه لو كان جده هو محمد الذي هو ولد شعيب، فإنه يكون مرسلاً ويكون فيه انقطاع؛ لأن محمداً لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الرواية هي عن شعيب عن عبد الله الذي هو جده، كثير من الروايات التي تأتي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فتكون محتملة، لكن هذه ما فيها احتمال؛ لأن فيها أن أباه يحدث عن جده عبد الله بن عمرو.
    هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم الذين هم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وهم من صغار الصحابة اشتهروا بهذا اللقب، فإذا جاء: قال به العبادلة الأربعة أو روى عنه العبادلة الأربعة، المقصود من هؤلاء الصغار من الصحابة، وليس فيهم عبد الله بن مسعود كما قاله بعض أهل العلم؛ لأن ابن مسعود متقدم، توفي في سنة اثنين وثلاثين وهم ماتوا بعد الستين، أو في حدود الستين، يعني: بعده بمدة، ولهذا أدركهم من لم يدرك ابن مسعود، وروى عنهم من لم يدرك زمن ابن مسعود.
    وشعيب صدوق، لكنه ليس مدلساً، وروايته بالعنعنة لا تؤثر فيه، وإنما العنعنة تؤثر من المدلس، والذي قال بالانقطاع يقول: أن فيه هنا شيء محذور بين الأب وعبد الله بن عمرو؛ لأنه لو قال: حدثه أو سمعت عبد الله بن عمرو لأصبح صريحاً.
    هو الكلام على أن المقصود بالجد هو جد الأب، وليس جد عبد الله المباشر؛ لأن بعض المحدثين يرد رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ويقول: إن محمداً هو الجد الذي يروي عنه شعيب، يعني: جد عمرو، وعلى هذا يكون مرسلاً، يكون فيه انقطاع، أما هنا ما فيه إرسال؛ لأن عمراً روى عن شعيب، وشعيب روى عن جده عبد الله، والرواية بالعنعنة هي تضر في حق المدلس، أما الذي ليس عنده تدليس لا تؤثر فيه العنعنة.
    وبعضهم ينفي سماع محمد عن عبد الله لأن محمداً ما له وجود الآن في الإسناد، لأن الإسناد عمرو عن شعيب عن عبد الله، ومحمد غير موجود، لكن الذين يقولون بالقول الآخر ويردون رواية عمرو بن شعيب يقولون: عمرو يروي عن شعيب وشعيب يروي عن محمد ومحمد يروي عن الرسول فيكون مرسلاً منقطعاً، أما هذا ما فيه إرسال، ما دام أن شعيباً ثبت سماعه عن جده، فروايته عن جده يكون متصلاً.
    وقال في آخره [ مختصراً ].
    يعني أن النسائي ذكره مختصراً ما ذكره بطوله، فأشار إلى حصول الاختصار.


    فضل الصدقة

    شرح حديث: (أن أزواج النبي اجتمعن عنده فقلن: أيتنا بك أسرع لحوقاً؟ قال: أطولكن يداً ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فضل الصدقةأخبرنا أبو داود حدثنا يحيى بن حماد أخبرنا أبو عوانة عن فراس عن عامر عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمعن عنده فقلن: أيتنا بك أسرع لحوقاً؟ فقال: أطولكن يداً، فأخذن قصبة فجعلن يذرعنها، فكانت سودة أسرعهن به لحوقاً، فكانت أطولهن يداً، فكان ذلك من كثرة الصدقة )].
    فضل الصدقة يعني: أن كون الرجل أو المرأة يكون ذا جود وكرم وإحسان، أن ذلك شيء فاضل وشيء مرغب فيه، وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، اجتمعن عنده وسألنه: أيهن أسرع به لحوقاً؟ فقال: أطولكن يداً، ثم إنهن فهمن أن المقصود باليد الحقيقية، فأخذن قصبة وجعلن يذرعنها، كل واحدة تذرعها، ليرين أيهن أطول، فعندما ذرعن تبين أن سودة هي أطولهن، يعني: أطولهن ذراعاً بهذا المقياس الذي صرن يقسن أذرعهن وأيديهن فيه، ففهمن أن سودة هي التي تكون أسرع، وأنها هي التي تموت بعده من نسائه اللاتي يعشن بعده، فقال: أطولكن يداً، فعملن هذا العمل.
    ثم إنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أول امرأة ماتت من زوجاته بعده زينب بنت جحش وليست سودة، يعني: سودة متأخرة في الوفاة، وزينب بنت جحش كانت متقدمة في الوفاة، هي أول من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجاته التسع اللاتي مات عنهن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج إحدى عشرة امرأة، اثنتان ماتتا في حياته خديجة أولاً، ثم زينب بنت خزيمة، أما التسع الباقية فكلهن كن بعده صلى الله عليه وسلم، لكن أول من مات منهن زينب، وتبين لهن أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، أطولكن يداً وأن زينب هي التي ماتت، وأن الطول الحقيقي الذي هو طول اليد بالفعل لم يحصل؛ لأن سودة هي الأطول يداً بالفعل، ولم تكن أسرعهن وفاة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بل كانت أسرعهن زينب، وكانت جوادة كريمة تعطي المساكين، وتطعم، وتنفق، وتكتسب، وتصنع وتعمل، وكانت كثيرة الإعطاء فعلمن أنها أطولهن يداً يعني بالإحسان والكرم والإنفاق، فالرسول صلى الله عليه وسلم، عمل شيئاً فيه تورية يعني: يحتمل شيئين، فهن فهمن هذا الشيء وهو يريد شيئاً آخر، هن فهمن الطول الحقيقي وهو أراد الطول المعنوي الذي هو الجود والكرم.
    والحديث ليس فيه ذكر زينب، وإنما فيه ذكر سودة وأن الأمر كله في سودة، لكن الواقع والذي ذكره أهل السير وأهل العلم كثير منهم، والذي أيضاً جاء في صحيح مسلم أن زينب هي أسرعهن لحوقاً به، ففهمن أن ذلك من أجل الصدقة، عرفن فيما بعد أن الطول طول صدقة وإحسان وإنفاق، وبذل وعطاء، وليس طول يد بالمقياس وبالفعل، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا الحديث فيه حذف وفيه سقوط، وفي صحيح مسلم بيان ذلك وأن زينب هي أسرعهن وأنهن علمن فيما بعد أن المقصود بذلك الصدقة وطول اليد بالإحسان، وليس طولها بالفعل، يعني: كونها ذات بذل وعطاء، فقال: إن فيه اختصاراً.
    وأهل السير والمؤرخون ذكروا أن زينب ماتت في خلافة عمر، وأن سودة ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه بعد مدة طويلة من وفاة زينب.
    إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم يصرح بالاسم، ولكنه ذكر شيئاً فيه تورية، فهمن المراد على شيء وهو يريد شيئاً، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم صار إلى هذا ولم ينص عليها بالاسم، لأن الآجال أخفاها الله عز وجل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعين من الذي يموت أولاً منهن، بل أتى بشيء يدل عليه، ولكنه ليس واضحاً فيه، بحيث يكون محتملاً فهمنه على شيء وهو الطول الحقيقي لليد، وهو أراد شيئاً وهو الطول المعنوي الذي هو البذل والعطاء.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أن أزواج النبي اجتمعن عنده فقلن: أيتنا بك أسرع لحوقاً؟ قال: أطولكن يداً...)


    قوله: [ أخبرنا أبو داود ].هو سليمان بن سيف الحراني وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ حدثنا يحيى بن حماد ].
    ثقة، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، وأبو داود في الناسخ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [ أخبرنا أبو عوانة ].
    هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مشهور بكنيته أبو عوانة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شخص متقدم، وقد اشتهر بكنيته أبو عوانة شخص متأخر، وهو صاحب المستخرج على صحيح مسلم، المستخرج، ويقال له: المسند ويقال له: الصحيح، صحيح أبي عوانة، ومسند أبي عوانة، ومستخرج أبي عوانة، وهو على صحيح مسلم.
    [ عن فراس ].
    هو فراس بن يحيى، وهو صدوق، ربما وهم، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عامر ].
    هو ابن شراحيل الشعبي، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن مسروق ].
    هو مسروق بن الأجدع، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عائشة ].
    أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مر ذكرها.


    أي الصدقة أفضل


    شرح حديث: (أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب أي الصدقة أفضلأخبرنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رجل: ( يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: أي الصدقة أفضل؟ وأتى بأحاديث تدل على ما هو أفضل في الصدقة وأولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ( أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) (أن تصدق وأنت صحيح شحيح) يعني: وأنت في صحتك وعافيتك، وعندك الطمع في المال، والحرص عليه، والرغبة فيه، (تأمل العيش) يعني: تأمل الحياة، وعندك طول الأمل، (وتخشى الفقر)، يعني: وليس هذا شأن الإنسان الذي أشرف على الموت ثم يقول: يعطى كذا، ويعطى كذا، ويعطى كذا، هو ليس بصحيح، وإنما في حال صحته وفي عافيته، وقوة بدنه يجود بالمال، وكذلك عنده الرغبة بالمال، والطمع في المال؛ لأنه يأمل في الحياة، ويخشى الفقر، خشية أنه بالإنفاق يخشى الفقر بإنفاقه، فهو ذلك يجود ولا يتأخر، ولا يمتنع من الإعطاء؛ لأن عنده غنى النفس، وعنده غنى المال الغنى الظاهري والباطني، (أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر)، فإذا تصدق الإنسان وهو كذلك يعني: تصدق وهو محتاج، وهو يأمل الحياة وهو عنده الطمع والرغبة في العيش، ويخشى الفقر، ولهذا يقول بعض الشعراء:
    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
    الجود يفقر وما كل يصبر على الجود يخشى الفقر، يخشى أن يكون ما عنده شيء، لكن من الناس من يجود ولا يخشى الفقر، بل عنده قوة الإيمان وعنده غنى النفس، نفسه غنية وإذا وجد غنى النفس فسواء وجد غنى اليد أو لم يوجد، فإن ذلك خير كثير للإنسان.

    تراجم إسناد حديث: (أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح...)

    قوله: [ أخبرنا محمود بن غيلان ].هو محمود بن غيلان المروزي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
    [ حدثنا وكيع ].
    هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، مصنف أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري وهو: ثقة، ثبت، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وسفيان هنا غير منسوب، ولكن إذا جاء وكيع يروي عن سفيان فهو سفيان الثوري، وليس سفيان بن عيينة؛ لأن وكيعاً مكثر من الرواية عن سفيان الثوري، ومقل من الرواية عن سفيان بن عيينة، فإذا أهمل الراوي شيخه يحمل على من يكون له به كثرة اتصال وكثرة أخذ، ومن المعلوم أن وكيعاً كوفي وسفيان الثوري كوفي، وأما سفيان بن عيينة فهو مكي.
    ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان في بلد، فإنه يكون على كثرة اتصال بعلماء أهل البلد، وأما الذين هم في بلد آخر، فهو لا يحصل الاتصال بهم إلا عن طريق رحلة لطلب العلم، أو حج، أو عمرة؛ لأن سفيان بن عيينة من مكة، فلا يحصله إلا إذا حج أو اعتمر أو كان في رحلة لطلب العلم، أما إذا كان في بلده فإنه يكون على اتصال به ويكثر عنه ما لا يكثر عن غيره مما لا يحصل الاتصال به إلا قليلاً.
    [ عن عمارة بن القعقاع ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي زرعة ].
    هو أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي هو مشهور بكنيته أبو زرعة، جده جرير بن عبد الله البجلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ومن يكنى بأبي زرعة عدد ولكن هذا هو أقدم من يكنى بأبي زرعة؛ لأنه تابعي يروي عن الصحابة وكنيته أبو زرعة مشهور بها، وفيه أبو زرعة الرازي وهو مشهور بكنيته وهو من علماء القرن الثالث الهجري وهو من المتكلمين في الرجال جرحاً وتعديلاً، وكلامه في الرجال جرحاً وتعديلاً كثير، وأبو زرعة الدمشقي، وكذلك من المتأخرين ولي الدين أبو زرعة العراقي ابن العراقي صاحب الألفية، وهو متأخر في القرن التاسع الهجري، وهو مشهور أيضاً بكنيته أبو زرعة، فالذي يكنى أبو زرعة عدد منهم هؤلاء الأربعة، وأقدمهم هو أبو زرعة هذا الذي معنى وآخر هؤلاء الأربعة أبو زرعة العراقي الذي هو ابن صاحب الألفية عبد الرحيم بن حسين الأثري صاحب الألفية، ابنه ولي الدين أبو زرعة العراقي توفي سنة 826هـ، يعني: في القرن التاسع.
    [ عن أبي هريرة ]
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا عمرو بن عثمان سمعت موسى بن طلحة أن حكيم بن حزام حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ) ]. ثم أورد النسائي حديث حكيم بن حزام الذي أورده من قبل، وكأنه أورده هناك لبيان اليد العليا، وهنا أورده لبيان أي الصدقة أفضل، حديث حكيم بن حزام يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) يعني: كون الإنسان ينفق وهو غير محتاج إلى ما ينفقه؛ لأن الإنسان إذا كان محتاج إلى ما ينفقه قد تتعلق نفسه به وقد يندم، وقد لا يكون عنده صبر، فيحصل عنده ندم على تصدقه وإحسانه، لكن إذا كان عن ظهر غنى عنده ما يكفيه أنفق من شيء زائدة على حاجته وحاجة من يمون، ومن يعول، فهذا هو خير الصدقة.
    ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى ) واليد العليا هي المنفقة واليد السفلى هي السائلة.
    ( وابدأ بمن تعول ) يعني: أولى الناس ببر الإنسان هو من يعوله، ولهذا الرجل الذي قال: (عندي دينار قال: تصدق به عن نفسك، قال: عندي آخر قال: تصدق به على زوجتك، قال: عندي آخر قال: تصدق على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) يعني: معناه أن الإنسان ينفق ويتصدق على الغير بعد أن يؤدي ما هو واجب عليه، ولهذا قال: (وابدأ بمن تعول)، فأولى الناس ببر الإنسان هو من يعولهم، ومن نفقتهم واجبة عليه، لا يعطي الناس ويجعل أقاربه وأولاده ومن تجب عليه نفقتهم يتطلعون إلى الناس ويمدون أيديهم إلى الناس، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أرشد حتى بعد الوفاة إلى أن الإنسان يلاحظ استغناء أولاده عن التكفف، كما في حديث سعد بن أبي وقاص لما أراد أن يوصي بماله قال: لا، حتى قال له: الثلث والثلث كثير، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) وحديث حكيم بن حزام مر قريباً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى...)

    قوله: [ أخبرنا عمرو بن علي ].هو عمرو بن علي الفلاس البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عمرو بن عثمان ].
    هو عمرو بن عثمان بن موهب، وهو ثقة، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي.
    [ سمعت موسى بن طلحة ].
    هو موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي أبوه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ أن حكيم بن حزام حدثه ].
    عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة وهو من معمري الصحابة، عاش مائة وعشرين سنة؛ ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى...) من طريق ثانية وتراجم رجال إسنادها

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو عن ابن وهب قال: أنبأنا يونس عن ابن شهاب قال: حدثنا سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول ) ].ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة وهو بمعنى حديث حكيم بن حزام المتقدم قبله، وليس فيه هنا في هذا اللفظ: ( اليد العليا خير من اليد السفلى )، ولكن فيه الجملتان الأولى والأخيرة، وهي: ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول ).
    قوله: [ أخبرنا عمرو بن سواد ].
    ثقة، أخرج حديثه مسلم، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن ابن وهب ].
    هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ أنبأنا يونس ].
    هو يونس بن يزيد الأيلي، ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة، فقيه، من صغار التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سعيد بن المسيب ].
    ثقة، فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أنه سمع أبا هريرة ].
    وقد مر ذكره.


  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (404)


    - (تابع باب أي الصدقة أفضل) إلى (باب القليل في الصدقة)


    بين الشرع الحكيم أفضلية الصدقة، وذم البخل فيها، ونبه على ترك الإحصاء في الصدقة، ورغب في الشيء اليسير فيها، وأن المسلم لا يحتقرها مهما قلت؛ لأنها تقيه من النار، كما أنه ينتفع بها السائل، وأن من لم يجد شيئاً يعطيه السائل فليرده بكلمة طيبة.
    تابع بيان أي الصدقة أفضل

    شرح حديث: (إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن بشار حدثنا محمد حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت أنه قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة ) ].أورد النسائي هذه الترجمة وهي: باب أي الصدقة أفضل وأورد عندها عدة أحاديث مضى بعضها، وحديث أبي مسعود رضي الله تعالى عنه هذا هو أحدها، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة)، أي: أن الإنسان إذا أنفق على أهله النفقة الواجبة وهو يحتسبها، يعني: يرجو أجرها وثوابها عند الله عز وجل، فهي صدقة، له أجرها، وقيد ذلك بالاحتساب؛ لأن الإنسان قد ينفق وهو كاره غير راغب، وقد يمتنع من الإنفاق، فيرفع إلى الحاكم فيفرض عليه مقداراً الذي هو النفقة الواجبة، فإنه يكون حصل تأدية الواجب، لكنه لا يحصل الثواب والأجر؛ لأنه لم يحتسب الأجر عند الله عز وجل، فهو مثل الذي يمتنع من الصدقة، أو من إخراج الزكاة، ثم تؤخذ منه قهراً، فإنه لا يحصل له أجراً عليها، ولكنه يسقط عنه الواجب، الذي أوجبه الله عز وجل عليه من وجوب الزكاة.
    فكذلك هنا: النفقة على من تجب النفقة عليه، يعني: على أهله، على زوجته وأولاده، هي واجبة عليه، وإذا أدى الواجب وهو يحتسب الأجر والثواب عند الله، فإنه يؤجر على ذلك، وأما إذا كان ما يفكر في الأجر والثواب، وإنما يعطي هذه النفقة الواجبة، أو يمنعها ولكنه أجبر عليها، فإن هذا لا يحصل الأجر، ولا يحصل الثواب على هذه النفقة؛ لكونه لم يحصل منه الاحتساب.
    ولهذا فإن كثيراً من الناس يحصل منهم الإنفاق على أهليهم، ومع ذلك لا يدور في خلدهم، ولا يقع في بالهم احتساب الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى، وإنما يعتبرون ذلك شيئاً قد حصل، وأنه شيء لازم، ولكن لا يفكرون بأجر ولا بثواب، وهنا جاء الحديث بأنه إذا احتسبها فإنها تكون له صدقة، يعني: أنه يؤجر عليها، ويكون متصدقاً ويكون محسناً، ومن المعلوم أن الصدقة تكون من الإنسان على نفسه، يعني: حيث يحتسب الأجر والثواب، ولهذا الذي قال: عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، يعني: أنت أولى الناس بالانتفاع به، والإنسان عليه أن يقوم بمن يعول، وبمن تلزمه مؤنته، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل في ذلك، وقد جاء في الحديث: (أن كل سلامى من الناس عليه صدقة)، وفي آخر الحديث يقول: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: (أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟).
    فالإنسان عندما ينوي العفاف، والتخلص من الشر، والابتعاد منه، فإنه يؤجر على ذلك، كما أنه لو وضع النطفة في الحرام يأثم، فإذا وضعها في الحلال يؤجر، ولكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
    وأورد النسائي هذا الحديث تحت هذه الترجمة التي هي: أي الصدقة أفضل؟ للإشارة إلى أن الإنفاق على الأقارب، ومن تجب النفقة عليه، أن ذلك واجب، وإذا احتسبه كان له صدقة، فيكون ذلك من قبيل ما هو أهم وأفضل من غيره، وكذلك إذا أنفق على من يعول، وأعطى بعد ذلك القريب المحتاج، فإن ذلك صدقة وصلة.


    تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن بشار ]. هو الملقب بندار البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [حدثنا محمد].
    هو محمد بن جعفر الملقب غندر البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وإذا جاء محمد غير منسوب يروي عنه محمد بن بشار ، أو محمد بن المثنى ، وهو يروي عن شعبة فالمراد به غندر، محمد بن جعفر.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو ابن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عدي بن ثابت ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري ].
    صحابي صغير، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي مسعود ]
    عقبة بن عمرو الأنصاري ، مشهور بكنيته أبو مسعود، واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري، وهو صحابي جليل، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وقد ذكرت من قبل أنه قد يكون هناك تصحيف بينه وبين ابن مسعود؛ لأن ابن مسعود اشتهر بنسبته إلى أبيه مسعود، فيقال له: ابن مسعود، وهو عبد الله بن مسعود، ولكن كثيراً ما يأتي ابن مسعود بدون تسميته، وهذا كثيراً ما يأتي بكنيته دون تسميته أبي مسعود، ولهذا يأتي في بعض الأحيان التصحيف بين ابن مسعود وأبي مسعود ، فحديث أبي مسعود في: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء.. )، صحف في بعض النسخ يعني: في بلوغ المرام، أو شرح سبل السلام، فقيل: عن ابن مسعود: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، وذلك للتقارب بين ابن وأبي، فيحصل التصحيف؛ لأن هذا مشهور بنسبته، وهذا مشهور بكنيته.

    شرح حديث: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها ...)

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه قال: أعتق رجل من بني عذرة عبداً له عن دبر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( ألك مال غيره؟ قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدفعها إليه، ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا، يقول: بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ) ].ثم أورد النسائي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما، وفيه: أن رجلاً من بني عذرة أعتق عبداً له عن دبر، يعني معناه: جعل عتقه بعد وفاته، أي: كتب بأنني إذا مت، فعبدي حر، هذا يسمى المدبر، ويقال للعتق بعد الموت: العتق عن دبر، ويقال للعبد الذي جعل عتقه بعد وفاة سيده يقال له: مدبر؛ لأنه علق عتقه على الوفاة، والموت دبر الحياة، أي: بعد الحياة، فقيل له: مدبر، وقيل للفعل: التدبير، يعني: تعليق العتق على الموت، وجعل العتق يكون بعد الموت هذا تدبير، ولهذا قال: أعتق عبده عن دبر، يعني: كتب بأنه يكون عتيقاً إذا مات؛ لأن الموت دبر الحياة فقيل: عن دبر.
    فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا، ما عندي مال غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقره على هذا العمل، فباعه، وقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم، فأعطاه إياها، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم دفعها إليه، وقال: خذها وتصدق بها على نفسك، فإن فضل فتصدق به على أهلك، فإن فضل فتصدق به على قرابتك، فإن فضل فهكذا وهكذا وهكذا، يعني: أعطه لمن شئت، وأنفقه في سبيل الله، يعني: أشار إلى أمامه وإلى يمينه وشماله، يعني: بالإنفاق والإخراج في سبيل الله عز وجل، فأرشده عليه الصلاة والسلام إلى أن يحسن إلى نفسه أولاً حتى لا يحتاج إلى الناس، وقال: تصدق به على نفسك، أو أبدأ بنفسك وتصدق عليها، ونفقة الإنسان على نفسه إذا احتسبها هي صدقة، وكذلك نفقته على أهله صدقة، وعلى أقاربه صدقة، وإن كانت نفقة واجبة.
    فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى البدء بالأهم فالأهم، والأولى فالأولى، فيبدأ بنفسه، ثم بأهله الذين تجب عليه نفقتهم، ثم قرابته الذين لا تجب عليه نفقتهم، ثم بعد ذلك يعطيه ويصرفه حيث شاء في وجوه الخير، وهو ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وأمامه وشماله، يعني: ينفق في سبيل الله، وفي وجوه الخير، يعني: بعد أن يبدأ بمن يكون الأولى.
    وإيراد الحديث هذا في الباب الذي هو: أي الصدقة أفضل، للإشارة إلى أن الإنسان ينفع نفسه، ويعف نفسه، وينفع من يعول، ثم بعد ذلك يكون أولى الناس ببره أقربائه، والصدقة عليهم: صدقة وصلة، جمعت بين خصلتين، وبين حالتين محمودتين، وهما صلة الأرحام، والتصدق، ثم بعد ذلك يصرفه في وجوه الخير.
    أورد النسائي الحديث تحت: أي الصدقة أفضل؟ للإشارة إلى أن أفضل ما يصرف الإنسان ماله على نفسه، ثم على أهله، ثم على قرابته، ثم على من وراءهم، من إعطاء الناس، ومن الصرف في وجوه الخير والبر، سواء أعطاه لمساكين ومحتاجين، أو في وجوه الخير كبناء المساجد وغير ذلك ، أو في سبيل الله بالمعنى العام، وهو: ما يشمل وجوه الخير والبر.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها ...)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا الليث ].
    هو ابن سعد المصري ، ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي الزبير ].
    هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، صدوق، يدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن جابر بن عبد الله الأنصاري].
    صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم، وعن الصحابة أجمعين.
    وهذا الحديث من رباعيات النسائي، وهي من أعلى الأسانيد عنده؛ لأن أعلى الأسانيد عند النسائي الرباعيات التي يكون فيها بين النسائي وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أربعة أشخاص، وأطول الأسانيد وأنزل الأسانيد عنده العشاري، الذي يكون بين النسائي فيه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشرة أشخاص، وقد سبق أن مر بنا في فضل: قل هو الله أحد حديث عند النسائي فيه بين النسائي وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام عشرة أشخاص، وقال: إن هذا أطول إسناد، أي: العشاري.
    والبخاري أنزل ما يكون عنده التساعي؛ لأن عنده حديث فيه تسعة أشخاص، وقال الحافظ ابن حجر يقال: إن هذا أنزل إسناد، وأطول إسناد عند البخاري، وأما أعلى ما يكون عند البخاري فهو ثلاثة، وأصحاب الكتب الستة ثلاثة منهم أعلى ما عندهم الثلاثيات، وثلاثة أعلى ما عندهم الرباعيات، فالذين أعلى ما عندهم الثلاثيات البخاري عنده اثنان وعشرون حديثاً ثلاثياً، والترمذي عنده حديث واحد ثلاثي، وابن ماجه عنده خمسة أحاديث ثلاثية، بإسناد واحد ضعيف، وأما مسلم، وأبو داود، والنسائي، فأعلى ما عندهم الرباعيات، وليس عندهم ثلاثيات.


    صدقة البخيل

    شرح حديث: (إن مثل المنفق المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد ...)


    قال المصنف رحمه الله: [ صدقة البخيل.أخبرنا محمد بن منصور حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس أنه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، ثم قال: حدثناه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن مثل المنفق المتصدق والبخيل، كمثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فإذا أراد المنفق أن ينفق اتسعت عليه الدرع، أو مرت حتى تجن بنانه، وتعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت ولزمت كل حلقة موضعها، حتى إذا أخذته بترقوته أو برقبته، يقول أبو هريرة: أشهد أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوسعها فلا تتسع، قال طاوس : سمعت أبا هريرة يشير بيده، وهو يوسعها ولا تتوسع )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: صدقة البخيل، ومعلوم أن البخيل لا يتصدق، ولكن المقصود من هنا أنه عندما يريد أن يتصدق، أو عندما يحاول أن يتصدق لا يفعل؛ لأن البخل والشح يحول بينه وبين ذلك؛ لأن نفسه تقول له: إنه يؤدي بك إلى الفقر، وقلة المال ونقصه، فلا يتصدق، وإذا أراد أن يحاول أن يتصدق، عنده ما يمنعه وهو الشح الذي في قلبه؛ لأنه بخيل، بخيل النفس، بخيل اليد، فلا يمد يده بإعطاء الخير، وبالصدقة.
    والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للبخيل والمتصدق، قال: كمثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان، وهو شك من الراوي، ولكن الصحيح جنتان؛ لأنه جاء تفسيرها فيما بعد بأنها جنة وليست جبة؛ لأن الجبة: كساء يكون على الإنسان، وهو من الصوف.. من القطن، والجنتان هما: ما يكون من الحديد الذي يتترس به، ويكون وقاية في الجهاد من سهام الأعداء، ولهذا جاء في التفسير أنها تتقلص، وكل حلقة تمسك بالأخرى، فلا يسهل نزولها، واتساعها، بل ترتفع حتى تصل إلى رقبته أو ترقوته، فتصير يديه كالمغلولتين، ما يستطيع أن يخرج، ولا يستطيع أن ينفق.
    فالرسول صلى الله عليه وسلم، ضرب مثلاً برجلين عليهما جنتان من الثدي إلى الترقوة، فكان المنفق عندما يريد أن ينفق تتسع، يعني: مثله كمثل هذا الذي عليه الجنة التي اتسعت ونزلت حتى كانت سابغة، وحتى غطت أصابعه، وأعفت أثره، بمعنى أنه صار لباسه سابق، يعني: جنة على جسده كله، فمثله مثل هذه الجنة التي تتسع وتكون سابغة، فكذلك صدقته فإنه يبذل ويعطي، ويكون خروجها سهل، كسهولة هذه الجنة التي تنزل حتى تكون سابغة.
    وأما البخيل فهو الذي عليه هذه الجنة يريد أن يتصدق فترتفع حتى تلتصق بترقوته، فهو يريد أن ينزلها ولا تنزل، والرسول صلى الله عليه وسلم يضرب المثل بكونه يحرك كذا يريد أن تتسع فلا تتسع، يعني: يشير بيده، يريد أن ينزلها وهي لا تنزل؛ لأنها صعدت، وكذلك أبو هريرة أو طاوس الذي كان أيضاً يفعل.
    [ قال طاوس : سمعت أبا هريرة يشير بيده ] يعني: يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: يشير إلى أنه يريد أن ينزلها وهي صاعدة ومرتفعة، فيكون كالمغلول اليدين.
    والله تعالى أرشد إلى أن الإنفاق يكون بالوسط، لا يكون بالتقتير والبخل، ولا بالإسراف والتبذير، ولكن يكون بين ذلك، ولذلك يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، ويقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، مغلولة إلى عنقك يعني معناه: مشدودة، ما يستطيع أن ينزلها من أجل يأخذ شيئاً؛ لأنها كالذي غلت إلى العنق وربطت بالعنق، فلا تستطيع أن تنزل وتتناول شيئاً وتعطيه، ولا تبسطها كل البسط، يعني: بأن يكون هناك تبذير، ويكون هناك إسراف، ولكن يكون هناك وسط، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
    الحاصل: أن البخيل لا يتصدق، وإذا أراد أن يتصدق عنده في قلبه ما يمنعه من الصدقة، وإن تصدق فهو يتصدق بالشيء التافه، أو بالشيء الرديء أو ما إلى ذلك.
    وأما المنفق المتصدق فيبسط يده، وينفق في وجوه الخير، وفي وجوه البر.
    وهذان مثلان ضربهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأمثال التي يضربها لتوضيح المعنوي بصورة الشيء المحسوس.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن مثل المنفق المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جنتان من حديد ...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن منصور ].هو الجواز المكي ، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو ابن عيينة الهلالي المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن جريج ].
    هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الحسن بن مسلم بن يناق المكي ].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    [ عن طاوس ].
    هو طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت أبا هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.
    ثم قال بعد ذلك: وحدثناه.. يقول ابن جريج: [وحدثناه أبو الزناد]، هو عبد الله بن ذكوان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج]
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه] وقد مر ذكره في الطريق الأولى.

    حديث: (إن مثل المنفق المتصدق والبخيل مثل رجلين عليهما جنتان من حديد ...) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جنتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فكلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه حتى تعفي أثره، وكلما هم البخيل بصدقة تقبضت كل حلقة إلى صاحبتها، وتقلصت عليه، وانضمت يداه إلى تراقيه، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع ) ]. ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم، يعني: ضرب المثلين للبخيل والمتصدق، وأن ذاك تنزل، وذاك ترتفع، حتى ترتفع يداه إلى تراقيه فتكون كالمغلولة، أو يكون مغلول اليدين لا يستطيع أن ينفق لكونه مغلولاً، والحديث هو مثل الذي قبله.
    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان ].
    هو: أحمد بن سليمان الرهاوي، وهو ثقة، حافظ، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن عفان ].
    هو عفان بن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا وهيب ].
    هو وهيب بن خالد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عبد الله بن طاوس ].
    هو عبد الله بن طاوس بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا أبيه عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكرهما في الإسناد الذي قبل هذا.


    الإحصاء في الصدقة

    شرح حديث: (يا عائشة! لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك)


    قال المصنف رحمه الله: [ الإحصاء في الصدقة.أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب حدثنا الليث حدثنا خالد عن ابن أبي هلال عن أمية بن هند عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال: ( كنا يوماً في المسجد جلوساً، ونفر من المهاجرين والأنصار، فأرسلنا رجلاً إلى عائشة ليستأذن، فدخلنا عليها، قالت: دخل عليّ سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمرت له بشيء، ثم دعوت به، فنظرت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك؟ قلت: نعم، قال: مهلاً يا عائشة، لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك )].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: الإحصاء في الصدقة، وهي التدقيق فيها، وكون الإنسان يخرج الشيء وهو يعلم حصره، ويعلم عدده، بحيث يكون محصياً.
    والحديث يدل على أن المتصدق يأخذ الشيء ويعطيه دون أن يعد، أي: لا يكون شأنه أن يحصي ما يخرج منه، ويعده، وهذا هو الأولى؛ لأن البذل بدون عد يدل على عدم الحرص، وأما إذا كان هناك إحصاء، وهناك تدقيق، فإنه يكون فيه حرص، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى عدم الإحصاء في الصدقة، وأن الإنسان ينفق دون أن يكون مدققاً وعاداً، أو أن يكون عنده شيء من الحرص بمعرفة ما يخرج منه، بل يأخذ مما أعطاه الله عز وجل، ويعطي دون أن يروح يعرف مقدار ما سيخرجه، هذا هو المقصود بالإحصاء.
    وقد أورد النسائي حديث عائشة ، وذلك أنها جاءها سائل وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت بأن يعطى شيئاً، فأخذ الذي أراد أن يعطي، فطلبته وأخذته ونظرت فيه لتعرف قدره، يعني: هذا الذي أخذه، هذا الذي سيعطيه للفقير السائل، طلبته ودعته حتى أخذته ونظرت أيش مقداره، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ( أتحبين أن لا يدخل عليك شيء ولا يخرج إلا بعلمك؟ قالت: نعم، قال: لا تحصي فيحصي الله عليك )، يعني: فأنت أعطي بدون عد وبدون حساب، والله عز وجل يعطيك بدون حساب وبدون إحصاء، والجزاء من جنس العمل، فمن أنفق جوداً وكرماً وإحساناً، وبذلاً وسخاء، فالله تعالى يجود عليه ويعطيه بغير حساب، ومن قتر أو أحصى فإنه يعطى كما أعطى، يعني: أحصى فيحصى عليه، وإذا بذل بدون إحصاء، فكذلك يبذل له بدون إحصاء.
    الحاصل: الرسول صلى الله عليه وسلم، أرشدها أن لا تفعل مثل هذا الفعل، بل تخرج مما أعطاها الله عز وجل دون أن تنظر فيه، أو تحصيه، ولكن المهم الأمر بالإعطاء، وأن يكون بدون حساب وتدقيق.


    تراجم رجال إسناد حديث: (يا عائشة! لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك)


    قوله: [ أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ].ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [ عن شعيب ].
    هو شعيب بن الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
    [ حدثنا الليث ].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن خالد ].
    هو خالد بن يزيد الجمحي المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن أبي هلال ].
    هو سعيد بن أبي هلال المصري ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أمية بن هند ].
    مقبول، أخرج حديثه النسائي، وابن ماجه.
    [ عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ].
    وهو معدود في الصحابة، وله رؤية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عائشة ].
    هي أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، الصديقة بنت الصديق ، التي أنزل الله تعالى براءتها مما رميت به من الإفك في آيات تتلى في سورة النور، وهي من أوعية السنة وحفظتها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

    حديث أسماء بنت أبي بكر: (لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك) وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا محمد بن آدم عن عبدة عن هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ( لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك )].ثم أورد النسائي حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها مثل ما قال لعائشة لأختها، لا تحصي فيحصي الله عليك، وهو مثل الذي قبله في الجملة الأخيرة التي قالها رسول الله عليه الصلاة والسلام لعائشة .
    قوله: [ أخبرنا محمد بن آدم ].
    هو محمد بن آدم الجهني، وهو صدوق، أخرج له أبو داود ، والنسائي.
    [ عن عبدة ].
    هو عبدة بن سليمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن هشام بن عروة ].
    هو هشام بن عروة بن الزبير، وهو ثقة، ربما دلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن فاطمة ].
    هي فاطمة بنت المنذر بن الزبير، وهي زوجة هشام بن عروة، يروي عن زوجته، وهي ثقة، أخرج حديثها أصحاب الكتب الستة.
    وهي تروي عن جدتها أسماء بنت أبي بكر؛ لأنها فاطمة بنت المنذر بن الزبير، جدها الزبير، وجدتها أسماء بنت أبي بكر؛ لأن أسماء بنت أبي بكر هي زوجة الزبير، فهذا الحديث فيه رواية الزوج عن زوجته، وهو هشام بن عروة يروي عن زوجته فاطمة بنت المنذر ، يعني: ابنة عمه؛ لأنه هشام بن عروة بن الزبير يروي عن بنت عمه، زوجته التي هي فاطمة بنت المنذر بن الزبير ، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير تروي عن جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق.
    و أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها وأرضاها حديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    شرح حديث أسماء بنت أبي بكر: (ارضخي ما استطعت ولا توكي فيوكي الله عليك ...)

    قال المصنف رحمه الله: [أخبرنا الحسن بن محمد عن حجاج قال: قال ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: ( يا نبي الله: ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير ، فهل علي جناح في أن أرضخ مما يدخل عليّ؟ فقال: ارضخي ما استطعت، ولا توكي فيوكي الله عز وجل عليك ) ].ثم أورد النسائي حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنني ليس عندي شيء إلا ما يدخله الزبير في بيتي، فهل عليّ جناح أن أرضخ)، يعني: أن تتصدق؛ لأن الرضخ هو: الإعطاء، العطية القليلة، قال: الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرضخي ما استطعت، ولا توكي فيوكي الله عليك)، أي: أعطي ما استطعت، وفسر ما أذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترضخ منه، بأن يكون أعطاها إياه على أنه نفقة لها تخصها، وتملكها، فهي تعطي مما ملكها إياه الزبير بن العوام، ومعنى هذا: فإنها تعطي كيف شاءت من الذي يخصها، وإذا كان المال للزبير ، وهو ليس نفقة لها، فإنها تعطي إذا كان هناك أذن صريح أو مفهوم مما يتعارف الناس عليه، يعني: في كون المرأة تنفق من الطعام الذي في بيت زوجها، والذي وضعه للنفقة على أهله وعلى أهل بيته، فإذا كان متعارفاً أن الفقير إذا جاء يعطى من المال، فإنه يعطى بناء على هذا الإذن المفهوم.
    وإذاً: هو يحتمل هذا الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنها تعطي مما يخصها مما أعطاها إياه الزبير على أنه يخصها وهو نفقة لها، أو مما أدخله الزبير ليكون نفقة لأهل البيت، ويكون المال للزبير ، ولكن هناك إذن إما صريح أو مفهوم، مما تعارف الناس عليه في الغالب من أن صاحب البيت يسامح ويأذن بأن يعطى السائل شيئاً يسيراً مما في البيت، ثم قال: (ولا توكي فيوكي الله عليك)، والإيكا هو: ربط الشيء بالحزام، يعني: إما ربط السقاء، أو ربط الصرة، أو ربط الشيء الذي يحتفظ به، يعني معناه: أنك إذا ربطتي ومنعتي، فإنه كذلك تعاملين، والجزاء من جنس العمل، يوكي الله عليك، فكما أوكيتي لتمنعي، فالله تعالى يمنعك من أن يعطيك العطاء الواسع، ولكن إذا أعطت وبذلت، فإن الله تعالى يعطيها ويبذل لها، وإذا قترت وضيقت وأوكت وحفظت الوكاء، ولم تفتحه لتنفق منه، فالله تعالى يجازيها بالمثل؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

    تراجم رجال إسناد حديث أسماء بنت أبي بكر: (ارضخي ولا توكي فيوكي الله عليك ...)


    قوله: [أخبرنا الحسن بن محمد الزعفراني]، وهو ثقة، أخرج له البخاري ، وأصحاب السنن.[ عن حجاج ].
    هو حجاج بن محمد المصيصي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن جريج ].
    هو عبد الملك بن عبد العزيز، وقد مر ذكره.
    [ عن ابن أبي مليكة ].
    هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عباد بن عبد الله بن الزبير ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    يروي عن جدته أسماء بنت أبي بكر، وقد مر ذكرها.


    القليل في الصدقة

    شرح حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)


    قال المصنف رحمه الله: [ القليل في الصدقة.أخبرنا نصر بن علي عن خالد قال: حدثنا شعبة عن المحل عن عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) ].
    ثم أورد النسائي: القليل في الصدقة، يعني: الصدقة القليلة، يعني: على حسب قدرة الإنسان، إذا ما استطاع الإنسان أن يعطي الكثير، فإنه يعطي القليل، قد عرفنا فيما مضى فضل جهد المقل، وأن خير الصدقة جهد المقل، يعني: كون الإنسان ينفق على قدر حاله، وعلى قدر ما أعطاه الله عز وجل، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
    فالمقصود بالقليل من الصدقة، يعني: أنه لا يتهاون بإخراج الصدقة ولو كانت قليلة، وإذا كان الإنسان موسعاً عليه، فليوسع في الصدقة، وإذا كان مضيقاً عليه فلينفق مما آتاه الله على قدر حاجته، ولو كان شيئاً يسيراً، ولا يحقر القليل، ولو كان تمرة واحدة، أو نصف تمرة.
    وقد أورد النسائي حديث عدي بن حاتم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية تقيكم منها بالصدقة، ولو كان المتصدق به شق تمرة، أي: نصف تمرة، إذا ما وجد شيئاً أكثر منها، فلا يستهين بها الإنسان؛ لأنها تنفع الفقير المحتاج الذي هو شديد الحاجة، ويكون في ذلك وقاية وسلامة من النار، ولو كانت الصدقة قليلة، ما دام أن الإنسان هذا هو الذي يقدر عليه، ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، فالحديث دليل على أن الصدقة تكون سبباً في الخلاص من النار، والسلامة من عذاب النار، ( اتقوا النار )، أي: بالصدقة، (ولو بشق تمرة)، أي: ولو كان المتصدق به نصف تمرة.
    ومما يدل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما جاء إلى النساء يوم العيد ووعظهن قال: ( تصدقن يا معشر النساء فإنكن أكثر حطب جهنم )، يعني: الصدقة تخلصكن من عذاب النار، وتكون سبباً في سلامتكن من عذاب النار، ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، يعني: ولو كان المتصدق به شيئاً قليلاً يساوي شق تمرة، التي هي نصف تمرة.
    وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أنها جاءت امرأة ومعها ابنتان، فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار ).

    تراجم رجال إسناد حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)

    قوله: [ أخبرنا نصر بن علي ].هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن خالد ].
    هو خالد بن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة عن المحل ].
    شعبة ، قد مر ذكره، عن المحل بن خليفة، وهو ثقة، أخرج له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن عدي بن حاتم ].
    هو عدي بن حاتم الطائي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) من طريق أخرى

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد قال: حدثنا شعبة : أن عمرو بن مرة حدثهم عن خيثمة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: ( ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النار، فأشاح بوجهه وتعوذ منها، ذكر شعبة : أنه فعله ثلاث مرات، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق التمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ) ]. ثم أورد النسائي حديث عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر النار فأشاح بوجهه، يعني: مال أو صرف وجهه، أي: كأن النار أمامه، وذلك لهولها وعظم شأنها، وتعوذ. قال: أشاح وتعوذ منها، قال شعبة : ثلاث مرات، يعني: أنه يذكرها ثم يشيح بوجهه ثلاثاً، ثم قال: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد بكلمة طيبة )، الإنسان إذا سئل وكان عنده ما يعطيه فليعطي، ولو كان شيئاً قليلاً، وإذا كان ما هناك عنده شيء، ولا يستطيع أن يعطي، فليصرف السائل بكلمة حسنة، وبكلمة طيبة، ( فمن لم يجد فبكلمة طيبة )، يعني: إما يصرفه بها، أو يساعده بها عند من يحتاج، أو يدله على من يحقق له رغبته، أو يرشده إلى من ينفعه.
    الحاصل: أنه إذا ما استطاع أن يعطيه، فليجبه بكلمة طيبة؛ لأن الكلمة الطيبة صدقة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ( والكلمة الطيبة صدقة )، فهي صدقة من الإنسان على نفسه وعلى غيره، على نفسه إذ تكلم بكلام طيب، وعلى غيره إذ أدخل عليه السرور بمخاطبته بالكلام الطيب.

    تراجم رجال إسناد حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) من طريق أخرى

    قوله: [ أخبرنا إسماعيل بن مسعود ].هو إسماعيل بن مسعود أبو مسعود البصري، ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن خالد عن شعبة ].
    وقد مر ذكرهما.
    [ أن عمرو بن مرة حدثهم ].
    هو عمرو بن مرة الكوفي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    وقوله: أنه حدثهم، يعني: كأنه حدث شعبة ومعه غيره، يعني: أن عمرو بن مرة حدث شعبة ومعه غيره، ولعل هذا هو السبب الذي جعل النسائي يقول: قال شعبة : ثلاث مرات، يعني معناه: أن هذا في رواية شعبة، وأما رواية الآخرين الذين شاركوه، فليس فيها ذكر الثلاث مرات.
    [ عن خيثمة ].
    هو خيثمة بن عبد الرحمن، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عدي بن حاتم ].
    وقد مر ذكره.



  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (405)

    باب التحريض على الصدقة - باب الشفاعة في الصدقة



    رغب الشرع في الصدقة والمبادرة إليها وذلك لما لها من أجر عظيم، ومن الأمور العظيمة التي رغب فيها الشارع الشفاعة لصاحب الحاجة، والشافع له أجر سواء قبلت شفاعته أم لا.
    التحريض على الصدقة

    شرح حديث: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب التحريض على الصدقةأخبرنا أزهر بن جميل حدثنا خالد بن الحارث حدثنا شعبة قال: وذكر عون بن أبي جحيفة قال: سمعت المنذر بن جرير يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر النهار، فجاء قوم عراة حفاة متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن، فأقام الصلاة فصلى، ثم خطب، فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء:1]، و اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: التحريض على الصدقة، التحريض هو: الحث، والطلب بتأكيد وترغيب، هذا هو المقصود بالتحريض، وقد أورد النسائي تحت هذه الترجمة حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أناس حفاة عراة متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ما فيهم من الفاقة، وما فيهم من الشدة، تأثر وتغير وجهه عليه الصلاة والسلام من التأثر، فدخل بيته وخرج، يعني: دخوله من أجل أن يبحث لهم عن شيء في بيته يعطيهم إياه، فلم يجد شيئاً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فأمر بلالاً أن يؤذن، فصلى بالناس، وخطب الناس بعد الصلاة وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه من ثوبه، من صاع تمره، من صاع بره، فجعلوا يتصدقون، وجاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده أن تعجز عنها، بل عجزت، فوضعها، فتتابع الناس وراءه، وتصدقوا، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال عند ذلك، فكان هناك كومان من الطعام والثياب، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة)، قال جرير : ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
    الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه هؤلاء النفر والجماعة من مضر، وكانوا بهيئة مؤثرة، قال: هم عراة حفاة، أي: أنهم أشباه الحفاة والعراة، وليس معنى ذلك أنه ليس عليهم شيء، وأن عوراتهم بادية، وإنما عليهم أسمال، وعليهم أشياء تؤثر رؤيتها؛ لأن وجودها مثل عدمها تقريباً، وليس ذلك أنهم يمشون وليس عليهم شيء، وأن عوراتهم بادية، ولكن عليهم أسمال، وعليهم أشياء هي تدل على فاقتهم وعلى فقرهم وعلى شدة حاجتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم تأثر لهذا المرأى، لهذا الذي رآه، ودخل في بيته وخرج، دخل ليبحث عن شيء يعطيهم إياه، فلم يجد شيئاً عليه الصلاة والسلام، فأمر بلالاً أن يؤذن وأن يقيم الصلاة، وخطب الناس بعد الصلاة.
    ومن المعلوم أن هذا الأذان وهذه الخطبة، وهذه الصلاة هي صلاة الظهر، وخطب الناس وحثهم على الصدقة، ورغبهم فيها، وأتى بالآيتين، الآية الأولى التي أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قيل: ولعله أتى بهذه الآية لذكر الأرحام فيها، وأنهم لكونهم قرابة، وإن كانت قرابة بعيدة إلا أنهم يعتبرون قرابات، فصلتهم من صلة ذوي الأرحام، وهم من مضر، الفرع الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، يعني: منه تتحدر قريش وغير قريش، فهو الجد الأعلى الذي ينتسب إليه، ويأتي كثيراً ذكر ربيعة ومضر لأنهما أخوان، وهما أبنا نزار بن معد بن عدنان، ومضر هو الذي يأتي من ذريته قريش، ومن قريش بني هاشم، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم ذكر الآية الثانية التي فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، يعني: أن الإنسان يحسن في هذه الحياة، وما يحسنه فيها فإنه يقدمه ليوم غد، أي: أنه يجد ثواب ذلك، ويجد ثمرة ذلك إذا خرج من هذه الحياة الدنيا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، وقال في الحديث القدسي: ( يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ).
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، يعني: ما قدمته من الأعمال الصالحة التي تنفعها عند الله عز وجل، ومن ذلك الصدقة، وقد جاء في الأحاديث: أن الصدقة من أسباب الوقاية من النار، كما سبق أن مر بنا بالأمس: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، وكما سيأتي في نفس الحديث: (ولو بشق تمرة)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للنساء: ( يا معشر النساء! تصدقن، فإنكن أكثر حطب جهنم).
    فقال: (تصدق رجل)، يعني معناه: خبر بمعنى الأمر، من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع تمره، من صاع بره، كل على حسب ما يقدر عليه، الذي عنده دنانير يعطي دينار، والذي عنده دراهم يعطي دراهم، والذي عنده ثياب يعطي ثياب، والذي عنده تمر يعطي من التمر، والذي عنده بر يعطي من البر، وهكذا، كل ينفق مما يجد، كل ينفق مما عنده ومما أقدره الله عليه، فجعلوا يتصدقون.
    ثم قال في آخره: (ولو بشق تمرة)، يعني: ولو كان شيئاً قليلاً يسيراً الذي هو نصف تمرة؛ لأنها تنفع المضطر إليها والمحتاج إليها حاجة شديدة، ثم إنه جاء رجل من الأنصار وبيده صرة، يعني: كادت يده أن تعجز عنها لثقلها، بل عجزت، فوضعها، فتتابع الناس وراءه، واقتدوا به، وائتسوا به في كثرة الإنفاق وفي الجود والكرم، فعند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ).
    ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن هذا الرجل الذي تصدق بهذه الصدقة العظيمة الكبيرة وتتابع الناس وائتسوا به وقلدوه في الخير، وتابعوه في الخير، له أجر صدقته وله مثل أجور الذين اقتدوا وائتسوا به؛ لأنه هو الذي سن لهم هذا الخير وسبقهم إلى هذا الخير، وصار قدوة لهم في هذا الخير، هذا هو المقصود من الحديث، وهذا هو سبب الحديث، وليس المقصود به أن من يبتدع بدعة في الدين ويسميها حسنة أنه يكون له أجرها وأجر من عمل بها؛ فإن الدين ليس فيه بدع، بل البدع محرمة، والبدع ضلالة, وليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة كما قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولكن المقصود بالسنة الحسنة، أي: الطريقة التي يأتي بها الإنسان وهي مشروعة ثم يتابع عليها؛ لأن أصل الصدقة والإكثار من الصدقة مشروع ومستحب، لكن كون الإنسان بادر وسبق الناس إلى أن يأتي بالشيء الكثير، والناس يتابعونه ويكثرون من الصدقة، يعني: أنهم ائتسوا به في الخير، وصار قدوة لهم في الخير، وصار متبوعاً لهم؛ لأنهم رأوه فعل الخير الكثير فتابعوه على ذلك، هذا هو المقصود بالحديث، وهذا هو سبب الحديث.
    وليس المقصود به أن من يبتدع بدعة في الدين ويعتبرها حسنة، أو يقول: إنها حسنة، أنه يؤجر عليها، وغيره ممن يتابعه عليها يؤجر عليها، لا! بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، قال: كل بدعة ضلالة، ما في بدعة حسنة، البدع كلها ضلالة؛ لأنها إحداث شيء في الدين لم يأت به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
    وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، فكيف يكون له الأجر ومن يتبعه يكون له أجر؟ بل قال عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، متفق عليه من حديث عائشة، وفي رواية لـمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، يعني: مردود عليه لا يقبل؛ لأنه محدث ولأنه مبتدع، ولأنه منكر، ولأنه من محدثات الأمور، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم محدثات الأمور، والواجب هو الحذر من البدع التي لم تأت بها السنن، سواء كانت شهرية، أو أسبوعية، أو سنوية، أو تتعلق بزمن، أو تخصيص ليلة من الليالي، أو يوم من الأيام بعمل لم تأت فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بدعية الاحتفال بالإسراء والمعراج

    ومن البدع المحدثة في الدين والتي هي بدعة ضلالة ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالإسراء والمعراج، وبليلة الإسراء والمعراج، والتي يقولون عنها: إنها ليلة سبعة وعشرين، يعني: مثل هذه الليلة من رجب، فإن هذه من البدع المحدثة في دين الله عز وجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أرشد إلى ذلك؛ لأنه أولاً ما ثبت تحديد ليلة الإسراء والمعراج، ولو ثبت لم يكن لأحد أن يخصها بعمل من الأعمال وأن يخصها بعبادة، لا بصلاة ولا بغير ذلك، لو ثبت أنها معلومة وأنها هذه الليلة لم يجز لأحد أن يخصها بعمل من الأعمال، بل ليلة الإسراء والمعراج لو ثبتت فهي مثل غيرها ما دام أنه ما جاء فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا جاءت السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: اعملوا كذا في الليلة الفلانية، وافعلوا كذا في الليلة الفلانية، فهذا على العين والرأس؛ لأن هذه هي السنن التي يقتدى فيها بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما ما لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، فإن تخصيصه بعمل من الأعمال من البدع المحدثة في دين الله التي لا يستفيد صاحبها، بل يتضرر؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد )، أي: أن البدع المحدثة لا يجوز لأحد أن يصير إليها؛ لأن الذي أحدثها مردود عليه عمله، ومن تابعه وقلده في ذلك مردود عليه عمله، وإنما الواجب هو اتباع السنن، والبحث عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعته والسير على منهاجه، فلا تخصص ليلة الإسراء والمعراج لو ثبتت بعمل معين، وكذلك ليلة النصف من شعبان لا تخص بعمل معين، بل هن كسائر الليالي، وأيامها كسائر الأيام، لا يصار إلى فعل شيء إلا بدليل وإذا لم يثبت الدليل، فإن ذلك يكون بدعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة )، قال ذلك بعد أن حث على السنن في قوله: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ )، ثم قال: (وإياكم ومحدثات الأمور)، ففيه حث وترغيب وترهيب، حث على اتباع السنن، وتحذير من البدع والمحدثات.
    شرطا قبول العبادة

    ومن المعلوم أن العمل الصالح المقبول عند الله، لا بد أن يتوفر فيه شرطان اثنان، أحدهما: أن يكون العمل لله خالصاً، والثاني: أن يكون لسنة محمد صلى الله عليه وسلم مطابقاً وموافقاً، هذان هما شرطا قبول العمل. الإخلاص والمتابعة؛ تجريد الإخلاص لله وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعبد إلا الله، ولا يعبد الله إلا طبقاً لما شرع رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يجوز أن يعبد بالبدع والمحدثات؛ لأن هذين الشرطين إذا توافرا فإن ذلك هو شرط قبول العمل، وهذا هو معنى: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى أشهد أن لا إله إلا الله: أن يخص بالعبادة، ومعنى أشهد أن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام: أن يخص بالمتابعة، فلا بد من تجريد الإخلاص لله وحده، ولا بد من تجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، لا بد من توحيد الله عز وجل بالعبادة، ولا بد من توحيد المرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بالمتابعة والسير على منهاجه، والحذر من أن يحدث في دينه ما ليس منه؛ لأن الإحداث في الدين معناه: اتهام للشريعة بأنها ناقصة، وأنها تحتاج إلى إضافة وتحتاج إلى تكميل، والله تعالى أكمل الشريعة وأتمها، وقال عز وجل في الآية التي أنزلها على رسوله يوم عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].فالشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه؛ فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين للناس كل ما يحتاجون إليه، وحذرهم من كل ما يضرهم، ما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه.

    الاكتفاء بحسن النية في صحة العمل


    ولا ينفع في البدع أن يقول أو أن يعتذر صاحبها عن إحداثها أو العمل بها بأن يقول: نحن قصدنا طيب، ونحن ما أردنا إلا الخير، وإن شاء الله نؤجر على قصدنا وعلى نيتنا؛ لأن العمل الذي ينوى يجب أن يكون مشروعاً، وإذا كان غير مشروع ونوي، فإنه ينوى أمر مبتدع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وقال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وقال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنها فهو رد ).وقد جاء أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -الصحابي الجليل المشهور- إلى أناس قد تحلقوا في المسجد ومعهم حصى، ومعهم رجل يقول لهم: هللوا مائة، سبحوا مائة، كبروا مائة، ثم يعدون بالحصى، إذا قال: سبحوا مائة جعلوا يعدون في الحصى مائة مرة، فإذا فرغوا منها قال: هللوا مائة، فيقولون: لا إله إلا الله مائة مرة ويعدون بالحصى، ثم إذا فرغوا منها قال: كبروا مائة، فجعلوا يعدون بالحصى حتى.. فوقف على رءوسهم وقال: ما هذا؟ إما أن تكونوا على طريقة أهدى مما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، واحدة من ثنتين لا ثالث لهما، إما أنكم على طريقة أهدى من طريقة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهم وأرضاهم، فهم ما فعلوا هذا العمل، إذاً أنتم الذين فعلتموه، فأنتم إما أن تكونوا أحسن منهم وخيراً منهم، وعلى طريقة أهدى منهم، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، طبعاً لا يمكن أن يكونوا خيراً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، بقيت الثانية التي هي أنهم مفتتحوا باب ضلالة، هم فهموا هذا الكلام، وقالوا: سبحان الله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال رضي الله عنه: وكم من مريد للخير لم يصبه، وكم من مريد للخير لم يصب الخير، وإنما أصاب البدعة التي ظن أنها خير.
    هذا مما يدلنا على أن الإنسان كونه يفعل الأمر المحرم، والأمر المبتدع ويقول: إن نيتي طيبة وقصدي حسن، وأنه يريد الخير، يقال كما قال عبد الله بن مسعود: كم من مريد للخير لم يصبه، كثيرون يريدون الخير ولا يصيبونه؛ لأن عملهم مبتدع، وعملهم محدث في دين الله عز وجل، ومما يوضح ذلك أيضاً أن العمل إذا كان مبتدعاً ولو كان قصد صاحبه حسناً فإنه لا يفيد ولا ينفع، فإن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى يوم العيد قبل الصلاة، وكان يريد أن الناس إذا فرغوا من الصلاة، وإذا أضحيته قد طبخت ونضجت، فتكون أول ما يؤكل؛ لأن الناس بحاجة إلى اللحم، فأحب أن يأكل الناس من أضحيته أول ما يأكلون من اللحم، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أضحيته قبل الصلاة، ماذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال له: ( شاتك شاة لحم )، يعني: ما هي بأضحية؛ لأنها وقعت في غير محلها، وفي غير وقتها، وهي مثل الذي يذبح في رجب وشعبان ورمضان وشوال وذي القعدة في غير أيام الذبح، (شاتك شاة لحم) مثل الشياه التي يذبحها الإنسان ليأكل اللحم، ما هي أضحية مخصصة في يوم من الأيام، أو في أيام معلومة يتقرب إلى الله عز وجل فيها على أنها أضحية، والأضاحي تبدأ يوم العيد قبل الصلاة، يبدأ بذبح الأضاحي يوم العيد بعد الصلاة، ما يجوز قبل الصلاة، ولهذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم شاته -أي: هذا الصحابي- شاة لحم، ما هي شاة أضحية، كما قال بعض العلماء مستدلاً بهذا الحديث، وكما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري قال: وفي هذا الحديث دليل على أن العمل المقبول هو الذي يقع على وفق السنة، وأنه إذا وقع غير موافق للسنة فإنه لا يعتد به ولو كان قصد صاحبه حسناً؛ لأن هذا الصحابي قصده الذي أبداه للرسول صلى الله عليه وسلم حسن، حيث قال: إنني أردت أن تؤكل أضحيتي أول ما يؤكل، قال: شاتك شاة لحم.
    فدل هذا أن العمل إذا وقع غير مطابق للسنة أنه لا يعتد به ولو كان قصد صاحبه حسن، فحسن القصد لا يشفع له بأن يقبل عمله، بل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: شاتك شاة لحم.

    ما يتوجب على المسلم تجاه البدع والمحدثات

    وهذا يدلنا على أن البدع المحدثة في دين الله لا يجوز للإنسان أن يقدم عليها، بل عليه أن يحذر منها وأن ينفر منها، وأن يرغب في السنن ويحذر من البدع؛ لأن السنن هي التي فيها الأجر والثواب لأن فيها اتباع، والبدع فيها إثم وعقاب؛ لأن فيها ابتداع؛ ولأن فيها أيضاً اتهام للشريعة بأنها ناقصة، ولهذا جاء عن مالك رحمة الله عليه، ورضي الله تعالى عنه وأرضاه، مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يظنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، ثم قال: ما لم يكن ديناً في زمان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه لا يكون ديناً إلى قيام الساعة.وقال أيضاً رحمة الله عليه: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، لا سبيل للآخرين أن يصلحوا إلا بالطريقة التي صلح بها الأولون، والأولون إنما صلحوا باتباع السنن، والابتعاد من البدع، وإخلاص العمل لله، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
    الحاصل: أن الواجب على كل مسلم أن يتفقه في دين الله عز وجل، وأن يعرف الحق من الباطل، وأن يحذر من البدع التي أحدثها الناس في دين الله، ومنها ما أشرت إليه مثل: الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وكذلك الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأمور المحدثة التي ما جاء فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه من الأمور المحدثة المبتدعة في دين الله عز وجل التي ما أنزل الله بها من سلطان.
    فالواجب اتباع السنن، والبحث عنها، ومعرفتها للعمل بها، وكذلك الحذر من البدع المحدثة في دين الله، والتي هي ليست فيها سنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما هي من البدع التي حذر منها رسول الله، ورهب منها رسول الله عليه ا لصلاة والسلام بقوله: ( وإياكم ومحدثات الأمور فإن محدثة بدعة ).
    ثم قال: ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فله وزرها )، يعني: من تقدم الناس بالشر وتابعه الناس في الشر، أو أحدث لهم بدعاً وتابعه الناس فيها، فإنه عليه إثمها وإثم من عمل بها من بعده، ومثل هذا الحديث، يعني: فيما يتعلق بالحذر من البدع، واتباع السنن، قال: ( من دعا إلى هدى )، حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً )، هذا الذي يدعو إلى السنن، ( ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ).

    تراجم رجال إسناد حديث: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه ...)

    قوله: [أخبرنا أزهر بن جميل ].صدوق يغرب، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي.
    [ حدثنا خالد بن الحارث ].
    هو خالد بن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ وذكر عون بن أبي جحيفة ].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت المنذر بن جرير ].
    هو المنذر بن جرير بن عبد الله البجلي، هو مقبول، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
    [ عن أبيه ].
    هو جرير بن عبد الله البجلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي مشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث: (تصدقوا، فإنه سيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته ...)

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد حدثنا شعبة عن معبد بن خالد عن حارثة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( تصدقوا، فإنه سيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته، فيقول الذي يعطاها: لو جئت بها بالأمس قبلتها، فأما اليوم فلا ) ].أورد النسائي حديث حارثة بن وهب رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تصدقوا فإنه سيأتي على الناس زمان يمشي الإنسان بصدقته، فيقول الذي يعطاها: لو جئت بها بالأمس قبلتها، وأما اليوم فلا)، يعني معناه: تصدقوا ما دام الناس محتاجين إلى الصدقة، وما دام أن الصدقة لها وقع ولها نفع، وهناك من يستفيد منها، قبل أن يأتي يوم يكثر المال بأيدي الناس، وكل يستغني بما عنده، ويمشي الإنسان بصدقته يبحث عمن يأخذها فلا يجد من يأخذها.
    يعني: ما دام أن الناس محتاجون إلى الصدقة، وما دامت الحاجة قائمة، فعلى الإنسان أن يبادر وقد أغناه الله إلى الصدقة قبل أن يأتي اليوم الذي يستغني الناس عن الناس لكثرة المال بأيديهم، ولا يحتاج أحد إلى صدقة أحد، ويتعب الإنسان يبحث عمن يأخذ صدقته فلا يجد لكثرة المال بأيدي الناس؛ لأن المال إذا كثر بأيدي الناس سهل بأيدي الناس، ولكن ما دام أنه بعض الناس يحتاجون إليه، يعني: عند ذلك يوجد الحرص عليه، لكن عندما يعرف أن الناس مستغنين ما يكون الحرص الشديد الذي يكون مثل ما إذا كان بعضهم يحتاج إلى بعض، إذا كان بعضهم يحتاج إلى بعض يوجد الحرص الشديد عليه، وأما إذا لم يحتج بعضهم إلى بعض ما يوجد الحرص الشديد عليه، يعني: ما تكون الرغبة في المال مثل الرغبة فيما إذا وجد من هو حريص على المال، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحث على الصدقة، وأنه يبادر الإنسان إليها ما دام أن لها وقعاً وهناك من يتقبلها ويحتاج إليها، قبل أن يأتي الوقت الذي لا يحتاج الناس فيه إلى الصدقة لكثرة المال بأيديهم، ويكونوا كلهم أغنياء وما فيهم فقراء، بحيث يتعب الإنسان في البحث عمن يأخذ صدقة، وكل من أتى إليه قال: أنا لا أحتاج إليها، أنا عندي المال.
    وهذا إخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا سيقع، وأنه سيأتي الوقت الذي يكون الواقع هو كذلك، بحيث يبحث الإنسان ويمشي بصدقته ويتعب، يبحث عن من يقبلها فلا يجد أحداً يقبلها، كل استغنى بما عنده من المال الكثير.

    تراجم رجال إسناد حديث: (تصدقوا، فإنه سيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته ...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ].هو محمد بن عبد الأعلى البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود في القدر، والترمذي والنسائي، وابن ماجه.
    [ حدثنا خالد حدثنا شعبة ].
    وقد مر ذكرهما.
    [ عن معبد بن خالد ].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن حارثة ].
    هو حارثة بن وهب، صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.


    الشفاعة في الصدقة

    شرح حديث: (اشفعوا تشفعوا ...)


    قال المصنف رحمه الله: [أخبرنا محمد بن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان أخبرني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( اشفعوا تشفعوا، ويقضي الله عز وجل على لسان نبيه ما شاء ) ].أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وأورد الترجمة: الشفاعة في الصدقة، يعني: مساعدة من هو محتاج إلى الصدقة عند من يمكنه أن يحقق تلك الرغبة، والشفاعة هي مأخوذة من الشفع، وهي هنا ضم صوت إلى صوت، يعني: يضم الشافع صوته إلى صوت الفقير عند من يستطيع تحقيق رغبة الفقير، فيكون بدل ما يكون طالب الحاجة والمحتاج فرداً في طلبه، يضم صوته إلى صوته فيكون شافعاً له، ويكون الطلب شفعاً بعد أن كان وتراً وفرداً.
    أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشفعوا تشفعوا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء )، اشفعوا تشفعوا، والمقصود من ذلك: أن إيراد النسائي للحديث في هذه الترجمة أن المحتاج إذا لم يكن الإنسان متمكناً من قضاء حاجته، أو لا يتمكن من قضاء حاجته كلها فإنه يشفع له إلى من يكون له عوناً له في ذلك، فيشفع ويؤجر على شفاعته، سواء شفع أو لم يشفع، والله تعالى يقضي ما شاء، وما قدره الله وقضاه لا بد وأن يقع، ولا بد وأن يتم؛ لأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

    تراجم رجال إسناد حديث: (اشفعوا تشفعوا ...)

    قوله: [ أخبرنا محمد بن بشار ].هو الملقب بـبندار البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو: ابن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، ثبت، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة ].
    هو بريد، وكنيته أبو بردة ، كنيته ككنية جده أبو بردة المشهور بالكنية، وأما هذا ليس مشهوراً بالكنية، مشهوراً بالاسم الذي هو بريد ، ويأتي مكنى كما هنا بكنيته، لكنه مشهور باسمه، أما جده الذي هو ابن أبي موسى، فهو مشهور بالكنية، وقد غلبت عليه، وبريد بن عبد الله بن أبي بردة هو ثقة، يخطئ قليلاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن جده ].
    عن جده أبو بردة ؛ لأنها رواية حفيد عن جد، وقد سبق أن مر بنا قريباً أن أبا بردة بن أبي موسى يروي عنه ابنه سعيد ، فذاك رواية ابن عن أب عن جد، وهنا رواية حفيد عن جد؛ لأن بريد بن عبد الله يروي عن جده أبو بردة، وجده أبو بردة يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، وأبو بردة الذي يروي عنه بريد بن عبد الله بن أبي بردة ثقة، وهو أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي موسى]
    هو عبد الله بن قيس، صحابي مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث: (اشفعوا تؤجروا)

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا هارون بن سعيد حدثنا سفيان عن عمرو عن ابن منبه عن أخيه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إن الرجل ليسألني الشيء فأمنعه حتى تشفعوا فيه فتؤجروا، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: اشفعوا تؤجروا ) ].أورد النسائي حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليسألني الحاجة فأمتنع من إعطائه لتشفعوا له)، وقال: (اشفعوا تؤجروا)، وقيل: أن أول الحديث أنه من كلام معاوية وأنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن كلام الرسول: ( اشفعوا تؤجروا )، وأن معاوية يفعل هذا الفعل ليحصل منهم الشفاعة، فيحصلوا الأجر والثواب، ويشاركون في الأجر فيما شفعوا فيه، فيكون الشافع له أجر، والمشفوع له الذي أعطي، وحقق رغبة الشافع في أن يكون له أجر على ذلك، والرسول يقول: (اشفعوا تؤجروا)، يعني: إرشاداً إلى الشفاعة، وأن الإنسان يؤجر، وسواء كان قبلت الشفاعة أو لم تقبل، هو مأجور على شفاعته وعلى إحسانه.
    وقد سبق أن مر بنا الحديث الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة )، قد عرفنا أن الكلمة الطيبة تكون بالرد الحسن والرد الجميل، حيث لا يستطيع أن يحقق الرغبة، وتكون أيضاً بدلالته على من يكون عنده تحقيق رغبته أو بالشفاعة له، وبذل كلمة طيبة عند من يمكنه تحقيق الرغبة، فيكون ذلك يشبه هذا الحديث في الجملة إذا فسر بأن المقصود به كونه يتكلم بكلمة طيبة يشفع بها، والحديث الذي معنا يقول: ( اشفعوا تؤجروا )، وسواء قبلت الشفاعة أو لم تقبل فأنتم مأجورون على الكلمة الطيبة التي تبذلونها في سبيل نفع إخوانكم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (اشفعوا تؤجروا)

    قوله: [ أخبرنا هارون بن سعيد]. هو هارون بن سعيد الأيلي، هو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو ابن عيينة الهلالي المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب ا لستة.
    [ عن عمرو ].
    هو عمرو بن دينار المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن منبه ].
    هو وهب بن منبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه لم يخرج له في السنن، بل خرج له في التفسير.
    [عن أخيه]
    هو همام بن منبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن معاوية بن أبي سفيان].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو صحابي ابن صحابي، وهو من كتبة الوحي، وتولى الخلافة بعد علي رضي الله عنه بعدما تنازل له الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فكان خليفة للمسلمين، ومكث في الخلافة عشرين سنة، من سنة واحد وأربعين إلى أن توفي سنة ستين، وهو أول ملك من ملوك المسلمين، وهو خير ملوك المسلمين، وأفضل ملوك المسلمين على الإطلاق، ما جاء بعده أفضل منه؛ لأنه ما تولى صحابي بعده، فهو آخر صحابي تولى الخلافة بعد الخلفاء الراشدين، وبعدهم الحسن ستة أشهر، وتنازل الحسن لـمعاوية فكان أول ملوك المسلمين، وهو خير ملوك المسلمين، وأفضل ملوك المسلمين؛ لأنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتب الوحي، وأخو أم حبيبة أم المؤمنين الذي قال عنه بعض العلماء: خال المؤمنين؛ لأنه أخو أم المؤمنين، وهو كاتب الوحي، وائتمنه الرسول صلى الله عليه وسلم على الوحي، وتكلم فيه بعض الذين ضروا أنفسهم، بأن تكلموا فيه وأعابوه، ومن المعلوم أن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يعيبهم إلا معيب، ومن تنقص أحداً منهم أو تكلم في أحد منهم فإنما يجني على نفسه، ويلحق الضرر بنفسه.

    حرمة الطعن في الصحابة رضي الله عنهم

    ومن المعلوم أن الكلام في آحاد الناس فيما يكرهونه يعتبر من الغيبة المحرمة، وإذا كانت في حق خير الخلق وأفضل الخلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر أشد أعظم أخطر، ولهذا جاء عن العلماء عن سلف هذه الأمة كلمات جميلة وحسنة عن معاوية كشأنهم في الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة أن تكون ألسنتهم وقلوبهم سليمة في حق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون القلوب سليمة، والألسنة سليمة، القلوب ليس فيها بغض ولا حقد ولا غيض، والألسنة لا تتكلم بالسوء، بل تتكلم بالثناء والدعاء، والترضي عنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وذلك لأنهم خير الناس، وأفضل الناس، وهم الواسطة بين الناس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نعرف حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، وما عرفنا الكتاب والسنة إلا عن طريق الصحابة، ومنهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فالصحابة هم الذين تلقوا السنن وتلقوا الوحي من الكتاب والسنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما عرف الناس بعدهم حقاً ولا هدى إلا عن طريقهم.
    فالذي يقدح في الصحابة يقدح في الكتاب والسنة كما قال أبو زرعة الرازي رحمة الله عليه، وهو من علماء القرن الثالث الهجري: إذا رأيتم أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والكتاب حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يقدحون في الصحابة- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، أي: هذه الغاية؛ الغاية من قدح الصحابة إبطال الكتاب والسنة، والتخلص من الكتاب والسنة، ورفض الكتاب والسنة، والابتعاد عن الكتاب والسنة، ثم قال: والجرح بهم أولى وهم زنادقة، وذلك.
    لأن القدح في المنقول قدح في الناقل، إذا كان الصحابة مقدوح فيهم، والكتاب والسنة جاء عن طريق الصحابة، إذاً الكتاب والسنة مرفوضان ومردودان؛ لأنهما جاءا عن الصحابة، ولم يصل إلى الناس حق وهدى إلا عن طريق الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه تجرأ كثير من الناس في الكلام فيه، وفي سبه، حتى الزيدية الذين هم أخف الشيعة لا يتورعون من سب معاوية، وإن كانوا لا يسبون أبا بكر وعمر ، ولكنهم يسبون معاوية، ومن السهل عليهم سب معاوية، فـمعاوية رضي الله عنه قدر مشترك بين هؤلاء المنحرفين عن منهج الحق، سواء كانوا غاليين أو كانوا دونهم، يعني: يقدحون في معاوية ويتكلمون في معاوية، وهذا خلاف ما درج عليه سلف هذه الأمة.

    توجيه معنى حديث: (لا أشبع الله بطنك)

    ومما يلوكونه بألسنتهم يريدون من ذلك القدح فيه، ويأتون به على سبيل الذم -مع أنه لا يذم في ذلك، بل يمدح- ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه أرسل له ابن عباس ليدعوه أن يأتي إليه، فذهب إليه ووجده يأكل، ثم قال له: اذهب فادعه، فذهب ودعاه ثم قال: (لا أشبع الله بطنك!) فتجد هؤلاء المخذولين يتكلمون أو يأتون بهذا الكلام الذي قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقولون: رواه مسلم في صحيحه، والرسول دعا عليه وقال: (لا أشبع الله بطنك!)، هذه الكلمة كيف أتى بها مسلم ؟ وكيف أوردها مسلم ؟ أوردها مسلم رحمة الله عليه بطريقة حسنة، وطريقة تدل على أنه مدح لـمعاوية وثناء على معاوية، ومنقبة لـمعاوية، وليست ذم لـمعاوية، وذلك أن مسلماً رحمه الله أورد الأحاديث المتعلقة بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على أناس، وهو لا يريد الدعاء عليهم، كقوله لـمعاذ : (ثكلتك أمك)، وكقوله لـصفية : (عقرى حلقى) في الحج عندما حاضت، وكقوله ليتيمة أم سليم: (كبرت، لا كبرت سنك)، أورد الأحاديث المتعلقة بهذا، وآخرها قبل حديث ابن عباس في معاوية حديث أم سليم في قصة أنها أرسلت يتيمة عندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول رآها وهي صغيرة، وقد رآها هذه المرة وقد كبرت، فقال: (أنت هي؟ كبرت لا كبرت سنك، فرجعت اليتيمة تبكي إلى أم سليم، فجاءت أم سليم مسرعة فزعة، قال: ما لك يا أم سليم! قالت: إنك دعوت على يتيمتي فقلت: لا كبرت سنك، قال: أما علمت يا أم سليم أنني اشترطت على ربي وقلت: اللهم من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك رحمة له وزكاءً)، بعد هذا الحديث مباشرة أتى مسلم بحديث: (لا أشبع الله بطنك!)، فاعتبروا هذا من مناقبه، وأنه بدل ما كان دعوة عليه تكون دعوة له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له زكاءً ورحمة)، يعني: معاوية يكون من هذا الذي قيل فيه هذا الكلام، هذا هو الذي فعله مسلم، فأولئك المخذولون الذين يأتون بمثل هذا الحديث للذم هو في الحقيقة مسلم جاء به للمدح، وجاء به بأنه دعاء عليه وهو داخل تحت هذا الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اللهم من دعوت عليه بدعوة ليس لها بأهل فأبدل ذلك له زكاءً ورحمة ).فهذا من دقة الإمام مسلم ، وحسن ترتيبه، وحسن تنظيمه لكتابه، وأنه حسن الترتيب؛ إذ أورد هذا الحديث بعد تلك الأحاديث، فهو في مقام المدح وليس في مقام الذم.
    و معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان كما أشرت من قبل في مناسبات، أن بعض العلماء يوصفون بالتشيع، ومنهم: الفضل بن دكين، وقد ذكر عنه ابن حجر أنه قال كلمة تدل على سلامته من التشيع، وهي قوله: ما كتبت علي الحفظة أني سببت معاوية ، وهذا يدل على سلامته من التشيع؛ لأن الشيعة يسبون معاوية، بل كما قلت: الزيدية الذين هم أخف من غيرهم في التشيع، وهم دون الرافضة يسبون معاوية وإن كانوا لا يسبون أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.

    عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة

    وقد قال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، وقال: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، نحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلسنا مبغضين، محبون نحن، لكن لما كان الحب فيه اعتدال وفيه غلو، قال: ولا نفرط في حبهم، فقوله: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج الجفاء الذي هو البغض، ولما كان الحب فيه غلو أتى بقيد يخرج الغلو فقال: ولا نفرط في حبهم، يعني: ما نتجاوز الحدود، بل نحبهم باعتدال وتوسط، لا نجفو ولا نغلو، لا إفراط ولا تفريط، والحق وسط بين الإفراط والتفريط، نحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حبهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، من ذكرهم بسوء نبغضه تقرباً إلى الله عز وجل، ونعتبر هذا من خير أعمالنا وأفضل أعمالنا أننا نبغض من يبغض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ونبغض من يذكر أصحاب الرسول بغير الخير؛ لأنهم الواسطة بيننا وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما عرفنا حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، وإذا أراد الإنسان أن يعرف كيف يكون الخذلان للناس فيمكنه أن يتصور أن من الناس المخذولين من يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكرههم ويسبهم ويعيبهم، ولا يأخذ الحق الذي يأتي عن طريقهم، ومن كان كذلك فصلته بالرسول صلى الله عليه وسلم مبتوتة مقطوعة، لا تصله بالرسول صلى الله عليه وسلم صلة ولا رابطة.




  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (406)

    - (باب الاختيال في الصدقة) إلى (باب المنان بما أعطى)



    حذر ديننا الحنيف من أمور عظيمة تؤدي إلى هلاك الإنسان في آخرته، ومنها: عقوق الوالدين، والمن في الأعطية، والاختيال في الصدقة النابع من الكبر والتعالي، وحث ديننا الحنيف على الصدقة سراً أو جهراً إذا اقتضت المصلحة.
    الاختيال في الصدقة


    شرح حديث: (... والاختيال الذي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الاختيال في الصدقة.أخبرنا إسحاق بن منصور حدثنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن ابن جابر عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن من الغيرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل فالغيرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة، والاختيال الذي يبغض الله عز وجل الخيلاء في الباطل ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: [الاختيال في الصدقة] الاختيال هو: من الخيلاء، وأتى النسائي بهذه الترجمة المتعلقة بالصدقة والاختيال فيها، وأورد فيها حديثين، حديث فيه حصول الاختيال، وحديث في منع الاختيال، والمقصود بالمنع: هو كون الإنسان يعطي الصدقة وهو متكبر، ومترفع، ومتعالي، يتعاظم نفسه عند من يعطيه ويحسن إليه، وهذا هو الذي جاء في الحديث الآخر: ( كلوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة )، فهذا فيه منع؛ لأنه تصدق بإظهار الترفع، والتعالي، والتكبر، والتعاظم على المتصدق عليه، وأورد حديثاً آخر هو الأول، وهو أن من الخيلاء ما يحبها الله عز وجل، وهو اختيال الرجل للحرب في الجهاد في سبيل الله وفي الصدقة، ويحمل ما جاء في هذا الحديث من ذكر الاختيال الذي يحبه الله فيما يتعلق في الصدقة، هو كونه يهتز أو تهتز سجيته عند الإعطاء وفي السخاء، فيعطي الصدقة وهو مطمئن البال، طيب النفس، مسروراً فرحاً لكونه أحسن، فلا يكون هناك من، وليس هناك استكثار، وليس هناك تعالي وترفع، وإنما يتحرك أو تهتز نفسه أو تهتز سجيته في السخاء، والإعطاء عن طيب نفس، وعن سرور، وارتياح بال، من غير من ولا أذى، ومن غير تعالي ولا ترفع، فعندما يعطي يكون عنده الفرح والسرور بما أعطى، وعدم التعالي والترفع، كما يقول الشاعر:
    تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
    تراه إذا ما جئته متهللاً، يعني: عند السرور، وأسارير وجهه تبدو بارتياح، تدل على ارتياحه، كأنك تعطيه الذي أنت سائله، يعني: هو المعطي، ويكون شأنه كذلك، كشأن الذي يعطى وهو محتاج، فيكون عنده الفرح والسرور، وعلى هذا فالاختيال في الصدقة الذي جاء على أنه محبوب، يفسر بهذا التفسير الذي هو ليس تكبراً وتعالياً وتعاظماً، وكون الإنسان يتكبر على الفقراء والمساكين، ويتعالى عليهم ويترفع، ولكن يهتز فرحاً وسروراً، وتهتز سجيته في السخاء، والحب للخير, والحرص على نفع الناس، فيكون طيب النفس، هادئ البال، لا يستكثر ما يعطي، وإذا أعطى الكثير يعتبره قليلاً، ولا يكون عنده فيه من ولا أذى، هذا هو المراد بالاختيال الذي جاء الحديث في كونه محبوباً، وأما الاختيال المحرم، والذي لا يسوغ ولا يجوز، فهو الذي فيه التكبر، والتعالي، والترفع من المتصدق على الفقراء والمساكين.
    فإذاً: هناك الاختيال المحمود الذي هو بهذا المعنى، والاختيال المذموم الذي هو بهذا المعنى، وقد أورد النسائي حديث جابر بن عتيك الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [( إن من الغيرة ما يحبها، ومنها ما يبغض، وأن من الخيلاء ما يحبه الله وما يبغض )]، وفي الحديث: دليل على أن الله تعالى متصف بالحب والبغض، وأنه يحب بعض الأعمال وبعض الصفات، ويبغض بعض الأعمال وبعض الصفات، كما أنه يحب أشخاصاً ويبغض أشخاصاً، يعني: فيه من يحب ومن يبغض، وفيه ما يحب وما يبغض من الصفات والأحوال.
    ففي الحديث: دلالة على اتصاف الله بهاتين الصفتين، وهي: الحب والبغض، وهما كغيرهما من الصفات يثبتان لله عز وجل على ما يليق بكماله وجلاله، دون تشبيه أو تمثيل، ودون تعطيل أو تأويل، بل على حد قول الله عز وجل: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[الشورى:11].
    ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام بين ما المراد بالغيرة التي يحبها الله، والغيرة التي يبغضها الله، فالغيرة التي يحبها الله هي التي تكون في ريبة، فيما إذا كان الغيرة مبنية على ريبة، وعلى أمر يقتضي الغيرة، وعكسها الغيرة التي ستكون في غير ريبة، وهذا يكون في تعامل الرجل مع أهله، فهو يغار على أهله، ويحرص على بعدهم من كل شر، وسلامتهم من كل شر، واتصافهم بكل خير، وسلامتهم من كل نقص، ومن أي أمر يقدح فيهم، لكنه لا يحصل منه إساءة الظن، فيحصل الغيرة على غير أساس، ومن غير أمر يقتضيها، بل إذا وجد أمر يقتضيها، أو أمر يدفع إلى ذلك، فعند ذلك توجد الغيرة، فتكون محبوبة في هذه الحال التي هي في حال وجود الريبة، وإذا كانت مبنية على غير ريبة، وإنما على سوء ظن واتهام ليس له أساس، ويكون فيه إلحاق ضرر، وسوء عشرة، وقد يترتب على ذلك فرقة، وهي ليست مبنية على أساس، فهذه غيرة مذمومة، وهي غيرة يبغضها الله عز وجل، وتتعلق الغيرة في تعامل الرجل مع أهله، ومعاملته مع أهله.
    ولهذا يذكر العلماء هذا الحديث فيما يتعلق بعشرة النساء، يعني: بعضهم يأتي به في عشرة النساء؛ لأن هذا من التعامل، ويشتمل على الغيرة التي تتعلق بالتعامل مع أهله، يعني: فيما ينبغي وفيما لا ينبغي.
    ثم قال: [إن من الخيلاء ما يحبه الله عز وجل، ومنها ما يبغضه]، والخيلاء التي يحبها الله عز وجل تكون في الجهاد، وهي كون الإنسان في الجهاد يكون متصفاً بصفة الثبات، عنده قوة النفس، وقوة البأس، والصلابة، والشدة، وعدم الجبن، وعدم الخوف والذعر، بل يكون ثابت الجأش، قوي النفس، قوي البأس، كشأن المتكبر الذي ليس عنده فزع، وليس عنده خوف، يكون على هذا الوصف، وهذا شيء محمود، وكذلك الاختيال في الصدقة، وقد عرفنا معنى ذلك على أنه محبوب، وعلى أنه مما يحبه الله عز وجل، وهي كون الإنسان يعطي العطاء بارتياح، واهتزاز نفس، ووجود سجية طيبة، وسخاء وكرم، وارتياح واطمئنان، فيعطي وكأنه هو المعطى بارتياح نفس وطمأنينة، وبهدوء نفس، وطيب نفس، وهدوء بال، ومن غير من ولا أذى، ومن غير استكثار لما يعطي، بل يعطي الكثير، ويعتبر ما يعطيه قليلاً، هذا هو المراد بالخيلاء في هذا المقام الذي هو مقام المدح، ومقام كون ذلك محبوباً.
    والخيلاء التي يبغضها الله هي التي تكون في الباطل، تكون بغير حق، يعني: في غير هذا السبيل، وفي غير هذه الطريق، هذه الخيلاء التي فيها التكبر على الناس، واستعظام النفس، وجحود نعمة الله عز وجل، فيكون عنده تعالي وترفع، وينظر إلى الناس وكأنه له حال، ولهم حال أخرى، ولهذا جاء في الحديث: (أن المتكبرين يحشرون كأمثال الذر)؛ لأنهم لما نفخوا أنفسهم، وتعالوا بأنفسهم يأتون في هوان، وفي صغر، وفي ذل، ويكونون كأمثال الذر، يعني: يعاملون بنقيض ما حصل منهم، كون الواحد منهم ينتفخ ويتعاظم ويتعالى، ويأتي يوم القيامة على هيئة حقيرة، وعلى هيئة تقابل هذا التعالي وهذا الترفع، فالاختيال بالباطل هو الاختيال الذي يبغضه الله عز وجل، وهو الذي لا يكون بحق، كالاختيال في الحرب الذي يدل على الثبات، وعلى قوة البأس، وعلى شدة البأس، وعلى البعد عن الخور، وعن الجبن، والضعف.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... والاختيال الذي يحب الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة...)


    قوله: [أخبرنا إسحاق بن منصور ].هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، وهو ثقة، حافظ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود .
    [ حدثنا محمد بن يوسف ].
    هو محمد بن يوسف الفريابي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا الأوزاعي ].
    هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، أبو عمرو، وهو ثقة، فقيه، فقيه الشام ومحدثها، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن يحيى بن أبي كثير ].
    هو يحيى بن أبي كثير اليمامي، وهو ثقة، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني محمد بن إبراهيم ].
    هو محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن جابر ].
    ابن جابر، هو غير منسوب، وذكر أن جابر بن عتيك الأنصاري يروي عنه ابناه عبد الرحمن وأبو سفيان، وعبد الرحمن ذكر عنه الحافظ بأنه مجهول، وأما أبو سفيان فلم يسم، ولم يذكر، ولكنه مثل أخيه؛ لأنه لم يعرف، فهو مجهول، والرواية يحتمل أن تكون عن هذا وعن هذا، وكل منهما مجهول، فلا عبرة بروايته، وعلى هذا فالإسناد فيه هذا الرجل الذي هو ابن جابر بن عتيك الذي لم يسم، وكل منهما مجهول، سواء أن يكون هذا أو هذا، والإسناد ضعيف في هذا، لكن ذكر الشيخ الألباني في إرواء الغليل: أن له شواهد يكون بها من قبيل الحسن، وذكر هذه الشواهد عن عقبة بن عامر، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما.
    وهذا الذي جاء عن ابن جابر غير مسمى جاء في سنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي.
    وهذا ما خرج له إلا أبو داود، والنسائي.
    أما جابر بن عتيك الأنصاري فهو صحابي، وحديثه عند أبي داود، والنسائي أيضاً.

    شرح حديث: (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة ) ]. أورد النسائي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، الذي فيه إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأكل، والتصدق، واللبس، من غير إسراف، ولا مخيلة، من غير أن يسرف، ومن غير أن يكون هناك تكبر، يعني: في أكله، وفي لبسه، وفي تصدقه، بل يكون عنده التواضع، وعنده التوسط، والاعتدال، والله عز وجل يقول: ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا )[الفرقان:67]، وقال: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، فالتوسط والاعتدال في الأكل واللبس، وكذلك في الصدقة من غير إسراف، ومن غير خيلاء، هذا هو المطلوب، وهذا هو الذي أرشد إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
    وعلى هذا فقد عرفنا أن هذا الباب الذي عقده النسائي ، وهو الاختيال في الصدقة، أورد فيه حديثين، حديث يدل على مدحها، وعلى أنها محبوبة، وحديث يدل على أنها مذمومة، وفيه المنع منها، وقد عرفنا معنى ما هو ممدوح، ومعنى ما هو مذموم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة)

    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان ].هو الرهاوي ، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ حدثنا يزيد ].
    هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا همام ].
    هو همام بن يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن قتادة ].
    هو قتادة بن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمرو بن شعيب ].
    هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبيه ].
    هو شعيب بن محمد، وهو صدوق أيضاً، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وفي جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة.
    وشعيب بن محمد يروي عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اشتهروا بهذا اللقب، مع أنه يوجد في أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام مما يسمى عبد الله كثير، ولكن غلب على هؤلاء الأربعة، الذين هم من صغار الصحابة هذا اللقب، فإذا قيل عن مسألة من المسائل: قال بها العبادلة الأربعة، أو ذكر العبادلة الأربعة بهذا اللقب، فالمراد به هؤلاء الذين هم من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم، وعن الصحابة أجمعين.
    وهؤلاء الأربعة صحابة أبناء صحابة، عبد الله بن عباس ، صحابي ابن صحابي، وعبد الله بن الزبير ، صحابي ابن صحابي، وعبد الله بن عمر ، صحابي ابن صحابي، وعبد الله بن عمرو ، صحابي ابن صحابي.


    باب أجر الخازن إذا تصدق بإذن مولاه

    شرح حديث: (... الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيباً بها نفسه أحد المتصدقين)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب أجر الخازن إذا تصدق بإذن مولاه. أخبرنا عبد الله بن الهيثم بن عثمان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا سفيان عن بريد بن أبي بردة عن جده عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وقال: الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيباً بها نفسه أحد المتصدقين ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: [أجر الخازن إذا تصدق بإذن مولاه] يعني: هذه الترجمة فيها أن الخازن المسئول عن حفظ المال، والمحافظة على المال، إذا تصدق بإذن مولاه، وأدى ما أذن له بتأديته، فإنه يكون شريكاً في الأجر، ويكوه له نصيب في الأجر، وهو أحد المتصدقين، أي: المالك والمباشر، المتصدق الذي هو المالك بما كسب، والخازن بما باشر ونفذ، فهذا مأجور على اكتسابه وتحصيله، وإذنه بالإعطاء والتصدق، وهذا مأجور على مباشرته، وكونه واسطة بين صاحب المال وبين المحتاج إلى المال الذي يعطى الصدقة.
    وقد سبق أن عرفنا من قبل أن العبد، وأن المرأة يعطون من مال صاحب المال، ومن مال صاحب البيت إذا كان هناك إذن صريح، أو إذن مفهوم متعارف عليه، يعني: مما جرت به عادة غالب الناس في أنهم يتسامحون في إعطاء الفقير الشيء اليسير مما هو موجود في البيت، إذا وجد أذن صريح، أو إذن مفهوم متعارف عليه بالنسبة لما هو معهود من غالب الناس، أن مثل ذلك ليس فيه مشاحة، وليس فيه ممانعة، أما إذا كان هناك إذن، وطلب منه أن يعطي، فإنه يعطي ما يؤذن له فيه، وهو مأجور على ذلك.
    وقد أورد النسائي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: [(الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيبة به نفسه أحد المتصدقين)]، الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر وصف الخازن الذي هو أحد المتصدقين بهذه الصفات الأربع التي هي كونه أمين، يعني معناه: أنه لا يخون، ولا يجحد الشيء الذي يعطى إياه؛ لأنه إذا جحد يمكن أن يقول له: خذ وتصدق به، ثم يأخذه لنفسه ويخفيه، ويفهم صاحب المال أنه تصدق به، وقد خان؛ لأنه ليس بأمين، لكن وصفه بأنه أمين؛ لأنه لا يخون، وإنما يتصرف في المال في حدود ما أذن له فيه، كما هو شأن أهل الأمانة.
    والوصف الثاني: أنه يعطي ما أمر به، فلا يمنع ما يؤمر بإعطائه، سواء كان أبقاه وزاد به مال الرجل الذي أمره بالصدقة، أو أنه خانه وأعطاه لمن يريد، أو اختص به، فكونه يكون أميناً وكونه يعطي، يعني: ما يمنع، وكونه أيضاً يعطي في حدود ما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، الشيء المأذون له يعطي فيه، إذا قال: أعط مائة ريال، لا ينقص ولا يزيد؛ لأنه في حدود المأذون، وأن يكون أيضاً طيبة به نفسه، ما يعطي وهو كاره، أو يعطي وهو متألم، أو يعطي وهو عليه الكراهية لهذا التصرف، هذه صفات أربع وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخازن الذي هو أحد المتصدقين: كونه أمين، وكونه يعطي، وكونه يكون في حدود المأذون به، وكونه عندما يعطي تكون طيبة به نفسه، يكون أحد المتصدقين، أي: له نصيب في الأجر، وله ثواب وأجر من الله عز وجل على تسببه وعلى توسطه في الخير، وعلى كونه واسطة في الخير.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به طيباً بها نفسه أحد المتصدقين)


    قوله: [ أخبرنا عبد الله بن الهيثم بن عثمان ].لا بأس به، وهي تعادل صدوق، كلمة لا بأس به بمعنى صدوق عند الحافظ ابن حجر ، وهي دون ثقة، إلا عند يحيى بن معين فاصطلاحه أن لا بأس به بمعنى ثقة، ولهذا يقولون: لا بأس به عند ابن معين توثيق، يعني: إذا قال عن شخص: لا بأس به، فهي بمعنى قول غيره: ثقة، يعني معناه: أنه إذا قال لا بأس، فالذي قيلت فيه تلك الكلمة لا يظن أنه ينقص عن الثقة كما هو اصطلاح غيره؛ لأنها تعادل صدوق، بل هي تعادل ثقة، وهذا اصطلاح، وإذا فهم الاصطلاح فلا مشاحة في الاصطلاح.
    [ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ].
    هو عبد الرحمن بن مهدي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن بريد بن أبي بردة ].
    هو بريد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو ثقة، يخطئ قليلاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن جده ].
    هو أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو مشهور بكنيته، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبيه ].
    هو عبد الله بن قيس ، صحابي مشهور، مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهذا من رواية الأبناء عن الآباء، إلا أنه رواية حفيد عن جد، والجد يروي عن أبيه، حفيد يروي عن جده، وجده يروي عن أبيه؛ لأن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، لا يروي عن أبيه، ولكنه يروي عن جده، وجده أبو بردة يروي عن أبيه أبو موسى الأشعري، فهي رواية حفيد عن جد، وذلك الجد يروي عن أبيه.
    وقد مر بنا قريباً أن أبا بردة يروي عنه ابنه سعيد بن أبي بردة عن أبي موسى، وهذه الرواية ابن عن جد، رواية الشخص عن أبيه عن جده مباشرة.


    باب المسر بالصدقة

    شرح حديث: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب المسر بالصدقة.أخبرنا محمد بن سلمة حدثنا ابن وهب عن معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: [المسر بالصدقة]، أي: الذي يخرجها سراً بدون ظهور ذلك وإعلامه، والجهر به، بحيث يعلمه الناس، ويدري عنه الناس، هذا هو المقصود، فالصدقة، التي يدفعها سراً، وليس علانية، والحكم في هذه المسألة أن فيها تفصيلاً، والله عز وجل ذكر ذلك في كتابه العزيز، فقال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، فالصدقات تجهر بها، أو تعلن أحياناً لفائدة ولمصلحة، وتخفى أحياناً حيث لا يكون هناك مصلحة في الإعلان، والإظهار، فهي تظهر فيما إذا كان هناك أمر يقتضيه، وهو أن يكون هناك رغبة في الاقتداء، رغبة في أن يقتدي به غيره، بأن يتصدق بصدقة كثيرة، ويتبعه الناس على ذلك، ويدل عليه ما جاء في الحديث الذي مر بنا بالأمس، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الجماعة من مضر على هيئة مؤثرة، وتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رآه من أحوالهم، ووجوههم وملابسهم، وظهور الفاقة الشديدة عليهم، وكونه دخل في بيوته وخرج ولم يجد شيئاً يعطيهم إياه، فحث على الصدقة، فتجمع كومان من الثياب ومن الطعام، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وسر عليه الصلاة والسلام، وكان ممن تصدق رجل جاء من الأنصار بصرة كادت تعجز عنها يده، بل قد عجزت فتتابع الناس بعد ذلك وتصدقوا، فقال عليه الصلاة السلام: ( من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فله وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ).
    فإذا كان الإعلان في الصدقة يترتب عليه مصلحة وفائدة، ومن غير أن يكون هناك مراءاة، ومن غير أن يكون هناك احتيال، بل بقصد حسن وبنية طيبة، فإن الجهر في هذه الحال أحسن من الإسرار، وإذا لم يكن هناك شيء من هذا، أو خاف الإنسان على نفسه من الرياء، فإنه يسر بذلك ولا يعلن، وقد جاء في الحديث ما يدل على ذلك، في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، يعني: حتى شماله ما تدري ما تنفق يمينه، مبالغة في الإخفاء، يعني: في إخفائه الصدقة.
    فالحاصل: إن الإعلان إذا كان أولى، ويترتب عليه مصلحة، ويترتب عليه فائدة فهو الأولى، وإذا كان ما يترتب عليه مصلحة، ولا فائدة كالاقتداء به، ففي هذه الحالة يكون الإسرار أولى.
    وقد أورد النسائي حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [( الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة )]، يعني: الذي يجهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، إذا كان الجهر بالقرآن فيه مصلحة وفيه فائدة بأن يكون هناك أحد يستمع لقراءته، ويستفيد من قراءته، فإن الجهر هنا أولى من الإسرار، فيما إذا كان شخص من الناس، يعني: يقرأ القرآن وحوله أناس، وهم يريدون أن يستمعوا لقراءته، وكونه يجهر ويسمعهم حتى يفيد ويستفيد أولى من كونه يسر وهم لا يستفيدون، وأما إذا كان الإسرار أولى بكونه ليس هناك أحد يحتاج إلى الاستماع له، أو أن الجهر يترتب عليه مضرة، بأن يوقظ نائمين، ويترتب عليه مضرة، ففي هذه الحالة يكون الإسرار أولى، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ).
    يعني: عرفنا الإسرار بالصدقة والجهر بالصدقة، ومتى يكون هذا أولى، ومتى يكون هذا أولى، وكذلك الجهر بالقرآن، والإسرار بالقرآن متى الجهر يكون أولى، ومتى يكون الإسرار أولى، إذا كان هناك استماع وحصول فائدة من التلاوة ورفع الصوت، والجهر به، بحيث يكون هناك أناس يرغبون، ويحبون أن يستمعوا للقراءة، ويستفيدوا، ويسمعوا، فهذا أمر مطلوب، والجهر أولى من الإسرار، إذا كان هناك حاجة إلى الجهر، أو يكون الجهر فيه مضرة، كإلحاق الضرر بنائمين، فإنه في هذه الحالة يكون الإسرار أولى من الجهر.


    تراجم رجال إسناد حديث: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن سلمة ].هو محمد بن سلمة المرادي المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [ حدثنا ابن وهب ].
    هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن معاوية بن صالح ].
    هو معاوية بن صالح بن حدير، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن يحيى بن سعيد ].
    هو يحيى بن سعيد الأنصاري ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن خالد بن معدان ].
    ثقة، يرسل كثيراً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن كثير بن مرة ].
    هو كثير بن مرة الحمصي ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن.
    [ عن عقبة بن عامر ].
    هو عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    وهناك علاقة بين حديث [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضهم بعضاً]، وبين الحديث الذي قبله، حديث أبي موسى الأشعري، [والخازن الأمين الذي يعطى].
    من جهة أن هذا فيه من التعاون على الخير، وفيه المساعدة للناس، فهو يكون من حيث الصدقة والإحسان إلى الناس، وأن هذا شأن البنيان المتماسك، الذي يكون انتفاع بعضه ببعض، وكذلك أيضاً من حيث الخازن، وأن هذا فيه من التعاون على البر والتقوى، وقيامه بما أمر به، هو من التعاون على البر والتقوى، وكذلك وصول النفع إلى المحتاجين فيه حصول التماسك بين المسلمين، وشد بعضهم لأزر بعض، وتألم بعضهم لبعض، ونفع بعضهم لبعض، كما يكون قوة البنيان بتماسكه، وتماسك لبناته وشد بعضها لبعض.


    المنان بما أعطى

    شرح حديث: (... وثلاثة لا يدخلون الجنة... والمنان بما أعطى)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المنان بما أعطى.أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: [المنان بما أعطى]، يعني: أن ذلك من الصفات الذميمة، ومن الصفات السيئة التي جاء الوعيد الشديد فيها، وبيان أنها من الكبائر، حيث جاءت الأحاديث الدالة على ما يدل على أنها كذلك، وأنها بهذا الحد الذي وصف أهلها به من جهة أنهم لا يدخلون الجنة، ومن جهة أن الله لا ينظر إليهم، ولا يكلمهم، ولهم عذاب أليم، ومنهم: المنان بما أعطى، كون الإنسان يعطي، ثم يتبع العطية مناً وأذى، يكثر من ذكر هذه العطية، ويمن بها، وإذا حصل له أي شيء قال: أنا أعطيتك كذا وكذا، وأنت ما فعلت لي كذا وكذا، هذا من، والمن محرم، والإنسان يعطي، ويترك ما أعطي، لا تتعلق به نفسه، ولا يأتي به في الذكر في المستقبل، بل يعطي ما يعطي يرجو ثواب الله عز وجل، ولا يتبع ذلك نفسه، ولا يحدث نفسه بذلك، ولا يمن على من أعطاه بما أعطاه إياه، فهي صفة ذميمة ورد فيها الوعيد الشديد الذي جاء في الأحاديث الآتية.
    وقد أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما الذي فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [( ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة )].
    يعني: لا ينظر الله إليهم نظر رحمة، وإلا فإن الله تعالى يرى كل شيء، ويطلع على كل شيء، ولا يغيب عن بصره شيء، فهو المطلع على كل شيء في الدنيا والآخرة، وصفاته في غاية الكمال، لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء، وبصره نافذ في كل شيء سبحانه وتعالى، فقوله: (لا ينظر الله إليهم)، يعني: نظر الرحمة، وإلا فكونه يرى خلقه، ولا يخفى عليه شيء من خلقه، هذا حاصل في الدنيا والآخرة، لكن الذي نفي هو هذا النوع من النظر، كما جاء في الأحاديث: (لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) فيه مسرة لهم، وفيه ارتياح لهم، ولكنه يكلمهم بكلام تأنيب وكلام توبيخ، الله سبحانه وتعالى قال عن الكفار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].
    اخسئوا، كلمهم بهذا الكلام، لكنه كلام توبيخ، فالمنفي شيء، والمثبت شيء، فالنظر المنفي هو النظر الذي فيه رحمة وإحسان، وأما النظر الذي هو اطلاع على كل شيء، وكونه لا يغيب عن بصر الله شيء، ولا يغيب عنه شيء، وكون الله تعالى مطلع على كل شيء، هذا حاصل في الدنيا والآخرة، لكن الذي نفي هو نظر خاص، وهو النظر الذي فيه رحمة وفيه إحسان.
    (لا ينظر الله إليهم، العاق لوالديه) أي: المقصر في حقوق والديه، والذي لا يؤدي ما أوجب الله عليه من الحقوق لوالديه، والله عز وجل كثيراً ما يأتي في القرآن يقرن بين حقه وحق الوالدين: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، آيات كثيرة فيها الجمع بين حق الله عز وجل، وحق الوالدين، فحصول العقوق للوالدين فيه جحد للجميل، وعدم اعتراف بالجميل، وعدم مكافأة للجميل، بل والعياذ بالله مقابلة الإحسان بالإساءة، وكان الواجب أن يحسن إليهم، وأن يبرهم، وأن يحذر من عقوقهم؛ لأنهم أحسنوا إليه، وكانوا سبباً في وجوده، وربوه ونشأوه، وكان طفلاً صغيراً، ليس له من نفسه شيء، ولا ينفع نفسه شيئاً، إلا أن الله تعالى سخر له الوالدين اللذين كانا سبباً في وجوده، فكانا سبباً في تنشأته، وتربيته، حتى كان رجلاً سوياً، ثم بعد ذلك يقابل الإحسان بالإساءة، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، لا يكون جزاء الإحسان إلا الإحسان، ما يكون جزاء الإحسان هو الإساءة.
    [( والمرأة المترجلة )] والمرأة المترجلة، أي: المتشبهة بالرجال، التي تتشبه بالرجال في هيئتهم، ولبسهم، ومشيتهم، هذا هو الشيء المذموم، أما التشبه في الخير، والتشبه في الرغبة في العلم، وتحصيل العلم، والرأي الحسن، وما إلى ذلك، فهذا شيء محمود، وهو قدر مشترك بين الرجال والنساء؛ لأن العلم يكون للرجال ويكون للنساء، ليس خاصاً للرجال دون النساء، ولكن المحذور في الترجل هو محاولة وتكلف التشبه بالرجال في لباسهم، وفي مشيتهم وهيئتهم، هذا هو الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء أيضاً ما يقابله: ( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال )، الجانبان، كل منهما مذموم، والمترجلة هي: التي تحاكي الرجال، وتتشبه بالرجال، تريد أن تأخذ صفات الرجال، في حركاتها، وفي أفعالها، وفي مشيتها ولباسها، وهو الذين يقولون عنه في المثل: أستديكت الدجاجة واستنوق الجمل، يعني: إذا كان الرجل تشبه بالنساء، يقال فيه في المثل: استنوق الجمل، يعني: صار ناقة، أو عمل على أن يكون من النوق التي هي المقابل للجمال، وبالنسبة للمرأة يقولون: استديكت الدجاجة، صارت الدجاجة تحاول أن تكون ديكاً، وأن تكون مثل الديكة.
    فالمتشبهات من النساء بالرجال والعكس، كل منهما مذموم، وكل منهما ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي معنا يتعلق بالمترجلات من النساء، وأنهن ممن لا ينظر الله عز وجل إليها يوم القيامة.
    [( والديوث )] والديوث، وهو: الذي لا يغار على أهله، أو يعلم الخبث في أهله ويسكت عليه ولا يغار، فإن هذا هو الديوث الذي هو بهذا الوصف، [لا ينظر الله إليه].
    [( وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى )].
    وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، وهذا جاء مرة أخرى؛ لأن الذين لا ينظر إليهم جاء فيهم العاق لوالديه، وهنا جاء أيضاً في هؤلاء، ولا يدخلون الجنة، ليس المقصود من ذلك أنهم كفار، وأنهم يكونون في النار لا يخرجون منها، ولا يدخلون الجنة، بل هذا الوصف الذي هو دخول النار، والخلود فيها أبد الآباد هو شأن الكفار، الذين لا يدخلون الجنة أبداً، ولا سبيل لهم إلى الخروج من النار، وأما من مات غير مشرك بالله عز وجل، فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وتجاوز، ودخل الجنة من أول الأمر، وإن شاء دخل النار وعذبه فيها، ولكن لا بد وأن يأتي عليه وقت من الأوقات يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى فيها إلا أهلها الذين هم أهلها، وهم الكفار الذين لا يخرجون منها أبد الآباد؛ لأن الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، والأحاديث المتواترة في إخراج أهل الكبائر من النار بشفاعة الشافعين، وبكونهم حصل لهم العذاب على جرائمهم، وبعد ذلك يخرجون من النار ويدخلون الجنة.
    فإذاً: لا يدخلون الجنة فسر بأنهم لا يدخلونها من أول وهلة، وإنما يستحقون العذاب في النار لهذه الصفات، ولهذه الذنوب، وإذا شاء الله عز وجل أن يعفو عنهم، فإنهم يدخلون الجنة، ومن شاء الله أن لا يعفو عنه، فإنه يدخل النار ويعذب بها، ولكنه لا بد بعد ذلك أن يخرج من النار ويدخل الجنة؛ لأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار هم الخوارج، الذين يكفرون بالمعاصي وبالكبائر، ويعتبرون من ارتكب كبيرة أنه خالد مخلد في النار كالكفار؛ لأنهم يعتبرونه كافر، ولا يفرقون بين من أشرك بالله عز وجل، وبين من حصل منه معصية لله عز وجل هي كبيرة، والله تعالى فصل وميز بين الشرك وما دونه فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، وجاءت الأحاديث المتواترة في الشفاعة لأهل الكبائر، وخروجهم من النار، ودخولهم الجنة.
    [( ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر )].
    المدمن على الخمر، أي: الملازم لشربها، المستمر عليها، المداوم عليها، هذا هو المدمن على الخمر، المقصود من ذلك أنه إذا مات من غير توبة، أما إذا تاب فالله تعالى يتوب على من تاب، كل من تاب من ذنب فإن الله تعالى يتوب عليه، إذا تاب التوبة النصوح الصادق فيها، فإن الله يتوب على من تاب.
    [والمنان بما أعطى]، وهذا هو محل الشاهد للترجمة: (والمنان بما أعطى) الذي يمن بالعطية الذي يعطيها، ويسيء إلى من أعطاه بكثرة ذكرها، وبكونه يؤذيه بذكرها، وتكون عطية تبعها المن والأذى، هذا يدل على أن المن بالعطية من الكبائر، وهي صفة ذميمة لا يفعلها الإنسان الذي عنده عقل راجح، وعنده دين وإيمان، يعني: يعرف أن مثل هذه الصفات لا تليق بالمؤمن المستقيم.

    تراجم إسناد حديث: (... وثلاثة لا يدخلون الجنة... والمنان بما أعطى)


    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي ].هو الفلاس ، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا يزيد بن زريع ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عمر بن محمد ].
    هو عمر بن محمد بن زيد العمري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    [ عن عبد الله بن يسار ].
    هو الأعرج، وهو مقبول، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن سالم بن عبد الله ].
    هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، فقيه، هو أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه رضي الله عنه].
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم... والمنان عطاءه)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن بشار عن محمد حدثنا شعبة عن علي بن المدرك عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا.. خابوا وخسروا.. قال: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان عطاءه ) ].أورد النسائي حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم )]، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك [قال أبو ذر: خابوا وخسروا، خابوا وخسروا]، يعني: الذين هذا وصفهم، ثم بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه المسبل إزاره وثوبه وما يلبسه من اللباس، وهو الذي يجعله أنزل من الكعبين، هذا هو الإسبال في الثياب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:( ما أسفل من الكعبين فهو في النار ).
    فحد الثياب أن تكون فوق الكعبين، ولا تنزل عن الكعبين، فإذا نزلت عن الكعبين، فهذا هو الإسبال المحرم الذي وصف أهله بهذا الوصف، والإسبال يكون عن خيلاء، ويكون عن غير خيلاء، وكله شر، وكله محرم، ولكن بعض الشر أهون من بعض، فالذي يسبل بخيلاء، وعنده التكبر، هذا مذموم، وأمره أخطر، والذي يسبل ولكن ليس عنده الخيلاء، عنده المعصية للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء عنه النهي المطلق، وجاء عنه ذكر الخيلاء: (من جر إزاره خيلاء)، وجاء عنه الإطلاق، وجاء الأمر لمن كان مسترخياً إزاره أن يرفعه.
    فالحاصل: أن الإسبال لا يقال: أنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء، وإذا كان لغير الخيلاء، فإنه لا بأس، وإذا رأى إنساناً يجر ثوبه، فيقول له: ارفعه، يقول: أنا ما أجره خيلاء، هذا كلام غير صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال عن المسبل أن هذا وصفه وهذا شأنه، وأمر من كان مرتخياً إزاره أن يرفعه، وعمر رضي الله عنه وأرضاه لما كان في مرض موته، وجاءه شاب وأثنى عليه، وقال: (هنيئاً لك يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسنت صحبته، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ولـأبي بكر كنت العضد الأيمن له، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن يكون ذلك كفافاً لا علي ولا لي) يعني: هؤلاء أهل الكمال، مع كمالهم ونبلهم يتواضعون لله عز وجل، هو من أهل الجنة، ويعلم أنه من أهل الجنة، ومع ذلك يقول هذا الكلام، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].
    فهم جمعوا بين الكمال والتواضع، بأن الله رفعهم، وأعلى قدرهم، ومع ذلك يتواضعون لله، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ثم ذهب هذا الغلام، وإذا ثوبه يمس الأرض، فقال: (ردوا علي الغلام، فلما رجع قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أتقى لربك، وأبقى لثوبك)، ما قال: تجر خيلاء ولا ما تجر خيلاء، مع أنه في حالة شديدة، يسقونه اللبن فيخرج من جوفه؛ لأن بطنه مفتوح، فتحه المجوسي الذي فعل ذلك به، وهو يصلي بالناس الصبح، ومع ذلك مع شدة ما هو فيه، ما منعه ذلك عن أن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وأن يرشد إلى التحذير من إسبال الثياب، فقال: (ارفع ثوبك، فإنه أتقى لربك، وأبقى لثوبك)، أرشده إلى فائدة أخروية ودنيوية، فائدة دنيوية أبقى لثوبك، والأخروية والدنيوية أتقى لربك؛ لأن تقوى الله فيها خير الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا وسعادة الأخرى.
    [المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب]، المنفق هو: المروج الذي ينفقها حتى تنفق عند الناس المشترين، إذا جاء الناس جعل يمدحها، ويثني عليها ويحلف، أنها كذا وأنها كذا، أو يقول: إنني والله اشتريتها بكذا، وهو كاذب، من أجل الناس يزيدون بالسعر على الثمن الذي اشترى به وهو كاذب، فقال: [المنفق سلعته بالحلف الكاذبة]، يعني: يروجها وينفقها بكونه يحلف وهو كاذب، والإنسان لا ينبغي له أن يحلف، ولو كان صادقاً، يعني: فيما يتعلق في البيع والشراء، فيحفظ اليمين، ويتكلم بدون حلف، وإذا حلف يكون صادقاً، لكن كونه يحلف كاذباً، ويروج السلعة بالحلف الكاذب، هذا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
    ثم [المنان عطاءه]، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث، الذي يمن بعطيته، وهو مثل ما تقدم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم... والمنان عطاءه)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن بشار ].هو الملقب بندار البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [ عن محمد ].
    هو ابن جعفر الملقب غندر ، إذا جاء محمد غير منسوب يروي عنه محمد بن بشار، أو محمد بن المثنى، وهو يروي عن شعبة، فالمراد به ابن جعفر الملقب غندر البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة ].
    هو ابن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن علي بن المدرك ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ].
    أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن خرشة بن الحر ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي ذر ].
    أبو ذر الغفاري ، جندب بن جنادة، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم... المنان بما أعطى...) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا بشر بن خالد حدثنا غندر عن شعبة سمعت سليمان وهو الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ) ].ثم أورد النسائي حديث أبي ذر الغفاري أيضاً، وهو مثل ما تقدم، يعني: في الثلاثة الذين مروا في الإسناد المتقدم، المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة ولا ينظر إليهم... المنان بما أعطى...) من طريق أخرى

    قوله: [ أخبرنا بشر بن خالد ].ثقة، يغرب، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي .
    [ حدثنا غندر عن شعبة ].
    غندر ، هو محمد بن جعفر، جاء هنا بلقبه، والذي في الإسناد المتقدم باسمه محمد، وفائدة معرفة ألقاب المحدثين هو أن لا يظن الشخص الواحد شخصين؛ لأن الإسناد الأول فيه محمد وهو ابن جعفر، وهذا الإسناد فيه غندر، وغندر هو محمد بن جعفر، ذكر في الإسناد الأول باسمه, وذكر في الإسناد الثاني بلقبه.
    [عن شعبة]، وقد مر ذكره.
    [ سمعت سليمان وهو الأعمش ].
    هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سليمان بن مسهر ].
    ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي.
    [ عن خرشة بن الحر عن أبي ذر ].
    وقد مر ذكرهما.

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (407)

    - (باب رد السائل) إلى (باب ثواب من يعطي)



    حرص الشرع على إعانة الفقراء ولو بشيء يسير، وعلى أن من سئل بالله فليعط، وذم من لم يفعل ذلك، وذم من يجعل السؤال بالله في كل شيء، ورتب الثواب العظيم على المتصدقين وأنه من أحباب الله تعالى، ثم فسر معنى المسكين ومن هو المسكين الذي ينبغي أن يتصدق عليه.
    باب رد السائل

    شرح حديث: (ردوا السائل ولو بظلف...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب رد السائل:أخبرنا هارون بن عبد الله حدثنا معن حدثنا مالك (ح) وأخبرنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري عن جدته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ردوا السائل ولو بظلف -في حديث هارون-: محرق ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: باب: رد السائل، مقصود النسائي من هذه الترجمة هو: أن السائل الذي يسأل يرد بما يمكن ولو كان ذلك شيئاً يسيراً جداً، المهم في الأمر أن يحقق له ما يريد على قدر الطاقة ولو كان ذلك إلى أقل شيء يمكن، هذا هو المقصود من هذه الترجمة؛ أن السائل يجاب أو يرد بتحقيق رغبته ولو بشيء قليل.
    وقد أورد النسائي حديث أم بجيد وهي: حواء اسمها حواء صحابية، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ردوا السائل ولو بظلف ) زاد هارون في حديثه: ( محرق ) يعني: معناه أن السائل يرد ولو بالشيء القليل، وأنه لا ينبغي عدم تحقيق رغبته مطلقاً بل تحقق بقدر الإمكان ولو كان ذلك الشيء الذي تحقق به رغبته قليلاً، لا يستهان بالقليل إذا لم يوجد إلا هو، فإن له وقعاً وله شأناً وله فائدة لمن هو محتاج إلى ذلك القليل، وكلمة: (ولو) يعني: إشارة إلى التقليل، ومثل هذا ما جاء في الحديث: ( لا تحقرن جارة أن تهدي إلى جارتها ولو فرسن شاة ) وهو من جنس الظلف، وكذلك ( التمس ولو خاتماً من حديد )، وكذلك ( أولم ولو بشاة ) يعني: هذه أمثلة للشيء القليل الذي يفعل المأمور به ولو كان في شيء قليل.
    ( ردوا السائل ولو بظلف ) والظلف هو للبقر والغنم مثل: الحافر، للخيل، والبغال، والخف للإبل، فهو طرف رجلها أو يدها، وما يكون عليه من اللحم اليسير الذي هو من أقل الأشياء، أو أتفه الأشياء، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى رد السائل ولو كان بظلف محرق، يعني: إشارة إلى قلته أو عدم أهميته؛ لأن هذا فيه إرشاد وتوجيه إلى أن السائل لا يرد بدون شيء، بل يرد بالشيء ولو كان يسيراً جداً.
    ثم قال في رواية هارون: ( محرق ) أي: ظلف محرق؛ لأن النسائي رواه عن شيخين، الأول: هارون بن عبد الله، والثاني: قتيبة بن سعيد، فلفظ قتيبة بن سعيد: ( ولو بظلف ) فقط، وأما هارون الذي هو الشيخ الأول الذي جاء في الإسناد الأول فجاء الظلف موصوفاً بمحرق، يعني: أن رواية الشيخين اتفقت عند هذا القدر الذي هو: ( ولو بظلف ) وزاد هارون في روايته عما رواه قتيبة وصف الظلف بأنه محرق.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ردوا السائل ولو بظلف ...)

    قوله: [أخبرنا هارون بن عبد الله ]هو الحمال البغدادي ، ثقة، أخرج حديثه مسلم ، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ حدثنا معن حدثنا مالك ]
    هو معن بن عيسى ، ثقة، ثبت، قيل: هو أثبت أصحاب مالك، وأخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    يروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
    [ ح وأخبرنا قتيبة بن سعيد ].
    ثم قال: (ح) وهذه الحاء تدل على التحول من إسناد إلى إسناد.
    [وأخبرنا قتيبة بن سعيد ].
    هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وبغلان قرية من قرى بلخ، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن مالك عن زيد بن أسلم ].
    عن مالك وقد مر ذكره، عن زيد بن أسلم ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن بجيد الأنصاري ].
    ابن بجيد هو عبد الرحمن بن بجيد الأنصاري وهو معدود في الصحابة، أخرج حديثه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهنا غير منسوب ولكنه نسب في طريق أخرى ستأتي بعد أحاديث فقيل عن عبد الرحمن بن بجيد عن جدته، فلم ينسب في هذه الرواية ونسب في الرواية التي ستأتي بعد عدة أحاديث، يعني: نفس الحديث سيأتي بعد عدة أحاديث وفيه الرواية عن عبد الرحمن بن بجيد أي: تسميته، وهنا غير مسمى، وحديثه أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
    [ عن جدته ].
    هي: أم بجيد وهي حواء صحابية، أخرج حديثها أبو داود ، والترمذي ، والنسائي، ولها هذا الحديث الواحد، الذي في الكتب الستة.


    باب من يسأل ولا يعطى

    شرح حديث: (لا يأتي رجل مولاه يسأله من فضل عنده فيمنعه إياه...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب من يسأل ولا يعطي.أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يأتي رجل مولاه يسأله من فضل عنده فيمنعه إياه إلا دعي له يوم القيامة شجاع أقرع يتلمظ فضله الذي منع ) ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة: الذي يسأل ولا يعطي، يعني: أنه مذموم، وأن على الإنسان إذا سئل وهو قادر، ومستطيع، ومتمكن أن يحقق الرغبة بقدر الإمكان، كما مر في الحديث السابق يرد السائل ولو بأقل القليل، ما دام أنه لا يمكن إلا ذلك القليل، أورد النسائي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، يعني: أورد النسائي حديث معاوية بن حيدة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
    قال: [ (لا يأتي رجل مولاه يسأله من فضل عنده إلا دعي له يوم القيامة شجاع أقرع يتلمظ فضله الذي منع) ].
    يعني: هذا فيه الدلالة على منع مثل ذلك، يعني: كون الإنسان يسأل ثم لا يعطي فإن ذلك مذموم، وقد جاء في هذا الحديث ما يدل على ذمه، وأن الإنسان إذا سأل رجل مولاه، والمولى يمكن أن يكون المراد به: العتيق يسأل معتقه أو القريب يسأل قريبه، أو الصديق الحميم يسأل صديقه؛ لأن المولى يشمل ما هو أعم من ذلك كما قال: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدخان:41] فالمولى عام، ويأتي خاص، ولكنه هنا المراد به العموم، ويدخل فيه العتيق وغير العتيق.
    (يسأله من فضل عنده) أي: من شيء زائد فاضل عن حاجته ومستغن عنه؛ لأنه زائد على قدر حاجته وحاجة من يمون فيمنعه، يعني: فلا يعطيه من ذلك الذي تفضل الله تعالى به عليه، وهو قدر زائد على حاجته، فلا يعطيه بل يمنعه.
    (فدعي له شجاع أقرع) يعني: دعي شجاع أقرع لهذا الفضل الذي منعه يتلمظه، يعني: أنه يدير لسانه عليه ويتتبع أثره كما يتلمظ الإنسان في البقايا التي في فمه بحيث يدير لسانه يحركه حتى يأتي عليها ليزيل تلك الفضلات، وتلك الأجزاء التي في فمه، أو على شفتيه، هذا هو التلمظ، يعني: يتلمظ ذلك الفضل يتبع أثره، يعني: أنه يعاقب، وأنه لا يستفيد من هذا الفضل، وأنه يدعى له شجاع أقرع يتلمظ ذلك الفضل الذي منع، فهو دال على منع تحقيق مثل هذه الرغبة بل المطلوب هو تحقيق السؤال وإجابة الطلب بقدر الإمكان، ولو كان ذلك بشيء يسير كما دل عليه الحديث الذي قبله.
    والشجاع الأقرع كما عرفنا في أحاديث مضت هي الحية الغليظة، التي تمزق شعر رأسها من كثرة سمها وشدته.


    تراجم رجال إسناد حديث: (لا يأتي رجل مولاه يسأله من فضل عنده فيمنعه إياه...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ].هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن المعتمر ].
    هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن بهز بن حكيم ].
    هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبيه]
    هو حكيم بن معاوية وهو صدوق، أيضاً أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن معاوية بن حيدة]
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج له البخاري تعليقاً وأصحاب السنن الأربعة، يعني: معنى هذا: أن هؤلاء الثلاثة الذين خرجوا لهم متفقون، كل واحد من هؤلاء الثلاثة خرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.


    من سأل الله عز وجل

    شرح حديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ من سأل بالله عز وجل.أخبرنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن استجار بالله فأجيروه، ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) ].
    ثم أورد النسائي من سأل بالله عز وجل، أي: أنه يعطي حيث أمكن ذلك، ثم إنه لا ينبغي أن يسأل بالله إلا إذا كان هناك ضرورة، وهناك أمر ملجئ إلى ذلك، وأما أن يسأل بالله كل شيء، ويكون شأن الإنسان عندما يسأل يكون كل سؤاله بالله فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا فيه إحراج وفيه إلحاق الضرر، وقد يمنع فيتأثر، وقد لا يجد المسئول بداً من المنع، ثم المسئول يجيب إذا كانت الإجابة لا ضرر فيها، وأنها ممكنة، ولا يلزم أن يجاب في كل شيء؛ لأنه لا ينبغي أن يسأل في كل شيء؛ لأنه قد يسأل عن سر من الأسرار لا يريد الإنسان أن يخبر به، فإذا سئل بالله فلا ينبغي له أن يجيبه؛ لأن الإخبار فيه ليس فيه مصلحة، بل قد يكون فيه مضرة، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يسأل بالله كل شيء، ومن سئل بالله وكانت الإجابة ممكنة ولا ضرر فيه، فإنه يجيبه حيث أمكن ذلك، فهذا هو المقصود من هذه الترجمة.
    ثم أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [( من استعاذ بالله فأعيذوه )] وفي بعض الروايات: ( من استعاذكم بالله فأعيذوه ) معناه: أنه يحقق له ما يريد ويمكن مما يريد.
    [( ومن سألكم بالله فأعطوه )] يعني: من سألكم شيئاً فأعطوه إياه، لكن كما قلت: حيث أمكن ذلك؛ لأنه لا ينبغي أن يسأل بالله كل شيء، ولا يلزم أن يجيب المسئول عن كل شيء؛ لأن من الأشياء ما لا ينبغي أن يسأل عنه، وقد لا يكون للمسئول فائدة بالإجابة، بل قد يكون عليه مضرة بالإجابة، فلا يلزمه أن يجيب عن كل شيء، وإنما إذا كان السؤال في أمر لا محذور فيه ولا إشكال فيه، فإنه ينبغي أن تحقق الرغبة بأن يجاب إلى ما سأل.
    [ ( ومن استجار بالله فأجيروه ) ].
    [ ( ومن آتى إليكم معروفاً فكافئوه ) ].
    ( ومن آت إليكم ) يعني: أعطى من الإيتاء، أو من الإتيان، آتى معروفاً يعني: أعطاكم معروفاً وناولكم، فهو يصلح هذا وهذا، آتى وأتى، من أتى إليكم معروفاً ومن آتى إليكم؛ لأن أتى من الإتيان، وآتى من الإيتاء وهو الإعطاء، يعني: أتى فعل وآتى أعطى، فهو من الإتيان والإيتاء، فكافئوه على إحسانه ومعروفه، [فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه]، والإنسان إذا كان يمكن أن يكافئ بالمماثلة، أو بما هو أحسن، فهذا هو الذي ينبغي، يعني: إنسان أهدى إليك هدية تهدي إليه هدية تكافؤه عليها، لكن أهدى إليك وأنت ما عندك قدرة فأقل الأحوال أنك تدعو له إذا ما استطعت أن تكافئه، وإن جمعت بين المكافأة والدعوة فهذا أحسن، الإنسان يكافئ ويدعو، وإذ ما حصلت المكافأة فلا أقل من الدعاء له.


    تراجم رجال إسناد حديث (من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه...)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة حدثنا أبو عوانة ].قتيبة مر ذكره، وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري ، وهو ثقة، متقن أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الأعمش ].
    هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن مجاهد ].
    هو مجاهد بن جبر المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عمر ].
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    من سأل بوجه الله عز وجل

    شرح حديث: (... وإني أسألك بوجه الله عز وجل بم بعثك ربك إلينا؟...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ من سأل بوجه الله عز وجل.أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر سمعت بهز بن حكيم يحدث عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: ( قلت: يا نبي الله، ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن لأصابع يديه ألا آتيك ولا آتي دينك، وإني كنت امرأً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل بم بعثك ربك إلينا؟ قال: بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: السؤال بوجه الله، وقد مر الحديث الذي أورده النسائي هنا فيما مضى وهو بلفظ آخر: [بوحي الله]، وهنا بوجه الله، وكل من الوحي والوجه صفة من صفات الله عز وجل؛ لأن الوحي هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، والوجه صفة من صفاته، فهنا الرواية جاءت بالوجه، وقد أورد النسائي حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه.
    [( قلت: يا نبي الله! ما أتيتك إلا وقد حلفت أكثر من عددهن )] يشير إلى أصابع يديه، يعني: معناه: أنه حلف أيماناً بعدد أصابع اليدين، ألا يأتيه ولا يأتي دينه، يعني: ألا يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يأتي دين النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل في هذا الدين، يعني: معناه من شدة عداوته وبغضه لهذا الدين، ثم إن الله سبحانه وتعالى فتح عليه؛ وتحول من حال البغض إلى حال الحب، ومن حال البعد والنفرة إلى حال الرغبة.
    [( وإني كنت امرأً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل بم بعثك ربك إلينا؟)] يعني: بأي شيء بعثك الله [( قال: بالإسلام، قال: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة )] وهذا القدر قد مر فيما مضى في الحديث السابق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أن يقول: (أسلمت وجهي لله وتخليت)، وهذا يعني: أنه دخل في هذا الدين وتخلى من كل ما يخالفه من عبادة غير الله عز وجل؛ لأن: أسلمت وجهي لله وتخليت تعني: لا إله إلا الله؛ لأن تخليت تعني: لا إله، وأسلمت وجهي لله تعني: إلا الله، فهي مثل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء:36]، مثل: لا إله إلا الله، اعبدوا الله ولا تشركوا تعادل: لا إله، وهنا: أسلمت وجهي لله تعادل إلا الله، وتخليت تعادل: لا إله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة.
    [ ( كل مسلم على مسلم محرم ) ].
    وهذا مثلما جاء في الحديث: ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) يعني: كل المسلم على المسلم حرام الدم، والمال، والعرض، جاء ذلك مبيناً في حديث آخر، فيحرم على الإنسان أن يتعرض لعرض أخيه، أو يتكلم في عرض أخيه، وكذلك أن يضره في بدنه بقتل أو جرح، أو أي أذى في البدن، وكذلك ماله لا يجوز له أن يأخذ شيئاً من ماله إلا بطيب نفس منه.
    [( أخوان نصيران )] يعني: هذا شأن المسلم للمسلم أنه يكون نصيره، وأنه يكون أخاه، وأنه ينصره ولا يخذله كما جاء في الحديث الآخر: ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) وقال قبل ذلك: ( لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه )..إلخ.
    ثم قال عليه الصلاة والسلام: [ ( لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين ) ].
    يعني: أنه إذا دخل في الإسلام وهو بين أهل الكفر فعليه أن يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، لكن إذا كان بقاؤه في بلده بين الكفار يستطيع أن يقوم بدينه وأن يؤدي شعائر دينه وأن يدعو إلى الله عز وجل وأن يسعى في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يدعوهم لا سيما إذا كان منهم، ومن قبيلتهم، وتحترم القبيلة أفرادها ويحترم بعضهم بعضاً، فإذا كان في ذلك مصلحة، فإن البقاء من أجل هذه المصلحة أمر مطلوب، وإذا كان لا يترتب على ذلك مصلحة بل ولا يستطيع الإنسان أن يؤدي شعائر دينه فيتحتم عليه أن يترك هذا البلد، وأن يخرج منه إلى حيث يستطيع أن يؤدي شعائر الدين.
    أما إذا كان يستطيع أن يدعو إلى الله عز وجل، ويستطيع أن يؤدي شعائر دينه فإن بقاءه أولى من خروجه؛ لما يترتب على ذلك من مصلحة؛ لأنه أولاً: هو في دينه ما فيه محذور، لأنه يستطيع أن يؤدي شعائر دينه، وبالنسبة لغيره ما دام أن فيه مصلحة وهو الدعوة والإرشاد إلى الخير، والدعوة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهذا مطلب حسن ومقصد حسن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) فهو لم يبق في بلاد الكفار رغبة فيها بل رغبة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور ما دام أنه متمكن من أن يؤدي شعائر دينه.


    من يسأل بالله عز وجل ولا يعطي به

    شرح حديث: (... وأخبركم بشر الناس... الذي يسأل بالله ولا يعطي به)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ من يسأل بالله عز وجل ولا يعطي به.أخبرنا محمد بن رافع قال: حدثنا ابن أبي فديك قال: أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد القارظي عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله عز وجل حتى يموت أو يقتل، وأخبركم بالذي يليه؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس، وأخبركم بشر الناس؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: الذي يسأل بالله عز وجل ولا يعطى به)].
    أورد النسائي: من يسأل بالله ولا يعطي، ضبطت بالوجهين، كما ذكر ذلك السندي أنه: يجوز بالبناء على الفاعل وبالبناء للمفعول، يعني: كونه جمع بين وصفين كونه سئل بالله ولم يحقق الرغبة ويجاب من سأل بالله، وكونه لا يعطي؛ لأن السؤال الآن بالله هو من شخص والإعطاء من شخص، فهي تستقيم إذا قيل: يسأل- بالضم- بالله ولا يعطي، أو يسأل -بالفتح- بالله ولا يعطى، يعني: تكون متفقة، ذاك الذي يسأل بالله ولا يعطى، كونه سأل بالله ولم يحصل له ما يريد، ولا ينبغي له أن يستهين بالسؤال بالله، وأن يجعل السؤال بالله أمراً سهلاً، يعني: يجري على لسانه بسهولة، بل ينبغي له أن يتحرز من ذلك كما أسلفت من قبل، لا ينبغي أن يسأل بالله كل شيء ولا أن يجاب من سأل بالله على كل شيء مما سأل عنه.
    ثم أورد حديث ابن عباس وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: [(ألا أخبركم بخير الناس منزلاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله عز وجل حتى يموت أو يقتل ) ].
    [( ألا أخبركم بخير الناس منزلة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله عز وجل حتى يموت أو يقتل )] يعني: مداوم للقتال، والجهاد، يعني: ملازم له حتى يقتل في سبيل الله أو يموت بغير قتل، معناه: أنه مداوم للجهاد وملازم له فتأتيه منيته إما قتلاً، وإما موتاً بدون قتل؛ لأنه دائماً في الجهاد، فتوافيه منيته وهو يجاهد، فسواء كان ذلك عن قتل بأيدي الأعداء أو بموت بدون أن يكون هناك قتل، والمقصود من ذلك الملازمة والمداومة للجهاد، يعني: أنه آخذ بعنان فرسه مداوم على الجهاد حتى يموت أو يقتل.
    [( وأخبركم بالذي يليه؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس ) ].
    يعني: يبتعد عن شرور الناس ويخلص الناس من شره أيضاً، فيسلم الناس من شره ويسلم هو من شرورهم، وهذا فيه دلالة على فضل الاعتزال، ولكن حيث يكون الأمر يدعو إلى ذلك، وحيث يكون خيراً من الخلطة، أما إذا كانت الخلطة ومخالطة الناس ودعوتهم إلى الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والصبر على أذاهم ومنع نفسه من أن يصدر منه أذى على غيره فإن الخلطة تكون أحسن، وعلى هذا فالعزلة والخلطة يكون بعضهما أحسن من بعض، فالعزلة تكون أحسن حيث لا تكون تلك الأمور التي تكون الخلطة فيها أفضل، وهي كونه ينفع الناس ويصبر على أذى الناس، ويسلم الناس من شره وهو ينفعهم، وبقاؤه خير له ولهم، وإذا لم يكن بقاؤه خير له ولهم ويخشى على نفسه ولا يستطيع، فعند ذلك تكون العزلة خيراً من الخلطة، فهنا أرشد إلى فضل العزلة ولكنها حيث تكون خيراً من الخلطة، أما إذا كانت الخلطة خيراً منها فإن ترك العزلة والبقاء على مخالطة الناس أولى.
    ثم قال: [ ( وأخبركم بشر الناس؟ قلنا: نعم يا رسول الله، قال: الذي يسأل بالله عز وجل ولا يعطى به ) ].
    يعني: لا يقدر السؤال بالله، وقد ذكرت آنفاً أن السؤال بالله لا ينبغي أن يبتذل وأن الإنسان يسأل بالله كل شيء، وأن يسأل بالله دائماً وأبداً، وكلما يسأل يكون سؤاله بالله هذا لا يصلح، ثم السؤال أو إجابة السائل بالله فيها تفصيل، إذا كان هناك مضرة في إجابته، وليس هناك مصلحة في إجابته كأن يسأل عن سر من الأسرار التي لا ينبغي للإنسان أن يبوح بها من شئونه الخاصة التي لا حاجة إليها، فليس له أن يجيبه؛ لأن أصل السؤال ليس في محله، وإذا كان السؤال يتعلق بحاجة الإنسان وهو مضطر إليه ولا يترتب على إظهاره أو إجابته عليه مضرة فإنه عند ذلك يجاب على قدر الإمكان وحيث أمكن ذلك.
    والرجل الذي يسأل بالله ولا يعطي يكون من شر الناس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: من شر الناس؛ لأن شر الناس جاء فيه أحاديث كثيرة، شر الناس كذا وشر الناس كذا، (شر الناس ذا الوجهين) وشر الناس كذا، فهذا يعني يعتبر من رءوس شرار الناس، لكن كما قلت ليس كل سؤال بالله يحقق، ولا ينبغي أن يسأل بالله وأن يبتذل السؤال بالله.
    والذي يسأل بالله في كل شيء، هذا يكون مخطئاً لا ينبغي أن يجاب، بعض الأشياء ما ينبغي أن يجاب، يسأل الإنسان عن أمور بيته، وعن شئونه الخاصة، وعن ما يجري بينه وبين أهله، أو يسأله عن مقدار ماله، أو يسأله عن أشياء الجواب فيها: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، يعني: يجيب بهذا الحديث إذا جاء مثل هذه الأسئلة التي ليس للغير حق أن يسأل فيها.
    وبعض الناس يتخذ مثل هذا الكلام، فبدلاً من: بالله يقول: والنبي، يعني: كلمة تجري على لسان الواحد منهم ما يتحدث بشيء إلا قبلها: والنبي، أو بالله، هذا حلف في الغالب ولكنه غير سائغ، الإنسان يحافظ على الأيمان لا يبتذلها، ولا يجعل الله عرضة للأيمان، بل لا يحلف إلا عند الحاجة أو حيث تكون هناك حاجة إلى الحلف إما لتأكيد أو ما إلى ذلك من الأشياء.
    وينبغي بالمناسبة أنه عندما يسمع أحداً يقول: والنبي، أن يرشده إلى أن يقول: ورب النبي، يعني: يحافظ على اللفظ الذي اعتاده، ولكن يأتي قبله بالشيء الذي هو مطلوب والذي هو متعين، وهو أن الحلف إذا وجد يكون بالله لا يكون بغير الله سبحانه وتعالى.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... وأخبركم بشر الناس ... الذي يسأل بالله ولا يعطي به)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن رافع ].هو محمد بن رافع النيسابوري القشيري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ حدثنا ابن أبي فديك ].
    هو محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرنا ابن أبي ذئب ].
    هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن خالد القارظي ].
    صدوق، أخرج له أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه.
    [ عن إسماعيل بن عبد الرحمن ].
    ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [ عن عطاء بن يسار ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عباس ].
    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة وأحد الصحابة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    هناك شخصان سبق أن مر ذكرهما أحدهما أزهر بن جميل من شيوخ النسائي، وفي بعض النسخ البخاري، ومسلم في الخلاصة، وفي التقريب، وفي تهذيب الكمال للمزي نص على أنه روى له البخاري، والنسائي وما ذكر أبا داود، بل اقتصر على ذكر البخاري، والنسائي، وفي الخلاصة: البخاري، والنسائي فقط.
    وأما الشخص الذي مر قريباً وهو يحيى بن سعيد الذي يروي عنه معاوية بن صالح بن حدير وهو يروي عن خالد بن معدان، فالحديث رواه أبو داود والترمذي كما رواه النسائي، النسائي رواه من طريقين، طريق سابقة ليس فيها أحد قبل خالد بن معدان.
    فـيحيى بن سعيد أو بجير بن سعد هؤلاء غير موجودين، لكن هذه الطريقة التي مرت قريباً فيها يحيى بن سعيد، ولكن عند أبي داود، وعند الترمذي، بحير بن سعد عن خالد بن معدان، وكذلك في تحفة الأشراف بحير بن سعد، وعلى هذا فالذي يظهر أن يحيى بن سعيد تصحيف وبحير قريبة من يحيى في الرسم، يعني: بحير ويحيى بعضها قريب من بعض فالتصحيف وارد، وسعيد وسعد أيضاً متقاربة، فالذي يظهر أنه بحير بن سعد وليس يحيى بن سعيد؛ لأنه أولاً في تحفة الأشراف بحير بن سعد يروي عن خالد بن معدان الحديث نفسه، ويضيفه إلى أبي داود والنسائي والترمذي، وفي سنن الترمذي بحير بن سعد، وفي سنن أبي داود بحير بن سعد، وليس في تهذيب التهذيب أن يحيى بن سعيد يروي عن خالد بن معدان، فالأظهر أنه بحير بن سعد وأن يحيى بن سعيد عند النسائي تصحيف، والتصحيف وارد؛ لأن كتابة يحيى قريبة من بحير، وكتابة سعيد قريبة من سعد.
    أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
    وزاد المزي: أخرج له في خلق أفعال العباد، هو فيما يتعلق بالنسبة لغير الصحيح لا يلتزم الإتيان بكل ما هو خارج الصحيح، وإنما يذكر في الغالب أهمها أو أشهرها.


    ثواب من يعطي

    شرح حديث: (... أما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوماً فسألهم بالله... فمنعوه فتخلفه رجل بأعقابهم فأعطاه سراً...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثواب من يعطي.أخبرنا محمد بن المثنى حدثنا محمد حدثنا شعبة عن منصور سمعت ربعياً يحدث عن زيد بن ظبيان رفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاثة يحبهم الله عز وجل وثلاثة يبغضهم الله عز وجل، أما الذين يحبهم الله عز وجل فرجل أتى قوماً فسألهم بالله عز وجل ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلفه رجل بأعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله عز وجل والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رءوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح الله له، والثلاثة الذين يبغضهم الله عز وجل: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم ) ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: ثواب من يعطي، يعني: أن له ثواباً عظيماً وجزاء جزيلاً من الله سبحانه وتعالى، وهنا أورد النسائي حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه: أن هذا الذي يعطي ممن يحبه الله عز وجل، وهذا يدل على فضله، وعلى فضل العمل الذي يقوم به؛ لأن هذا مما يحبه الله سبحانه وتعالى، ويثيب فاعله عليه، فقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله)، فذكر الثلاثة الذين يحبهم الله، وهو أن رجلاً أتى إلى قوم وسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم، وإنما هو شخص لا قرابة له بينهم ولكنه سألهم بالله، فما أعطوه شيئاً، فتخلف رجل منهم فأعطاه سراً، يعني: أعطاه عطية خفية لا يطلع عليها إلا الله وهذا الذي أعطاه، يعني: ما أحد اطلع عليها إلا هذا المعطى والله عز وجل والذي يعطي، هؤلاء هم الذين يعلمون عنها، معناه أنها خفية لا يعلمها أحد، الله يعلمها والشخص الذي أعطاه يعلمها، يعني: معناه إشارة إلى إخفائها، وهذا هو محل الشاهد من إيراد الحديث.
    وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا جاءوا في آخر الليل وقد تعبوا واحتاجوا إلى النوم وغلبهم النوم، والواحد منهم متى يصل إلى الأرض حتى يضع رأسه عليها وينام، وكان النوم أحب إليهم مما يعدل به، يعني: ما يساوي النوم عندهم شيء، فهو غالي عندهم لا يعدله شيء؛ لشدة حاجتهم إليه؛ لأن ليلهم وهم سائرون وتعبوا في السير فنزلوا في آخر الليل، والواحد منهم متى يصل إلى الأرض حتى يضع خده وينام، فكان النوم أحب إليهم مما يعدل به، يعني: لا يماثله شيء ولا يعدله شيء عندهم، يعني: أنه غالي ونفيس عندهم وهم بأشد الحاجة إليه، ولا يعدلون به شيئاً، فلم ينم ولكنه قام يتلو آيات الله ويتملق لله عز وجل، بمعنى: يتودد ويلح عليه في الدعاء ويسأله ويطلب إحسانه وبره، فهذا الرجل الثاني ممن يحبه الله عز وجل.
    [ ( ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح الله له ) ].
    يعني: ورجل ثبت، كانوا في سرية فحصل انهزام، ولكنه ثبت، وأقبل ولم يدبر حتى يتحقق، إما القتل وإما النصر، يعني: هو ومن يكون مثله.
    [( والثلاثة الذين يبغضهم الله عز وجل: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم ) ].
    الثلاثة الذين يبغضهم الله الشيخ الزاني وهو: الرجل الكبير الهرم الذي ذهب عنه الشباب وقوة الشباب، ولكن عنده الخبث، وعنده سوء الطوية وسوء العمل، فهو مع أن الشباب ولى والقدرة الكاملة غير موجودة إلا أنه لما عنده من الخبث، وما عنده من سوء العمل يتعلق أو يتجه إلى الأمور المحرمة، يعني: الشاب الزاني، والرجل الكبير الزاني الذي هو ليس شاباً، كلهم مذمومون ولكن هذا أشد؛ لأن هذا مع ضعفه ومع عدم قدرته إلا أن نفسه متعلقة بالسوء ومرتبطة بالسوء.
    (والفقير المختال)، يعني: العائل المستكبر كما جاء في بعض الروايات وبعض الأحاديث؛ لأن الغني هو الذي قد يكون معه الاستكبار، لكن إذا كان الاستكبار مع الفقر فمعناه حشفاً وسوء كيلة، يعني يدل على أن هذا سجية مثل الشيخ الزاني ذاك الذي ليس عنده أسباب القوة التي تدفعه لهذا، ولكن الخبث، وهذا مع كونه فقيراً فإن لديه هذا الوصف الذميم الذي هو التكبر.
    (والغني الظلوم) الغني الذي أغناه الله عز وجل ويظلم الناس ويمنعهم حقوقهم، مع أن الله عز وجل أقدره، ولهذا جاء في الحديث: ( مطل الغني ظلم ) يعني: كون الإنسان عنده قدرة على السداد ولكنه يماطل ويمتنع هذا ظلم، والغني الظلوم مثل قوله: ( مطل الغني ظلم )؛ لأن عنده قدرة على السداد وعلى الوفاء، ولكنه يماطل الناس لسوء تصرفه وسوء فعله، ومثل هؤلاء، أولئك الذين يتجهون إلى استقدام العمال واستخدامهم ثم بعد ذلك يظلمونهم ولا يعطونهم حقوقهم أو يؤخرونها عليهم، مع أنهم عندهم القدرة على ذلك، فإن الظلم من الغني ومنع الحق مع قدرته عليه لا شك أن هذا من أشد الظلم وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( مطل الغني ظلم ) (وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل).

    تراجم رجال إسناد حديث: (... أما الذين يحبهم الله فرجل أتى قوماً فسألهم بالله... فمنعوه فتخلفه رجل بأعقابهم فأعطاه سراً...)


    قوله: [ قال: أخبرنا محمد بن المثنى ].هو العنزي أبو موسى المقلب الزمن البصري ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا محمد ].
    هو ابن جعفر الملقب غندر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ، ثم البصري، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن منصور ].
    هو منصور بن المعتمر الكوفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت ربعياً ].
    هو ربعي بن حراش الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ يحدث عن زيد بن ظبيان ].
    هو زيد بن ظبيان ، وهو مقبول، أخرج له الترمذي، والنسائي.
    [ رفعه إلى أبي ذر ].
    هو جندب بن جنادة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    والحديث ذكره الألباني في ضعيف سنن النسائي، لكنه في غير المطبوع، ولا أدري وجه ضعفه، هل هو من أجل زيد بن ظبيان الذي قال عنه أنه يقبل، بحيث يتابع، مع أن بعضه فيه متابعات، فالحديث الذي موجود بعضه فيه شيء يدل على صحته مثل: الشيخ الزاني والفقير المختال، وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على ذمهم، وعلى أنهم من شر الناس.



  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (408)

    - (باب تفسير المسكين) إلى (باب الصدقة على اليتيم)


    المسكين الحق هو المتعفف عن سؤال الناس، وهو الذي ينبغي الحرص على معرفته والتصدق عليه، وإن من الأمور غير اللائقة بالفقير أن يكون مختالاً مزهواً بنفسه مع فقره، فهذا ذمه الله تعالى ولا يكلمه يوم القيامة، وهناك أصناف من الناس المحتاجين الذين حث الشرع على التصدق عليهم كالأرامل واليتامى والمحتمل حمالة قوم لأجل إصلاح ذات بينهم، والمؤلفة قلوبهم.
    تفسير المسكين


    شرح حديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ تفسير المسكين.أخبرنا علي بن حجر أنبأنا إسماعيل أخبرنا شريك عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، إن المسكين المتعفف، اقرءوا إن شئتم: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273] ) ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة وهي: تفسير المسكين، يعني: من هو المسكين حقاً؛ لأن الحديث فيه تفسير المسكين حقاً، وقد أورد النسائي حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إن المسكين المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن له فيتصدق عليه ) كما جاء مبيناً في الرواية الأخرى والأحاديث الأخرى، هذا هو المسكين حقاً، المسكين حقاً ذلك الذي يكون شديد الحاجة ويكون متعففاً ولا يمد يده، ولا يفطن له فيتصدق عليه، هذا هو المسكين حقاً، وذاك مسكين لكن ليس هو المسكين حقاً، يعني: ذاك المحتاج الذي يمد يده لا يقال أنه ليس مسكيناً، وإنما الذي نفي عنه المسكنة الحق الأشد؛ لأن هذا يحصل شيئاً يأكله، وأما هذا جالس في بيته متعفف ولا يسأل، فيكون شديد الحاجة ومع ذلك لا يمد يده، فهذا هو المسكين حقاً، وذاك مسكين لكن ليس هو المسكين حقاً، فهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) يعني: معناه هذا هو الواصل حقاً، وذاك ليس واصلاً حقاً وإن كان هذا شيء طيب وهي المكافأة والمقابلة بالمثل، وكذلك أيضاً ( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يمسك نفسه عند الغضب ) يعني: لا يعني أن القوي ليس بشديد، الذي هو قوي في جسده وفي قوته وفي مغالبته ومصارعته هو قوي شديد، لكن الشديد حقاً هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فهذا نفي ليس معنى ذلك أن الذي ينفى عنه لا يكون متصفاً بذلك الوصف، بل أنه ليس متصفاً به على التمام والكمال، وإنما الذي يتصف به على التمام والكمال هو الذي يأتي فيما بعد في الإثبات؛ لأن الجملة تأتي فيها نفي وإثبات، والنفي هو ليس للنفي المطلق بل لنفي الوصف الكامل، والإثبات إنما هو للوصف الكامل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان...)


    قوله: [ أخبرنا علي بن حجر ].هو علي بن حجر بن إياس السعدي المروزي ، ثقة، حافظ، أخرج حديثه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
    [ أنبأنا إسماعيل ].
    هو ابن علية إسماعيل بن جعفر، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شريك ].
    هو شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وهو صدوق، يخطئ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي، فإنه لم يخرج له في السنن ولكنه خرج له في الشمائل.
    [ عن عطاء بن يسار ].
    وقد مر ذكره.
    [ عن أبي هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.
    وفي آخر الحديث ذكر الآية: لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273].
    لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [البقرة:273] وهذه ذكرها الشيخ الألباني أنه شاذ بهذه الزيادة.

    شرح حديث: (ليس المسكين بهذا الطواف...) من طريق ثانية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) ].يقول النسائي رحمه الله: تفسير المسكين، والمراد من هذه التراجم: المسكين حقاً الذي يستحق أن تدفع له الزكاة وأن تعطى له الصدقات، والفقير والمسكين هما صنفان من الأصناف الثمانية الذين جاء ذكرهم في سورة التوبة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، فهؤلاء ثمانية أصناف، أولهم: الفقراء والمساكين، وقد قال أهل العلم: إن الفقير والمسكين من الألفاظ التي إذا جمع بينها في الذكر فرق المعنى، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر فإنه يتسع للجميع، وعلى هذا فإن المسكين والفقير إذا جاء ذكرهما في موضع واحد؛ فيفسر الفقير بأنه الذي ليس عنده شيء أصلاً، والمسكين الذي عنده شيء ولكنه لا يكفيه، وإذا انفرد أحدهما عن الآخر دخل فيه الجميع، كما في قوله في حديث معاذ بن جبل: ( فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )، فهنا جاء ذكر الفقير ليس معه المسكين، ويكون معناه شاملاً لمن لا يجد شيئاً أصلاً ولمن يجد ما لا يكفيه، والتراجم التي معنا وقد أورد تحتها النسائي الأحاديث فيها بيان المسكين حقاً، وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس المسكين بذاك الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي ليس عنده غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ) هذا هو المسكين حقاً.
    وليس معنى قوله: ( ليس المسكين بذاك الطواف ) أن الطواف الذي يمد للناس ليس مسكيناً، بل هو مسكين، ولكن ليس هو المسكين حقاً؛ لأن هذا يحصل شيئاً يأكله؛ لأنه يمد يده، لكن الذي يتعفف وليس عنده شيء، ولا يمد يده ولا يفطن له فيتصدق عليه، هذا هو المسكين حقاً الذي ينبغي أن يحرص على معرفته، وأن توصل إليه الزكاة والصدقة.
    ومثل هذا الكلام الذي جاء في هذا الحديث في قوله: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه)، مثله ما جاء في بعض الأحاديث: ( ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )، الذي عنده القوة والشجاعة وغلبة الناس عند المصارعة هو شديد، لكن ليس هذا هو الشديد حقاً، الشديد حقاً هو الذي يملك نفسه عند الغضب، ومثله أيضاً ما جاء في الحديث: ( ليس الصيام بالإمساك عن الأكل والشرب، وإنما الإمساك عن اللغو والرفث )، يعني: أن هذا هو الصيام حقاً الذي يمسك عن اللغو والرفث، وإن كان الإمساك عن الأكل والشرب أيضاً إمساكاً، وهو الصيام، والذي لو أكل الإنسان أفطر، ولكن الصيام حقاً هو الصيام عن اللغو والرفث، ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها )، ومثله أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال عليه الصلاة والسلام: المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحج، ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عليه، أخذ من سيئاته فطرح عليه، ثم طرح في النار )، هذا هو المفلس حقاً مفلس الآخرة، ومفلس الدنيا مفلس أيضاً؛ الذي ما عنده شيء يقال له: مفلس.
    ولهذا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد المفلس حقاً الذي هو المفلس في الآخرة، الذي يأتي وعنده حسنات، ولكن آذى الناس، وتعدى على الناس، فيؤخذ للذين آذاهم واعتدى عليهم من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى عليه أخذ من سيئاتهم فطرح عليه، ثم طرح في النار، هذا هو المفلس حقاً، وإن كان الذي ليس عنده درهم ولا متاع يقال له: مفلس، لكن هذا هو المفلس حقاً.
    إذاً: هذه الأحاديث هي من هذا الباب: نفي الشيء على الحقيقة والكمال، وإثباته على الحقيقة والكمال في أمر آخر، ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، هو مسكين في الحقيقة لكن ليس هو المسكين حقاً؛ لأن هذا يمد يده يحصل شيئاً يأكله، ما يموت من الجوع؛ لأن الناس يعطونه، وهو يمد يده، لكن الذي يتعفف ولا يمد يده ولا يقوم ويسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه هذا هو المسكين حقاً الذي ينبغي أن يحرص على معرفته حتى توصل إليه الزكاة، وحتى توصل إليه الصدقات.

    تراجم رجال إسناد حديث: ( ليس المسكين بهذا الطواف...) من طريق ثانية


    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ، ثقة، ثبت، وبغلان قرية من قرى بلخ، وبلخ هي إحدى المدن الرئيسية في خراسان، وهي أربع: بلخ وهرات ونيسابور، والرابعة مرو، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن مالك ].
    هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، وهو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر : هو رأس المتقنين، وكبير المثبتين، فهو في القمة في الثقة والعدالة وفي الحديث والفقه رحمة الله عليه، وهو أحد أفراد السلسلة الذهبية عند البخاري، وهي: مالك عن نافع عن ابن عمر، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    وقتيبة بن سعيد يروي عن مالك، ومالك متقدم؛ لأنه توفي سنة 179هـ، وقتيبة عاش تسعين سنة؛ لأنه ولد سنة 150 هـ ومات سنة 240هـ، فعمره تسعون سنة، ولهذا مع كونه متأخراً إلا أنه أدرك المتقدمين؛ لأنه من المعمرين.
    [ عن أبي الزناد ].
    هو عبد الله بن ذكوان المدني، وأبو الزناد لقب على صفة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، ولكنه اشتهر بلقب أبي الزناد الذي هو لقب على صيغة الكنية، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ الأعرج ].
    هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بلقبه الأعرج ، ولهذا يأتي ذكره أحياناً بلقبه وأحياناً باسمه ونسبته، ومعرفة ألقاب المحدثين فائدتها عند المحدثين: أن لا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر مرة باسمه ومرة بلقبه؛ فإن من لا يعرف أن هذا اللقب هو لصاحب هذا الاسم فإنه يظن أن عبد الرحمن بن هرمز شخص، وأن الأعرج شخص آخر، لكن من عرف أن عبد الرحمن بن هرمز لقبه الأعرج فإذا جاء الأعرج في إسناد كما هنا، أو جاء عبد الرحمن بن هرمز في إسناد آخر، فلا يلتبس على من لا يعرف ذلك؛ لأن هذا لقب لصاحب هذا الاسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق، والسبعة الذين عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثرهم أبو هريرة، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وأم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين، فهؤلاء السبعة عرفوا بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    شرح حديث: (ليس المسكين بهذا الطواف...) من طريق ثالثة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا نصر بن علي حدثنا عبد الأعلى حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟! قال الذي لا يجد غنى، ولا يعلم الناس حاجته فيتصدق عليه ) ].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مشتمل على ما اشتملت عليه الطريقة السابقة في بيان المسكين حقاً، وأنه الذي ليس الذي ترده الأكلة والأكلتان، والمراد بالأكلة: اللقمة واللقمتان، الأكلة والأكلتان، والتمرة والتمرتان، فالمراد بالأكلة هي اللقمة، فهي مثل اللقمة التي جاءت في الرواية السابقة، والكلام عليه كالكلام في اللفظ السابق في الرواية السابقة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ليس المسكين بهذا الطواف...) من طريق ثالثة


    قوله: [ أخبرنا نصر بن علي ].هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، يعني: اسمه واسم أبيه يوافق اسم جده وجد أبيه، نصر بن علي بن نصر بن علي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عبد الأعلى ].
    هو ابن عبد الأعلى البصري ، وهو ثقة أيضاً أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا معمر ].
    هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة، أيضاً أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الزهري ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، فقيه، من صغار التابعين، مكثر من رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سلمة ].
    هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة المشهورين في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم؛ لأن الفقهاء فقهاء المدينة السبعة المشهورين بهذا اللقب فيهم ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال، قيل: أبو سلمة الذي معنا هذا، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأما الستة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، فهم: سعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير بن العوام وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، هؤلاء ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال، أحد الأقوال الثلاثة أن السابع منهم هذا الذي معنا في الإسناد، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
    [ عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكره.


    شرح حديث: (إن لم تجدي شيئاً تعطينه إياه إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الرحمن بن بجيد عن جدته أم بجيد رضي الله عنهما -وكانت ممن بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المسكين ليقوم على بابي فما أجد له شيئاً أعطيه إياه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم تجدي شيئاً تعطينه إياه إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه ) ].أورد النسائي حديث أم بجيد حواء ، صحابية بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سألته: إن المسكين يقف على بابها ولم تجد ما تعطيه شيئاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى أن لا ترده بدون شيء، ولو كان ذلك نزراً يسيراً جداً، ولو كان ظلفاً محرقاً، والظلف هو: للغنم والبقر، كالخف للبعير، وكالحافر للفرس، والحمير، يقال: حافر، ويقال: خف، ويقال: ظلف، فالظلف هو للبقر والغنم، والمقصود من ذلك: هذا هو الذي رأس اليدين أو الرجلين، وما يعلق به من الشيء الذي ليس له أهمية، ولكنه ينفع لمن هو محتاج إليه.
    والحديث فيه بيان المسكين، وهو أن من يطوف بالأبواب يقال له: مسكين؛ لأن هذا سائل يقف في الباب يسأل، والنسائي أورد الحديث تحت تفسير المسكين، فهو مسكين، ولكن ليس هو المسكين حقاً، بل المسكين حقاً هو الذي بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس )، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد أم بجيد أنها لا ترد السائل بدون شيء ولو أن تعطيه شيئاً يسيراً، ولو كان ظلفاً محرقاً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن لم تجدي شيئاً تعطينه إياه إلا ظلفاً محرقاً فادفعيه إليه)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو قتيبة بن سعيد، وقد مر ذكره.
    [ عن الليث ].
    هو ابن سعد المصري، ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن أبي سعيد ].
    هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبد الرحمن بن بجيد ].
    معدود في الصحابة، وحديثه أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
    [ عن جدته ].
    هي أم بجيد، واسمها حواء، وهي صحابية بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثها أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي.
    وليس لها إلا هذا الحديث الواحد، وليس لها شيء في البخاري ولا مسلم ولا عند ابن ماجه، ولها عند أبي داود والترمذي والنسائي هذا الحديث الواحد، فما يأتي ذكرها مرة أخرى في غير هذا الموضع في غير هذا الحديث؛ لأن هذا هو الحديث الوحيد لها في هذه الكتب.


    الفقير المختال

    شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله... والعائل المزهو...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الفقير المختال.أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا يحيى عن ابن عجلان سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة: الشيخ الزاني، والعائل المزهو، والإمام الكذاب ) ].
    أورد النسائي حديث الفقير المختال، معناه: ذمه وبيان سوء فعله، وأنه ممن لا يكلمه الله عز وجل يوم القيامة؛ وذلك لسوء فعله وقبح صنيعه، والفقير المختال هو الذي يتكبر مع كونه فقير، يعني معناه: سبب التكبر ليس موجوداً عنده، ولكنه طبع فيه خبيث.. طبع سيء؛ لأن الغالب أن التكبر يأتي مع الغنى كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لكن إذا كان فقيراً وليس عنده أسباب التكبر ومع ذلك يتكبر، فهو سوء إلى سوء، يعني معناه: أنه سوء عظيم؛ لأنه تكبر مع الفقر، فهذا هو الفقير المختال، أي: الذي عنده الخيلاء والتكبر، واتصف بهذه الصفة.
    أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة )، والمقصود: أنه لا يكلمهم كلام تكريم لهم، وإلا فكونهم يكلمون، وكذلك الكفار أيضاً يكلمون تكليم توبيخ وتقريع، فهذا ثابت، والمثبت غير المنفي؛ لأن المثبت هو الكلام الذي فيه التقريع والتوبيخ، كما قال الله عز وجل: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، فهذا كلام، وهو مثبت، ولكنه الكلام الذي فيه التوبيخ والتقريع، والذي نفي هو الكلام الذي فيه التكريم، ( ثلاثة لا يكملهم الله )، يعني: هذا لا ينفي أنه يكلمهم كلام توبيخ، وإنما النفي هو لكلام التكريم الذي فيه تكريم لهم وإحسان إليهم.
    وفي هذا: أن الله تعالى يتكلم إذا شاء كيف يشاء، ويكلم من شاء كيف شاء سبحانه وتعالى، فهو لا يكلم هؤلاء كلام تكريم وإن كان يكلمهم كلام توبيخ وتقريع، وهؤلاء الثلاثة عندهم هذا السوء الذي فيه هذه الصفة، أو في كل واحد منهم صفة، مع أنه ليس هناك ما يكون مدعاة إلى ذلك أو سبباً في ذلك.
    فقال: ( الشيخ الزاني ). يعني: الكبير الهرم الذي نفسه معلقة بالخبث ومرتبطة بالسوء، وليس عنده القوة والشدة التي عند الشاب وفي حال الشباب، ولكن لخبث طويته ولتمكنه في المعصية، ولتورطه في المعصية مع عدم الحافز وعدم الدافع وعدم القوة، يعني: يدل على شدة الخبث؛ لأن الزنا إذا حصل من الشاب عنده قوة وعنده نشاط، لكن إذا حصل من شيخ هرم كبير ليس عنده القوة، يعني: هذا يدل على نهاية الخبث، وعلى شدة الخبث.
    (والعائل المزهو)، الذي عنده الزهو، يعني: يزهو بنفسه، ويترفع بنفسه، ويتعالى بنفسه، ويختال ويتكبر؛ لأن هذا المقصود بالزهو، وهو الذي عناه المصنف بالفقير المختال؛ لأن محل الشاهد هو العائل المزهو، وهو الفقير المختال الذي عقدت التراجم من أجله.
    (والإمام الكذاب)، الحاكم الذي يكذب على الناس؛ لأن الكذب في الغالب يكون لمن هو ضعيف، ولمن هو مضطر إليه، يعني: فيكذب لكونه ضعيفاً، وأما أن يكون ليس عنده ما يقتضيه؛ لأنه ذو ولاية وذو سلطان، فلا يدفعه إلى الكذب إلا سوء الخبث، فهذا يدل على أن من كان كذلك فإنه من هؤلاء الذين لا يكلمهم الله، وهؤلاء الذين ذكروا، يعني: هذه الصفات التي معهم مع عدم وجود ما يدفع إليها؛ لأن الفقير ما عنده غنىً يطغيه، والشيخ الزاني ما عنده القوة، والإمام الكذاب ما عنده شيء يلجئه إلى الكذب؛ لأن الذي يلجأ إلى الكذب هو الضعيف المسكين الذي يقهر ويغلب، فيحتال بالكذب وغير الكذب.


    تراجم رجال إسناد حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله.. والعائل المزهو...)


    قوله: [أخبرنا محمد بن المثنى ].هو العنزي الملقب الزمن، وكنيته أبو موسى، وهو ثقة، ثبت، بصري، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة، وهو من صغار شيوخ البخاري، وهم: محمد بن المثنى ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن بشار وقد مات هؤلاء الثلاثة في سنة واحدة، أي: سنة 252هـ قبل وفاة البخاري بأربع سنوات؛ لأن البخاري توفي سنة 256هـ ، وشيوخه هؤلاء الثلاثة الذين هم من صغار شيوخه: محمد بن المثنى ، ومحمد بن بشار، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ماتوا في سنة واحدة وهي سنة 252هـ.
    [ أخبرنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان، المحدث، الناقد، الثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن عجلان ].
    هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ سمعت أبي يحدث ].
    أبوه هو عجلان مولى فاطمة بنت عتبة ، وهو مدني، قال عنه الحافظ : لا بأس به، وهي تعادل صدوق؛ لأن لا بأس به هي بمنزلة صدوق، إلا عند يحيى بن معين فإنها تعادل ثقة، وهذا اصطلاح خاص بابن معين ، ولهذا يقولون: إن لا بأس به عند ابن معين توثيق، فابن معين يطلق لا بأس به على الثقات الذين هم في القمة، يقولوا عن الواحد منهم لا بأس به، فهذا اصطلاح خاص به، ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقولون.
    وعجلان هذا أيضاً أخرج له الذين أخرجوا لابنه: البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبي هريرة ].
    تقدم ذكره.

    شرح حديث: (أربعة يبغضهم الله عز وجل... والفقير المختال)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو داود حدثنا عارم حدثنا حماد حدثنا عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( أربعة يبغضهم الله عز وجل: البياع الحلاف، والفقير المختال، والشيخ الزاني، والإمام الجائر ) ].أورد النسائي حديثاً آخر لـأبي هريرة، وفيه ذكر أربعة، وفيهم: الفقير المختال وهو الذي يطابق التراجم، والحديث المتقدم العائل المزهو، وهو يعادل الفقير المختال؛ لأنه بمعناه، وهو المقصود بالحديثين، فقال:
    (أربعة يبغضهم الله).
    أربعة يبغضهم الله، وفيه إثبات البغض لله عز وجل، وأنه يبغض من شاء ويحب من شاء.
    ( البياع الحلاف ).
    البياع الحلاف، أي: الذي يكثر الحلف في البيع، وينفق سلعته بالحلف الكاذب كما سبق أن مر في بعض الأحاديث: ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب )، وهنا قال: ( البياع الحلاف )، الذي يبيع ولكن شأنه الحلف، وكلامه في ترويج السلع إنما هو بالحلف، ويكون بالكذب وقد يكون بالصدق، ولا ينبغي للإنسان أن يعود لسانه الحلف ولو كان صادقاً، بل الإنسان يصون لسانه من كثرة الحلف حتى لا يحصل منه ما لا ينبغي، وأما إذا كان الحلف مع الكذب، فهذا سوء إلى سوء والعياذ بالله.
    ( والفقير المختال ).
    والفقير المختال، وهذا هو محل الشاهد، والشيخ الزاني، وقد مر، والإمام الجائر، وهذا مثل ما تقدم إلا أن هناك بوصف الكذاب، وهنا بوصف الجائر، والجور هو ضد العدل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أربعة يبغضهم الله عز وجل... والفقير المختال...)


    قوله: [أخبرنا أبو داود ].هو سليمان بن سيف الحراني، وهو ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [ حدثنا عارم ].
    هو أبو النعمان محمد بن الفضل، لقبه عارم، وكنيته: أبو النعمان، وهو مشهور بكنيته، ومشهور بلقبه، ويأتي ذكره بالكنية، ويأتي ذكره باللقب كما هنا، قال: عارم، وعارم هو: محمد بن الفضل، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا حماد ].
    هو ابن زيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا عبيد الله بن عمر ].
    هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر العمري المصغر، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ].
    هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكره، وكذلك ذكر المقبري.


    فضل الساعي على الأرملة

    شرح حديث: (الساعي على الأرملة والمسكين...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فضل الساعي على الأرملة.أخبرنا عمرو بن منصور حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل ) ].
    أورد النسائي هذه التراجم، وهي: فضل الساعي على الأرملة، والأرملة هي التي لا زوج لها من النساء، وأورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل )، والمراد بالساعي: هو الذي يعمل لتحصيل الشيء الذي يتصدق به على الأرملة وعلى المسكين، أو ينفق به على الأرملة والمسكين، فهو كالمجاهد في سبيل الله؛ لأن هذا مشتغل بالعمل الذي يحصل من وراءه كسباً ليصرفه في هذا السبيل الخير، ألا وهي الصدقة والإحسان على الأرملة التي ليس لها من ينفق عليها، وكذلك المسكين الذي ليس له من ينفق عليه وهو محتاج إلى الصدقة والإحسان، فهو كالمجاهد في سبيل الله عز وجل، وهذا يدل على فضله؛ لأنه شبه بالمجاهد في سبيل الله عز وجل.


    تراجم رجال إسناد حديث: (الساعي على الأرملة والمسكين...)


    قوله: [ أخبرنا عمرو بن منصور ].هو النسائي، وهو ثقة، ثبت، أخرج له النسائي وحده.
    [ حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك ].
    هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    يروي عن مالك ، وقد مر ذكره.
    [ عن ثور بن زيد الديلي ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي الغيث ].
    هو سالم المدني مولى ابن مطيع ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكره.


    المؤلفة قلوبهم

    شرح حديث: (... تعطي صناديد نجد وتدعنا قال: إنما فعلت ذلك لأتألفهم...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المؤلفة قلوبهمأخبرنا هناد بن السري عن أبي الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ( بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهيبة بتربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، فغضبت قريش، وقال مرة أخرى: صناديد قريش، فقالوا: تعطي صناديد نجد وتدعنا؟! قال: إنما فعلت ذلك لأتألفهم، فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد! قال: فمن يطع الله عز وجل إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله يرون أنه خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ].
    أورد النسائي هذه التراجم، وهي: المؤلفة قلوبهم، والمؤلفة قلوبهم هم: أحد الأصناف الثمانية الذين جاء ذكرهم في أهل الزكاة الذين تصرف لهم الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، والمراد بالمؤلفة قلوبهم: هم الذين يراد بإعطائهم المال استمالتهم حتى يدخلوا في الإسلام، ويرغبوا في الدخول فيه، ولهم أتباع يتبعونهم، ويكون بإسلامهم إسلام الفئات من الناس، والخلق من الناس، فهم متبوعون، فيتألفون ليسلموا أو ليقوى إسلامهم، يعني: إما ليدخلوا في الإسلام، أو ليقوى إسلامهم، ويتألفون على الإسلام بحيث يثبتون عليه، ولا يرجعون عنه بعد أن أكرمهم الله عز وجل في الدخول فيه.
    والتأليف يكون لشخص متبوع، يعني: له منزلة وله مكانة، وعظيم في قومه، وكبير في قومه، إذا أسلم أسلم معه الفئام من الناس، فيتألف ويعطى من المال، ومن الزكاة ليثبت على الإسلام، وليسلم بإسلامه الخلق الكثير من الناس، هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم.
    وقد أورد النسائي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان في اليمن بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، المقصود من ذلك أنها قطعة من الذهب لم تصف، فقسمها بين أربعة من كبار القبائل، وهم: الأقرع بن حابس الحنظلي التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم من بني كلاب، يعني: المقصود بهذه نسبة خاصة، والعامري نسبة عامة، يعني: الأولى نسبة عامة، والثانية نسبة خاصة، يعني: هو من القبيلة عموماً، ولكنه على الخصوص من القبيلة الفلانية، فهو مثل ما يذكر الوصف العام ثم الوصف الخاص، مثل ما يقال: عمرو بن عبد الله أبو إسحاق الهمداني السبيعي؛ لأن سبيعاً جزء من همدان.
    ثم أحد بني كلاب؛ لأن بني كلاب هم جزء من بني عامر العامري، جزء ممن ينسب بهذه النسبة، ثم زيد الطائي، ثم من بني نبهان، يعني: من طيء، وهي نسبة عامة، ثم من بني نبهان وهي نسبة خاصة، هؤلاء الأربعة وهم من كبار العرب، وصناديد العرب أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الذهيبة وقسمها عليهم، فقال: [ فغضبت قريش، وقال مرة: صناديد قريش ].
    أي: فغضبت قريش، وقال مرة: صناديد قريش، وقالوا: تعطي صناديد نجد وتدعنا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ( إنما أعطيتهم لأتألفهم )، وهذا هو محل الشاهد، محل الشاهد من إيراد الحديث للتراجم: أعطيتهم لأتألفهم، فيعطى ولو مع غناه، ما يعطى لفقره، بل وهو غني يعطى؛ لأن المقصود هو ليس سد فاقته، وإنما المقصود تألفه، وكونه يسلم بإسلامه الخلق الكثير من الناس، فهو يعطى ولو كان غنياً، ما يعطى لفقره، يعطى ولو كان غنياً؛ لأن المقصود من إعطاؤه هو تأليفه، وأن يدخل في الإسلام، أو يثبت في الإسلام ويقوى في الإسلام؛ ليسلم بإسلامه الخلق الكثير من الناس.
    [ فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين، محلوق الرأس ].
    (فجاء رجل كث اللحية) يعني: كبير اللحية، عظيم اللحية، (ناتئ الجبين) يعني: بارز، (مشرف الوجنتين) يعني: بارز الوجنيتن، (غائر العينين) يعني: داخلة، محلوق الرأس، يعني: هذه صفات ذلك الرجل الذي جاء وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: [ اتق الله يا محمد!] وفي بعض الأحاديث: [ اعدل ]، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
    (فمن يطع الله إن عصيته؟! يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنونني)، يعني: يـأمنني على أهل الأرض إذ يرسلني إليهم كافة لأدعوهم إلى عبادته ولإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأنتم ما تأمنوني على مقدار من المال أقسمه وأضعه حيث أرى المصلحة في وضعه، يأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنونني، يعني: يقوله في حق هذا الرجل الذي قال له: اتق الله! وفي بعض الأحاديث أنه قال: اعدل فإنك لم تعدل، فقال بعض الصحابة: دعني أقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن له، وقيل: إنه خالد بن الوليد، وقال: إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
    ( إن من ضئضئ هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان ).
    والمراد بذلك الخوارج.
    قوله: (إن من ضئضئ هذا)، أي: من نسله، ومن قبيلته، أو من جماعته قوم يقرءون القرآن، يعني: يتصفون بالعبادة، ويعنون بالقرآن، ولكنهم يقرءونه ولا يجاوز حناجرهم، يعني: ما عندهم الإيمان ولا عندهم الفهم، ولكن عندهم الانحراف مع كونهم أهل قرآن ويعنون بالقرآن، ولهذا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ثم قال: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يعني: شأنهم أنهم يخرجون على الإمام، ويقتلون أهل الإسلام ويقاتلونه، وهذا هو الذي حصل؛ فإنهم خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلوه وقاتلهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد جاء في الحديث: أنهم يخرجون على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وقد قاتلهم علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
    ( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ).
    قال بعض أهل العلم: في هذا دليل على أنهم كفار، والمشهور عن أهل العلم أنهم ليسوا كفاراً، ولكنهم ضلال، ولكنهم مبتدعة، ومن المبتدعين الذين أحدثوا في دين الله عز وجل وفهموا النصوص على غير فهمها، وخرجوا على ولي أمر المسلمين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه وقاتلوه وقاتلهم، وقتلهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
    ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ).
    يعني: قتل استئصال، كما قال: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:8]، يعني: أنهم استئصلوا وأهلكوا عن آخرهم بالريح التي تدمر كل شيء بأمر ربها، وأصبح لا يرى إلا مساكنهم.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... تعطي صناديد نجد وتدعنا قال: إنما فعلت ذلك لأتألفهم...)


    قوله: [أخبرنا هناد بن السري ].هو أبو السري الكوفي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبي الأحوص ].
    هو سلام بن سليم الحنفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن مسروق عن عبد الرحمن بن أبي نعم].
    هو والد سفيان الثوري؛ لأن سفيان هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، فسعيد بن مسروق هو والد سفيان الإمام المشهور، وأبوه سعيد بن مسروق ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ابن أبي نعم، عبد الرحمن بن أبي نعم، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقد ذكر في ترجمته أنه عبد الرحمن بن أبي نعم بضم النون وإسكان العين.
    [ عن أبي سعيد الخدري ].
    هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته أبو سعيد ، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    الصدقة لمن تحمل بحمالة

    شرح حديث: (... إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الصدقة لمن تحمل بحمالة.أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم (ح) وأخبرنا علي بن حجر واللفظ له أخبرنا إسماعيل عن أيوب عن هارون عن كنانة بن نعيم عن قبيصة بن مخارق رضي الله عنه أنه قال: ( تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألته فيها، فقال: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة بين قوم فسأل فيها حتى يؤديها ثم يمسك ) ].
    أورد النسائي ترجمة: الصدقة لمن تحمل بحمالة وهو: الذي غرم مالاً لإصلاح ذات البين لإطفاء فتنة، ولتخليص الناس من إراقة الدماء، وإزهاق الأنفس، فأصلح بين الناس، وتحمل هذا المقدار، أو تحمل مقداراً من المال، فإن هذا تحل له المسألة؛ حتى يحصل ذلك المبلغ الذي تحمله ثم يمسك.
    وقد أورد النسائي حديث قبيصة بن مخارق ، وقد ذكره هنا مختصراً، ذكر الثلاثة، ولكنه ما ذكر إلا واحداً منهم، وهو الذي محل الشاهد للتراجم، وأورد بعد ذلك الحديث من طريق أخرى، وهو مشتمل على ذكر الثلاثة بالتفصيل، هنا ذكرهم إجمالاً ولم يذكرهم تفصيلاً، بل ذكر واحداً منهم، وهو الذي المقصود بالتراجم، أو الذي تدل عليه التراجم، أو الذي هو شاهد للتراجم.


    تراجم رجال إسناد حديث (... إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة ...)


    قوله: [أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي ].ثقة، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن حماد ].
    هو حماد بن زيد بن درهم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن هارون بن رئاب ].
    ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود والنسائي.
    [ عن كنانة بن نعيم ].
    ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
    [ ح ].
    (ح)، وهي تدل على التحول من إسناد إلى إسناد.
    [ وأخبرنا علي بن حجر ].
    هو ابن إياس المروزي السعدي ، وهو ثقة، حافظ، أخرج حديثه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
    [ واللفظ له ].
    واللفظ له، أي: اللفظ للشيخ الثاني، وليس للشيخ الأول الذي هو يحيى بن حبيب بن عربي.
    [ أخبرنا إسماعيل ].
    هو إسماعيل بن علية ، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أيوب ].
    هو أيوب بن أبي تميمة السختياني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن هارون عن كنانة ].
    وقد مر ذكرهما في الإسناد السابق، الذي حصل التحول منه إلى هذا الإسناد.
    [ عن قبيصة بن مخارق ].
    هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي. يعني: هؤلاء الثلاثة الذين هم: هارون بن رئاب وكنانة بن نعيم وقبيصة بن مخارق أخرج لهم جميعاً هؤلاء الثلاثة: مسلم وأبو داود والنسائي.

    شرح حديث (... إن الصدقة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة...) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن النضر بن مساور حدثنا حماد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم عن قبيصة بن مخارق رضي الله عنه أنه قال: ( تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسأله فيها، فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا قبيصة! إن الصدقة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه قد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش، فما سوى هذا من المسألة يا قبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتاً ) ].أورد النسائي حديث قبيصة بن مخارق من طريق أخرى وهو مشتمل على ذكر الثلاثة الذين تحل لهم المسألة، وأولهم الذي مر ذكره في الحديث السابق هو الذي تحمل الحمالة، والذي له أن يسأل حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش، وما تقدم: أنه حتى يصيب قوماً من عيش ثم يمسك، يعني: يسدد هذا المبلغ الذي تحمله للإصلاح بين الناس.
    (ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله ).
    (فاجتاحت ماله) يعني: حصل له نكبة، وحصل له أمر قضى على ماله، فكان بعد أن كان غنياً أصبح فقيراً، فإن له أن يسأل حتى يحصل ما يسد به فاقته، وما يكون به قضاء حاجته.
    ( ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه قد أصابت فلاناً فاقة ).
    (ورجل أصابته فاقة) يعني: فقر، يعني: كان فقيراً؛ فيشهد ثلاثة من أهل الحجا، يعني: من أهل العقول، الحجا هو العقل؛ لأن الحجا والنهى المقصود بها العقول، فيشهد ثلاثة من أهل الحجا من قومه أن فلاناً أصابته فاقة، فتحل له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش ثم يمسك، يعني: لا يستمر في السؤال ويدوم على السؤال، وينتهي عمره وهو في السؤال، وإنما ترخيص مؤقت وليس دائماً مستمراً.
    (فما سوى هذا من المسألة).
    قال: فما سوى ذلك فهو سحت يأكله صاحبه سحتاً، يعني: ما سوى ذلك، يعني: من المسألة فهو سحت، الإنسان الذي يسأل لغير هذه الأمور الثلاثة هو من السحت، وما يأخذه هو سحت، يعني: يحرم عليه السؤال؛ لأنه إنما يحصل بسؤاله سحتاً، والسحت هو: الحرام الذي لا خير فيه ولا بركة فيه.

    تراجم رجال إسناد حديث (... إن الصدقة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة...) من طريق أخرى


    قوله: [ أخبرنا محمد بن النضر بن مساور ].صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي.
    [ حدثنا حماد عن هارون بن رئاب حدثني كنانة بن نعيم عن قبيصة بن مخارق ].
    وقد مر ذكر هؤلاء الأربعة.


    الصدقة على اليتيم

    شرح حديث: (... نعم صاحب المسلم هو إن أعطى منه المسكين...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: الصدقة على اليتيم.[ أخبرني زياد بن أيوب حدثنا إسماعيل بن علية: أخبرني هشام حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني هلال عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ( جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: إنما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح لكم من زهرة، وذكر الدنيا وزينتها، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: ما شأنك؟ تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكلمك، قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح الرحضاء، وقال: أشاهد السائل؟ إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت ثم بالت ثم رتعت، وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو إن أعطى منه اليتيم والمسكين وابن السبيل، وإن الذي يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة ) ].
    أورد النسائي هذه التراجم وهي: الصدقة على اليتيم، واليتيم هو: الذي فقد أباه الذي يحسن إليه ويرعاه، فالصدقة عليه من خير الصدقات، ومن أفضل الصدقات، وقد أورد النسائي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، وقال: (إنما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح لكم من زهرة، وذكر الدنيا وزينتها) الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه لا يخشى عليهم الفقر، ولكن يخشى أن تفتح عليهم الدنيا، وما يحصل فيها من المتع واللذات.
    (فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر). يعني: هذه الدنيا التي يفتحها الله علينا، وهي رزق يسوقه الله إلينا أو يأتي الخير بالشر؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم سكت، وكان يوحى إليه، ثم أفاق وقد انتهى الإيحاء إليه يمسح عن وجهه الرحضاء، وهي: العرق الذي يكون كثيراً على الجلد، وهو بسبب الإيحاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد كان في اليوم الشاتي عندما يوحى إليه يتصبب عرقاً، حتى ينتهي الإيحاء إليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، (فأفاق يمسح الرحضاء عن وجهه)، وهي العرق الكثير الذي غطى الجلد، واستوعب الجلد لكثرته.
    (فقال: أشاهد السائل؟). يعني معناه: أنه يقابله، أو أشاهد السائل؟ يعني: هل الذي سأل حاضر حتى يجيبه إلى سؤاله، ثم قال عليه الصلاة والسلام (إنه لا يأتي الخير بالشر).
    (وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم).
    ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلين: أحدهما: للذي هو مفرط في جمع الدنيا وتحصيلها، والتهالك عليها، وأن ذلك يفضي به إلى الهلاك، أو إلى مقاربة الهلاك، وكذلك الذي ليس كذلك، وإنما هو مقتصد، وليس مفتتناً في الدنيا، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم)، إن مما ينبت الربيع، يعني: ما يحصل من النبات في الربيع، ما يكون سبباً في قتل البهائم أو يلم، يعني: يقارب القتل، يعني: من شدة المرض وشدة التضرر من كونها توسعت في الأكل، وأكلت من كل ما تجده من هذا الربيع حتى حصل الاحتباس في بطونها، فتضررت فحصل لها الهلاك أو ما يقارب الهلاك، وهذا مثل للذي يفتتن في الدنيا ويجمعها من أي طريق، ويأخذها من أي طريق، فإنه يكون هذا شأنه؛ فإما يكون ذلك سبباً في هلاكه، أو إما يقارب هلاكه.
    قال: (إلا آكلة الخضر). وهذا هو المثل الثاني للذي هو دون ذلك، وقيل: هذا استثناء منقطع، لكن آكلة الخضر، وهي: الدابة التي تأكل الخضر التي هي نوع من أنواع البقول، والتي تكون قليلة، أو قيل: إنها تكون في آخر الربيع فتأكلها الدابة، وإذا امتلأت خاصرتاها وشبعت بركت واستقبلت عين الشمس لتستمرئ هذا الذي أكلته ولتستريح.
    (فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت ثم بالت ثم رتعت).
    فأكلت، فثلطت ثم بالت، يعني: أنه خرج ما في بطنها، يعني: انتفعت به، وخرج ما في بطنها مما هو أذى، وهذا هو شأن الذي لا يكون متهالكاً على الدنيا ومفتتناً في الدنيا، بل يأكل منها ما يكفيه، ويستعمل منها ما يكفيه، فتكون نتيجته أو شأنه مثل هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الدابة التي هي آكلة الخضر التي انتفعت به، ثم ثلطت، يعني: خرج منها بسهولة ويسر، ولم يحصل لها الأذى الذي حصل للتي أكلت من أنواع البقول في شدة الربيع، وفيه ما يضر البهائم، ويكون سبباً في احتباس الطعام في أجوافها، مما يكون سبباً في هلاكها وفنائها.
    (وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم هو).
    نعم صاحب المسلم المال الذي يضعه في موضعه، يأخذه من حله، ويضعه فيما شرع أن يوضع فيه، يعني: نعم المال الصالح للرجل الصالح، نعم صاحب المسلم هو، يعني: المال.
    (إن أعطى منه اليتيم والمسكين وابن السبيل).
    إن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وهذا هو محل الشاهد، يعني: الصدقة على اليتيم، إن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، نعم المال إن كان ينتفع به وينفع غيره، فنعم المال لهذا الرجل.
    ( وإن الذي يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة ) .
    وإن الذي يأخذه من غير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، لا يحصل بركة، ولا يحصل منه فائدة، بل دائماً يأكل وشهيته متفتحة فلا يشبع، فهو دائماً وأبداً في نهمة، ولكنه لا يستفيد من هذا الأكل؛ فهو طعام ورزق منزوع البركة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... نعم صاحب المسلم هو إن أعطى منه المسكين...)


    قوله: [أخبرني زياد بن أيوب ].هو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
    [ حدثنا إسماعيل بن علية ].
    وقد مر ذكره.
    [ أخبرني هشام ].
    هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني يحيى بن أبي كثير ].
    هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ، وهو ثقة، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني هلال ].
    هو هلال بن علي ، ويقال: ابن أبي ميمونة، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عطاء بن يسار ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سعيد ]، وقد مر ذكره.

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (409)

    - (باب الصدقة على الأقارب) إلى (باب فضل من لا يسأل الناس شيئاً)


    حبب الشرع الصدقة على الأقارب وأنها تعتبر فوق ذلك صلة، وذم سؤال الناس لغير الضرورة، وأن ذلك يذهب ماء الوجه من الحياء حتى يأتي فاعله يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، ويشرع لصاحب الحاجة أن يسأل أهل الصلاح والخير؛ لأنهم أولى بالإحسان من غيرهم.
    الصدقة على الأقارب

    شرح حديث: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الصدقة على الأقارب.أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد حدثنا ابن عون عن حفصة عن أم الرائح عن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة) ].
    يقول النسائي رحمه الله: الصدقة على الأقارب.
    الصدقة على الأقارب إذا كانوا أصولاً وفروعاً فإنها لا تكون عليهم الصدقة، ولكن إذا كانوا ليسوا بأصول ولا بفروع كالإخوان، والأخوات، والخالات، والعمات، فإنها تحل لهم الصدقة، لكن لا ينبغي للإنسان أن يجعل الزكاة أو الصدقة وقاية لماله فيعطيها أقاربه من أجل أن يسلم من إعطائهم شيئاً من ماله، فيجعلها وقاية للمال، ويكون إعطاؤه أقاربه من الصدقة حتى يسلم ماله فلا يؤخذ منه شيئاً غير الصدقة؛ لأن الأقارب لهم حق غير الزكاة؛ الأقارب لهم حق وإن لم يكن الإنسان ذا زكاة، وهذا من صلة الأرحام، لكن إذا كان المال قليلاً ولا يتسع لإعطاء الأقارب من المال، فكونه يعطي أقاربه زكاته إذا كانت قليلة لا شك أنه أولى؛ فالأقارب الذين لا تجب عليه نفقتهم هم أولى الناس ببره وإحسانه ومعروفه، وهي صدقة وصلة.
    وعلى هذا فالصدقة على الأقارب فيها تفصيل؛ هناك أناس لا تصرف لهم الصدقة وهم الأصول والفروع، وهنالك من تحل لهم الصدقة وهم غير الأصول والفروع، لكن لا يجوز أن تتخذ الصدقة أو الزكاة وقاية للمال، فيتخلص من حقوقهم عليه بإعطائهم الصدقة أو الزكاة، ليسلم من حقوقهم التي هي عليه؛ لأن القريب له حق القرابة وحق الصلة فلا يجعلها وقاية لماله. فإذا كان المال قليلاً فالزكاة أو الصدقة هم أحق بها.
    وقد أورد النسائي حديث سلمان بن عامر رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( الصدقة على المسكين صدقة )، وهي على القريب صدقة وصلة، فهي على القريب اثنتان صدقة وصلة. أما المسكين الذي هو ليس بقريب فالصدقة عليه صدقة فقط؛ لأنه ما هناك علاقة تربطه بالمتصدق، وإذا كان المسكين الذي يعطيه المتصدق قريباً فهي صدقة وصلة، صدقة عليه وصلة له، وهذا يدلنا على أن الأقارب أولى الناس بالبر والإحسان، فمن حيث التطوع وصدقة التطوع هم أولى الناس بها إذا كانوا محتاجين.
    وبالنسبة للزكاة التي هي الصدقة الواجبة -كما أسلفت- فإنه لا يصلح أن تعطى للأصول والفروع، وإذا كان المال قليلاً وزكاته قليلة ولا يتسع المال لإعطاء الأقارب منه، واحتاج إلى أن يعطيهم من الزكاة، فإن ذلك لا بأس به؛ لأنها صدقة وصلة، وأولى الناس ببره وإحسانه وصدقته هم أقاربه، ومن تربطهم به قرابة، فهم أولى الناس ببره وإحسانه.
    فالحديث يدل على فضل الصدقة على الأقارب، وأن الصدقة عليهم تجمع بين خصلتين محمودتين، وهما: الإحسان بالتصدق، وكذلك الصلة لذوي الأرحام بأن يصل إليهم بره وإحسانه وصدقته عليهم.


    تراجم رجال إسناد حديث: (إن الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ].هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني البصري، وهو ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود في كتاب القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [حدثنا خالد ].
    هو ابن الحارث البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا ابن عون ].
    هو عبد الله بن عون البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن حفصة ].
    هي حفصة بنت سيرين، وهي ثقة، أخرج لها أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أم الرائح ].
    هي الرباب بنت صليع، وهي مقبولة، أخرج حديثها البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن سلمان بن عامر ].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري وأصحاب السنن الأربعة.


    شرح حديث: (تصدقن ولو من حليكن... لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا بشر بن خالد حدثنا غندر عن شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنساء: ( تصدقن ولو من حليكن، قالت: وكان عبد الله خفيف ذات اليد، فقالت له: أيسعني أن أضع صدقتي فيك وفي بني أخ لي يتامى، فقال عبد الله: سلي عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا على بابه امرأة من الأنصار يقال لها: زينب تسأل عما أسأل عنه، فخرج إلينا بلال رضي الله عنه، فقلنا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسله عن ذلك ولا تخبره من نحن، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: من هما؟ قال: زينب، قال: أي الزيانب؟ قال: زينب امرأة عبد الله وزينب الأنصارية ، قال: نعم، لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة ) ].أورد النسائي حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن بلال رضي الله تعالى عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( تصدقن ولو من حليكن )، الحديث فيه شيء عن زينب وفيه شيء لم تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بواسطة بلال حيث سأل وأخبرهن، فالحديث أوله هو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب النساء، وقال للنساء: ( تصدقن ولو من حليكن )، فكانت زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود سألت زوجها عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، قالت: أيسعني أن أجعل صدقتي فيك وفي أبناء أخ لي أيتام، فقال لها: سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت لتسأله، ووقفت في الباب، ووجدت امرأة حاجتها مثل حاجتها، أنصارية اسمها زينب تريد أن تسأل نفس السؤال الذي تسأل عنه زينب الثقفية ، فوقفتا وقالتا لبلال : انطلق واسأله، ولا تخبره من نحن، فأخبره بأن امرأتان تسألان -يعني: بالباب- عن كذا وكذا، فقال: من هما؟ قال: زينب، قال: أي الزيانب، قال: زينب امرأة عبد الله وزينب الأنصارية ، وكان قد أخبره بسؤالهما، فقال: نعم، لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة ].
    (لهما أجران) يعني: لهاتين المرأتين السائلتين أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة، (أجر القرابة وأجر الصدقة)، أي: أجر صلة القرابة، وأجر الصدقة، فهو مثل الحديث الذي تقدم: ( الصدقة على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقة وصلة )، وهذا الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لـبلال ليخبر به هاتين المرأتين هو مثل الكلام في الحديث السابق، لهما أجر القرابة، وأجر الصدقة، أي: أجر صلة القرابة، أجر صلة القرابة.
    وأجر الصدقة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال للنساء: ( تصدقن ولو من حليكن )، فيه: الحث على الصدقة ولو كانت من هذه الأشياء التي تكون حاجة النساء إليها قائمة، وهي الحلي التي تتجمل به لزوجها، وهذا يدل على أنها ليست الصدقة الواجبة؛ لأن قوله: ( تصدقن ولو من حليكن ) يشعر بأنها غير الصدقة الواجبة؛ لأن الزكاة إنما تجب في المال الذي بلغ النصاب وحال عليه الحول، وهنا قال: تصدقن ولو من حليكن، وهو ما لا تستغني عنه المرأة، والذي تحتاجه المرأة للتجمل الذي هو الحلي، فالحديث يشعر أنه ليس في الزكاة الواجبة، لكن السؤال الذي قالته امرأة عبد الله يشعر بأنه إنما هو لصدقة واجبة؛ لأنه لو كان المقصود بالصدقة المندوبة المستحبة لكان أمرها هين، وتوضع في الفقير الذي يحتاجها، والذي يستحقها، وهي صدقة وصلة، لكن الشيء الذي يحتاج إلى معرفته هو الزكاة الواجبة، هل توضع في القريب المحتاج أو لا توضع؟ عرفنا آنفاً التفصيل الذي فيه، وأن الأصول والفروع لا تكون الصدقة لهم، وأما غير الأصول كالحواشي، فإن الصدقة لهم فيها التفصيل الذي أشرت إليه، حيث لا يكون هناك وقاية للمال بأن يتخلص الإنسان من حق القرابة بدفع الزكاة للأقارب؛ ليتخلص بذلك من الحقوق التي على القريب بسبب القرابة.
    ( تصدقن ولو من حليكن )، فقالت امرأة عبد الله: أيسعني؟ يعني: تسأله، يعني: قد يكون عنده علم في ذلك، فلم يكن عنده علم، فأحالها إلى أن تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يسأل هو ولم يشأ أن يسأل، يعني: يبدو استحياءً؛ لأن كونه يذهب ويستفتي هل زوجته تعطيه صدقتها؟ يعني: قد يكون هناك شيء يقتضي أن لا يفعل ذلك، بل جعلها هي التي تسأل؛ لأنها صاحبة الصدقة وصاحبة الزكاة، فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجدت على الباب امرأة حاجتها كحاجتها، فطلبت من بلال أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يخبره من هما، يعني: المقصود أنه لا يقول فلانة وفلانة تسألني عن كذا وكذا ابتداءً، فلا ينافي كونه لما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم قال: فلانة وفلانة؛ لأن المقصود أنه لا يخبر ابتداءً؛ لأنها قالت له: لا تخبر من نحن، يعني: أرادت منه أن لا يقول: فلانة وفلانة تسأل عن كذا وكذا، وإنما يقول: امرأتان تسألان عن كذا وكذا، فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم من هما؟ أجابه، فقال: زينب امرأة عبد الله وزينب الأنصارية، فكونه أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي قولهن له: لا تخبره من نحن؛ لأن المقصود أنه لا يخبرهن بالسؤال، لا يقول له: فلانة وفلانة تسألني عن كذا وكذا، قل: امرأتان تسألان عن كذا وكذا، لكن إذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فيجاب، ولا ينافي هذا كونه يقال: إنه خالف ما أردن منه؛ لأنه لم يخالف؛ لأن المقصود من ذلك هو أنه لا يخبر ابتداءً، فيقول: فلانة وفلانة تسألاني، أما إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم من هما؟ فيتعين عليه أن يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يخبره بأسمائهما، فلا تنافي بين هذا وهذا.
    فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( لهما أجر القرابة وأجر الصدقة )، (لهما أجر القرابة)، أي: أجر صلة القرابة، (وأجر الصدقة)، وهذا هو محل الشاهد للترجمة من الحديث؛ الشاهد من الحديث للترجمة: الصدقة على الأقارب، وهو متفق مع حديث سلمان بن عامر المتقدم: (وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة).


    تراجم رجال إسناد حديث: (تصدقن ولو من حليكن... لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة)


    قوله: [أخبرنا بشر بن خالد ].ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
    [حدثنا غندر ].
    هو محمد بن جعفر البصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وغندر لقب اشتهر به محمد بن جعفر، ويأتي كثيراً باسمه، ويأتي أحياناً بلقبه كما هنا، ومعرفة ألقاب المحدثين نوع من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفة ذلك النوع: أن لا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر باسمه في بعض المواضع وذكر بلقبه في بعض المواضع؛ فالذي لا يعرف أن غندر لقب لـمحمد بن جعفر البصري يظن أن محمد بن جعفر شخص وأن غندر شخص آخر، لكن من عرف ذلك لا يلتبس عليه هذا، فهنا ذكر محمد بن جعفر البصري بلقبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وهو من أعلى صيغ التعديل وأرفعها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سليمان ].
    هو سليمان بن مهران الكاهلي الأعمش، ويأتي باسمه كما هنا، ويأتي بلقبه الأعمش كثيراً، فهو مثل محمد بن جعفر، يأتي باسمه ويأتي بلقبه، وقد جاء محمد بن جعفر بلقبه هنا، ويأتي الأعمش كثيراً بلقبه، وقد جاء باسمه هنا، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي وائل ].
    هو شقيق بن سلمة الكوفي ، وهو ثقة، مخضرم، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته أبو وائل ، ومشهور باسمه أيضاً، ولهذا يأتي في بعض الأحاديث شقيق بن سلمة، وفي بعضها شقيق بدون نسبة، ويأتي في بعضها بكنيته كثيراً كما هنا أبو وائل، وفائدة معرفة كنى أصحاب الأسماء هي مثل فائدة معرفة ألقاب المحدثين، وهي أن لا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر بكنيته في بعض المواضع وذكر باسمه في بعض المواضع، فمن لا يعرف الحقيقة يظن أن هذا شخص وهذا شخص، ومن يعرف الحقيقة لا يلتبس عليه الأمر، وحديث شقيق بن سلمة أبو وائل أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمرو بن الحارث ].
    هو عمرو بن الحارث الثقفي، وهو ابن أخي زينب الثقفية، امرأة عبد الله بن مسعود، يعني: يروي عن عمته، يعني: عمرو بن الحارث الثقفي يروي عن عمته زينب الثقفية، فهو رواية قريب عن قريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن زينب ].
    هي زينب بنت معاوية الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    والحديث كما ذكرت أوله يعني: هو عن زينب؛ لأن قول الرسول: (تصدقن ولو من حليكن)، هذا الراوية له زينب، لكن آخره الذي فيه الصدقة والصلة لم تسمعه زينب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت في الباب، ولكنها أرسلت رسولاً، وواسطة بينها وبينه وهو بلال، ولهذا قال: [ نعم لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصلة] فالحديث أوله عن زينب نفسها، وآخره عن بلال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.


    المسألة

    شرح حديث: (لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلأً فيعطيه أو يمنعه)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ المسألة.أخبرنا أبو داود حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب : أن أبا عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه أو يمنعه ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: المسألة، يعني: ذمها، المقصود من الترجمة ذمها، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يصير إليها إلا إذا كان مضطراً إليها كما سبق أن مر وكما سيأتي، كما سبق أن مر في حديث قبيصة بن مخارق وكما سيأتي أيضاً.
    الإنسان إذا سأل وهو محتاج معذور فهذا ليس بمذموم، ولكن المذموم هو الذي يسأل وعنده ما يكفيه، أو يستكثر بالسؤال، ويتكثر بالسؤال، أما من كان مضطراً إلى السؤال وهو غير قادر على العمل وليس عنده شيء يغيثه فإن هذا يكون معذوراً، وعلى هذا فالمسألة فيها تفصيل، وقد عرفنا ذلك فيما مضى، ونعرف هنا، وكذلك سيأتي أيضاً حديث قبيصة بن مخارق من طريق أخرى، وهو دال على التفصيل الذي أشرت إليه، وأورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه أو يمنعه ).
    هذا الحديث يدلنا على أن الإنسان الذي ليس عنده شيء، ولكن عنده القدرة على الاكتساب أن يكتسب ولو كان ذلك الاكتساب فيه مشقة؛ لأن مشقة التعب والنصب الذي يحصل من وراءه الرزق أسهل وأهون من مشقة ذل السؤال وما يترتب عليه من الذلة وسؤال الناس؛ ولأن الخيرية هنا يعني: من أجل أن هذه فيها مشقة، وهذه فيها مشقة، ولكن المشقة التي تكون بهذا التعب وبهذا النصب أهون وأحسن وأفضل من المشقة التي تكون بالذلة، وكون الإنسان يمد يده مع أنه قادر على العمل والاكتساب.
    قوله: (لأن يحتزم أحدكم حزمة على ظهره)، يعني: يذهب ويأتي بحزمة حطب يحملها على ظهره فيبيعها ويستفيد منها ويقتات منها خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه، سواء أعطاه أو منعه، إن أعطاه فذاك أهون، وأن منعه فحصل الذل وما حصلت الفائدة، يعني: ما حصلت الفائدة من ما أقدم عليه من كونه أذهب ماء وجهه بالسؤال، ومع ذلك لم يحصل على طائل، فهو قال: في الحالين، سواء أعطاه أو منعه، سواء حصل أو لم يحصل، يعني معنى هذا: أن السؤال لا ينبغي أن يصار إليه إذا كان الإنسان قادر على الاكتساب أو عنده ما يكفيه.


    تراجم رجال إسناد حديث: (لأن يحتزم أحدكم حزمة حطب على ظهره فيبيعها خير من أن يسأل رجلاً فيعطيه أو يمنعه)


    قوله: [ أخبرنا أبو داود ].هو سليمان بن سيف الحراني، وهو ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [حدثنا يعقوب بن إبراهيم ].
    هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا أبي ].
    هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.
    [ عن صالح ].
    هو صالح بن كيسان المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو: ثقة، فقيه، من صغار التابعين، مكثر من رواية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قام بجمع السنة بتكليف من الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمة الله على الجميع، وهذا، أي: القيام بالجمع بصفة رسمية بتكليف من والي الأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وإلا فإن الكتابة كانت من قبل؛ كتابة الصحابة لأنفسهم الأحاديث، فمن كان منهم كاتباً فإنه كان يكتب لنفسه كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يكتب لنفسه كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ولكن بتكليف من والي الأمر فأول من قام بذلك الزهري بتكليف من عمر بن عبد العزيز، ولهذا يقول السيوطي في الألفية:
    أول جامع الحديث والأثر ابن شهاب آمراً له عمر
    [ أن أبا عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر ].
    هو سعد بن عبيد، كنيته أبو عبيد، واسمه سعد بن عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق عنه.

    شرح حديث: (ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة من لحم)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: سمعت حمزة بن عبد الله يقول: سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة من لحم ) ].أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم )، لما أورد الحديث المتقدم الذي فيه كونه يحتزم حزمة على ظهره ويبيعها ويصبر على هذا التعب والنصب، وأنه خير له من أن يسأل أحداً يعطيه أو يمنعه أرشد إلى ذم السؤال وذم المسألة، وأن الإنسان يلحق الضرر بنفسه، وأنه يسأل حتى يذهب ماء الحياء عن وجهه، فيأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم.
    يعني معناه: كما أنه أذل نفسه بالسؤال، وأذهب ماء الحياء من وجهه بإقدامه على السؤال، وإكثاره من السؤال، واشتغاله بالسؤال، حيث قال: (ما يزال) يعني معناه: أنه يحصل منه تكرار ذلك، ومداومة ذلك.
    (يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)، فسر بعدة تفسيرات؛ أنه يأتي ذليلاً كما أنه كان ذليلاً في الدنيا بسؤاله، وهو يدل على الذلة وعلى المهانة، أو أنه عومل بمثل ما حصل منه، أو بشيء يوافق ما حصل منه، وهو أنه لما أذهب ماء الحياء عن وجهه بهذه الذلة، فإنه يأتي ووجهه يوم القيامة على هذه الهيئة التي فيها إذهاب لحم وجهه، بحيث يأتي وليس في وجهه مزعة لحم، فتكون العقوبة من جنس العمل، فتكون العقوبة في الوجه كما أن الإنسان أذهب ماء الحياء من وجهه بامتهانه السؤال، وإلحاحه في السؤال، وتكرار السؤال منه، وكثرة السؤال منه.
    وقد عرفنا أن هذا فيما إذا لم يكن هناك من ضرورة تدعو إلى ذلك، أما إذا كان هناك ضرورة تدعو إليه فقد جاء ما يدل على جوازه كما في حديث قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه.


    تراجم رجال إسناد حديث: (ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة من لحم)

    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ].هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن شعيب ].
    هو ابن الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
    [ عن الليث بن سعد ].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبيد الله بن أبي جعفر ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ سمعت حمزة بن عبد الله ].
    هو حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أخو سالم.
    [ سمعت عبد الله بن عمر ].
    صحابي ابن صحابي، هو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    شرح حديث: (... لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي حدثنا أمية بن خالد حدثنا شعبة عن بسطام بن مسلم عن عبد الله بن خليفة عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه: ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله فأعطاه، فلما وضع رجله على أسكفة الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً ) ].أورد النسائي حديث عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه: أن رجلاً جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ولما كان في أسكفة الباب، يعني: في عتبة الباب، يعني: يريد أن يخرج، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    ( لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً )، يعني: لو تعلمون ما فيها من الذلة ومن العقوبة، ومن المعلوم أن ذلك حيث لا يكون هناك ضرورة تدفع إلى ذلك، ما مشى أحد إلى أحد، وأما بالنسبة للذلة والمهانة فهي موجودة، يعني: في الدنيا، يعني: لكن المضطر إليها معذور، وغير المضطر ليس بمعذور.
    ( لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً )، يعني: هذا فيه تحذير وتنفير من المسألة، وأن الإنسان لا يستهين بها، ويقول: إن كونه يمد يده ويعطى شيئاً تكون غنيمة باردة بدون تعب وبدون مشقة، بل هي في الحقيقة فيها مشقة، وهي مشقة ذل السؤال، وإذهاب ماء الحياء من الوجه، لكن بعض الناس لا يكترث بذلك، فلهذا نجد أن بعض المحترفين لمهنة السؤال يصعب عليه أن يتركها، بل سمعنا أن بعض هؤلاء السائلين يوجد عنده من الأموال الطائلة الشيء الكثير؛ لأنه اعتاد ذلك، وماء الحياء ذهب عن وجهه فصار لا يحصل تعباً، وإنما يمد يده بدون حياء، فيعطى ما يعطى، ثم يكدس الأموال الطائلة، ثم يذهب عنها ويأخذها غيره من الورثة، فيكون هو حصلها من هذا الطريق الغير المشروع، وغيره هو الذي استفاد منها.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي ].ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
    [ حدثنا أمية بن خالد ].
    صدوق، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وهو: أخو هدبة بن خالد شيخ البخاري ومسلم، والذي يقال له: هداب ، يعني: يأتي ذكره هدبة ، وأحياناً هداب ، فهذا هدبة بن خالد وهذا أمية بن خالد.
    [ حدثنا شعبة عن بسطام بن مسلم ].
    شعبة، قد مر ذكره.
    وبسطام بن مسلم، ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود في المسائل، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عبد الله بن خليفة ].
    مجهول، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن عائذ بن عمرو ].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرج حديثه البخاري ومسلم والنسائي.


    سؤال الصالحين

    شرح حديث: (... وإن كنت سائلاً لابد فاسأل الصالحين)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ سؤال الصالحين.أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشي عن ابن الفراسي أن الفراسي رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أسأل يا رسول الله؟! قال: ( لا، وإن كنت سائلاً لا بد فاسأل الصالحين ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: سؤال الصالحين، المقصود من هذه الترجمة هو: أن السائل إذا احتاج الإنسان إلى أن يسأل فليسأل أهل الصلاح وأهل الاستقامة الذين هم مظنة أن يجيبوا وأن يحققوا الرغبة، وأيضاً إذا صار الإحسان منهم فهو أولى وأفضل من الإحسان من غيرهم، وكون الإنسان يمد يده لرجل صالح غير كونه يمد يده لرجل فاسق، فهذا أولى، فهو أولى من هذه الناحية، وأيضاً من أجل تحقيق المراد أنه مظنة أن يحصل ما يريد عندما يسأل رجلاً صالحاً يقدر على تحقيق رغبته، فهذا هو المقصود من هذه الترجمة.
    وقد أورد النسائي حديث الفراسي.
    [ قال الفراسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟! قال: ( لا، وإن كنت سائلاً لا بد فاسأل الصالحين )].
    جاء الفراسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أسأل يا رسول الله؟، يعني: يستأذنه أو يسأله هل يسأل؟ يعني: الناس، فقال: لا، يعني: لا تسأل، وإن كنت سائلاً ولا بد، أي: إن كنت سائلاً لا بد من السؤال وأنت مضطر إلى ذلك، وأنت محتاج إلى ذلك، فاسأل الصالحين.
    الحديث يدل على ما ترجم له النسائي من حيث أن الإنسان يسأل الصالحين، وهو من حيث المعنى مستقيم؛ لأن سؤال الصالحين كما أشرت أولى من سؤال الفساق، وكون الإنسان يمد يده لرجل صالح يسأله قضاء حاجة خير من أن يمد يده لفاسق من أجل يقضي له حاجة.
    ثم أيضاً: المقصود من السؤال هو: الحصول على المراد، وسؤال من يكون صالحاً ومن يكون مستقيماً فيه مظنة تحقيق المراد، لكن الحديث فيه من هو مقبول ولم يتابع، فليس بصحيح، وقد ذكره الألباني في ضعيف سنن النسائي، لكن من حيث المعنى -يعني: كما أشرت- لا شك أنه مستقيم من جهة أن الإنسان يسأل صالحاً خيراً من كونه يسأل فاسقاً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... وإن كنت سائلاً لا بد فاسأل الصالحين)

    قوله: [أخبرنا قتيبة ].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة ].
    وقد مر ذكره.
    وجعفر بن ربيعة المصري، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن بكر بن سوادة ].
    هو بكر بن سوادة المصري أيضاً، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن مسلم بن مخشي ].
    مقبول، أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
    [ عن ابن الفراسي ].
    وابن الفراسي قال الحافظ ابن حجر: إنه ابن الفراسي عن رسول الله، وقيل: ابن الفراسي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف اسمه، ومن المعلوم أن الذي جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم صحابي، لكن ابنه هذا الذي أخبر عن أبيه أنه جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف، وفي بعض الأسانيد أن الحديث عن ابن الفراسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ابن الفراسي هو الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون مثل أبيه، يعني: إما هذا وإما هذا، إما أبوه وإما هو، فمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو صحابي؛ لأنه تشرف بلقي الرسول صلى الله عليه وسلم وبصحبته، لكن الإسناد فيه مسلم بن مخشي وهو مقبول، فالحديث من الإسناد غير مستقيم، ولكنه من حيث المعنى لا شك أنه مستقيم؛ لأن سؤال من هو صالح وأهل الاستقامة وأهل الصلاح أولى من سؤال أهل الفسق.


    الاستعفاف عن المسألة

    شرح حديث: (... ومن يستعفف يعفه الله...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الاستعفاف عن المسألة.أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله عز وجل، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر ) ].
    أورد النسائي الاستعفاف عن المسألة، يعني: بعد أن ذكر المسألة، وذكر ذم المسألة، ذكر هذه الترجمة وهي الاستعفاف عن المسألة، كون الإنسان يستعف ولا يذل نفسه للسؤال، وإذا كان عنده قدرة على تحصيل ما يقيته بدون سؤال صار إلى ذلك، ولا شك أن هذا هو المطلوب، وهذا هو الذي ينبغي، وهذا هو الذي فيه غنى النفس؛ لأن من استغنى أغناه الله، ومن استعفف أعفه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خير من الصبر، فكون الإنسان يصبر على الفقر، ويصبر على الشدة، ويجتهد في تحصيل ما يريد عن طريق غير السؤال، فهذا هو الذي ينبغي، لكنه إذا اضطر إلى السؤال، فقد عرفنا أن ذلك سائغ، كما مر وكما سيأتي.
    وقد أورد النسائي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: أن ناساً من الأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم جاءوا إليه فأعطاهم، يعني: كرروا المسألة حتى نفذ ما عنده، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يكون عندي شيء فأدخره عنكم، يعني: ما يكون عندي شيء فأدخره وأبقيه لنفسي، واستأثر به عنكم، بل أعطيه لكم، وأعطيه من يستحقه، ولا يبقى عندي شيء، وقد سبق أن مر بنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بأصحابه مرة، ولما فرغ من الصلاة، انصرف عنهم وقام بسرعة مسرعاً، وذهب إلى بيته، فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم خشوا أن يكون هناك أمر يخشى منه، فخرج عليهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه، يعني: ما الذي جعله يفعل أمراً ما كان يفعله من قبل، فقال: إنه شيء من ذهب، كان عنده وكان نسيه، فأراد أن يبادر -لما ذكر- إلى إخراجه وتوزيعه، فهو كما قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ما يكون عندي شيء فأدخره عنكم، يعني: فإنما هو لكم، وأعطيه من يستحقه، ثم أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستعفاف والاستغناء، وقال: ومن يستعفف يعفه الله، يعني: يعطيه الله عز وجل ما يكفيه، ويجعله عفيفاً، ويجعله غني النفس، وإذا وجد غنى النفس وجد الغنى الحقيقي؛ لأنه كما جاء في الحديث: (ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس)، يعني: ليس الغنى كثرة المال؛ لأنه قد يكون المال كثيراً والنفس غير غنية، فتجده ما يشعر بأن عنده مال، بل يبحث عن الاستزادة والتكثير من المال، فإذا وجد غنى النفس سواء صار اليد فيها شيء، أو لم يكن فيها شيء فهذا هو الغنى الحقيقي، الغنى غنى النفس، سواء إن وجد معه غنى اليد أو ما وجد معه غنى اليد، ( من يستعفف يعفه الله ).
    ( ومن يصبر يصبره الله ) من يصبر على الفاقة، وعلى الحاجة وعلى قلة ذات اليد ولا يقدم على سؤال الناس يصبره الله، يعني: يرزقه الله الصبر، ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر، فهذا له فضل وهذا له فضل، وكلام العلماء أيهما أفضل؟ هذا أو هذا؟ فإذا صبر على فقره ولم يذل نفسه بالسؤال، وسعى لتحصيل الرزق بالطرق المشروعة على حسب ما يستطيع، وعف نفسه، فهذا خير له، ثم قال: ( وما أعطي أحد عطاءً هو خير وأوسع من الصبر )، لأن الإنسان إذا كان صابراً محتسباً فسواء كان بيده شيء أو ما بيده شيء هو على خير؛ لأن نفسه غنية، وهو صبور، وهو على صبره مأجور.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... ومن يستعفف يعفه الله ...)

    قوله: [أخبرنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد ].قتيبة عن مالك عن ابن شهاب، وقد مر ذكرهم.
    و عطاء بن يزيد، هو الليثي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي سعيد ].
    أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    شرح حديث: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أ، يأتي رجلاً ... فيسأله أعطاه أو منعه) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا علي بن شعيب أخبرنا معن أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله عز وجل من فضله فيسأله أعطاه أو منعه ) ].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى المتعلق بكون الإنسان يأخذ حبله ويأتي بحزمة من حطب فيبيعها ويستفيد منها، خير من أن يسأل أحداً أعطاه الله من فضله، فيعطيه أو يمنعه، يعني: هذا يدل على أن الإنسان يستعف ويستغني ويبذل ما يستطيع لتحصيل الرزق بالطرق المشروعة، ولا يصير إلى السؤال وإلى ذل السؤال؛ لأن في ذلك استعفاف، يعني: يستعف عن الناس وعن ما في أيدي الناس، ويفعل ما يستطيع في سبيل الحصول على الرزق من الوجه المشروع.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً ... فيسأله أعطاه أو منعه) من طريق أخرى


    قوله: [أخبرنا علي بن شعيب ].ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ أخبرنا معن ].
    هو معن بن عيسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أثبت أصحاب مالك.
    [ أخبرنا مالك عن أبي الزناد ].
    هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، المشهور، الإمام، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة.
    وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان ، لقبه أبو الزناد، لقب على صفة الكنية، وكنيته أبو عبد الرحمن، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الأعرج ].
    هو عبد الرحمن بن هرمز ، مشهور بلقبه، ويأتي بلقبه أحياناً وباسمه أحياناً، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    وقد مر ذكره.


    فضل من لا يسأل الناس شيئاً


    شرح حديث: (من يضمن لي واحدة وله الجنة... أن لا يسأل الناس شيئاً)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فضل من لا يسأل الناس شيئاً.أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا ابن أبي ذئب حدثني محمد بن قيس عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من يضمن لي واحدة وله الجنة )، قال يحيى : ها هنا كلمة معناها: أن لا يسأل الناس شيئاً ].
    ثم أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: فضل من لا يسأل الناس شيئاً، يعني: كما أن عدم السؤال فيه عزة النفس، وفيه غنى النفس، وفيه الابتعاد عن ذل النفس، فأيضاً فيه فضل وفيه أجر، وأن له الجنة كما جاء في الحديث الذي أورده النسائي هنا، وهو حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي واحدة وله الجنة) ثم قال يحيى كلمة معناها: أن لا يسأل الناس شيئاً، يعني: أن اللفظ الحقيقي أو اللفظ الصيغة التي جاءت في الرواية ما كان يحيى يضبطها بلفظها، ولكنه ذكرها بالمعنى، قال يحيى كلمة معناها: كذا، يعني معناه: أنه رواية بالمعنى لهذا اللفظ، أما الأول فهو باللفظ فليس فيه إشكال، وإنما الجملة الأخيرة التي هي الواحدة أو تفسير الواحدة، هي كونه لا يسأل الناس شيئاً، يعني: هذا هو المعنى، وليس هو اللفظ تماماً.
    وقوله: لا يسأل الناس شيئاً بعد قوله: (من يضمن لي واحدة وله الجنة)، كونه يذكر الشيء ويذكر ثوابه دون أن يسميه فيه تطلع، أو يجعل السامع يتطلع إلى معرفة هذا الشيء الذي هذا شأنه، وأنها واحدة يكون بها ضمان الجنة، فقال: لا يسأل الناس شيئاً، أو كلمة معناها هذه الكلمة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (من يضمن لي واحدة وله الجنة... أن لا يسأل الناس شيئاً)


    قوله: [ أخبرنا عمرو بن علي ].هو عمرو بن علي الفلاس، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان، وهو ثقة، ناقد، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا ابن أبي ذئب ].
    هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثني محمد بن قيس ].
    هو محمد بن قيس المدني، وهو ثقة، أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
    [ عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ].
    هو عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهو صدوق، أخرج حديثه النسائي وابن ماجه.
    [عن ثوبان ].
    مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

    شرح حديث: (لا تصلح المسألة إلا لثلاثة ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا هشام بن عمار حدثنا يحيى وهو ابن حمزة حدثني الأوزاعي عن هارون بن رئاب أنه حدثه عن أبي بكر عن قبيصة بن مخارق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( لا تصلح المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابت ماله جائحة، فيسأل حتى يصيب سداداً من عيش ثم يمسك، ورجل تحمل حمالة فيسأل حتى يؤدى إليهم حمالتهم ثم يمسك عن المسألة، ورجل يحلف ثلاثة نفر من قومه من ذوي الحجا بالله: لقد حلت المسألة لفلان، فيسأل حتى يصيب قواماً من معيشة ثم يمسك عن المسألة، فما سوى ذلك سحت ) ].أورد النسائي حديث قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه، [ فضل من لا يسأل الناس شيئاً ].
    فضل من لا يسأل الناس شيئاً، الحديث ليس واضحاً في الترجمة؛ لأن الحديث في الفضل، وهذا ليس فيه شيء يدل على الفضل، وإنما فيه بيان أن المسألة تحل لهؤلاء الثلاثة، لكن ما فيه تصريح وشيء يدل على الفضل، يعني: فضل من لا يسأل الناس شيئاً، الحديث السابق واضح الدلالة على المقصود؛ لأن من يضمن لي واحدة أضمن له الجنة أن لا يسأل الناس شيئاً، فهذا يدل على الفضل، لكن هذا الحديث الذي معنا حديث قبيصة ليس فيه دلالة على الفضل، ولكن فيه دليل على حل المسألة لهؤلاء الثلاثة الذين هم من اجتاحت ماله جائحة فذهب ماله، ويسأل حتى يحصل سداداً أو قواماً من عيش، يعني: يفيده، أو تحمل حمالة لإصلاح بين الناس حتى يؤدي هذا الذي تحمله إلى من تحمله لهم، أو إنسان ذو فاقة فيحلف ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ومن أهله ومن العارفين به أنه حلت به فاقة فيسأل حتى يحصل سداداً من عيش أو قواماً من عيش، ثم قال: (وما سوى ذلك سحت)، (وما سوى ذلك)، يعني: ما سوى هذه الأمور الثلاثة، أو السؤال في هذه الأحوال الثلاثة فهو سحت، وهذا يدلنا على أن المسألة المذمومة التي فيها الوعيد هي التي لم يرخص فيها، أو التي ما حصل الترخيص فيها من أجل الضرورة، أما إذا كان من أجل ضرورة والإنسان يقتصر على ما يدفع به تلك الضرورة فإن هذا ليس معذباً أو ليس مذموماً ذلك الذم الذي ورد في الأحاديث المتقدمة.
    وحديث قبيصة بن مخارق هذا سبق أن مر ذكره من طرق متعددة في من تحمل حمالة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا تصلح المسألة إلا لثلاثة: ...)

    قوله: [ أخبرنا هشام بن عمار ].صدوق، أخرج حديثه البخاري وأصحاب السنن الأربعة.
    [ حدثنا يحيى وهو ابن حمزة ].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثني الأوزاعي ].
    هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي ، ثقة فقيه، فقيه الشام ومحدثها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن هارون بن رئاب ].
    ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
    [ عن أبي بكر ].
    هو كنانة بن نعيم الذي سبق أن مر ذكره في الأسانيد السابقة باسمه، وكنيته أبو بكر، فجاء هنا بالكنية وفي أحاديث الروايات السابقة باسمه كنانة بن نعيم، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي.
    [ عن قبيصة ].
    قبيصة، وحديثه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي .

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (410)

    - (باب حد الغنى) إلى (باب مسألة الرجل ذا سلطان)



    بيّن الشرع الحنيف حد الغنى، ونهى عن الإلحاف في السؤال، وبيّن حده، وأن الصدقة لا تحل لغني وقادر على الكسب، وجوز السؤال في أمر لابد منه، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة.
    حد الغنى

    شرح حديث: (... قيل: يا رسول الله! وماذا يغنيه ... قال: خمسون درهماً أو حسابها من الذهب)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حد الغنى.أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة، قيل: يا رسول الله! وماذا يغنيه؟ أو ماذا أغناه؟ قال: خمسون درهماً أو حسابها من الذهب )، قال يحيى : قال سفيان: وسمعت زبيداً يحدث عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ].
    يقول النسائي رحمه الله: حد الغنى، أي: المقصود الغنى الذي ليس للإنسان أن يسأل، وعنده ذلك المقدار الذي يغنيه ويكفيه، هذا هو المقصود بالغنى، وليس المقصود بالغنى الغنى الذي يقابل الفقر الذي يكون معه المال الذي يزكى، وكون الإنسان يكون عنده المال الذي يحول عليه الحول ويزكيه، الذي هو النصاب فأكثر، ليس هذا هو المقصود هنا؛ لأن الغنى يراد به الغنى الذي يكون معه إخراج الزكاة لكونه غنياً، والغنى الذي عنده ما يكفيه، فلا يسأل الناس، ولا يمد يده للناس؛ لأن عنده ما يكفيه، والذي في التراجم هنا: الغنى الذي ليس للإنسان أن يسأل، والغنى الذي فيه حصول الزكاة، وهو المقابل الفقير، هو الذي جاء في حديث معاذ بن جبل في بعث النبي صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليمن، وفيه: (أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فالغني في هذا الحديث: هو الذي يخرج الزكاة، وعنده مال يزكى، ويقابله الفقير الذي هو بخلافه، ولكن الغنى الذي هنا غير الغنى الذي في حديث: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)؛ لأن ذلك الغنى الذي يكون معه إخراج الزكاة، ووجود مال يزكى، والغنى هنا الذي ليس للإنسان أن يسأل، وعنده ذلك المقدار الذي يغنيه ويكفيه، هذا هو المقصود بالتراجم.
    وأورد النسائي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
    ( من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة )كدوحاً بالدال.
    خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة، يعني: جاءت مسألته على هذه الوصف، وعلى هذه الهيئة، خموشاً وكدوحاً في وجهه، والخموش هي: التي تكون في الوجه نتيجة لخمش شيء له، إما عود أو حديد، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يكون فيها تغيير البشرة بتشققها نتيجة لأشياء تمر عليها تجرحها وتجعلها متغيرة، أو كدوحاً وهي بمعناها، (أو) للشك، يعني: هل قال الرسول: خموشاً أو قال كدوحاً؟ وهي بمعنى واحد.
    [ قيل: يا رسول الله، ماذا يغنيه، أو ماذا أغناه؟ ].
    لأن الذي جاء في الحديث: وله ما يغنيه، فسأله عن المراد بهذا الغنى الذي يمنعه من السؤال، قالوا: وما الذي يغنيه؟ أو ما الذي أغناه؟ حتى لا يكون أهلاً للسؤال، وحتى لا يجوز له أن يسأل، قال: قدر خمسين.
    (خمسون درهماً أو حسابها من الذهب).
    خمسون درهماً التي هي وقية وربع، وهي ربع النصاب في الزكاة؛ لأن نصاب الفضة مائتا درهم، والخمسون هي ربعها، يعني: من كان عنده ما يعادل ربع النصاب من الفضة، أو ما يعادل هذا المقدار من الفضة من الذهب، فعنده ما يغنيه وليس له أن يسأل.
    الحاصل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل وله ما يغنيه جاءت)، أي: مسألته خموشاً، أو كدوحاً يوم القيامة، وهذا فيه أن الإنسان يؤاخذ، ويعاقب، ويجازى يوم القيامة وفقاً لما حصل منه، وذلك لأنه أراق ماء وجهه، وأذهب ماء وجهه في سؤال الناس، وهو غير محتاج إلى سؤالهم، وغير مضطر إلى ذلك، فتأتي يوم القيامة مسألته على هذا الوصف في وجهه، وكان عقابه أن يكون ذلك ظاهراً على وجهه، كما أضاع، أو أتلف، أو أذهب ماء وجهه في سؤال الناس، وكونه لم يستحِ ولم يبالِ، فإن ذلك الجزاء يكون على وجهه يوم القيامة خموشاً أو كدوحاً، وعندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القيد في ذم المسألة، وهو أن له ما يغنيه، سألوه عن الذي يغنيه، والذي يكفيه بحيث لا يكون أهلاً للسؤال، فقال عليه الصلاة والسلام: ( خمسون درهماً أو ما يعادلها من الذهب ).
    الحاصل أن الحديث مطابق للتراجم، من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم بين حد الغنى الذي يمنع المسألة، والذي لا يسوغ معه سؤال الناس، وهو أن يكون عنده قدر خمسين درهماً أو ما يعادلها من الذهب.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... قيل: يا رسول الله! وماذا يغنيه .... قال: خمسون درهماً أو حسابها من الذهب)


    قوله: [ أحمد بن سليمان ].هو أحمد بن سليمان الرهاوي، وهو ثقة، حافظ، أخرج له النسائي وحده.
    [ عن يحيى بن آدم ].
    هو يحيى بن آدم الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سفيان الثوري ].
    هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثقة، ثبت، فقيه، إمام، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن حكيم بن جبير ].
    ضعيف، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.
    [ عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ].
    ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبيه ].
    هو عبد الرحمن بن يزيد النخعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبد الله بن مسعود ].
    هو عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من فقهاء الصحابة وعلمائهم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكانت وفاته سنة 32هـ، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو ليس من العبادلة الأربعة المشهورين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم في طبقة واحدة من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأما عبد الله بن مسعود فإنه متقدم عليهم لمدة طويلة، وكان متقدم الوفاة، وهؤلاء من صغار الصحابة، أدركهم من لم يدرك ابن مسعود، وأخذ عنهم من لم يأخذ عن ابن مسعود، فـابن مسعود قال بعض أهل العلم: أنه أحد العبادلة، لكن الصحيح والمشهور أن العبادلة هم في طبقة واحدة، وهم من طبقة صغار الصحابة الذين عاشوا بعد ابن مسعود وأدركهم من لم يدرك ابن مسعود، وحديث عبد الله بن مسعود أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    ثم إن النسائي أشار أو ذكر إلى أن سفيان الثوري روى الحديث من طريق أخرى غير هذه الطريق التي فيها الرجل الضعيف، وهي طريق قوية، وهي أن سفيان روى الحديث من طريق أخرى عن زبيد اليامي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، فعلى هذا فالحديث جاء من طريقين: طريق فيها مقدوح ومجروح، وطريق فيها ثقة، وهو زبيد بن الحارث اليامي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    وعلى هذا فوجود الضعيف بالإسناد الأول لا يؤثر شيئاً على صحة الحديث؛ لأن الحديث ثابت بالطريق الثانية التي فيها رواية سفيان عن زبيد بن الحارث اليامي، وزبيد في الإسناد بدل حكيم بن جبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.


    باب الإلحاف في المسألة

    شرح حديث: (لا تلحفوا في المسألة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الإلحاف في المسألة: أخبرنا الحسين بن حريث ، قال: أخبرنا سفيان ، عن عمرو ، عن وهب بن منبه ، عن أخيه، عن معاوية رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا تلحفوا في المسألة، ولا يسألني أحد منكم شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته ) ].أورد النسائي هذه التراجم وهي: الإلحاف في المسألة، وهي: شدة الطلب والإلحاح في المسألة، هذا هو المقصود بالإلحاف بها، فـالنسائي أورد حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه تحت هذه التراجم، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تلحفوا في المسألة )، لا تلحفوا، أي: لا تطلبوا وتشتدوا في الطلب، فإنه لا يسألني أحد فأعطيه وأنا كاره فيبارك له فيه؛ لأن الإنسان قد يشتد عليه في الطلب، ويبالغ فيه، فيدفع للتخلص من هذا الإلحاح، وهذا الإلحاف الذي قد حصل، لكن يكون عن غير طيب نفس، وعدم ارتياح للإخراج.
    فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الإلحاف في المسألة، وأرشد إلى أنه قد يعطي وهو كاره لهذا الإعطاء، لكن بسبب هذا الإلحاف أعطى، فيقول عليه الصلاة والسلام: إذا كان الأمر كذلك أو أعطى الإنسان وهو كاره مع إلحافه ولشدته في الطلب، فإنه لا يبارك له في ذلك الذي أعطي، وإنما يكون الإنسان يسأل عند الضرورة، ولا يلحف في المسألة ولا يشتد في المسألة، لا يلحف فيها، لا يشتد بها، ولا يشدد في الطلب، وإنما يسأل بدون إلحاف، وبدون شدة، وتضييق على المسئول.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا تحلفوا في المسألة ...)

    قوله: [ أخبرنا الحسين بن حريث ].هو المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن سفيان ].
    هو ابن عيينة، سفيان بن عيينة الهلالي المكي، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمرو ].
    هو عمرو بن دينار المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن وهب بن منبه ].
    ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه فإنه أخرج له في التفسير فقط، ولم يخرج له في السنن.
    [ عن أخيه ].
    هو همام بن منبه، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن معاوية ]
    هو ابن أبي سفيان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    من الملحف

    شرح حديث: (من سأل وله أربعون درهماً فهو الملحف)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ من الملحف؟أخبرنا أحمد بن سليمان أخبرنا يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من سأل وله أربعون درهماً فهو الملحف) ].
    أورد النسائي بعد ما ذكر النهي عن الإلحاف في المسألة عقد هذه التراجم بعدها، وهي: من الملحف؟ من هو الملحف الذي يتوجه إليه النهي؟ فأورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، يعني: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من سأل وعنده أربعون درهماً فهو الملحف )، التي هي وقية وهي خمس نصاب الفضة؛ لأن نصاب الفضة مائتا درهم، والأربعون هي خمسها، فمن سأله وعنده هذا المقدار الذي هو أربعون درهماً، وهو خمس النصاب الذي تجب فيه الزكاة، فإنه هو الملحف الذي جاء النهي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإلحاف في المسألة، فلما ذكر النهي عن الإلحاف أتى بهذه التراجم بعدها لبيان من هو الملحف؟ وهو الذي عنده ما يكفيه، أو عنده ما يغنيه عن المسألة، وذلك أربعون درهماً فأكثر.


    تراجم رجال إسناد حديث: (من سأل وله أربعون درهماً فهو الملحف)


    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان عن يحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور ].الثلاثة الأولون تقدم ذكرهم، وهم أحمد بن سليمان الرهاوي ويحيى بن آدم الكوفي، وسفيان بن عيينة المكي، هؤلاء تقدم ذكرهم.
    [ عن داود بن شابور ].
    ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ].
    هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، هذا هو عمرو بن شعيب ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، وأصحاب السنن الأربعة.
    يروي عن أبيه شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وهو أيضاً صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وفي جزء القراءة وأصحاب السنن الأربعة.
    وشعيب بن محمد يروي عن جده عبد الله بن عمرو، والمقصود بالجد هو جد شعيب، وليس جد عمرو الذي هو جده الأول، وإن كان ذاك جده؛ لأن جد أبيه جد له، لكن المقصود أن عمرو يروي عن أبيه شعيب، وشعيب يروي عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى هذا فيكون متصلاً ولا انقطاع فيه؛ لأن شعيباً بن محمد بن عبد الله بن عمرو ثبت سماعه من جده عبد الله بن عمرو، فالحديث متصل، ولا انقطاع فيه، وبعض العلماء يقول: إن الضمير يرجع إلى عمرو فيكون يروي عن أبيه شعيب، وشعيب يروي عن أبيه محمد، ومحمد يروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون منقطعا مرسلا؛ لأن محمداً ما أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن على القول المشهور عن أهل العلم، وأن عمرو يروي عن أبيه شعيب ، وشعيب يروي عن جده، يكون الحديث متصلاً لا انقطاع فيه، وقد سبق أن مر بنا قريباً حديث فيه هذا التفصيل، وهو أن عمرو روى عن أبيه شعيب، وشعيب روى عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تقدمت الإشارة إليهم قريباً.

    شرح حديث: (من استغنى أغناه الله عز وجل ... ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة حدثنا ابن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته وقعدت، فاستقبلني وقال: ( من استغنى أغناه الله عز وجل، ومن استعف أعفه الله عز وجل، ومن استكفى كفاه الله عز وجل، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف )، فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية فرجعت، ولم أسأله ].أورد النسائي حديث أبي سعيد الخدري، وهو دال على ما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم، وذلك أن أبا سعيد الخدري أرسلته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المقصود من الإرسال هو السؤال كما جاء في آخر الحديث، وجاء وجلس فاستقبله الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: ( من استغنى أغناه الله).
    (من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله)، (ومن استكفى كفاه الله عز وجل، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف).
    (ومن سأل وله قيمة أوقية)، يعني: أوقية أو ما يساويها أو مقدارها، (فقد ألحف)، وهذا فيه بيان التراجم، والشاهد للتراجم وهي: من الملحف، هو الذي يسأل وله قيمة أوقية، يعني: مقدار أوقية، أوقية أو ما يعادلها، فقد ألحف، ففيه بيان: من هو الملحف؟ وهي التراجم التي عقدها النسائي، وهو أنه يسأل وله أوقية أو ما يعادلها أو قيمتها، والأوقية كما عرفنا هي أربعون درهماً؛ لأن النصاب خمس أواق كما سبق أن مر في الحديث: ( ليس فيه ما دون خمس أواق صدقة)؛ لأن الأوقية أربعون درهماً، والنصاب مائتا درهم، ففيه بيان الشاهد للتراجم، وأن من كان كذلك فهو الملحف، والجمل الثلاث التي تقدمت فيها أن الجزاء من جنس العمل، فمن استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله.
    [ قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية ].
    فقلت: أي: قال أبو سعيد : ناقتي الياقوتة -اسمها الياقوتة- خير من أوقية؛ لأن الرسول قال: عنده قيمة أوقية، فهذا عنده ناقة وهي خير من أوقية، فرجع ولم يسأل، وهذا يبين أنه كان ذاهباً للسؤال، وأن أمه أرسلته للسؤال، ولكنه لما سمع هذا الكلام رجع دون أن يسأل؛ لأن عنده أكثر من أوقية، وهي هذه الناقة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (من استغنى أغناه الله... ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف...)


    قوله: [ أخبرنا قتيبة ].هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وبغلان قرية من قرى بلخ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن أبي الرجال ].
    هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن المشهور أبوه بأبي الرجال ، وعبد الرحمن بن أبي الرجال، وأبو الرجال وهو: محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، مشهور بهذه الكنية التي هي أبو الرجال، وهي لقب في الحقيقة وليست كنية، ولكنها على صيغة الكنية؛ لأن له أولاداً، له عدة أولاد رجال، فأطلق عليه ذلك، فقيل له: أبو الرجال ، وعبد الرحمن هذا هو ابن أبي الرجال، وهو صدوق يخطئ، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.
    تكنيته بهذا اللقب لها وجه؟
    كما هو معلوم سببه كون له أولاد، قيل: أنهم عشرة، أو قريب من ذلك، فقيل له: أبو الرجال، هذا هو سبب التلقيب.
    [ عن عمارة بن غزية ].
    لا بأس به، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة، وكلمة لا بأس به هي بمعنى: صدوق دون الثقة، إلا عند يحيى بن معين فعنده لا بأس به توثيق تعادل ثقة، في اصطلاح يحيى بن معين أنه إذا قال عن شخص: لا بأس به، فيعني أنه ثقة.
    [ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ].
    ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة، مثل عمارة بن غزية ، الذين خرجوا لـعبد الرحمن هم الذين خرجوا لـعمارة بن غزية المتقدم الذي هو تلميذه.
    [عن أبيه أبي سعيد الخدري] .
    هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته أبو سعيد، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري وعائشة أم المؤمنين، ستة رجال وامرأة واحدة.


    إذا لم يكن له درهم وكان له عدلها

    شرح حديث: (... من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها.قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع: عن ابن القاسم أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: ( نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقالت لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسله لنا شيئاً نأكله، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك، فولى الرجل عنه وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليغضب على أن لا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً، قال الأسدي : فقلت: للقحة لنا خير من أوقية، والأوقية أربعون درهماً، فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله عز وجل ) ].
    [ (إذا لم يكن عنده دراهم وكان له عدلها) ].
    إذا لم يكن عنده دراهم وكان له عدلها، يعني: ما يساويها ويقابلها؛ لأن التراجم السابقة: من هو الملحف؟ أو حد الغنى، يعني: كون عنده خمسون درهماً، أو أربعون درهماً، والملحف من له أربعون درهماً ويسأل، قال: إذا لم يكن له أربعون نقودا، ولكن عنده ما يعادلها، وما يقابلها ويساويها من غير النقود، يعني: فالحكم كذلك، فأورد النسائي حديث الأسدي الذي نزل هو وأهله في البقيع، أي: في ناحيته وجهته، وليس معنى ذلك أنهم نزلوا في المقبرة، ولكنهم نزلوا في جهتها أو على حدها أو على طرفها، فقالت امرأته: لو ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته لنا شيئاً نأكله، فذهب إليه وإذا عنده رجل يسأله، يعني: حاجته مثل حاجته، فاكتفى بسؤال ذلك السائل الذي سبقه، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا أجد ما أعطيك إياه)، فرجع الرجل وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك تعطي من شئت؟
    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغضب عليّ أن لا أجد ما أعطيه).
    ثم بعد ذلك قال: (من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً).
    ثم قال: (من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً)، ومحل الشاهد منه قوله: أو عدلها؛ لأنه ذكر الأوقية، ثم قال: (أو عدلها)، ومحل التراجم إذا لم يكن عنده دراهم، ولكن عنده عدل هذه الدراهم، ففيه: التنصيص على عدل الدراهم، وما يعادلها ويساويها من الأموال الأخرى التي هي غير الدراهم، ( من سأل وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً ).
    قال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية، يعني: معهم لقحة، وهي خير من أوقية، وهذا من جنس حديث أبي سعيد المتقدم الذي قال: ناقتي الياقوتة هي خير من أوقية، يعني: فهذا أيضاً فهمه مثل فهم هذا، وقياسه مثل قياسه؛ لأنه قال: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أربعون درهماً وهي أوقية، وعنده شيء أحسن منها وهي الناقة، فرجع ولم يسأل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه بعد ذلك شعير وزبيب، فأعطاهم نصيباً من هذا الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
    (قسم لنا منه حتى أغنانا الله عز وجل)، قوله: (فقسم) بالتشديد، أي أنه قسم لهم فأعطاهم قسماً منه.
    فقسم منه حتى أغنانا الله، يعني معناه: أنه حصل لهم غنى بعد ذلك، بسبب الاستعفاف كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من استغنى أغناه الله، ومن استعف عفه الله ).

    تراجم رجال إسناد حديث: (... من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافاً ...)


    قوله: [ قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع ]. قال النسائي : قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وهذه من العبارات التي يعبر بها النسائي في روايته عن شيخه الحارث بن مسكين ، وفي بعضها يقول: أخبرني الحارث بن مسكين ، أو أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وفي بعض الأسانيد ما يقول: أخبرنا، ولكن يقول: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وذلك أن النسائي له مع الحارث بن مسكين حالتان: حالة كان راضياً عنه، وكان يأذن له في حضور درسه، فكان يسمع، وفي هذه الحال يقول: أخبرنا قراءة عليه وأنا أسمع؛ لأنه مأذون له في السماع، والنسائي قصد تحمله وتحمل غيره، وفي بعض الأحوال حصل بينه وبينه وحشة، فكان لا يريده أن يحضر مجلسه، ولا أن يأخذ عنه الحديث، فكان يأتي ويجلس من وراء ستار ويسمع، ولكنه يميز هذا بأن لا يقول: أخبرني؛ لأن الحارث بن مسكين ما قصد إخباره، بل منعه من أن يأتي إلى درسه وإلى مجلسه، فكان يقول: قال الحارث بن مسكين: قراءة عليه وأنا أسمع، يعني: قال هذا الكلام وهو يسمع، ولم يقل: أخبرني؛ لأنه ما قصد إخباره، بل لم يرد إخباره، بل أراد أن لا يحضر إلى مجلسه، فكان يفرق بين ما سمعه في الحالتين التي كان مأذوناً له، يقول: أخبرني الحارث بن مسكين ، والحالة التي كان من وراء الستار ويسمع، يقول: قال الحارث بن مسكين ، والعلماء اعتبروا هذا، يعني: الإنسان إذا سمع وإن لم يقصده بالتحديث، فإنه ما دام سمعه فيتحمل عنه، وإن كان الحديث لغيره وليس له، فإنه يتحمل عنه، وهي من طرق التحمل، ويجوز التحمل بهذه الطريقة، والحارث بن مسكين هو مصري، ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي.
    [ قوله: عن ابن القاسم ].
    هو عبد الرحمن بن القاسم صاحب الإمام مالك، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود في المراسيل، والنسائي.
    [ عن مالك ].
    هو ابن أنس إمام دار الهجرة، المحدث المشهور، الإمام أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن زيد بن أسلم ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عطاء بن يسار ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ (عن رجل من بني أسد) ].
    عن رجل من بني أسد، هو مبهم، ومعلوم أن الشخص المبهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في حكم المعلوم، المجهول فيهم في حكم المعلوم، فيكفي أن يضاف الشخص إلى صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يذكر عنه أنه صحابي ولو كان غير معروف شخصه، أو معروف حاله، فإنه لا يسأل عن من وصف بأنه صحابي، ولهذا فإنه ما من راو من رجال الإسناد إلا ويحتاج إلى معرفة حاله وشخصه، إلا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج الأمر إلى ذلك، بل يكفي أن يقال عن الواحد منهم: أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكفيهم ذلك شرفاً وفضلاً؛ لأن من عدله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يحتاج بعد ذلك إلى تعديل المعدلين، وتوثيق الموثقين.

    شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا هناد بن السري عن أبي بكر عن أبي حصين عن سالم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ) ]. أورد النسائي حديث أبي هريرة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي)، لا تحل الصدقة لغني؛ لأن الصدقة إنما تعطى للفقراء لا للأغنياء، ولهذا جاء في حديث معاذ : (تؤخذ من أغنيائهم)، فيؤخذ منهم ولا يعطوا الأغنياء، تؤخذ منهم الصدقات، ولا يعطوا شيئاً من الصدقات؛ لأن الصدقات إنما هي للفقراء والمساكين، وليست للأغنياء، لكن سبق أن عرفنا أنه لو أخرج زكاته لشخص يظن أنه فقير فتبين أنه غني، فإنها تجزئ، وقد سبق أن مر بنا الحديث في ذلك، حديث الرجل الذي خرج بصدقته وحلف أن يخرج الصدقة، ووضعها في يد غني، وفي يد زانٍ وفي يد سارق، والصدقة لا تعطى للغني، الغني تؤخذ منه الصدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فهي لا تعطى لغني.
    (ولا لذي مرة سوي)، يعني: قوة ونشاط، وقدرة على الاكتساب، و(سوي)، يعني: سوي الأعضاء، ليس عنده نقص في أعضائه، يمنعه من العمل، أو يمنعه من التحصيل، فالصدقة لا تحل لهؤلاء، ولا لهؤلاء، لا تحل للغني، ولا لذي المرة السوي، لكن لو أعطي من الزكاة، ويظن أنه محتاج، وأنه فقير، فهو مثل ما أعطيت لغني، مثلما لو أعطيت لغني، فإنها تجزئ.

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)


    قوله: [ أخبرنا هناد بن السري ].هو أبو السري الكوفي، وهو ثقة، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن أبي بكر ].
    هو ابن عياش، أبو بكر بن عياش، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    لكن إخراج مسلم له إنما هو في المقدمة.
    [ عن أبي حصين ].
    هو عثمان بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سالم ].
    هو سالم بن أبي الجعد، وهو ثقة، يرسل كثيراً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبي هريرة ].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق.


    مسألة القوي المكتسب

    شرح حديث: (... ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ مسألة القوي المكتسب.أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ، قالا: حدثنا يحيى عن هشام بن عروة حدثني أبي حدثني عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه: أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، وقال محمد: بصره، فرآهما جلدين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن شئتما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب ) ].
    أورد النسائي هذه التراجم وهي:[ مسألة القوي المكتسب ].
    يعني: ليس له أن يسأل وهو قوي مكتسب؛ لأنه سبق أن مر: ( لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي )، فالذي عنده قوة، وعنده قدرة على الاكتساب، وهو سليم الأعضاء، فليس له أن يسأل، بل عليه أن يشتغل، كما سبق في الأحاديث: ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يسأل أحداً مما أعطاه الله من فضله، أعطاه أو منعه )، فالصبر على التعب، مع القدرة على التحصيل، خير وأفضل من إضاعة ماء الوجه بالسؤال، ومن التعرض لذل السؤال، فالقوي المكتسب الذي عنده قدرة ليس له أن يسأل، بل عليه أن يشتغل، وأن يعمل، اللهم إلا إذا كان ممن تحل له المسألة كما سبق أن مر في حديث قبيصة بن مخارق ، يعني: كونه تحمل حمالة، أما كونه يسأل شيئاً لنفسه، وهو قوي مكتسب، فهذا لا ينبغي له، بل عليه أن يشتغل، وأن يحمل على ظهره، أو يشتغل أي عمل، يعني: مشروع يستفيد منه ويفيد.
    وقد سبق أن مر بنا عن بعض الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على الصدقة، فلا يجد أحدهم شيئاً يتصدق به، فيذهب للسوق ويحمل على ظهره، فيأتي بالمد، متصدقاً به، يعني: قد استفاد وأفاد.
    (فقلب فيهما البصر، وقال محمد: بصره).
    ثم عبيد الله بن عدي بن الخيار، وهو معدود في صغار الصحابة، وقال بعضهم: إنه من كبار التابعين؛ لأنه مولود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مميزاً في زمن الفتح، يعني: فتح مكة، ويروي عن اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءا يسألانه، وكان جلدين، يعني: نشيطين، يظهر عليهما القوة والنشاط في أجسامهما، فقلب فيهما البصر، وهذه في رواية عمرو بن علي شيخه الأول، وأما رواية شيخه الثاني محمد بن المثنى : قلب فيهما بصره، يعني: الفرق بينهما أن أحداً قال: البصر، والثاني قال: بصره، هذا بالضمير الذي هو مضافاً إليه، وذاك بأل التي هي عوض عن المضاف إليه، أي: أن هذين الشيخين للنسائي أحدهما عبارته قلب البصر، والثاني عبارته قلب بصره، وفي بعض الروايات: (صوب فيهما النظر، وصعده، ينظر فوق وينزل، فرآهما جلدين نشيطين) وقال: (إن شئتما)، وفي بعض الروايات: (أعطيتكما، لكن لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب).
    (لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)، وهذا محل الشاهد، وكلمة: (قوي مكتسب) هي مثل ذي مرة سوي، ذي مرة يعني: قوة ونشاط، سوي يعني: سليم الأعضاء ليس مقطوع اليد، أو مقطوع اليدين، أو مقطوع الرجل، أو ما إلى ذلك مما يكون الإنسان عنده صحة وعافية، ولكنه غير سليم الأعضاء، فما يستطيع أن يكتسب لهذا النقص الذي فيه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب)

    قوله: [ أخبرنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ].عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، وهما شيخا النسائي، وهما شيخان لأصحاب الكتب الستة، يعني: هذان الشخصان شيخان لأصحاب الكتب الستة، وأصحاب الكتب الستة رووا عنهما مباشرة وبدون واسطة، وهما ثقتان.
    [ عن يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن هشام بن عروة ].
    هو هشام بن عروة بن الزبير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبيه ]
    هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ].
    هو معدود في الصحابة، وقال العجلي: أنه من كبار التابعين، وحديثه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
    عن رجلين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أخبراه عن أنفسهما أنهما جاءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما قال، وهما مبهمان، وقد عرفنا في حديث الأسدي أن الرجل المبهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضر إبهامه، ولا تضر جهالة الصحابة؛ لأن المجهول منهم في حكم المعلوم؛ لأنهم عدول بتعديل الله عز وجل، وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم.
    في حديث الرجل من بني أسد الذي نزل في البقيع، فيه كلمة هل أسأل عنها الآن أم فيما بعد؟
    وكلمة لعمري، هذه كلمة ليست قسماً، ولكن يؤتى بها من الألفاظ المؤكدة للكلام، مثل: حقاً، ولا جرم، فإنها ألفاظ مؤكدة، وليست من ألفاظ القسم، ولهذا استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، كما في حديث الرقية، حيث قال: (تلك لعمري من أكل برقية باطلاً فقد أكلت برقية حقاً)، ويستعملها العلماء كثيراً، وهي من الألفاظ المؤكدة، وليست من قبيل القسم، وبعض العلماء يقول: هي قسم، ولكن في الحقيقة هي من الألفاظ المؤكدة للقسم، وقائلها ليس مقسماً، وإن كان بعض العلماء يقول: إنها قسم، لكن المشهور أنها ليست بقسم، وللشيخ حماد الأنصاري رحمه الله مقال حول هذه الكلمة، وأنها ليست بقسم، والمقال منشور في مجلة الجامعة، بحث حول لعمري، وأنها ليست بقسم، وأتى بكلام العلماء فيها.


    مسألة الرجل ذا سلطان

    شرح حديث: (إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ... إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ مسألة الرجل ذا سلطان.أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا محمد بن بشر أخبرنا شعبة عن عبد الملك عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء كدح وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو شيئاً لا يجد منه بدا ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: سؤال الرجل ذا سلطان، يعني: أن يسأل سلطاناً، يعني: ولياً لأمر المسلمين الذي هو السلطان، فكونه يسأله فسؤاله ليس كسؤال غيره من الناس؛ لأن له نصيباً في بيت المال، وله حقاً في بيت المال، فإذا سأله فإنما يسأل من شيء له فيه مشاركة، ولهذا جاء تمييز السلطان على غيره، وأن سؤال السلطان ليس كسؤال غيره ممن يسأل الناس أموالهم، لأن هذا له فيه مشاركة، وله فيه نصيب، فإذا سأل فإنما يسأل لكون له فيه مشاركة وله نصيب، هذا وجه تخصيص السلطان بتمييزه بأنه ليس سؤاله كسؤال غيره، وأورد النسائي حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المسائل)، يعني: سؤال الناس، جمع مسألة وهي سؤال الناس كدوح، أو خدوش.
    (فمن شاء كدح وجهه، ومن شاء ترك)، ليس المقصود التخيير، وأن الإنسان يفعل كذا أو يفعل كذا، بل هذا من باب التوبيخ، ومثل قوله: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]؛ لأنه ليس أمر تخيير بين الإيمان والكفر، بل الإيمان هو المطلوب، والكفر محذر منه، ولكن هذا من باب التهديد، ومن باب التوبيخ، فهذا مثله؛ لأنه قال: (كدوح يكدح بها الرجل وجهه)، فليس مخيراً بين أن يأتي بما فيه هذا الذنب، وبين غيره، فهذا التخيير على سبيل التوبيخ، يعني: معناه لا يفعل.
    (إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان أو شيئا لا يجد منه بدا).
    إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان؛ لأن له نصيباً في بيت المال، فإذا كان محتاجاً إلى ذلك، فسؤاله السلطان ليس مما يدخل في المنع، وليس مما يدخل في ذلك الذنب؛ لأن له فيه مشاركة، يعني: في بيت المال الذي هو بيد السلطان، أو في أمر لا بد له منه، يعني: مضطر إلى ذلك، كما جاء في حديث قبيصة بن مخارق الذي تقدم، يعني: (إنسان أصابته فاقة، فيسأل حتى يصيب سداداً من عيش، أو قواماً من عيش)، فإذا كان الأمر لا بد منه فإنه معذور، أما إذا كان له بد، يعني: يكون عنده أربعون درهماً فأكثر، فإنه يكون سأل وعنده ما يغنيه، فيكون مذموماً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه ... إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان ...)


    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان عن محمد بن بشر ].أحمد بن سليمان ، مر ذكره.
    و محمد بن بشر هو العبدي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبد الملك ].
    هو عبد الملك بن عمير، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن زيد بن عقبة ].
    ثقة، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي.
    [ عن سمرة بن جندب ].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (411)


    - (باب مسألة الرجل في أمر لابد منه) إلى (باب مولى القوم منهم)



    المسألة فعل مذموم إلا في حالات منها: سؤال السلطان، أو في أمر لا بد منه وهي حالة الاضطرار، ومن أعطي مالاً من غير مسألة فليأخذه ولينتفع به، ولا يحل لآل بيت النبي صلى لله عليه وسلم أخذ الصدقة؛ لأنها أوساخ الناس.
    مسألة الرجل في أمر لا بد منه

    شرح حديث: (المسألة كد ... إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لابد منه)


    قال المصنف رحمه الله: [ مسألة الرجل في أمر لا بد له منه.أخبرنا محمود بن غيلان حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الملك عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لا بد منه ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: سؤال الرجل في أمر لا بد منه، وأورد فيه حديث سمرة بن جندب من طريق أخرى، وهو مشتمل على ما اشتمل عليه الذي قبله؛ لأن فيه استثناء سؤال السلطان، وأن يسأل الرجل في أمر لا بد منه. وسؤال السلطان أورد النسائي تحته الحديث من طريق، وأعاده بهذه التراجم من طريق أخرى؛ لأنه يتعلق بالسؤال في أمر لا بد منه، يعني: مضطراً إلى السؤال، أو أمراً لا بد له منه؛ لأنه ليس أمامه إلا ذلك.


    تراجم رجال إسناد حديث: (المسألة كد ... إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لابد منه)


    قوله: [ أخبرنا محمود بن غيلان ].هو محمود بن غيلان المروزي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود .
    [ حدثنا وكيع ].
    هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو الثوري ، وقد مر ذكره، وإذا جاء وكيع يروي عن سفيان وهو غير منسوب، فالمراد به الثوري؛ لأن وكيعاً مكثر من الرواية عن سفيان الثوري، ومقل من الرواية عن سفيان بن عيينة، فإذا جاء سفيان مبهم يحمل على من أكثر عنه، لا سيما وكيع وسفيان الثوري من بلد واحد، فسفيان بن عيينة من بلد آخر؛ لأن سفيان الثوري ووكيعاً كوفيان، وأما سفيان بن عيينة فهو مكي، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان في بلد فإنه يكون على صلة بالعالم الذي في بلده، يستوعب حديثه، ويكثر من الحديث عنه، بخلاف الذي يكون في بلد آخر فإنه لا يتمكن من الرواية إلا إذا رحل رحلة علمية في وقت من الأوقات، أو ذهب لحج أو عمرة؛ لأن سفيان بن عيينة بمكة، فإذا ذهب لحج، أو عمرة، أو في رحلة علمية فيروي عن سفيان بن عيينة ، لكن عندما يهمل الرجل الذي هو الشيخ يحمل على من يكون الراوي مكثراً عنه دون حمله على من يكون مقلاً عنه، وسفيان الثوري مر بنا ذكره، وهو ثقة، ثبت، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث.
    [ عن عبد الملك عن زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب ].
    عبد الملك بن عمير وزيد بن عقبة وسمرة بن جندب قد مر ذكر هؤلاء الثلاثة في الإسناد الذي قبل هذا.

    شرح حديث: (إن هذا المال خضرة حلوة ... واليد العليا خير من اليد السفلى)


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا عبد الجبار بن العلاء بن عبد الجبار عن سفيان عن الزهري أخبرني عروة عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى) ].أورد النسائي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، وقد مر ذكره من طرق متعددة فيما مضى، وهو أن حكيماً رضي الله عنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله، ثم جاء وسأله وأعطاه، ثم سأله وأعطاه، ثم بعد هذا التكرار قال الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له].
    يعني: بطيب نفس، ويحتمل أن يكون من الشخص السائل؛ أي: بأن يكون ما عنده إلحاف، ولا عنده شدة سؤال، وهو محتاج، فهذا بورك له فيه، وإذا كان بإشراف، وبتطلع، وبتعلق النفس، وباشتغالها بالتحصيل، فإنه يكون كالذي يأكل ولا يشبع. ويحتمل أن يكون طيب النفس من المسؤول، كما سبق أن مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من أعطيته وأنا كاره لم يبارك له فيه )؛ لأنه قد يعطي من أجل دفع الإنسان لكثرة إلحاحه، وكثرة إشغاله وإتعابه في السؤال.
    ثم قال: [واليد العليا خير من اليد السفلى]، وقد مر ذكر ذلك في أبواب سابقة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذا المال خضرة حلوة ... واليد العليا خير من اليد السفلى)


    قوله: [ أخبرنا عبد الجبار بن العلاء بن عبد الجبار ].لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له مسلم، والترمذي، والنسائي.
    [ عن سفيان ].
    هو ابن عيينة ، وقد مر ذكره.
    [ عن الزهري ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، فقيه، من صغار التابعين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وإذا جاء سفيان غير منسوب يروي عن الزهري فالمراد به سفيان بن عيينة؛ لأنه هو المعروف بالرواية عن الزهري، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أن الثوري لا يروي عن الزهري مباشرة، بل روايته عنه بواسطة، وعلى هذا فعندما يأتي سفيان غير منسوب يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة، ولا يراد به الثوري.
    [ أخبرني عروة عن حكيم بن حزام ].
    هو عروة بن الزبير، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحكيم بن حزام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو من المعمرين، عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (إن هذا المال خضرة حلوة ... واليد العليا خير من اليد السفلى) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ مسألة الرجل في أمر لا بد منه.أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا مسكين بن بكير حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن حكيم بن حزام أنه قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف النفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى ).
    أخبرني الربيع بن سليمان بن داود حدثنا إسحاق بن بكر حدثني أبي عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام قال: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حكيم! إن هذا المال حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك، حتى أفارق الدنيا بشيء ) ].
    هذا الحديث لـحكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه من طريقين يخبر فيهما حكيم بن حزام رضي الله عنه، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فأعطاه، ثم جاء فسأله فأعطاه، ثم جاء فسأله فأعطاه ثم قال له عليه الصلاة والسلام: [إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بسخاوة نفس، بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى]، وقال في الرواية الأخرى: [قال حكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك حتى أفارق الدنيا بشيء] فقوله: (لا أرزأ أحداً بشيء) يعني: لا أنقصه بشيء حتى أفارق الدنيا، هذا هو المقصود من هذه الجملة، يعني: لا أنقصه بشيء حتى أفارق الدنيا، ومعناه: أنه لا يأخذ من أحد شيئاً حتى يفارق الدنيا، ولا يسأل من أحد شيئاً فينقصه ما عنده بسبب هذا السؤال الذي سأله إياه وأعطاه حتى يفارق الدنيا، أي: أن هذا التزام من حكيم بن حزام على ألا يسأل بعد أن سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم ما سمع.
    والحديث سبق أن مر من طرق أخرى، وهو أن حكيماً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، وعندما تكرر هذا السؤال وهذا الإعطاء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [إن هذا المال حلوة خضرة]، الإنسان الذي يريد أن يفسح لنفسه المجال وأن يتجه إلى تحصيل ذلك فهو حلوة خضرة، لكن لا يكون وصوله إلى الإنسان محموداً دائماً وأبداً، بل إذا كان وصل إلى الإنسان بسخاوة نفس فإنه يبارك له فيه ويستفيد من ذلك الذي وصل إليه.
    وإن أخذه بإشراف نفس وهو التطلع، والتعلق، والسؤال، والإلحاح، والإلحاف، وما إلى ذلك من الأشياء التي فيها تعلق النفس، وتطلع النفس، وإشراف النفس، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، أي: أنه يصل إليه المال ويكثر في يده، ولكنه لا يستغني ولا يشعر بالغنى؛ لأنه يشبه الذي يأكل ولا يشبع، يعني: كلما أكل فإنه لا يستفيد من ذلك الأكل، فهو نهم على الأكل، شديد الحرص عليه، وشهيته منفتحة دائماً وأبداً، ولكنه لا يشعر بالشبع ولا يشعر بالاستفادة من هذا الأكل الذي أكله، فكان الذي يأكل ولا يشبع مثل الرجل الذي يحرص على المال ويسأل غيره للحصول عليه، ويسعى للوصول إليه بأي طريق سواء كانت مشروعة، أو غير مشروعة.
    ثم قال عليه الصلاة والسلام: [واليد العليا خير من اليد السفلى] يعني: كون الإنسان يكون معطياً خيراً من أن يكون منه سائلاً، وكون الإنسان يكون ماداً يده بأن يعطي خيراً من أن يمد يده سائلاً مستجدياً يريد الحصول على الشيء من الغير، فهذا تنبيه من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على أن يكون الإنسان معطياً وأن يكون الإنسان سخياً، وأن تكون يد الإنسان عليا بكونها تضع العطية في يد من يمد يده ومن يحتاج إلى العطاء فيكون العلو حسياً ومعنوياً، حسياً؛ لأن يد المعطي فوق يد المعطى؛ لأن هذا يمد يده رافعاً إياها، وهذا يمد يده واضعاً ما في يده في تلك الكف المبسوطة لتأخذ، فهذا يأتي من علو يعطي، وهذا يأخذ من سفل ويمد يده ويده سفل، هذا علو حسي. وعلو معنوي وهو: أن المعطي أرفع وأعلى من المعطى، فالعلو في الحديث هو علو معنوي؛ وعلو حسي، ثم إن مجرد الوصف بالعلو والسفل يدل على تفضيل العلو على السفل؛ لأن كون اليد موصوفة بأنها عليا ويد موصوفة بأنها سفلى، لا شك أن العليا خير من السفلى، ولكن جاء ذكر الخيرية وذكر التفضيل للتأكيد وبيان عظم شأن من تكون يده عالية حساً ومعنى على يد من كانت يده سافلة حساً ومعنى.
    ثم بعد أن سمع حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع آلى على نفسه وحلف أن لا يرزأ أحداًبشيء حتى يفارق الدنيا، يعني لا ينقص أحداً بشيء من المال ويكون سبباً في نقص ما بيد ذلك المعطي حتى يفارق الدنيا، وذلك أخذاً وإسناداً إلى ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من أن من يأخذ بإشراف لا يبارك له فيما يعطى إياه، وأنه كالذي يأكل ولا يشبع، ومن أجل أيضاً كون النبي صلى الله عليه وسلم وصف اليد العليا بأنها خير من السفلى، واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة، كما جاء ذلك مفسراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذا المال خضرة حلوة ... واليد العليا خير من اليد السفلى) من طريق أخرى


    قوله: [ أخبرنا أحمد بن سليمان ].هو أحمد بن سليمان الرهاوي ، وهو ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [ حدثنا مسكين بن بكير ].
    صدوق، يخطئ، أخرج له البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.
    [ حدثنا الأوزاعي ].
    هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي فقيه الشام، ومحدثها، ثقة، إمام،أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الزهري ].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة، فقيه، من صغار التابعين، مكثر من رواية حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سعيد بن المسيب ].
    هو من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن حكيم بن حزام ].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحابي جليل أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو من المعمرين عمر مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، ويقال: إن مثله في ذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه وحويطب بن عبد العزى، هؤلاء كل واحد منهم عمر مائة وعشرين سنة.
    الإسناد الثاني قال: [ أخبرني الربيع بن سليمان بن داود ].
    هو الجيزي، هناك الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي وهذا الربيع بن سليمان بن داود الجيزي المصري وكل منهما مصري، والأول هو صاحب الشافعي الذي هو المرادي، وأما هذا فهو الربيع بن سليمان بن داود الجيزي ، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي.
    [ حدثنا إسحاق بن بكر ].
    هو إسحاق بن بكر بن مضر ، وهو صدوق، أخرج حديثه مسلم والنسائي.
    عن أبيه بكر بن مضر وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن عمرو بن الحارث ].
    هو عمرو بن الحارث المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب ].
    هو: محمد بن مسلم بن عبيد الله ، وقد مر ذكره.
    [ عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ].
    عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب هما ثقتان، وهما جميعاً من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وفقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين ستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة، والسابع متخلف فيه، وهذان الاثنان في هذا الإسناد الراويين فيه عن حكيم بن حزام هما من فقهاء المدينة السبعة، وهما: سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير، والأربعة الباقون من الستة المتفق على عدهم هم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسليمان بن يسار، وأما السابع ففيه ثلاثة أقوال: قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.


    من آتاه الله عز وجل مالاً من غير مسألة

    شرح حديث: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق)


    قال المصنف رحمه الله: [ من آتاه الله عز وجل مالاً من غير مسألة.أخبرنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن بكير عن بسر بن سعيد عن ابن الساعدي المالكي رضي الله عنه أنه قال: استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها فأديتها إليه أمر لي بعمالة، فقلت له: إنما عملت لله عز وجل وأجري على الله عز وجل، فقال: خذ ما أعطيتك، فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق ) ].
    أورد النسائي ترجمة من آتاه الله عز وجل مالاً من غير مسألة، أي: ماذا يصنع، أي: أنه يأخذه حيث تكون المصلحة في أخذه، وقد أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أنه استعمل رجلاً يقال له: عبد الله بن السعدي على الصدقة ولما جاء وأدى إليه الزكوات التي قبضها من المتصدقين من أصحاب الزكوات دفعها إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه فأمر له بعمالة، يعني: مقداراً من المال يكون في مقابل عمله؛ لأن من أصناف مصارف الزكاة العاملين عليها إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60] فهو أمر له بأن يعطى ما يقابل عمالته، وهو عمله الذي عمله في جباية الزكاة واستيرادها وأخذها وتوريدها من أصحابها إلى ولي أمر المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فاعتذر عن أخذ تلك العمالة، وقال: إنما عملت لوجه الله عز وجل وأجري على الله، يعني: أنه ما عمل ليأخذ مقابل، فقال له: خذ فإنني فعلت كما فعلت مع رسول الله صلى الله عليه واعتذر عمر رضي الله عنه. فقلت له مثل قولك، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق ) ].
    يعني: خذ ما أعطيت، وكل وتصدق انتفع وانفع، انتفع في نفسك وانفع غيرك، (كل) يعني: ينفع الإنسان نفسه و(تصدق) ينفع غيره، وهذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا عمل عملاً يريد به وجه الله عز وجل ثم حصل له مع ذلك شيء من الدنيا، فإنه لا ينقص أجره وثوابه عند الله عز وجل ولا يبطل ولا يكون عوضاً عن الثواب، بل هذا من جملة الثواب، فيكون هذا من الثواب المعجل.
    وهذا مثل الإنسان الذي يعمل له عمل من الأعمال التي هي قربة وطاعة لله عز وجل كأن يكون الإنسان إماماً، أو مؤذناً، أو مدرساً للقرآن أو ما إلى ذلك، ثم يعطى من بيت المال شيئاً فإن هذا لا يسقط أجره وثوابه عند الله عز وجل ما دام أنه أراد الخير، وما دام أنه نوى الخير، ولكل امرئ ما نوى، فيكون هذا من الثواب المعجل الذي يجعله الله عز وجل للإنسان في الدنيا قبل الآخرة، ولا ينقص أجره عند الله عز وجل في الدار الآخرة.
    وهذا أيضاً يدل على أن الإنسان إذا عمل أو أنفق النفقات الواجبة، وهو يريد الأجر والثواب من الله عز وجل فإنه يحصل الأجر، وإن كان ذلك أمراً متحتماً عليه، وأمراً لازماً عليه، كما سبق أن مر بنا إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي صدقة. المهم في الأمر أن الإنسان يستشعر القربة، ويرجو الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، فلا يضيره بعد ذلك كونه يحصل شيئاً من الدنيا بسبب هذا العمل الذي عمله؛ لأن هذا يكون من الثواب المعجل، ولكن المهم في الأمر أن يكون الإنسان عنده القصد الحسن، والنية الطيبة، وإرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأل فكل وتصدق)


    قوله: [أخبرنا قتيبة ].هو ابن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ،ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا الليث ].
    هو الليث بن سعد المصري ، ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن بكير ].
    هو بكير بن عبد الله بن الأشج المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن بسر بن سعيد ].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن الساعدي المالكي ].
    هو ابن الساعدي المالكي وهذا في رواية ليس الساعدي ، وفي رواية غيره: السعدي ، كما سيأتي في الروايات وكما جاء عند غير النسائي أيضاً، وجاء تسميته أيضاً في بعض الروايات عبد الله بن السعدي، وهو صحابي، أخرج له البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.
    [ عن عمر ].
    هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين صاحب المناقب الجمة، والفضائل العظيمة، والمناقب الحميدة، الذي فتح الله تعالى في مدة خلافته الفتوح، وقضي على الدولتين العظميين في ذلك الزمان؛ دولة فارس والروم، وأنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله على يد الفاروق، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    شرح حديث: (ما آتاك الله عز وجل من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فتموله ...)


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن أبو عبيد الله المخزومي حدثنا سفيان عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى أخبرني عبد الله بن السعدي رضي الله عنه أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الشام، فقال: ألم أخبر أنك تعمل على عمل من أعمال المسلمين فتعطى عليه عمالة فلا تقبلها؟ قال: أجل، إن لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر رضي الله عنه: إني أردت الذي أردت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني المال فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، وإنه أعطاني مرة مالاً فقلت له: أعطه من هو أحوج إليه مني، فقال: ( ما آتاك الله عز وجل من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فتموله، أو تصدق به وما لا فلا تتبعه نفسك ) ].أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله في قصة عبد الله السعدي ، وأنه قدم من الشام وقال له عمر: ألم أخبر أنك تقوم بالعمل على الصدقة، وأنك لا تأخذ عمالة؟ قال: أجل، إن لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، يعني: أغناني الله عز وجل عندي أفراس -جمع فرس- وعندي أعبد -جمع عبد- وأنا بخير، فأردت أن يكون عملي صدقة على المسلمين، يعني: ما يكون لي يبقى في بيت المال؛ لأن الصدقات كما هو معلوم تصرف في مصارفها، وإذا تركها العامل عليها فإنها تعطى للمصارف الباقية، أو تصرف في المصارف الباقية وهم الفقراء، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، هذه المصارف الأخرى التي غير العاملين عليها، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه أرشده إلى أنه حصل بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما حصل بينه وبين عمر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له وقد أعطاه: أعطه من هو أحوج مني، فقال: (ما أعطيت من هذا المال فخذه وتموله) أي: اتخذه مالاً لك، وما لا فلا تتبعه نفسك، يعني: وما لا يكون كذلك أو ما لا يحصل لك بهذه الطريق فلا تتبعه نفسك، فهو مثل الذي قبله إذا كان بإشراف فإنه يكون مذموماً، وإذا كان بغير إشراف وحصل بسخاوة نفس كما جاء في حديث حكيم بن حزام المتقدم فإنه يكون محموداً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ما آتاك الله عز وجل من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فتموله ...)


    قوله: [أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن أبو عبيد الله المخزومي ].ثقة، أخرج له الترمذي ، والنسائي.
    [ حدثنا سفيان ].
    هو ابن عيينة الهلالي المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    يروي عن الزهري وقد مر ذكره، وسفيان هنا غير منسوب، وإذا جاء سفيان غير منسوب يروي عن الزهري فهو ابن عيينة وليس الثوري؛ لأن سفيان بن عيينة هو المعروف بالرواية عن الزهري وأما سفيان الثوري فقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لا يروي عن الزهري إلا بواسطة، فمتى جاء سفيان غير منسوب مهمل يروي عن الزهري فالمراد به ابن عيينة الهلالي المكي ، وليس سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي.
    [ عن السائب بن يزيد ].
    صحابي صغير، قال: حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين، يعني: أنه حج به أهله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وعمره إذ ذاك سبع سنوات، وأخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن حويطب بن عبد العزى ].
    وهو أيضاً صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج حديثه البخاري، ومسلم ، والنسائي.
    وحويطب بن عبد العزى هذا هو الذي ذكرت عند ذكر حكيم بن حزام أنه عمر مائة وعشرين سنة كـحكيم بن حزام، ومثلهم أيضاً حسان بن ثابت، كل منهم عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية، وستين في الإسلام، وحديثه كما قلت: أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
    [أخبرني ابن السعدي] قد مر ذكره.
    [عن عمر].
    قد مر ذكره، وهذا الإسناد فيه أربعة من الصحابة يروي بعضهم عن بعض؛ السائب بن يزيد وهو صحابي يروي عن حويطب بن عبد العزى وهو صحابي، وحويطب بن عبد العزى يروي عن عبد الله بن السعدي وهو صحابي، وعبد الله بن السعدي يروي عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    حديث: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه أخبره أنه قدم على عمر بن الخطاب في خلافته فقال له عمر: ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً فإذا أعطيت العمالة رددتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر رضي الله عنه: فما تريد إلى ذلك؟ فقلت: لي أفراس وأعبد وأنا بخير، وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال له عمر: فلا تفعل، فإني كنت أردت مثل الذي أردت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذه فتموله أو تصدق به، ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك ) ].أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [ أخبرنا كثير بن عبيد ].
    هو كثير بن عبيد الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه.
    [حدثنا محمد بن حرب الحمصي ].
    ثقة أيضاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الزبيدي ].
    هو محمد بن الوليد الحمصي الزبيدي ، وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    [ عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن عبد الله السعدي عن عمر رضي الله عنه].
    هؤلاء الخمسة الزهري والسائب بن يزيد وحويطب بن عبد العزى وعبد الله السعدي وعمر قد مر ذكرهم، وهذا مثل الذي قبله، فيه أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي بعضهم عن بعض.

    حديث: (... فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ...) من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا عمرو بن منصور وإسحاق بن منصور عن الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني السائب بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في خلافته، فقال عمر: ألم أخبر أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ قال فقلت: بلى، قال: فما تريد إلى ذلك؟ فقلت: إن لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر: فلا تفعل، فإني كنت أردت الذي أردت، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ) ].أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [أخبرنا عمرو بن منصور وإسحاق بن منصور ].
    عمرو بن منصور هو النسائي وهو ثقة، ثبت، أخرج حديثه النسائي وحده.
    وإسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
    [ عن الحكم بن نافع ].
    هو الحكم بن نافع أبو اليمان مشهور بكنيته، ويأتي ذكره بالكنية أحياناً، وهو أبو اليمان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ أخبرنا شعيب ].
    هو شعيب بن أبي حمزة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب عن عبد الله السعدي عن عمر قد مر ذكرهم.

    شرح حديث: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه) من طريق رابعة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا عمرو بن منصور حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري أنه قال: أخبرني سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عهما أنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالاً فقلت له: أعطه أفقر إليه مني، فقال: خذه فتموله وتصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ) ].أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن من طريق ابنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو مثل ما تقدم في حديث عبد الله بن السعدي عن عمر، يعني: كون الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أنه يأخذ ما أعطي من غير إشراف ويتموله وإنما لا يحصله بهذه الطريق بأن يتبعه نفسه فهو مثل ما تقدم، إلا أن ذاك عن عبد الله بن السعدي عن عمر وهذا عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما.

    تراجم رجال إسناد حديث: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه) من طريق رابعة


    قوله: [أخبرنا عمرو بن منصور عن الحكم بن نافع عن شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله ].هذا الإسناد والأربعة الذين تقدموا والذين هم في أول الإسناد مر ذكرهم في الإسناد السابق، وبقي ممن لم يسبق ذكره سالم بن عبد الله وأبوه عبد الله.
    فـسالم هو ابن عبد الله بن عمر وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين على أحد الأقوال الثلاثة للسابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة وأبوه عبد الله بن عمر صحابي جليل أحد العبادلة الأربعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصحابه الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.


    استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة

    شرح حديث: (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)


    قال المصنف رحمه الله: [ باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة.أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو عن ابن وهب حدثنا يونس عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره أن أباه ربيعة بن الحارث قال لـعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن العباس بن عبد المطلب: ائتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولا له: استعملنا يا رسول الله على الصدقات، فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال، فقال لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل منكم أحداً على الصدقة، قال عبد المطلب: فانطلقت أنا والفضل حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا: ( إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد صلى الله عليه وسلم ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: باب استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، يعني: هل يستعملون أو لا يستعملون، وأورد النسائي الحديث الدال على عدم استعمالهم على الصدقة فهم لا يعطون من الصدقة، ولا يستعملون على جمع الصدقة، وأخذ أعمالهم أو أخذ ما يستحقون في مقابل ذلك، فهم لا يستعملون ولا يأخذون شيئاً؛ لأنهم لم يأتوا متبرعين وإنما جاءوا ليحصلوا شيئاً، وكانوا أرادوا أن يتزوجوا فأرادوا أن يحصلوا شيئاً؛ الذي هو عبد المطلب والفضل بن العباس، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وهي لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) فالترجمة مطلقة، والحديث الذي أورده النسائي فيها يدل على عدم استعمالهم في الصدقة، وأنه لا يحل لهم الأخذ من الصدقة، لا عن طريق كونهم متصدقاً عليهم، ولا عن طريق كونهم عاملين، أما لو عملوا بدون مقابل فإن هذا ليس فيه إشكال، وإنما المحذور هو كونهم يأخذون من الصدقة، ويأكلون من الصدقة، أما لو عملوا بدون مقابل فلا محذور في ذلك.
    ولكن الحديث كما جاء في بعض الروايات أنهم أرادوا أن يتزوجوا فأرادوا أن يستعملهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة حتى يجمعوا شيئاً من المال يتزوجوا به، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الصدقة إنما هي أوساخ الناس؛ لأنها تطهير لأموال الناس وطهرة لأموال الناس فلم يأت في الشرع أن آل محمد يأخذون منها، وذلك لأنهم يأخذون من الفيء الذي بين الله عز وجل مصارفه في القرآن، وقد قال بعض أهل العلم: إن آل محمد إذا لم يحصل لهم شيء عن طريق ما أغنوا به عن الصدقة وهو إعطاؤهم من الفيء، فإنه يجوز أن يعطوا من الصدقة إذا كانوا محتاجين إلى ذلك ومفتقرين إلى ذلك حيث لا يحصل لهم العطاء الذي يغنيهم عن الصدقة، أما إذا حصل لهم العطاء الذي يغنيهم عن الصدقة فالأمر كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل الصدقة لهم، جاء عنه أنه يقول: إنهم إذا لم يحصلوا أو يحصل لهم الشيء عن طريق الفيء، وعن طريق ما يعطونه من الخمس، فإنهم يحل أو يجوز أن يأخذوا من الصدقة حيث كانوا مضطرين إليها ومحتاجين إليها.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)

    قوله: [أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو ].ثقة، أخرج حديثه مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه.
    [ عن ابن وهب ].
    هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا يونس ].
    يونس هو ابن يزيد الأيلي ثم المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ].
    ابن شهاب قد مر ذكره، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب.
    وذكر أن له رؤية، وقيل: أجمعوا على توثيقه إذا لم يكن له رؤية، فهو إذا كان صحابياً وله رؤية فيكفيه شرفاً أن يكون صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه قد أجمع على توثيقه ولا قدح فيه ولا كلام فيه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب.
    [ عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ].
    هو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب صحابي، أخرج حديثه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي، وهذا اسمه عبد المطلب، وهذا مما يستدل به على أن التسمية بعبد المطلب جائزة، وقد جاء عن ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع أنه قال: أجمعوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب، يعني: أن عبد المطلب جاء ما يدل على جواز التسمية به، والدليل على الجواز أن عبد المطلب هذا لم يغير اسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن نوفل هذا الصحابي ولم يغير اسمه، مع أنه غير أسماء أشخاص كانوا معبدين لغير الله لما أسلموا، ولهذا قالوا: إن التعبيد بعبد المطلب جائز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أقر من كان مسمى بهذا الاسم وهو عبد المطلب.
    أما أبوه عبد المطلب فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهذا في النسب، يعني: وإنما الكلام في الشيء الذي يمكن أن يغير وهو أنه من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو موجود ويسمى بهذا الاسم، وليس شخصاً قد مضى وتقادم عهده، ولكنه شخص موجود من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يغير اسمه، ولهذا قال ابن حزم: أجمعوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب، ومن العلماء من يمنع أيضاً التسمية بعبد المطلب ولا يستثني شيئاً، لكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغير اسم هذا الرجل الصحابي الذي معنا في الإسناد وهو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قالوا: هذا إقرار من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبقاؤه على تسميته، وعدم تغييره يدل على جواز التسمية بهذا الاسم الذي هو عبد المطلب.
    الإسناد ينتهي عند هذا، أما الباقون الذين جاء ذكرهم في الإسناد فما لهم علاقة بالحديث؛ لأن عبد المطلب ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن العباس وقال لهم الرسول ما قال، وهو حدث بهذا الحديث الذي هو عبد المطلب ، ورواه عنه عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
    أبوه ربيعة طلب منه أي: من ابنه عبد المطلب أن يذهب والفضل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبان منه أن يوليهما على جباية الزكاة ليحصلا شيئاً يتزوجا به، فذهبا وقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، والحديث من مسند عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين ذكروا في الإسناد معه الذي هو أبو عبد المطلب والفضل بن العباس هؤلاء جاء ذكرهم ليس في الرواية وليس في الإسناد ولكن القصة دارت بينهم، والمحاورة حصلت بينهم، ولكن التحمل حصل من عبد المطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه، أو حمله، أو حدث به عبد الله بن الحارث بن نوفل.


    ابن أخت القوم منهم

    شرح حديث: (ابن أخت القوم من أنفسهم ...)

    قال المصنف رحمه الله: [ باب ابن أخت القوم منهم.أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا شعبة قال: قلت لـأبي إياس معاوية بن قرة: أسمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابن أخت القوم من أنفسهم؟) قال: نعم ].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: ابن أخت القوم منهم، لما ذكر آل محمد، وأنه لا تحل لهم الصدقة ذكر أن من كان منهم من أولاد إناثهم؛ لأن أولاد الذكور أمرهم واضح، لكن الذي يحتاج إلى إيضاح وبيان هو أولاد الإناث؛ لأن أولاد الإناث يكون آباؤهم من قبائل أخرى غير آل محمد عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن أخت القوم منهم، يعني: أن المرأة التي هي من آل البيت ولدها أيضاً يكون من آل البيت تبعاً لها، فلا تحل له الصدقة كما لا تحل لأمه، وهذا هو المقصود من الترجمة: ابن أخت القوم منهم، يعني: أنه منسوب إليهم، وهم يدخلون في نسبه لكن من جهة الأم، وأما من حيث النسب فهم للآباء، ولا شك في دخول أبناء الرجال من آل البيت، ولكن أبناء الإناث الذين آباؤهم من قبائل أخرى جاء الحديث دالاً على دخولهم، وأن ابن أخت القوم منهم، ولو كان أبوه أجنبياً من تلك القبيلة يعني: كما يقول الشاعر:
    بنونا بنو أبنائنا وبناتنا أبناؤهن أبناء الرجال الأباعد
    بنونا بنو أبنائنا؛ لأن الإنسان في سلسلة النسب فلان بن فلان بن فلان، لكن ابن البنت ينسب إلى أبيه في قبيلة أخرى.
    ولكن من حيث النسب ومن حيث الانتساب، فهو ينسب إلى تلك القبيلة من جهة أمه، يعني: من جهة الأمومة، وآباؤه من جهة أمه، وآباؤه من جهة أبيه، لكن كونه من نسل واحدة من آل البيت، فإنه يكون حكمه حكمها، بخلاف أبيه الذي هو ليس من آل البيت، فهو يتبع أمه في كونه منسوباً إلى آل البيت، فهو داخل في نسب الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة أمه، أو ظفر بالانتساب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة أمه، ولهذا أورد النسائي هذا الحديث.
    وقوله: [ شعبة يقول: قلت لـأبي إياس معاوية بن قرة: أسمعت أنس بن مالك يقول ].
    يقول شعبة بن الحجاج لـأبي إياس معاوية بن قرة: (أسمعت أنس بن مالك يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ابن أخت القوم منهم؟ قال: نعم)، فكلمة: (قال: نعم) هذه جواب من معاوية بن قرة لـشعبة بن الحجاج جاءت في آخر الحديث، وهذه الطريقة عند المحدثين أنه إذا سئل: أحدثكم فلان بكذا سواء قال: نعم، أو ما قال: نعم، يعني: ما دام أنه سكت سواء أقر أو قال نعم أو سكت ولم ينكر، قالوا: فإنه يكون متصلاً، ويكون الحديث قائم الإسناد ولو لم يقل نعم، وقد جاء في بعض الأحاديث في صحيح مسلم، وفي غيره ذكر نعم وذكره بدون نعم، ولهذا فإذا جاء مثل هذه الصيغة فإن الحديث متصلاً إذا لم ينكر ولم يقل: لا لم أسمع، بل سكت أو قال: نعم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ابن أخت القوم من أنفسهم ...)

    قال: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ].هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي ، ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ حدثنا وكيع ].
    هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكب الستة.
    [ حدثنا شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن معاوية بن قرة ].
    هو معاوية بن قرة أبو إياس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أنس ].
    هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد فيه اثنان وصف كل منهما بأنه أمير المؤمنين في الحديث؛ وهما: إسحاق بن راهويه ، وشعبة بن الحجاج.

    حديث: (ابن أخت القوم منهم) من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ابن أخت القوم منهم ) ].أورد النسائي حديث أنس بن مالك من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا وكيع حدثنا شعبة عن قتادة ].
    الثلاثة الأولون وهم إسحاق بن إبراهيم ، ووكيع ، وشعبة مر ذكرهم في الإسناد السابق.
    وأما قتادة فهو ابن دعامة السدوسي البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أنس ].
    قد مر ذكره.


    باب مولى القوم منهم

    شرح حديث: (... وإن مولى القوم منهم)


    قال المصنف رحمه الله: [ باب مولى القوم منهم.أخبرنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا شعبة حدثنا الحكم عن ابن أبي رافع عن أبيه رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فأراد أبو رافع أن يتبعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تحل لنا وإن مولى القوم منهم ) ].
    أورد النسائي هذه الترجمة؛ وهي: مولى القوم منهم، يعني: من يكون مولاً لقوم أي: عتيقاً لقوم فإنه يكون منهم، ويكون حكمه حكمهم من حيث أنه لا تحل له الصدقة، كما لا تحل لآل محمد فلا تحل لمولى آل محمد، وكذلك الذي تقدم: (ابن أخت القوم منهم)، يعني: هو تبع لهم لا تحل له الصدقة، ومولى القوم منهم فإنه لا تحل له الصدقة، وقد أورد النسائي حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم منهم] يعني: وأنت مولى لنا فأنت منا، يعني: فلا تحل لك الصدقة.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... وإن مولى القوم منهم)

    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي ].هو الفلاس ، وهو ثقة، ناقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [ حدثنا يحيى ].
    هو يحيى بن سعيد القطان ، ثقة، ناقد، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ حدثنا شعبة حدثنا الحكم ].
    شعبة قد مر ذكره، والحكم بن عتيبة الكندي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن أبي رافع ].
    هو عبيد الله بن أبي رافع، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن أبيه ].
    أبوه هو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله

    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (412)


    - (الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم) إلى (باب شراء الصدقة)




    لا تحل الصدقة لآل النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا أهداها من جاءته صدقة فتحل حينئذ، ونهى الشارع عن شراء الصدقة لما فيها من معنى الرجوع فيها.
    الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم

    شرح حديث: (كان النبي إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة لم يأكل ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.أخبرنا زياد بن أيوب حدثنا عبد الواحد بن واصل حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء سأل عنه: أهديه أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة لم يأكل، وإن قيل: هدية بسط يده ) ].
    يقول النسائي رحمه الله: باب الصدقة لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم.
    سبق أن مر أن الصدقة لا تحل لآل محمد عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الترجمة أنها لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر أنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، وهنا أورد النسائي الحديث الذي يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه كان إذا قدم له شيء سأل: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة لم يأكل، وإن قيل: هدية بسط يده، يعني: بسط يده للأكل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يأكل الصدقة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد عليه الصلاة والسلام، وقد مر أنه قال: (إن الصدقة أوساخ الناس، وأنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد).

    تراجم رجال إسناد حديث: (كان النبي إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة لم يأكل ...)


    قوله: [ أخبرنا زياد بن أيوب ].ثقة، أخرج حديثه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن عبد الواحد بن واصل ].
    ثقة، أخرج حديثه البخاري ، والترمذي ، والنسائي.
    [ عن بهز بن حكيم ].
    هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبيه]
    هو حكيم بن معاوية بن حيدة وهو لا بأس به، وهي تعادل صدوق، وقد أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن معاوية بن حيدة القشيري].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج حديثه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة، أي: أن هؤلاء الثلاثة الذين هم بهز ، وأبوه حكيم ، وجده معاوية بن حيدة كل واحد منهم أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    حكيم لا بأس به. وصدوق هي مثل لا بأس به، يعني: الاثنين بدرجة صدوق.
    وحكيم بن معاوية هو والد بهز صدوق.
    فكل من بهز وأبيه حكيم بن معاوية كل منهما صدوق، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة، وكذلك أخرج البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة حديث جد بهز وهو معاوية بن حيدة القشيري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحاصل: أن الثلاثة الحفيد، والأب، والجد كل منهما خرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.


    إذا تحولت الصدقة

    شرح حديث: (... هذا مما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية ...)


    قال المصنف رحمه الله: [ إذا تحولت الصدقة.أخبرنا عمرو بن يزيد حدثنا بهز بن أسد حدثنا شعبة حدثنا الحكم عن إبراهيم عن الأسود ( عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة فتعتقها، وإنهم اشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها واعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق، وخيرت حين أعتقت، وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فقيل: هذا مما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية، وكان زوجها حراً ) ].
    أورد النسائي إذا تحولت الصدقة يعني: إذا تصدق بها غني وأعطاها فقيراً، فإن ذلك الفقير يملكها، وإذا أهدى منها ذلك الفقير هدية إلى من لا تحل له الصدقة، فإنها تحل له؛ لأنها تحولت من كونها صدقة وكونها خرجت من يد متصدق إلى متصدق عليه وملكها ذلك المتصدق عليه، وذلك المتصدق عليه يمكن أن يخرجها من ملكه بأي طريقة من الطرق سواء كان عن طريق البيع، أو عن طريق الهدية، أو عن طريق أي طريق يخرجها من ملكه فله ذلك؛ لأنه ملكها، فتتحول العين أو يتحول الشيء من كونه صدقة إلى كونه صار ملكاً يتصرف فيه بالبيع والشراء، فإذا خرج من يد المتصدق عليه هدية أو بيعاً إلى من لا تحل له الصدقة، فإنها تخرج عن كونها صدقة وتكون هدية، أو تكون بيعاً، وعند ذلك لا يمنع من وصولها إلى من لا تحل له الصدقة؛ لأنها تحولت من حال إلى حال، ومن كونها صدقة إلى كونها ملكاً يتصرفون فيه يخرج من ملك مالكه بالصدقة، أو البيع، أو العطية، فإن خرجت عن طريق الصدقة منه، فإنها مثل خروجها من الأول لا تحل لمحمد، وآل محمد عليه الصلاة والسلام، إن خرجت ممن تصدق بها عليه صدقة منه على آل محمد فإنها صدقة ولا تحل، لكن إذا خرجت على أنها هدية أو اشتريت من المتصدق عليه، فإنها تحل؛ لأنها تحولت من كونها صدقة إلى كونها غير صدقة.
    وقد أورد النسائي حديث عائشة في قصة بريرة التي كانت عند أناس مملوكة لهم، وكاتبوها بأن تأتي بمال متفق عليه بينهم وبينها، وبعد ذلك يعتقونها عندما تحضر المال المطلوب، وهو ما يسمى بالمكاتبة أو الكتابة، فجاءت بريرة إلى عائشة تطلب منها أن تعينها في كتابتها وفي المال الذي التزمته لمن كان يملكها، فقالت: إنها تدفع المال ولكن يكون لها الولاء، فقال أولئك أنهم يريدون أن يكون الولاء لهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لـعائشة: اشتريها، والولاء لمن أعتق، حتى لو اشترطوا الولاء يكون لهم وهم ليسوا معتقين، فإنه شرط باطل ولا يصح، فإذا أعتقتها ودفعت المال الذي به خلاصها وفكاكها، فإن ذلك الذي دفع المال وأعتقها هو الذي يكون له الولاء، ولا يكون الولاء لمن لم يعتق، وإنما قبض المال الذي كاتب به من كانت في ملكه.
    فحصل في بريرة ثلاث سنن: أولاً: جاء في حقها أن الولاء لمن أعتق، وأنه لو اشترط أحد أن يكون له الولاء وهو غير معتق، فهو شرط باطل لا عبرة به، ولا قيمة له، وكذلك أيضاً خيرت بين البقاء مع زوجها أو عدم البقاء؛ لأنها عتقت وهو عبد فكانت مساوية له في العبودية، وكان كفؤاً لها، ثم إنها عتقت وهو عبد فخيرت بين البقاء وعدم البقاء فاختارت الفراق، وكان زوجها مغيث حريصاً على أن تبقى معه، فكان يسعى لإبقائها ويستشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم على أن ترضى بأن تبقى معه لما خيرت، ولكنها اختارت الفراق ولم تختر البقاء معه، فدل ما حصل في هذه الأمة التي أعتقت أن الشريعة جاءت بأن الأمة إذا عتقت وهي تحت عبد، فإنها مخيرة بين أن تبقى معه استمراراً على النكاح السابق، أو أن تفارقه ولا يكون له بها علاقة، فاختارت الفراق ولم تختر البقاء، هذا فيما إذا عتقت وهي أمة تحت عبد مملوك فكانت مساوية ثم بعد ذلك عتقت، فصارت أعلى منه وصارت حرة وهو عبد فهي مخيرة.
    لكن لو أن حراً تحته أمة وكان متزوجاً إياها، ومن المعلوم أن الحر له أن يتزوج الأمة بشروط، يعني: كونه لا يستطيع مهر الحرة، وكونه يخاف العنت فإن له أن يتزوج أمة مسلمة، فلو عتقت الأمة التي تحت حر، فإنها لا تخير؛ لأنها ساوته في الحرية، لأنها كانت دونه، ثم صارت مثله، ففي تلك الحال لا تخير، لأنها كانت دونه فارتفعت حتى صارت مثله، بخلاف الصورة السابقة التي هي قصة بريرة فإنهما متساويان في العبودية وبعد ذلك تميزت عليه، وصارت حرة تحت عبد فخيرت بين أن تبقى معه وأن تختار الفراق، فاختارت الفراق، وقد جاء في هذه الرواية التي معنا أنه كان حراً وهذه الرواية ليست محفوظة، بل هو عبد كما جاء في أكثر الروايات؛ ولأن هذا هو الذي يناسب التخيير، لأنه لو كان حراً وهي أمة ثم صارت حرة، فإنها تساويه، وعند ذلك لا تخير، ولكن التي تخير هي التي ارتفعت عليه، وصارت أعلى منه حيث صارت حرة وهو عبد، فهذه هي التي تخير، وأكثر الرواة على أنه عبد، والرسول صلى الله عليه وسلم شفع لـمغيث عندها ولكنها لم تفعل، لأنها لا تريد البقاء معه، واختارت الفراق، فهذه الرواية غير محفوظة، التي هي رواية كونه حراً، ومن العلماء من قال: أنها مدرجة من كلام بعض الرواة، أو أن فيها وهماً: أو خطأ؛ لأن أكثر الرواة رووها على أنه عبد، وهذا هو الذي يناسب التخيير.
    والسنة الثالثة التي في قصة عتق بريرة وهي التي أورد النسائي الحديث من أجلها وهي: أنه تصدق عليها بصدقة فقدمت للنبي صلى الله عليه وسلم وأكل منها على أنها هدية منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إنه تصدق به على بريرة والصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد قال: (هي لها صدقة، ولنا هدية)، وصلت إليها عن طريق التصدق على فقير محتاج، وذلك الفقير المحتاج خرجت من ملكه بالهبة، وخروجها من ملكه بالهبة تحولت الصدقة من كونها صدقة إلى كونها ملكاً يتصرف فيه المالك كيف يشاء، يخرجه بالبيع، أو الصدقة، أو الهبة، فإن خرجت منه بالصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، وإن خرجت منه بالهدية، أو بالبيع أي: الفقير الذي أعطي الصدقة، فإنها تحل لمن لا تحل له الصدقة.
    والحديث الذي معنا هو الشاهد للترجمة لكون الصدقة تحولت من كونها صدقة إلى كونها ملكاً يتصرف فيه المتصدق عليه بالبيع والهدية، والتصدق، وغير ذلك، وخروجها منه لمن لا تحل له الصدقة عن طريق البيع، أو عن طريق الهبة سائغ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: [( هو لها صدقة، ولنا هدية )].

    تراجم رجال إسناد حديث: (... هذا مما تصدق به على بريرة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية ...)


    قوله: [أخبرنا عمرو بن يزيد ].هو عمرو بن يزيد الجرمي ، وهو صدوق، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [ عن بهز بن أسد ].
    ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن شعبة ].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري وهو ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو ممن وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث.
    [ عن الحكم ].
    هو الحكم بن عتيبة الكندي وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن إبراهيم ].
    هو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي ، هو ثقة ، فقيه ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن الأسود ].
    هو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي ، هو ثقة ، مخضرم ، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عائشة ].
    هي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، الصديقة بنت الصديق ، أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    شراء الصدقة

    شرح حديث: (... لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته ...)


    قال المصنف في رحمه الله: [أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن القاسم حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: ( حملت على فرس في سبيل الله عز وجل فأضاعه الذي كان عنده، وأردت أن أبتاعه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ) ].أورد النسائي هذه الترجمة وهي: شراء الصدقة، يعني: الإنسان تصدق بصدقة، ثم أراد أن يشتريها ممن تصدق بها عليه، هل يسوغ ذلك أو لا يسوغ؟ فالجواب لا يسوغ ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن شراء الصدقة؛ وذلك لأن الإنسان أخرجها لله عز وجل، وشراؤه إياها -أي: الصدقة- فيه تعلق النفس بها، وقد يكون الإنسان يشتريها لرخص، ولكونها خرجت منه وهي مرتفعة الثمن، وشأنها عظيم عند الله عز وجل لنفاستها ولكثرة ثمنها، ثم بعد ذلك يسعى لاستردادها، والحصول عليها بثمن رخيص، وبثمن قليل، فأرشد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى عدم شرائها ولو باعها برخص، وقد أورد النسائي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، أنه حمل على فرس في سبيل الله، يعني: جعله صدقة يستخدم في سبيل الله عز وجل، وأعطاه إنساناً يستعمله وهو صدقة منه عليه، ليستعمله في الجهاد فأضاعه، يعني: أهمله ولم يعتن به حتى هزل، هذا المقصود بأضاعه، يعني: ليس أضاعه بمعنى فقده؛ لأنه لو فقده ما يكون هناك مجال للشراء لأنه ضائع ومفقود، لكنه بيده، ولكن معنى أضاعه: أنه أهمله، ما كان يعتني به بعلفه، ورعايته، وتعهده، فتغيرت حال ذلك الفرس وصار ليس له شأن، كما كان من قبل، وأراد أن يبيعه ذلك الذي تصدقه به عليه، فظن عمر أنه سيبيعه برخص، فقال: إنه يشتريه، ظن أن ذلك سائغ وأنه جائز، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [( لا تشتره ولو باعكه بدرهم )] ولو كان سعره تافه جداً، إلى حد أنه يكون بدرهم واحد مع أنه بالدراهم الكثيرة فلا تشتره ولو باعكه بدرهم، ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للعائد في صدقته، بالكلب يقيء فيعود في قيئه، وهذا تنفر منه النفوس، وتشمئز منه النفوس، كون التشبيه بالكلب وبهذا الوصف، لأن الوصف من جهتين ذميمتين: كونه في الكلب والكلب ذميم، وكونه يقيء ثم يعود في قيئه، يعني: فيكون الذي يعود في صدقته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وذلك تنفير وتحذير من هذا الفعل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: نهى عن الشراء في قوله: [(لا تشتره ولو باعكه بدرهم)]، ثم ضرب مثلاً ينفر ويجعل الإنسان بعيداً وحذراً من أن يقع في هذا الشيء، الذي هذا شأنه وهذا وصفه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته ...)


    قوله: [ أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع ].محمد بن سلمة هو المرادي المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود ، والنسائي، وابن ماجه، ومحمد بن سلمة، هذا هو المصري وهو شيخ للنسائي، وهناك شخص آخر اسمه محمد بن سلمة ، وهو ليس من شيوخ النسائي، بل من طبقة شيوخ شيوخه، إذا جاء النسائي يروي عنه بواسطة فهو حراني ثقة، ولكن هذا الذي معنا هو من طبقة شيوخ النسائي ، وهو مصري.
    والحارث بن مسكين أيضاً المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود ، والنسائي.
    قال: قراءة عليه وأنا أسمع، يعني: أخذ عنه بالعرض، يعني: كان يقرأ عليه وهو يسمع، وهذا يسمونه التحمل بالعرض، ويقول فيه: أخبرنا.
    [ عن ابن القاسم ].
    هو عبد الرحمن بن القاسم صاحب الإمام مالك ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه البخاري ، وأبو داود في المراسيل، والنسائي.
    [ عن مالك ].
    هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، الإمام المشهور أحد أصحاب المذاهب الأربعة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن زيد بن أسلم ].
    هو زيد بن أسلم المدني العدوي ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه] هو أسلم العدوي مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عمر ].
    هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، الذي حصل في خلافته اتساع رقعة البلاد الإسلامية والقضاء على الدولتين العظيمتين في ذلك الزمان: دولة فارس والروم، وأخذ كنوزهما أي: كنوز قيصر وكسرى وأنفقها في سبيل الله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وتم ذلك في خلافة عمر، وتم إنفاقها وتوزيعها على يد أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (... لا تعرض في صدقتك)

    قال المصنف رحمه لله: [ أخبرنا هارون بن إسحاق حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه ( عن عمر رضي الله عنهما، أنه حمل على فرس في سبيل الله، فرآها تباع فأراد شراءها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تعرض في صدقتك ) ]. أورد النسائي حديث عمر من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم إلا أنه قال: [( لا تعرض في صدقتك )] والمقصود أنه لا يعود فيها، والعبارة غير واضحة تماماً وهي كلمة: (تعرض)، والحديث أخرجه الترمذي بهذا الإسناد والمتن إلا أنه قال: (تعد)، بدل (تعرض)، كالرواية التي بعد هذه الرواية التي عند النسائي بإسناد آخر، لكن نفس الإسناد الذي عند النسائي هنا، ونفس المتن يوجد عند الترمذي وفيه بدل (تعرض) (تعد)، فتعرض هي: إما أنها تعد، أو أنها فيها شيء من حيث عدم الضبط، لكن (تعد) نفس الإسناد جاء فيه هذه الجملة، التي هي: (لا تعد في صدقتك)، كالجملة التي جاءت عند النسائي بعد هذا الحديث بإسناد آخر وهي بلفظ: (لا تعد في صدقتك).

    تراجم رجال إسناد حديث: (... لا تعرض في صدقتك)


    قوله: [أخبرنا هارون بن إسحاق ].هو هارون بن إسحاق الهمداني ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [ عن عبد الرزاق ].
    هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    عن [معمر]
    هو معمر بن راشد البصري الأزدي ، ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    عن [ابن شهاب]
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، فقيه، مكثر من رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار التابعين، وأخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن سالم ].
    هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعن أبيه عبد الله بن عمر ، وسائر الصحابة، ورحم الله سالماً، وسالم هو ثقة، فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه]
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهو الصحابي الجليل، أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    [عن أبيه عمر ]
    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (... لا تعد في صدقتك)

    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك حدثنا حجين حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يحدث ( أن عمر رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله عز وجل، فوجدها تباع بعد ذلك، فأراد أن يشتريه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمره في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعد في صدقتك ) ]. أورد النسائي حديث عمر من طريق أخرى وهو مثل ما تقدم، وفيه قوله عليه الصلاة والسلام: [(لا تعد في صدقتك)] يعني: لا تعد بها عن طريق الشراء كونك تشتريها، وهذا إذا عادت عن طريق الاختيار، أما لو عادت عن طريق غير اختياري كالإرث، فإنها تحل له، فالإنسان إذا تصدق على قريب له وهو يرثه ومات، فإن انتقالها ليس عن طريق الاختيار، وإنما هو عن طريق الانتقال بالإرث، الذي هو أمر لابد منه، ولا يدخل في اختيار الإنسان، فكونها تنتقل بأمر لا اختيار للإنسان فيه لا بأس عن طريق الإرث، ولكن المحذور أن تنتقل عن طريق الاختيار، يعني: كونها تهدى إليه، أو كونه يشتريها، أو ما إلى ذلك؛ لأن هذا باختيار الإنسان، وأما حصول الملك عن طريق الإرث فهذا ليس باختيار الإنسان، هذا شيء من الله عز وجل، إذا مات الإنسان ينتقل المال إلى الورثة، فهو غير اختياري للإنسان، إذا عادت الصدقة على الإنسان من قريب له يرثه ومات، فإنها تعود إليه في هذه الحال وذلك سائغ، ولكن المحذور في أن تعود عليه بأمر له فيه اختيار كالبيع، والهدية وما إلى ذلك من الأشياء، التي يصير فيها انتقال الملك من ملك إلى ملك.
    وقوله: (يستأمره) يعني: يطلب منه أمره، يستأذنه ويطلب منه الأمر في ذلك، يعني: يأمره بما يريد، فكان منه أن نهاه عن أن يعود في صدقته.

    تراجم رجال إسناد حديث: (... لا تعد في صدقتك)


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك ].هو المخرمي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأبو داود ، والنسائي.
    [ عن حجين ].
    هو حجين بن المثنى ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [ عن الليث ].
    هو الليث بن سعد المصري ،ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عقيل ].
    هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله عن أبيه عمر ].
    الزهري وسالم وعبد الله وعمر ، هؤلاء الأربعة، مر ذكرهم في الإسناد الذي قبل هذا.

    شرح حديث: (أن رسول الله أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب فتؤدى زكاته زبيباً ...)


    قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا عمرو بن علي حدثنا بشر ويزيد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب فتؤدى زكاته زبيباً كما تؤدى زكاة النخل تمراً ].أورد النسائي أثر سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتاب بن أسيد بأن يخرص العنب، وتؤدى زكاته زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى زكاته تمراً، وهذا الحديث لا يتضح دخوله تحت ترجمة: شراء الصدقة؛ لأنه لا علاقة له بها، وهو يناسب الخرص الذي سبق أن مر، لأنه يتعلق بخرص الثمار، وهي على رءوس الأشجار، حتى يتصرف فيها صاحبها، وفي النهاية يؤدي الزكاة تمراً أو زبيباً، لا يؤدى وهو رطب ولا وهو عنب؛ لأن هذا لا يدخر، وإنما تؤدى على وجه يدخر، الذي هو التمر والزبيب، فالأثر هنا أو الحديث لا علاقة له بالترجمة وهي: شراء الصدقة، وبه ختم النسائي كتاب الزكاة، وذكره هنا ليس منسجماً مع الترجمة، وهو يناسب ما سبق أن تقدم عن الخرص، فلا أدري وجه إتيانه هنا.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أن رسول الله أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب فتؤدى زكاته زبيباً ...)

    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي ].هو الفلاس ، ثقة، ناقد، متكلم في الرجال جرحاً وتعديلاً، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة.
    [ عن بشر ويزيد ].
    هو بشر بن المفضل ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    ويزيد بن زريع ، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [ عن عبد الرحمن بن إسحاق ].
    صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [ عن الزهري عن سعيد بن المسيب ].
    الزهري قد مر ذكره، وسعيد بن المسيب ثقة، فقيه، من فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو تابعي، وهذا من مراسيله؛ لأن كونه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتاب بن أسيد يعني: هو حكاية لشيء ما أدركه فيقال له: مرسل؛ لأن التابعي إذا أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً، أو حكى عنه فعلاً، فإنه يكون من قبيل المرسل؛ لأن فيه سقوطاً بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، والمحذور في المرسل أن الساقط يكون غير صحابي؛ لأنه لو كان الساقط صحابياً ما فيه إشكال؛ لأن الصحابة عدول، علموا أو لم يعلموا، ذكرت أسماؤهم، أو لم تذكر، يكفي الواحد منهم أن يقال عنه: صحب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لاحتمال أن يكون الساقط فيه تابعياً، والتابعي يحتمل أن يكون ثقة، وأن يكون ضعيفاً، وإذا كان ضعيفا يكون فيه محذور، من جهة أن الحديث مبني على ضعيف، وهنا عتاب بن أسيد صحابي، لكن لم يرو عنه سعيد، وإنما فيه الإخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتاباً فيكون مرسلاً، وعتاب بن أسيد كان شاباً من شباب الصحابة، وقد تولى إمارة مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وليس هو من رجال الإسناد الذي معنا هنا؛ لأن هذا إخبار من سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتاباً، فليس فيه رواية عن عتاب، وإنما فيه إخبار من سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل كذا وكذا، أو أنه أمر فلاناً بكذا، فهو من قبيل المرسل.


  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الزكاة

    (413)

    - كتاب الجهاد - وجوب الجهاد


    فرض الجهاد بعد الهجرة والغرض منه حماية الدين ونشره، ولذلك يقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، كما أنه قد يكون في حالات فرض عين كما إذا داهم العدو أرض المسلمين، وقد يكون في حالات أخرى فرض كفاية.

    كتاب الجهاد، وجوب الجهاد


    شرح حديث ابن عباس في الإذن بالقتال

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجهاد. باب وجوب الجهاد.أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان عن الأعمش عن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: لما أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة قال أبو بكر رضي الله عنه: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن: فنزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، فعرفت أنه سيكون قتال، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فهي أول آية نزلت في القتال].
    يقول النسائي رحمه الله: [كتاب الجهاد]. بعد ما ذكر الكتب المتعلقة بأركان الإسلام التي هي الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما يلزم للصلاة مما يسبقها من طهارة وغير ذلك من الشروط، أتى بكتاب الجهاد؛ وذكر الجهاد بعد الحج ذكرٌ مناسب، وموضع مناسب؛ لأنه عبادة من العبادات، ولأن الحج ذكر أنه جهاد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور)، فأخبر أن الحج جهاد، أي: جهاد للنفس، والجهاد يأتي ذكره وإطلاقه كثيراً في القرآن وفي السنة والمراد به القتال في سبيل الله، وهو قتال الأعداء، وقتال الكفار ليدخلوا في دين الله عز وجل، وليخرجوا من الظلمات إلى النور، فهذا هو الجهاد، ويطلق على الجهاد أنه في سبيل الله، وهو أحد المصارف الثمانية للزكاة، التي قال الله عز وجل فيها: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ )[التوبة:60]، أي: الجهاد في سبيل الله، (وَاِبْنِ السَّبِيلِ )[التوبة:60]، والجهاد في سبيل الله يكون بأربعة أشياء؛ يكون بالنفس، والمال، واللسان، والنية أو القلب، جهاد الكفار بالمال والنفس جاء كثيراً في القرآن، وكثيراً ما يقدم المال على النفس، عندما تأتي الآيات التي فيها الجهاد بالنفس، والمال، يقدم المال على النفس بالذكر؛ وذلك لعظم شأن المال في تحقيق المقصود من الجهاد؛ لأنه يترتب عليه تحصيل السلاح، ويترتب عليه تحصيل المركوب، ويترتب عليه تحصيل الأطعمة والأرزاق، ويترتب عليه تحصيل الأثاث والمتاع الذي يلزم للجهاد، فمن أجل ذلك قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن جميع ما جاء في القرآن فيه ذكر المال والنفس، فإن المال مقدم على النفس، إلا في موضع واحد، ولعل هذا الموضع هو آية الشراء: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ )[التوبة:111]، فقدم النفس على المال، وإلا فإن المواضع الكثيرة التي فيها الجمع بين المال والنفس في القرآن، قدم المال على النفس أو الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس؛ لما يترتب عليه من الأمور التي أشرت إليها، ولأن الإنسان قد يستطيع الجهاد بالنفس، ولكن ما عنده القدرة المالية، ولا يحصل مركوباً، ولا يحصل سلاحاً، فيتأخر عن الجهاد بسبب ذلك.
    والجهاد بالمال يترتب عليه الأمور الكثيرة، حتى الذي يستطيع أن يجاهد بنفسه، ولا يستطيع أن يحصل مركوباً، عن طريق المال يمكن هذا الذي يستطيع أن يقاتل بنفسه أن يحصل المركوب، وأن يجاهد في سبيل الله عز وجل، فالجهاد بالمال بذل الأموال للمجاهدين، إما لشراء الأسلحة، أو لتحصيل المركوبات، أو لتوفير الزاد والمتاع، وما إلى ذلك، هذا هو الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس: كون الإنسان يخرج بنفسه في سبيل الله ليقاتل الأعداء.
    وأما الجهاد باللسان: فيتعلق ببيان الحجج، والإيضاح، والبيان، وكذلك ذم الكفار، وهجوهم بالشعر وغير ذلك، فإن هذا من الجهاد باللسان، وفيه ما جاء في بعض الأحاديث فيما يتعلق بـحسان وهجوه للكفار، وبيان أن ذلك شديد على الكفار، فذلك من الجهاد باللسان، وأما الجهاد بالقلب، أو الجهاد بالنية، فهو كون الإنسان يرغب في القتال، ويحرص عليه، وليس عنده مال يستطيع أن يجاهد به، أو يحصل به المركوب، وعنده القوة البدنية، ولكن ليس هناك ما يمكنه من الخروج في الجهاد في سبيل الله؛ لعدم وجود الراحلة، وما يحتاج إليه في سفره للجهاد، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سلكتم وادياً، ما قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم حبسهم العذر)، فهؤلاء يعتبرون مجاهدين بقلوبهم وبنياتهم؛ لأنهم كانوا مع المجاهدين بقلوبهم وبنياتهم، وإن لم يستطيعوا أن يذهبوا معهم بأنفسهم، لعدم القدرة المالية التي تمكنهم من الخروج، فهذه أنواع الجهاد الأربعة التي هي: جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، وجهاد بالنية أو القلب.
    ثم أورد النسائي رحمه الله [باب وجوب الجهاد]، يعني: أنه من الأمور الواجبة، وأن هذا أمرٌ لازم، ويكون الجهاد فرض عين، ويكون فرض كفاية، وهذا الوجوب يكون على الأعيان، ويكون على الكفاية، فيكون على الأعيان إذا داهم الناس العدو في بلدهم، فإنه حينئذ يتعين على الكل أن يجاهد لصد الأعداء، ولا يعذر أحد في التخلف عنه؛ لأن العدو دهم الناس، فلابد للجميع من الوقوف صفاً واحداً في وجهه لصده، حتى لا يفتك بهم، وحتى لا يقضي عليهم، فهو عند ذلك يكون فرض عين، وكذلك إذا استنفر الإمام الناس للجهاد، فإنه ليس لأحد التخلف، بل عليه النفير، ويكون فرض كفاية في غير ذلك؛ فيما إذا اختير أناس ليذهبوا للجهاد في سبيل الله، فإن من وقع عليه الاختيار، أو من قدم نفسه لهذه المهمة، وحصل المقصود بذلك، فإنه يكون فرض كفاية، معناه: أنه يكفي البعض عن البعض، ولا يلزم الجميع؛ لأن فرض كافية هو الذي يقوم به البعض ويغني عن البعض الآخر، وفرض العين لا يغني أحدٌ عن أحد، بل يتعين على كل أحد أن يقوم بهذه المهمة، وأن يعمل الشيء الذي يلزمه في ذلك، ثم أورد النسائي عدة أحاديث، أولها: حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه، الذي يرويه عن أبي بكر رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه قومه، واضطروه إلى الخروج، كانوا يؤذونه في مكة، ولم يفرض عليه الجهاد بمكة لحكمة من الله عز وجل، منها: أن عدد المسلمين قليل والكفار كثيرون، فناسب أن يكون فرض الجهاد بعد ذلك، عندما يكون للمسلمين دولة، ويكون لهم إمام، ويكون لهم موطن، ويكون لهم منطلق ينطلقون منه، ويكون لهم موئل يجتمعون فيه، ويهاجرون إليه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرجه قومه، فرض الجهاد على الناس في سبيل الله عز وجل، فـأبو بكر رضي الله عنه، لما اضطر الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج من مكة إلى المدينة، قال: [أخرجوا نبيهم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون]، أخرجوا نبيهم الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور، إنا لله وإنا إليه راجعون [ليهلكن]، أي: ليحلن بهم العذاب؛ لأنهم ارتكبوا جرماً كبيراً، وذنباً عظيماً، وهو إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أخرج من مكة قال في حقها:
    (إنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أنني أخرجت لما خرجت)، هذا هو الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على فضل مكة، وأنها أفضل البقاع، وأحب البقاع إلى الله عز وجل، وهي أفضل من المدن، وما روي من أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لما أخرج من مكة: (اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني في أحب البلاد إليك)، يعني المدينة، فهذا حديث موضوع غير ثابت، ومن حيث المعنى أيضاً يعتبر غير مستقيم؛ لأنه يتضمن أن الأحب إلى رسول الله غير الأحب إلى الله، وهذا غير صحيح؛ لأن الأحب إلى رسول الله هو الأحب إلى الله، فما كان أحب إلى الله فهو أحب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يكون الأحب إلى الله شيئاً والأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر، بل الحديث الصحيح الثابت هو الحديث السابق.
    وقوله: [(فنزلت: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )[الحج:39])]، أذن لهم في القتال؛ لأنهم ظلموا بإخراجهم من بلادهم، والعزم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، لما علموا أنه يريد الخروج من مكة هموا بقتله، وأرسلوا الرسل للبحث عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، قال أبو بكر : [فعرفت أنه سيكون قتال]، قال ابن عباس : فهذه أول ما نزل بشأن القتال، فقوله: فعرفت أنه سيكون قتال، هذا كلام أبي بكر، وليس كلام ابن عباس ؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه كان في ذلك الوقت صغيراً، يمكن كان عمره في ذلك الوقت خمس سنوات، ثم بقي في مكة لم يهاجر في ذلك الوقت فهو صغير، وإنما هذا كلام أبي بكر ، وتقديره: قال ابن عباس : قال أبو بكر ، وقد جاء في بعض الطرق لهذا الحديث إضافة هذا القول إلى أبي بكر رضي الله عنه، وهذا هو الذي يناسب المقام.

    تراجم رجال إسناد حديث ابن عباس: في الإذن بالقتال


    قوله: [أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام].عبد الرحمن بن محمد بن سلام ، وهو لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، وحديثه أخرجه أبو داود، والنسائي.
    [حدثنا إسحاق الأزرق].
    وهو ابن يوسف الأزرق ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا سفيان].
    وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، وهو ثقة، فقيه، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن الأعمش].
    وهو سليمان بن مهران الكاهلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن مسلم].
    هو مسلم بن عمران البطين ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سعيد بن جبير].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن عباس].
    هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحابه الكرام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
    [ عن أبي بكر ].
    هو عبد الله بن عثمان خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل هذه الأمة على الإطلاق، وهو الذي جاء في حقه الفضائل الكثيرة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء التنويه بشأنه في القرآن، في قول الله عز وجل في الهجرة: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فصاحبه هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا أبي حدثنا الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:77])].أورد النسائي حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له، يعني: في أول الإسلام، وهذا مما يرويه ابن عباس عن الصحابة؛ لأنه كان صغيراً في ذلك الوقت، فيروي عن عبد الرحمن بن عوف، أو غيره من الصحابة، فمراسيل الصحابة حجة؛ لأنهم لا يأخذون إلا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فـعبد الرحمن بن عوف وأصحاب له -وكان من أوائل من أسلم- جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا لما كنا مشركين كنا أعزة، يعني: كنا أقوياء وفي عز، فلما آمنا صرنا في ذل؛ لأنهم قليلون والكفار كثيرون، وكانوا يريدون القتال، لكن وضعهم في ذاك الوقت لا يناسب فرض القتال لقلتهم، ولأنهم قليل جداً، والكفار كثيرون أضعاف مضاعفة، والعدد محصور في أول الإسلام، فشاء الله عز وجل أن يكون فرضه عندما توجد القوة التي بها يتمكن المسلمون دحر الأعداء، ومن الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكان ذلك في المدينة عندما وجد للمسلمين موطن يعز فيه الإسلام، ويقوى فيه المسلمون، وتقوى شوكتهم، عند ذلك فرض الله الجهاد، ولهذا وجد النفاق في المدينة؛ لأن النفاق جاء مع القوة والعزة، ولم يكن هناك حاجة لظهوره في مكة؛ لأن من لا يريد الإسلام عنده الكفار، والكفار هم الكثيرون، فلا حاجة لأحد أن يكون منافقاً في مكة، والنفاق إنما وجد في المدينة لما قوي الإسلام وظهر، فكان الذي في قلبه شيء يخفيه، ويظهر الإسلام خوفاً على نفسه ولكنه يبطن الكفر، أما في مكة فلا حاجة إلى هذا الأمر، ولهذا قالوا:
    لما كنا مشركين كنا في عز، فلما آمنا صرنا في ذلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إني أمرت بالعفو، ولم أؤمر بالقتال)، وهو عليه الصلاة والسلام منفذ لما يأمره الله عز وجل به، لا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، إنما هو قائم أو يقوم بما يأمره الله عز وجل به؛ لأن ما يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي من الله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فلما حصل التحول والانتقال من مكة إلى المدينة، وظهر الإسلام، وقوي الإسلام، أمروا بالجهاد، فكان من الذين يريدون فريق عندما فرض الجهاد أصبحوا لا يريدونه، ولا يقدمون عليه؛ لأنه يترتب عليه الهلاك، ويترتب عليه ذهاب النفوس، ولا شك أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ويحصل إما الشهادة في سبيل الله، وإما أن يرجع بنصر وغنيمة من الكفار.
    فهم في مكة كفوا عن القتال؛ لأنهم لما طلبوه ولم يوافقوا كفوا اتباعاً لنبيهم عليه الصلاة والسلام، ولما هاجروا إلى المدينة وأمروا بالقتال، وجد منهم فريق لا يريدون القتال؛ لما يترتب عليه من ذهاب النفوس، فأول ما نزل في الجهاد: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39]، وبعد ذلك نزل الأمر بالقتال مطلقاً، وقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، يعني: سبب الإذن، وهو أنهم ظلموا، وأن أعداءهم حالوا بينهم وبين دعوة الناس إلى الدخول في هذا الدين الحنيف، فهي أول ما نزل في الجهاد.
    فقوله: [(أمرنا بالقتال)]، هو محل الشاهد، وفي الآية ما يدل على وجوب الجهاد، ففيها ذكر أنهم طلبوا، ثم فيها أنه كتب القتال، فلما كتب جاء فريق منهم... إلى آخره.
    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [النساء:77]. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77] فآخرها يدل على ذلك، أي: لما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال)

    قوله: [أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق].وهو ثقة، أخرج له الترمذي، والنسائي .
    [حدثنا أبي].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا الحسين بن واقد].
    وهو ثقة له أوهام، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن عمرو بن دينار].
    هو عمرو بن دينار المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن عكرمة].
    عكرمة مولى ابن عباس ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن عباس].
    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا معتمر سمعت معمراً عن الزهري ، قال: قلت: عن سعيد نعم، عن أبي هريرة، ح وأخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع واللفظ لـأحمد، قالا: حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي، قال أبو هريرة : فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تنتثلونها)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب)، بعثت بجوامع الكلم، وهو كتاب الله عز وجل وسنته المطهرة، فالمقصود بجوامع الكلم: أنها كلمات جامعة، يعني: قليلة الألفاظ، فالكلام البليغ الوجيز، القليل المبنى، الواسع المعنى، هو الجوامع، يعني: كل كلمه جوامع، مثل قوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد)، (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، و(الدين النصيحة)، وغير ذلك، فهي كلمات جوامع، فكلامه لفظه قليل، ومعانيه تكون واسعة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك كتاب الله عز وجل.
    قوله: [(ونصرت بالرعب)]، وهذا فيه الإشارة إلى القتال، وأنه أمر بالقتال، ولكنه نصر بالرعب، وهو يقذفه الله في قلوب الأعداء قبل أن يصل إليهم بمسافة طويلة، يلقي الله في قلوبهم الرعب، وهذا من تثبيت الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ومن إضعاف أعدائهم، وإنزال الهزيمة بهم؛ أن الله تعالى يقذف الرعب في القلوب، وإذا حصل الرعب في القلوب، حصل بعده الوهن والضعف، وعدم تحقيق ما يريدون لما في قلوبهم من الرعب، ونصرت بالرعب، جاء في بعض الأحاديث مسيرة شهر، يعني: أنه يكون المسافة بينه وبين عدوه مسافة شهر، ومع ذلك يكون الرعب في قلوبهم، ولو بعدت المسافة بينه وبينهم.
    قوله: [(وبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض)].
    وهذه رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان تأويلها وتفسيرها ما قاله أبو هريرة : فتوفي رسول الله؟
    قوله: [(فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها)]، معنى هذا أن تأويل هذه الرؤيا: أن المسلمين يتغلبون على الأعداء، وأن ولايتهم تمتد، وأن رقعة البلاد الإسلامية تتسع، وأن الناس يدخلون في دين الله، ومن لم يدخل في دين الله، فإنه يجاهد وتؤخذ منه الجزية، أو تؤخذ منهم الخزائن التي يسلبونها منهم، ويأخذونها منهم، ولهذا قال أبو هريرة : [فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم تنتثلونها]، أي: تستخرجونها، يعني: فهذه المفاتيح هي خزائن الأرض، وقد جاء في الحديث: (أن كنوز كسرى وقيصر ستنفق في سبيل الله)، وقد حصل ذلك في زمن الفاروق ، فتلك الكنوز التي كانت عند تلك الأمتين العظيمتين فارس، والروم، أنفقت في سبيل الله على يد الفاروق من الغنائم التي غنموها في سبيل الله عز وجل، ووجه هذه الرؤيا وتفسيرها في غلبة المسلمين، وتمكنهم من أعدائهم، واستيلائهم على بلادهم، وكونهم يغنمون أموالهم، ويسبون نساءهم وصبيانهم، وكون من بيده مفاتيح الشيء يتمكن من الوصول إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى أنها وضعت بيده، فمعنى هذا أن ذلك المغلق الذي هذا مفتاحه، سيصل إليه من بيده المفتاح، وقد حصل ذلك عند اتساع البلاد بُعيد وفاته صلى الله عليه وسلم، في زمن الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم في زمن عثمان ، ثم بعد ذلك اتسعت قطعة بلاد الإسلام، حتى وصل المسلمون إلى المحيط الأطلسي، ووصلوا إلى بلاد السند، والهند، والصين، ودخل الناس في دين الله عز وجل، وصارت القوة للمسلمين والغلبة لهم، والله عز وجل قادر على نصر المسلمين بدون قتال، ولكن الله عز وجل يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والله تعالى يقول: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]؛ لأن الله عز وجل لو شاء أن يظهر دينه لأظهره بدون قتال، ولكنه شاء أن يكون ذلك عن طريق الصراع بين الحق والباطل، وعن طريق الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال واللسان، وأن ذلك فيه الابتلاء والامتحان، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].

    تراجم رجال إسناد حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب...)

    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى].وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود في القدر، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
    [حدثنا معتمر].
    هو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت معمر].
    هو معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن سعيد].
    وهو ابن المسيب ، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أكثر الصحابة أو أكثر السبعة حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
    [ح وأخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح].
    ثم قال: ح، وهي تدل على التحول من إسناد إلى إسناد، وأحمد بن عمرو بن السرح أبو الطاهر المصري ، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، والنسائي، وابن ماجه.
    [و الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع].
    والحارث بن مسكين ، هو المصري ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي .
    [واللفظ لـأحمد].
    أي: أحمد بن أبي السرح الذي هو الشيخ الأول، وهذا على خلاف عادة النسائي فيما إذا ذكر الحارث بن مسكين وغيره، أنه يجعل اللفظ له غالباً، ولكنه أحياناً يجعل اللفظ لغيره كما هنا، فإنه نص على أن النص لـأحمد، فاللفظ لفظ شيخه الأول، وليس لفظ الثاني، وهو كما ذكرت، خلاف الغالب على عادة النسائي عندما يذكر الحارث بن مسكين وغيره، فإنه يجعل الحارث بن مسكين هو الثاني، ويجعل اللفظ له، وهنا جعله هو الثاني كعادته، ولكنه لم يجعل اللفظ له، بل جعله للشيخ الأول.
    [حدثنا ابن وهب ].
    وهو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن يونس].
    هو يونس بن يزيد الأيلي ثم المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكرهم.

    شرح حديث: (أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثانية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا هارون بن سعيد عن خالد بن نزار أخبرني القاسم بن مبرور عن يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه].أورد النسائي طريقاً أخرى لحديث أبي هريرة، ولم يذكر لفظ هذه الطريق، بل أحال على الطريق السابقة، ولكن بنحو اللفظ المتقدم، وليس بمثله، معناه: أنه متفق معه في المعنى، ويختلف معه في الألفاظ، فهذا هو معنى نحوه، وإذا كانت الطريق الثانية مطابقة للطريق السابقة، فإنه يقال: مثله، يعني: أن اللفظ الذي لم يذكر، وهو متن هذه الطريق، مثل متن الطريق السابقة، أما إذا كان الذي لم يذكر متنه يتفق مع المتن السابق في المعنى، ولكنه يخالفه في الألفاظ، فيعبر عنه بمثل هذه العبارة التي هي: نحوه، أي: نحو هذا اللفظ، أو نحو اللفظ المتقدم قريب منه، يعني: نحوه قريب منه وليس مطابقاً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثانية


    قوله: [أخبرنا هارون بن سعيد].هارون بن سعيد ، وهو ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن خالد بن نزار].
    خالد بن نزار ، وهو صدوق، يخطئ، أخرج له أبو داود ، والنسائي .
    [أخبرني القاسم بن مبرور].
    القاسم بن مبرور ، وهو صدوق، أخرج له أبو داود، والنسائي ، يعني: مثل الذي قبله.
    [عن يونس عن ابن شهاب].
    وقد مر ذكرهما.
    [عن أبي سلمة].
    وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثالثة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا كثير بن عبيد حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي، قال أبو هريرة : فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تنتثلونها)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب ...) من طريق ثالثة


    قوله: [أخبرنا كثير بن عبيد].وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه .
    [حدثنا محمد بن حرب].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزبيدي].
    وهو محمد بن الوليد الزبيدي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .
    [عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء الأربعة.


    شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [أمرت]، الآمر له هو الله عز وجل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا قال: أمرت، فالآمر له هو الله، وإذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، فالآمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: [أمرت أن أقاتل الناس]، فيه: بيان الأمر بالقتال وفرضه، حتى يدخلوا في هذا الدين الحنيف، ويلتزموا بما فيه، فذكر المفتاح والمدخل الذي يكون به الدخول في الإسلام، والمقصود من ذلك الشهادتان.
    ذكر هنا: [حتى يقولوا: لا إله إلا الله]، أي: وأن محمداً رسول الله، يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: محمد رسول الله، لابد من الشهادتين، ولكن ذكرت شهادة أن لا إله إلا الله وحدها؛ لأن الثانية ملازمة لها، ولا تنفك إحداهما عن الأخرى، ولهذا جاء في حديث معاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع الإنسان أن يشهد أن لا إله إلا الله دون أن يشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله، فإن ذلك لا ينفعه، ولهذا اليهود والنصارى بعد بعثته عليه الصلاة والسلام لا ينفعهم أن يكونوا أتباع الأنبياء، بل لابد من دخولهم في الدين الحنيف الذي جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الجن والإنس، وقد ختمت بشريعته الشرائع، فلا عمل في شريعة من الشرائع السابقة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ناسخة للشرائع قبلها، فكتابه خاتم الكتب، وهو خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
    والحديث هنا جاء مختصراً؛ لأنه جاء عن أبي هريرة وغيره، وفيه ذكر الشهادتين، وذكر الصلاة والزكاة؛ (بأنهم إذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم وأنفسهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).
    قوله: [(فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)].
    يعني: ما هو مطلوب في الإسلام، مثل الزكاة والصلاة، فإن الإنسان إذا أنكر هذه الأشياء، فإن إيمانه وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي حصلت منه، ناقضها بتكذيبه؛ لأن مقتضى أشهد أن محمداً رسول الله أن يصدق فيما يخبر به، وأن يمتثل ما يأمر به، وأن ينتهى عما ينهى عنه، فإذا كذب وأنكر، ولم يقبل ذلك الشيء الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يكون بذلك مكذباً لشهادته؛ أن لا إله إلا الله، وشهادته أن محمداً رسول الله، [(عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)]، يعني: أنهم إذا حصل منهم ذلك، فإنهم يأخذون بالظاهر، وإذا كان الباطن الذي لا يعلمه إلا الله يخالف الظاهر، وكان القلب منطوٍ على نفاق، واللسان أظهر الإيمان، والقلب مبطن الكفر، فإن الله تعالى هو الذي يعلم ما في القلوب، وهو مطلع على ما في السرائر، ومن علم ذلك منه فإن مآله إلى النار، وهو من أهل الدرك الأسفل من النار؛ لأن الله تعالى في الآخرة يحاسبهم على ما يعلمه منهم، والمؤمنون يأخذون بالظاهر، والباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولهذا قد يظهر الإنسان بالأعمال الصالحة، ولكنه يبطن الكفر والعياذ بالله، فيكون ذلك نفاقاً، فالله عز وجل هو الذي يعلم ما في القلوب وما في السرائر، وهو الذي يكون الحساب عليه يوم القيامة، وأن من كان مبطناً للكفر ومظهراً الإيمان، فإنه في الدرك الأسفل من النار، ويكون فيها أبد الآباد لا يخرج منها؛ لأنه كافر، وإنما أظهر الإسلام والمسلمون أخذوا به؛ لأن لهم الظاهر، وعلم البواطن على الله سبحانه وتعالى.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ...)

    قوله: [أخبرنا يونس بن عبد الأعلى].هو يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري ، وهو ثقة، أخرج له مسلم، والنسائي، وابن ماجه .
    [و الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة].
    وهؤلاء مر ذكرهم جميعاً.

    شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، وعرفت أنه الحق)].أورد النسائي حديث أبي هريرة ، وهو ما تقدم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي، واستخلف أبو بكر ، وكفر من كفر من العرب، وارتد عن الإسلام، ومنع الزكاة، عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتال مانع الزكاة، فجاء عمر رضي الله عنه وناظره في ذلك، وذكر الحديث الذي فيه:
    (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، يعني: أنه يستدل بقوله: إلا بحق الإسلام، ومن حق الإسلام أن يؤدوا الزكاة، فعند ذلك فهم عمر ورأى أن هذا الذي صار إليه أبو بكر هو الحق، وأن الله شرح صدر أبي بكر إلى الحق، وعرف هو أن ما صار إليه أبو بكر هو الحق، وأن من يمنع الزكاة يقاتلون، ومانع الزكاة إما أن يكون جاحداً لوجوبهاً، وهذا كافر بلا شك، أما إذا كان غير جاحد لوجوبها مقراً بوجوبها، ولكنه امتنع بخلاً أو تأولاً، فإنه إن تُمكن من أخذها منه قهراً، وأخذت منه، وإن كانوا ذوي منعة، وامتنعوا وقاتلوا على منعها، فإنهم يقاتلون حتى يؤدوها، ولهذا أبو بكر رضي الله عنه، لما قال: أن الزكاة حق المال، والرسول صلى الله عليه وسلم، قال: إلا بحقها، والزكاة هي حق المال، الحق الذي أوجبه الله تعالى في المال، قال:
    لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، الذي يصلي ولا يزكي، ويمتنع من أداء الزكاة، ويكون له شوكة، وله منعة، يقاتل، فإنه يقاتَل، وإذا حصل التمكن من كونها تؤخذ بدون قتال، فإنها تؤخذ بدون قتال؛ لأن المقصود هو خروجها، فإذا أخذت ممن هي عليه حصل المقصود، وإن امتنع أو صار الذين امتنعوا ذوي قوة ومنعة، فإنهم يقاتلون حتى يقوموا بهذا الركن من أركان الإسلام، الذي هو أداء الزكاة التي هي حق المال، أو الحق الذي فرضه الله عز وجل في الأموال، ثم قال أبو بكر رضي الله عنه: [(والله لو معنوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها)]، قوله: [(عناقاً)]، المقصود من ذلك: المعز الصغيرة، ومن المعلوم: أنها دون سن الزكاة؛ لأن الزكاة من المعز، والعناق تكون من المعز، إنما تكون لما بلغ سنة فأكثر، وما دون السنة فإنه لا يخرج زكاة، ولكن هذا فيه بيان مبالغة، وأنهم لو منعوا شيئاً هو قليل كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه.
    قال عمر رضي الله عنه: فما إن رأيت أبا بكر فعل ذلك حتى عرفت أنه الحق، وأن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) وفقه أبي بكر له

    قوله: [أخبرنا كثير بن عبيد عن محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله].مر ذكر أولئك إلا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو ثقة، فقيه، من فقهاء التابعين، من الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.

    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس) وفقه أبي بكر له من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة حدثنا عثمان بن سعيد عن شعيب عن الزهري حدثنا عبيد الله ح وأخبرنا كثير بن عبيد حدثنا بقية عن شعيب حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله عز وجل شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)، واللفظ لـأحمد].ثم أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم في الطريق السابقة.
    قوله: [أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة].
    وهو صدوق، أخرج له النسائي وحده.
    [حدثنا عثمان بن سعيد].
    هو عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه .
    [عن شعيب].
    هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري حدثنا عبيد الله].
    وقد مر ذكرهما.
    [ح وأخبرنا كثير بن عبيد].
    مر ذكره.
    [عن بقية].
    وهو ابن الوليد ، وهو صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن شعيب حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن أبا هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء.

    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له من طريق ثالثة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد حدثني شعيب بن أبي حمزة وسفيان بن عيينة وذكر آخر، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لما جمع أبو بكر لقتالهم فقال عمر: يا أبا بكر ، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟! قال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله تعالى قد شرح صدر أبي بكر لقتالهم فعرفت أنه الحق)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.
    قوله: [أخبرنا أحمد بن سليمان].
    هو أحمد بن سليمان الرهاوي ، وهو ثقة، أخرج له النسائي وحده.
    [حدثنا مؤمل بن الفضل].
    مؤمل بن الفضل ، وهو صدوق، أخرج له أبو داود، والنسائي .
    [حدثنا الوليد].
    هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة ،كثير التدليس والتسوية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [حدثني شعيب بن أبي حمزة].
    وقد مر ذكره.
    [وسفيان بن عيينة وذكر آخر].
    هو سفيان بن عيينة المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكرهم.


    حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ...) وفقه أبي بكر له من طريق رابعة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا عمران أبو العوام القطان حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ارتدت العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والله لو منعوني عناقاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر رضي الله عنه: فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح علمت أنه الحق). قال أبو عبد الرحمن: عمران القطان ليس بالقوي في الحديث، وهذا الحديث خطأ، والذي قبله الصواب، حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة].أورد النسائي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو بمعنى حديث أبي هريرة ، إلا أن فيه ذكر الصلاة والزكاة، وأيضاً حديث ذكر الصلاة والزكاة جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)، فهو في الصحيحين من حديث: ابن عمر ، وفيه ذكر الصلاة والزكاة، وحديث أنس هنا فيه ذكر الصلاة والزكاة.
    وقال النسائي: إنه خطأ، والصواب هو ما تقدم عن أبي هريرة ، لكن هذا الذي جاء في حديث أنس هو ثابت من حديث غيره، وهو في الصحيحين، وحديث ابن عمر أورده النووي في الأربعين النووية، وهو الحديث الثامن من أحاديث الأربعين.
    قوله: [أخبرنا محمد بن بشار].
    محمد بن بشار الملقب: بندار المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [عن عمرو بن عاصم].
    عمرو بن عاصم ، وهو صدوق في حفظه شيء، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن عمران أبو العوام القطان].
    وهو عمران بن داور أبو العوام القطان ، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن معمر عن الزهري عن أنس].
    وقد مر ذكرهم.
    [عن أنس ].
    وهو أنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الجهاد

    (414)

    - (باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه) إلى (باب ثواب عين سهرت في سبيل الله عز وجل)



    اعتبر المولى سبحانه الجهاد من أعظم القربات والطاعات التي يترتب عليها أجر عظيم، فجعل للمجاهد أجراً كبيراً في أعماله، فقدمه تغبر في سبيل الله وله بذلك أجر، وعينه تسهر في سبيل الله وله بذلك أجر وغير ذلك.
    فضل من عمل في سبيل الله على قدمه


    شرح حديث: (إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله ... على قدمه حتى يأتيه الموت ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه.أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي الخطاب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام تبوك يخطب الناس وهو مسند ظهره إلى راحلته، فقال: ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلاً فاجراً يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه)].
    يقول النسائي رحمه الله: باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه، مراد النسائي من هذه الترجمة أن من يعمل في سبيل الله وإن لم يكن راكباً وإنما كان يمشي على قدميه أن له فضل وشأن عظيم عند الله عز وجل، وقد أورد النسائي فيه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [(أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خطب الناس عام تبوك وكان مسنداً ظهره إلى راحلته، قال: ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس؟ -ثم ذكر خير الناس- وإن من خير الناس رجلاً جاهد في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدمه)]، وهذا هو محل الشاهد، قوله: على قدمه؛ لأنه ذكر الذين يجاهدون ومنهم الراكب على الفرس ومنهم الراكب على البعير ومنهم الذي يمشي على قدميه، والمقصود في الترجمة هو الذي يمشي على قدميه.
    وشر الناس رجل يقرأ كتاب الله ولا يرعوي إلى شيء منه يقرأ كتاب الله ويعلم ما فيه من الحق والهدى ثم لا يرجع إلى شيء منه، فهو يعرف الحق ولا يعمل به والعياذ بالله، والمقصود من الترجمة والحديث الذي أورد تحتها ما جاء في ذكر القدم، وأن الذي يمشي على قدمه ومثله الذي يركب على فرسه أو الذي يركب على بعيره أن هذا من خير الناس.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله ... على قدمه حتى يأتيه الموت ...)


    قوله: [أخبرنا قتيبة].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الليث].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.
    [عن يزيد بن أبي حبيب].
    هو يزيد بن أبي حبيب المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي الخير].
    هو مرثد بن عبد الله اليزني المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.
    [عن أبي الخطاب].
    هو أبو الخطاب المصري، وهو مجهول، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن أبي سعيد الخدري].
    هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله تعالى عنه، وهو صحابي جليل، أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في سنده أبو الخطاب المصري وهو مجهول فالإسناد ضعيف.

    شرح حديث: (... لا يجتمع غبار في سبيل ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا جعفر بن عون حدثنا مسعر عن محمد بن عبد الرحمن عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (لا يبكي أحد من خشية الله فتطعمه النار حتى يرد اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: [(لا يبكي أحد من خشية الله فتطعمه النار حتى يرد اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)]، المقصود من الترجمة هو ما جاء في الشق الثاني من الحديث: من جهة أنه لا يجتمع غبار ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً، أي أنه لا يدخل النار من حصل له هذا الغبار في سبيل الله، والنسائي أورد الحديث تحت العمل على القدمين، وهو لا يختص بالعمل على القدمين؛ لأنه يمكن أن يحصل الغبار لمن يمشي على قدميه ولمن يركب على فرس أو على بعير؛ لأنه يحصل الاغبرار لاسيما عندما يحصل النقع والعدو من الخيل والإبل ويثور الغبار فإنه يصل إلى المناخر، ولا يختص ذلك بالمشي فهو أعم وأوسع من الترجمة، ولكنه لا شك ينطبق على الترجمة من جهة بعض ما يدخل تحتها، أي الذي يمشي على قدميه، فالحديث يشمل الماشي على قدميه والراكب، كما أن الحديث الذي قبله فيه ذكر الراكب على الفرس والراكب على البعير والذي يمشي على قدميه فيشمل هؤلاء جميعاً، وكذلك هذا الحديث ليس فيه تفصيل للذين يجاهدون في سبيل الله من حديث أنهم راكبون أو ماشون، ولكنه يدل على أن هؤلاء كلهم يحصل لهم هذا الغبار الذي يدخل في مناخرهم وذلك في سبيل الله عز وجل.
    وأول الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: [(لا يبكي أحد من خشية الله فتطعمه النار حتى يرد اللبن في الضرع)]، أي أن هذا من المحال؛ لأن اللبن إذا خرج من الضرع لا يمكن إدخاله فيه وإعادته من مخرجه؛ لأنه يحلب فيخرج ولكنه لا يمكن رده من مخرجه، وإن كان يمكن في الوقت الحاضر بعدما وجد الطب عن طريق الإبر لكن المقصود المكان الذي خرج منه لا يرجع معه، وهذا من جنس قوله:
    حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، والجمل لا يلج في سم الخياط الذي هو ثقب الإبرة؛ لأن الجمل كبير وثقب الإبرة صغيرة ولا يمكن أن يكون، ومعنى هذا أنه لا يحصل، وكذلك هنا لا يحصل دخول اللبن من الطريق الذي خرج منه بحيث يعود اللبن في الضرع، كما كان أولاً قبل الحلب، فكذلك من بكى من خشية الله لا تطعمه النار، أي لا تأكله النار، وهذا يدل على فضل البكاء من خشية الله، وأن ذلك فيه الأجر العظيم والثواب الجزيل، وقد ورد في الحديث أن الذي يبكي من خشية الله أحد السبعة (الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهم إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه)، أي بكى من خشية الله، فالحديث الذي معنا يدل على فضل البكاء من خشية الله، وأن من حصل منه ذلك فإنه لا يدخل النار إلا إذا كان اللبن يعود في الضرع كما خرج، وهذا لا يكون، فإذاً لا تمسه النار ولا تطعمه النار بل يكون من أهل الجنة.
    ثم قال:
    [(ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)]، أي أن من جاهد في سبيل الله، وحصل له ما حصل في سبيل الله من الأذى والتعب، وحصل ذلك الغبار الذي يطير ويدخل في أنفه فإنه لا يجتمع ذلك الغبار ودخان نار جهنم، أي لا يدخل النار؛ لأن من حصل له ذلك، أي الجهاد في سبيل الله، ودخل الغبار في منخره، فإنه يكون من أهل الجنة ولا يكون من أهل النار؛ لأن الغبار حصل في الدنيا، ودخان نار جهنم يكون في الآخرة، فمنخر دخله الغبار في سبيل الله في الدنيا لا يدخله دخان جهنم في الآخرة.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)


    قوله: [أخبرنا أحمد بن سليمان].أحمد بن سليمان الرهاوي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن جعفر بن عون].
    صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن مسعر].
    هو مسعر بن كدام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن عبد الرحمن].
    هو محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن عيسى بن طلحة].
    هو عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    حديث: (... ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم) من طريق ثانية وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا هناد بن السري عن ابن المبارك عن المسعودي عن محمد بن عبد الرحمن عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [أخبرنا هناد بن السري].
    هو هناد بن السري أبو السري الكوفي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن ابن المبارك].
    هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن المسعودي].
    هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي، وهو صدوق اختلط، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن محمد بن عبد الرحمن عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكرهم، والحديث وإن كان فيه المسعودي وقد اختلط إلا أن له شواهد، ومنها الشاهد الأول الذي قبله، أو له متابعات والحديث الذي قبله أو الطريق التي قبله وهي صحيحة في معناه.

    شرح حديث: (... ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ...) من طريق ثالثة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عيسى بن حماد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو مثل الذي قبله فيما يتعلق بذكر اجتماع الغبار وفيح جهنم، في الحديث السابق قال: دخان جهنم وهنا فيحها وهو حرارتها، حرارة جهنم لا تجتمع في إنسان جاهد في سبيل الله عز وجل، فلا يجتمع غبار في سبيل الله وفيح جهنم، بل من حصل له ذلك العمل العظيم النبيل فإنه يكون في الجنة، ولا يكون في النار ولا يمسه لهبها وفيحها ودخانها.
    قوله: [(لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافراً ثم سدد وقارب)].
    أي وذلك الكافر الذي قتله المسلم لا يجتمعان، أي الكافر محله النار فالمسلم ذلك لا يجتمع معه في النار وإنما يكون في الجنة لا يكون في النار، فهو لا يجتمع مع ذلك الكافر إذا كان بعد قتله إياه سدد وقارب -بمعنى أنه استقام والتزم ولم ينحرف- فإن عدم اجتماعها مقيد بهذا القيد الذي هو التسديد والمقاربة.
    قوله: [(ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم)].
    أي الغبار الذي دخل إلى حلقه من منخره أو من فمه وذهب إلى جوفه من حلقه، لا يجتمع وفيح جهنم، بل أنه لا يدخل جهنم ولا يناله فيحها ولا يمسه فيحها، ولا عذابها؛ لأنه دخل الجنة ولم يدخل النار.
    قوله: [(ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد)].
    الحسد الذي هو تمني زوال النعمة عن الغير سواء جاءت إليه أو لم تأتِ إليه، فهو الحقد والخبث في النفس، يتمنى أن يحرم الناس الخير وأن يزول ما في أيديهم من الخير، هذا هو الحسد المذموم الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والإنسان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله بل يسأل الله من فضله، وفضل الله واسع، فالله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، تفضل على من شاء ويتفضل على هذا الذي يسأل والذي يطلب من الله العطاء والرزق، لكن لا يكون عنده الخبث الذي هو تمني زوال النعمة عن الناس بل يسأل الله عز وجل من فضله، ولهذا جاء في القرآن: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ )[النساء:32]، ثم قال بعد ذلك: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ )[النساء:32]، يعني سد باب التمني أن يحصل ما حصل ذلك، فلا يجتمع الإيمان والحسد في قلب مسلم، وقيل في معناه: لا يجتمع الإيمان الكامل والحسد؛ لأن من وجد عنده الحسد فعنده نقص في الإيمان وليس عنده كمال في الإيمان، فكمال الإيمان أو الإيمان الكامل لا يجتمع مع الحسد، وإن كان قد يوجد أصل الإيمان مع وجود الحسد، لكن الذي نفي هو الكمال، فهو لا يجتمع مع وجود الحسد، بل إن من وجد منه الحسد فعنده النقص في الإيمان وليس عنده الكمال في الإيمان، والكمال انتفى عنه، وقيل في معناه: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكون في قلبه هذا مع هذا بل يكون في قلبه الإيمان دون الحسد، وهو يدل على خطورة الحسد، وقد جاء في الحديث: (أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).


    تراجم رجال إسناد حديث: (.. ولا يجتمعان في جوف مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ...) من طريق ثالثة


    قوله: [أخبرنا عيسى بن حماد].هو عيسى بن حماد المصري الملقب زغبة، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن الليث].
    هو الليث بن سعد، وقد مر ذكره.
    [عن ابن عجلان].
    هو محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن سهيل بن أبي صالح].
    صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، والبخاري أخرج له تعليقاً ومقروناً، لكن على اصطلاح المزي وغيره أن من أخرج له وهو مقرون فإنه يرمز له برمز الأصل، وإنما الذي يميز هو التعليق، وأما من روي له ولو كان مقروناً، فإنه يرمز له برمز الأصل الذي هو البخاري إذا كان منفرداً، وإذا كان روى له أصحاب الكتب الستة والبخاري روى له مقروناً فإنه يرمز له برمز الأصل ولهذا فهو صدوق، خرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه].
    هو ذكوان السمان، ويقال: الزيات، اسمه ذكوان ولقبه السمان، والزيات، وكان يجلب الزيت والسمن، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.

    شرح حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق رابعة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن سهيل عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق أخرى وفيه مثل ما تقدم فيما يتعلق في اجتماع الغبار ودخان جهنم، وكذلك هنا ذكر الإيمان والشح، والحديث الذي قبله ذكر الحسد، والحسد هو نتيجة الشح؛ لأن الشح هو أشد البخل، ولهذا أثنى الله على الأنصار رضي الله عنهم في إيثارهم وإحسانهم كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9]، ثم قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، والشح هو نهاية البخل أو شدة البخل، فهو أخص من البخل؛ لأن البخل أعم منه والشح هو شدته ونهايته، فهو أسوأ ما يكون من البخل وينتج عنه الحسد، فيكون الإنسان جموعاً منوعاً كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني أكره لكم ثلاثاً عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات).

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق رابعة


    قوله: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم].هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن راهويه الحنظلي، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [عن جرير].
    هو جرير بن عبد الحميد الضبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سهيل].
    وقد مر ذكره.
    [عن صفوان بن أبي يزيد].
    مقبول، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، والنسائي.
    [عن القعقاع بن اللجلاج].
    مجهول، أخرج حديثه النسائي وحده، والقعقاع يقال له: حصين ويقال له: خالد، ويأتي بكنية أبي العلاء وهو شخص واحد.
    [عن أبي هريرة].
    قد مر ذكره.
    والقعقاع بن اللجلاج هذا مجهول لكن الحديث له شواهد عن أبي هريرة في الطرق المتقدمة، وكلها تدل عليه وتدل على ما فيه.

    حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق خامسة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن سليم عن خالد بن اللجلاج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه رجل أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل الطريق التي قبله.
    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي].
    هو عمرو بن علي الفلاس، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [عن عبد الرحمن بن مهدي].
    عبد الرحمن بن مهدي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن حماد بن سلمة البصري].
    حماد بن سلمة البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري تعليقا، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن سليم عن خالد بن اللجلاج عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء جميعاً.

    حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق سادسة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني محمد بن عامر حدثنا منصور بن سلمة أخبرنا الليث بن سعد عن ابن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد، ولا يجتمع الشح والإيمان في جوف عبد)].ذكر النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [أخبرنا محمد بن عامر].
    ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن منصور بن سلمة].
    ثقة، أخرج له البخاري، ومسلم، وأبو داود في المراسيل، والنسائي.
    [عن الليث بن سعد].
    قد مر ذكره.
    [عن ابن الهاد].
    هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، وهو ثقة، مكثر، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء الأربعة.


    حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله عز وجل ...) من طريق سابعة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا عمرو بن علي حدثنا عرعرة بن البرند وابن أبي عدي، قالا: حدثنا محمد بن عمرو عن صفوان بن أبي يزيد عن حصين بن اللجلاج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يجتمع غبار في سبيل الله عز وجل ودخان جهنم في منخري مسلم أبداً)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى وهو مشتمل على إحدى الجملتين اللتين جاءتا في الطرق المتقدمة.
    قوله: [أخبرنا عمرو بن علي].
    قد مر ذكره.
    [عن عرعرة بن البرند].
    صدوق يهم، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [و ابن أبي عدي].
    هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن عمرو].
    هو محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، وهو صدوق له أوهام، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن صفوان بن أبي يزيد عن حصين بن اللجلاج عن أبي هريرة].
    وحصين هذا هو خالد، وهو القعقاع الذي مر في الروايات السابقة، عن أبي هريرة، وقد مر ذكرهم.

    حديث: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق ثامنة وتراجم إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني شعيب بن يوسف حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن صفوان بن أبي يزيد عن حصين بن اللجلاج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [أخبرني شعيب بن يوسف].
    هو شعيب بن يوسف النسائي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن يزيد بن هارون].
    هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن عمرو عن صفوان بن أبي يزيد عن حصين بن اللجلاج عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء جميعاً.

    حديث: (لا يجمع الله عز وجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم ...) من طريق تاسعة وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب عن الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن أبي يزيد عن أبي العلاء بن اللجلاج: أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (لا يجمع الله عز وجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مسلم، ولا يجمع الله في قلب امرئ مسلم الإيمان بالله والشح جميعاً)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل ما تقدم.
    قوله: [قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم].
    هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري هو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن شعيب].
    هو شعيب بن الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
    [عن الليث].
    وقد مر ذكره.
    [عن عبيد الله بن أبي جعفر].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن صفوان بن أبي يزيد عن أبي العلاء بن اللجلاج عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء جميعاً، وأبو العلاء بن اللجلاج هو القعقاع، وهو حصين، وهو خالد أسماء لشخص واحد.
    قوله: [أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (لا يجمع الله عز وجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم)].
    نعم وهو مرفوع تصريحاً كما جاء في الطرق السابقة كلها عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.


    ثواب من اغبرت قدماه في سبيل الله


    شرح حديث: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ثواب من اغبرت قدماه في سبيل الله.أخبرنا الحسين بن حريث حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي مريم، قال: لحقني عباية بن رافع وأنا ماش إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار)].
    أورد النسائي: في فضل من اغبرت قدماه في سبيل الله الأحاديث التي مرت فيما يتعلق بذكر الغبار في المنخر والجوف، وأنه لا يجتمع مع دخان جهنم ومع فيح جهنم، أيضاً كذلك من اغبرت قدماه في سبيل الله فله هذا الأجر؛ لأن المقصود: أنه جاهد في سبيل الله وقد أورد النسائي تحت هذه الترجمة: حديث أبي عبس رضي الله تعالى عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار)]، يعني لا يدخلها وإنما يدخل الجنة، والحديث ورد ذكره في سبيل الله عز وجل وهو الجهاد في سبيل الله، ولكن عباية بن رافع جعله على ما هو أوسع من الجهاد في سبيل الله، وهو قتال الأعداء، والذهاب في الغزو لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بل اعتبر المعنى الأعم في سبيل الله الذي هو أعمال الخير، ووجوه الخير.
    وفي سبيل الله يطلق إطلاقين إطلاقاً عاماً ويراد به وجوه الخير كلها يقال لها: في سبيل الله؛ لأن كل عمل صالح هو في سبيل الله ومن أجل الله، ويطلق إطلاقاً خاصاً، ويراد به الجهاد في سبيل الله، هو الذي يطلق عليه في سبيل الله في الغالب، ولهذا جاء ذكره في مصارف الزكاة الثمانية بلفظ: في سبيل الله، مع أنه قد ذكر معه أموراً أخرى هي في سبيل الله بالمعنى الأعم، لكن يراد في سبيل الله ذلك المعنى الأخص الذي هو الجهاد في سبيل الله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، إعطاء الفقراء والمساكين هو في سبيل الله بالمعنى الأعم إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، العاملين عليها يأخذون أجرة عملهم؛ لأنها ليست صدقة وإنما هي أجرة إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، والمؤلفة قلوبهم أيضاً في سبيل الله فكونه الإنسان يعطى لتأليفه ولكونه يسلم بإسلامه خلق كثير أو يقوى إسلامه، أو يحصل نفعه بما له من شأن ومنزلة هو في سبيل الله، وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]، فك الرقاب وتخليصها من العبودية بالحرية هذا في سبيل الله، وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]، يعني كذلك الذي غرموا أموالاً للإصلاح بين الناس هذا في سبيل الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]، الذي هو الجهاد في سبيل الله، وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، أيضاً في سبيل الله الذي هو بمعنى الأعم.
    فإذاً: في سبيل الله يراد بها الجهاد في سبيل الله، ويراد بها أيضاً وجوه الخير والبر، كلها يقال لها: في سبيل الله، وعباية بن رافع في هذا الحديث قال لـيزيد بن أبي مريم، قال له عباية وقد لحقه وهو ذاهب إلى صلاة الجمعة يمشي على قدميه، فقال له: أبشر فإني سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار)]، ففسرها بهذا المعنى الأعم الذي هو أعمال البر وأعمال الخير، وجعل ذهابه إلى الجمعة وما يحصل لقدميه من الاغبرار أن ذلك في سبيل الله وأنه يحصل ذلك الأجر من الله عز وجل.
    وقد جاء في فضل الذهاب إلى المساجد والرجوع منها، أن كل خطوة يخطوها يرفع الله له بها درجة ويحط عنه بها خطيئة، ووردت أحاديث أخرى كثيرة في فضل الذهاب إلى المساجد وعظيم أجرها وثوابها عند الله عز وجل، فالذي يظهر أن المقصود من الحديث هو الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار)


    قوله: [أخبرنا الحسين بن حريث].هو الحسين بن حريث المروزي، هو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [عن الوليد بن مسلم].
    هو الوليد بن مسلم الدمشقي، وهو ثقة كثير التدليس والتسوية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن يزيد بن أبي مريم].
    لا بأس به وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن عباية].
    هو عباية بن رفاعة بن رافع الأنصاري الخزرجي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي عبس].
    هو أبو عبس بن جبر، صحابي، أخرج حديثه البخاري، والترمذي، والنسائي.


    ثواب عين سهرت في سبيل الله عز وجل

    شرح حديث: (حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ثواب عين سهرت في سبيل الله عز وجل.أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن شريح سمعت محمد بن شمير الرعيني سمعت أبا علي التجيبي: أنه سمع أبا ريحانة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)].
    أورد النسائي في هذه الترجمة ثواب عين سهرت في سبيل الله قوله عليه الصلاة والسلام: [(حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)].
    أي سهرت في الجهاد أو في الحراسة؛ لأن السهر يكون للجهاد ويكون لحراسة الجيش من الأعداء وتنبيهه إلى ما يحصل، بحيث يبقى مستيقظاً إذا نام الناس فهو يحرس، وكذلك الذين يكونون في الرباط في سبيل الله وعلى الثغور وعلى الحدود وهم يحرسون، فهذا من الرباط في سبيل الله، فإن ذلك كله يدخل في السهر، الذي هو عدم النوم من أجل مراقبة الأعداء ومعرفة ما يحصل منهم من تحركات؛ حتى ينبه المسلمون إلى ما يحصل منهم لدفع شرهم ودفع أذاهم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (حرمت عين على النار سهرت في سبيل الله)

    قوله: [أخبرنا عصمة بن الفضل].ثقة، أخرج له النسائي وابن ماجه.
    [عن زيد بن حباب].
    صدوق، أخرج له البخاري في جزء القراءة، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن عبد الرحمن بن شريح].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن شمير الرعيني].
    مقبول، أخرج له النسائي وحده.
    [عن أبي علي التجيبي].
    في تحفة الأشراف الجنبي، وهو مصري طبعاً، ولا أدري هل التجيبي، والجنبي فيه تحريف أو أن هذا إطلاق صحيح، أي بالنسبة للجنبي، والتجيبي؛ لأن التجيبي ينسب إليها كثيرون من مصر فيقال: التجيبي، ومنهم عيسى بن حماد زغبة الذي مر في الإسناد السابق، وسعيد بن كثير بن عفير، وجماعة كثيرون يقال لهم: التجيبي، وهنا قال: التجيبي وهو عمرو بن مالك، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبي ريحانة].
    هو شمعون بن زيد، وهو صحابي، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الجهاد

    (415)

    - (تابع باب وجوب الجهاد) إلى (باب فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)



    الجهاد أنواع ومراتب أفضلها من يجاهد بنفسه وماله، وله في ذلك الأجر العظيم، ومع ذلك فقد رخص في التخلف عنه لمن كان له والدان لم يأذنا له في الجهاد ولم يكن الجهاد فرض عين.
    تابع وجوب الجهاد

    شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى تحت ترجمة: [باب وجوب الجهاد.أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة حدثنا عثمان عن شعيب عن الزهري ح وأخبرنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير حدثنا أبي حدثنا شعيب، عن الزهري حدثني سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله)].
    فحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا سبق أن مر من طرق عديدة، وكذلك جاء عن غير أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ويقول في هذا الحديث عليه الصلاة والسلام: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)]، وهنا اقتصر على الشهادة لله بالوحدانية، ولابد معها من الشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ لأن الشهادتين متلازمتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى، ومنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفع أحداً أن يقول: إنه مؤمن بالله دون أن يكون مؤمناً بمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، بل يجب على كل إنسي وجني من حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فليس له إلا النار، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: (والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، فالشهادتان متلازمتان لابد منهما، فالمقصود مما جاء في حديث أبي هريرة: أن الكافر يدخل في الإسلام بهذه الشهادة، وبقول: لا إله إلا الله، ثم يطالب بعد ذلك بالأمور التي وراءها، كما جاء ذلك مبيناً في حديث معاذ بن جبل حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، والكافر إذا أظهر الشهادتين لله بالوحدانية ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بالرسالة فإنه يعصم نفسه وماله بذلك، إلا بحق الإسلام وهو الأمور الأخرى التي لابد منها.
    قوله: [(وحسابه على الله عز وجل)]، أي: أنه إذا أظهر الشهادتين، وأظهر الإسلام، فإنه يقبل منه؛ لأن المسلمين ليس لهم إلا الظاهر، وأما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، فلو أن هذا الذي أظهر الإسلام مبطن الكفر، أي: منافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإن حسابه على الله عز وجل، وهو الذي يعلم منه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ويكون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه من جملة الكفار؛ لأنه مؤمن ظاهراً، ولكنه كافر باطناً، فمأواه ومستقره الدرك الأسفل من النار، كما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل.
    وذكرت أن حديث أبي هريرة هذا فيه إجمال وفيه اختصار، وأما ما جاء في حديث ابن عمر فهو أوسع، حيث قال: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)]، وهذا الذي جاء في حديث ابن عمر متفق مع ما جاء في القرآن في سورة التوبة في آيتين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ )[التوبة:5]، (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ )[التوبة:11].


    تراجم رجال إسناد حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...)


    قوله: [أخبرنا أحمد بن محمد بن المغيرة].أحمد بن محمد بن المغيرة صدوق، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن عثمان].
    هو عثمان بن سعيد بن كثير الحمصي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن شعيب].
    هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [ح وأخبرنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير].
    ثم قال: ح، وهي حاء التحويل الدالة على التحول من إسناد إلى إسناد.
    عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، وهو صدوق، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن أبيه].
    هو عثمان الذي مر في الإسناد الذي قبل هذا، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن شعيب عن الزهري].
    وقد مر ذكرهما.
    [عن سعيد بن المسيب].
    وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    شرح حديث: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا هارون بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم، قالا: حدثنا يزيد أخبرنا حماد بن سلمة حدثني حميد عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم، وأيديكم، وألسنتكم)].أورد النسائي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [(جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)]، وهذا الحديث فيه أنواع الجهاد الثلاثة، التي هي: الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس، الذي قال: بأيديكم هنا، والجهاد باللسان، والجهاد بالمال قدم على غيره، ويأتي كثيراً تقديم الجهاد بالمال على غيره؛ لأنه هو الذي يكون فيه تحقيق المقصود من الجهاد؛ وذلك لأن الجهاد بالمال يمكن من الجهاد بالنفس؛ لأن من يكون عنده استعداد للجهاد بنفسه لكنه ما عنده ما يركبه وما عنده ما يمكنه من الذهاب إلى الجهاد فوجود المال يمكن مثل هذا الشخص القوي ببدنه من الجهاد في سبيل الله عز وجل، ثم أيضاً الجهاد بالمال فيه شراء الأسلحة، وفيه توفير المركوب، وفيه توفير الزاد، والطعام، والمتاع اللازم للجهاد في سبيل الله، فمن أجل ذلك يأتي ذكره كثيراً في الكتاب، والسنة مقدماً على الجهاد بالنفس، وقد ذكر بعض أهل العلم أن المواضع التي جاء فيها ذكر الجهاد بالمال والنفس في القرآن، قدم في جميعها الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، إلا في موضع واحد من القرآن وهو في آية الشراء: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )[التوبة:111]، فإنها قدمت الأنفس على الأموال، وإلا فالمواضع الأخرى التي فيها ذكر الجهاد بالمال والنفس، قدم فيها الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
    والجهاد بالألسنة يكون ببيان عظم شأن الإسلام وفضله، وما فيه من الخير، وإقامة الحجج، والذم للكفار؛ وذلك بالشعر، كما حصل من حسان بن ثابت رضي الله عنه، فإنه كان يهجو الكفار، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بذلك، ويخبر بأن هذا الذي يحصل منه لهم أشد عليهم من وقع النبل، فالجهاد يكون بالمال، ويكون بالنفس، ويكون باللسان، وهذه أقسام ثلاثة.
    وهناك قسم رابع: وهو الجهاد بالقلب أو الجهاد بالنية، ويدل له الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب الناس إلى تبوك، فقال: (إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر)، يعني: أنهم مجاهدون بنياتهم، وبعزائمهم، وبقلوبهم، وبحرصهم، وإن كانوا غير قادرين بالأنفس، أو بالأموال، لكن عندهم الحرص، وعندهم الرغبة، وعندهم الحب الشديد للجهاد في سبيل الله، ولكنهم لا يجدون القدرة على ذلك؛ لعدم سعة المال عندهم، وعدم توفر المركوب، وما يحتاج إليه في الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه أنواع الجهاد الأربعة، وثلاثة منها جاءت في هذا الحديث، هذا بالنسبة لجهاد الأعداء.
    أما جهاد النفس فهذا هو أهم الجهاد، ويترتب عليه الجهاد الأعظم الذي هو قتال الكفار؛ لأن الجهاد بالنفس هو الذي يدفع إلى قتال الكفار، مجاهدة النفس وتعويدها على ما يعود عليها بالخير، والحذر من الوقوع فيما يعود عليها بالضرر وبالشر، فإذا وجد جهاد النفس الذي هو جهاد النفس الأمارة بالسوء فإن هذا هو الوسيلة وهذا هو الذي يدفع حقيقة إلى الجهاد الذي هو قتال الكفار، والذي هو الخروج في سبيل الله، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولجلبهم وسحبهم إلى الجنة بالسلاسل، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    تراجم رجال إسناد حديث: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم)


    قوله: [أخبرنا هارون بن عبد الله].هارون بن عبد الله هو الحمال البغدادي، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [و محمد بن إسماعيل].
    هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور أبوه: بـابن علية، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده، وهذا الرجل أبوه ثقة، إمام، من أئمة أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وله أخ سيئ وهو: إبراهيم بن إسماعيل الذي قال عنه الذهبي في الميزان: جهمي هالك، وهو الذي يعرف بالشذوذ في مسائل فقهية، عندما يأتي في بعض المسائل الفقهية: وخالف فيها الأصم، وابن علية، يعني: عندما يأتي ذكر ابن علية في مسائل الفقه الشاذة فالمراد به: الجهمي المبتدع الذي هو إبراهيم، ومن المسائل التي جاء فيها ذكره مسألة الإجارة، يقول: الإجارة حرام لا تجوز، وقالوا: إنه خالف فيها ابن علية، والأصم، ابن علية هذا الذي هو: إبراهيم، والأصم الذي هو: أبو بكر بن كيسان المعتزلي، وهو غير الأصم الذي هو شيخ الحاكم: محمد بن يعقوب الأصم الذي هو ثقة، لكن الذي يأتي ذكره في المسائل الفقهية التي يشذ فيها، فالمراد به: أبو بكر بن كيسان الأصم.
    [عن يزيد].
    هو يزيد بن هارون الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن حماد بن سلمة].
    هو حماد بن سلمة البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن حميد].
    هو حميد بن أبي حميد الطويل، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وقالوا في ترجمته: إنه مات فجأة في الصلاة، أي: مات وهو يصلي.
    [عن أنس].
    هو أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأنس بن مالك، وأم المؤمنين عائشة، ستة رجال وامرأة واحدة، رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين.

    الجهاد بالكتابة من جنس الجهاد باللسان


    ومن يكتب ضد المشركين ويبين ما هم فيه هذا كما هو معلوم من جنس الجهاد باللسان؛ لأن الكتابة هي مثل القول، بل قد تكون أبلغ من القول، أو أعظم نفعاً من القول، من جهة بقائها واستمرارها، بخلاف القول فإنه يذهب بذهاب قائله، ولكنه يمكن أن يؤخذ عنه ويتناقل، لكن كتابة العلم وبيان محاجة الكفار، وكذلك بيان فضل الإسلام، وكذلك بيان محاسنه، وذم الكفار وهجوهم، وما إلى ذلك من جنس اللسان، لا يقال: إنه من جنس الجهاد باليد الذي هو قتال الكفار وملاقاة الكفار، بل هو من جنس الجهاد باللسان، وهو مثل القول، ولهذا الإنسان لو كتب طلاق زوجته بيده ولم يتلفظ فإنها تطلق بكتابته ذلك؛ لأن الكتابة مثل القول.

    التشديد في ترك الجهاد

    شرح حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [التشديد في ترك الجهاد.أخبرنا عبدة بن عبد الرحيم حدثنا سلمة بن سليمان أخبرنا ابن المبارك حدثنا وهيب يعني: ابن الورد أخبرني عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق)].
    أورد النسائي: التشديد في ترك الجهاد، يعني: ما فيه من التشديد ومن الخطورة، وأنه جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحذير من ذلك، وببيان خطورة من حصل منه ترك الجهاد، وأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق)]، قوله: [(ولم يغز)]، يعني: حصل منهم مباشرة الغزو، [(ولم يحدث نفسه بالغزو)]، يعني: ما فكر ولا اهتم، فإنه يموت على شعبة من النافق؛ ذلك أن المنافقين شأنهم أنهم يحبون الحياة ولا يحبون الجهاد؛ لأن فيه إزهاق النفوس، وهم على حالة سيئة، وليس أمامهم إذا ماتوا إلا النار، والعياذ بالله، ولهذا فهم يفرحون بالحياة ويحبونها، ويكرهون الموت؛ لأنه ليس لهم من وراء الموت إلا ما يسوءهم، والعياذ بالله.
    ومحل الشاهد من ذكر التشديد في قوله: [(لم يحدث نفسه بالغزو)]، أنه يموت على شعبة من النفاق، إذا ما حدثته نفسه، بأن يكون عنده في قلبه الرغبة الصادقة لحصول القتال، والرغبة فيه، وأن يكون مع المجاهدين الذين يغزون في سبيل الله، ويقاتلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، من لم يحصل منه الغزو، ولا تحديث النفس بالغزو، فإنه يموت على شعبة من النفاق، أي: قطعة منه، أو جزء منه؛ لأن هذا شأن المنافقين الذين لا تحدثهم أنفسهم بالجهاد ولا يريدون الجهاد؛ لما يترتب عليه من حصول القتل، وما يترتب عليه ما قد يحصل من ضرر؛ لأنهم لا يريد الآخرة، وإنما يريدون الدنيا، أي: المنافقين، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة تخلفهم عن صلاة الجماعة، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبواً)، هذا ثواب الآخرة، والنتائج المترتبة عليه في الدار الآخرة، وهمهم الدنيا، قال في آخر الحديث: (والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)، لو كان اللحم يوزع في المسجد، وكان بسيطاً، لبادر إلى الإتيان إلى المسجد؛ ليأخذ نصيبه من اللحم، (والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً)، وهو العظم عليه لحم، (أو مرماتين حسنتين)، ظلفين بينهما لحم، أو ضلعين بينهما لحم، معناه: أنه شيء بسيط، وشيء ليس بذي شأن، ولكن همهم الدنيا، وذكر في أول الحديث أنهم لا تهمهم الآخرة، حيث قال: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من أجر لأتوهما ولو حبواً)، هذا بيان عظم ما يترتب على ذلك في الدار الآخرة، ثم بين همهم وما يريدونه، وهو الدنيا، ولو كانت الدنيا بسيطة، أو الذي يحصلون منها شيئاً يسيراً، إنهم لا يتأخرون عنه ليحصلوا نصيبهم منه، حيث قال: (والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)، يعني: يأتي لصلاة العشاء من أجل أن يحصل نصيبه من اللحم.

    تراجم رجال إسناد حديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق)


    قوله: [أخبرنا عبدة بن عبد الرحيم].عبدة بن عبد الرحيم، وهو صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، والنسائي.
    [عن سلمة بن سليمان].
    هو سلمة بن سليمان المروزي، وهو ثقة، أخرج له البخاري، ومسلم، والنسائي.
    [عن ابن المبارك].
    هو عبد الله بن المبارك المروزي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن وهيب يعني: ابن الورد].
    وهيب بن الورد ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وعبارة (يعني: ابن الورد) الذي قالها من دون تلميذه، ومن دون ابن المبارك وابن المبارك قال: وهيب فقط، ولم يزد عليها، ولكن من هو دون ابن المبارك قال: (يعني: ابن الورد)، وكلمة (يعني): فعل مضارع، فاعلها ضمير مستتر يرجع إلى عبد الله بن المبارك، فقائلها من دون عبد الله بن المبارك، إما سلمة بن سليمان، أو عبدة بن عبد الرحيم، أو النسائي، أو من دون النسائي، وهذه إحدى الصيغتين اللتين يأتي بهما ذكر ما يضاف إلى ما يذكره التلميذ من أجل تمييزه وإظهاره، اللفظ الثاني: هو ابن فلان، أو هو ابن الورد، يعني: كثيراً ما يأتي (هو)، وأحياناً يأتي (يعني) كما هنا.
    [عن عمر بن محمد بن المنكدر].
    عمر بن محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وهو مذكور هنا في النسخة، أصل الكتاب عمرو، وفي تعليق في إحدى النسخ عمر، والصواب: هو ما في الحاشية وليس ما في الأصل؛ لأن النسخة التي فيها عمر هي الصواب.
    [عن سمي].
    هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي صالح].
    هو أبو صالح ذكوان السمان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.


    الرخصة في التخلف عن السرية


    شرح حديث أبي هريرة في الرخصة في التخلف عن السرية


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرخصة في التخلف عن السرية.أخبرنا أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان عن ابن عفير عن الليث عن ابن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الرخصة في التخلف عن السرية، السرية هي قطعة من الجيش، يعني: في حدود أربعمائة شخص، هذه يقال لها: سرية، وقد ترسل مستقلة ابتداء، وإن لم تكن قطعة من جيش، ويطلق عليها هذا الاسم الذي هو السرية، وهي أقل من الجيش، والجيش أعم وأوسع، وهي أخص وأقل، والترجمة: الرخصة في التخلف عن السرية، والمقصود من ذلك: أنه عند الحاجة أو عند أمر يقتضي ذلك تكون هذه الرخصة، وقد أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم شأن الجهاد في سبيل الله، وحرصه على أن يخرج في كل سرية، وأن لا يتخلف عن أي سرية، ولكن الذي يمنعه من ذلك كون رجال من أصحابه يشق عليهم أن يتخلفوا عنه، وهو لا يجد ما يحملهم عليه، ما عنده مركوبات ورواحل يتمكن من تحقيق مرادهم في أن يذهبوا معه، فهو عليه الصلاة والسلام أخبر عن السبب الذي يمنعه من الخروج في أي سرية، وهي: وجود جماعة من أصحابه يشق عليهم التخلف عنه، ولا يجد هو ما يحقق به رغبتهم؛ لكونه لا يجد ما يحملهم عليه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، ولولا هذا ما تخلف عن أي سرية، وهذا فيه بيان عظم شأن الجهاد في سبيل الله، وحرص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الجهاد، وأنه يترك الشيء من أجل الرفق بأمته، أو من أجل مراعاة أحوال بعض أمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن تخلفه إنما هو بسببهم.
    ثم بين عليه الصلاة والسلام بصورة أعظم وبصورة أوضح عظم شأن الجهاد في سبيل الله، وهو ما بينه من أنه يود أن يجاهد في سبيل الله فيقتل، ثم يحيا فيقتل، ثم يحيا فيقتل عدة مرات لما في الجهاد من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والخير الكثير، والنفع العميم في الدخول في دين الله عز وجل، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهو يدل على فضل الجهاد، وعلى فضل الشهادة في سبيل الله، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ود أن يكون كذلك صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.


    تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في الرخصة في التخلف عن السرية


    قوله: [أخبرنا أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان].هو أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي.
    [عن ابن عفير].
    هو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، وأبو داود في القدر، والنسائي.
    [عن الليث].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن مسافر].
    هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، وأبو داود في المراسيل، والترمذي، والنسائي.
    [عن ابن شهاب].
    وقد مر ذكره.
    [عن أبي سلمة بن عبد الرحمن].
    هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، على أحد الأقوال الثلاثة في السابع.
    [وسعيد].
    هو سعيد بن المسيب، وقد مر ذكره.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.


    فضل المجاهدين على القاعدين

    شرح حديث زيد بن ثابت في فضل المجاهدين على القاعدين

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل المجاهدين على القاعدين.أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا بشر يعني ابن المفضل أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أنه قال: (رأيت مروان بن الحكم جالساً فجئت حتى جلست إليه، فحدثنا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل عليه: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[النساء:95]، فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي، فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت؟ فأنزل الله عز وجل وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى ظننت أن سترض فخذي ثم سري عنه (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ )[النساء:95])، قال أبو عبد الرحمن: عبد الرحمن بن إسحاق هذا ليس به بأس، وعبد الرحمن بن إسحاق يروي عنه علي بن مسهر وأبو معاوية وعبد الواحد بن زياد عن النعمان بن سعد ليس بثقة].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي فضل المجاهدين على القاعدين من المؤمنين، وأنهم لا يستوون، وأورد النسائي حديث زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه الذي فيه أن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه لقي مروان بن الحكم جالساً فجاء وجلس معه وحدثه عن زيد بن ثابت: أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُو نَ )[النساء:95]، قبل أن تنزل (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ )[النساء:95]، هذه الجملة، فكان يمليها على زيد بن ثابت الذي يكتب الوحي له صلى الله عليه وسلم، فجاء عمرو بن أم مكتوم، وهو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال زيد: وكانت فخذه على فخذي فثقلت، حتى خشيت أن ترض فخذه بفخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من ثقلها، فسري عليه، وقد أنزل عليه (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ )[النساء:95]، هذا القيد الذي قيد به هذه الجملة من الآية فصارت (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )[النساء:95]، هي قبل ذلك نزلت بدون (غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ )[النساء:95]، ثم نزلت هذه الجملة بعد ذلك بعدما قال عمرو بن أم مكتوم هذا الكلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يلقى شدة عندما ينزل عليه القرآن، فيجد شدة عندما يوحى إليه، حتى أنه جاء في بعض الأحاديث أنه في اليوم الشاتي الشديد البرودة يتصبب عرقاً صلى الله عليه وسلم لما يلقى من الشدة، وزيد بن ثابت رضي الله عنه يصف ما حصل له من شدة في هذا الحديث، مع أن الذي أوحي إليه في هذا الحديث هو شيء قليل، وهذه الجملة (غير أولي الضرر)، يسمونها في أصول الفقه المخصص المتصل الذي هو الاستثناء، وقد جاء هذا المخصص المتصل بعد وقت، أي ليس الاستثناء متصلاً بالكلام الذي أنزل من قبل، ومن المعلوم أن الاستثناء في الكلام -هي مسألة أخرى غير مسألة التخصيص- ينفع إذا كان متصلاً أما إذا كان غير متصل فإنه لا يعتبر، مثل الاستثناء في اليمين -كون الإنسان يحلف- ما يمكنه أن يستثني بعد مدة، فلا بد أن يستثني في الحال أو إذا ذكر، لكن بعدما يمضي ساعة أو ساعتين مثل يقول: والله، ثم بعد ساعة يقول: إن شاء الله، أو بعد يوم أو بعد يومين ما ينفع هذا الاستثناء، لكن فيما يتعلق بتخصيص المتصل كما جاء في هذا الحديث، هذا اللفظ العام جاء ما يقيده -وهو متصل غير منفصل- بنزول هذه الجملة من الآية وهي قول الله عز وجل: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، وفيه كما قلت: بيان ما يلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من الشدة عندما يوحى إليه، ولو كان في الشيء القليل الذي يوحى به إليه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا الذي يحكيه زيد بن ثابت كان لإنزال هذا المقطع من الآية أو هذه الجملة من الآية التي فيها تقييد لما أطلق في أولها، والذي أنزل من قبل أن يقول له ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه ما قال.
    ومن المعلوم أن المقصود بالذين حصلت المفاضلة بينهم وأن المجاهدين خير منهم هم المؤمنون الذين لا يتمكنون من القتال، وأما الذين يتمكنون من القتال ويتأخرون وقد احتيج إليهم فلا مقارنة ولا موازنة بينهم وبين غيرهم، وكذلك المنافقون الذين يتخلفون، هؤلاء هم في الدرك الأسفل من النار وليسوا من المؤمنين، وإن كانوا يعتبرون من المؤمنين ومن المسلمين في الظاهر، ولكنهم في الباطن ليسوا منهم؛ لأنهم كفار.

    تراجم رجال إسناد حديث زيد بن ثابت في فضل المجاهدين على القاعدين


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع].ثقة، أخرج حديثه مسلم، والترمذي، والنسائي.
    [عن بشر يعني ابن المفضل].
    ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [عن عبد الرحمن بن إسحاق].
    صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن الزهري].
    وقد مر ذكره.
    [عن سهل بن سعد].
    هو سهل بن سعد الساعدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن مروان بن الحكم].
    وهو الخليفة ونقل الحافظ عنه في التقريب عن بعض أهل العلم أنه قال: لا يتهم في الحديث، وقد خرج حديثه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن زيد بن ثابت].
    رضي الله تعالى عنه كاتب وحي الرسول صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    ثم النسائي بعد ذلك أشار إلى عبد الرحمن بن إسحاق الذي في الإسناد، وأنه لا بأس به، وذكر شخصاً آخر يقال له: عبد الرحمن بن إسحاق، ذكر بعض تلاميذه وشيخاً من شيوخه، وقال: ذاك ليس بثقة، وهذا أراد به التمييز بين الشخصين المشتبهين، متفقين في الاسم واسم الأب، الذي هو المؤتلف والمختلف، فبين أن هذا الذي في الإسناد صدوق وأنه لا بأس به وهي بمعنى صدوق ومعناها حجة، وأن ذاك ليس بثقة.

    شرح حديث زيد بن ثابت في فضل المجاهدين على القاعدين من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب، قال: حدثني سهل بن سعد، قال: (رأيت مروان جالساً في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أملى عليه: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95].. وَالْمُجَاهِدُو نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]، قال: فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي، فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي حتى همت ترض فخذي ثم سري عنه، فأنزل الله عز وجل: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95])].أورد النسائي حديث زيد بن ثابت من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.

    تراجم رجال إسناد حديث زيد بن ثابت في فضل المجاهدين على القاعدين من طريق أخرى


    قوله: [أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله].هو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه].
    هو إبراهيم بن سعد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.
    [عن صالح].
    هو صالح بن كيسان، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن شهاب عن سهل بن سعد عن مروان عن زيد بن ثابت].
    وقد مر ذكر الأربعة.

    شرح حديث البراء بن عازب في فضل المجاهدين على القاعدين


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا نصر بن علي حدثنا معتمر عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر كلمة معناها، قال: ائتوني بالكتف واللوح فكتب لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95]، وعمرو بن أم مكتوم خلفه فقال: هل لي رخصة؟ فنزلت: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95])].أورد النسائي حديث البراء بن عازب، وهو بمعنى حديث زيد بن ثابت؛ وأن الآية لما نزلت بدون غير أولي الضرر، قال ابن أم مكتوم ما قال، وأنزل الله عز وجل هذا القيد الذي قيد به هذا الإطلاق، وهو غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]، فهو مثل الذي قبله ويبين سبب نزول هذه الجملة.

    تراجم رجال إسناد حديث البراء بن عازب في فضل المجاهدين على القاعدين


    قوله: [أخبرنا نصر بن علي].هو نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن معتمر].
    هو معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبيه].
    وهو كذلك أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي إسحاق].
    أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن البراء].
    هو البراء بن عازب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    حديث البراء بن عازب في فضل المجاهدين على القاعدين من طريق أخرى وتراجم رجال إسناده


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبيد حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95]، جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله فكيف في وأنا أعمى؟ قال: فما برح حتى نزلت غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95])].أورد النسائي حديث: البراء بن عازب من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم.
    قوله: [أخبرنا محمد بن عبيد].
    محمد بن عبيد هو المحاربي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
    [عن أبي بكر بن عياش].
    ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح، أخرج له أصحاب الكتب الستة، إلا مسلم فأخرج له في المقدمة.
    ولا يعني إخراج مسلم في المقدمة لشخص أنه لا يكون حجة، ولعل هذا هو الذي اتفق له، وإلا فإن عبد الله بن الزبير المكي الذي هو شيخ البخاري، والذي روى عنه أول حديث في صحيح البخاري ما خرج له مسلم إلا في المقدمة، أي ما خرج له في الصحيح، فقضية عدم الإخراج للشخص في كتاب دون كتاب لا يعني النيل منه أو الحط من شأنه إذا كان ثقة.
    [عن أبي إسحاق عن البراء].
    وقد مر ذكرهما.


    الرخصة في التخلف لمن له والدان


    شرح حديث: (... ففيهما فجاهد)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الرخصة في التخلف لمن له والدان.أخبرنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد عن سفيان وشعبة قالا: حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي باب الرخصة في التخلف عن الجهاد لمن له والدان، وأورد فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه: [(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)]، والمقصود من هذا الجهاد الذي يكون فرض كفاية، هذا هو الذي يتخلف عنه من أجل الوالدين أو يحتاج إلى إذن الوالدين، أما فرض العين فهذا لا يتخلف عنه أحد، إذا هاجم العدو الناس في بلدهم على الجميع أن يدافعوا وأن يردوه، وكذلك إذا استنفر الإمام على الجميع النفير، ولكن حيث يكون فرض كفاية فإنه يرخص في التخلف لمن يكون له والدان.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... ففيهما فجاهد)


    قوله: [أخبرنا محمد بن المثنى].محمد بن المثنى هو الملقب الزمن العنزي أبو موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة.
    [عن يحيى بن سعيد القطان].
    وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سفيان].
    هو سفيان بن سعيد الثوري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو أيضاً ممن وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، فـسفيان وشعبة هذان ممن وصفوا بأنهم من أمراء المؤمنين في الحديث.
    [و شعبة].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث.
    [عن حبيب بن أبي ثابت].
    ثقة، كثير التدليس والإرسال، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي العباس].
    هو السائب بن فروخ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن عبد الله بن عمرو].
    هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وهو أكبر ولد أبيه، وقد ذكر في ترجمته وفي ترجمة أبيه؛ أنه ولد وعمر أبيه ثلاثة عشر سنة، عبد الله بن عمرو ولد وعمر عمرو بن العاص ثلاث عشرة سنة.


    الرخصة في التخلف لمن له والدة

    شرح حديث معاوية بن جاهمة في الرخصة في التخلف عن الجهاد لمن له والدة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرخصة في التخلف لمن له والدة.أخبرنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني محمد بن طلحة وهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه طلحة عن معاوية بن جاهمة السلمي: (أن جاهمة رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: الرخصة في التخلف لمن له والدة، وأورد فيه حديث: معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله تعالى عنه، الذي فيه: أن أباه جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه.
    قوله: [(أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك)].
    أي: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد والغزو، فقال عليه الصلاة والسلام: [(فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها)]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التخلف من أجل ملازمتها، والبقاء معها، وأرشده إلى أن الجنة تحت رجليها، يعني: كونه يخدمها، ويقوم بما يلزم لها، فإن ذلك يوصله إلى الجنة، وينتهي به إلى الجنة.

    تراجم رجال إسناد حديث معاوية بن جاهمة في الرخصة في التخلف عن الجهاد لمن له والدة


    قوله: [أخبرنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق].عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، وهو ثقة، أخرج له أبو داود، والترمذي، والنسائي.
    [عن حجاج].
    هو حجاج بن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن جريج].
    هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، فقيه، يرسل، ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن طلحة، وهو ابن عبد الله بن عبد الرحمن ].
    هو محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وهو صدوق، أخرج حديثه النسائي، وابن ماجه.
    [عن أبيه].
    هو طلحة بن عبد الله بن أبي بكر، وهو مقبول، أخرج حديثه أبو داود في القدر، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن معاوية بن جاهمة السلمي].
    صحابي، أخرج حديثه النسائي، وابن ماجه.


    فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله


    شرح حديث أبي سعيد الخدري في فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله.أخبرنا كثير بن عبيد حدثنا بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: من جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال: ثم من يا رسول الله، قال: ثم مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره)].
    أورد النسائي هذه الترجمة: فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. أورد فيه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [(أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: من جاهد بنفسه وماله في سبيل الله)]، فقول هذا الرجل: (أي الناس أفضل؟) يدل على فضل الصحابة، وعلى حرصهم على الخير، وسؤالهم عن أفضل الأعمال، وأفضل الرجال؛ ليصيروا إلى ذلك، وليعملوا تلك الأعمال، وليبادروا إلى تلك الأعمال التي فيها التنافس، وفيها التميز، وهذه الأسئلة التي تحصل من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس، وعن أفضل الأعمال تدل على فضلهم، ونبلهم، وحرصهم على معرفة درجات الخير ودرجات الأعمال وتفاوتها، حتى يأخذوا بالأفضل فالأفضل رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
    والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر السائل أن من جاهد بنفسه وماله في سبيل الله فهذا هو خير الناس وأفضل الناس، يعني: بذل النفس والنفيس الذي هو المال في سبيل الله، وهداية الخلق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. ثم قال: [(ثم من يا رسول الله، قال: ثم مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره)]، يعني: أنه معتزل للناس في شعب من الشعاب، أي: في واد من الأودية، في فلاة من الأرض يعبد الله ويتقيه، ويسلم الناس من شره، وقد جاء في الحديث: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، المسلم الحق من سلم المسلمون من لسانه ويده، فهو يكون في عزلة، وقد اختلف: أيهما أولى العزلة أو الخلطة؟ وأحسن ما يقال: أن الخلطة إذا كان يترتب عليها مصلحة وفائدة فهي أولى من العزلة؛ لأن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ويترتب على خلطته بهم الخير الكثير فهو أولى من العزلة، وإذا خشي الإنسان على نفسه، وعلى دينه ولم يحصل منه فائدة، فعند ذلك تكون العزلة خير.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد الخدري في فضل من يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله


    قوله: [أخبرنا كثير بن عبيد].ثقة، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن بقية].
    هو بقية بن الوليد، وهو صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، وحديثه أخرجه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن الزبيدي].
    هو محمد بن الوليد الزبيدي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.
    [عن الزهري].
    وقد مر ذكره.
    [عن عطاء بن يزيد].
    هو عطاء بن يزيد الليثي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي سعيد الخدري].
    هو سعد بن مالك بن سنان، مشهور بكنيته، ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.



  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الجهاد

    (416)

    - (باب فضل غدوة في سبيل الله) إلى (باب ما يعدل الجهاد في سبيل الله)




    من فضائل الجهاد أن غدوة أو روحة فيه خير من الدنيا وما فيها، وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام أن الغزاة وفود إلى الله كالحجاج والمعتمرين، ولا يعدل الجهاد شيء إلا أن يبقى الإنسان صائماً وقائماً ليله ونهاره، وهذا لا يستطيعه أحد، ولذلك تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله حق الجهاد بأن يدخله جنته ويعظم له الأجر.

    فضل غدوة في سبيل الله عز وجل


    شرح حديث: (الغدوة والروحة في سبيل الله عز وجل أفضل من الدنيا وما فيها)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فضل غدوة في سبيل الله عز وجل.أخبرنا عبدة بن عبد الله حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الغدوة والروحة في سبيل الله عز وجل أفضل من الدنيا وما فيها)].
    يقول النسائي رحمه الله: فضل غدوة في سبيل الله، الغدوة هي: الذهاب في الغداة، والروحة هي: الذهاب في الرواح. وقد أورد النسائي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(الغدوة والروحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)]، فالغدوة الذهاب في الغداة، والروحة الذهاب في الرواح، فالغدوة خير من الدنيا وما فيها، والروحة خير من الدنيا وما فيها.
    وقوله: [(خير من الدنيا وما فيها)]، المراد منه: أن الدنيا بما فيها لا تعادل تلك الغدوة في سبيل الله، التي يحصل الثواب عليها من الله عز وجل، فإن ما يحصله من الثواب على هذه الغدوة خير من الدنيا وما فيها، وهذا يدلنا على عظم شأن الجهاد في سبيل الله، وأن الشيء القليل فيه لا تعدله الدنيا بما فيها من كل المتع والملذات، فإنها ليست بشيء أمام ذلك الخير الذي يجزي به الله عز وجل من جاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى.

    تراجم رجال إسناد حديث: (الغدوة والروحة في سبيل الله عز وجل أفضل من الدنيا وما فيها)

    قوله: [أخبرنا عبدة بن عبد الله].هو عبدة بن عبد الله الصفار، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن حسين بن علي].
    هو حسين بن علي الجعفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن زائدة].
    هو زائدة بن قدامة الثقفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سفيان].
    هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة، ثبت، وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي حازم].
    هو سلمة بن دينار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سهل بن سعد].
    هو سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    فضل الروحة في سبيل الله عز وجل

    شرح حديث: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فضل الروحة في سبيل الله عز وجل.أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا أبي حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني شرحبيل بن شريك المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي أنه سمع أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة، خير مما طلعت عليه الشمس وغربت)].
    أورد النسائي: فضل روحة في سبيل الله، وأورد فيه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(غدوة، أو روحة في سبيل الله، خير مما طلعت عليه الشمس وغربت)]، وهو مثل الذي قبله، والذي طلعت عليه الشمس وغربت هي الدنيا؛ لأن الشمس تطلع على الدنيا وتغرب عليها، فالغدوة أو الروحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب، أي: خير من الدنيا بما فيها، فالحديثان بمعنى واحد إلا أنه عبر بأحدهما عن الدنيا وما فيها، وعبر في الآخر: بما طلعت عليه الشمس وغربت، والمعنى واحد؛ لأن الذي طلعت عليه الشمس وغربت هو الدنيا.

    تراجم رجال إسناد حديث: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) من طريق أخرى


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد].هو محمد بن عبد الله بن يزيد المكي، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وابن ماجه.
    [حدثنا أبي].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا سعيد بن أبي أيوب].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة أيضاً.
    [حدثني شرحبيل بن شريك المعافري].
    صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
    [عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
    هو عبد الله بن يزيد، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [أنه سمع أبا أيوب].
    هو أبو أيوب الأنصاري، وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الأنصار، وهو الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في داره ضيفاً عليه أول ما قدم المدينة حتى بنى بيوته صلى الله عليه وسلم وارتحل إليها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث أبي هريرة: (ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونه: المجاهد في سبيل الله ...)


    قال رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن أبيه حدثنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونه: المجاهد في سبيل الله، والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(ثلاثة كلهم حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء)]، هؤلاء الثلاثة حق على الله عونهم. والمقصود من ذلك: المجاهد في سبيل الله، لكن ليس بواضح الدلالة على الترجمة من جهة فضل الروحة في سبيل الله؛ لأنه ليس فيه نص، لكنه جميع أحوال الجهاد، وجميع التنقلات التي تكون في الصباح أو في المساء، كلها خير من الدنيا وما فيها، لكن التنصيص في الحديث على فضل الغدوة أو فضل الروحة التي ذكر الحديث تحتها ليس واضح الدلالة، لكنه دال على فضل الجهاد، وأن من يجاهد في سبيل الله عز وجل فالله تعالى يعينه. وكذلك الناكح يريد العفاف، وهو إعفاف نفسه، وإبعادها عن التفكير في الفاحشة. وأيضاً المكاتب الذي يريد الأداء، وهو المملوك الذي يتفق مع سيده على أن يحضر له مبلغاً من المال في فترات معينة، ويشتغل حتى يتوفر له ذلك المبلغ، فيعطيه لسيده، فيشتري نفسه بذلك، فالمكاتب الذي يريد الأداء فإن الله تعالى يعينه.
    قوله: [(حق على الله)].
    يعني: أن الله تعالى وعد بهذا الوعد الذي يتحقق ويثبت ولا يتأخر، وهو واجب أوجبه الله على نفسه لم يوجبه عليه أحد، لكنه أوجب على نفسه أنه يعين هؤلاء.

    تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة: (ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونه: المجاهد في سبيل الله ...)

    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد عن أبيه].مر ذكرهما.
    [حدثنا عبد الله بن المبارك المروزي].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن محمد بن عجلان].
    محمد بن عجلان المدني، صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن سعيد المقبري].
    هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.


    الغزاة وفد الله تعالى

    شرح حديث: (وفد الله عز وجل ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الغزاة وفد الله تعالى.أخبرنا عيسى بن إبراهيم حدثنا ابن وهب عن مخرمة عن أبيه، قال: سمعت سهيل بن أبي صالح سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وفد الله عز وجل ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)].
    أورد النسائي هذه الترجمة: الغزاة وفد الله، أي: أنهم موصوفون بأنهم وفد الله، وأورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)، الغازي، يعني: في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، هؤلاء وفد الله، وقد ذكر الجهاد، ومعه الحج والعمرة، وقد جاء في الحديث ذكر الحج بأنه جهاد، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟، قال: لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرور)، فذكر وبين: أن الحج هو من الجهاد، وهو جهاد للنفس. إذاً: الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، هذه الأنواع الثلاثة وصف أهلها بأنهم وفد الله.


    تراجم رجال إسناد حديث: (وفد الله عز وجل ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر)


    قوله: [حدثنا عيسى بن إبراهيم].هو عيسى بن إبراهيم بن مثرود المصري، وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي.
    [عن ابن وهب].
    هو عبد الله بن وهب المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن مخرمة].
    هو مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
    [عن أبيه].
    هو بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت سهيل بن أبي صالح].
    صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت أبي].
    هو ذكوان السمان، اسمه: ذكوان، ولقبه: السمان، ويلقب: الزيات أيضاً، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.


    ما تكفل الله عز وجل لمن يجاهد في سبيله

    شرح حديث: (تكفل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله... بأن يدخله الجنة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما تكفل الله عز وجل لمن يجاهد في سبيله.أخبرنا محمد بن سلمة والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن القاسم حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تكفل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله؛ لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته؛ بأن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة)].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: ما تكفل الله عز وجل لمن يجاهد في سبيله، أي: من الأجر الدنيوي والأخروي، أورد النسائي فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: [(تكفل الله لمن جاهد في سبيله)]، ثم قال: [(لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته)]، المقصود من ذلك: الإخلاص، يعني: الباعث له على الجهاد وعلى الخروج للجهاد هو: الإخلاص لله عز وجل، ولهذا قال:
    لا يخرجه إلا جهاد في سبيله، أي: في سبيل الله عز وجل، هذا هو الذي يدفعه، وهو الذي يخرجه من مسكنه ليقاتل الأعداء، ويقاتل الكفار، الذي دفعه إلى ذلك هو: الإخلاص لله عز وجل، وتصديق كلمته، وما أمر الله تعالى به من الجهاد، وما أخبر عليه من الثواب، فهو مصدق بوعد الله، ومنفذ لأمر الله، ومخلص لله سبحانه وتعالى في قصده وعمله.

    وليس كل خروج يكون جهاداً في سبيل الله؛ بل الخروج الذي هو جهاد في سبيل الله هو الخروج لقتال الأعداء، ولا يخرجه إلا هذا الغرض، وهذه المهمة، وهي: الإخلاص لله، والحرص على إعلاء كلمة الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، هذا هو الذي يخرجه، لا يخرج ليوصف بأنه شجاع، أو أنه حمية، أو عنده قوة، أو ما إلى ذلك من الأسباب، ولهذا جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
    وقوله: [(لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته؛ بأن يدخله الجنة، أو يرده إلى مسكنه الذي خرج منه، مع ما نال من أجر أو غنيمة)].
    يعني: تكفل الله عز وجل له بشيئين: بأن يدخله الجنة، إن قتل واستشهد، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر إذا كان لم يحصل غنيمة، أو بأجر مع غنيمة إذا حصل غنيمة، يعني: أجراً وثواباً من الله عز وجل، وغنيمة عاجلة، وهي ما اكتسب وحصل عليه المسلمون من الكفار، فإن هذه غنيمة، والغزاة لهم أربعة أخماس الغنائم، توزع عليهم، وما يحصله من ذلك هذا من الثواب المعجل، وهذا من الأجر المعجل الذي يحصل عليه صاحبه في الدنيا قبل الآخرة.


    تراجم رجال إسناد حديث: (تكفل الله عز وجل لمن جاهد في سبيله... بأن يدخله الجنة...)


    قوله: [أخبرنا محمد بن سلمة].هو محمد بن سلمة المرادي المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
    [و الحارث بن مسكين].
    هو الحارث بن مسكين المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي.
    [عن ابن القاسم].
    هو عبد الرحمن بن القاسم صاحب الإمام مالك، وحديثه أخرجه البخاري، وأبو داود في المراسيل، والنسائي.
    [عن مالك].
    هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث، الفقيه، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي الزناد].
    هو عبد الله بن ذكوان المدني، وكنيته: أبو عبد الرحمن، ولقبه: أبو الزناد، وهو لقب على صفة الكنية، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن الأعرج].
    هو عبد الرحمن بن هرمز المدني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، والأعرج وعبد الرحمن بن هرمز اسم ونسب، وأبو الزناد لقب، وعبد الله بن ذكوان اسم ونسب، ومعرفة ألقاب المحدثين نوع من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفتها: ألا يظن الشخص الواحد شخصين فيما إذا ذكر مرة باسمه، وذكر مرة أخرى بلقبه؛ فإن من لا يعرف يظن أنهما شخصان، مع أنه شخص واحد؛ ذكر مرة باسمه، وذكر مرة بلقبه.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.


    شرح حديث: (انتدب الله عز وجل لمن يخرج في سبيله... أنه ضامن حتى أدخله الجنة ...) من طريق ثانية


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن سعيد عن عطاء بن ميناء مولى ابن أبي ذباب سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (انتدب الله عز وجل لمن يخرج في سبيله، لا يخرجه إلا الإيمان بي، والجهاد في سبيلي، أنه ضامن حتى أدخله الجنة بأيهما كان، إما بقتل، أو وفاة، أو أرده إلى مسكنه الذي خرج منه، نال ما نال من أجر أو غنيمة)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثل الذي قبله، إلا أنه قال: انتدب، وهو بمعنى: (تكفل) التي مرت في الحديث السابق، وهو مثلما قبله من حيث المعنى: أنه يخرج وقصده الجهاد في سبيل الله وهو الباعث له، وأنه إما أن يقتل أو يتوفى في سبيل الله، فيحصل الشهادة في سبيل الله ويحصل الجنة، أو يرجع إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر إن لم يحصل غنيمة، أو من أجر مع غنيمة إذا كان الغزاة حصلوا غنائم.


    تراجم رجال إسناد حديث: (انتدب الله عز وجل لمن يخرج في سبيله... أنه ضامن حتى أدخله الجنة ...) من طريق ثانية


    قوله: [أخبرنا قتيبة].هو قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني، وهو ثقة، ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا الليث].
    هو الليث بن سعد المصري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سعيد].
    هو سعيد المقبري، وقد مر ذكره.
    [عن عطاء بن ميناء].
    صدوق، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [سمع أبا هريرة].
    وقد مر ذكره.


    شرح حديث: (وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه فيدخله الجنة...) من طريق ثالثة


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار حدثنا أبي عن شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيل الله- كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرجعه سالماً بما نال من أجر أو غنيمة)].أورد النسائي حديث أبي هريرة من طريق أخرى، وهو مثلما تقدم إلا أن فيه: (توكل الله)، وهو بمعنى: (تكفل)، وبمعنى (انتدب) التي مرت في الطريقين السابقين، وفيه: [(مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم)]، أي: الذي لا يفتر عن الصيام، ولا يفتر عن القيام، والذي يعمل ليلاً نهاراً، يكون صائماً نهاره، وقائماً ليله، ومستمراً في القيام وفي الصيام، فالمجاهد مثله في الأجر؛ لأنه منذ خروجه إلى رجوعه وهو في سبيل الله، لكن هذا المثل، وهذا الأجر، إنما يحصله من يكون قصده الإخلاص في جهاده، ولهذا قال: [(والله أعلم بمن يجاهد في سبيله)]، يعني: ليس كل من يخرج للجهاد يقال له: مجاهد، الله تعالى أعلم بمن يخرج للجهاد، ومن في قلبه الإخلاص، ومن في قلبه الصدق، هذا هو المقصود من هذه الجملة الاعتراضية التي توسطت بين المبتدأ والخبر: مثل المجاهد كمثل، ووجود تبيان لمن هو المجاهد حقاً الذي يستحق الثواب والأجر من الله عز وجل، فهو الذي علم أن الله عز وجل منه أنه مخلص في قصده، وأنه يريد إعلاء كلمة الله، وأن كلمة الله هي العليا؛ لأن ممن يخرج للجهاد يخرج حمية، ويخرج شجاعة، ويخرج رياء، وما إلى ذلك من الأسباب التي هي غير محمودة، والمحمود منها من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، هذا هو الذي في سبيل الله، كما جاء ذلك مبيناً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى الأشعري الذي أشرت إليه آنفاً.


    تراجم رجال إسناد حديث: (وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه فيدخله الجنة...) من طريق ثالثة


    قوله: [أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار].هو عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، وهو صدوق، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [حدثنا أبي].
    ثقة، أخرج حديثه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
    [عن شعيب].
    هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أخبرني سعيد بن المسيب].
    هو سعيد بن المسيب المدني، وهو ثقة، فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت أبا هريرة].
    وقد مر ذكره.


    ثواب السرية التي تخفق

    شرح حديث: (ما من غازية تغزو في سبيل الله... فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ثواب السرية التي تخفق.أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا أبي حدثنا حيوة وذكر آخر قالا: حدثنا أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: ثواب السرية التي تخفق، أي: التي لا يحصل لها انتصار وحصول غنائم، فثوابها أنها تحصل الأجر كاملاً عند الله عز وجل في الدار الآخرة، وأورد النسائي في ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: [(ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم)]. معناه: أنهم حصلوا شيئاً من أجرهم في الدنيا تعجلوه ويبقى لهم أجر في الآخرة، وإذا لم يصيبوا غنائم فإنهم يدركون أجرهم كاملاً، بمعنى: أنهم يحصلونه في الدار الآخرة كاملاً لم ينقص منه شيء، وعلى هذا فحصول الغنائم التي تحصل للناس هي من الأجر المعجل، وهي من الثواب المعجل، ويحصل من حصل الغنيمة نصيبه من الأجر، ويحصل الباقي من ذلك في الدار الآخرة، فإذا لم يحصل شيئاً من الغنيمة، فإنه يحصل الأجر كاملاً في الدار الآخرة؛ لأنه لم يتعجل منه شيئاً، ولم يحصل له ثواب عاجل على هذا العمل الذي عمله من الجهاد في سبيل الله.

    تراجم رجال إسناد حديث: (ما من غازية تغزو في سبيل الله... فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا أبي].مر ذكرهما.
    [حدثنا حيوة وذكر آخر].
    هو ابن شريح المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا أبي هانئ الخولاني].
    اسمه حميد بن هانئ، وهو لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
    وقد مر ذكره.
    [عن عبد الله بن عمرو].
    هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي ابن صحابي، وهو أحد العبادلة الأربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من صغار الصحابة، وهم: عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير.

    شرح حديث: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله... وإن قبضته غفرت له ورحمته)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني إبراهيم بن يعقوب حدثنا حجاج حدثنا حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل أنه قال: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له ورحمته)].ثم أورد النسائي حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو مثلما تقدم في الأحاديث السابقة، وهو حديث قدسي، قال الله عز وجل: [(أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب)].
    قوله: [(ابتغاء مرضاتي)]، هو مثلما تقدم من ذكر الإطلاق، يعني: أنه يدفعه إلى ذلك ابتغاء مرضاة الله عز وجل، مخلصاً لله عز وجل، يرجو مرضاة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه إن أرجعه وسلم، ولم يقتل ولم يهلك في تلك السفرة، فإنه يرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، [(وإن قبضته غفرت له ورحمته)].

    تراجم رجال إسناد حديث: (أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله... وإن قبضته غفرت له ورحمته)


    قوله: [أخبرني إبراهيم بن يعقوب].هو إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي.
    [حدثنا حجاج].
    هو حجاج بن محمد المصيصي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    في تحفة الأشراف قال: حجاج الأعور، وحجاج الأعور هو: حجاج بن محمد المصيصي.
    [حدثنا حماد بن سلمة].
    هو حماد بن سلمة البصري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن يونس].
    هو يونس بن عبيد، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الحسن].
    هو الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو ثقة، يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن عمر].
    هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها، وهو أحد العبادلة الأربعة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.


    مثل المجاهد في سبيل الله عز وجل

    شرح حديث: (مثل المجاهد في سبيل الله... كمثل الصائم القائم...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [مثل المجاهد في سبيل الله عز وجل.أخبرنا هناد بن السري عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم، القائم، الخاشع، الراكع، الساجد)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: مثل المجاهد في سبيل الله، أي: المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للمجاهد في سبيل الله، وأورد فيه حديث أبي هريرة: [(مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، الخاشع، الراكع، الساجد)]، يعني: أنه ملازم الصلاة، وملازم الصيام، فهذا مثل المجاهد في سبيل الله، معناه: أن هذا العمل الذي يعمل عملاً دائماً لا يفتر، مثله مثل المجاهد في سبيل الله عز وجل، وذاك يحصل أجراً على دأبه، وعلى عمله، وهذا يحصل أجراً على جهاده في سبيل الله، من حين يخرج إلى أن يرجع وهو على أجر وغنيمة من الله عز وجل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (مثل المجاهد في سبيل الله... كمثل الصائم القائم...)


    قوله: [أخبرنا هناد بن السري].ثقة، أخرج حديثه البخاري في خلق أفعال العباد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن ابن المبارك].
    هو عبد الله بن المبارك، وقد مر ذكره.
    [عن معمر].
    هو معمر بن راشد الأزدي البصري، ثم اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.


    ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل

    شرح حديث: (... دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل.أخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا محمد بن جحادة حدثني أبو حصين أن ذكوان حدثه أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه، قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده، هل تستطيع إذا خرج المجاهد تدخل مسجداً، فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ قال: من يستطيع ذلك؟)].
    أورد النسائي هذه الترجمة وهي: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل، أي: الذي يعدله، والمقصود من ذلك: أن الجهاد لا يعدله شيء، وأورد فيه حديث أبي هريرة: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: لا أجده)، أي: ليس هناك عمل يعدل الجهاد، ثم أرشده إلى عمل، هو مثل المجاهد في سبيل الله، كما مر في الأحاديث السابقة، وهو كون الإنسان يصوم ويصلي ولا يفتر، وهذا لا يطاق، ولا يفعله أحد، فهذا هو الذي يعدل الجهاد، ولكن لا يفعله أحد، إذاً: فلا يعدل الجهاد شيء.


    تراجم رجال إسناد حديث: (... دلني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده...)


    قوله: [أخبرنا عبيد الله بن سعيد].هو عبيد الله بن سعيد السرخسي اليشكري، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري، ومسلم، والنسائي.
    [حدثنا عفان].
    هو ابن مسلم الصفار، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    وفي النسخة حماد، ولكن في إحدى النسخ عفان، وهي الصواب، وكان ذكر عفان في الأصل هو الذي ينبغي.
    [حدثنا همام].
    هو همام بن يحيى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا محمد بن جحادة].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثني أبي حصين].
    هو عثمان بن عاصم، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أن ذكوان].
    هو أبو صالح السمان الذي مر ذكره، يأتي ذكره أحياناً باسمه، وأحياناً بكنيته، فاسمه: ذكوان، وكنيته: أبو صالح.
    [أن أبا هريرة].
    وقد مر ذكره.


    شرح حديث: (أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله عز وجل)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب عن الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر أخبرني عروة عن أبي مراوح عن أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله عز وجل)].أورد النسائي حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: [(أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله)]. أورده تحت هذه الترجمة وهي: ما يعدل الجهاد، أي: أنه لا يعدله شيء، ولكن ليس فيه التنصيص على ذكر عدل الجهاد، لكن يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب به عندما سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، فذكر بعد الإيمان الجهاد في سبيل الله عز وجل.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أي العمل خير؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله عز وجل)


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم].هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وهو ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [عن شعيب].
    هو شعيب بن الليث بن سعد، وهو ثقة، أخرج حديثه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
    [عن الليث].
    هو الليث بن سعد، وقد مر ذكره.
    [عن عبيد الله بن أبي جعفر].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أخبرني عروة].
    هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين.
    [عن أبي مراوح].
    هو أبو مراوح الغفاري أو الليثي، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.
    [عن أبي ذر].
    هو جندب بن جنادة رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

    شرح حديث: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد ...) من طريق أخرى


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال حج مبرور)].أورد النسائي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الأعمال؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور، وقد أورد الجهاد في سبيل الله بعد الإيمان بالله ورسوله، وهو مثل الحديث الذي قبله في حديث أبي هريرة: (إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله)، فإنه ذكر بعد الإيمان بالله الجهاد في سبيل الله، فهذا الحديث مثل ذلك الحديث، حيث ذكر الإيمان بالله عز وجل ويليه الجهاد، ثم يلي الجهاد حج مبرور الذي هو جهاد النفس، كما جاء مبيناً في حديث عائشة أن أفضل الجهاد حج مبرور، وهو الذي يأتي به الإنسان مطابقاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ليس فيه إثم، وعلامته: أن يكون الإنسان بعد الحج خيراً منه قبل الحج، فيمكن أن يعرف الإنسان من نفسه إذا رأى حاله تبدلت من حسن إلى أحسن، ومن سيئ إلى حسن، فهذه علامة كون حجه مبروراً.

    تراجم رجال إسناد حديث: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد ...) من طريق أخرى


    قوله [أخبرنا إسحاق بن إبراهيم].هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المشهور بـابن راهويه الحنظلي المروزي، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه.
    [حدثنا عبد الرزاق].
    هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكر هؤلاء الأربعة.


  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: شرح سنن النسائي - للشيخ : ( عبد المحسن العباد ) متجدد إن شاء الله


    شرح سنن النسائي
    - للشيخ : ( عبد المحسن العباد )
    - كتاب الجهاد

    (417)

    - (باب درجة المجاهد في سبيل الله) إلى (باب من قاتل ليقال: فلان جريء)


    يرفع المجاهد في سبيل الله في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، وأجره يتجاوز أجر المسلم المهاجر الذي لم يجاهد، ويدعى المجاهد أيضاً لدخول الجنة من باب الجهاد؛ وما ذاك إلا لعظمة منزلة الجهاد عند الله، وينبغي أن يعلم أن المجاهد الذي يستحق كل هذا الأجر العظيم هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
    درجة المجاهد في سبيل الله عز وجل


    شرح حديث: (وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [درجة المجاهد في سبيل الله عز وجل.قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع: عن ابن وهب حدثني أبو هانئ عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا أبا سعيد! من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وجبت له الجنة، قال: فعجب لها أبو سعيد ، قال: أعدها علي يا رسول الله! ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله! قال: الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)].
    يقول النسائي رحمه الله: درجة المجاهد في سبيل الله، أي: المنزلة التي يكون فيها في الجنة، وهي: أنه يكون في أعلى درجات الجنة، أو في درجة من أعلى درجات الجنة، والمقصود بالترجمة ذكر الدرجة، وقد أورد النسائي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: [(يا أبا سعيد! من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وجبت له الجنة، قال: فعجب لها أبو سعيد، قال: أعدها علي يا رسول الله! -أي: طلب منه أن يعيد الكلام- ففعل عليه الصلاة والسلام)]، ثم ذكر بعد ذلك الدرجات التي جعلها الله عز وجل في الجنة للمجاهد في سبيله.
    وقوله في أول هذا الحديث: [(من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وجبت له الجنة)]، يدل على فضل من كان كذلك، وهو: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وهذه الجمل الثلاث التي هي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه، هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتابه الأصول الثلاثة وأدلتها، وهذا الكتيب الصغير النفيس الذي هو قليل المبنى، ولكنه واسع المعنى، فهو لا يستغني عنه الخاص والعام، وجاء ذكر هذه الأمور الثلاثة في أحاديث أخرى، منها: حديث العباس بن عبد المطلب في صحيح مسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً)، وكذلك أيضاً جاء ذكرها في الأذان، يقول الإنسان: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، ثم قال: [(وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة)].
    (وأخرى) أي: وخصلة أخرى وراء تلك الخصلة التي تقدمت يرفع بها المسلم مائة درجة في الجنة.
    قوله: [(ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله)].
    وهذا يدلنا على فضل الجهاد في سبيل الله، وأن الله تعالى يرفع صاحبه في الجنة في تلك الدرجات العالية، وأنه يكون له فيها هذه الدرجات التي كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض.


    تراجم رجال إسناد حديث: (وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة...)


    قوله: [قال الحارث بن مسكين].هو شيخ النسائي، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والنسائي ، وهذه العبارة التي يقول: قال الحارث بن مسكين وفي بعض الأسانيد يقول: أخبرنا الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، فالفرق بين هذه التعبيرات: أن النسائي رحمه الله له مع الحارث بن مسكين حالتان:
    إحداهما: أنه كان قد رضي عنه، وصار بينهما وئام، وكان يسمح له، ويأتي ويحضر مجلسه، ويسمع الأحاديث التي تقرأ عليه، فيرويها ويقول فيها: أخبرنا الحارث بن مسكين ؛ لأنه أراد تحديثه، وأراد إخباره، فهو يحضر، ويسمع، ويتحمل، ويؤدي بقوله: أخبرنا الحارث بن مسكين .
    وله حالة أخرى معه، وهي: أنه غضب عليه، ولم يسمح له أن يحضر مجلسه، فكان يحضر من وراء الستار، ويسمع القراءة عليه، فيرويها ولا يقول: أخبرنا، وإنما يقول: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع؛ لأنه لم يرد إخباره، ولم يرد تحديثه، ولم يرد أن يأخذ عنه، فكان يعبر بهذه العبارة التي هي: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، وهذه الطريقة -التي هي التحمل من غير أن يريد المحدث قصد تحديثه- سائغة عند المحدثين.
    [عن ابن وهب].
    هو عبد الله بن وهب المصري ، وهو ثقة، فقيه، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة.
    [حدثني أبي هانئ].
    هو حميد بن هانئ المصري ، وهو لا بأس به، أي بمعنى: صدوق، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبي عبد الرحمن الحبلي].
    هو عبد الله بن يزيد ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.
    [عن أبي سعيد].
    هو سعد بن مالك بن سنان الخدري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور بكنيته ونسبته، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأم المؤمنين عائشة ، ستة رجال وامرأة واحدة رضي الله تعالى عنهم، وعن الصحابة أجمعين.


    شرح حديث: (إن للجنة مائة درجة ... أعدها الله للمجاهدين في سبيله...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال حدثنا محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع حدثنا زيد بن واقد حدثني بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئاً، كان حقاً على الله عز وجل أن يغفر له؛ هاجر أو مات في مولده، فقلنا: يا رسول الله، ألا نخبر بها الناس فيستبشروا بها؟ فقال: إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ولولا أن أشق على المؤمنين، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا بعدي، ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل ثم أحياً ثم أقتل)].أورد النسائي حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(من أقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يشرك بالله شيئاً، كان حقاً على الله أن يغفر له؛ هاجر أو مات في مولده)]، أي: سواء كان هاجر من المكان الذي هو يقطن فيه وينزل فيه، أو لم يهاجر، ولكنه مات في مولده، معنى هذا: أن من فعل ذلك فإنه يحصل له هذا الأجر، ومن المعلوم أن الهجرة التي تجب هي الهجرة التي لا يستطيع الإنسان مع عدمها القيام بأمور دينه، وأما إذا كان يستطيع القيام بأمور دينه، أو أنه دخل في الإسلام ولكنه بقي ولم يهاجر ليجاهد مع الناس وليكون مع الناس فإن له هذا الأجر، ولهذا كان في أول الإسلام من يدخل في الإسلام يهاجر، وفيهم من يبقى ولا يهاجر، ولكلٍ أحكام جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
    فالمقصود من ذلك: أن من حصلت منه هذه الأشياء هاجر أو لم يهاجر، ولكنه بقي في مولده وفي بلده يعبد الله عز وجل، ويؤدي ما وجب عليه، فإن الله تعالى يغفر له.
    قوله: [(قالوا: أفلا نخبر بها الناس فيستبشروا؟)]، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى ما أعده الله عز وجل للمجاهد في سبيل الله عز وجل من رفعة الدرجات، وعلو المنازل، وأن الأمر لا ينبغي أن يكون الإنسان يقتصر على أن يغفر له، بل عليه أن يعمل على رفعة الدرجات، وعلى تحصيل ما به علو المنازل عند الله عز وجل، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى هذه الحالة الأخرى التي يكون بها تحصيل علو المنازل ورفعة الدرجات، فالإنسان يسعى جاهداً إلى أن يغفر له، وأن يحصل أعلى المنازل، وأن يكون في أعلى الدرجات، وفي ذلك يكون التنافس، وفي ذلك يكون التسابق، فيحرص الإنسان على أن تغفر له ذنوبه، وأن يتجاوز عن سيئاته، ويحرص على تحصيل الدرجات العالية والمنازل الرفيعة عند الله عز وجل.
    قوله: [(قلنا: يا رسول الله! ألا نخبر بها الناس فيستبشروا بها؟ فقال: إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله)].
    وهذا مثل الحديث المتقدم: (أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيل الله)، وهو يدلنا على فضل الجهاد في سبيل الله، وأن الأمر لا يقتصر على فعل الأعمال التي تكفر بها السيئات، بل على الإنسان مع ذلك أن يسعى في تحصيل أعلى الدرجات، وأعلى المنازل عند الله عز وجل؛ وذلك بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وغير ذلك من الأعمال التي فيها مشقة على النفس، ولكن ثوابها عظيم عند الله عز وجل، ودرجات فاعلها عالية عند الله سبحانه وتعالى.
    قوله: [(ولولا أن أشق على المؤمنين، ولا أجد ما أحملهم عليه، ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا بعدي، ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل ثم أحيا ثم أقتل)].
    وبعدما بين رسول الله عليه الصلاة والسلام أن في الجنة مائة درجة، وكل درجة بينها وبين الدرجة الأخرى ما بين السماء والأرض، ثم أضاف إلى ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام بيان حرصه على الجهاد، وألا يتخلف عن سرية، وألا يتخلف عن غزوة، بل يكون في كل حالة من الحالات مجاهداً في سبيل الله، ولكن الذي يمنعه من ذلك ما جعل الله فيه من الشفقة والرحمة لأمته عليه الصلاة والسلام؛ حيث يشق على المسلمين أن يذهبوا معه وهو لا يجد ما يحملهم عليه، فمن أجل ذلك كان يتخلف عليه الصلاة والسلام رفقاً بالمؤمنين، ودفعاً للمشقة عليهم، وهذا من كمال مما وصفه الله عز وجل به من الرأفة والرحمة لأمته، كما قال الله عز وجل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فهذا من رأفته ورحمته للمؤمنين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
    ثم أضاف إلى ذلك ما بين فضل الجهاد في سبيل الله من جهة أن فضله عظيم، وأن الاستشهاد في سبيل الله شأنه عظيم، قال: فوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل، وإن كان من المعلوم أنه إذا قتل الإنسان أو إذا مات الإنسان فإنه لا يعود، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه في هذه الحياة الدنيا، وأن من مات انتهى ولا يعود، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبين عظم شأن الجهاد، وأنه يقاتل فيقتل، ويحصل تلك المنزلة التي هي في الجنة لمن يقاتل ويقتل، ثم قال: ثم أحيا فأقتل، وفي بعض الروايات تكرار ذلك أكثر مما جاء في هذا الحديث كما سبق أن مر بنا، فهذا يدل على عظم شأن الجهاد في سبيل الله، وفضل الاستشهاد في سبيل الله عز وجل.


    تراجم رجال إسناد حديث: (إن للجنة مائة درجة ... أعدها الله للمجاهدين في سبيله...)


    قوله: [أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال].صدوق، أخرج له أبو داود والنسائي .
    [حدثنا محمد بن عيسى بن القاسم بن سميع].
    صدوق يخطئ، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه .
    [حدثنا زيد بن واقد].
    ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
    [حدثني بسر بن عبيد الله].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي إدريس الخولاني].
    اسمه: عائذ الله ، وهو ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عن كبار التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي الدرداء ].
    هو عويمر بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مشهور بكنيته، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    ما لمن أسلم وهاجر وجاهد

    شرح حديث: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ما لمن أسلم وهاجر وجاهد.قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع: عن ابن وهب أخبرني أبو هانئ عن عمرو بن مالك الجنبي أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (أنا زعيم -والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة، من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت)].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، يعني: من الثواب والجزاء عند الله عز وجل، وقد أورد النسائي حديث فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، الذي فيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: [(أنا زعيم، -والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم وهاجر؛ ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة)].
    فالزعيم الحميل، هذه جملة اعتراضية أريد بها تفسير الزعيم، وهي من بعض الرواة، والحميل الذي يحتمل، فهو حميل بمعنى حامل يحمل، وهو الذي يكفل ويلتزم بالشيء، الزعيم الذي يلتزم بالشيء، أو يتكفل به، أو يتحمله، كلها بمعنى واحد، وقد جاء في القرآن: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:72]، يعني: أنا متكلف بهذا الحمل بأنه يصل إلى من يأتي بالصواع، فهنا أتى بهذه الجملة، وهي من بعض الرواة تفسيراً لكلمة الزعيم، وأنه الحميل، أي: الذي يتحمل ذلك الشيء الذي بعث به: [(أنا زعيم -والزعيم الحميل- لمن آمن بي وأسلم )].
    يعني: آمن بقلبه وأسلم بجوارحه، أي: أتى بما هو مطلوب منه ظاهراً وباطناً، أي: فيما يتعلق بقلبه، وفيما يتعلق بجوارحه.
    قوله: [(لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت..)].
    أي: جمع بين هذه الأمور الثلاثة: كونه آمن، وأسلم، وهاجر، ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وربض الجنة، يعني: طرفها، هذا هو معنى ربض الجنة، وفسر بأنه: قريب منها خارجها، لكن الأوضح والأظهر أنه في داخلها، ولكنه في طرفها، فهذا هو الثواب والجزاء لمن آمن بالله عز وجل، وأسلم ظاهراً، وجمع بين أعمال القلب والجوارح، وهاجر، أي انتقل إلى بلاد الإسلام، أو انتقل من مكان إلى مكان يتمكن فيه من إظهار دينه، ومن نصرة الدين والجهاد مع المسلمين.
    قوله: [(وأنا زعيم لمن آمن بي، وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة، وببيت في أعلى غرف الجنة)].
    ثم ذكر لما ذكر ما للذي هاجر مع إيمانه وإسلامه، ذكر ما للذي يجاهد في سبيل الله مع إيمانه وإسلامه، فقال: [(وأنا زعيم لمن آمن بي، وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى غرف الجنة)]، وهذا يدل على فضل الجهاد في سبيل الله، وأن صاحبه يحصل أعلى الدرجات، ولهذا كان للذي يجاهد أكثر من الذي هاجر؛ وذلك أن ذاك له بيت في ربض الجنة ووسطها، وهذا له في ربضها ووسطها وأعلى غرفها.
    قوله: [(من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً، ولا من الشر مهرباً، يموت حيث شاء أن يموت)].
    من فعل ذلك فقد ظفر بأسباب الخير، فلم يدع للخير مطلباً إلا وجد الخير أمامه؛ لأنه سلك ذلك المسلك الذي به السلامة وبه العظمة، وبه الفوز بتحصيل المطالب، والسلامة من المكاره والشرور، فلم يدع للخير مطلباً إلا ودخله، وقصده، وظفر به.
    قوله: [(ولا من الشر مهرباً)]، إلا وقد اعتصم، وسلم من الشرور.
    قوله: [(يموت حيث شاء أن يموت)].
    أي: هذا جزاؤه، وهذا ثوابه عند الله عز وجل.


    تراجم رجال إسناد حديث: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة...)


    قوله: [قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن وهب أخبرني أبي هانئ].وقد مر ذكر هؤلاء الثلاثة.
    [عن عمرو بن مالك الجنبي ].
    وقد مر بنا، وهو أبو علي التجيبي.
    وقد ذكره تحت ترجمة: (ثواب عين سهرت في سبيل الله) فقال:
    [أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن شريح سمعت محمد بن شمير الرعيني سمعت أبا علي التجيبي أنه سمع أبا ريحانة والجنبي ، وهو عمرو بن مالك ].
    وهنا ذكره الجنبي ، وهناك ذكره التجيبي ، والجنبي نسبة، والتجيبي نسبة، لكن الذي ذكره في تحفة الأشراف هو الجنبي وما ذكر التجيبي ، فلا أدري هل هو منسوب هذه النسبة أو هذه النسبة جميعاً، أو أن التجيبي ليست بصحيحة؛ لأن المزي في تحفة الأشراف عند ذكره للحديث ذاك ذكره الجنبي ، وما ذكره التجيبي ، وهنا ذكره الجنبي ، يعني: في هذا الموضع ذكر اسمه ونسبته، وهناك ذكر كنيته ونسبته.
    أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة.
    [أنه سمع فضالة بن عبيد].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة.

    شرح حديث: (...ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني إبراهيم بن يعقوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل عبد الله بن عقيل حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؟ فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)].ثم ذكر النسائي حديث سبرة بن أبي فاكه رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه)]، أطرق: جمع طريق، ثم فصل ذلك وبين عدداً من الطرق التي يقعد الشيطان فيها للإنسان، ويسول له ليصرفه عن تلك الطريق التي أراد أن يسلكها، فقال: [(فقعد له في طريق الإسلام)]، لما أراد أن يسلم ويخرج من الكفر إلى الإسلام، قعد له في طريق الإسلام، وقال: [(تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟)]، يعني: دينك، ودين آبائك، وأجدادك، وتترك ملة الآباء والأجداد؟ [(فعصاه فأسلم)]، فلم يحصل الشيطان مراده من هذا الرجل الذي سول له وأراد أن يغويه، فعصاه ودخل في الإسلام، ولما لم يظفر بمراده منه في هذه الطريق، وأن يصرفه عن الإسلام، جلس له في طريق أخرى.
    وقال: [(ثم قعد له بطريق الهجرة)]، وقال: [(تهاجر بلدك وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول)]، يعني: أنك إذا سافرت من بلدك الذي عشت فيه، وتعرف أهله ويعرفونك، فتنتقل إلى بلد تكون غريباً فيه، ليس عندك معارف، فتكون مثل الفرس الذي في الطول، والطول: هو القيد الذي يقيد به الفرس ليرعى في روضة أو في مكان، ويكون له مسافة بحيث يروح ويذهب مسافة هذا الطول، يأكل من هنا ومن هنا، ولكنه لا يستطيع أن ينفلت لأنه قد ربط، فالطول هو الحبل الذي يجعل في يد الفرس، وطرفه في العود، أو الحديد الذي مثبت في الأرض، فهو يذهب في حدود هذه الدائرة، ولكنه لا يستطيع الانفلات، فهو يقول: تكون مثل الفرس في الطول، يعني: نطاقه ضيق، ما عنده الانطلاق، وما عنده التمكن من أنه يذهب كما يريد ويعرف ويتصل بمن يريد؛ لأنه يكون غريباً إذا هاجر وترك بلده، ومعارفه، وأهله، فلم يستجب للشيطان، وترك الهجرة، بل عصاه وهاجر، فيئس منه.
    قوله: [(ثم قعد له بطريق الجهاد)].
    قوله: [(تجاهد؟ فهو جهد النفس والمال)]، الجهاد فيه جهد النفس، فيه المشقة، وفيه ذهاب المال، ثم إذا ذهبت وقتلت تزوجت المرأة بعدك، واقتسم الورثة مالك، فهو يريد منه أن يترك الجهاد حتى يبقي على أهله وماله، وعلى راحته، وعلى عدم التعب والمشقة، يريد أن يثنيه عن الجهاد في سبيل الله.
    قوله: [(فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة)].
    قوله: [(فمن فعل ذلك)]، أي: هذه الأمور التي مضت [(كان على الله حقاً أن يدخله الجنة)].
    قوله: [(ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل)]، وقد جاهد في سبيله: [(أن يدخله الجنة)].
    قوله: [(وإن غرق)]، أي: وهو في سفره للجهاد في سبيل الله، فإنه يكون من أهل الجنة، ويحصل الثواب بهذا الموت الذي حصل، وإن لم يكن في القتل والمعركة؛ لأن ذلك في سبيل الله، فهو إذا غرق في هذا السبيل -في سبيل الله عز وجل- ومات بسبب ذلك، فإن مآله إلى الجنة، وليس الأمر مقصوراً على القتل في سبيل الله إذا كان الإنسان خرج للجهاد في سبيل الله، وكذلك من وقصته دابته ومات كان أيضاً حقاً على الله أن يدخله الجنة، أي: إنه وإن لم يكن موته بسبب القتل، ولكن بسبب كونه سقط من دابته ووقصته ومات، فإنه يكون في الجنة؛ لأن من جاهد في سبيل الله عز وجل ومات، سواء كان في المعركة أو في غير المعركة، فإنه على أجر عظيم، وثواب جزيل من الله سبحانه وتعالى.
    الحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من جاهد في سبيله ومات فإنه يحصل الجنة، سواء كان قتل واستشهد، أو أنه مات بسبب الغرق، أو مات بسبب السقوط من الدابة ووقصها إياه ومات بسبب ذلك، في جميع هذه الأحوال يكون في الجنة، ومما يوضح هذا قصة الصحابية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وكان يقيل عندها، وكان نائماً ورأى في منامه، وقام يضحك، فسألته، فقال: إن جماعة يجاهدون في سبيل الله يغزون في البحر، وأنهم يكونون كذا وكذا، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، وكانت ذهبت مع زوجها، ولما جاءوا في الطريق سقطت من الدابة وماتت، فنالت هذا الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها ماتت وهي في سفرها في سبيل الله عز وجل، والمرأة هي: أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها.

    تراجم رجال إسناد حديث: (...ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة...)


    قوله: [أخبرني إبراهيم بن يعقوب].هو إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، وهو ثقة، أخرج حديثه أبو داود والترمذي والنسائي .
    [عن أبي النضر هاشم بن القاسم].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي عقيل عبد الله بن عقيل].
    صدوق، أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة.
    [عن موسى بن المسيب].
    صدوق، أخرج له البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي، وابن ماجه .
    [عن سالم بن أبي الجعد].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن سبرة بن أبي فاكه].
    صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه النسائي ، وليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، لم يخرج له أصحاب الكتب الستة إلا هذا الحديث الواحد عند النسائي .


    فضل من أنفق زوجين في سبيل الله عز وجل


    شرح حديث: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: فضل من أنفق زوجين في سبيل الله عز وجل.أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم حدثنا عمي حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله! ما على الذي يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة؟ هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم)].
    أورد النسائي هذه الترجمة، وهي: فضل من أنفق زوجين في سبيل الله، والمقصود بالزوجين: الشيئين من كل شيء، معناه: أنه شيء مكرر، وهذا فيه الإشارة إلى تكرر الإنفاق، وتكرر الإحسان، وعدم الاقتصار على شيء واحد من نوع من الأنواع.
    وقد أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير)]، يعني: عملك هذا خير، وما فعلته هو خير، وأنت على خير.
    قوله: [(فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة)]، يعني: باباً في الجنة يقال له: باب الصلاة، [(ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)]، فكل الذي جاء في الحديث من أسماء الأبواب، في تماثل أسماء الأعمال إلا في الصيام، فإنه ليس الباب مطابقاً للعمل، ولكنه باسم الريان الذي يشعر بالري المقابل للعطش؛ لأن من عطش نفسه في الصيام فالله تعالى يثيبه بأن يدخله من باب يدل على الري الذي هو ضد العطش.
    قوله: [(فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله! ما على الذي يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة؟)]، يعني: كون الإنسان يدعى من أي باب من هذه الأبواب هو على خير، والإنسان يدخل الجنة، وهذا خير من الله عز وجل، لكن [(هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم)]، معناه: أن هناك من يدعى من باب، وهناك من يدعى من جميع الأبواب، وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يرجو رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم؛ وذلك أنه عامل لتلك الأمور التي جاءت في هذا الحديث، فهو من أهل الصلاة، ومن أهل الصدقة، ومن أهل الجهاد، ومن أهل الصيام، وقد جاء في بعض الأحاديث: [(أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: من منكم أصبح صائماً؟ من منكم كذا؟ من منكم عاد مريضاً؟ فكان أبو بكر رضي الله عنه يجيب بأنه فعل هذه الأشياء كلها)]، وهذه الأعمال الخيرية التي سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلها أبو بكر في ذلك اليوم؛ لأنه عندما سئل: من منكم فعل كذا؟ من منكم فعل في هذا اليوم، أخبر بأنه فعل ذلك، ولهذا جاء في هذا الحديث قال: [(وأرجو أن تكون منهم)]؛ لأنه من أهل هذه الأعمال كلها؛ ولأنه من السابقين إلى الخيرات، بل هو أسبق سابق إلى الخيرات، وخير سابق إلى الخيرات بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم، ورضي الله تعالى عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين.

    تراجم رجال إسناد حديث: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير...)


    قوله: [أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم].هو عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
    [حدثنا عمي].
    هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا أبي].
    هو إبراهيم بن سعد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن صالح].
    هو صالح بن كيسان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [عن ابن شهاب].
    هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أن حميد بن عبد الرحمن].
    هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أن أبي هريرة].
    هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق.


    من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا

    شرح حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد حدثنا شعبة أن عمرو بن مرة أخبرهم قال: سمعت أبا وائل حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: الرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل)].
    أورد النسائي رحمه الله باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، يعني: فهو في سبيل الله، وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: [(أنه جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟)]، الرسول صلى الله عليه وسلم وقد آتاه الله جوامع الكلم، أتى بكلمة جامعة فيها حصر ما يكون في سبيل الله وغيره ليس كذلك؛ لأنه سئل عن عدة أشياء أيها تكون في سبيل الله، فكان الجواب: أن أتى بشيء فيه حصر لما هو في سبيل الله، وما سواه فإنه لا يكون كذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: [(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل)]، يعني: من قاتل لإظهار دينه، ولإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي في سبيل الله، وغيره ليس كذلك، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وكمال بيانه وفصاحته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
    وقوله: [(الرجل يقاتل ليذكر)]، يعني: يكون له سمعة وله صيت، [(ويقاتل ليغنم)]؛ من أجل يحصل الدنيا والغنيمة، [(ويقاتل ليرى مكانه)]، يعني: لتعرف منزلته، ويشاهد ويعاين عمله، وأنه شجاع وما إلى ذلك.. (فأي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام:[(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)]، وعلى هذا فالجهاد في سبيل الله الذي وعد أهله ما وعدوا من الأجر هو لمن كان على هذا الوصف الذي بينه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بقوله: [(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)].


    تراجم رجال إسناد حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)


    قوله: [أخبرنا إسماعيل بن مسعود].ثقة، أخرج حديثه النسائي وحده.
    [حدثنا خالد].
    هو خالد بن الحارث البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا شعبة].
    هو شعبة بن الحجاج الواسطي، ثم البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [أن عمرو بن مرة].
    ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
    [سمعت أبا وائل].
    هو شقيق بن سلمة الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بكنيته ومشهور باسمه، يأتي ذكره بالكنية أحياناً كما هنا، ويأتي ذكره بالاسم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو مخضرم.
    [حدثنا أبي موسى الأشعري].
    هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.


    من قاتل ليقال: فلان جريء


    شرح حديث: (...قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء...)


    قال المصنف رحمه الله تعالى: [من قاتل ليقال: فلان جريء.أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا خالد حدثنا ابن جريج حدثنا يونس بن يوسف عن سليمان بن يسار قال: (تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال له قائل من أهل الشام: أيها الشيخ! حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب - قال أبو عبد الرحمن : ولم أفهم تحب كما أردتُ - أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكن ليقال: إنه جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار)].
    قوله: [(كما أردت أن ينفق فيها)]، والنسائي يقول: لم أفهمها كما أردتُ، معناه أنه ما ضبطها، يعني: إما تحب، أو ترغب، أو تريد فهو ما ضبط الكلمة، كما أردت أن أحفظ، أو أتقن، ما ضبطت كلمة أحبُ.
    وقد أورد النسائي هذه الترجمة وهي: من قاتل ليقال: فلان جريء، يعني: ليقال: شجاع ونشيط، فأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول سليمان بن يسار الراوي عن أبي هريرة : تفرق الناس عن أبي هريرة ، أي: تفرقوا من مجلسه وكان جالساً للتحديث، فالناس تفرقوا، ولما تفرقوا سأله شخص من أهل الشام، فقال: أيها الشيخ! حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نعم، أي: يحدثه، ثم ذكر أول ما يقضى بين الناس ثلاثة:
    قوله: [(رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها)].
    (رجل استشهد)، أي: على حسب الظاهر، وهذا ليس بشهيد في الحقيقة، ولكنه على حسب ما يظهر للناس أنه قتل في سبيل الله، وأنه من أهل الشهادة، فهو على حسب ما يظهر لهم، وعلى حسب ما يتبين لهم أنه قتل في سبيل الله، وهم لا يعلمون ما في قلبه، ولا يعلمون نيته، والله تعالى هو المطلع على النيات، وقد سبق أن مر في بعض الأحاديث: (والله أعلم ممن يجاهد في سبيله)، أي: أعلم ممن يكون مخلصاً، ومن يريد بجهاده وجه الله والدار الآخرة، ومن يريد الرياء والسمعة والذكر، وما إلى ذلك من الصفات التي يرغب بها كثير من الناس.
    قوله: [(فأتي به فعرفه)]، قوله: استشهدتُ، يعني: على حسب ما يظهر للناس، وليس على حسب الواقع عند الله عز وجل، فأتي به، فعرفه نعمه التي أنعم الله تعالى بها عليه، فعرفها، قال: ما فعلت فيها؟ قال [(قاتلت فيك حتى استشهدت)]، أي: أنني بذلت جهدي، وبذلت مالي حتى استشهدت، [(فقال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)]؛ لأنه فقد شرط الإخلاص، وشرط إرادة إعلاء كلمة الله عز وجل، وإنما أراد بفعله هذا -وهو الجهاد في سبيل الله- أن يوصف بالشجاعة، وأن يوصف بالجرأة والقوة، وأن يذكر، وأن يمدح، وأن يثنى عليه، وهذا ينافي الإخلاص؛ لأن محبة ثناء الناس ومدحهم تنافي الإخلاص، فالإنسان يريد بعمله وجه الله عز وجل، ولكنه لو ذكره الناس بعد ذلك وفرح فإن ذلك لا يضره؛ لأنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما قيل له: الرجل يفعل الفعل يريد به وجه الله فيمدحه الناس فيفرح بذلك، قال: تلك عاجل بشرى المؤمن)، وإنما المحذور أن يكون الباعث له على العمل هو ملاحظة الناس، وقصد الناس، ومدح الناس، وثناء الناس، وابن القيم رحمه الله له كلمة جيدة فيما يتعلق بالإخلاص، ذكرها في كتاب الفوائد، وأنا ذكرتها في كتاب الفوائد المنتقاة في فتح الباري وكتب أخرى، يقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة مدح الناس وثنائهم، كما لا يجتمع الضب والنون، والماء والنار، فإنهما لا يجتمعان؛ فالضب لا يعيش إلا في البر، والنون -الذي هو: الحوت- لا يعيش إلا في البحر، فالضب إذا ذهب إلى البحر هلك، والحوت إذا خرج إلى البر هلك، فلا يجتمعان، ثم ذكر: إذا حدثتك نفسك بالإخلاص، فاقصد إلى الطمع واذبحه بسكين اليأس، واقصد إلى المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا بالآخرة، فإن قلت: وما الذي يسهل لي الإخلاص؟ قال: يسهل لك أن تعلم أنه ليس هناك أحد مدحه يزين، وذمه يشين إلا الله عز وجل، هذا هو الذي إذا مدح فمدحه هو النافع وهو الزين، وذمه إذا حصل فهو الشين، كلمة جميلة ذكرها ابن القيم في كتابه (الفوائد)، وأيضاً أنا نقلتها في كتاب الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى، تحت ترجمة: كلمات ذات عبر وعظات.
    قوله: [(ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)].
    وهذا هو الصنف الثاني من الأصناف الثلاثة، وهو الرجل الذي تعلم العلم، وقرأ القرآن، ولكن قصده من ذلك أن يشار إليه بالبنان، وأن يقال: هذا عالم، وهذا قارئ، وما كان يريد بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فأتي به فعرفه نعمه وعرفها، وقال: ماذا فعلت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن وعلمته وأقرأته، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ، فقد قيل، يعني: وقد حصل لك ما تريد، والشيء الذي أردته قد حصل لك، وأنك قد ذكرت، ولكنك ما أخلصت لله عز وجل في عملك فلم ينفعك ذلك، فأمر به فسحب فألقي في النار.
    ثم ذكر الصنف الثالث: [(الذي أعطاه الله من أنواع المال ما أعطاه، وبعد ذلك أتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: ما صنعت؟ قال: ما تركت من طريق تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، فقال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، ثم أمر به، فسحب فألقي في النار)].
    والحاصل: أن الإخلاص هو الذي ينفع في الأعمال، وقد سبق أن ذكرت مراراً: أن العمل المقبول عند الله لا بد فيه من شرطين: أن يكون لله خالصاً، وأن يكون لسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام موافقاً ومطابقاً، فإذا فقد شرط الإخلاص، فوجود العمل كعدم وجوده، وكذلك لو وجد العمل والإنسان مخلص فيه، ولكنه مبني على بدعة ولم يبن على سنة، فهو مردود على صاحبه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد).

    تراجم رجال إسناد حديث: (...قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء...)


    قوله: [أخبرنا محمد بن عبد الأعلى].ثقة، أخرج حديثه مسلم ، وأبو داود في القدر، والترمذي، وابن ماجه .
    [حدثنا خالد].
    هو خالد بن الحارث ، وقد مر ذكره.
    [حدثنا ابن جريج].
    هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وهو ثقة، فقيه، يرسل ويدلس، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [حدثنا يونس بن يوسف].
    ثقة، أخرج له مسلم والنسائي وابن ماجه .
    [عن سليمان بن يسار].
    ثقة، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
    [عن أبي هريرة].
    وقد مر ذكره.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •