تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 21 من 29 الأولىالأولى ... 11121314151617181920212223242526272829 الأخيرةالأخيرة
النتائج 401 إلى 420 من 571

الموضوع: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

  1. #401
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (400)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 459 إلى صـ 466


    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي ; لأنه مقذوف بقذفها ، خلافا لما في كلام صاحب " المغني " ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف ، وقول صاحب " المغني " : تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى; لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، [ ص: 459 ] لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا ، كما ترى .

    والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ; لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها ، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتا أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ; لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ; ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذبا بل يفرح به ; لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقا ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه ، اهـ .

    وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد .

    واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه .

    والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ; لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال ، والعلم عند الله تعالى .

    وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذفه هو - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال . وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم أنواع الكفر ، والله تعالى أعلم .
    المسألة الخامسة والعشرون : في حكم من قذف ولده .

    وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال في " المغني " : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه ، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والشافعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وقال مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ; ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى .

    [ ص: 460 ] وأظهر القولين دليلا : أنه لا يحد الوالد لولده ; لعموم قوله : وبالوالدين إحسانا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : فلا تقل لهما أف [ 7 \ 23 ] ، فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه ، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال ، لأنهم يقولون : إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسقا بالعقوق ; كما قال خليل في " مختصره " : وله حد أبيه وفسق ، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة ، والشرع لا يمكن أحدا من ارتكاب كبيرة ; كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه .
    المسألة السادسة والعشرون : في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في الحرم ، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم ؟

    اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب :

    الأول : أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره .

    الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم ، سواء كان قتلا أو غيره .

    الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص ، والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم .

    قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، وإسحاق ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبي حنيفة وأصحابه .

    وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان :

    إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه .

    والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام " : فلا يسفك فيها دم " ، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب .

    قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في [ ص: 461 ] الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، اهـ محل الغرض منه .

    وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل ، وفعله ابن الزبير .

    وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك ، والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ; لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، اهـ محل الغرض منه .

    وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان ، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه ، اهـ محل الغرض منه .

    وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم ومناقشتها ، أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، والشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة :

    منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ، ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره ، قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت .

    ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة [ ص: 462 ] الحرم ; لأن أحق البلاد بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه ، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له كما ترى .

    أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ " إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية ، فهو استدلال في غاية السقوط; لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط غلط غلطا فاحشا ; لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " : إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح - رضي الله عنه - وفي صحيح مسلم - رحمه الله - مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادا ومتنا .

    وإذا تقرر أن القائل : إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ; لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله - صلى الله عليه وسلم - في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة ، كما ترى .

    وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص [ ص: 463 ] في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " : فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " الحديث ، قالوا : تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ; لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس ، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله " : دما " نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد ، أو غير ذلك .

    واستدلوا أيضا بقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم .

    وأما الذين قالوا بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، قالوا : وجملة ومن دخله كان آمنا خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم .

    واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ابن عباس ، أنه قال في الذي يصيب حدا ، ثم يلجأ إلى الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في " المنتقى " : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا ، قتلا كان أو غيره ; لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق على الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشترى منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ; لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف ، [ ص: 464 ] والعلم عند الله تعالى ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية .
    قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، معنى : ويدرأ : يدفع ، والمراد بالعذاب هنا : الحد ، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : العذاب أن تشهد فاعل يدرأ ، أي : يدفع عنها الحد شهادتها أربع شهادات .

    والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله : ويدرأ عنها العذاب الحد من أوجه :

    الأول : منها سياق الآية ، فهو يدل على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحد .

    والثاني : أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر ، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] ، فقوله : وليشهد عذابهما أي : حدهما بلا نزاع ، وذلك قوله تعالى في الإماء : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، أي : نصف ما على الحرائر من الجلد .

    وهذه الآية تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته ، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية .

    ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها ، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج ، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف ، وتوجه إليها هي حد الزنى ، وتدفعه عنها شهاداتها .

    وظاهر القرآن أيضا أنه لو قذف زوجته ، وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف ، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد ، وهذا هو الظاهر من الآيات [ ص: 465 ] القرآنية; لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته ، حيث قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين [ 24 \ 6 - 7 ] ، فلم يجعل له مخرجا من جلد ثمانين ، وعدم قبول الشهادة ، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد ، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه ; لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه ، ولا شهادات تنوب عن الشهود ، فتعين أنه يحد لأنه قاذف ، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف ، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحد ; لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب الآية ، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة ، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن ، أو يكذب نفسه ، فيقام عليه حد القذف ، ومن قال بأنها إن شهد هو ، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها : مالك ، والشافعي ، والشعبي ، ومكحول ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ; كما نقله عنهم صاحب " المغني " .

    وهذا القول أصوب عندنا ; لأنه ظاهر قوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد : لا حد عليها بنكولها عن الشهادات ، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد .

    قال في " المغني " : وبهذا قال الحسن ، والأوزاعي ، وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن الحارث العكلي ، وعطاء الخراساني ، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته ; لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها .

    وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا ; لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره ، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة أخرى ، والعلم عند الله تعالى .
    [ ص: 466 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

    المسألة الأولى : اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين ، إلا بقذف الرجل زوجته قذفا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى ، ونفي ولدها عنه ، وقول الجمهور هنا : إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول : رأيت بعيني ، أظهر عندي مما روي عن مالك من أنه لا يلزم اللعان ، حتى يصرح برؤية العين ; لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين .

    وقول الملاعن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - : رأت عيني وسمعت أذني ، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت أن ذلك لا يكفي ، دون اشتراط رؤية العين ، وسماع الأذن كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #402
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (401)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 467 إلى صـ 474



    المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ 24 \ 6 ] إلى آخر الآيات ، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال :

    الأول : أنها شهادات ; لأن الله سماها في الآية شهادات .

    والثاني : أنها أيمان .

    والثالث : أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .

    والرابع : عكسه ، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللعان ، إلا ممن تجوز شهادته ، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة ، ومن قال : إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين ، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة ، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول ، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود ، فيجب عليها حد الزنى ، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج ، وقيل : لا يحدون ، وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته ، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة - رحمه الله - ومن تبعه ، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة ، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن ، مرادا بها اليمين ، مع دلالة القرائن على ذلك ، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور :

    الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ ص: 467 ] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله : بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين ، فقوله : أشهد بالله في معنى : أقسم بالله .

    الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله : فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ 5 \ 107 ] ، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ 5 \ 108 ] ، فقوله : أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين ، وهو واضح كما ترى .

    وقال القرطبي : ومنه قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ 63 \ 1 ] ; لأن قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة [ 63 \ 2 ] ، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان ، هكذا قال ، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .

    الثالث : ما قاله ابن العربي ، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر ، اهـ منه بواسطة نقل القرطبي .

    وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تاما يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، وهو استدلال قوي ; لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة ; كما أوضحناه مرارا ، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه ; لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا .

    الرابع : ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به " : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، عند أحمد وأبي داود ، وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا ، وفي إسناد الرواية المذكورة عباد بن منصور ، تكلم فيه غير واحد ، ويقال : إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم .

    وأما الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان ، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله : [ ص: 468 ] ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وفي قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات الآية ، وقوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الآية ، واستدلوا أيضا بحديث " : أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، اهـ ، قالوا : إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة ؛ لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم ، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم ; لأنهم ممن تقبل يمينه ، وقال الزيلعي في " نصب الراية " ، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء ، عن أبيه عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن : النصرانية تحت المسلم ، واليهودية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، انتهى .

    وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وقال : عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا " : أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين العبد والحرة لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان " ، انتهى ، وقال الدارقطني : والوقاصي متروك الحديث ، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب به ، قال : وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا ، وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا ، وروي عن الأوزاعي ، وابن جريج وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قوله ، ولم يرفعاه ، ثم أخرجه كذلك موقوفا ، ثم أخرجه عن عمار بن مطر ، ثنا حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد " : ألا لعان بين أربع " فذكر نحوه ، قال : وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء ، انتهى ، وقال البيهقي في " المعرفة " : هذا حديث رواه عثمان بن عطاء ، ويزيد بن زريع الرملي ، عن عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : أربعة لا ملاعنة بينهم : النصرانية تحت المسلم " إلى آخره ، قال : وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط ، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان ، ورواه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين وغيره من الأئمة ، ورواه عمار بن مطر ، عن حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء . [ ص: 469 ] وروي عن ابن جريج والأوزاعي ، وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده موقوفا ، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر ، فإن راويه عن ابن جريج والأوزاعي عمرو بن هارون ، وليس بالقوي ، ورواه يحيى بن أبي أنيسة أيضا ، عن عمرو بن شعيب به موقوفا ، وهو متروك ، ونحن إنما نحتج بروايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده ، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى عمرو ، والله أعلم ، انتهى كلامه ، انتهى كلام صاحب " نصب الراية " .

    وقال صاحب " الجوهر النقي " : إن الحديث المذكور جيد الإسناد ، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان ; لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة .

    والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة ، للأدلة التي ذكرنا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثالثة : اعلم أنه لا يجوز في اللعان ، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود ، وإن كانت بيضاء وزوجها أبيض ; لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هل لك من إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : ما ألوانها " ؟ قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءتها الورقة " ؟ قال : لعل عرقا نزعها ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين ، وقد قدمناها مرارا ، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندا للرجل في اللعان ، كما ترى .
    المسألة الرابعة : اعلم أن التحقيق أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه إن لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف ، ولا يقبل منه اللعان ; لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية [ 24 \ 4 ] ، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله ، فما يروى عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - من أنه إن قذفها قبل الزواج ، ثم تزوجها بعد القذف أنهما يلتعنان ، خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الخامسة : اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا ، ولم يأت [ ص: 470 ] بالبينة أنه يحد للأم حد القذف ; لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة ، فهي داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، وأما البنت فإنه يلاعنها ; لأنه قذفها ، وهي زوجة له ، فتدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين إلى آخر آيات اللعان .

    وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة : إنه إن حد للأم سقط حد البنت ، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم ، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرآن ، وقد قال ابن العربي في القول المذكور : وهذا باطل جدا ، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه ، اهـ ، وهو ظاهر .
    المسألة السادسة : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب : أن من قذف زوجته بالزنى ، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان ; لأنه تبين بزناها قبل اللعان أنها غير محصنة ، ولا لعان في قذف غير المحصنة ، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى ، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد ; لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد ، فلا يحد بقذف من ظهر أنها غير محصنة ، وذكرنا الخلاف في ذلك .

    وحجة من قال : يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارئ ، وبينا أن الأظهر سقوط الحد واللعان ، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة السابعة : اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد ، وهي لدرء العذاب ، وأما إن رمى زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها ، فقد قدمنا خلاف العلماء : هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء ، ولم تبلغ ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد ، وأما على القول : بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقا فلا لعان عليه في قذفها ، وقد قدمنا الأظهر عندنا في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثامنة : اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم ، هل له أن يلاعنها ، وهي حامل لنفي ما في بطنها ، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد ؟ فذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان ، وقال ابن حجر [ ص: 471 ] في " الفتح " ، بعد أن ساق أحاديث اللعان ، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع ; لقوله في الحديث " : انظروا فإن جاءت " إلخ ، كما تقدم في حديث سهل ، وفي حديث ابن عباس ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود ، فجاء ، يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " : لعلها أن تجيء به أسود جعدا " ، فجاءت به أسود جعدا ، وبه قال الجمهور ، خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم ; لأنه قد يكون نفخة .

    وحجة الجمهور : أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ، ودفع حد الرجم عن المرأة ، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا ، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة .

    وقد اختلف في الصغيرة ، والجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .

    وقد قدمنا أن التعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء ، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك .

    وأما الذين قالوا : لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها ، فقد استدلوا بأمرين :

    الأول : أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع ; لأنه قد يكون انتفاخا وقد يكون ريحا .

    والثاني : هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان ، مما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر لعان الحامل حتى وضعت . ففي البخاري من حديث ابن عباس ، ما نصه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اللهم بين " ، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، الحديث . قالوا : فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله : فوضعت شبيها بالرجل ، إلخ . دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء ، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في " فتح الباري " ، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة : ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد ، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع ، فعلى هذا تكون الفاء في قوله : فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة " فلاعن " معطوفة عليها مذكورة [ ص: 472 ] في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه .

    والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك ، ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق ، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا بعد الطلاق ، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه ، وإن كانت بائنا ، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد ، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف ، والأظهر ولو كان الطلاق رجعيا ، ولم تنقض العدة ، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة ; لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة ، لأنها في حكم الزوجة ، وهو مذهب أحمد المشهور ، ورواية أبي طالب عنه ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، وزيد ، والنخعي ، والزهري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر ، والله أعلم .

    وقال القرطبي : لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه ، وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه ، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة ، وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ويرثها ; لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما ، اهـ منه ، ولا نص فيه ، وله وجه من النظر .

    وقال القرطبي أيضا : إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن ، وإلا لم يلاعن ، وقال عثمان البتي : لا يلاعن بحال ، وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في الوجهين ; لأنها ليست بزوجة ، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا بل هذا أولى ; لأن النكاح قد تقدم ، وهو يريد الانتفاء من النسب ، وتبرئته من ولد يلحق به ، فلا بد من اللعان ، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به ، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، فوجب عليه الحد ، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده ، انتهى كلام القرطبي .

    وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر; لأنها في حكم [ ص: 473 ] الزوجة ، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك ، وأقوال العلماء ، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف ، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان ، ولا يجوز له تزوج أختها ، قبل انقضاء العدة ، ولا تزويج رابعة غيرها ; لأنها تكون كالخامسة نظرا إلى أن الرجعية كالزوجة ، يقتضي أن يقول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر ، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم ، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالما بزناها في زعمه ، دل ذلك على أنه تارك للعان ، وينبني على الخلاف المذكور ، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي ، وقبل انقضاء العدة ، هل يحكم عليه بأنه قاذف ; لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له أن يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة .

    أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف ، فالأظهر أن له لعانها مطلقا ، ولو كان الطلاق بائنا ; لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والقاسم بن محمد ، ومكحول ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال الحارث العكلي ، وجابر بن زيد ، وقتادة والحكم : يجلد ، وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي : لا حد ولا لعان ; لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ، ولا يحد ; لأنه لم يقذف أجنبية .
    المسألة العاشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل ، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ، ثم قال : إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحا أو انتفاخا فينفش أو يسقط ميتا ، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع ; لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول ، فإن بادر بنفيه فورا عند وضعه ، فلا ينبغي أن يختلف في أن له أن ينفيه بلعان ، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع ، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت ، فهل له ذلك أو ليس له ؟ لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد ، فلا يمكن من اللعان بعده .

    لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب ، ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، قال القرطبي : قد اختلف في ذلك ونحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام ، فهو راض به وليس له نفيه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم ، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك ، وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس ، قال [ ص: 474 ] ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا ؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة ; لأنه أول حد الكثرة ، وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة ، وكذلك ينبغي أن يكون هنا .

    وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ، إذ لا شاهد لهما في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة ، انتهى كلام القرطبي ، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية ، وهي : هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا ؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :


    وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نمى
    تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري
    مع مضي مهلة للنظر



    فمن قال : إن السكوت لا يعد رضى ، قال : لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راض ، ومن قال : إنه يعد رضى ، قال : لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البكر " : إذنها صماتها " ، وبعضهم يقول : تخصيص البكر بذلك ، يدل على أن غيرها ليس كذلك ، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم ، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى ، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه ، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك ، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى .

    ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك :


    وحاضر لواهب من ماله ولم يغير ما رأى من حاله
    الحكم منعه القيام بانقضا مجلسه إذ صمته عين الرضى


    ولكل واحد من القولين وجه من النظر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #403
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (402)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 475 إلى صـ 482




    والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه [ ص: 475 ] عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى ، وإلا فلا ; لأن العرف محكم ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الحادية عشرة : اعلم أنه إن كان النكاح فاسدا ، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه ، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى ، وأراد اللعان لنفي الحد عنه ، فالأظهر أن له ذلك ; لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش ، قاله مالك في " المدونة " .

    وقال القرطبي : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته ، لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه ، اهـ منه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعا على فساده ولا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان ، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء ، وهذا ظاهر لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثانية عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى ، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها أن له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود ; لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه ، أما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان .

    وقال القرطبي - رحمه الله - : اختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ؟ قال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ; لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان .

    وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه ; لقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم اهـ منه .
    المسألة الثالثة عشرة : قال القرطبي أيضا في تفسيره : يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء : عدد الألفاظ ، وهو أربع شهادات على ما تقدم ، والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كانت ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي [ ص: 476 ] بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين ، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه ، والوقت : وذلك بعد صلاة العصر ، وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان ، اهـ منه ، مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف .
    المسألة الرابعة عشرة : اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان ، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت ، قبل أن يمسها الزوج أصلا ، أو زنت بعد أن وضعت ، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت ، أو زنت في طهر لم يمسها فيه ; لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض ، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد ; كما قدمنا ، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه ، ولا بوطء في فخذين ; لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه ، كما قدمنا .
    المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان ، فلا يجوز نفي أحدهما ، دون الآخر ، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر ، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه ; كما قاله مالك وأصحابه ، ومن وافقهم .

    وقد أوضحنا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر ، فهما توأمان .

    وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر ، فاستحلق أحدهما ، ونفى الآخر لحقا به ; لأن الحمل الواحد ، لا يجوز أن يكون بعضه منه ، وبعضه من غيره ، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة ، فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه ; لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه ، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه ، إلى أن قال : وإن استلحق أحد التوأمين ، وسكت عن الآخر لحقه ; لأنه لو نفاه للحقه ، فإذا سكت عنه كان أولى ، ولأن امرأته متى [ ص: 477 ] أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه بلعان ، وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر ، لحقاه جميعا .

    فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه ; لأنه قد نفى أخاه ، وهما حمل واحد .

    قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب ، وهو يثبت لمجرد الإمكان ، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا ، فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ، ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول ; لأن اللعان تناول الأول وحده ، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان ; لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة ، فلا يحتاج إلى لعان ثان ، ذكره القاضي ، اهـ .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الأخير هو الأظهر ; لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين ، ثم قال في " المغني " متصلا بكلامه الأول : فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه ، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا ، فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر ، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل ، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ، ولا ينتفي بغير اللعان ; لأنه حمل منفرد ، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه ، وإن كانت قد بانت باللعان ; لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول ، وإن لاعنها قبل وضع الأول ، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني ; لأنها بانت باللعان ، وانقضت عدتها بوضع الأول ، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه ، ثم قال في " المغني " أيضا : وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ، ولا يلاعن إلا لنفي الحد ; لأن الميت لا يصح نفيه باللعان ، فإن نسبه قد انقطع بموته ، فلا حاجة إلى نفيه باللعان ، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع ، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي ; لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه ، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه ، فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي ، وكما لو كان للميت ولد ، اهـ كلام صاحب " المغني " .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي ; لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه ، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده ، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه [ ص: 478 ] المدة الطويلة ; لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرا يولد له فيه ، وقد يكون معذورا بالغيبة زمنا طويلا ، وكذلك عند من يقول : إن السكوت لا يسقط اللعان مطلقا كما تقدم ، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه ، فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه ، والظاهر أنه إن نفى ولدا بعد موته ، فإن كانت أمه حية فلا بد من اللعان ; لأنه قاذف أمه ، وإن كانت الأم ميتة جرى على الخلاف في حد من قذف ميتة ، فعلى القول بالحد فله اللعان ، وعلى القول بعدمه فلا لعان ، وقد قدمنا الخلاف في ذلك ، ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبا من أن له اللعان لنفي الولد ; لأنه يجتمع به موجبان للعان ، وهما إسقاط الحد ونفي الولد ، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالا أو لا ؟ والعلم عند الله تعالى .

    تنبيه .

    اعلم أن أهل العلم اختلفوا في توأمي الملاعنة المنفيين باللعان ، هل يتوارثان توارث الشقيقين أو الأخوين لأم ؟ وقال ابن الحاجب من المالكية : هما شقيقان ، وقال خليل في " التوضيح " ، وهو شرحه لمختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي : إن كونهما شقيقين هو مشهور مذهب مالك ، وقال المغيرة من المالكية : يتوارثان توارث الأخوين لأم ، كالمشهور عند المالكية في توأمي الزانية والمغتصبة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أن توأمي الملاعنة يتوارثان توارث الأخوين لأم ، وأنهما لا يحكم لهما بحكم الشقيقين ; لأنهما لا يلحقان بأب معروف ، وإذا لم يكن لهما أب معروف فلا وجه لكونهما شقيقين ، ويوضح ذلك أنهما إنما ينسبان لأمهما ، وبه تعلم أن مشهور مذهب مالك في هذه المسألة خلاف الأظهر . وأما قول ابن نافع من المالكية : إن توأمي الزانية شقيقان ، فهو خلاف التحقيق ; لأن الزاني لا يلحق به نسب حتى يكون أبا لابنه من الزنى ، والرواية عن ابن القاسم بنحو قول ابن نافع ظاهرها السقوط ، كما ترى . وأما ما قاله ابن رشد في " البيان " من أن توأمي المسبية ، والمستأمنة شقيقان ، فوجهه ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الخامسة عشرة : اعلم أنه إن تزوجها ثم قذفها بعد النكاح قائلا : إنها زنت قبل أن يتزوجها . فإن أهل العلم اختلفوا هل له لعانها نظرا إلى أن القذف وقع وهي زوجته أو [ ص: 479 ] يحد لقذفها ولا يمكن من اللعان نظرا إلى أنها وقت الزنى الذي قذفها به أجنبية منه ، وليست بزوجة .

    قال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذفها بعد تزوجها بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن ، سواء كان ثم ولد أو لم يكن ، وهو قول مالك وأبي ثور ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي ، وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن ; لأنه قذف امرأته ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية ، ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح ، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك ، وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن ، وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان ، ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة فأشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق قذف الزوجة ; لأنه محتاج إليه ، لأنها غاظته وخانته ، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه ، وهاهنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنى ، فلا يشرع له طريق إلى نفيه ، اهـ من " المغني " .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة أنه إن لم يكن ولد ، فلا يمكن الزوج من اللعان ، ويحد لقذفها إن لم يأت بأربعة شهداء ; لأنه قذفها وهي أجنبية ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية ، لأنه قاذف محصنة ليست بزوجة ، والنكاح الطارئ لا يغير الحكم الذي تقرر قبله كما ترى ، وإن كان هناك ولد يلحق به لو سكت ، وهو يعلم أنه ليس منه استنادا إلى بعض الأمور المسوغة لنفي الولد التي قدمناها أن له أن يلاعن لنفي الولد .

    والحاصل : أنه له اللعان لنفي الولد لا لدفع الحد فيما يظهر لنا ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة السادسة عشرة : فيما لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية ، فقيل : يلاعن ، وقيل : لا يلاعن ; لأن القذف إنما وقع بعد البينونة بالثلاث على القول بالبينونة بها ، وهو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم .

    قال ابن قدامة في " المغني " : نقل مهنأ قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته : أنت طالق يا زانية ثلاثا ، فقال : يلاعن ، قلت : إنهم يقولون يحد ، ولا يلزمها إلا واحدة ، قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن ; لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها ، فأشبه قذف الرجعية ، اهـ منه [ ص: 480 ] وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة السابعة عشرة : فيما لو جاءت زوجته بولد فنفاه فصدقته الزوجة في أن الولد من غيره ، فعلى الزوجة حد الزنى .

    واختلف أهل العلم هل ينتفي نسب الولد بتصادقهما بدون لعان ، أو لا ينتفي إلا بلعان ، وكلا القولين مروي عن مالك ، وأكثر الرواة عنه أنه لا ينتفي إلا بلعان .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه لا ينتفي عن الزوج إلا بلعانه ، ولا يسقط حقه من لحوق نسبه بتصديق أمه للزوج ; لأن للولد حقا في لحوق نسبه فلا يسقط إلا بلعان الزوج ، وأما الزوجة فلا يصح منها اللعان في هذه الصورة ; لأنها مقرة بصدق الزوج في دعواه .
    المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن الأظهر عندنا فيمن قذف امرأته فطالبت بحده لقذفها فأقام شاهدين على إقرارها بالزنى الذي قذفها به أن حكم هذه المسألة مبني على الاختلاف في الإقرار بالزنى ، هل يثبت بشاهدين كغيره من سائر الأقارير أو لا يثبت إلا بأربعة شهود ، فمن قال : يثبت بشاهدين يلزم قوله : أن الرجل لا يحد لقذفها ; لأن إقرارها بالزنى ثبت بالشاهدين ، وعلى القول الآخر يحد ; لأن إقرارها لم يثبت ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الأظهر أنهما إن شهدا عليه بأنه قذف امرأته وقذفهما أعني الشاهدين لم تقبل شهادتهما بقذف المرأة ; لأنهما لما ادعيا عليه أنه قذفهما صارا له عدوين ; لأن القذف يستوجب العداوة . قال ابن قدامة في " المغني " : فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة ، وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما ، وشهادة العدو لا تقبل على عدوه ، فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة ، فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ، ثم تاب وأعادها ، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ، ثم أبرآه وزالت العداوة ، ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما ; لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ، ولو شهدا أنه قذف امرأته ، ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما ، بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه ، وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت ، وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها ; لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين ، وإن كانت بعد الحكم لم يبطل ; لأن الحكم تم قبل [ ص: 481 ] وجود المانع كظهور الفسق ، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما ، لأنها ردت في البعض للتهمة ، فوجب أن ترد للكل ، وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد ، وقال في القديم : لا تقبل ; لأنهما يجران إلى أمهما نفعا ، وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء ; لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به ، وإن شهدا بطلاق الضرة ، ففيه وجهان : أحدهما : لا تقبل ؛ لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما .

    والثاني : تقبل ؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ، اهـ من " المغني " ، وكله لا نص فيه ولا يخلو بعضه من خلاف ، والأظهر عدم قبول شهادتهما بطلاق ضرة أمهما ; لأنهما متهمان بجر النفع لأمهما ، لأن طلاق الضرة فيه نفع لضرتها كما لا يخفى وشهادة الإنسان بما ينفع أمه لا تخلو من تهمة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة العشرون : في اختلاف اللغات أو الأزمنة في القذف أو الإقرار به .

    قال ابن قدامة في " المغني " : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية ، تمت الشهادة; لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ، ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها ، وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه ، وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه أقر بأنه قذفها بالعربية ، أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ، ففيه وجهان :

    أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة ; لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة ، وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف ; كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية ، والآخر : لا تكمل الشهادة ، وهو مذهب الشافعي ; لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت ، كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة [ ص: 482 ] وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين ، انتهى من " المغني " .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بالشهادة هل تلفق في الأفعال والأقوال ، أو لا تلفق ؟ وبعضهم يقول تلفق في الأقوال دون الأفعال ، وبعضهم يقول : تلفق فيهما ، والفرق بينهما ليس بظاهر ، وقولهم : هما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما قد يقال فيه ، وكذلك الإقرار المختلف وقته أو لسانه هما إقراران لم تتم الشهادة على واحد منهما ، وهذه المسألة لا نص فيها وكل من الأقوال فيها له وجه من النظر ، والخلاف المذكور وعدم النص لا يبعد أن يكون شبهة تدرأ الحد ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الواحدة والعشرون : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من نفى حمل امرأته بلعان أنه ينتفي عنه ، ولا يلزمه لعان آخر بعد وضعه ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه تعلم أن قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومن وافقه من أهل الكوفة ، وقول الخرقي ومن وافقه من الحنابلة أن الحمل لا يصح نفيه باللعان ، فلا بد من اللعان بعد الوضع ; لأن الحمل قبل الوضع غير محقق ; لاحتمال أن يكون ريحا خلاف التحقيق فيما يظهر لنا من انتفاء الحمل باللعان ، كما هو قول مالك والشافعي ومن وافقهم من أهل الحجاز ، كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وقصة هلال بن أمية - رضي الله عنه - صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه حمل امرأته باللعان ، ولم يلزمه بإعادة اللعان بعد الوضع ، والرواية التي توهم أن لعانه كان بعد الوضع أوضحنا الجواب عنها فيما تقدم بما أجاب به عنها ابن حجر في " الفتح " ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثانية والعشرون : في حكم من قذف امرأته باللواط ، وقد أوضحنا في سورة " هود " ، في الكلام على قصة قوم لوط أقوال أهل العلم في عقوبة اللائط وبينا أن أقواها دليلا قتل الفاعل والمفعول به ، وعليه فلا حد بالقذف باللواط وإنما فيه التعزير ، وذكرنا قول من قال من أهل العلم : إن اللواط حكمه حكم الزنى وعلى هذا القول يلاعن القاذف باللواط ، وإن امتنع من اللعان حد ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #404
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (403)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 483 إلى صـ 490




    المسألة الثالثة والعشرون : في حكم من ولدت امرأته ولدا لا يمكن أن يكون منه ، فإن الولد لا يلحقه ولا يحتاج إلى نفيه بلعان ; لأنه معلوم أنه ليس منه كما لو تزوج امرأة [ ص: 483 ] فجاءت بولد كامل لأقل من ستة أشهر ; لأن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، كما أوضحناه في سورة " الرعد " ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وككون الزوج صبيا لا يولد لمثله عادة لصغره ونحو ذلك .

    واعلم أن الذي يظهر لنا أنه هو الصواب أن كل ولد جاءت به امرأة الصغير قبل بلوغه أنه لا يلحق به ، ولا يحتاج إلى لعان ، وبه تعل م أن قول من قال من الحنابلة ، ومن وافقهم : إن الزوج إن كان ابن عشر سنين لحقه الولد وكذلك تسع سنين ونصف ، كما قاله القاضي من الحنابلة أنه خلاف التحقيق ، واستدلالهم على لحوق الولد بالزوج الذي هو ابن عشر سنين بحديث " : واضربوهم على الصلاة لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " ظاهر السقوط ، وإن اعتمده ابن قدامة مع علمه ، وغيره من الحنابلة .

    فالتحقيق إن شاء الله تعالى هو ما قاله أبو بكر من الحنابلة من أنه لا يلحق به الولد حتى يبلغ وهو ظاهر لا يخفى ، وكما لو تزوج امرأة في مجلس ، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي مغربية ، أو عكسه ، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه ، قال ابن قدامة في " المغني " : وبذلك قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلحقه نسبه ; لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء ، انتهى منه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله عدم لحوق الولد فيما ذكر للعلم بأنه ليس منه ولا حاجة لنفيه ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الرابعة والعشرون : اعلم أن أظهر الأقوال وأقواها دليلا ، أن المتلاعنين يتأبد التحريم بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، وقد جاءت بذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد ، وفيه : فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا ، انتهى .

    وقال في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح ، ومنها ما رواه الدارقطني عن سهل أيضا ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال " : لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ، وقال فيه [ ص: 484 ] صاحب " نيل الأوطار " : وفي إسناده عياض بن عبد الله ، قال في " التقريب " : فيه لين ، ولكنه قد أخرج له مسلم ، اهـ .

    ومنها ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد أيضا .

    ومنها ما رواه الدراقطني أيضا ، عن علي - رضي الله عنه - قال : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ، وما رواه الدارقطني أيضا ، عن علي ، وابن مسعود ، قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان ، وقال صاحب " نيل الأوطار " في حديث ابن عباس : أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة ، وفي إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال ، وقال في حديث علي وابن مسعود : أخرجهما أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، انتهى منه .

    وبه تعلم أن تأبيد التحريم أصوب من قول من قال من العلماء إن أكذب نفسه حد ، ولا يتأبد تحريمها عليه ، ويكون خاطبا من الخطاب وهو مروي عن أبي حنيفة ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والأظهر أنه إن أكذب نفسه لحق به الولد وحد خلافا لعطاء القائل : إنه لا يحد .

    تنبيه .

    اعلم أن أقوال أهل العلم في فرقة اللعان قدمناها مستوفاة في سورة " البقرة " .

    في كلامنا الطويل على آية : الطلاق مرتان الآية [ 2 \ 229 ] ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في لعان الأخرس في سورة " مريم " ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية ، ومن أراد استقصاء مسائل اللعان فلينظر كتب فروع المذاهب الأربعة ،قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم

    بين - جل وعلا - في هذه الآية ، أنه لولا فضله ورحمته ، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه .

    ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : [ ص: 485 ] ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية [ 4 \ 49 ] ، وقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] .

    والزكاة في هذه الآية : هي الطهارة من أنجاس الشرك ، والمعاصي .

    وقوله : ولكن الله يزكي من يشاء [ 4 \ 21 ] أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة .

    وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ولا قوله : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر ، ووجه ذلك في قوله : من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح ، وقبوله منه .

    وكذلك الأمر في قوله : قد أفلح من تزكى كما لا يخفى .

    والأظهر أن قوله : ما زكا منكم من أحد الآية [ 24 \ 21 ] : جواب لولا التي تليه خلافا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم الآية [ 24 \ 20 ] وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا ، لدلالة القرائن عليه ،
    قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم

    نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر - رضي الله عنه - ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير ، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر - رضي الله عنه - وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته ، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالإفك المذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآية [ 24 \ 11 ] ، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي - رضي الله عنه - .

    [ ص: 486 ] وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة ، وفي الأحاديث الصحاح ، فلما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - في الآيات المذكورة ، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح ، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء ، فأنزل الله في ذلك : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله الآية ، وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي : لا يحلف ، فقوله : " يأتل " وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى يأتلي إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 \ 226 ] ، أي : يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف ، ومنه قول امرئ القيس :


    ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل


    أي حلفت حلفة ، وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهم - :


    فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا


    والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز :


    قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت


    أي : لا يحلف أصحاب الفضل والسعة ، أي : الغنى كأبي بكر - رضي الله عنه - أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة ، وقوله : أن يؤتوا ، أي : لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه ، ومفعول يؤتوا الثاني محذوف ، أي : أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - .

    وقال بعض أهل العلم : قوله : ولا يأتل ، أي : لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألو في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ .

    ومنه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ ص: 487 ] [ 3 \ 118 ] ، أي لا : يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي :
    وأشمط عريانا يشد كتافه يلام على جهد القتال وما ائتلا


    وقول الآخر :
    وإن كنائني لنساء صدق فما آلى بني ولا أساءوا


    فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطئوا والأول هو الأصح ، لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين ، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [ 2 \ 224 ] ، أي : لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية .

    وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ 6 \ 89 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وليعفوا وليصفحوا فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته .

    والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم ، والصفح : قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق ، أي : أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 133 - 134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثا على ذلك ، ودلت أيضا : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ، وكقوله تعالى [ ص: 488 ] إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثا عليه ، وكقوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] وكقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق في مسطح ، ومفعول " أن يغفر الله " محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أولي القربى أي : أصحاب القرابة ، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم .
    فائدة

    في هذه الآية الكريمة دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح ; لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح ، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته ; لأن الله قال فيه بعد قذفه لها والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله ، لم يحبطها قذفه لعائشة - رضي الله عنها - .

    قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ; لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ، وكذلك سائر الكبائر ، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] اهـ .

    وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية ، وإن كان معلوما .

    وقال القرطبي أيضا : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله ، ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء ، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] وقد قال تعالى في آية أخرى والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ ص: 489 ] [ 42 \ 22 ] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك .

    ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ 39 \ 53 ] ، وقوله تعالى : الله لطيف بعباده [ 42 \ 19 ] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار ، انتهى كلام القرطبي .

    وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيم ، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع ، ولو كان الدين حقيرا كما يدل عليه قوله تعالى فيها : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله الآية [ 2 \ 282 ] ، قالوا : هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم ، وعدم ضياعه ، ولو قليلا يدل على العناية التامة بمصالح المسلم ، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول ، وشدة حاجته إلى ربه .

    قال مقيده عفا الله وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 32 - 35 ] .

    فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاها في قوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وبين أنهم ثلاثة أقسام :

    الأول : الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله ، ولكنه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم [ 9 \ 102 ] .

    [ ص: 490 ] والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله ، ولا يعصيه ، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات .

    والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة ، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه ، والمقتصد والسابق ، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم ، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله : جنات عدن يدخلونها إلى قوله : ولا يمسنا فيها لغوب والواو في يدخلونها شاملة للظالم ، والمقتصد والسابق على التحقيق ، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين ، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة ، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ؛ ولذا قال بعدها متصلا بها والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور إلى قوله : فما للظالمين من نصير [ 35 \ 36 - 37 ] .

    واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق ، فقال بعضهم : قدم الظالم لئلا يقنط ، وأخر السابق بالخير لئلا يعجب بعمله فيحبط ، وقال بعضهم : قدم الظالم لنفسه ; لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم ، لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم ; كما قال تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم [ 38 \ 24 ] .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #405
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (404)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 491 إلى صـ 498



    قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ ص: 491 ] إلى قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 20 - 23 ] .
    قوله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق المراد بالدين هنا الجزاء ، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم ; لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى : ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 41 ] ، وقوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] وقوله ، توفى كل نفس ما كسبت [ 3 \ 161 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله : " دينهم " ، أي : جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف ، وقال الزمخشري : دينهم الحق ، أي : جزاءهم الواجب الذي هم أهله ، والأول أصح ; لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام ، وعدل كامل ، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم ، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس ، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى . وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة اليمن : الاستئذان . وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان ، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى .

    الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش ; لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له [ ص: 492 ] استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم ، وأريد ملزومه الذي هو الإذن ، وإطلاق اللازم ، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف ، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل ، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم [ 33 \ 53 ] ، وقوله تعالى بعده : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم [ 24 \ 28 ] ، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية ، والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .

    الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام ، والاستكشاف ، فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه .

    والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال ، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أي : تعرفت واستعلمت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] ، أي : علمتم رشدهم وظهر لكم ، وقوله تعالى عن موسى : إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس [ 20 \ 10 ] وقوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا الآية [ 28 \ 29 ] فمعنى آنس نارا : رآها مكشوفة ، ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان :


    كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشي أكارعه
    طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد



    فقوله على مستأنس ، يعني : حمار وحش شبه به ناقته ، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف ، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم ، ومنه أيضا قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته :


    آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء


    فقوله : آنست نبأة ، أي : أحست بصوت خفي ، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا ، هل يؤذن لكم ، وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون [ ص: 493 ] بالاستئذان أظهر عندي ، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول ، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا .

    وبما ذكرنا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم ، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه ، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس ، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم ، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت ، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك ; لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا ، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير ، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقال فيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] وقال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآية [ 75 \ 16 - 17 ] .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

    المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز ; لأن قوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية [ 24 \ 27 ] ، نهي صريح ، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح ، كما تقرر في الأصول .
    المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات ، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة ، فليرجع ، ولا يزد على الثلاث ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

    قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت ، قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال [ ص: 494 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك .

    وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر ، سمعت أبا سعيد بهذا ، اهـ بلفظه من صحيح البخاري . وهو نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا والله يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول : كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه ، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك ، فسلمت على بابك ثلاثا ، فلم يردوا علي فرجعت ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : أقم عليها البينة ، وإلا أوجعتك ، فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب به . حدثنا قتيبة بن سعيد ، وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد ، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت ، اهـ بلفظه من صحيح مسلم . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ، فقال أبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

    وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها ، وإلا فلأجعلنك عظة ، قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الاستئذان ثلاث ، قال فجعلوا يضحكون ، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع ، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه ، فقال هذا أبو سعيد .

    وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة ، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، [ ص: 495 ] فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ، فقال : كنا نؤمر بهذا ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : لتأتيني على هذا وإلا فعلت وفعلت ، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية ، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه ، فلما أن جاء العشي وجدوه ، قال يا أبا موسى : ما تقول أقد وجدت ؟ قال : نعم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال عدل ، يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم ، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الرواية قول عمر : سبحان الله ، وما بعده .

    فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى ، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث ، وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا ، وصغارنا ، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ منه ، والظاهر منه كما قال ، وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس ، والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، وأن الاستئناس المذكور في الآية ، هو الاستئذان المكرر ثلاثا ; لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه ، وبذلك تعلم أن ما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا " : الاستئذان بتنحنح ، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق ، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه ، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت .

    وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة قال : الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره ، والرواية الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل .

    قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين ، التي أشرت إليها في الأدب المفرد ، زيادة مفيدة ، وهي أن أبا سعيد ، أو أبا [ ص: 496 ] مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سعد بن عبادة ، حتى أتاه فسلم ، فلم يؤذن له ، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ، ثم سلم الثالثة ، فلم يؤذن له ، فقال : " قضينا ما علينا " ، ثم رجع فأذن له سعد ، الحديث ، فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه ، وأحمد من طريق ثابت ، عن أنس أو غيره كذا فيه ، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد ، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد ، اهـ محل الغرض منه ، وقوله : فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله : يدل على أن قصة استئذانه - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت ، عن أنس أو غيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن على سعد بن عبادة ، فقال : " السلام عليك ورحمة الله " ، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسيلمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال " : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال " : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " السلام عليكم ورحمة الله " ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " السلام عليكم ورحمة الله " ، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر ابن كثير القصة إلى آخرها ، ثم قال : وقد روى هذا من وجوه أخرى ، فهو حديث جيد قوي والله أعلم .

    وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا ، وليس المراد به التنحنح ونحوه ، كما عزاه في فتح الباري للجمهور ، واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان ؟ وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع ، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة : أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام [ ص: 497 ] والاستئذان ، كما صرح به في القرآن ، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة ، وقاله المحققون : أنه يقدم السلام ، فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ والثاني يقدم الاستئذان ، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان في تقديم السلام ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على غيره ، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان ، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله : حتى تستأنسوا وتسلموا [ 24 \ 27 ] لا يدل على تقديم الاستئذان ; لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، وإنما يقتضي مطلق التشريك ، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [ 3 \ 43 ] والركوع قبل السجود ، وقوله تعالى : ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] ونوح قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب; كقوله تعالى : إن الصفا والمروة الآية [ 2 \ 158 ] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " : أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، وكقول حسان - رضي الله عنه - :


    هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء


    على رواية الواو في هذا البيت .

    وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف ، كالحديث المذكور في البدء بالصفا ، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور ; لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده ، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك ، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو ، اهـ .

    وذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فانظره ، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمختار أن [ ص: 498 ] صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف ، كما دلت عليه الأدلة .

    واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير ; لأن في بعضها : أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه ، فرده من حينه ، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني ، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال : وظاهر هذين السياقين التغاير ، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني ، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما : بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه ، فأرسل إليه ، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت ، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني ، اهـ . منه ، والعلم عند الله تعالى .
    تنبيهات تتعلق بهذه المسألة .

    الأول : اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة ; لأنهم لما سمعوه ، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن ، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة ، خلافا لمن قال من أهل العلم : إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا ، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا ، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة ، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه .

    التنبيه الثاني : اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة ، أنه إن علم أن أهل البيت ، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة ، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة ، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة ، ومن فصل في ذلك ، وقال النووي في شرح مسلم : أما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، وظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ، ولا يعيد الاستئذان . والثاني : يزيد فيه . والثالث : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده ، فمن قال بالأظهر فحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فلم يؤذن له فليرجع " ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم ، أو ظن أنه سمعه ، فلم يأذن والله أعلم .

    والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث ; لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو مقرر في الأصول .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #406
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (405)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 499 إلى صـ 506



    [ ص: 499 ] التنبيه الثالث : قال بعض أهل العلم : إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلا الباب عن يمينه أو يساره ، ويستأذن وهو كذلك ، قال ابن كثير : ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه ، أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين ، قالوا : حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال " : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول " السلام عليكم : السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ، انفرد به أبو داود . وقال أبو داود أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير ، ح ، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا حفص عن الأعمش ، عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد [ بن أبي وقاص ] ، فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام على الباب ، قال عثمان : مستقبل الباب ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر " ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود ، من حديثه انتهى من ابن كثير ، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما .

    وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفا أن يفتح له الباب ، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه ، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثالثة : اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل : من أنت ، فلا يجوز له أن يقول له : أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورا به ; لأن لفظة أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن ، وقد ثبت معنى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

    قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابرا - رضي الله عنه - يقول " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال من ذا ؟ فقلت : أنا ، فقال : " أنا أنا " ، كأنه كرهها " انتهى منه ، وتكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر ; لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له - صلى الله عليه وسلم - بما لا يطابق سؤاله ، وظاهر الحديث أن جواب [ ص: 500 ] المستأذن بأنا ، لا يجوز لكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك وعدم رضاه به خلافا لمن قال : إنه مكروه كراهة تنزيه ، وهو قول الجمهور .

    وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شعبة عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذا ؟ قلت أنا فخرج وهو يقول : أنا أنا " .

    حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لأبي بكر قال : قال يحيى : أخبرنا ، وقال أبو بكر : حدثنا وكيع عن شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال " : استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أنا " .

    وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا النضر بن شميل ، وأبو عامر العقدي " ح " وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثني وهب بن جرير " ح " وحدثني عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد ، وفي حديثهم كأنه كره ذلك انتهى منه . وقول جابر ، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه ، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة .
    المسألة الرابعة : اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته ، وبنيه وبناته البالغين ; لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل له .

    وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ما نصه : ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم ; لئلا تكون منكشفة العورة . وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن ، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال ما على كل أحيانها تريد أن تراها . ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرا : سأل رجل حذيفة : أستأذن على أمي ؟ فقال : إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره ، ومن طريق موسى بن طلحة ، دخلت مع أبي على أمي فدخل ، واتبعته فدفع في صدري ، وقال : تدخل بغير إذن ؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس استأذن على أختي ؟ [ ص: 501 ] قال نعم ، قلت إنها في حجري ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة ، انتهى من فتح الباري .

    وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، ويفهم من الحديث الصحيح " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل ، كما ترى ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية التي نحن بصددها : وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم . وقال أشعث ، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهل بيتي ، وأنا على تلك الحال ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا الآية ، وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ثلاث آيات جحدهن الناس ، قال الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، قال ويقولون : إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتا ، إلى أن قال : والأدب كله قد جحده الناس ، قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، قال : فراجعته ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم ، قال : وكان يشدد في ذلك ، وقال ابن جريج عن الزهري : سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم ، اهـ محل الغرض منه ، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الخامسة : اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها ، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته ، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما ، ولو كان أبا أو أما أو ابنا ، كما لا يخفى ، ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفا عن موسى بن طلحة : أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن ، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن .

    [ ص: 502 ] وقال ابن كثير في " تفسيره " : وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا ، ثم قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ; لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها ، ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قال : وإسناده صحيح ، اهـ محل الغرض منه . والأول أظهر ولا سيما عند من يرى إباحة نظر الزوج إلى فرج امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة السادسة : إذا قال أهل المنزل للمستأذن : ارجع ، وجب عليه الرجوع ; لقوله تعالى : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ 24 \ 28 ] ، وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له : ارجع ، ليرجع ، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله : هو أزكى لكم ; لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرا وأجرا ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة السابعة : اعلم أن أقوى الأقوال دليلا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص ، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا ، لمعارضتها النص الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في " صحيحه " : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له ، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - " : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح " ، اهـ منه ، والجناح الحرج ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : لم يكن عليك جناح " ، لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي فهي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص ، كما ترى .

    وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " ، اهـ منه .

    [ ص: 503 ] وهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحل لهم أن يفقئوا عينه ، وكون ذلك حلالا لهم مستلزم أنهم ليس عليهم فيه شيء من إثم ، ولا دية ، ولا قصاص ; لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة ، كما لا يخفى .

    وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - تعالى في " صحيحه " متصلا بكلامه هذا الذي نقلنا عنه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " ، اهـ منه .

    وقد بينا وجه دلالته على أنه لا شيء في عين المذكور ، وثبوت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت يدل على أنه لما تعدى وانتهك الحرمة ، ونظر إلى بيت غيره دون استئذان ، أن الله أذن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ عينه الخائنة ، وأنها هدر لا عقل فيها ، ولا قود ، ولا إثم ، ويزيد ما ذكرنا توكيدا وإيضاحا ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - منه أنه هم أن يفعل ذلك .

    قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه تحت الترجمة المذكورة آنفا ، وهي قوله : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع في بعض جحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، وجعل يختله ليطعنه .

    حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن ابن شهاب ، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك " ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الإذن من قبل البصر " ، اهـ منه ، وقد ذكر البخاري هذه الأحاديث التي ذكرناها عنه هنا في كتاب الديات .

    وقد قال في كتاب الاستئذان : باب الاستئذان من أجل البصر : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال الزهري : حفظته كما أنك هاهنا عن سهل بن سعد ، قال : اطلع رجل من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فقال " : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .

    [ ص: 504 ] حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص ، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه ، وهذه النصوص الصحيحة تؤيد ما ذكرنا ، فلا التفات لمن خالفها من أهل العلم ، ومن أولها ; لأن النص لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .

    واعلم أن المشقص بكسر أوله وسكون ثانيه ، وفتح ثالثه هو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض ، وقوله في الحديث المذكور : من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجحر الأول : بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط ، والثاني : بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة : وهي ناحية البيت .

    وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو كامل فضيل بن الحسين وقتيبة بن سعيد ، واللفظ ليحيى ، وأبي كامل ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختله ليطعنه ، وفي لفظ عند مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك " ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وفي مسلم روايات أخر بهذا المعنى قد اكتفينا منها بما ذكرنا .

    وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها ، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة ، ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها ، وتكون هدرا ، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك ، ولا لتأويلهم للنصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .
    المسألة الثامنة : اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولا إلى شخص ليحضر عنده ، فإن أهل العلم قد اختلفوا : هل يكون الإرسال إليه إذنا ; لأنه طلب حضوره بإرساله إليه ، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد اكتفاء بالإرسال إليه ، أو لا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذانا جديدا ، ولا يكتفي بالإرسال ؟ وكل من [ ص: 505 ] القولين قال به بعض أهل العلم ، واحتج من قال : إن الإرسال إليه إذن يكفي عن الاستئذان عند إتيان المنزل بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن حبيب ، وهشام عن محمد عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، حدثنا حسين بن معاذ ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " ، قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول : قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئا ، اهـ من أبي داود .

    قال ابن حجر في " فتح الباري " : وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي ، عن قتادة : أن أبا رافع حدثه ، اهـ .

    ويدل لصحة ما رواه أبو داود ، ورواه البخاري تعليقا : باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن ؟ وقال سعيد عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : هو إذنه " اهـ ، ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم ، إلا ما هو صحيح عنده ، كما قدمناه مرارا . وقال ابن حجر في " الفتح " : في حديث كون " رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وله متابع أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، بلفظ " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود ، قال " : إذا دعي الرجل فهو إذنه " ، وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا ، انتهى محل الغرض منه .

    فهذه جملة أدلة من قالوا : بأن من دعي لا يستأذن إذا قدم .

    وأما الذين قالوا : يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسل ، ولا يكتفي بإرسال الرسول ، فقد احتجوا بما رواه البخاري في " صحيحه " : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر ، وحدثني محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن ذر ، أخبرنا مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد لبنا في قدح ، فقال " : أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي " ، قال : فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا ، اهـ منه ، قال : هذا الحديث الصحيح صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا هر لأهل الصفة ، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان ولو كان يكفي عنه لبينه صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة .

    ومن أدلة أهل هذا القول ظاهر عموم قوله تعالى : [ ص: 506 ] لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ; لأن ظاهرها يشمل من أرسل إليه وغيره ، وقد جمع بعض أهل العلم بين أدلة القولين . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان ، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة ، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن ، وقال ابن التين : لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله ، والثاني بخلافه . قال : والاستئذان على كل حال أحوط . وقال غيره : إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول ، ويكفيه سلام الملاقاة ، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان ، وبهذا جمع الطحاوي ، واحتج بقوله في الحديث " : فأقبلوا فاستأذنوا " فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم ، وإلا لقال : فأقبلنا ، كذا قال ، اهـ كلام ابن حجر . وأقربها عندي الجمع الأخير ، ويدل له الحديث المذكور فيه ، وقوله في حديث أبي داود المتقدم : فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أمر الله - جل وعلا - المؤمنين والمؤمنات بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى ، واللواط ، والمساحقة ، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم ، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية ، وذلك في قوله تعالى في سورة " المؤمنون " و " سأل سائل " ، والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] و [ 70 \ 29 - 30 ] .

    فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى ، واللواط لازم ، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #407
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (406)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 507 إلى صـ 514





    وقد بينا في سورة " البقرة " أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر ، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة ، وقد أوضحنا الكلام على آية : والذين هم لفروجهم [ 23 \ 5 ] ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم ، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة " الأحزاب " ، وذلك في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلى [ ص: 507 ] قوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] ، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط ، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط ; كقوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ، وقوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة " هود " ، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة .

    واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ; كما قال تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون الآية [ 23 \ 5 ] ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن " : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " ، اهـ منه .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه ، فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ، وصدورهن ، وثديهن ، وأعضادهن ، وأسوقهن ، وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء .

    [ ص: 508 ] وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار ، اهـ كلام الزمخشري .

    وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر ، بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط ، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنى ، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى ، وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة " الأحزاب " ، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .

    وقول الزمخشري : إن من في قوله : يغضوا من أبصارهم للتبعيض ، قاله غيره ، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها ، وعليه أن يغض بصره بعدها ، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش ، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة ، لا يعول عليه . وقال القرطبي : وقيل الغض : النقصان ، يقال : غض فلان من فلان ، أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو موضوع منه ومنقوص ، فـ من صلة للغض ، وليست للتبعيض ، ولا للزيادة ، اهـ منه .

    والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير :


    فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا


    وقول عنترة :


    وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها


    وقول الآخر :


    وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان


    لأن قوله : غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف .

    [ ص: 509 ] ومن أمثلة تعدي الغض بـ من قوله تعالى : يغضوا من أبصارهم و يغضضن من أبصارهن وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله ، ولم يغض بصره عن الحرام ، وهي قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين [ 40 \ 19 ] .

    وقد قال البخاري - رحمه الله - : وقال سعيد بن أبي الحسن ، للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن ، قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله - عز وجل - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال قتادة : عما لا يحل لهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه ، اهـ محل الغرض منه بلفظه .

    وبه تعلم أن قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له ، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة .

    منها : ما ثبت في الصحيح ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إياكم والجلوس بالطرقات " ، قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال " : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال " : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " ، انتهى ، هذا لفظ البخاري في " صحيحه " .

    ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، الحديث .

    ومحل الشاهد منه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل عن النظر إليها ، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز ، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث ، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في [ ص: 510 ] الكلام على مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .

    ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، اهـ ، هذا لفظ البخاري ، والحديث متفق عليه ، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا .

    ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فزنى العين النظر " ، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة .

    ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه ، والعياذ بالله ، فالنظر بريد الزنى ، وقال مسلم بن الوليد الأنصاري :


    كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا
    ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى


    وقال آخر :
    ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف


    وقال آخر :
    وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
    رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر


    وقال أبو الطيب المتنبي :
    وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل


    وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه " ذم الهوى " فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه ، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء ، والحكم النثرية [ ص: 511 ] في ذلك وكله معلوم ، والعلم عند الله تعالى .

    قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها اعلم أولا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال :

    الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ; كوجهها وكفيها .

    الثاني : أن الزينة هي ما يتزين به خارجا عن بدنها .

    وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان :

    أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن ; كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار .

    والثاني : أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالكحل في العين .

    فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه ، وكالخضاب والخاتم ، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد ، وكالقرط والقلادة والسوار ، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن ; كما لا يخفى .

    وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك ، ثم نبين ما يفهم من آيات القرآن رجحانه .

    قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، وقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه ، وقال بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : وجهها وكفيها والخاتم ، وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك . وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ; كما قال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال في قوله : ولا يبدين زينتهن الزينة : القرط ، والدملوج ، والخلخال ، والقلادة ، وفي رواية عنه بهذا الإسناد ، قال : الزينة زينتان ، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار ، وزينة يراها [ ص: 512 ] الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب ، وقال الزهري : لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس ، فلا يبدو منها إلا الخواتم . وقال مالك ، عن الزهري إلا ما ظهر منها : الخاتم والخلخال ، ويحتمل أن ابن عباس ، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها : بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في " سننه " :

    حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ، ومؤمل بن الفضل الحراني ، قالا : حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن خالد بن دريك ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال " : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، لكن قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة - رضي الله عنها - والله أعلم ، اهـ كلام ابن كثير .

    وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : إلا ما ظهر منها : واختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب ، وزاد ابن جبير : الوجه ، وقال سعيد بن جبير أيضا ، وعطاء ، والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا ، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس . وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آخر عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا " ، وقبض على نصف الذراع .

    قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء ، فهو المعفو عنه .

    قلت : وهذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة ، وعبادة وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي [ ص: 513 ] قدمناه قريبا ، ثم قال : وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة ، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة ، فعليها ستر ذلك ، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي .

    وقال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس به ، وما خفي منها كالسوار ، والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين ، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر ; لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الذراع ، والساق ، والعضد ، والعنق ، والرأس ، والصدر ، والأذن ، فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله ، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها ، إلى آخر كلامه .

    وقال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج عبد الرزاق والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن قال : الزينة السوار والدملج والخلخال ، والقرط ، والقلادة إلا ما ظهر منها قال : الثياب والجلباب .

    وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : الزينة زينتان ، ، زينة ظاهرة ، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج . فأما الزينة الظاهرة : فالثياب ، وأما الزينة الباطنة : فالكحل ، والسوار والخاتم ، ولفظ ابن جرير : فالظاهرة منها الثياب ، وما يخفى : فالخلخالان والقرطان والسواران .

    وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم .

    وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة .

    [ ص: 514 ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : هو خضاب الكف ، والخاتم .

    وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : وجهها ، وكفاها والخاتم .

    وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : رقعة الوجه ، وباطن الكف .

    وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها سئلت عن الزينة الظاهرة ؟ فقالت : القلب والفتخ ، وضمت طرف كمها .

    وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه وثغرة النحر .

    وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه والكف .

    وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الكفان والوجه .

    وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن قتادة ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : المسكتان والخاتم والكحل .

    قال قتادة : وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى هاهنا " ويقبض نصف الذراع . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن المسور بن مخرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : القلبين ، يعني السوار والخاتم والكحل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #408
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (407)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 515 إلى صـ 522



    وأخرج سعيد ، وابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الخاتم والمسكة . قال ابن جريج : وقالت عائشة - رضي الله عنها - : القلب والفتخة ، قالت عائشة : دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة ، فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرض ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنها ابنة أخي وجارية ، فقال " : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون [ ص: 515 ] هذا " ، وقبض على ذراعه نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ، اهـ محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " .

    وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة ، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال ; كما ذكرنا :

    الأول : أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها ; كقول ابن مسعود ، ومن وافقه : إنها ظاهر الثياب ; لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار ، كما ترى .

    وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها ، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة .

    القول الثاني : أن المراد بالزينة : ما تتزين به ، وليس من أصل خلقتها أيضا ، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة ، وذلك كالخضاب والكحل ، ونحو ذلك ; لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن ، كما لا يخفى .

    القول الثالث : أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها ; كقول من قال : إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان ، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم .

    وإذا عرفت هذا ، فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن ، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب ، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع ; لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة .

    وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية ، التي نحن بصددها .

    أما الأول منهما ، فبيانه أن قول من قال في معنى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أن المراد بالزينة : الوجه والكفان مثلا ، توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة [ ص: 516 ] هذا القول ، وهي أن الزينة في لغة العرب ، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها : كالحلي ، والحلل . فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ، ولا يجوز الحمل عليه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وبه تعلم أن قول من قال : الزينة الظاهرة : الوجه ، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية ، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول ، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه .

    وأما نوع البيان الثاني المذكور ، فإيضاحه : أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها ; كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] ، وقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ 7 \ 32 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها [ 28 \ 60 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فخرج على قومه في زينته الآية [ 28 \ 79 ] ، وقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ 57 \ 20 ] ، وقوله تعالى : قال موعدكم يوم الزينة [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى عن قوم موسى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم [ 20 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ 24 \ 31 ] ، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته ، كما ترى ، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن ، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى ، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم ، وهو المعروف في كلام العرب ; كقول الشاعر :
    يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل


    وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين ، فيه نظر .

    وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة ، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين ، فقال بعضهم : هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب . وقال بعضهم : هي زينة يستلزم النظر [ ص: 517 ] إليها رؤية موضعها من بدن المرأة ; كالكحل والخضاب ، ونحو ذلك .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية ، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر ; لأنه هو أحوط الأقوال ، وأبعدها عن أسباب الفتنة ، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها ; كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم ، هو تمام المحافظة ، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي .

    واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شيء من بدن الأجنبية ، سواء كان الوجه والكفين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع ، بأننا سنوضح ذلك في سورة " الأحزاب " ، في الكلام على آية الحجاب ، وسنفي إن شاء الله تعالى بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا .

    واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود ، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق ، وأنه قال لها " : إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث ; كما قدمنا عن ابن كثير أنه قال فيه : قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة .

    والأمر كما قال ، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانا شافيا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة " الأحزاب " ، ولذلك لم نطل الكلام فيها هاهنا .
    تنبيه .

    قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع الزينة ، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب ، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة ، فأردنا أن نبينها هاهنا تكميلا للفائدة .

    أما الكحل والخضاب فمعروفان ، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء ، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن ، ويجمع على قرطة كقردة ، وقراط ، وقروط ، وأقراط ، ومنه قول الشاعر :

    [ ص: 518 ]
    أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر


    والخاتم معروف ، وهو حلية الأصابع ، والفتخ : جمع فتخة بفتخات وهي حلقة من فضة لا فص فيها ، فإذا كان فيها فص ، فهو الخاتم ، وقيل : قد يكون للفتخة فص ، وعليه فهي نوع من الخواتم ، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها ، ومن ذلك قول الراجزة ، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج :


    والله لا تخدعني بضم ولا بتقبيل ولا بشم
    إلا بزعزاع يسلي همي تسقط منه فتخي في كمي


    والخلخال ، ويقال له :

    الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم ، والمخلخل : موضع الخلخال من الساق ، ومنه قول امرئ القيس :


    إذا قلت هاتي نوليني تمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل


    والدملج : ويقال له الدملوج : هو المعضد ، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره ، والعضد من المرفق إلى المنكب ، ومنه قول الشاعر :


    ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال


    والسوار : حلية من الذهب ، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها ، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق ، وهو القلب بضم القاف .

    وقال بعض أهل اللغة : إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد لا من طاقين أو أكثر ، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :
    تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
    أحب بني العوام من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا .


    والمسكة بفتحات : السوار من عاج أو ذبل ، والعاج سن الفيل ، والذبل بالفتح شيء كالعاج ، وهو ظهر السلحفاة البحرية ، يتخذ منه السوار ، ومنه قول جرير يصف امرأة :
    ترى العبس الحولي جونا بكوعها لها مسكا في غير عاج ولا ذبل


    [ ص: 519 ] قاله الجوهري في " صحاحه " ، والمسك بفتحتين : جمع مسكة .

    وقال بعض أهل اللغة : المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل ، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب ، ولا الفضة ، وقد قدمنا في سورة " التوبة " ، في الكلام على قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية [ 9 \ 34 ] ، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عند أبي داود والنسائي : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، الحديث . وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب ، كما تكون من العاج ، والقرون ، والذبل ، وهذا هو الأظهر خلافا لكلام كثير من اللغويين في قولهم : إن المسك لا يكون من الذهب ، والفضة ، والقلادة معروفة ، والله تعالى أعلم .
    قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة ، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به ، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة ، وهي الرجوع عن الذنب ، والإنابة إلى الله بالاستغفار منه ، وهي ثلاثة أركان :

    الأول : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به .

    والثاني : الندم على ما وقع منه من المعصية .

    والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا ، والأمر في قوله في هذه الآية : وتوبوا إلى الله جميعا الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك ، فالتوبة واجبة على كل مكلف ، من كل ذنب اقترفه ، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا .

    وقوله : لعلكم تفلحون قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان :

    الأول : أنها على بابها من الترجي ، أي : توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا ، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد ، أما الله - جل وعلا - فهو عالم بكل شيء ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء ، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] [ ص: 520 ] وهو - جل وعلا - عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى .

    معناه : فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى .

    والثاني : هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " ، وهي في قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] ، قالوا : فهي بمعنى كأنكم ، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية ، ومنه قول الشاعر :
    فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق


    أي : كفوا الحروب ، لأجل أن نكف ; كما تقدم .

    وعلى هذا القول ، فالمعنى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ، لأجل أن تفلحوا ، أي : تنالوا الفلاح ، والفلاح في اللغة العربية : يطلق على معنيين :

    الأول : الفوز بالمطلوب الأعظم ، ومن هذا المعنى قول لبيد :
    فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل


    أي : فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل .

    المعنى الثاني : هو البقاء الدائم في النعيم والسرور ، ومنه قول الأضبط بن قريع ، وقيل : كعب بن زهير :
    لكل هم من الهموم سعه والمسا والصبح لا فلاح معه


    يعني : أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه . وقول لبيد بن ربيعة أيضا :
    لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح


    يعني : لو كان أحد يدرك البقاء ، ولا يموت لناله ملاعب الرماح ، وهو عمه عامر بن [ ص: 521 ] مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة ، وقد قال فيه الشاعر يمدحه ، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور :


    فررت وأسلمت ابن أمك عامرا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع


    وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة :

    حي على الفلاح ; كما هو معروف . ومن تاب إلى الله - كما أمره الله - نال الفلاح بمعنييه ، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة ، ورضا الله تعالى ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره - جل وعلا - لجميع المسلمين بالتوبة ، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله : لعلكم تفلحون أوضحه في غير هذا الموضع ، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب ، ويكفر بها السيئات ، أنها التوبة النصوح ، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات ، ودخول الجنة ، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم : إن عسى من الله واجبة ، وله وجه من النظر ; لأنه عز وجل جواد كريم ، رحيم غفور ، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله ، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلا ليتفضل به عليه .

    ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا ، قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 66 \ 8 ] ، فقوله في آية " التحريم " هذه : ذلك بأن الذين كفروا ; كقوله في آية " النور " : أيها المؤمنون لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة ، فقد نال الفلاح بمعنييه ، وقوله في آية " التحريم " : توبوا إلى الله توبة نصوحا موضح لقوله في " النور " : وتوبوا إلى الله جميعا ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم ، وحث على امتثال الأمر ; لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح ، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية " التحريم " ، هو المفهوم من لفظة لعل في آية " النور " ، كما لا يخفى .
    تنبيهات .

    الأول : التوبة النصوح : هي التوبة الصادقة .

    وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح ، بأن يقلع عن الذنب إن كان [ ص: 522 ] ملتبسا به ، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه - جل وعلا - وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدا .

    وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح ، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب لا يبطلها الرجوع إلى الذنب ، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد خلافا لمن قال : إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى .

    الثاني : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب ، والإقلاع عنه ، إن كان ملتبسا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة ، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف ، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم أن الندم ليس فعلا ، وإنما هو انفعال ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدا إلا بفعل يقع باختيار المكلف ، ولا يكلف أحدا بشيء إلا شيئا هو في طاقته ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] .

    وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد ، فليس بفعل أصلا ، وليس في وسع المكلف فعله ، والتكليف لا يقع بغير الفعل ، ولا بما لا يطاق ، كما بينا ، قال في " مراقي السعود " :


    ولا يكلف بغير الفعل باعث الأنبيا ورب الفضل


    وقال أيضا :


    والعلم والوسع على المعروف شرط يعم كل ذي تكليف


    واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق ، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي ، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه ؟ .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #409
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (408)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 523 إلى صـ 530





    أما وقوعه بالفعل فهم مجمعون على منعه ; كما دلت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية ، وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلا ، أو لا ؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلا ، أو عادة ، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا ، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد ، أو النقيضين كالعدم والوجود ، والمستحيل عادة كتكليف المقعد [ ص: 523 ] بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ، ونحو ذلك ، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا .

    وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع ، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع ; كما قال الله تعالى عنه : سيصلى نارا ذات لهب [ 11 \ 3 ] ، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل ، بأنه لا يوجد ; لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا ، وذلك مستحيل في حقه تعالى ، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا ، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب ، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان ، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فالإمكان عام ، والدعوة عامة ، والتوفيق خاص .

    وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام :

    الأول : الواجب عقلا .

    الثاني : المستحيل عقلا .

    الثالث : الجائز عقلا ، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة ، أن الشيء من حيث هو شيء ، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات : إما أن يكون العقل يقبل وجوده ، ولا يقبل عدمه بحال . وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال . وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معا ، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه ، فهو الواجب عقلا ، وذلك كوجود الله تعالى متصفا بصفات الكمال والجلال ، فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله ، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق ، لم يقبله ، فهو واجب عقلا ، وأما إن كان يقبل عدمه ، دون وجوده ، فهو المستحيل عقلا ; كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه ، وعبادته لقبله ، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال ; كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقال : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] ، فهو مستحيل عقلا . وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معا ، فهو الجائز العقلي ، ويقال له الجائز الذاتي ، وذلك كإيمان أبي لهب ، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله ، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضا ، كما لا يخفى ، فهو جائز عقلا جوازا ذاتيا ، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي .

    [ ص: 524 ] وقالت جماعات من أهل الأهواء : إن الحكم العقلي قسمان فقط ، وهما : الواجب عقلا ، والمستحيل عقلا ، قالوا : والجائز عقلا لا وجود له أصلا ، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده ، كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلا لعلم الله بأنه سيقع ، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وذلك محال .

    وإما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب ، فهو مستحيل عقلا ، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا القول لا يخفى بطلانه ، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب ، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه ، فكلاهما جائز إلا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين فأوجده ، وشاء عدم الآخر ، فلم يوجده .

    والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده ; لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا ، وكذلك المستحيل عادة ، كما لا يخفى .

    أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز ، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا ، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه ، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلا عرضيا ، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية .

    فإذا علمت هذا ، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي ، كإيمان أبي لهب ، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع .

    أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين ، والمستحيل عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان بغير آلة ، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 282 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " .

    وأما المستحيل العقلي : فقالت جماعة من أهل الأصول : يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلا ، وبالمستحيل عادة ، وقال بعضهم : لا يجوز عقلا مع إجماعهم على أنه [ ص: 525 ] لا يصح وقوعه بالفعل ، وحجة من يمنعه عقلا أنه عبث لا فائدة فيه ; لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال ، فتكليفه بما هو عاجز عنه محققا عبث لا فائدة فيه ، قالوا فهو مستحيل ; لأن الله حكيم خبير . وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف ، هل يتأسف على عدم القدرة ، ويظهر أنه لو كان قادرا لامتثل ، والامتحان سبب من أسباب التكليف ، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده ، وهو عالم أنه لا يذبحه ، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم ، أي : اختباره ، هل يمتثل ؟ فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم ; كما قال تعالى عنه : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 103 - 107 ] .

    وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى مسألة التكليف بالمحال ، وأقوال الأصوليين فيها ، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا ، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله ، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية ، بقوله :
    وجوز التكليف بالمحال في الكل من ثلاثة الأحوال
    وقيل بالمنع لما قد امتنع لغير علم الله أن ليس يقع
    وليس واقعا إذا استحالا لغير علم ربنا تعالى


    وقوله : وجوز التكليف ، يعني : الجواز العقلي .

    وقوله : وقيل بالمنع ، أي : عقلا ، ومراده بالثلاثة الأحوال ما استحال عقلا وعادة ، كالجمع بين النقيضين ، وما استحال عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان ، وإبصار الأعمى ، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه .

    وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة ، فاعلم أن التوبة تجب كتابا وسنة وإجماعا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورا ، وأن الندم ركن من أركانها ، وركن الواجب واجب ، والندم ليس بفعل ، وليس باستطاعة المكلف ; لأنه انفعال لا فعل ، والانفعالات ليست بالاختيار ، فما وجه التكليف بالندم ، وهو غير فعل للمكلف ، ولا مقدور عليه .

    والجواب عن هذا الإشكال : هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها ، وهي في طوق المكلف ، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة ، [ ص: 526 ] ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل ، والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر ، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل ، وهو ما تستلزمه معصية الله - جل وعلا - من سخطه على العاصي ، وتعذيبه له أشد العذاب ، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه ، وينغص عليه لذة الحياة ، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم ، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية ، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها .

    فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم ، وأنه إن استعملها حصل له الندم ، وبهذا الاعتبار كان مكلفا بالندم ، مع أنه انفعال لا فعل .

    ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية قول الشاعر وهو الحسين بن مطير :


    فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها


    ونقل عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر :


    تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
    تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار


    وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب ، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به ، مع بقاء فساد ذلك الذنب ، أي : أثره السيئ هل تكون توبته صحيحة ، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه ، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت ، أو لا تكون توبته صحيحة ; لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق .

    ومن أمثلة هذا من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بث بدعته ، وانتشرت في أقطار الدنيا ، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة ، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا ، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه ، لانتشارها في أقطار الدنيا ; ولأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ففساد بدعته باق .

    [ ص: 527 ] ومن أمثلته : من غصب أرضا ، ثم سكن في وسطها ، ثم تاب من ذلك الغصب نادما عليه ، ناويا ألا يعود إليه ، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة ، وسلك أقرب طريق للخروج منها ، فهل تكون توبته صحيحة ، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها ; لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الغصب ، لم يتم ما دام موجودا في الأرض المغصوبة ، ولو كان يسير فيها ، ليخرج منها .

    ومن أمثلته : من رمى مسلما بسهم ، ثم تاب فندم على ذلك ، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمي ، هل تكون توبته صحيحة ; لأنه فعل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة ، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم ، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة ; لأن التوبة واجبة عليه ، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه ، وما لا قدرة له عليه معذور فيه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا .

    وقال أبو هاشم ، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي : إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام ; لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن ، كالمكث ، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ ، والإقلاع ترك المنهي عنه ، فالخروج عنده قبيح ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو مناف للإقلاع ، فهو منهي عنه ، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضا ، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة ، وهذا بناه على أصله الفاسد ، وهو القبح العقلي ، لكنه أخل بأصل له آخر ، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال : إن خرج عصى ، وإن مكث عصى ، فقد حرم عليه الضدين كليهما ، اهـ ، قاله في " نشر البنود " .

    وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " مقتصرا على مذهب الجمهور ، بقوله :
    من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا
    وإن بقي فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع
    أو تاب خارجا مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب

    [ ص: 528 ] قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله الإنكاح هنا معناه : التزويج ، وأنكحوا الأيامى أي : زوجوهم ، والأيامى : جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة ، والأيم : هو من لا زوج له من الرجال والنساء ، سواء كان قد تزوج قبل ذلك ، أو لم يتزوج قط ، يقال : رجل أيم ، وامرأة أيم ، وقد فسر الشماخ بن ضرار في شعره : الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة ، وذلك في قوله :
    يقر بعيني أن أنبأ أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج


    فقوله : " لم تزوج " تفسير لقوله : أنها أيم ، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :
    لله در بني علي أيم منهم وناكح


    ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر :
    أحب الأيامى إذ بثينة أيم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا


    والعرب تقول : آم الرجل يئيم ، وآمت المرأة تئيم ، إذا صار الواحد منهما أيما ، وكذلك تقول : تأيم إذا كان أيما .

    ومثاله في الأول قول الشاعر :
    لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت


    ومن الثاني قوله :
    فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم


    ومن الأول أيضا ، قول يزيد بن الحكم الثقفي :
    كل امرئ ستئيم منه العرس أو منها يئيم


    وقول الآخر :

    [ ص: 529 ]
    نجوت بقوف نفسك غير أني إخال بأن سييتم أو تئيم


    يعني : ييتم ابنك وتئيم امرأتك .

    فإذا علمت هذا ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية : وأنكحوا الأيامى شامل للذكور والإناث ، وقوله في هذه الآية : منكم أي : من المسلمين ، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله : منكم أن الأيامى من غيركم ، أي : من غير المسلمين ، وهم الكفار ليسوا كذلك .

    وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرحا به في آيات أخر ; كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، وقوله في أياماهم الإناث : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] ، وقوله فيهما جميعا : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] .

    وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية ، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلا أن عموم هذه الآيات خصصته آية " المائدة " ، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة ; وذلك في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ 5 \ 5 ] ، فقوله تعالى عاطفا على ما يحل للمسلمين : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية ، والظاهر أنها الحرة العفيفة .

    فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور ، إلا صورة واحدة ، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية ، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية ، كما رأيت .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين ، والإماء المملوكات ، وظاهر هذا الأمر الوجوب ; لما تقرر في الأصول .

    [ ص: 530 ] وقد بينا مرارا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته ، وجب على وليها تزويجها إياه ، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم ، من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقا غير صواب لمخالفته لنص القرآن في هذه الآية الكريمة .

    واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : وإمائكم بينت آية " النساء " أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية ، فآية " النساء " المذكورة مخصصة بعموم آية " النور " هذه بالنسبة إلى الإماء ، وآية " النساء " المذكورة هي قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم [ 4 \ 25 ] ، فدلت آية " النساء " هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة ، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده ، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوج الأمة بإذن أهلها المالكين لها ، ويلزمه دفع مهرها ، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخدان ، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له ، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرا له فمع عدمه أولى بالمنع ، وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة ، إلا بالشروط المذكورة في القرآن ; كقوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا [ 4 \ 25 ] ، وقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم [ 4 \ 25 ] ، أي : الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقا ، إلا إذا تزوجها على حرة .

    والحاصل أن قوله تعالى في آية " النور " هذه : وإمائكم خصصت عمومه آية " النساء " كما أوضحناه آنفا ، والعلماء يقولون : إن علة منع تزويج الحر الأمة ، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكا ; لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، فيلزمه ألا يتسبب في رق أولاده ما استطاع ، ووجهه ظاهر كما ترى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #410
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (409)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 531 إلى صـ 538





    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فيه وعد من الله للمتزوج الفقير من الأحرار ، والعبيد بأن الله يغنيه ، والله لا يخلف الميعاد ، وقد وعد الله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقراء باليسر بعد ذلك العسر ، وأنجز لهم ذلك ، وذلكم في قوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] ، أي : ضيق عليه رزقه إلى قوله [ ص: 531 ] تعالى : سيجعل الله بعد عسر يسرا [ 65 \ 7 ] ، وهذا الوعد منه - جل وعلا - وعد به من اتقاه في قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب الآية [ 65 \ 2 - 3 ] ، ووعد بالرزق أيضا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها ، وذلك في قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيه نوح في قوله تعالى عنه : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وعلى لسان نبيه هود في قوله تعالى عنه : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] ، وعلى لسان نبينا - صلى الله عليه وعليهما جميعا وسلم - : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى [ 11 \ 3 ] .

    ومن الآيات الدالة على أن طاعة الله تعالى سبب للرزق ، قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] ، ومن بركات السماء المطر ، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام ، وقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] ، وقوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أي : في الدنيا ; كما قدمنا إيضاحه في سورة " النحل " ، وكما يدل عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وقد قدمنا أنه - جل وعلا - وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق .

    أما التزويج ، ففي قوله هنا : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .

    وأما الطلاق ففي قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته الآية [ 4 \ 130 ] ، والظاهر أن المتزوج الذي وعده الله بالغنى ، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر ، وحفظ الفرج ; كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " : يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " الحديث ، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة الله بغض البصر وحفظ الفرج ، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة الله بذلك .

    [ ص: 532 ] وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالة على وعد الله بالرزق من أطاعه سبحانه - جل وعلا - ما أكرمه ، فإنه يجزي بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة ، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدل على أن العبد يملك ماله ; لأن قوله : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله بعد قوله : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على وصف العبيد بالفقر والغنى ، ولا يطلق الغنى إلا على من يملك المال الذي به صار غنيا ، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيده أن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله .

    هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة ، هو المذكور في قوله : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ 24 \ 30 ] ، وقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

    قوله تعالى : ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قيل : غفور لهن ، وقيل : غفور لهم ، وقيل : غفور لهن ولهم .

    وأظهرها أن المعنى غفور لهن لأن المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه ، بل يغفره الله له لعذره بالإكراه ; كما يوضحه قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية [ 16 \ 106 ] ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وابن جبير ، فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ، ذكره عنه القرطبي ، وذكره الزمخشري عن ابن عباس - رضي الله عنهم جميعا - .

    وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنا لا نبين القرآن بقراءة شاذة ، وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا بها لقراءة سبعية كما هنا ، فزيادة لفظة لهن في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذة لبيان بقراءة غير شاذة أن الموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره ; لأنه غير معذور في فعله القبيح ، وذلك بيان المذكور بقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] .

    [ ص: 533 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ; لأن المكرهة على الزنى ، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة .

    قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف ، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره ، حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة ، انتهى منه .

    والذي يظهر أنه لا حاجة إليه ، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من الله بعبده ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ذكر الله - جلا وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل إلينا على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - آيات مبينات ، ويدخل فيها دخولا أوليا الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة ، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى :

    سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون [ 24 \ 1 ] ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة ، داخلة في قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات الآية .

    وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات معناه : أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون ، أي : تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي ، والمواعظ ، ويدل لذلك قوله تعالى : وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها ، أن يتذكر الناس ، ويتعظوا بما فيها ، ويدل لذلك عموم قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] وقوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ومثلا من الذين خلوا من قبلكم معطوف على آيات ، أي : أنزلنا إليكم آيات ، وأنزلنا إليكم مثلا من الذين خلوا من قبلكم .

    [ ص: 534 ] قال أبو حيان في البحر المحيط : ومثلا معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلا من أمثال الذين من قبلكم ، أي : قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم في براءتهما .

    وقال الزمخشري : ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي : قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم يعني قصة عائشة - رضي الله عنها - وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما .

    وإيضاحه : أن المعنى : وأنزلنا إليكم مثلا ، أي : قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة ، وتلك القصة العجيبة من أمثال " الذين خلوا من قبلكم " ، أي : من جنس قصصهم العجيبة ، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا ، وعبر عنها بقوله : ومثلا هي براءة عائشة - رضي الله عنها - مما رماها به أهل الإفك ، وذلك مذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم [ 24 \ 11 ] إلى قوله تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون الآية [ 24 \ 26 ] ، فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة ، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به ، وعلى هذا :

    فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءا تعني الفاحشة قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم [ 12 \ 25 ] وقوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [ 12 \ 35 ] ; لأنهم سجنوه بضع سنين ، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز ، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسها وذلك في قوله تعالى : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ 12 \ 50 - 51 ] ، وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم الآية [ 12 \ 32 ] .

    فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا ; لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من [ ص: 535 ] ذلك ، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة ، شبيه بقصة يوسف ; لأنه هو وعائشة كلاهما رمي بما لا يليق ، وكلاهما برأه الله تعالى ، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم ، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز ، والنسوة كما تقدم قريبا بشهادة الشاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل إلى قوله : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن الآية [ 12 \ 26 - 28 ] .

    ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة ، لما ولدت عيسى من غير زوج ; كقوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] يعني فاحشة الزنى ، وقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] يعنون الفاحشة ، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتابه; كقوله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا إلى قوله : ويوم أبعث حيا [ 19 \ 29 - 33 ] فكلام عيسى ، وهو رضيع ببراءتها ، يدل على أنها بريئة ، وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى ، من غير زوج ، وذلك في قوله تعالى : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا [ 19 \ 16 - 22 ] إلى آخر الآيات .

    ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] وقوله تعالى في التحريم : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ 66 \ 12 ] وقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب .

    فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها [ ص: 536 ] من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم .

    والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا ، وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح ; لأن كلا من عائشة ، ومريم ، ويوسف رمي بما لا يليق ، وكل منهم برأه الله ، وقصة كل منهم عجيبة ، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وموعظة للمتقين .

    قال الزمخشري : و " موعظة " ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [ 24 \ 2 ] ، لولا إذ سمعتموه [ 24 \ 12 ] ، ولولا إذ سمعتموه [ 24 \ 16 ] ، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا [ 24 \ 17 ] ، اهـ كلام الزمخشري ، والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها .

    ونظيره في القرآن قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب [ 35 \ 18 ] وقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] فخص الإنذار بمن ذكر في الآيات ; لأنهم هم المنتفعون به مع أنه - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ونظيره أيضا قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ونحوها من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وشعبة بن عاصم : مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : مبينات بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل : فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية ; لأن الله بينها ، وأوضحها ، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل ، ففي معنى الآية وجهان معروفا .

    أحدهما : أن قوله : مبينات : اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف ، أي : مبينات الأحكام والحدود .

    والثاني : أن قوله : مبينات : وصف من " بين " اللازمة ، وهو صفة مشبهة ، وعليه [ ص: 537 ] فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات ، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى : سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا [ 24 \ 1 ] ، وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري ، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف ، وهو قول العرب : قد بين الصبح لذي عينين .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : من المعروف في العربية أن بين مضعفا ، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة ، فتعدي بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى : قد بينا لكم الآيات [ 3 \ 118 ] وتعدي أبان للمفعول مشهود واضح أيضا كقولهم : أبان له الطريق ، أي : بينها له ، وأوضحها ، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور : قد بين الصبح لذي عينين ، أي : تبين وظهر ، ومنه قولجرير :
    وجوه مجاشع طليت بلؤم يبين في المقلد والعذار


    فقوله : يبين بكسر الياء بمعنى : يظهر ، ويتضح وقول جرير أيضا :
    رأى الناس البصيرة فاستقاموا وبينت المراض من الصحاح
    .

    ومنه أيضا قول قيس بن ذريح :
    وللحب آيات تبين بالفتى شحوب وتعرى من يديه الأشاجع


    على الرواية المشهورة برفع " شحوب " .

    والمعنى : للحب علامات تبين بالكسر ، أي : تظهر وتتضح بالفتى ، وهي شحوب إلخ ، وأنشد ثعلب هذا البيت ، فقال : شحوبا بالنصب ، وعليه فلا شاهد في البيت ; لأن شحوبا على هذا مفعول تبين فهو على هذا من بين المتعدية ، وأما ورود أبان لازمة بمعنى بان وظهر ، فهو كثير في كلام العرب أيضا ومنه قول جرير :


    إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


    أي : ظهرت المقرفات وتبينت ، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :


    لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدود


    أي : لظهر وبان من آثارهن حدود ، أي : ورم ، وقول كعب بن زهير :

    [ ص: 538 ]
    قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل
    فقوله : مبين وصف من أبانت اللازمة : أي عتق بين واضح ، أي كرم ظاهر .
    قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله .

    قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بكسر الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للفاعل ، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة . وقرأه ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بفتح الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للمفعول ، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره : رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها ، قيل : ومن يسبح له فيها ؟ قال رجال ، أي : يسبح له فيها رجال .

    وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه ، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية ، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها ، أو آية أخرى غيرها إلى آخره ، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض ; لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور : يسبح بكسر الباء وفاعله رجال مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح بفتح الباء مبنيا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى . والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل لـ " يسبح " ، وحذف أيضا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة :


    ويرفع الفاعل فعل أضمرا

    كمثل زيد في جواب من قرا


    ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :


    ليبك يزيد ضارع لخصومة

    ومختبط مما تطيح الطوائح



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #411
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (410)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 539 إلى صـ 546





    فقوله : ليبك يزيد بضم الياء التحتية ، وفتح الكاف مبنيا للمفعول ، فكأنه قيل : ومن [ ص: 539 ] يبكيه ؟ فقال : يبكيه ضارع لخصومة إلخ ، وقراءة ابن عامر ، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء مبنيا للمفعول فقوله : الله فاعل يوحى المحذوفة ، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبحون له بالغدو والآصال ، بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم ، والثناء عليهم ، يدل على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال; لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أن من أخل بها يستحق الذم الذي هو ضد الثناء ، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهيا جازما في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع الآية [ 62 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

    المسألة الأولى : اعلم أنه على قراءة ابن عامر ، وشعبة : يسبح سن الوقف على قوله : بالآصال ، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر ، فلا ينبغي الوقف على قوله : بالآصال ; لأن فاعل يسبح رجال ، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى .

    المسألة الثانية : اعلم أن الضمير المؤنث في قوله : يسبح له فيها راجع إلى المساجد المعبر عنها بالبيوت في قوله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه والتحقيق : أن البيوت المذكورة ، هي المساجد .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد ، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله : رجال مفهوم لقب ، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا شك أن مفهوم لفظ الرجال ، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه ، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر ، وليس مفهوم لقب على التحقيق ، وذلك لأن [ ص: 540 ] لفظ الرجال ، وإن كان بالنظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع ، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به ، والفرق بينه وبين النساء ; لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة ، وليسوا بعورة بخلاف النساء ، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد ، والخروج إليها دون وصف الأنوثة .

    والحاصل : أن لفظ الرجال في الآية ، وإن كان في الاصطلاح لقبا فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال ، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب ; لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به ، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى .
    المسألة الثالثة : إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله : رجال ، مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب ، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة .

    فاعلم أن مفهوم قوله هنا : رجال فيه إجمال ; لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان ، فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل ، وتقدمت أمثلة لذلك .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : رجال ، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر ، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد ، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة ، بخلاف الرجال ، وبينت أيضا أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى ، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعا بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة .

    أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب النكاح : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا استأذنت [ ص: 541 ] امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها " وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب الصلاة : باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد : حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن معمر عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها " وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه أيضا ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن " تابعه شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة ، قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري سمع سالما يحدث عن أبيه يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها " وفي لفظ عند مسلم ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " وفي لفظ عند مسلم أيضا ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي لفظ له عنه أيضا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن " وفي لفظ عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل " وفي رواية له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " وفي رواية " إذا استأذنوكم " ، قال النووي في شرح مسلم : وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور ، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة ، أخرجه أيضا غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد ، إذا طلبن ذلك ، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها .

    وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب ، وإنما هو للندب ، وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن منعهن ، قالوا : هو لكراهة التنزيه لا للتحريم .

    قال ابن حجر في فتح الباري : وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب ; [ ص: 542 ] لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان ; لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد .

    وقال النووي في شرح المذهب : فإن منعها لم يحرم عليه ، هذا مذهبنا ، قال البيهقي : وبه قال عامة العلماء ، ويجاب عن حديث " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " بأنه نهي تنزيه ; لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه لفضيلة اهـ .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد ، وكانت غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله ، أنه يجب عليه الإذن لها ، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - عن منعها من ذلك ، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك ، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم ، وقد قال تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " إلى غير ذلك من الأدلة ، كما قدمنا . وقول ابن حجر : إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة ، والرد غير مسلم ، إذ لا مانع عقلا ، ولا شرعا ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير ، فإيجاب الإذن لا مانع منه ، وكذلك تحريم المنع . وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لرده بأمر محتمل كما ترى . وقول النووي : لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح ; لأن يرد به النص الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - فأمره - صلى الله عليه وسلم - الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك ، ويوجبه عليه ، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى . وما ذكره النووي عن البيهقي : من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضا ، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه لما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد ، وقال ابنه : لا ندعهن يخرجن ، غضب وشتمه ودفع في صدره منكرا عليه مخالفته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن .

    قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني حرملة بن يحيى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن [ ص: 543 ] عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : والله لنمنعهن ، وفي لفظ عند مسلم : فزبره ابن عمر ، وقال : أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لا ندعهن ، وفي لفظ لمسلم أيضا : فضرب في صدره .

    واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر .

    وفي رواية عند مسلم : أنه واقد بن عبد الله بن عمر ، والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال ، وواقد ابني عبد الله بن عمر ، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما ، كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره ، فكون ابن عمر - رضي الله عنهما - أقبل على ابنه بلال وسبه سبا سيئا وقال منكرا عليه ، أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن ، وأن منعهن لا يجوز ، ولو كان يراه جائزا ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى .

    وقال النووي في شرح مسلم : قوله : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ، وفي رواية فزبره ، وفي رواية : فضرب في صدره ، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ، ومن قال بقوله ، كما نقل عن البيهقي أنه قول عامة العلماء ، أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير ، معترضون على السنة ، معارضون لها برأيهم ، والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة ، ومعارضته لها برأيه ، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير ، وأنه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي ، وقال النووي : قوله : فزبره ، أي : نهره ، وقال ابن حجر في فتح الباري : ففي رواية بلال عند مسلم ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سمعته سبه مثله قط ، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش : فانتهره وقال : أف لك ، وله عن ابن [ ص: 544 ] الأعمش : فعل الله بك وفعل ، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس ، ولمسلم من رواية أبي معاوية : فزبره ، ولأبي داود من رواية جرير : فسبه وغضب عليه ، إلى أن قال : وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه ، وهو اعتراف منه أيضا بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه .

    وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى .

    وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا ، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى .

    وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضي جواز خروجهن إلى المساجد ، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد ، فيصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن بكير قال : أخبرنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته قالت : كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس اهـ ، وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم وغيره ، وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه - صلى الله عليه وسلم -

    تنبيه .

    قد علمنا مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه : أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل ، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل ، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح .

    وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل ; لأنه أستر ، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد ، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل ، فيختص الإذن المذكور بالليل .

    [ ص: 545 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - في غير الليل ، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا الدال على حضورهن معه - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وهي صلاة نهار لا ليل ، ولا يكون لها حكم صلاة الليل ، بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن ، لا يعرفن من الغلس ; لأن ذلك الوقت من النهار قطعا ، لا من الليل ، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل ، والعلم عند الله تعالى ، وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو :
    المسألة الرابعة :

    اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد ، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد .

    قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ما نصه : هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد ، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث ، وهي ألا تكون متطيبة ، ولا متزينة ، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ، ولا ثياب فاخرة ، ولا مختلطة بالرجال ، ولا شابة ونحوها ، ممن يفتن بها ، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها ، انتهى محل الغرض من كلام النووي .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما لا نص فيه ، ولكنه ملحق بالنصوص لمشاركته له في علته ، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة ; كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء تعالى ، أما ما هو ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من تلك الشروط ، فهو عدم التطيب ، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألا تكون متطيبة .

    قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا مروان بن سعيد الأيلي ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة ، عن أبيه عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : إذا شهدت إحداكن العشاء ، فلا تطيب تلك الليلة " .

    حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن محمد بن عجلان [ ص: 546 ] حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن زينب امرأة عبد الله قالت : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا " .

    حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم ، قال يحيى : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة " اهـ .

    فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين ، وهما : أبو هريرة ، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عن الجميع - صريح في أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات " اهـ ، وقوله : وهن تفلات ، أي : غير متطيبات ، وقال النووي في شرح المهذب ، في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء ، أي : تاركات الطيب اهـ ، ومنه قول امرئ القيس :
    إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها

    تميل عليه هونة غير متفالي


    وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وابن خزيمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه ابن حبان من حديث زيد بن خالد ، قاله الشوكاني وغيره .

    وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلت على أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ; لأنها تحرك شهوة الرجال بريح طيبها .

    فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة ، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة ، والاختلاط بالرجال ، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال ، ووجهه ظاهر كما ترى . وألحق الشافعية بذلك الشابة مطلقا ; لأن الشاب مظنة الفتنة ، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز ، والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدمة ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #412
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (411)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 547 إلى صـ 554


    [ ص: 547 ] المسألة الخامسة : اعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد ، ولو كان المسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه تعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " خاص بالرجال ، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد .

    قال أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا ، بإسناد صحيح على شرط البخاري اهـ .

    وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وقال ابن حجر في فتح الباري : وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره ، ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر بلفظ " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " أخرجه أبو داود ، وصححه ابن خزيمة ، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك ، فقال " : قد علمت ، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة " وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود ، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .

    وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن المثنى ، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال : ثنا همام عن قتادة ، عن مورق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " ، اهـ .

    وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - " : خير مساجد النساء قعر بيوتهن " .

    [ ص: 548 ] وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنة الفتنة ، ومزاحمتهن للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا ، لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها .

    وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية ، معتبر وأنه ليس مفهوم لقب ، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال ، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم : أنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهو يوم القيامة لشدة هوله ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم ، وتأثيره في القلوب والأبصار ، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى : قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة [ 79 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر الآية [ 40 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به الآية [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ 76 \ 9 - 10 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير ، ذكرها القرطبي وغيره .

    وأظهرها عندي : أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ; كما قال تعالى : إذ القلوب لدى الحناجر وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف ، كما قال تعالى [ ص: 549 ] فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت الآية [ 33 \ 19 ] ، وكقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر [ 33 \ 10 ] فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار ، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا .
    قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله .

    الظاهر أن اللام في قوله : " ليجزيهم " متعلقة بقوله : " يسبح " ، أي : يسبحون له ، ويخافون يوما ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : ويزيدهم من فضله ، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى ، هي مضاعفة الحسنات ، كما دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] .

    وقال بعض أهل العلم : الزيادة هنا كالزيادة في قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] والأصح : أن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] .

    وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : أن قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن; لأن قوله : " أحسن ما عملوا " صيغة تفضيل ، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسنا لم يجزوه وهو المباح ، قال في مراقي السعود :


    ما ربنا لم ينه عنه حسن

    وغيره القبيح والمستهجن

    قوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة ، وأنها لا شيء ; لأنه قال في السراب الذي مثلها به : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وما دلت عليه هذه الآية [ ص: 550 ] الكريمة من بطلان أعمال الكفار ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء الآية [ 14 \ 18 ] ، وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا ; كما أوضحناه في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] .

    وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا ، دون الآخرة ; كقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - ; كما أوضحناه في الكلام على آية " النحل " المذكورة ، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي : : وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول ، وقد بين الله - جل وعلا - في سورة " بني إسرائيل " أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، أنه مقيد بمشيئة الله تعالى ، وذلك في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .

    تنبيه .

    في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وذلك في قولنا فيه : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله : جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ; لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضايفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل ، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ، ومفعول به [ ص: 551 ] واقع عليه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : جاءه .

    والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة .

    قال : فإن قال قائل كيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فإن لم يكن السراب شيئا فعلام دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، فإذا قرب منه رق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه .

    والوجه الأول أظهر عندي ، وعنده بدليل قوله : وقد يحتمل أن يكون معناه ، إلخ ، انتهى كلامنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور ، وقوله تعالى في هذه الآية : بقيعة قيل : جمع قاع ، كجار وجيرة ، وقيل : القيعة والقاع بمعنى ، وهو المنبسط المستوي المتسع من الأرض ، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان ، كجار وجيران .
    قوله تعالى : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون

    اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل علم قال بعض أهل العلم : إنه راجع إلى الله في قوله : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين ، قد علم الله صلاته وتسبيحه ، وقال بعض أهل العلم : إن الضمير المذكور راجع إلى قوله : كل أي : كل من المصلين والمسبحين ، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه ، وقد قدمنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حمل على التأسيس ، وبينا أمثلة متعددة لذلك من القرآن العظيم .

    وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين ، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله : كل قد علم صلاته وتسبيحه راجعا إلى قوله : [ ص: 552 ] كل أي : كل من المصلين قد علم صلاة نفسه ، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : والله عليم بما يفعلون تأسيس لا تأكيد ، أما على القول بأن الضمير راجع إلى الله ، أي : قد علم الله صلاته يكون قوله : والله عليم بما يفعلون كالتكرار مع ذلك ، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي .

    وقد علمت أن المقرر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد ; كما تقدم إيضاحه . والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحا يعلمهما الله ، ونحن لا نعلمهما ; كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] .

    ومن الآيات الدالة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، قوله تعالى في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فأثبت خشيته للحجارة ، والخشية تكون بإدراك ، وقوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ 59 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] ، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك ، والآيات والأحاديث واردة بذلك ، وهو الحق ، وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحا ، ولا مانع من الحمل على الظاهر ، ونقل القرطبي عن سفيان : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ، اهـ .

    ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء ، ومنه قول الأعشى :
    تقول بنتي وقد غربت مرتحلا

    يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

    عليك مثل الذي صليت فاغتبطي

    نوما فإن لجنب المرء مضطجعا


    فقوله : مثل الذي صليت ، أي : دعوت ، يعني قولها : يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا .

    وقوله : صافات أي : صافات أجنحتها في الهواء ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته ، واستحقاقه العبادة وحده ، وذلك في قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن الآية [ 67 \ 19 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 553 ] ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] .
    قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأمة : ليستخلفنهم في الأرض أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض ، الذين لهم السيطرة فيها ، ونفوذ الكلمة ، والآيات تدل على أن طاعة الله بالإيمان به ، والعلم الصالح سبب للقوة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة ; كقوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] ، وقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 40 - 41 ] ، وقوله تعالى : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ 47 \ 7 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : كبني إسرائيل .

    ومن الآيات الموضحة لذلك ، قوله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ 28 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ 7 \ 129 ] ، وقوله تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى : ليستخلفنهم اللام موطئة لقسم محذوف ، أي : وعدهم الله ، وأقسم في وعده ليستخلفنهم .

    قوله تعالى : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 554 ] إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وليمكنن لهم دينهم قال الزمخشري : تمكينه هو تثبيته وتوطيده .
    قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون هذه الآية الكريمة تدل على أن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرحمة الله تعالى سواء قلنا إن لعل في قوله : لعلكم ترحمون حرف تعليل أو ترج ; لأنها إن قلنا : إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة الله ; لأن العلل أسباب شرعية ، وإن قلنا : إن لعل للترجي ، أي : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة على رجائكم أن الله يرحمكم بذلك ; لأن الله ما أطمعهم بتلك الرحمة عند علمهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه ، وكون لعل هنا للترجي ، إنما هو بحسب علم المخلوقين ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا الرسول رحمهم الله بذلك جاء موضحا في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية : وأطيعوا الرسول بعد قوله : وإذ أخذنا من عطف العام على الخاص ; لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان في عموم قوله : وأطيعوا الرسول وقد قدمنا مرارا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام .
    قوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض نهى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحسب ، أي : يظن الذين كفروا معجزين في الأرض ، ومفعول معجزين محذوف ، أي : لا يظنهم معجزين ربهم ، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ; لأنه قادر على كل شيء .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #413
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد الخامس
    الحلقة (412)
    سُورَةُ النُّورِ
    صـ 555 إلى صـ 561




    وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] ، وقوله تعالى : وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 555 ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 21 - 22 ] ، وقوله في " الشورى " : وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 42 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تحسبن الذين كفروا [ 24 \ 57 ] ، قرأه ابن عامر وحمزة : لا يحسبن بالياء المثناة التحتية على الغيبة ، وقرأه باقي السبعة : لا تحسبن بالتاء الفوقية ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بفتح السين ، وباقي السبعة بكسرها .

    والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين ، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين ، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين ، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا إشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ; لأن الخطاب بقوله : لا تحسبن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله : الذين كفروا هو المفعول الأول ، وقوله : معجزين هو المفعول الثاني لـ : تحسبن وأما على قراءة : ولا يحسبن بالياء التحتية ، ففي الآية إشكال معروف ، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

    الأول : أن قوله الذين كفروا في محل رفع فاعل يحسبن والمفعول الأول محذوف ، تقديره : أنفسهم ، و معجزين مفعول ثان ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، وعزا هذا القول للزجاج ، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، كما لا يخفى ، ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " ، بقوله :
    ولا تجز هنا بلا دليل

    سقوط مفعولين أو مفعول


    ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما ، قوله تعالى : أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ] أي : تزعمونهم شركائي ، وقول الكميت :
    بأي كتاب أم بأية سنة

    ترى حبهم عارا علي وتحسب


    [ ص: 556 ] أي : وتحسب حبهم عارا علي ، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة :
    ولقد نزلت فلا تظني غيره

    مني بمنزلة المحب المكرم


    أي : لا تظني غيره واقعا .

    الجواب الثاني : أن فاعل يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مذكور في قوله قبله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي : لا يحسبن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين ، وعلى هذا فـ : الذين كفروا مفعول أول ، و معجزين مفعول ثان ، وعزا هذا القول للفراء ، وأبي علي .

    الجواب الثالث : أن المعنى : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان ، وهو كالذي قبله ، إلا أن الفاعل في الأول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني الكافر ، وقال الزمخشري : وقرئ لا يحسبن بالياء ، وفيه أوجه أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان .

    والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض ، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، اهـ .

    وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ : لا يحسبن بالياء التحتية خطأ أو لحن ، كلام ساقط لا يلتفت إليه; لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه ، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر ، وحمزة ; كما تقدم .

    وأظهر الأجوبة عندي : أن معجزين في الأرض هما المفعولان ، فالمفعول الأول معجزين والمفعول الثاني دل عليه قوله : في الأرض أي : لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا لأهل العلم في هذه الآية أقوال ، راجعة إلى قولين :

    [ ص: 556 ] أحدهما : أن المصدر الذي هو : دعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فالرسول مدعو .

    الثاني : أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا : فالرسول داع .

    وإيضاح معنى قول من قال : إن المصدر مضاف إلى مفعوله ، أن المعنى : لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضا ، فلا تقولوا له : يا محمد مصرحين باسمه ، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض ، بل قولوا له : يا نبي الله ، يا رسول الله ، مع خفض الصوت احتراما له - صلى الله عليه وسلم - .

    وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب الله تعالى; كقوله : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الآية [ 49 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم [ 49 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية [ 2 \ 104 ] ، وهذا القول في الآية مروي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ; كما ذكره عنهم القرطبي ، وذكره ابن كثير عن الضحاك ، عن ابن عباس ، وذكره أيضا عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، ونقله أيضا عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، ثم قال : إن هذا القول هو الظاهر ، واستدل له بالآيات التي ذكرنا .

    وأما على القول الثاني : وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله ، ففي المعنى وجهان :

    الأول : ما ذكره الزمخشري في " الكشاف " قال : إذا احتاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي .

    والوجه الثاني : هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره ، قال : والقول الثاني في ذلك أن المعنى في لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم ، فتهلكوا . [ ص: 558 ] حكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العوفي ، والله أعلم ، انتهى كلام ابن كثير .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - :

    هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن ; لأن قوله تعالى : كدعاء بعضكم بعضا يدل على خلافه ، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض ، لقال : لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض ، فدعاء بعضهم بعضا ، ودعاء بعضهم على بعض متغايران ، كما لا يخفى . والظاهر أن قوله : لا تجعلوا من جعل التي بمعنى اعتقد ، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفا .
    قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم الضمير في قوله : عن أمره راجع إلى الرسول ، أو إلى الله والمعنى واحد ; لأن الأمر من الله ، والرسول مبلغ عنه ، والعرب تقول : خالف أمره وخالف عن أمره : وقال بعضهم : يخالفون : مضمن معنى يصدون ، أي : يصدون عن أمره .

    وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب ; لأنه - جل وعلا - توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم ، وحذرهم من مخالفة الأمر ، وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] فإن قوله : اركعوا أمر مطلق ، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله : لا يركعون يدل على أن امتثاله واجب ، وكقوله تعالى لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فإنكاره تعالى على إبليس موبخا له بقوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجبا . وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق ، وهو قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] ، وكقوله تعالى عن موسى : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وأمره المذكور مطلق ، وهو قوله : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] ، وكقوله تعالى : [ ص: 559 ] لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص ، ولا يكون عاصيا إلا بترك واجب ، أو ارتكاب محرم ; وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنه يدل على أن أمر الله ، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال ، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب ، كما ترى ، وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] .

    واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، بدليل أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد ، فليس للعبد أن يقول عقابك لي ظلم ; لأن صيغة الأمر في قولك : اسقني ماء لم توجب علي الامتثال ، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني ، بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه ، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه ، والفتنة في قوله : أن تصيبهم فتنة قيل : هي القتل ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقيل : الزلازل والأهوال ، وهو مروي عن عطاء ، وقيل : السلطان الجائر ، وهو مروي عن جعفر بن محمد ، قال بعضهم : هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض العلماء : فتنة محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة .

    قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دل استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان :

    الأول : أن يراد بها الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] ، وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] ، أي : أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك .

    الثاني وهو أشهرها : إطلاق الفتنة على الاختبار ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة الآية [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] .

    والثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي " الأنفال " : [ ص: 560 ] ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ، فقوله : حتى لا تكون فتنة أي : حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين ، ويدل على صحته قوله بعده : ويكون الدين لله ; لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شرك ، كما ترى . ويوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ، كما لا يخفى .

    والرابع : إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، أي : لم تكن حجتهم ، كما قال به بعض أهل العلم .

    والأظهر عندي : أن الفتنة في قوله هنا : أن تصيبهم فتنة أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة .

    وأن معناه أن يفتنهم الله ، أي : يزيدهم ضلالا بسبب مخالفتهم عن أمره ، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

    وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله - جل وعلا - : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه ، أي : من الطاعة والمعصية وغير ذلك .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدين ، جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] وقوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر . وقوله [ ص: 561 ] تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم [ 26 \ 217 - 220 ] ، وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار [ 13 \ 10 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 11 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين ، وأشد وعيد للعصاة المجرمين ، ولفظة قد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد يعلم ما أنتم عليه للتحقيق ، وإتيان قد للتحقيق مع المضارع كثير جدا في القرآن العظيم ; كقوله تعالى : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا [ 24 \ 63 ] ، وقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم الآية [ 33 \ 18 ] ، وقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون الآية [ 6 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية [ 2 \ 144 ] .
    قوله تعالى : ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم قوله تعالى في هذه الآية : ويوم يرجعون إليه الظاهر أنه ليس بظرف ، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو ما من قوله : قد يعلم ما أنتم عليه أي : ويعلم يوم يرجعون إليه ، وقد ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة ينبئ الخلائق بكل ما عملوا ، أي : يخبرهم به ثم يجازيهم عليه .

    وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه - جل وعلا - يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #414
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (413)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 3 إلى صـ 10


    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أَيْ : مُنْذِرًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرَنُ بِتَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْذَارِ إِعْلَامٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " .

    وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لِدُخُولِ الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا .

    وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 7 \ 158 ] أَيْ : أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، أَيْ : جَمِيعًا . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ 55 \ 33 - 43 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 46 \ 29 - 32 ] . وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : تَبَارَكَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ [ ص: 4 ] الْفَرَّاءُ : هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى : تَقَدَّسَ وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَبَارَكَ : تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ . قَالَ : وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ : الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ ، وَقِيلَ : تَبَارَكَ : تَعَالَى ، وَقِيلَ : تَعَالَى عَطَاؤُهُ ، أَيْ : زَادَ وَكَثُرَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ . قَالَ النَّحَّاسُ : وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ ، أَيْ : دَامَ وَثَبَتَ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ .

    وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ " : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبَارَكَ : لَمْ يَزَلْ ، وَلَا يَزُولُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : تَمَجَّدَ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : تَعَظَّمَ . وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ : تَبَارَكْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً ، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ ، أَيْ : تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ . فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، وَهُوَ التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ . فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ .

    قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ - : الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى تَبَارَكَ : تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقَدُّسَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَيَدِرُّ الْأَرْزَاقَ عَلَى النَّاسِ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ، وَالَّذِي لَا تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ بَرَكَةٌ وَلَا خَيْرٌ ، وَلَا رِزْقٌ كَالْأَصْنَامِ ، وَسَائِرِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ أَنَّ يُعْبَدَ ، وَعِبَادَتُهُ كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 29 \ 17 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [ 16 \ 73 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [ 6 \ 14 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 57 - 58 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ 40 \ 13 - 14 ] .
    تنبيه .

    اعلم أن قوله : تبارك فعل جامد لا يتصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، [ ص: 5 ] ولا اسم فاعل ، ولا غير ذلك ، وهو مما يختص به الله تعالى ، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن الأصمعي ، وإسناده تبارك إلى قوله : الذي نزل الفرقان ، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه ، كما أوضحناه في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، وإطلاق العرب تبارك مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم ، ومنه قول الطرماح :
    تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع


    وقول الآخر :
    فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر
    .

    ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر


    وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] . وقوله : الفرقان ، يعني هذا القرآن العظيم ، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان ، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل ; لأن معنى كونه فرقانا أنه فارق بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغي ، وقال بعض أهل العلم : المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول ; لأنه نزل مفرقا ، ولم ينزل جملة .

    واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [ 17 \ 106 ] وقوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : نزل بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجما منجما . قال بعض أهل العلم : ويدل على ذلك قوله في أول سورة " آل عمران " : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل [ 3 \ 3 ] قالوا : عبر في نزول القرآن بـ : نزل بالتضعيف لكثرة نزوله . وأما التوراة والإنجيل ، فقد عبر في نزولهما بـ : أنزل التي لا تدل على تكثير ; لأنهما نزلا جملة في وقت واحد ، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرآن ; [ ص: 6 ] كقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] وقوله في هذه الآية : على عبده قال فيه بعض العلماء : ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان ، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات ، وقد بينا ذلك في أول سورة " بني إسرائيل " .
    قوله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا قوله : الذي له ملك السماوات والأرض ، بدل من الذي في قوله تعالى : تبارك الذي نزل ، وقال بعضهم : هو مرفوع على المدح ، وقال بعضهم : هو منصوب على المدح . وقد أثنى جل وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور ، هي أدلة قاطعة على عظمته ، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له : الأول منها : أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض .

    والثاني : أنه لم يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

    والثالث : أنه لا شريك له في ملكه .

    والرابع : أنه هو خالق كل شيء .

    والخامس : أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر .

    أما الأول منها : وهو أنه له ملك السماوات والأرض ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " المائدة " : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض الآية [ 5 \ 40 ] وقوله تعالى في سورة " النور " : ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير [ 24 \ 42 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية [ 35 \ 13 ] وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك ، فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما ، وغير ذلك . كقوله تعالى : قل اللهم مالك الملك الآية [ 3 \ 26 ] وقوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك الآية [ 67 \ 1 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] وقوله تعالى : مالك [ ص: 7 ] يوم الدين [ 1 \ 4 ] والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدا معلومة .

    وأما الأمر الثاني : وهو كونه تعالى لم يتخذ ولدا ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 3 - 4 ] وقوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا الآية [ 72 \ 3 ] وقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة الآية [ 6 \ 101 ] وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] وقوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، إلى قوله : سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " الكهف " وغيرها .

    وأما الأمر الثالث : وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك ، فقد جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في آخر سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 13 \ 111 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ; لأن قوله : الواحد القهار يدل على تفرده بالملك ، والقهر ، واستحقاق إخلاص العبادة ، كما لا يخفى ، إلى غير ذلك من الآيات .

    وأما الأمر الرابع : وهو أنه تعالى خلق كل شيء ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على [ ص: 8 ] كل شيء وكيل [ 6 \ 101 - 102 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون [ 40 \ 62 - 63 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وأما الأمر الخامس : وهو أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، فقد جاء أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ 87 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] وقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة ، والأزمان ، والمقادير ، والمصلحة ، والإتقان ، انتهى بواسطة نقل أبي حيان في " البحر " .
    تنبيه .

    في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : الخلق في اللغة العربية ، معناه التقدير . ومنه قول زهير :
    ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
    قال بعضهم : ومنه قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] قال : أي أحسن المقدرين ، وعلى هذا فيكون معنى الآية وخلق كل شيء ، أي : قدر كل شيء فقدره تقديرا ، وهذا تكرار كما ترى ، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال ، وذكر أبو حيان جوابه في " البحر " ، ولم يتعقبه .

    والجواب المذكور هو قوله : فإن قلت في الخلق معنى التقدير ، فما معنى قوله : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] كأنه قال : وقدر كل شيء فقدره .

    قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعيا فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له .

    مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى ، الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير ، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقا لما قدر له غير [ ص: 9 ] متجاف عنه ، أو سمى إحداث الله خلقا ; لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت ، فإذا قيل : خلق الله كذا ، فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه : فقدره للبقاء إلى أمد معلوم ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " وبعضه له اتجاه ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه ، متصفة بستة أشياء ، كل واحد منها برهان قاطع ، أن عبادتها مع الله ، لا وجه لها بحال ، بل هي ظلم متناه ، وجهل عظيم ، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم ، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة ، على أن المتصف بها هو المعبود وحده ، والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله : الأول منها : أنها لا تخلق شيئا ، أي : لا تقدر على خلق شيء .

    والثاني منها : أنها مخلوقة كلها ، أي : خلقها خالق كل شيء .

    والثالث : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا .

    الرابع والخامس والسادس : أنها لا تملك موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى .

    أما الأول منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئا ، فقد جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] وقوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [ 16 \ 20 - 21 ] وقوله تعالى في سورة " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] [ ص: 10 ] وقوله تعالى في سورة " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] وقوله تعالى في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] وقوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق ، ومن لا يخلق ; لأن من يخلق هو المعبود ، ومن لا يخلق لا تصح عبادته ; كقوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] أي : وأما من لم يخلقكم ، فليس برب ، ولا بمعبود لكم ، كما لا يخفى . وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] أي : ومن كان كذلك ، فهو المعبود وحده جل وعلا ، وقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] .

    وأما الأمر الثاني منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة ، فقد جاء مبينا في آيات من كتاب الله ; كآية " النحل " ، و " الأعراف " ، المذكورتين آنفا .

    أما آية " النحل " ، فهي قوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] فقوله : وهم يخلقون صريح في ذلك . وأما آية " الأعراف " ، فهي قوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] إلى غير ذلك من الآيات .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #415
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (414)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 11 إلى صـ 18



    وأما الأمر الثالث منها : وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فقد جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ; كقوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] وكقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 191 - 192 ] ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا . وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 197 ] [ ص: 11 ] وقوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 - 197 ] .

    وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، وقوله تعالى : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه الآية [ 22 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وأما الرابع والخامس والسادس من الأمور المذكورة : أعني كونهم لا يملكون موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . فقد جاءت أيضا مبينة في آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .

    فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئا من ذلك المذكور في الآية ، ومنه الحياة المعبر عنها بـ : خلقكم ، والموت المعبر عنه بقوله : ثم يميتكم ، والنشور المعبر بقوله : ثم يحييكم ، وبين أنهم لا يملكون نشورا بقوله : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون [ 21 \ 21 ] . وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشورا ، في قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 10 \ 34 ] . وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 31 \ 4 ] وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات . وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، أظهر الأقوال فيه أن المعنى : لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع ; كما قاله القرطبي [ ص: 12 ] وغيره . وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أشار إليه في " الخلاصة " بقوله :
    وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
    وقيل المعنى : لا يقدرون أن يضروا أنفسهم ، أو ينفعوها بشيء ، والأول هو الأظهر ، أي : وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز ; لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا نشورا ، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين :

    الأول : أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي ، تقول : نشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا .

    والثاني : أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورا لازما ، والميت فاعل نشر .

    والحاصل أن في المادة ثلاث لغات ، الأولى : أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا ، ومنه قوله تعالى : ثم إذا شاء أنشره [ 80 \ 22 ] وقوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها [ 2 \ 259 ] بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وهو مضارع أنشره . والثانية : نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي ، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور ، ومنه قوله هنا : حياة ولا نشورا ، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا ، بفتح الياء وضم الشين . والثالثة : نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم ، ومعنى أنشره ونشره متعديا : أحياه بعد الموت ، ومعنى نشر الميت لازما : حيي الميت وعاش بعد موته ، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت ، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب ، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر ، أي : عاش بعد الموت ، قول الأعشى :
    لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
    حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر


    ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت ، مصدر الثلاثي المتعدي ، قوله هنا : [ ص: 13 ] ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم ، قول الآخر :
    إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
    فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي
    أو فتور فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور


    فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتا ، والإفاقة منها نشورا ، أي : حياة بعد الموت .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : واتخذوا من دونه آلهة ، حذف فيه أحد المفعولين ، أي : اتخذوا من دونه أصناما آلهة ; كقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة الآية [ 6 \ 74 ] والآلهة جمع إله ، فهو فعال مجموع على أفعلة ، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة ، كما قال في " الخلاصة " :
    ومدا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن


    والإله المعبود فهو فعال بمعنى مفعول ، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلاه بمعنى المألوه ، أي : المعبود ، والكتاب بمعنى المكتوب ، واللباس بمعنى الملبوس ، والإمام بمعنى المؤتم به ، ومعلوم أن المعبود بحق واحد ، وغيره من المعبودات أسماء سماها الكفار ما أنزل الله بها من سلطان : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان الآية 53 \ 23 ] .
    قوله تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا في هذا القرآن العظيم ، الذي أوحاه الله إليه : إن هذا إلا إفك افتراه ، أي : ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون ، قيل : اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكيهة الرومي ، قال ذلك النضر بن الحر العبدري .

    [ ص: 14 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار كذبوه وادعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه ، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 101 ] وقوله تعالى : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ، وقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق الآية [ 6 \ 66 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] أي : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره إن هذا إلا قول البشر [ 74 \ 25 ] وقوله تعالى : وليقولوا درست [ 6 \ 105 ] كما تقدم إيضاحه في " الأنعام " ، وقد كذبهم الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا ، قال الزمخشري : ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه ، انتهى . وتكذيبه جل وعلا لهم في هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] كما تقدم إيضاحه في سورة " النحل " ، وقوله : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر الآية [ 74 \ 24 - 27 ] لأن قوله : سأصليه سقر بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدل على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .

    واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل ، فقوله : فقد جاءوا ظلما ، أي : فعلوه ، وقيل : بتقدير الباء ، أي : جاءوا بظلم ، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، أي : بما فعلوه . وقول زهير بن أبي سلمى : [ ص: 15 ]
    فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل


    واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل ، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط : والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات ، وقوله : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] وإنما قيل لها مؤتفكات ; لأن الملك أفكها ، أي : قلبها ; كما أوضحه تعالى بقوله : جعلنا عاليها سافلها [ 11 \ 82 ] .
    قوله تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما . ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار ، قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، أي : مما كتبه وسطره الأولون كأحاديث رستم وأسفنديار ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعه ، وأخذه من تلك الأساطير ، وأنه اكتتب تلك الأساطير ، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه ، وقوله : فهي تملى عليه ، أي : تلقى إليه ، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها ، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه ، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفا ، والأصل في الإملاء الإملال باللام ، ومنه قوله تعالى : فليكتب وليملل الذي عليه الحق الآية [ 2 \ 28 ] .

    وقوله : بكرة وأصيلا ، البكرة : أول النهار ، والأصيل : آخره .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن الكفار ، قالوا : إن القرآن أساطير الأولين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلمه من غيره وكتبه جاء موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 18 \ 31 ] .

    وقد ذكرنا آنفا الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرآن من غيره ، وأوضحنا تعنتهم وكذبهم في ذلك في سورة " النحل " ، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

    [ ص: 16 ] ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله : اكتتبها فهي تملى عليه ، قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [ 29 \ 84 ] وقوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ، إلى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي [ 7 \ 157 - 158 ] والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية ، جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك الآية [ 16 \ 102 ] وقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] وقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 38 - 43 ] وقوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله هنا : الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : ومن يعلم السر ، فلا شك أنه يعلم الجهر .

    ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كونه تعالى يعلم السر في السماوات والأرض ، قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب [ 9 \ 78 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ 32 \ 6 ] وقوله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله الآية [ 2 \ 235 ] وقوله تعالى : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ ص: 17 ] [ 27 \ 75 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان غفورا رحيما ، قال فيه ابن كثير : هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم ، وافترائهم ، وفجورهم ، وبهتانهم ، وكفرهم ، وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ; كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 73 - 74 ] ، وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] .

    قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة ، انتهى كلام ابن كثير - رحمه الله تعالى - وما ذكره واضح .

    والآيات الدالة على مثله كثيرة ; كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات .
    قوله تعالى : وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ما لهذا الذي يدعي أنه رسول ، وذلك كقول فرعون في موسى : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] أي : ما له يأكل الطعام كما نأكله ، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه ، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء ، ليحصل بذلك قوته ، يعنون أنه لو كان رسولا من عند الله لكان ملكا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام ، ولا إلى المشي في الأسواق ، وادعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس ، ويحتاج إلى المشي في الأسواق ، لقضاء حاجته منها ، لا يمكن أن يكون رسولا ، وأن الله لا يرسل إلا ملكا لا يحتاج للطعام ولا للمشي في الأسواق ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، وجاء في آيات أيضا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة .

    [ ص: 18 ] فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية ، قوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله تعالى عنهم : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا الآية [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه الآية [ 54 \ 24 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا [ 14 \ 10 ] . ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة ، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم ، وأنهم من جملة البشر ، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته ، وأنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا ، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، لنزل عليهم ملكا رسولا ، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم ، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] أي ولم نجعلهم ملائكة ، لأن كونهم رجالا وكونهم من أهل القرى ، صريح في أنهم ليسوا ملائكة ، وقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 9 ] وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار : إنه بشر ، وإنه رسول . وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه الآية [ 41 \ 6 ] . وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله : لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] وقال تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #416
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (415)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 19 إلى صـ 26



    وقوله تعالى : ويمشي في الأسواق [ ص: 19 ] [ 25 \ 7 ] جمع سوق وهي مؤنثة ، وقد تذكر . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها .

    اعلم أولا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق ، والتحضيض . هو الطلب بحث وشدة ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
    وبهما التحضيض مز وهلا ألا ألا وأولينها الفعلا


    وبه تعلم أن المضارع في قوله : فيكون معه نذيرا منصوب بأن مستترة وجوبا ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
    وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب


    ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض . قوله تعالى : فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 63 \ 10 ] لأن قوله : لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة ، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
    لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه


    فقوله تعالى في الآية الكريمة : فأصدق بالنصب ، وقول الشاعر : فتخمدي منصوب أيضا ، بحذف النون ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض .

    واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله : وأكن من الصالحين إنما ساغ فيه الجزم ، لأنه عطف على المحل ؛ لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل ، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور ، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب ، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
    وبعد غير النفي جزما اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد


    وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره ، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام ، ليس بصحيح .

    [ ص: 20 ] واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمور : الأول : أن ينزل إليه ملك ، فيكون معه نذيرا ، أي يشهد له بالصدق ، ويعينه على التبليغ .

    الثاني : أن يلقى إليه كنز ، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه ويستغني به عن المشي في الأسواق .

    الثالث : أن تكون له جنة يأكل منها ، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير :
    كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا


    فقوله : تسقي جنة أي بستانا ، وقوله : سحقا يعني أن نخله طوال .

    وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث ، تعنتا منهم وعنادا ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع ، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم لنزول الكنز ، ومجيء الملك معه ، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير [ 11 \ 12 ] وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة ، وأوضح أنهم يعنون بها بستانا من نخيل وعنب ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا [ 17 \ 90 - 91 ] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم .

    وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل ، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار وشدة تعنتهم وعنادهم ، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] وقال تعالى : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 - 15 ] وقال تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ ص: 21 ] الآية [ 6 \ 111 ] وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 - 97 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .

    وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه : يأكل الطعام كما نأكل ، ويتردد في الأسواق كما نتردد . يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا فقالوا : إن لم يكن مرفودا بذلك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان ، فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم . انتهى منه ، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم وعنادهم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي ( يأكل منها ) بالمثناة التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي : ( جنة نأكل منها ) بالنون ، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله : أو يأكلون هم من ذلك البستان .
    قوله تعالى : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا يعنون أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره ، وقال مجاهد : مسحورا : أي مخدوعا كقوله : فأنى تسحرون : أي من أين تخدعون ، وقال بعضهم : مسحورا : أي له سحر ، أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب ، فهو بشر مثلكم ، وليس بملك ، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله : مسحورا بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، من الإفك والبهتان خاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال الآية . جاء كله مصرحا به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى : [ ص: 22 ] نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 \ 47 - 48 ] .

    قال الزمخشري : ضربوا لك الأمثال : قالوا فيك تلك الأقوال ، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك ، وإلقاء كنز عليك من السماء ، وغير ذلك ، فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ، فلا يجدون طريقا إليه ا ه .

    والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى : ضربوا لك الأمثال : أنها تارة يقولون إنك ساحر ، وتارة مسحور ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر ، وتارة كاهن ، وتارة كذاب ، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه الآية [ 25 \ 5 ] وقوله : وقالوا أساطير الأولين وقوله : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وقوله تعالى : فضلوا أي عن طريق الحق ، لأن الأقوال التي قالوها ، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء وكفر مخلد في نار جهنم ، فالذين قالوها هم أضل الضالين ، وقوله تعالى : فلا يستطيعون سبيلا فيه أقوال كثيرة متقاربة .

    وأظهرها أن معنى : فلا يستطيعون سبيلا : أي طريقا إلى الحق والصواب ، ونفي الاستطاعة المذكورة هنا كقوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقد قدمنا أيضا معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء ، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة : أي أنكر يوم القيامة سعيرا : أي نارا شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة .

    [ ص: 23 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم ، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى . وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما تكذيبهم بالساعة ، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر ، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث والجزاء بعد الموت ، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى : إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين [ 44 \ 34 - 35 ] وقوله تعالى : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار ، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] إلى قوله : ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] فقوله : ومأواكم النار بعد قوله : قلتم ما ندري ما الساعة الآية ، يدل على أن قولهم : ما ندري ما الساعة هو سبب كون النار مأواهم ، وقوله بعده ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] لا ينافي ذلك ؛ لأن من اتخاذهم آيات الله هزوا تكذيبهم بالساعة ، وإنكارهم البعث كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 15 ] فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد جامع بين أمرين : الأول منهما : أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه .

    والثاني منهما : وهو محل الشاهد من الآية ، أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها ، وذلك في قوله تعالى مشيرا إلى الذين أنكروا البعث أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة ، وكقوله تعالى : [ ص: 24 ] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ 20 \ 16 ] أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها ، فتردى : أي تهلك لعدم إيمانك بها ، والردى الهلاك ، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة ، وقد قال تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] وقوله تعالى في آية " طه " هذه : ( فتردى ) ، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة عن التصديق بها ، أن ذلك يكون سببا لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فآية الروم هذه ، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، وأنهم في العذاب محضرون . وهو عذاب النار . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل كذبوا بالساعة [ 25 \ 11 ] أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه ، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي ، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة ، إذا رأت الكفار من مكان بعيد : أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها ، وسمعوا زفيرها .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك ، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها ، وأنهم يسمعون لها أيضا شهيقا مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه ، وذلك في قوله تعالى : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 - 8 ] أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها ، على من كفر بالله تعالى .

    وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق ، وأقربها أنهما يمثلهما معا صوت الحمار في نهيقه ، فأوله زفير ، وآخره الذي يردده في صدره شهيق .

    والأظهر أن معنى قوله تعالى : سمعوا لها تغيظا أي سمعوا غليانها من شدة غيظها ، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه ، وذلك أسلوب عربي معروف . وقال [ ص: 25 ] بعض أهل العلم : سمعوا لها تغيظا : أي أدركوه ، والإدراك يشمل الرؤية والسمع ، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك ، وما ذكرنا أظهر .

    وقال القرطبي : قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم ، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح .
    مسألة .

    اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة ، كما صرح الله بذلك في قوله هنا : إذا رأتهم من مكان بعيد ورؤيتها إياهم من مكان بعيد ، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى ، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ 50 \ 30 ] والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة ، كحديث محاجة النار مع الجنة ، وكحديث اشتكائها إلى ربها ، فأذن لها في نفسين ، ونحو ذلك ، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية ، أنها تراهم وأن لها تغيظا على الكفار ، وأنها تقول : هل من مزيد .

    واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم ، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر ، ولا تتكلم ، ولا تغتاظ . وأن ذلك كله من قبيل المجاز ، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها ، كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند ، والحق هو ما ذكرنا .

    وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة ، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو معلوم في محله .

    وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : إن القول بأن النار تراهم هو الأصح ، ثم قال لما روي مرفوعا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا . قيل : يا رسول الله أولها عينان ؟ قال : أوما سمعتم الله - عز وجل - يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول : وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر ، فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه " وفي رواية " يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم " ذكره رزين في كتابه ، وصححه ابن العربي في قبسه ، وقال : أي تفصلهم عن [ ص: 26 ] الخلق في المعرفة ، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة ، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر ، وبالمصورين " وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .

    وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطبراني ، وابن مردويه من طريق مكحول ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم . قالوا : يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد . فهل تراهم إلا بعينين " وأخرج عبد الله بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طريق خالد بن دريك ، عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يقل علي ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : " إذا رأتهم من مكان بعيد " إلى آخر كلامه ، وفيه شدة هول النار ، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق .
    نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .
    قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار إذا ألقوا : أي طرحوا في مكان ضيق من النار ، في حال كونهم مقرنين ، دعوا هنالك : أي في ذلك المكان الضيق ثبورا ، فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ، فقوله : ( مكانا ) منصوب على الظرف ، كما قال أبو حيان في البحر المحيط .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #417
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (416)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 27 إلى صـ 34




    وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار ، جاء مذكورا أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة [ 104 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة [ 90 \ 19 - [ ص: 27 ] 20 ] ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز ، وبغير همز : مطبقة أبوابها ، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد [ 18 \ 18 ] ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه ، فهو في مكان ضيق ، والعياذ بالله ، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط ، وعن ابن مسعود : أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح . والزج بالضم : الحديدة التي في أسفل الرمح .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : مقرنين : أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد [ 14 \ 49 ] والأصفاد : القيود . والأظهر أن معنى مقرنين : أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل ، وقال بعض أهل العلم : كل كافر يقرن هو وشيطانه ، وقد قال تعالى : حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 38 ] .

    وهذا أظهر من قول من قال : مقرنين مكتفين ، ومن قول من قال : مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، والثبور : الهلاك والويل والخسران .

    وقال ابن كثير : والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار . كما قال موسى لفرعون : وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] أي هالكا ، قال عبد الله بن الزبعرى السهمي :
    إذا جارى الشيطان في سنن الغسـ ـى ومن مال ميله مثبور
    ا هـ .

    وقال الجوهري في صحاحه : والثبور الهلاك والخسران أيضا ، قال الكميت :
    ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر


    أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن . ا هـ منه .

    وقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا معنى دعائهم الثبور هو قولهم : واثبوراه ، يعنون : يا ويل ، ويا هلاك ، تعال ، فهذا حينك وزمانك .

    وقال الزمخشري : ومعنى وادعوا ثبورا كثيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، إنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور ، لشدته [ ص: 28 ] وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم . ا ه .
    تنبيه .

    اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال : مكانا ضيقا ، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] وقال في هود وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] فما وجه التعبير في سورة هود ، بقوله : ضائق على وزن فاعل ، وفي الفرقان والأنعام بقوله : ضيقا على وزن فيعل ، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق ، فهو ضيق .

    والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا ، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله :
    وفاعل صالح للكل إن قصد الـ حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا


    وإن لم يقصد به الحدوث والتجدد بقي على أصله .

    وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر ، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ولما كان كذلك ، قيل فيه : ضائق بصيغة اسم الفاعل ، أما قوله : ضيقا في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث ، ولذلك بقي على أصله .

    ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى : وضائق به صدرك وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :
    أبلغ خداشا أنني ميت كل امرئ ذي حسب مائت


    فلما أراد حدوث الموت قال : مائت بوزن فاعل ، وأصله ميت على وزن فيعل .

    ومن أمثلته في فعل بفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثي قتيبة بن مسلم : [ ص: 29 ]
    فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح


    فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح ، والأصل : جزع وفرح .

    ومثاله في فعيل قول لبيد :
    حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا


    فلما أراد حدوث الثقل قال : ثاقلا والأصل ثقيل ، وقول السمهري العكلي :
    بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها


    فلما أراد حدوث السمن قال : فسامن والأصل سمين .

    واعلم أن قراءة ابن كثير " ضيقا " بسكون الياء في الموضعين راجعة في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين ، في هين ولين . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا . التحقيق أن الإشارة في قوله : أذلك راجعة إلى النار ، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جل وعلا بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] إلى قوله تعالى : وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 14 ] وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه ، كقول من قال : إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى : أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة الآية [ 25 \ 8 ] وكقول من قال : إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى : تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا [ 25 \ 10 ] والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال : " أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية " .

    وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء أيضا في غير هذا الموضع [ ص: 30 ] كقوله تعالى في سورة " الصافات " إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون إلى قوله : يهرعون [ 37 \ 60 - 70 ] وكقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] .

    وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف ، وهو أن يقال : لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية :
    وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر


    كما قدمناه موضحا في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير الآية [ 16 \ 30 ] .

    والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل ، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه ، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة ، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال .

    والجواب عن هذا الإشكال من وجهين : الأول : أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن ، وفي اللغة مرادا بها مطلق الاتصاف ، لا تفضيل شيء على شيء . وقدمناه مرارا وأكثرنا من شواهده العربية في سورة " النور " وغيرها .

    الثاني : أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة ، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل ، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل ، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
    أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء


    وكقول العرب : الشقاء أحب إليك ، أم السعادة ؟ وقوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي الآية [ 12 \ 32 ] .

    [ ص: 31 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى : أذلك خير الآية ، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
    فشركما لخيركما الفداء
    وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وكقوله : السجن أحب إلي مما يدعونني إليه [ 12 \ 32 ] وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ . ا ه . الغرض من كلام أبي حيان .

    وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى ، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان .

    وقوله تعالى في هذه الآية : أم جنة الخلد التي وعد المتقون العائد محذوف : أي وعدها المتقون ، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة ، يحصل بسبب التقوى .

    وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] وقوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون العائد أيضا محذوف كالذي قبله : أي ما يشاءونه ، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير ، كما قال في الخلاصة :
    والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب
    بفعل أو وصـــــــف كمن نرجـــو يهــب


    وهذه الآية الكريمة ، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم .

    وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة ، وقوله : كانت لهم جزاء ومصيرا المصير مكان الصيرورة ، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم .

    [ ص: 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : كان على ربك وعدا مسئولا فيه وجهان معروفان .

    أحدهما : أن معنى كونه مسئولا أن المؤمنين كانوا يسألونه ، وكانت الملائكة أيضا تسأله لهم ، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى بقوله عنهم : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد [ 3 \ 194 ] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضا في قوله : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم الآية [ 40 \ 47 ] وقال بعض العلماء : مسئولا : أي واجبا ؛ لأن ما وعد الله به واجب الوقوع ، لأنه لا يخلف الميعاد ، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ، ويستأنس لهذا القول بلفظة " على " في قوله : كان على ربك وعدا مسئولا كقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقال بعض أهل العلم : إن المسلمين يوم القيامة يقولون : قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا ، والقولان الأولان أقرب من هذا . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا . قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم : ( نحشرهم ) ، بالنون الدالة على العظمة ، وقرأ ابن كثير ، وحفص ، عن عاصم : ( يحشرهم ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ عامة السبعة غير ابن عامر : ( فيقول ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ ابن عامر : ( فنقول ) بنون العظمة .

    فتحصل أن ابن كثير وحفصا يقرآن بالياء التحتية فيهما ، وأن ابن عامر يقرأ بالنون فيهما ، وأن باقي السبعة يقرءون : ( نحشرهم ) بالنون ، ( فيقول ) بالياء ، وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يحشر الكفار يوم القيامة ، وما كانوا يعبدون من دونه : أن يجمعهم جميعا فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني ، أم هم ضلوا السبيل : أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم ، وأن المعبودين يقولون : سبحانك أي تنزيها لك عن [ ص: 33 ] الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ليس للخلائق كلهم ، أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم ، من غير أمرنا ، ونحن برآء منهم ، ومن عبادتهم ، ثم قال : ولكن متعتهم وآباءهم [ 25 \ 18 ] أي طال عليهم العمر ، حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك ، لا شريك لك ، وكانوا قوما بورا . قال ابن عباس : أي هلكى ، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم ا ه . الغرض من كلام ابن كثير .

    وقال أبو حيان في البحر : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه .

    وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمعبودين وجوابهم له ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين . فقال بعضهم : المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا : هذا القول يشهد له القرآن ، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة من عبدهم ، كما قال في الملائكة : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] وقال في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب [ 5 \ 116 ] وجواب الملائكة وجواب عيسى كلاهما شبيه بجواب المعبودين في آية الفرقان هذه ، ولذلك اختار غير واحد من العلماء أن المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء ، دون الأصنام .

    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام ، مع الملائكة وعيسى وعزير ؛ لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان : الأولى : أنه عبر عن المعبودين المذكورين بـ : " ما " التي هي لغير العاقل في قوله : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله الآية . فلفظة ( ما ) تدل على شمول غير العقلاء ، وأنه غلب غير العاقل لكثرته .

    [ ص: 34 ] القرينة الثانية : هي دلالة آيات من كتاب الله ، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم : أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون . وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم ، نظرا إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكقوله تعالى في الأحقاف : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] فقد دل قوله تعالى : وهم عن دعائهم غافلون على أنهم لا يعقلون ، ومع ذلك قال : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وكقوله تعالى في العنكبوت : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا الآية [ 29 \ 25 ] . فصرح بأنهم أوثان ، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضا . وكقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    وقوله في هذه الآية الكريمة حتى نسوا الذكر الظاهر أن معنى ( نسوا ) تركوا . والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد ، وقيل : ذكر الله بشكر نعمه ، والأصح أن قوله بورا معناه هلكى ، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة ، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا : وكانوا قوما بورا وقوله في سورة الفتح : وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا [ 48 \ 12 ] ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعرى السهمي رضي الله عنه :
    يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور


    ويطلق البور على الهلاك . وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان ، وهم من أهل اليمن ، ومنه قول الشاعر
    : فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #418
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (417)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 35 إلى صـ 422




    واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية ، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحدا [ ص: 35 ] مذهب المعتزلة ، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإياك أن تغتر به ، وما ذكر عن الحسن البصري ، ومالك ، عن الزهري من أن معنى بورا لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية ، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية ، وأن معنى بورا هلكى كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : فقد كذبوكم بما تقولون .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن المعبودين كذبوا العابدين وذلك في قوله عنهم : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [ 25 \ 18 ] .

    وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تكذيب المعبودين للعابدين ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] وكقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] وقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
    قوله تعالى : ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا . قال ابن كثير : ومن يظلم منكم أي يشرك بالله ، وذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وهذا التفسير تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] وقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الظلم في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] فقال : أي بشرك كما قدمناه موضحا .
    قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .

    ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه جعل بعض الناس فتنة لبعض .

    وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية ذكره في قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] .

    [ ص: 36 ] وقال القرطبي في تفسير قوله : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ومعنى هذا : أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغني عليه أن لا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ، كما قال الضحاك في معنى : أتصبرون [ 25 \ 20 ] : أي على الحق ، وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره وكذلك العلماء ، وحكام العدل ، ألا ترى إلى قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى ، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذلك عن الضجر . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .

    وإذا علمت معنى كون بعضهم فتنة لبعض . فاعلم أن قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض الآية [ 6 \ 53 ] . فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين ، حيث احتقروهم وازدروهم ، وأنكروا أن يكون الله من عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم ، ورثاثة حالهم ، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم أنهم قالوا فيهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] وقال : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ 38 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وسيوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 49 ] وقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون . . . . إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] وقوله تعالى : ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] وقوله تعالى : ( أتصبرون ) ، أي على الحق أم لا تصبرون . والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

    [ ص: 37 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، ولولا في هذه الآية للتحضيض .

    والمعنى أنهم طلبوا بحث وشدة أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم ، وهذا التعنت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم ، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] وقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة قيل : فتوحى إلينا كما أوحت إليك ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الآية [ 6 \ 124 ] وقيل : لولا أنزل علينا الملائكة فنراهم عيانا ، وهذا يدل له قوله تعالى : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] أي معاينة على القول بذلك ، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ( لا يرجون ) قال بعض العلماء : لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث . والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع . قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا قال أي لا تخافون لله عظمة ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
    إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل


    فقوله لم يرج لسعها : أي لم يخف لسعها ، وقال بعض أهل العلم : إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة ، وقال بعض العلماء : لا يرجون لقاءنا لا يأملون ، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال : ومنه قول الشاعر :
    أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب


    أي أتأمل أمة إلخ . والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله ، لأنه لا يصدق بالعذاب ، ولا يأمل الخير من تلقائه ، لأنه لا يؤمن بالثواب .

    وقوله جل وعلا : لقد استكبروا في أنفسهم أي أضمروا التكبر عن الحق في قلوبهم ، واعتقدوه عنادا وكفرا ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [ 40 \ 56 ] وقوله تعالى : وعتوا عتوا كبيرا أي تجاوزوا الحد [ ص: 38 ] في الظلم والطغيان يقال : عتا علينا فلان : أي تجاوز الحد في ظلمنا ، ووصفه تعالى عتوهم المذكور بالكبر ، يدل على أنه بالغ في إفراطه ، وأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن تكذيب الرسل بعد دلالة المعجزات ، ووضوح الحق وعنادهم والتعنت عليهم بطلب إنزال الملائكة ، أو رؤية استكبار عن الحق عظيم وعتو كبير يستحق صاحبه النكال ، والتقريع ، ولذا شدد الله النكير على من تعنت ذلك التعنت واستكبر عن قبول الحق ، كما في قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل [ 2 \ 108 ] وقوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] وقوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [ 2 \ 55 ] واستدلال المعتزلة بهذه الآية ، وأمثالها على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال ، وأعظم الباطل ، وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية : إن الله لا يرى ، قول باطل ، وكلام فاسد .

    والحق الذي لا شك فيه : أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقا ومفهوما . كما أوضحناه في غير هذا الموضع .

    وقد قدمنا في هذه السورة وفي سورة بني إسرائيل الآيات الدالة على أن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم ، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم ، أي لا تسرهم رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير ، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم ، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين .

    أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت ، كقوله تعالى : [ ص: 39 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية [ 8 \ 50 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [ 6 \ 93 ] وقوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] وأما رؤيتهم الملائكة يوم القيامة فلا بشرى لهم فيها أيضا ، ويدل لذلك قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ 6 \ 8 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا بشرى يومئذ للمجرمين [ 25 \ 22 ] يدل بدليل خطابه : أي مفهوم مخالفته ، أن غير المجرمين يوم يرون الملائكة تكون لهم البشرى ، وهذا المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 \ 30 - 32 ] .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة . ويقولون حجرا محجورا أظهر القولين فيه عندي أنه من كلام الكفار ، يوم يرون الملائكة . لا من كلام الملائكة ، وإيضاحه : أن الكفار الذين اقترحوا إنزال الملائكة إذا رأوا الملائكة توقعوا العذاب من قبلهم ، فيقولون حينئذ للملائكة : حجرا محجورا : أي حراما محرما عليكم أن تمسونا بسوء أي لأننا لم نرتكب ذنبا نستوجب به العذاب ، كما أوضحه تعالى بقوله عنهم : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] فقولهم : ما كنا نعمل من سوء : أي لم نستوجب عذابا ، فتعذيبنا حرام محرم ، وقد كذبهم الله في دعواهم هذه بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون وعادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، أنهم يقولون هذا الكلام ، أي حجرا محجورا عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك .

    وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني : حجرا محجورا في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله ، وعمرك الله ، ونحو ذلك .

    [ ص: 40 ] وقوله : حجرا محجورا ، أصله من حجره بمعنى منعه ، والحجر : الحرام ، لأنه ممنوع ومنه قوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر أي حرام لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ 6 \ 138 ] ومنه قول المتلمس :
    حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس


    فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر :
    ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما


    وقول الآخر :
    قــــالت وفيها حـيرة وذعـر عـوذ بربي منكم وحجر


    وقوله : محجورا توكيد لمعنى الحجر . قال الزمخشري : كقول العرب : ذيل ذائل . والذيل الهوان ، وموت مائت ، وأما على القول بأن حجرا محجورا من قول الملائكة ، فمعناه : أنهم يقولون للكفار حجرا محجورا . أي حراما محرما أن تكون للكفار اليوم بشرى ، أو أن يغفر لهم ، أو يدخلون الجنة وهذا القول اختاره ابن جرير ، وابن كثير وغير واحد .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يوم يرون الملائكة قال الزمخشري : " يوم " منصوب بأحد شيئين ، إما بما دل عليه بلا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى ، أو يعدمونها ، ويومئذ للتكرير ، وإما بإضمار اذكر : أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم قال لا بشرى يومئذ للمجرمين .
    قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن الآية [ 17 \ 19 ] . وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] . وغير ذلك فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
    قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

    [ ص: 41 ] استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهي في نصف نهار ، ووجه ذلك أن قوله : مقيلا : أي مكان قيلولة وهي الاستراحة في نصف النهار ، قالوا : وهذا الذي فهم من هذه الآية الكريمة ، جاء بيانه في قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] .

    ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية ، أن أصحاب النار ليسوا كذلك وأن حسابهم غير يسير .

    وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى قريبا من هذه الآية : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فقوله : ( على الكافرين ) يدل على أنه على المؤمنين غير عسير ، كما قال تعالى : لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 103 ] . وقوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] وإذا علمت مما ذكرنا ما جاء من الآيات فيه بيان لقوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ، فهذه أقوال بعض المفسرين في المعنى الذي ذكرنا في الآية .

    قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : خير مستقرا وأحسن مقيلا قال في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وذلك مثل قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود . قال : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقرأ : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنما هي ضحوة . فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين .

    وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، وأبو نعيم في [ ص: 42 ] الحلية ، عن إبراهيم النخعي : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة ، نصف النهار . فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

    وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة ، حين يفرغ الناس من الحساب ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا إلى أن قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة ، فكانت قيلولتهم في الجنة ، وأطعموا كبد الحوت فأشبعهم كلهم فذلك قوله . أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

    وذكر نحوه القرطبي مرفوعا وقال : ذكره المهدوي . والظاهر أنه لا يصح مرفوعا ، وقال القرطبي أيضا : " وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] فقلت ما أطول هذا اليوم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة " وهو ضعيف أيضا ، وما ذكره عن ابن مسعود من أنه قرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم معلوم أن ذلك شاذ لا تجوز القراءة به ، وأن القراءة الحق ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم [ 37 \ 68 ] .

    واعلم أن قول قتادة في هذه الآية معروف مشهور ، وعليه فلا دليل في الآية لما ذكرنا ، وقول قتادة هو أن معنى قوله : وأحسن مقيلا أي منزلا ومأوى ، وهذا التفسير لا دليل فيه على القيلولة في نصف النهار كما ترى .

    وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وجه الجمع بين ما دل عليه قوله هنا وأحسن مقيلا من انقضاء الحساب في نصف نهار ، وبين ما دل عليه قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وذكرنا الآيات المشيرة إلى الجمع ، وبعض الشواهد العربية .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #419
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (418)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 43 إلى صـ 50



    [ ص: 43 ] واعلم أن المشهور في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار زمن الحر مثلا ، وإن لم يكن معها نوم ، ومنه قوله :
    جزى الله خير الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد


    أي نزلا فيها وقت القائلة ، كما قاله صاحب اللسان ، وما فسر به قتادة الآية ، من أن المقيل المنزل والمأوى ، معروف أيضا في كلام العرب . ومنه قول ابن رواحة :
    اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله


    فقوله : يزيل الهام عن مقيله ، يعني : يزيل الرءوس عن مواضعها من الأعناق ، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرءوس ، والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
    وما تدري وإن أجمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل


    وعليه فالمعنى : بأي الأرض يدركك الثواب والإقامة بسبب الموت أو غيره من الأسباب ، وصيغة التفضيل في قوله هنا : خير مستقرا وأحسن مقيلا تكلمنا على مثلها قريبا في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 25 \ 15 ] .
    قوله تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء تتشقق يوم القيامة بالغمام ، وأن الملائكة تنزل تنزيلا . وقال القرطبي : تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام . قال : والباء وعن يتعاقبان كقولك : رميت بالقوس ، وعن القوس انتهى . ويستأنس لمعنى عن بقوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا الآية [ 50 \ 44 ] .

    وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة من تشقق السماء يوم القيامة ووجود الغمام ، وتنزيل الملائكة كلها جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

    أما تشقق السماء يوم القيامة فقد بينه جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ 55 \ 37 ] وقوله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية [ 69 \ 15 - 16 ] وقوله : [ ص: 44 ] إذا السماء انشقت الآية [ 84 \ 1 ] وقوله تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت الآية [ 77 \ 8 - 9 ] فقوله : فرجت : أي شقت ، فكان فيها فروج أي شقوق كقوله ، إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] وقوله تعالى : وفتحت السماء فكانت أبوابا [ 78 \ 19 ] وأما الغمام ونزول الملائكة ، فقد ذكرهما معا في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] . وقد ذكر جل وعلا نزول الملائكة في آيات أخرى كقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية [ 6 \ 158 ] وقوله تعالى : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 115 \ 8 ] .

    قال الزمخشري : والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون ، وفي أيديهم صحف أعمال العباد . انتهى منه .

    وقرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر : ( تشقق ) بتشديد الشين ، والباقون بتخفيفها بحذف إحدى التاءين ، وقرأ ابن كثير : ( وننزل الملائكة ) بنونين الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة مع تخفيف الزاي ، وضم اللام ، مضارع أنزل ، والملائكة بالنصب مفعول به ، والباقون بنون واحدة وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول ، والملائكة مرفوعا نائب فاعل نزل ، والأظهر أن يوم منصوب بـ اذكر مقدرا ، كما قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الملك الحق يوم القيامة له جل وعلا دون غيره ، وأن يوم القيامة كان عسيرا على الكافرين .

    وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله ، أما كون الملك له يوم القيامة ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله جل وعلا : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 45 ] وأما كون يوم القيامة عسيرا على الكافرين ، فقد قدمنا الآيات الدالة عليه قريبا في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية .
    قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو عقبة بن أبي معيط ، وأن فلانا الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة . ليتني لم أتخذ أبيا خليلا ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط .

    وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحا في غيرها . فقوله : ويوم يعض الظالم على يديه كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندما شديدا ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط الآية [ 10 \ 54 ] وقوله تعالى في سورة سبأ : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا الآية [ 34 \ 33 ] وقوله تعالى : قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] . والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلا : أي طريقا إلى الجنة في قوله هنا : يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] وقوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ 15 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .

    [ ص: 46 ] والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضا في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] وقوله تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 76 \ 29 و 33 \ 19 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى : ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا [ 78 \ 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 176 ] فلفظة لو في قوله لو أن لنا كرة للتمني ، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله فنتبرأ منهم الآية . وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم ، وطاعتهم في الدنيا ، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن ، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] وقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] وقوله تعالى : : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] ; وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] وقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين الآية [ 34 \ 31 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى هنا : وكان الشيطان للإنسان خذولا الأظهر أنه من كلام الله ، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة ، والخذول صيغة مبالغة ، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه ، ومنه قوله تعالى : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] وقول الشاعر : [ ص: 47 ]
    إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا


    وقول الآخر :
    إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا


    ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون الآية [ 8 \ 48 ] . وقوله تعالى في هذه الآية : لقد أضلني عن الذكر الأظهر أن الذكر القرآن ، وقوله : لم أتخذ فلانا العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم : أي لم أتخذ أبيا أو أمية خليلا ، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ، ومنه قول عروة بن حزام العذري :
    ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان


    وقوله : يعض الظالم من عضض بكسر العين في الماضي ، يعض بفتحها في المضارع على القياس ، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي :
    الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم


    فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي ، والكسر أشهر ، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة المذكورين ، وربما عديت بالباء ومنه قول ابن أبي ربيعة :
    فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر


    وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء قد يدخل قرينه النار ، والتحذير من قرين السوء مشهور معروف ، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات أن رجلا من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار ، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار ، وذلك في قوله تعالى : قال قائل منهم إنى كان لي [ ص: 48 ] قرين يقول أئنك لمن المصدقين إلى قوله تعالى : فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين [ 37 \ 51 - 57 ] .
    قوله تعالى : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

    معنى هذه الآية الكريمة ظاهر ، وهو أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شكا إلى ربه هجر قومه ، وهم كفارقريش لهذا القرآن العظيم ، أي : تركهم لتصديقه والعمل به ، وهذه شكوى عظيمة ، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم ، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال .

    واعلم أن السبكي قال : إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة " الفرقان " مسألة أصولية ، وهي أن الكف عن الفعل فعل . والمراد بالكف الترك ، قال في طبقاته : لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها .

    أحدها : قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فإن الأخذ : التناول ، والمهجور : المتروك ، فصار المعنى تناولوه متروكا ، أي : فعلوا تركه ، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب " نشر البنود ، شرح مراقي السعود " ، في الكلام على قوله :
    فكفنا بالنهي مطلوب النبي


    قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك ، لم يظهر لي كل الظهور ، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه ، وهو كون الكف فعلا دلت عليه آيتان كريمتان من سورة " المائدة " ، دلالة واضحة لا لبس فيها ، ولا نزاع . فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية " الفرقان " هذه ، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة " المائدة " . أما الأولى منهما ، فهي قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون [ 5 \ 63 ] فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله : لبئس ما كانوا يصنعون ، أي : وهو تركهم النهي المذكور ، والصنع أخص من مطلق الفعل ، فصراحة [ ص: 49 ] دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى .

    وأما الآية الثانية ، فهي قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 79 ] فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا ، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله : لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 97 ] أي : وهو تركهم التناهي ، عن كل منكر فعلوه ، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة ، كما ترى .

    وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ، فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما ، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه - صلى الله عليه وسلم - لمسجده بالمدينة :
    لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل


    فسمى قعودهم عن العمل ، وتركهم له عملا مضللا ، وقد أشار صاحب " مراقي السعود " ، إلى أن الكف فعل على المذهب ، أي : وهو الحق . وبين فروعا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمى بالمنهج المنتخب ، وأورد أبيات الزقاق في ذلك ، وقال : وجلبتها هنا على سبيل التضمين ، وهذا النوع يسمى استعانة ، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله :
    فكفنا بالنهي مطلوب النبي والكف فعل في صحيح المذهب
    له فروع ذكرت في المنهج وسردها من بعد ذا البيت يجي
    من شرب أو خيط ذكاة فضل ما وعمد رسم شهادة وما
    عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا
    وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم


    فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب ، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف ، هل هو فعل ، وهو الحق أو لا ؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله :
    وهل كمن فعل تارك كمن له بنفع قدرة لكن كمن


    من شرب . . إلخ .

    [ ص: 50 ] فقوله : من شرب بيان للنفع الكامن في قوله :
    له بنفع قدرة لكن كمن
    ، أي : لكنه ترك النفع مع قدرته عليه ، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل ، ومراده بقوله : من شرب أن من عنده فضل شراب ، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشا ، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته ، وعلى أنه ليس بفعل ، فلا ضمان عليه ، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك ، وقوله : أو خيط يعني أن من منع خيطا عنده ممن شق بطنه ، أو كانت به جائفة ، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل ، وعلى عكسه فلا ضمان ، وقوله : ذكاة ، يعني : أن من مر بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور .

    وقوله : فضل ما ، يعني : أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له إذا منع منه الماء حتى هلك زرعه ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور ، وقوله : وعمد ، يعني : أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود ، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : رسم شهادة ، يعني : أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق ، هل يضمنه أو لا ؟ وقوله : وما عطل ناظر ، يعني : أن الناظر على مال اليتيم مثلا إذا عطل دوره فلم يكرها ، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا ؟ وقوله : وذو الرهن : يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن ، حتى فات الانتفاع به زمنا ، وكان كراؤه له أهمية ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : كذا مفرط في العلف : يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها ، وقال له : قدم لها العلف ، فترك تقديمه لها حتى ماتت ، هل يضمن أو لا ؟ والعلف في البيت بسكون الثاني ، وهو تقديم العلف بفتح الثاني .

    وقوله :
    وكالتي ردت بعيب وعدم
    وليها : يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته ، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة ، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا ؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا ؟ والصحيح أن الكف فعل ، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة ; كما تقدم إيضاحه . وعليه : فالصحيح لزوم الضمان ، فيما ذكر .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #420
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
    صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
    المجلد السادس
    الحلقة (419)
    سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
    صـ 51 إلى صـ 58



    قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا .

    لما شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه في قوله : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا [ ص: 51 ] القرآن مهجورا ، أنزل الله قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية [ 25 \ 31 ] تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، أي : كما جعلنا الكفار أعداء لك يكذبونك ، ويتخذون القرآن الذي أنزل إليك مهجورا ، كذلك الجعل : جعلنا لكل نبي عدوا ، أي : جعلنا لك أعداء ، كما جعلنا لكل نبي عدوا .

    وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية ، قد قدمنا إيضاحه في " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس الآية [ 6 \ 112 ] وقوله تعالى : وكفى بربك هاديا ونصيرا ، قد قدمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة والمتعدية بشواهده العربية في سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 41 ] وقوله : وكفى بربك هاديا ، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 17 \ 97 ] وقوله تعالى : قل إن هدى الله هو الهدى [ 6 \ 71 ] وقوله : ونصيرا ، أي : وكفى بربك نصيرا ، جاء معناه أيضا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] .
    قوله تعالى : كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا .

    تقدمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث الآية [ 17 \ 106 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كذلك لنثبت به فؤادك ، أي : كذلك الإنزال مفرقا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا ، وقوله : لنثبت به فؤادك ، أي : أنزلناه مفرقا ، لنثبت فؤادك بإنزاله مفرقا .
    قال بعضهم : معناه لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه ; لأن حفظه شيئا فشيئا أسهل من حفظه مرة واحدة ، ولو نزل جملة واحدة .
    وقال بعضهم : ومما يؤكد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه أمي لا يقرأ ولا يكتب .
    قوله تعالى : الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا .

    [ ص: 52 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة ، وأنهم شر مكانا وأضل سبيلا . وبين في مواضع أخر أنهم تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها ; كقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار [ 27 \ 90 ] وقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار الآية [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] وبين جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنهم يحشرون على وجوههم ، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وذكر في سورة " طه " ، أن الكافر يحشر أعمى ، قال في سورة " بني إسرائيل " : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] وقال في سورة " طه " : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها الآية [ 20 \ 124 - 126 ] .

    وقد بينا وجه الجمع في آية " بني إسرائيل " ، وآية " طه " المذكورتين مع الآيات الدالة على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويتكلمون ويسمعون ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى ، وكذلك بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في الكلام على آية " بني إسرائيل " المذكورة .

    وصيغة التفضيل في قوله : أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ، قد قدمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] والمكان محل الكينونة . والظاهر أنه يكون حسيا ومعنويا . فالحسي ظاهر ، والمعنوي ; كقوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا الآية [ 12 \ 77 ] والسبيل الطريق وتذكر وتؤنث كما تقدم ، ومن تذكير السبيل قوله تعالى : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا [ 7 \ 146 ] ومن تأنيثها قوله تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة الآية [ 12 \ 108 ] .
    [ ص: 53 ] قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] .
    قوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية . قد قدمنا بعض الآيات الدالة على كيفية إغراقهم في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا [ 7 \ 64 ] .
    قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا . الأظهر عندي أن قوله : وعادا وثمود معطوف على قوله : وقوم نوح ، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دل عليها قوله بعده : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، على حد قوله في " الخلاصة " :
    فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد ذكرا


    أي : أهلكنا قوم نوح بالغرق ، وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس ، وقرونا بين ذلك كثيرا ، أي : وأهلكنا قرونا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح ، وعاد وثمود .

    والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقبل أصحاب الرس وقد دلت آية من سورة " إبراهيم " على أن بعد عاد ، وثمود ، خلقا كفروا وكذبوا الرسل ، وأنهم لا يعلمهم إلا الله جل وعلا .

    وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا ، وذلك في قوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .

    وقد قدمنا كلام أهل العلم في معنى قوله : فردوا أيديهم في أفواههم ، والإشارة في قوله : بين ذلك ، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ، أي : بين ذلك المذكور [ ص: 54 ] ورجوع الإشارة ، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدد باعتبار المذكور أسلوب عربي معروف ، ومنه في الإشارة قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي : ذلك المذكور من الفارض والبكر ، وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :
    إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل


    أي : وكلا ذلك المذكور من الخير والشر ، ومنه في الضمير قول رؤبة :
    فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق


    أي : كأنه ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق ، وقد قدمنا هذا البيت .

    أما عاد وثمود فقد جاءت قصة كل منهما مفصلة في آيات متعددة . وأما أصحاب الرس فلم يأت في القرآن تفصيل قصتهم ولا اسم نبيهم ، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شيء منها .

    والرس في لغة العرب : البئر التي ليست بمطوية ، وقال الجوهري في " صحاحه " : إنها البئر المطوية بالحجارة ، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر :
    وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا


    وقول النابغة الجعدي :
    سبقت إلى فرط ناهل تنابلة يحفرون الرساسا


    والرساس في البيتين جمع رس ، وهي البئر ، والرس واد في قول زهير في معلقته :
    بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم
    وقوله في هذه الآية : وقرونا بين ذلك كثيرا ، جمع قرن ، وهو هنا الجيل من الناس الذي اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة .
    قوله تعالى وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلا من الماضين المهلكين من قوم نوح ، [ ص: 55 ] وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرس ، والقرون الكثيرة بين ذلك : أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبين لهم الحق بضرب المثل ; لأنه يصير به المعقول كالمحسوس ، وأنه جل وعلا تبر كلا منهم تتبيرا ، أي : أهلكهم جميعا إهلاكا مستأصلا ، والتتبير : الإهلاك والتكسير ، ومنه قوله تعالى : وليتبروا ما علوا تتبيرا [ 17 \ 7 ] وقوله تعالى : إن هؤلاء متبر ما هم فيه [ 7 \ 139 ] أي : باطل ، وقوله تعالى : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ 71 \ 28 ] أي : هلاكا ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أنه جل وعلا ضرب لكل منهم الأمثال ، وأنه تبرهم كلهم تتبيرا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع .

    أما ضربه الأمثال للكفار ، فقد ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " إبراهيم " : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال [ 14 \ 44 - 45 ] . وأما تتبيره جميع الأمم لتكذيبها رسلها ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف " : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] وقوله في " الزخرف " : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] وقوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث الآية [ 23 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع الأمم كذبوا رسلهم ، وأن الله أهلكهم بسبب ذلك ، وقد بين جل وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم ، وذلك في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .

    ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 148 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم ، لم يبين فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضا لهذه الأمة الكريمة التي هي آخر الأمم في هذا القرآن ، كما ضربها لغيرهم من الأمم ، ولكنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه [ ص: 56 ] ضرب لهذه الأمة الأمثال في هذا القرآن العظيم ، ليتفكروا بسببها ، وبين أنها لا يعقلها إلا أهل العلم ، وأن الله يهدي بها قوما ، ويضل بها آخرين .

    وهذه الآيات الدالة على ذلك كله ، فمنها قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون [ 39 \ 27 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] والآيات الدالة على ذلك كثيرة معلومة ، والعلم عند الله تعالى .
    قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا .

    أقسم جل وعلا في هذه الآية ، أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ، وهو أن الله أمطر عليها حجارة من سجيل ، وهي سذوم قرية قوم لوط ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أن الله أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل ، وأن الكفار أتوا عليها ، ومروا بها جاء موضحا في آيات أخرى .

    أما كون الله أمطر عليها الحجارة المذكورة ، فقد ذكره جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] وبين في سورة " الذاريات " ، أن السجيل المذكور نوع من الطين ، وذلك في قوله تعالى : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 - 33 ] ولا شك أن هذا الطين وقعه أليم ، شديد مهلك ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 173 ] وقوله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل الآية [ 15 \ 72 - 74 ] .

    [ ص: 57 ] وأما كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة ، فقد جاء موضحا أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] والمراد بأنهم مروا على قرية قوم لوط ، وأن مرورهم عليها ، ورؤيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع ، ولا مجيب ; لأن الله أهلك أهلها جميعا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطا ، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك ، وبذا وبخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب ; كقوله في آية " الصافات " المذكورة : أفلا تعقلون ، وكقوله تعالى في آية " الفرقان " هذه : أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ، فقوله : أفلم يكونوا يرونها توبيخ لهم على عدم الاعتبار ; كقوله في الآية الأخرى : أفلا تعقلون ، ومعلوم أنهم يمرون عليها مصبحين ، وبالليل وأنهم يرونها ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 74 - 76 ] يعني : أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم ، أي : بطريق مقيم ، يمرون فيه عليها في سفرهم إلى الشام ، وقوله تعالى : بل كانوا لا يرجون نشورا ، أي : لا يخافون بعثا ولا جزاء ، أو لا يرجون بعثا وثوابا .
    قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها . تقدم إيضاحه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون [ 14 \ 36 ] وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم ، بين في سورة " ص " أن بعضهم أمر به بعضا ، في قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم الآية [ 38 \ 6 ] .
    قوله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، أي : مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه ، إلى أن قال : قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول ، اه منه .

    [ ص: 58 ] وذكر صاحب " الدر المنثور " : أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأول هي سبب نزول هذه الآية ، ثم قال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي ، قال : كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه ، رموا به وعبدوا الآخر ، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديا فنادى : أيها الناس إن إلهكم قد ضل فالتمسوه ، فأنزل الله هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأخرج ابن منذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان .

    وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أرأيت من اتخذ إلهه هواه قال : لا يهوى شيئا إلا تبعه .

    وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : كلما هوى شيئا ركبه ، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ، ولا تقوى .

    وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك ؟ قال : نعم ، المنافق مشرك ، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله ، وإن المنافق عبد هواه ، ثم تلا هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا .

    وأخرج الطبراني عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع " ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " .

    وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية أن الواجب الذي يلزم العمل به ، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جل وعلا ، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه ، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه ، وإذن فكونه اتخذ إلهه هواه في غاية الوضوح .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •