تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 23 الأولىالأولى ... 1011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 450

الموضوع: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (376)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سورة محمد
    مدنية

    الاية5 إلى الاية25


    ( ( سيهديهم ويصلح بالهم ( 5 ) ويدخلهم الجنة عرفها لهم ( 6 ) )

    ( سيهديهم ) أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور ، وفي الآخرة إلى الدرجات ( ويصلح بالهم ) يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم .

    ( ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) أي بين لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطئون ولا يستدلون عليها أحدا كأنهم سكانها منذ خلقوا ، فيكون المؤمن أهدى إلى درجته ، وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا ، هذا قول أكثر المفسرين .

    وروى عطاء عن ابن عباس : " عرفها لهم " أي طيبها لهم ، من العرف ، وهو الريح الطيبة ، وطعام [ ص: 281 ] معرف أي : مطيب .
    ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ( 7 ) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ( 8 ) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ( 9 ) أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ( 10 ) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ( 11 ) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ( 12 ) )

    ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ) أي دينه ورسوله ( ينصركم ) على عدوكم ( ويثبت أقدامكم ) عند القتال .

    ( والذين كفروا فتعسا لهم ) قال ابن عباس : بعدا لهم . وقال أبو العالية : سقوطا لهم . وقال الضحاك : خيبة لهم . وقال ابن زيد : شقاء لهم . قال الفراء : هو نصب على المصدر ، على سبيل الدعاء . وقيل : في الدنيا العثرة ، وفي الآخرة التردي في النار . ويقال للعاثر : تعسا إذا لم يريدوا قيامه ، وضده لعا إذا أرادوا قيامه ( وأضل أعمالهم ) لأنها كانت في طاعة الشيطان .

    ( ذلك ) التعس والإضلال ( بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) .

    ثم خوف الكفار فقال : ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ) أي أهلكهم ( وللكافرين أمثالها ) إن لم يؤمنوا ، يتوعد مشركي مكة .

    ( ذلك ) الذي ذكرت ( بأن الله مولى الذين آمنوا ) وليهم وناصرهم ( وأن الكافرين لا مولى لهم ) لا ناصر لهم . ثم ذكر مآل الفريقين فقال :

    ( إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ) في الدنيا ( ويأكلون كما تأكل الأنعام ) ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ، وهم لاهون ساهون عما في غد ، قيل : المؤمن في الدنيا يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع ( والنار مثوى لهم ) .
    [ ص: 282 ] ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ( 13 ) أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ( 14 ) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ( 15 ) )

    ( ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) أي أخرجك أهلها ، قال ابن عباس : كم رجال هم أشد من أهل مكة ؟ يدل عليه قوله : ( أهلكناهم ) ولم يقل : أهلكناها ( فلا ناصر لهم ) قال ابن عباس : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : " أنت أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك " فأنزل الله هذه الآية .

    ( أفمن كان على بينة من ربه ) يقين من دينه ، محمد والمؤمنون ( كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) يعني عبادة الأوثان ، وهم أبو جهل والمشركون .

    ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) أي صفتها ( فيها أنهار من ماء غير آسن ) آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير " أسن " بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسنا ، وأجن يأجن ، أسونا وأجونا ، إذا تغير ( وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة ) [ لذيذة ] ( للشاربين ) لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ( وأنهار من عسل مصفى ) .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبيد الله بن عمر ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة " .

    قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر [ ص: 283 ] خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر .

    ( ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار ) أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ( وسقوا ماء حميما ) شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رءوسهم فإذا شربوه ( فقطع أمعاءهم ) فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معى .
    ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ( 16 ) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( 17 ) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ( 18 ) )

    ( ومنهم ) يعني من هؤلاء الكفار ( من يستمع إليك ) وهم المنافقون ، يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه ، تهاونا به وتغافلا ( حتى إذا خرجوا من عندك ) يعني فإذا خرجوا من عندك ( قالوا للذين أوتوا العلم ) من الصحابة : ( ماذا قال ) محمد ( آنفا ) ؟ يعني الآن ، هو من الائتناف ويقال : ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله .

    قال مقاتل : وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء : ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟

    قال ابن عباس : وقد سئلت فيمن سئل .

    ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ) فلم يؤمنوا ( واتبعوا أهواءهم ) في الكفر والنفاق .

    ( والذين اهتدوا ) يعني المؤمنين ( زادهم ) ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( هدى وآتاهم تقواهم ) وفقهم للعمل بما أمرهم به ، وهو التقوى ، قال سعيد بن جبير : وآتاهم ثواب تقواهم . ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ) [ ص: 284 ]

    أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا معمر بن راشد ، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيا ، أو فقرا منسيا ، أو مرضا مفسدا ، أو هرما مفندا ، أو موتا مجهزا ، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر " .

    قوله - عز وجل - : ( فقد جاء أشراطها ) أي أماراتها وعلاماتها ، واحدها : شرط ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا سهل بن سعد قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بأصبعيه هكذا ، بالوسطى والتي تلي الإبهام : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس قال : لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحدثنكم به أحد غيري ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثني هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث ، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال . وقال بعضهم : بل لم يسمع ، حتى إذا قضى حديثه ، قال : " أين السائل عن الساعة ؟ " قال : ها أنا يا رسول [ ص: 285 ] الله ، قال : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " .

    قوله - عز وجل - : ( فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ) فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة ؟ نظيره : " يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى " ( الفجر - 2323 ) .
    ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ( 19 ) )

    قوله - عز وجل - : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) قيل : الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره ، وقيل : معناه فاثبت عليه . وقال الحسين بن الفضل : فازدد علما على علمك . وقال أبو العالية وابن عيينة : هو متصل بما قبله معناه : إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله . وقيل : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، أن الممالك تبطل عند قيامها ، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله ( واستغفر لذنبك ) أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستن به أمته .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي بردة ، عن الأغر المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة " .

    قوله - عز وجل - : ( وللمؤمنين والمؤمنات ) هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) قال ابن عباس والضحاك : " متقلبكم " متصرفكم [ ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ، " ومثواكم " مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار .

    وقال مقاتل وابن جرير : " متقلبكم " منصرفكم ] لأشغالكم بالنهار ، " ومثواكم " مأواكم إلى مضاجعكم بالليل . [ ص: 286 ]

    وقال عكرمة : " متقلبكم " من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . " ومثواكم " مقامكم في الأرض .

    وقال ابن كيسان : " متقلبكم " من ظهر إلى بطن ، " ومثواكم " مقامكم في القبور .

    والمعنى : أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
    ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ( 20 ) طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ( 21 ) )

    ( ويقول الذين آمنوا ) حرصا منهم على الجهاد : ( لولا نزلت سورة ) تأمرنا بالجهاد ( فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ) قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشد القرآن على المنافقين ( رأيت الذين في قلوبهم مرض ) يعني المنافقين ( ينظرون إليك ) شزرا بتحديق شديد ، كراهية منهم للجهاد وجبنا عن لقاء العدو ( نظر المغشي عليه من الموت ) كما ينظر الشاخص بصره عند الموت ( فأولى لهم ) وعيد وتهديد ، ومعنى قولهم في التهديد : " أولى لك " أي : وليك وقاربك ما تكره .

    ثم قال : ( طاعة وقول معروف ) وهذا ابتداء محذوف الخبر ، تقديره : طاعة ، وقول معروف أمثل ، أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن .

    وقيل : مجازه : يقول هؤلاء المنافقون قبل نزول السورة المحكمة : طاعة ، رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة ، " وقول معروف " : حسن .

    وقيل : هو متصل بما قبله ، واللام في قوله : " لهم " بمعنى الباء ، مجازه : فأولى بهم طاعة الله ورسوله ، وقول معروف بالإجابة ، أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء .

    ( فإذا عزم الأمر ) أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزوما ( فلو صدقوا الله ) في إظهار الإيمان والطاعة ( لكان خيرا لهم ) وقيل : جواب " إذا " محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم .
    [ ص: 287 ] ( ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ( 22 ) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ( 23 ) أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( 24 ) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ( 25 ) )

    ( فهل عسيتم ) فلعلكم ( إن توليتم ) أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه ( أن تفسدوا في الأرض ) تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء ، وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام . ( وتقطعوا أرحامكم ) قرأ يعقوب : " وتقطعوا " بفتح التاء خفيف ، والآخرون بالتشديد " وتقطعوا " من التقطيع ، على التكثير ، لأجل الأرحام ، قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن ؟ وقال بعضهم : هو من الولاية . وقال المسيب بن شريك والفراء : يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم ، نزلت في بني أمية وبني هاشم ، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب " توليتم " بضم التاء والواو وكسر اللام ، يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم .

    ( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) عن الحق .

    ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه ، و " أم " بمعنى " بل " .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأني عقيل بن محمد ، أخبرنا المعافى بن زكريا ، أخبرنا محمد بن جرير ، حدثنا بشر ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " فقال شاب من أهل اليمن : بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به .

    ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم ) رجعوا كفارا ( من بعد ما تبين لهم الهدى ) قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . [ ص: 288 ]

    وقال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : هم المنافقون .

    ( الشيطان سول لهم ) زين لهم القبيح ( وأملى لهم ) قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله - عز وجل - عن نفسه أنه يفعل ذلك ، وتروى هذه القراءة عن يعقوب ، وقرأ الآخرون : " وأملى لهم " بفتح الألف ، أي : وأملى الشيطان لهم ، مد لهم في الأمل .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (377)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية4

    ( ( ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم ( 26 ) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ( 27 ) ذلك
    بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
    ( 28 ) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( 29 ) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 30 ) )

    ( ذلك بأنهم ) يعني المنافقين أو اليهود ( قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ) وهم المشركون ( سنطيعكم في بعض الأمر ) في التعاون على عداوة محمد - صلى الله عليه وسلم - والقعود عن الجهاد ، وكانوا يقولونه سرا فأخبر الله تعالى عنهم ( والله يعلم إسرارهم ) قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر : بكسر الهمزة ، على المصدر ، والباقون بفتحها على جمع السر .

    ( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك ) الضرب ( بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ) قال ابن عباس : بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ( وكرهوا رضوانه ) كرهوا ما فيه رضوان الله ، وهو الطاعة والإيمان . ( فأحبط أعمالهم ) .

    ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض ) يعني المنافقين ( أن لن يخرج الله أضغانهم ) لن يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرفوا نفاقهم ، واحدها : " ضغن " ، قال ابن عباس : حسدهم .

    ( ولو نشاء لأريناكهم ) أي لأعلمناكهم وعرفناكهم ( فلعرفتهم بسيماهم ) بعلامتهم ، [ ص: 289 ] قال الزجاج : المعنى : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها .

    قال أنس : ما خفي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين ، كان يعرفهم بسيماهم .

    ( ولتعرفنهم في لحن القول ) في معناه ومقصده .

    " واللحن " : وجهان صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لحن يلحن لحنا فهو لحن إذا فطن للشيء ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " .

    والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا فهو لاحن . والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته .

    والمعنى : إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم ، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عرفه بقوله ، ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته .

    ( والله يعلم أعمالكم ) .
    ( ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ( 31 ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ( 32 ) )

    ( ولنبلونكم ) ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ( حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) أي : علم الوجود ، يريد : حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره ( ونبلو أخباركم ) أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال ، ولا يصبر على الجهاد .

    وقرأ أبو بكر عن عاصم : " وليبلونكم حتى يعلم " ، ويبلو بالياء فيهن ، لقوله تعالى : [ " والله يعلم أعمالكم " ، وقرأ الآخرون بالنون فيهن ، لقوله تعالى ] " ولو نشاء لأريناكهم " ، وقرأ يعقوب : " ونبلوا " ساكنة الواو ، ردا على قوله : " ولنبلونكم " وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله : " حتى نعلم " .

    ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا ) إنما يضرون أنفسهم ( وسيحبط أعمالهم ) فلا يرون لها ثوابا في الآخرة ، [ ص: 290 ] قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : هم المطعمون يوم بدر ، نظيرها قوله - عز وجل - : " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله " ( الأنفال - 3636 ) الآية .
    ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ( 33 ) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ( 34 ) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ( 35 ) إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ( 36 ) )

    ( ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) قال عطاء : بالشك والنفاق ، وقال الكلبي : بالرياء والسمعة . وقال الحسن : بالمعاصي والكبائر .

    وقال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال .

    وقال مقاتل : لا تمنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبطلوا أعمالكم ، نزلت في بني أسد ، وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى .

    ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ) قيل : هم أصحاب القليب . وحكمها عام .

    ( فلا تهنوا ) لا تضعفوا ( وتدعوا إلى السلم ) أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء ، منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح ، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا ( وأنتم الأعلون ) الغالبون ، قال الكلبي : آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ( والله معكم ) بالعون والنصرة ( ولن يتركم أعمالكم ) لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وترا وترة : إذا نقص حقه ، قال ابن عباس ، وقتادة ، ومقاتل ، والضحاك : لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها . ثم حض على طلب الآخرة فقال :

    ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) باطل وغرور ( وإن تؤمنوا وتتقوا ) الفواحش ، [ ص: 291 ] ( يؤتكم أجوركم ) جزاء أعمالكم في الآخرة ( ولا يسألكم ) ربكم ( أموالكم ) لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة ، نظيره قوله : " ما أريد منهم من رزق " ( الذاريات - 57 ) ، وقيل : لا يسألكم محمد أموالكم ، نظيره : " قل ما أسألكم عليه من أجر " ( الفرقان - 57 ) .

    وقيل : معنى الآية : لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات ، إنما يسألانكم غيضا من فيض ، ربع العشر فطيبوا بها نفسا . وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة ، يدل عليه سياق الآية :
    ( ( إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ( 37 ) ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( 38 ) )

    ( إن يسألكموها فيحفكم ) أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها ، يقال : أحفى فلان فلانا إذا جهده ، وألحف عليه بالمسألة .

    ( تبخلوا ) بها فلا تعطوها .

    ( ويخرج أضغانكم ) بغضكم وعداوتكم ، قال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان . ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ) يعني إخراج ما فرض الله عليكم ( فمنكم من يبخل ) بما فرض عليه من الزكاة ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني ) عن صدقاتكم وطاعتكم ( وأنتم الفقراء ) إليه وإلى ما عنده من الخير . ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم .

    قال الكلبي : هم كندة والنخع ، وقال الحسن : هم العجم ، وقال عكرمة : فارس والروم .

    أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس ، أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا مسلم بن خالد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن [ ص: 292 ] أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " ، قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال : " هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " .
    سُورَةُ الْفَتْحِ

    مَدَنِيَّةٌ


    ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( 1 ) )

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا )

    أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُكَ ، قَالَ عُمَرُ : فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ النَّاسِ ، وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ ، فَمَا لَبِثْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَرَأَ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " .

    أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَفِيدُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَمْزَةَ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ : نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " إِلَى آخَرَ الْآيَةِ ، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَصْحَابُهُ مُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ ، فَقَالَ : " نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا " ، فَلَمَّا تَلَاهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : هَنِيئًا مَرِيئًا لَكَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا : " لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " ، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ . [ ص: 296 ] اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْفَتْحِ : رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : فَتْحُ خَيْبَرَ .

    وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّهُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ .

    وَمَعْنَى الْفَتْحِ فَتْحُ الْمُنْغَلِقِ ، وَالصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ كَانَ مُتَعَذِّرًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - . وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، قَالَ : الْحُدَيْبِيَةُ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا ، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عَشَرَةَ مِائَةٍ ، وَالْحُدَيْبِيَ ةُ بِئْرٌ ، فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكْنَاهَا غَيْرَ بَعِيدٍ ، ثُمَّ إِنَّهَا أَصْدَرَتْنَا مَا شِئْنَا نَحْنُ وَرِكَابُنَا .

    وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، قَالَ : فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ، غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَأُطْعِمُوا نَخْلَ خَيْبَرَ ، وَبَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمَجُوسِ .

    قَالَ الزَّهْرِيُّ : لَمْ يَكُنْ فَتْحٌ أَعْظَمَ مِنْ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِين َ فَسَمِعُوا كَلَامَهُمْ فَتَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ ، أَسْلَمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَكَثُرَ بِهِمْ سَوَادُ الْإِسْلَامِ .

    قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " ، أَيْ قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : إِنَّا [ ص: 297 ] فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا بِغَيْرِ قِتَالٍ ، وَكَانَ الصُّلْحُ مِنَ الْفَتْحِ .
    ( ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ( 2 ) )

    قيل : اللام في قوله : ( ليغفر ) لام كي ، معناه : إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح .

    وقال الحسين بن الفضل : هو مردود إلى قوله : " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ( محمد - 19 ) " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " و " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية .

    وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره " ( النصر : 1 - 3 ) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة ، وما تأخر إلى وقت نزول هذه السورة .

    وقيل : ( وما تأخر ) مما يكون ، وهذا على طريقة من يجوز الصغائر على الأنبياء . [ ص: 298 ]

    وقال سفيان الثوري : ) ما تقدم ( مما عملت في الجاهلية ) وما تأخر ( كل شيء لم تعمله ، ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد ، كما يقال : أعطى من رآه ومن لم يره ، وضرب من لقيه ومن لم يلقه .

    وقال عطاء الخراساني : ) ما تقدم من ذنبك ( يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك ) وما تأخر ( ذنوب أمتك بدعوتك .

    ) ويتم نعمته عليك ( بالنبوة والحكمة ) ويهديك صراطا مستقيما ( أي يثبتك عليه ، والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام . وقيل : ويهديك أي يهدي بك .
    ( ( وينصرك الله نصرا عزيزا ( 3 ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ( 4 ) )

    ( وينصرك الله نصرا عزيزا ) غالبا . وقيل : معزا .

    ( هو الذي أنزل السكينة ) الطمأنينة والوقار ( في قلوب المؤمنين ) لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) .

    قال ابن عباس : بعث الله رسوله بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد ، حتى أكمل لهم دينهم ، فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم .

    وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم .

    قال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق .

    ( ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (378)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية5 إلى الاية20


    [ ص: 299 ] ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ( 5 ) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ( 6 ) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما ( 7 ) إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 8 ) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ( 9 ) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ( 10 ) (

    ) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ) وقد ذكرنا عن أنس أن الصحابة قالوا لما نزل " ليغفر لك الله " : هنيئا مريئا فما يفعل بنا فنزل : " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات " الآية .

    ) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) أهل النفاق بالمدينة وأهل الشرك بمكة ) الظانين بالله ظن السوء ) أن لن ينصر محمدا والمؤمنين ) عليهم دائرة السوء ) بالعذاب والهلاك ) وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ) .

    ) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 8 ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه ) أي تعينوه وتنصروه ) وتوقروه ) تعظموه وتفخموه ، هذه الكنايات راجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاهنا وقف ) وتسبحوه ) أي تسبحوا الله يريد تصلوا له ) بكرة وأصيلا ) بالغداة والعشي ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " ليؤمنوا ، ويعزروه ، ويوقروه ، ويسبحوه " بالياء فيهن لقوله : في " قلوب المؤمنين " ، وقرأ الآخرون بالتاء فيهن .

    ) إن الذين يبايعونك ) يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا ) إنما يبايعون الله ) لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن يزيد بن أبي عبيد قال : قلت [ ص: 300 ] لسلمة بن الأكوع : على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ؟ قال : على الموت .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن خالد ، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج ، عن معقل بن يسار ، قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر .

    قال أبو عيسى : معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت ، أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل ، وبايعه آخرون ، وقالوا : لا نفر .

    ) يد الله فوق أيديهم ) قال ابن عباس - رضي الله عنه - ما : يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم .

    وقال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبايعونه ، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة .

    قال الكلبي : نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة .

    ) فمن نكث ) نقض البيعة ) فإنما ينكث على نفسه ) عليه وباله ) ومن أوفى بما عاهد عليه الله ) ثبت على البيعة ) فسيؤتيه ) قرأ أهل العراق " فسيؤتيه " بالياء ، وقرأ الآخرون بالنون ) أجرا عظيما ) وهو الجنة .
    ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا ( 11 )

    ( سيقول لك المخلفون من الأعراب ) قال ابن عباس ، ومجاهد : يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة ، وأشجع وأسلم ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، [ ص: 301 ] فتثاقل عنه كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل ، فأنزل الله تعالى فيهم : " سيقول لك المخلفون من الأعراب " يعني الذين خلفهم الله - عز وجل - عن صحبتك ، إذا انصرفت إليهم فعاتبهم على التخلف .

    ) شغلتنا أموالنا وأهلونا ) يعني النساء والذراري ، أي لم يكن لنا من يخلفنا فيهم ) فاستغفر لنا ) تخلفنا عنك ، فكذبهم الله - عز وجل - في اعتذارهم ، فقال :

    ) يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) من أمر الاستغفار ، فإنهم لا يبالون استغفر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لا .

    ) قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ) [ سوءا ] ) أو أراد بكم نفعا ) قرأ حمزة والكسائي : " ضرا " بضم الضاد ، وقرأ الآخرون بفتحها لأنه قابله بالنفع والنفع ضد الضر ، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع عنهم الضر ، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم ، فأخبرهم أنه : إن أراد بهم شيئا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه . ) بل كان الله بما تعملون خبيرا ) .
    ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ( 12 ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ( 13 ( ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما ( 14 )

    ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا ) أي ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون ) وزين ذلك في قلوبكم ) زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم ) وظننتم ظن السوء ) وذلك أنهم قالوا : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس ، فلا يرجعون ، فأين تذهبون معه ، انتظروا ما يكون من أمرهم . ) وكنتم قوما بورا ) هلكى لا تصلحون لخير .

    ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ( 13 ( للكافرين سعيرا ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما
    ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ( 15 ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ( 16 ) [ ص: 302 ]

    ( سيقول المخلفون ) يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية ( إذا انطلقتم ) سرتم وذهبتم [ أيها المؤمنون ] ( إلى مغانم لتأخذوها ) يعني غنائم خيبر ( ذرونا نتبعكم ) إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها ، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة إذ انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئا .

    قال الله تعالى : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) قرأ حمزة والكسائي : " كلم الله " بغير ألف جمع كلمة ، وقرأ الآخرون : " كلام الله " ، يريدون أن يغيروا مواعيد الله تعالى لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة .

    وقال مقاتل : يعني أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يسير منهم أحد .

    وقال ابن زيد : هو قول الله - عز وجل - : " فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا " ( التوبة - 83 ) ، والأول أصوب ، وعليه عامة أهل التأويل .

    ) قل لن تتبعونا ) إلى خيبر ) كذلكم قال الله من قبل ) أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ) فسيقولون بل تحسدوننا ) أي يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم ) بل كانوا لا يفقهون ) لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين ) إلا قليلا ) منهم وهو من صدق الله والرسول .

    ) قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، [ ص: 303 ] [ وعطاء ] : هم أهل فارس . وقال كعب : هم الروم ، وقال الحسن : فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري ، ومقاتل ، وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب . .

    قال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنهم هم .

    وقال ابن جريج : دعاهم عمر - رضي الله عنه - إلى قتال فارس .

    وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد .

    ) تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ) يعني الجنة ) وإن تتولوا ) [ تعرضوا ] ) كما توليتم من قبل ) عام الحديبية ) يعذبكم عذابا أليما ) وهو النار ، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله ؟ .
    ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما ( 17 )

    فأنزل الله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ) [ يعني في التخلف عن الجهاد ] ) ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما ) [ ص: 304 ] قرأ أهل المدينة والشام " ندخله " و " نعذبه " بالنون فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء لقوله : ) ومن يطع الله ) .
    ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ( 18 )

    ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ) بالحديبية على أن يناجزوا قريشا ولا يفروا ) تحت الشجرة ) وكانت سمرة ، قال سعيد بن المسيب : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها .

    وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ؟ فجعل بعضهم يقول : هاهنا ، وبعضهم : هاهنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، قد ذهبت الشجرة .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية : " أنتم خير أهل الأرض " ، وكنا ألفا وأربعمائة ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يسأل : كم كانوا يوم الحديبية ؟ قال : كنا أربع عشرة مائة فبايعناه ، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره .

    وروى سالم عن جابر قال : كنا خمس عشرة مائة . [ ص: 305 ]

    وقال عبد الله بن أبي أوفى : كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة ، وكانت أسلم ثمن المهاجرين .

    وكان سبب هذه البيعة - على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أبي أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له ، يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني : عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه ، ثم أردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة .

    وكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت ، قال بكر بن الأشج : بايعوه على الموت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل على ما استطعتم " .

    وقال جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار : لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر ، فكان أول من بايع بيعة الرضوان من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا جد بن قيس أخو بني سلمة ، قال جابر : لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مستترا بها من الناس ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا علي بن أحمد بن نضرويه ، حدثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الجوني ، حدثنا [ ص: 306 ] محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " .

    قوله - عز وجل - : ( فعلم ما في قلوبهم ) من الصدق والوفاء ( فأنزل السكينة ) الطمأنينة والرضا ( عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) يعني فتح خيبر .
    ( ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ( 19 ) وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما ( 20 ) )

    ( ( ومغانم كثيرة يأخذونها ) من أموال يهود خيبر ، وكانت خيبر ذات عقار وأموال ، فاقتسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم ( وكان الله عزيزا حكيما ) .

    ( وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ) وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة ( فعجل لكم هذه ) يعني خيبر ( وكف أيدي الناس عنكم ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة ، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح ( ولتكون ) كفهم وسلامتكم ( آية للمؤمنين ) على صدقك ويعلموا أن الله هو المتولي حياطتهم وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم ( ويهديكم صراطا مستقيما ) يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية ، وفتح خيبر وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرم ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس بن مالك [ ص: 307 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغير بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم قال : فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم ، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد - والله - محمد والخميس ، فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الله أكبر ، الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا إياس بن سلمة ، حدثني أبي قال : . . . خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :
    تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا
    فثبت الأقدام إن لاقينا [ وأنزلن سكينة علينا
    ]

    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من هذا ؟ " فقال : أنا عامر ، قال : " غفر لك ربك " ، قال : وما استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد ، قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله لولا متعتنا بعامر ، قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :
    قد علمت [ خيبر ] أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
    إذا الحروب أقبلت تلهب


    قال : وبرز له عمي عامر ، فقال :
    قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر


    قال : فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له ، فرجع سيفه [ على نفسه ] فقطع أكحله ، وكانت فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي ، فقلت : يا رسول [ ص: 308 ] الله بطل عمل عامر قتل نفسه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال ذلك " ؟ قلت : ناس من أصحابك ، قال : " كذب من قال ذلك ، بل له أجره مرتين " ، ثم أرسلني إلى علي - رضي الله عنه - - وهو أرمد - فقال : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فأتيت عليا - رضي الله عنه - فجئت به أقوده وهو أرمد ، حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبصق في عينيه فبرأ ، وأعطاه الراية ،
    وخرج مرحب فقال :
    قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
    إذا الحروب أقبلت تلهب


    فقال علي - رضي الله عنه - :
    أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات [ كريه المنظره ]
    أوفيهم بالصاع كيل السندره

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (379)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية21 إلى الاية25

    قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه .

    وروى حديث خيبر جماعة : سهل بن سعد ، وأنس ، وأبو هريرة ، يزيدون وينقصون ، وفيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر - رضي الله عنه - راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ، ثم رجع فأخذها عمر - رضي الله عنه - فقاتل قتالا شديدا ، هو أشد من القتال الأول ، ثم رجع ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه " ، فدعا علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال : " امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك " ، فأتى مدينة خيبر ، فخرج مرحب ، صاحب الحصن ، وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز ، فبرز إليه علي فضربه فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى أخذ السيف في الأضراس ، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر ، يرتجز فخرج إليه الزبير بن العوام ، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب : أيقتل ابني يا رسول الله ؟ قال : " بل ابنك يقتله إن شاء الله " ، ثم التقيا فقتله الزبير ، ثم لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتح الحصون ، ويقتل المقاتلة ويسبي الذرية ، ويحوز الأموال .

    قال محمد بن إسحاق : وكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم ، وعنده قتل محمود بن سلمة ، [ ص: 309 ] ألقت عليه اليهود حجرا فقتله ، ثم فتح العموص ، حصن ابن أبي الحقيق ، فأصاب منها سبايا ، منهم صفية بنت حيي بن أخطب ، جاء بلال بها وبأخرى معها ، فمر بهما على قتلى من قتلى يهود ، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها ، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أعزبوا عني هذه الشيطانة " ، وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطفاها لنفسه ، وقال رسول الله لبلال ، لما رأى من تلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما " ، وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها ، فعرضت رؤياها على زوجها ، فقال : ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا ، فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها وبها أثر منها فسألها ما هو ؟ فأخبرته هذا الخبر ، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزوجها كنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير فسأله ، فجحده أن يكون يعلم مكانه ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل من اليهود فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أنقتلك ؟ قال : نعم ؟ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر ، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس ، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، وركب أبو طلحة ، وأنا رديف أبي طلحة ، فأجرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما دخل القرية قال : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ، قالها ثلاثا ، وخرج القوم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد قال عبد العزيز ، وقال بعض أصحابنا : والخميس يعني : الجيش قال : فأصبناها عنوة ، فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا نبي الله [ أعطني جارية من السبي ، قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ] أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ، لا تصلح إلا لك ، قال : " ادعوه بها " ، فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خذ جارية من السبي غيرها " ، قال : فأعتقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها ، [ ص: 310 ] فقال له ثابت : يا أبا حمزة ما أصدقها ؟ قال : نفسها ، أعتقها وتزوجها ، حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل ، فأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عروسا ، فقال : من كان عنده شيء فليجئ به ، وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الآخر يجيء بالسمن ، قال : وأحسبه قد ذكر السويق ، قال : فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد الشيباني قال : سمعت ابن أبي أوفى يقول : أصابتنا مجاعة ليالي خيبر ، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية فانتحرناها ، فلما غلت القدور نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكفئوا القدور ولا تطعموا من لحوم الحمر شيئا ، قال عبد الله : فقلنا إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تخمس ، وقال آخرون : حرمها البتة وسألت سعيد بن جبير فقال : حرمها البتة .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي ، أخبرنا خالد بن الحارث ، حدثنا شعبة ، عن هشام بن زيد ، عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة ، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك ، قال : " ما كان الله ليسلطك على ذلك ، أو قال : علي " ، قال : قالوا ألا نقتلها ؟ قال : لا . قال : فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    وقال محمد بن إسماعيل : قال يونس ، عن الزهري قال عروة ، قالت عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه : " يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر ، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا حرمي ، أخبرنا شعبة قال : أخبرني عمارة ، عن عكرمة ، [ ص: 311 ] عن عائشة قالت : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا موسى بن عقبة ، أخبرني نافع ، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها ، وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين ، فسأل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نقركم على ذلك ما شئنا " . فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء .

    قال محمد بن إسحاق : فلما سمع أهل فدك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن يسيرهم ويحقن لهم دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل . ثم إن أهل خيبر سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعاملهم الأموال على النصف ، ففعل على أنا إذا شئنا أخرجناكم ، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك ، فكانت خيبر للمسلمين وكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب .

    فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية ، وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسممت سائر الشاة ، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تناول الذراع فأخذها فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، وقد أخذ منها كما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلفظها ، ثم قال : " إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم " ، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال : " ما حملك على ذلك ؟ " قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيا فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل .

    قال : ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعوده في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : [ ص: 312 ] " يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " ، وكان المسلمون يرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة .

    ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ( 21 ) ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ( 22 ) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ( 23 ) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ( 24 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وأخرى لم تقدروا عليها ) أي وعدكم الله فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ( قد أحاط الله بها ) حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى تأخذوها ، قال ابن عباس : علم الله أنه يفتحها لكم .

    واختلفوا فيها ، فقال ابن عباس ، والحسن ومقاتل : هي فارس والروم ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم ، بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام .

    وقال الضحاك وابن زيد : هي خيبر ، وعدها الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يصيبها ، ولم يكونوا يرجونها .

    وقال قتادة : هي مكة . وقال عكرمة : حنين . وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم .

    ( وكان الله على كل شيء قديرا ) .

    ( ولو قاتلكم الذين كفروا ) يعني : أسدا ، وغطفان ، وأهل خيبر ، ( لولوا الأدبار ) [ لانهزموا ] ( ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ) .

    ( سنة الله التي قد خلت من قبل ) أي كسنة الله في نصر أوليائه وقهر أعدائه ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) .

    قوله - عز وجل - : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ) قرأ أبو عمرو بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، واختلفوا في هؤلاء : [ ص: 313 ]

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم : أن ثمانين رجلا من أهل مكة ، هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين يريدون غدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فأخذهم سلما فاستحياهم ، فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية : " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " .

    قال عبد الله بن مغفل المزني : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره ، وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح ، فخرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جئتم في عهد ؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا ؟ " فقالوا : اللهم لا فخلى سبيلهم ، [ فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية ] .
    ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ( 25 ) )

    قوله - عز وجل - : ( هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ) الآية . روى الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، يريدون زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه سبعين بدنة ، والناس سبعمائة رجل ، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة ، وبعث عينا له من خزاعة يخبره عن قريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان ، أتاه عينة الخزاعي وقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا ، وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أشيروا علي أيها الناس ، أترون [ ص: 314 ] أن أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم ؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين ، وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ؟ أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " .

    فقال أبو بكر : يا رسول الله إنما خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حربا ، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه .

    فقال : " امضوا على اسم الله " ، فنفروا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " ، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : " خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ، ثم قال : " والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه ، ثم زجرها فوثبت .

    قال : فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، وشكا الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العطش ، فنزع سهما من كنانته وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له ناجية بن عمير ، وهو سائق بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل في البئر فغرزه في جوفه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .

    فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " .

    فقال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا ، قال : إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، قال : فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء ، وقال ذو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول .

    قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - . فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال : أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى ، قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : [ ص: 315 ] لا قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته ، قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوا من قوله لبديل . فقال عروة عند ذلك : يا محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لأرى وجوها وأشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك .

    فقال له أبو بكر الصديق : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ .

    فقال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، فقال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .

    قال : وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك .

    وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء " .

    ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فوالله - ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه ، فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظرة تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .

    فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، [ ص: 316 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له " ، فبعثت له واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ؟

    فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت .

    ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل ، صد الهدي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، فقالوا له : اجلس إنما أنت رجل أعرابي لا علم لك ، فغضب الحليس عند ذلك ، فقال : يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له ، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد ، فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به .

    فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مكرز وهو رجل فاجر ، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، وقال عكرمة : فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قد سهل لكم من أمركم .

    قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات نكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم .

    فقال سهيل : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب .

    فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم .

    فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " اكتب باسمك اللهم ، ثم قال : اكتب : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

    فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله .

    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب يا علي : محمد بن عبد الله
    . [ ص: 317 ]

    قال الزهري : وذلك لقوله : لا يسألون خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو ، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف به ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب إنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهيل : وعلى أنه لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟

    وروى أبو إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيه قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن أنت محمد بن عبد الله ، قال : أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ، ثم قال لعلي - رضي الله عنه - : امح رسول الله ، قال : لا والله لا أمحوك أبدا ، قال : " فأرنيه " ، فأراه إياه ، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ، وفي روايته : فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب وليس يحسن أن يكتب ، فكتب : هذا ما قضى محمد بن عبد الله .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (380)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفَتْحِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية26 إلى الاية29


    قال البراء : صالح على ثلاثة أشياء : على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه ، وعلى أن يدخلها من قابل ، ويقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه .

    وروى ثابت عن أنس : أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشترطوا : أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال : " نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا " .

    رجعنا إلى حديث الزهري قال : فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، يرسف في قيوده قد انفلت وخرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فوالله إذن لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأجره لي ، فقال : فما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل ، ثم جعل سهيل يجره ليرده إلى قريش ، قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله .

    وفي الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا جندل احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا وصلحا ، وإنا لا نغدر ، فوثب عمر يمشي إلى جنب أبي جندل ، ويقول : اصبر فإنما هم المشركون ودم أحدهم كدم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، قال عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه . [ ص: 318 ]

    وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون ، وزادهم أمر أبي جندل شرا إلى ما بهم .

    قال عمر : [ والله ] ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ .

    قال الزهري في حديثه عن عروة عن [ مروان ] والمسور ، ورواه أبو وائل عن سهل بن حنيف قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله ليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا قال : فإنك آتيه ومطوف به .

    قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .

    قال : فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : قوموا فانحروا ، ثم احلقوا ، قال : فوالله ما قام رجل منهم ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم أن يقتل بعضا غما .

    قال ابن عمر وابن عباس : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين ؟ قال : يرحم الله المحلقين ، قالوا : يا رسول الله والمقصرين ؟ قال : [ ص: 319 ] والمقصرين ، قالوا : يا رسول الله فلم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال : لأنهم لم يشكوا . قال ابن عمر : وذلك لأنه تربص قوم وقالوا لعلنا نطوف بالبيت .

    قال ابن عباس : وأهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ المشركين بذلك .

    وقال الزهري في حديثه : ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى " ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " ، حتى بلغ " بعصم الكوافر " ( الممتحنة - 10 ) ، فطلق عمر - رضي الله عنه - يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية ، قال : فنهاهم أن يردوا النساء وأمر برد الصداق .

    قال : ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فجاءه أبو بصير عتبة بن أسيد ، رجل من قريش وهو مسلم ، وكان ممن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثا في طلبه رجلا من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالا العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصح في ديننا الغدر ، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، ثم دفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيدا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت به ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأخذه وعلاه به فضربه حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه : لقد رأى هذا ذعرا ، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ويلك ما لك ؟ قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول ، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا نبي الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه أحد ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وبلغ المسلمين الذين كانوا حبسوا بمكة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد ، فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير ، حتى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقدموا عليه بالمدينة ، فأنزل الله تعالى : " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا " حتى بلغ " حمية الجاهلية " ، [ ص: 320 ] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينه وبين البيت .

    قال الله - عز وجل - : ( هم الذين كفروا ) يعني كفار مكة ( وصدوكم عن المسجد الحرام ) أن تطوفوا به ( والهدي ) أي : وصدوا الهدي ، وهي البدن التي ساقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت سبعين بدنة ( معكوفا ) محبوسا ، يقال : عكفته عكفا إذا حبسته وعكوفا لازم ، كما يقال : رجع رجعا ورجوعا ( أن يبلغ محله ) منحره وحيث يحل نحره يعني الحرم ( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ) يعني المستضعفين بمكة ( لم تعلموهم ) لم تعرفوهم ( أن تطئوهم ) بالقتل وتوقعوا بهم ( فتصيبكم منهم معرة بغير علم ) قال ابن زيد : معرة إثم . وقال ابن إسحاق : غرم الدية .

    وقيل : الكفارة لأن الله - عز وجل - أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدية ، فقال : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " ( النساء - 92 ) .

    وقيل : هو أن المشركين يعيبونكم ويقولون قتلوا أهل دينهم ، والمعرة : المشقة ، يقول : لولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم فيلزمكم بهم كفارة أو يلحقكم سبة . وجواب لولا محذوف ، تقديره : لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك .

    ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) فاللام في " ليدخل " متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام ، يعني : حال بينكم وبين ذلك ليدخل الله في رحمته في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن تدخلوها ( لو تزيلوا ) لو تميزوا يعني المؤمنين من الكفار ( لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) بالسبي والقتل بأيديكم . [ ص: 321 ]

    وقال بعض أهل العلم : " لعذبنا " جواب لكلامين أحدهما : " لولا رجال " ، والثاني : " لو تزيلوا " ، ثم قال : ( ليدخل الله في رحمته من يشاء ) يعني المؤمنين والمؤمنات .

    ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما ( 26 ) )

    ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية ) حين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البيت ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأنكروا محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والحمية : الأنفة ، يقال : فلان ذو حمية إذا كان ذا غضب وأنفة .

    قال مقاتل : قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخلون علينا ، [ فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا ] على رغم أنفنا ، واللات والعزى لا يدخلونها علينا ، فهذه " حمية الجاهلية " ، التي دخلت قلوبهم .

    ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) حتى لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فيعصوا الله في قتالهم ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، والسدي ، وابن زيد ، وأكثر المفسرين : كلمة التقوى " لا إله إلا الله " .

    وروي عن أبي بن كعب مرفوعا .

    وقال علي وابن عمر : " كلمة التقوى " لا إله إلا الله والله أكبر .

    وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . [ ص: 322 ]

    وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله .

    وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم .

    ( وكانوا أحق بها ) من كفار مكة ( وأهلها ) أي وكانوا أهلها في علم الله ، لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير ( وكان الله بكل شيء عليما ) .
    ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ( 27 ) )

    ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أري في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رءوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ، فأنزل الله هذه الآية .

    وروي عن مجمع بن جارية الأنصاري : قال شهدنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، [ فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ] واقفا على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " ، فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : " نعم والذي نفسي بيده " .

    ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره :

    " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ، أخبر أن الرؤية التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . [ ص: 323 ]

    قوله : ( لتدخلن ) يعني وقال : لتدخلن . وقال ابن كيسان : " لتدخلن " من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدبا بآداب الله ، حيث قال له : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " ( الكهف - 23 ) .

    وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى إذ ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : " إن كنتم مؤمنين " .

    وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله .

    وقيل الاستثناء واقع على الأمن لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت .

    ( محلقين رءوسكم ) كلها ( ومقصرين ) بأخذ بعض شعورها ( لا تخافون فعلم ما لم تعلموا ) أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " الآية ( الفتح - 25 ) . ( فجعل من دون ذلك ) أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ( فتحا قريبا ) وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .
    ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ( 28 ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ( 29 ) )

    ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) على أنك نبي صادق فيما تخبر .

    ( محمد رسول الله ) تم الكلام هاهنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئا : ( والذين معه ) فالواو فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ( أشداء على الكفار ) غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ( رحماء بينهم ) متعاطفون متوادون بعضهم [ ص: 324 ] لبعض ، كالولد مع الوالد ، كما قال : " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " : ( المائدة - 54 ) : ( تراهم ركعا سجدا ) أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ( يبتغون فضلا من الله ) أن يدخلهم الجنة ( ورضوانا ) أن يرضى عنهم ( سيماهم ) أي علامتهم ( في وجوههم من أثر السجود ) اختلفوا في هذه السيما : فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر .

    وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون لكنه سيماء الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به .

    وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر .

    وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى .

    قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه .

    قال أبو العالية : إنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب .

    وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .

    ( ذلك ) الذي ذكرت ( مثلهم ) صفتهم ( في التوراة ) هاهنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : ( ومثلهم ) صفتهم ( في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر : " شطأه " بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد أفراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا أفرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . [ ص: 325 ]

    وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى .

    قوله : ( فآزره ) قرأ ابن عامر : " فأزره " بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ( فاستغلظ ) غلظ ذلك الزرع ( فاستوى ) أي تم وتلاحق نباته وقام ( على سوقه ) أصوله ( يعجب الزراع ) أعجب ذلك زراعه .

    هذا مثل ضربه الله - عز وجل - لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل [ أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون .

    قال قتادة : مثل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل ] مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

    وقيل : " الزرع " محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و " الشطء " : أصحابه والمؤمنون .

    وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " محمد رسول الله والذين معه " : أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، " أشداء على الكفار " عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، " رحماء بينهم " عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، " تراهم ركعا سجدا " علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، " يبتغون فضلا من الله " بقية العشرة المبشرين بالجنة .

    وقيل : " كمثل زرع " محمد ، " أخرج شطأه " أبو بكر " فآزره " عمر " فاستغلظ " عثمان ، للإسلام " فاستوى على سوقه " علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، " يعجب الزراع " قال : هم المؤمنون .

    ( ليغيظ بهم الكفار ) قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سرا بعد اليوم .

    حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاء ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن [ ص: 326 ] بن عوف في الجنة ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة " .

    حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أبي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " .

    ورواه معمر عن قتادة مرسلا وفيه : " وأقضاهم علي " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء ، حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، فقلت : من الرجال ؟ فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم .

    أخبرنا أبو منصور عبد الملك وأبو الفتح نصر ، ابنا علي بن أحمد بن منصور ومحمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قالا حدثنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أخبرنا الحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل هو ابن يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي عن أبيه عن سلمة عن أبي الزعراء عن ابن مسعود [ ص: 327 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد عبد الله بن مسعود " .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدا ارتج وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعثمان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " .

    أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق .

    حدثنا أبو المظفر التميمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان ، أخبرنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن مسلم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " .

    قوله - عز وجل - : ( ليغيظ بهم الكفار ) أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين . [ ص: 328 ]

    قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية .

    أخبرنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر الفضل بن إسماعيل بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .

    حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أخبرنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إشكاب ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوما يتنحلون حبك يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، [ ص: 329 ] نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " ، في إسناد هذا الحديث نظر .

    قول الله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ) قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم على معنى الشطء لا على لفظه ، ولذلك لم يقل : " منه " ( مغفرة وأجرا عظيما ) يعني الجنة .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (381)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية9


    سُورَةُ الْحُجُرَاتِ

    مَدَنِيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 1 ) )

    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) قَرَأَ يَعْقُوبُ : " لَا تَقَدَّمُوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ ، مِنَ التَّقَدُّمِ أَيْ لَا تَتَقَدَّمُوا ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ ، مِنَ التَّقْدِيمِ ، وَهُوَ لَازِمٌ بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ ، [ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ] : تَقُولُ الْعَرَبُ : لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ ، أَيْ لَا تُعَجِّلْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ ، وَالْمَعْنَى : بَيْنَ الْيَدَيْنِ الْأَمَامُ . وَالْقُدَّامُ : أَيْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا . وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ : رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ فِي الذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، أَيْ لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ : خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النَّحْرِ ، قَالَ : " إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكَ [ ص: 334 ] فِي شَيْءٍ " .

    وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ ، أَيْ : لَا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ ، أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ ، قَالَ عُمَرُ : بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي ، قَالَ عُمَرُ : مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا ، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " حَتَّى انْقَضَتْ .

    وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلِيكَةَ ، قَالَ فَنَزَلَتْ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ " إِلَى قَوْلِهِ : " أَجْرٌ عَظِيمٌ " ، وَزَادَ : قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِيهِ ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ .

    وَقَالَ قَتَادَةُ : نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ كَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا ، أَوْ صُنِعَ فِي كَذَا وَكَذَا ، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ .

    وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ .

    وَقَالَ الضَّحَّاكُ : يَعْنِي فِي الْقِتَالِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . [ ص: 335 ]

    ( وَاتَّقُوا اللَّهَ ) فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ) لِأَقْوَالِكُمْ ( عَلِيمٌ ) بِأَفْعَالِكُمْ .
    ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( 2 ) )

    ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضا ( أن تحبط أعمالكم ) لئلا تحبط حسناتكم . وقيل : مخافة أن تحبط حسناتكم ( وأنتم لا تشعرون ) .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟ فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى ، قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بل هو من أهل الجنة " .

    وروي أنه لما نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به عاصم بن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغلب ثابتا البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار ، وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتى عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبره خبره فقال له : اذهب فادعه ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده ، فجاء [ ص: 336 ] إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ، فقال : اكسر الضبة فكسرها ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، ولا أرفع صوتي أبدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) .
    ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ( 3 ) )

    ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ) الآية .

    قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب ، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار وانهزمت طائفة منهم ، فقال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر عند فرس يسير في طوله ، وقد وضع على درعي برمة ، فائت خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي ، وائت أبا بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقل له : إن علي دينا حتى يقضى ، وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه له ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا فأجاز أبو بكر وصيته .

    قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه .

    قال أبو هريرة وابن عباس : لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر لا يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كأخي السرار [ ص: 337 ] .

    وقال ابن الزبير : لما نزلت هذه الآية ما حدث عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته ، فأنزل الله تعالى : " إن الذين يغضون أصواتهم " ، يخفضون ( أصواتهم عند رسول الله ) إجلالا له ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصه ( لهم مغفرة وأجر عظيم ) .
    ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ( 4 ) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم ( 5 ) )

    ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ) قرأ العامة بضم الجيم ، وقرأ أبو جعفر بفتح الجيم ، وهما لغتان ، وهي جمع الحجر ، والحجر جمع الحجرة فهي جمع الجمع .

    قال ابن عباس : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى بني العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري ، فلما علموا أنه توجه نحوهم هربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة بن حصن وقدم بهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري ، فقدموا وقت الظهيرة ، ووافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا في أهله ، فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون ، وكان لكل امرأة من نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ حجرة ، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] ، فجعلوا ينادون : يا محمد اخرج إلينا ، حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا ، فنزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو ، وهو على دينكم ؟ فقالوا : نعم ، فقال سبرة : أنا لا أحكم بينهم إلا وعمي شاهد ، وهو الأعور بن بشامة ، فرضوا به ، فقال الأعور : أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد رضيت ، ففادى نصفهم وأعتق نصفهم ، فأنزل الله تعالى : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " ، وصفهم بالجهل وقلة العقل .

    ( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ) قال مقاتل : لكان خيرا لهم لأنك كنت تعتقهم جميعا وتطلقهم بلا فداء ( والله غفور رحيم ) .

    [ ص: 338 ] وقال قتادة : نزلت في ناس من أعراب بني تميم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادوا على الباب .

    ويروى ذلك عن جابر قال : جاءت بنو تميم فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا زين ، وذمنا شين ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشعرائنا وخطبائنا لنشاعرك ونفاخرك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا " ، فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قم فأجبه " ، فأجابه ، وقام شاعرهم فذكر أبياتا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت : " أجبه " فأجابه . فقام الأقرع بن حابس ، فقال : إن محمدا لمؤتى له والله ما أدري هذا الأمر ، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يضرك ما كان قبل هذا " ثم أعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكساهم ، وقد كان تخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم لحداثة سنه ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعطاهم ، وأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل فيهم : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم " الآيات الأربع إلى قوله : " غفور رحيم " .

    وقال زيد بن أرقم : جاء ناس من العرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكا نعش في جنابه ، فجاءوا فجعلوا ينادونه ، يا محمد يا محمد ، فأنزل الله : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم .
    ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( 6 ) )

    قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) الآية ، نزلت في الوليد [ ص: 339 ] بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلناه من حق الله - عز وجل - ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاتهمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال له : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، فانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق ) يعني الوليد بن عقبة ( بنبأ ) بخبر ( فتبينوا أن تصيبوا ) كي لا تصيبوا بالقتل والقتال ( قوما ) برآء ( بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) من إصابتكم بالخطأ .
    ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ( 7 ) )

    ( واعلموا أن فيكم رسول الله ) فاتقوا الله أن تقولوا باطلا أو تكذبوه ، فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا ( لو يطيعكم ) أي الرسول ( في كثير من الأمر ) مما تخبرونه به فيحكم برأيكم ( لعنتم ) لأثمتم وهلكتم ، والعنت : الإثم والهلاك . ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان ) فجعله أحب الأديان إليكم ( وزينه ) حسنه ( في قلوبكم ) حتى اخترتموه ، وتطيعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وكره إليكم الكفر والفسوق ) قال ابن عباس : يريد الكذب ( والعصيان ) جميع معاصي الله . ثم عاد من الخطاب إلى الخبر ، وقال : ( أولئك هم الراشدون ) المهتدون .
    [ ص: 340 ] ( فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ( 8 ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 9 ) )

    ( فضلا ) أي كان هذا فضلا ( من الله ونعمة والله عليم حكيم ) .

    قوله - عز وجل - : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) الآية .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يقول : إن أنسا قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه ، وهي أرض سبخة ، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " .

    ويروى أنها لما نزلت قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض .

    وقال قتادة : نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذن حقي منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، وإن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يتبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف .

    وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد تحت رجل ، وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى علية وحبسها ، فبلغ ذلك قومها فجاءوا ، وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال ، فأنزل الله - عز وجل - : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما ( فإن بغت إحداهما ) تعدت إحداهما ، [ ص: 341 ] ( على الأخرى ) وأبت الإجابة إلى حكم كتاب الله ( فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء ) ترجع ( إلى أمر الله ) في كتابه ( فإن فاءت ) رجعت إلى الحق ( فأصلحوا بينهما بالعدل ) بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله ( وأقسطوا ) اعدلوا ( إن الله يحب المقسطين ) .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (382)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ ق
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 5


    ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( 10 ) )

    ( إنما المؤمنون إخوة ) في الدين والولاية ( فأصلحوا بين أخويكم ) إذا اختلفا واقتتلا ، قرأ يعقوب " بين إخوتكم " بالتاء على الجمع ( واتقوا الله ) فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره ( لعلكم ترحمون ) .

    [ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ] ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " .

    وفي هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين مع كونهم باغين ، يدل عليه ما روي عن الحارث الأعور أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سئل - وهو القدوة - في قتال أهل البغي ، عن أهل الجمل وصفين : أمشركون هم ؟ فقال : لا ، من الشرك فروا ، فقيل : أمنافقون هم ؟ فقال : لا ، إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بغوا علينا .

    والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ، ونصبوا إماما فالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم [ ص: 342 ] إلى طاعته ، فإن أظهروا مظلمة أزالها عنهم ، وإن لم يذكروا مظلمة ، وأصروا على بغيهم ، قاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته ، ثم الحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفف على جريحهم ، نادى منادي علي - رضي الله عنه - يوم الجمل : ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح . وأتي علي - رضي الله عنه - يوم صفين بأسير فقال له : لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين . وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في حال القتال من نفس أو مال فلا ضمان عليه .

    قال ابن شهاب : كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول ، وأتلف فيها أموال كثيرة ، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم ، وجرى الحكم عليهم ، فما علمته اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه .

    أما من لم يجتمع فيهم هذه الشرائط الثلاث بأن كانوا جماعة قليلين لا منعة لهم ، أو لم يكن لهم تأويل ، أو لم ينصبوا إماما ، فلا يتعرض لهم إن لم ينصبوا قتالا ولم يتعرضوا للمسلمين ، فإن فعلوا فهم كقطاع الطريق .

    روي أن عليا - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول في ناحية المسجد : لا حكم إلا لله تعالى ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال .
    ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ( 11 ) )

    وقوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم ) الآية ، قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته [ ركعة من صلاة [ ص: 343 ] الفجر ] ، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم ، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسا يجلس فيه قام قائما كما هو ، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخطى رقاب الناس ، ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبينه رجل ، فقال له : تفسح ، فقال الرجل : قد أصبت مجلسا فاجلس ، فجلس ثابت خلفه مغضبا ، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، فقال ثابت : ابن فلانة ، وذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه واستحيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

    وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم ، كانوا يستهزءون بفقراء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ) أي رجال من رجال . و " القوم " : اسم يجمع الرجال والنساء ، وقد يختص بجمع الرجال ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ) .

    روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عيرن أم سلمة بالقصر .

    وعن عكرمة عن ابن عباس : أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب ، قال لها النساء : يهودية بنت يهوديين . ( ولا تلمزوا أنفسكم ) أي لا يعب بعضكم بعضا ، ولا يطعن بعضكم على بعض ( ولا تنابزوا بالألقاب ) التنابز : التفاعل من النبز ، وهو اللقب ، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به .

    قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق يا كافر .

    وقال الحسن : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك . [ ص: 344 ]

    قال عطاء : هو أن تقول لأخيك : يا كلب يا حمار يا خنزير .

    وروي عن ابن عباس قال : " التنابز بالألقاب " : أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله .

    ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) . أي بئس الاسم أن يقول : يا يهودي أو يا فاسق بعد ما آمن وتاب ، وقيل معناه : إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق ، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق ( ومن لم يتب ) من ذلك ( فأولئك هم الظالمون ) .
    ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ( 12 ) )

    ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ) قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطلب لنا منه طعاما ، فجاء سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله طعاما ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فلما رجع قالا لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فلما جاءا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما : " ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما " ، قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان [ ص: 345 ] وأسامة ، فأنزل الله - عز وجل - : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " ، وأراد : أن يظن بأهل الخير سوءا ( إن بعض الظن إثم ) قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم .

    ( ولا تجسسوا ) التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .

    أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا "

    أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيى بن أكثم ، أخبرنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنه - ما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " .

    قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك .

    وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) يقول : [ ص: 346 ] لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه مما هو فيه .

    أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو الطاهر الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغتبتموه " فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : " حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " .

    قوله - عز وجل - : ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) قال مجاهد : لما قيل لهم " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " قالوا : لا ، قيل : ( فكرهتموه ) أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا .

    قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " [ ص: 347 ] .

    قال ميمون بن سياه : بينا أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا ، قال : لكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحدا ولا يدع أحدا يغتاب عنده أحدا .

    ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) .
    ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ( 13 ) )

    ( ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) الآية . قال ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس ، وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، يعيره بأمه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من الذاكر فلانة ؟ فقال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال : انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت ؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى ، فنزلت في ثابت هذه الآية ، وفي الذي لم يتفسح : " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا " ( المجادلة - 11 ) .

    وقال مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا حتى علا ظهر الكعبة وأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئا يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فأتى جبريل فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزراء بالفقراء فقال :

    ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ) يعني آدم وحواء أي إنكم متساوون في النسب . ( وجعلناكم شعوبا ) جمع شعب بفتح الشين ، وهي رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، سموا شعوبا لتشعبهم واجتماعهم ، كشعب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعب ، أي : جمع ، وشعب أي : فرق . ( وقبائل ) وهي دون الشعوب ، واحدتها قبيلة وهي كبكر من ربيعة وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدتها عمارة ، بفتح العين ، وهم كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدتها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش [ ص: 348 ] ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذ ، وهم كبني هاشم وأمية من بني لؤي ، ثم الفصائل والعشائر واحدتها فصيلة وعشيرة ، وليس بعد العشيرة حي يوصف به .

    وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل .

    وقال أبو روق : " الشعوب " الذين لا يعتزون إلى أحد ، بل ينتسبون إلى المدائن والقرى ، " والقبائل " : العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم .

    ( لتعارفوا ) ليعرف بعضكم بعضا في قرب النسب وبعده ، لا ليتفاخروا . ثم أخبر أن أرفعهم منزلة عند الله أتقاهم فقال :

    ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) قال قتادة في هذه الآية : إن أكرم الكرم التقوى ، وألأم اللؤم الفجور .

    أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الحسب المال ، والكرم التقوى " .

    وقال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى .

    أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم ، أنا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أخبرنا إبراهيم بن خزيم ، حدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا الضحاك بن مخلد ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه ، فلما خرج لم يجد مناخا ، فنزل على أيدي الرجال ، ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : " الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها [ بآبائها ] ، الناس رجلان بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله [ ص: 349 ] ثم تلا " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " ، ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد هو ابن سلام حدثنا عبدة عن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم ، قال : " فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
    ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ( 14 ) )

    قوله - عز وجل - : ( قالت الأعراب آمنا ) الآية ، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة جدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية . [ ص: 350 ]

    وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا يقولون : آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا ، فأنزل الله - عز وجل - " قالت الأعراب آمنا " صدقنا .

    ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيمانا دون التصديق بالقلب والإخلاص .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن غرير الزهري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أخبرني عامر بن سعد ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطا وأنا جالس فيهم ، قال : فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إلي ، فقمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ فساررته ] ، فقلت : ما لك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمنا ، قال : أو مسلما ، قال : فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا ؟ قال : أو مسلما ، قال : " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه " .

    فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان ، والأبدان والجنان ، كقوله - عز وجل - لإبراهيم عليه السلام : " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ( البقرة - 131 ) ، ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب ، وذلك قوله : ( ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) .

    ( وإن تطيعوا الله ورسوله ) ظاهرا وباطنا سرا وعلانية . قال ابن عباس تخلصوا الإيمان ( لا يلتكم ) قرأ أبو عمرو " يألتكم " بالألف لقوله تعالى : " وما ألتناهم " ( الطور - 21 ) والآخرون بغير ألف ، وهما لغتان ، معناهما : لا ينقصكم ، يقال : ألت يألت ألتا ولات يليت ليتا إذا نقص ، [ ص: 351 ] ( من أعمالكم شيئا ) أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئا ( إن الله غفور رحيم ) .
    ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ( 15 ) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم ( 16 ) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ( 17 ) إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ( 18 ) )

    ثم بين حقيقة الإيمان ، فقال : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) لم يشكوا في دينهم ( وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) في إيمانهم .

    فلما نزلت هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحلفون بالله إنهم مؤمنون صادقون ، وعرف الله غير ذلك منهم ، فأنزل الله - عز وجل - :

    ( قل أتعلمون الله بدينكم ) والتعليم هاهنا بمعنى الإعلام ، ولذلك قال : " بدينكم " وأدخل الباء فيه ، يقول : أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه ( والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم ) لا يحتاج إلى إخباركم .

    ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم ) أي بإسلامكم ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ) وفي مصحف عبد الله " إذ هداكم للإيمان " ( إن كنتم صادقين ) إنكم مؤمنون .

    ( إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون ) قرأ ابن كثير " يعملون " بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء .
    سُورَةُ ق

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ( 1 ) )

    ( ق ) [ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ قَسَمٌ ، وَقِيلَ : ] هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

    وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِهِ " الْقَدِيرِ " ، وَ " الْقَادِرِ " وَ " الْقَاهِرِ " وَ " الْقَرِيبِ " وَ " الْقَابِضِ " .

    وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ : هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ، مِنْهُ خُضْرَةُ السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ مَقْبِيَّةٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ كَتِفَاهَا ، وَيُقَالُ هُوَ وَرَاءِ الْحِجَابِ الَّذِي تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ وَرَائِهِ بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ .

    وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قُضِيَ الْأَمْرُ ، أَوْ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ ، كَمَا قَالُوا فِي حم .

    ( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ) الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ ، الْكَثِيرِ الْخَيْرِ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ : جَوَابُهُ : " بَلْ عَجِبُوا " ، وَقِيلَ : جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ ، [ ص: 356 ] مَجَازُهُ : وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُنَّ . وَقِيلَ : جَوَابُهُ قَوْلُهُ : " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ " . وَقِيلَ : " قَدْ عَلِمْنَا " وَجَوَابَاتُ الْقَسَمِ سَبْعَةٌ : " إِنَّ " الشَّدِيدَةُ كَقَوْلِهِ : " وَالْفَجْرِ - إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ِ " ( الْفَجْرِ - 14 ) ، وَ " مَا " النَّفْيِ كَقَوْلِهِ : " وَالضُّحَى - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ " ( الضُّحَى - 1 - 3 ) ، وَ " اللَّامُ " الْمَفْتُوحَةُ كَقَوْلِهِ : " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ " ( الْحِجْرِ - 92 ) وَ " إِنْ " الْخَفِيفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " ( الشُّعَرَاءِ - 38 ) وَ " لَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ " ( النَّحْلِ - 38 ) ، وَ " قَدْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا - قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا " ( الشَّمْسِ - 1 - 9 ) .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (383)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ ق
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 32


    ( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ( 2 ) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ( 3 ) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ( 4 ) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ( 5 ) )

    و " بل " كقوله : " والقرآن المجيد - بل عجبوا " .

    ( أن جاءهم منذر ) مخوف ( منهم ) يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ( فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) غريب .

    ( أئذا متنا وكنا ترابا ) نبعث ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه ( ذلك رجع ) أي رد إلى الحياة ( بعيد ) وغير كائن ، أي : يبعد أن نبعث بعد الموت .

    قال الله - عز وجل - : ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ) أي تأكل من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمه شيء . قال السدي : هو الموت ، يقول : قد علمنا من يموت منهم ومن يبقى ( وعندنا كتاب حفيظ ) [ محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس ويتغير وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : حفيظ ] أي : حافظ لعدتهم وأسمائهم .

    ( بل كذبوا بالحق ) بالقرآن ( لما جاءهم فهم في أمر مريج ) مختلط ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس . قال قتادة في هذه الآية : من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه . وقال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم . وذكر الزجاج معنى اختلاط أمرهم ، فقال : هو أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، مرة شاعر ، ومرة ساحر ، ومرة معلم ، ويقولون للقرآن مرة سحر ، ومرة [ ص: 357 ] رجز ، ومرة مفترى ، فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم .
    ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ( 6 ) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ( 7 ) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ( 8 ) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ( 9 ) والنخل باسقات لها طلع نضيد ( 10 ) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ( 11 ) )

    ثم دلهم على قدرته ، فقال : ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ) بغير عمد ( وزيناها ) بالكواكب ( وما لها من فروج ) شقوق وفتوق وصدوع ، واحدها فرج .

    ( والأرض مددناها ) بسطناها على وجه الماء ( وألقينا فيها رواسي ) جبالا ثوابت ( وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) حسن كريم يبهج به ، أي : يسر .

    ( تبصرة ) [ أي جعلنا ذلك تبصرة ] ( وذكرى ) أي تبصيرا وتذكيرا ( لكل عبد منيب ) أي : ليبصر به ويتذكر به .

    ( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) كثير الخير وفيه حياة كل شيء ، وهو المطر ( فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ) يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد ، فأضاف الحب إلى الحصيد ، وهما واحد لاختلاف اللفظين ، كما يقال : مسجد الجامع وربيع الأول . وقيل : " وحب الحصيد " أي : وحب النبت [ الحصيد ] .

    ( والنخل باسقات ) قال مجاهد وعكرمة وقتادة : طوالا يقال : بسقت [ النخلة ] بسوقا إذا طالت . وقال سعيد بن جبير : مستويات . ( لها طلع ) ثمر وحمل ، سمي بذلك لأنه يطلع ، والطلع أول ما يظهر قبل أن ينشق ( نضيد ) متراكب متراكم منضود بعضه على بعض في أكمامه ، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد .

    ( رزقا للعباد ) أي جعلناها رزقا للعباد ( وأحيينا به ) أي بالمطر ( بلدة ميتا ) أنبتنا فيها الكلأ ( كذلك الخروج ) من القبور .
    [ ص: 358 ] ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود ( 12 ) وعاد وفرعون وإخوان لوط ( 13 ) وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد ( 14 ) أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ( 15 ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( 16 ) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ( 17 ) )

    قوله - عز وجل - : ( كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع ) وهو تبع الحميري ، واسمه أسعد أبو كرب ، قال قتادة : ذم الله تعالى قوم تبع ولم يذمه ، ذكرنا قصته في سورة الدخان .

    ( كل كذب الرسل ) أي : كل من هؤلاء المذكورين كذب الرسل ( فحق وعيد ) وجب لهم عذابي . ثم أنزل جوابا لقولهم " ذلك رجع بعيد " :

    ( ( أفعيينا بالخلق الأول ) يعني : أعجزنا حين خلقناهم أولا [ فنعيا ] بالإعادة . وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث ، ويقال لكل من عجز عن شيء : عيي به . ( بل هم في لبس ) أي : في شك ( من خلق جديد ) وهو البعث .

    ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) يحدث به قلبه ولا يخفى علينا سرائره وضمائره ( ونحن أقرب إليه ) أعلم به ( من حبل الوريد ) لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضا ، ولا يحجب علم الله شيء ، و " حبل الوريد " : عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين ، يتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين .

    ( إذ يتلقى المتلقيان ) أي : يتلقى ويأخذ الملكان الموكلان بالإنسان عمله ومنطقه يحفظانه ويكتبانه ( عن اليمين وعن الشمال ) أي أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، فالذي عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات . ( قعيد ) أي : قاعد ، ولم يقل : قعيدان ، لأنه أراد : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فاكتفى بأحدهما عن الآخر ، هذا قول أهل البصرة . وقال أهل الكوفة : أراد : قعودا ، كالرسول فجعل للاثنين والجمع ، كما قال الله تعالى في الاثنين : " [ ص: 359 ] فقولا إنا رسول رب العالمين " ( الشعراء - 16 ) ، وقيل : أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح ، لا القاعد الذي هو ضد القائم . وقال مجاهد : القعيد الرصيد .
    ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( 18 ) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ( 19 ) )

    ( ما يلفظ من قول ) ما يتكلم من كلام فيلفظه أي : يرميه من فيه ( إلا لديه رقيب ) حافظ ( عتيد ) حاضر أينما كان . قال الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين : عند غائطه وعند جماعه .

    وقال مجاهد : يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتبان إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه .

    وقال الضحاك : مجلسهما تحت الضرس على الحنك ، ومثله عن الحسن ، وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا الفضل بن العباس بن مهران ، حدثنا طالوت ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا جعفر بن الزبير عن القاسم بن محمد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا؛ وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر " .

    ( وجاءت سكرة الموت ) غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله ( بالحق ) أي بحقيقة الموت ، وقيل : بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان . وقيل : بما يئول [ ص: 360 ] إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة . ويقال لمن جاءته سكرة الموت : ( ذلك ما كنت منه تحيد ) تميل ، قال الحسن : تهرب وقال ابن عباس : تكره ، وأصل الحيد الميل ، يقال : حدت عن الشيء أحيد حيدا ومحيدا : إذا ملت عنه .
    ( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ( 20 ) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ( 21 ) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( 22 ) وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ( 23 ) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد ( 24 ) )

    ( ونفخ في الصور ) يعني نفخة البعث ( ذلك يوم الوعيد ) أي : ذلك اليوم يوم الوعيد الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه . قال مقاتل : يعني بالوعيد العذاب ، أي : يوم وقوع الوعيد .

    ( وجاءت ) ذلك اليوم ( كل نفس معها سائق ) يسوقها إلى المحشر ( وشهيد ) يشهد عليها بما عملت ، قال الضحاك : السائق من الملائكة ، والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وقال الآخرون : هما جميعا من الملائكة ، فيقول الله :

    ( لقد كنت في غفلة من هذا ) . ( لقد كنت في غفلة من هذا ) اليوم في الدنيا ( فكشفنا عنك غطاءك ) الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك ( فبصرك اليوم حديد ) نافذ تبصر ما كنت تنكر في الدنيا . وروي عن مجاهد قال : يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك .

    ( وقال قرينه ) الملك الموكل به ( هذا ما لدي عتيد ) معد محضر ، وقيل : " ما " بمعنى ( من ) قال مجاهد : يقول هذا الذي وكلتني به من ابن آدم حاضر عندي قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله ، فيقول الله - عز وجل - لقرينه : ( ألقيا في جهنم ) هذا خطاب للواحد بلفظ التثنية على عادة العرب ، تقول : ويحك ويلك ارحلاها وازجراها وخذاها وأطلقاها ، للواحد ، قال الفراء : وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه وسفره اثنان ، فجرى كلام الواحد على صاحبيه ، ومنه قولهم في الشعر للواحد : خليلي . وقال الزجاج : هذا أمر للسائق والشهيد ، وقيل : للمتلقيين . ( كل كفار عنيد )

    عاص معرض عن [ ص: 361 ] الحق . قال عكرمة ومجاهد : مجانب للحق معاند لله .
    ( مناع للخير معتد مريب ( 25 ) الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ( 26 ) قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ( 27 ) قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ( 28 ) ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ( 29 ) يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ( 30 ) )

    ( مناع للخير ) أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب في ماله ( معتد ) ظالم لا يقر بتوحيد الله ( مريب ) شاك في التوحيد ، ومعناه : داخل في الريب .

    ( الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ) وهو النار .

    ( قال قرينه ) يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر : ( ربنا ما أطغيته ) ما أضللته وما أغويته ( ولكن كان في ضلال بعيد ) عن الحق ، فيتبرأ عنه شيطانه ، قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل : " قال قرينه " يعني : الملك ، قال سعيد بن جبير : يقول الكافر يا رب إن الملك زاد علي في الكتابة ، فيقول الملك " ربنا ما أطغيته " ، يعني ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ، ولكن كان في ضلال بعيد ، طويل لا يرجع عنه إلى الحق .

    ( قال ) فيقول الله ( لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ) في القرآن وأنذرتكم وحذرتكم على لسان الرسول ، وقضيت عليكم ما أنا قاض .

    ( ما يبدل القول لدي ) لا تبديل لقولي ، وهو قوله : " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( السجدة - 13 ) ، وقال قوم : معنى قوله : " ما يبدل القول لدي " أي : لا يكذب عندي ، ولا يغير القول عن وجهه لأني أعلم الغيب . وهذا قول الكلبي ، واختيار الفراء ، لأنه قال : " ما يبدل القول لدي " ولم يقل ما يبدل قولي .

    ( وما أنا بظلام للعبيد ) فأعاقبهم بغير جرم .

    ( يوم نقول لجهنم ) قرأ نافع وأبو بكر " يقول " بالياء ، أي : يقول الله ، لقوله : " قال لا تختصموا " ، وقرأ الآخرون بالنون ( هل امتلأت ) وذلك لما سبق لها من وعده إياها أنه يملؤها [ ص: 362 ] من الجنة والناس ، وهذا السؤال من الله - عز وجل - لتصديق خبره وتحقيق وعده ( وتقول ) جهنم ( هل من مزيد ) قيل : معناه قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ ، فهو استفهام إنكار ، هذا قول عطاء ومجاهد ومقاتل بن سليمان . وقيل : هذا استفهام بمعنى الاستزادة ، وهو قول ابن عباس في رواية أبي صالح ، وعلى هذا يكون السؤال بقوله : " هل امتلأت " ، قبل دخول جميع أهلها فيها ، وروي عن ابن عباس : أن الله تعالى سبقت كلمته " لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " ( السجدة - 13 ) ، فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء ، فتقول : ألست قد أقسمت لتملأني ؟ فيضع قدمه عليها ، ثم يقول : هل امتلأت ؟ فتقول : قط قط قد امتلأت فليس في مزيد .

    أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أخبرنا [ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ] حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي ، أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزال جهنم تقول هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، فتقول قط قط وعزتك ، ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنه فضول الجنة " .
    ( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد ( 31 ) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ( 32 ) )

    ( وأزلفت الجنة ) قربت وأدنيت ( للمتقين ) الشرك ( غير بعيد ) ينظرون إليها قبل أن يدخلوها .

    ( هذا ما توعدون ) قرأ ابن كثير بالياء والآخرون بالتاء ، يقال لهم : هذا الذي ترونه ما توعدون على ألسنة الأنبياء عليهم السلام ( لكل أواب ) رجاع إلى الطاعة عن المعاصي ، قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقال الشعبي ومجاهد : الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها . وقال الضحاك : هو التواب . وقال ابن عباس وعطاء : المسبح ، من قوله : [ ص: 363 ] " يا جبال أوبي معه " ( سبأ - 10 ) وقال قتادة : المصلي . ( حفيظ ) قال ابن عباس : الحافظ لأمر الله ، وعنه أيضا : هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها . قال قتادة حفيظ لما استودعه الله من حقه . قال الضحاك : الحافظ على نفسه المتعهد لها . قال الشعبي : المراقب . قال سهل بن عبد الله : المحافظ على الطاعات والأوامر .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (384)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 19


    ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ( 33 ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ( 34 ) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ( 35 ) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص ( 36 ) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ( 37 ) )

    ( من خشي الرحمن بالغيب ) محل " من " جر على نعت الأواب . ومعنى الآية : من خاف الرحمن وأطاعه بالغيب ولم يره . وقال الضحاك والسدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب . ( وجاء بقلب منيب ) مخلص مقبل إلى طاعة الله .

    ( ادخلوها ) [ أي : يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوها ] أي ادخلوا الجنة ( بسلام ) بسلامة من العذاب والهموم . وقيل بسلام من الله وملائكته عليهم . وقيل : بسلامة من زوال النعم ( ذلك يوم الخلود ) .

    ( لهم ما يشاءون فيها ) وذلك أنهم يسألون الله تعالى حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما شاءوا ، ثم يزيدهم الله من عنده ما لم يسألوه ، وهو قوله : ( ولدينا مزيد ) يعني الزيادة لهم في النعيم ما لم يخطر ببالهم . وقال جابر وأنس : هو النظر إلى وجه الله الكريم .

    قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد ) ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق ( هل من محيص ) فلم يجدوا محيصا من أمر الله . وقيل : " هل من محيص " مفر من الموت ؟ فلم يجدوا [ منه مفرا ، وهذا إنذار ] لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرا عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .

    ( إن في ذلك ) فيما ذكرت من العبر وإهلاك القرى ( لذكرى ) تذكرة وعظة ( لمن كان له قلب ) [ ص: 364 ] قال ابن عباس : أي عقل . قال الفراء : هذا جائز في العربية ، تقول : ما لك قلب ، وما قلبك معك ، أي ما عقلك معك ، وقيل : له قلب حاضر مع الله . ( أو ألقى السمع ) استمع القرآن ، واستمع ما يقال له ، لا يحدث نفسه بغيره ، تقول العرب : ألق إلي سمعك ، أي استمع ( وهو شهيد ) أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه .
    ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ( 38 ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ( 39 ) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( 40 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب ) إعياء وتعب .

    نزلت في اليهود حيث قالوا : يا محمد أخبرنا بما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة ؟ فقال : " خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، والجبال يوم الثلاثاء ، والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء ، والسماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة ، وخلق في أول الثلاث الساعات الآجال ، وفي الثانية الآفة ، وفي الثالثة آدم " ، قالوا : صدقت إن أتممت ، قال : وما ذاك ؟ قالوا : ثم استراح يوم السبت ، واستلقى على العرش ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم .

    ( فاصبر على ما يقولون ) من كذبهم فإن الله لهم بالمرصاد ، وهذا قبل الأمر بقتالهم ( وسبح بحمد ربك ) أي : صل حمدا لله ( قبل طلوع الشمس ) يعني : صلاة الصبح ( وقبل الغروب ) يعني : صلاة العصر . وروي عن ابن عباس قال : " قبل الغروب " الظهر والعصر .

    ( ومن الليل فسبحه ) يعني : صلاة المغرب والعشاء . وقال مجاهد : " ومن الليل " أي : صلاة الليل أي وقت صلى . ( وأدبار السجود ) قرأ أهل الحجاز وحمزة " وإدبار السجود " بكسر الهمزة ، مصدر أدبر إدبارا ، وقرأ الآخرون بفتحها على جمع الدبر . [ ص: 365 ]

    قال عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي : " أدبار السجود " الركعتان بعد صلاة المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر . وهي رواية العوفي عن ابن عباس . وروي عنه مرفوعا ، هذا قول أكثر المفسرين .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح .

    أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا صالح بن عبد الله ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن سعيد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " .

    أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا بدل بن المحبر ، حدثنا عبد الملك بن معدان عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما أحصى ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل [ صلاة الفجر ] : ب " قل يا أيها الكافرون " ، و " قل هو الله أحد " . [ ص: 366 ]

    قال مجاهد : " وأدبار السجود " هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات .

    أخبرنا أبو الحسين طاهر بن الحسين الروقي الطوسي بها ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن أيوب ، أخبرنا مسدد ، حدثنا خالد هو ابن عبد الله ، حدثنا سهيل عن أبي عبيد عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وكبر الله ثلاثا وثلاثين ، وحمد الله ثلاثا وثلاثين ، فذلك تسعة وتسعون ، ثم قال تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا ورقاء عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم ، قال : كيف ذاك ؟ قالوا : صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا ، وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال ، قال : " أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ، ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله : تسبحون في دبر كل صلاة عشرا ، وتحمدون عشرا ، وتكبرون عشرا " .

    قوله - عز وجل - : ( واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب ( 41 ) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ( 42 ) )

    ( واستمع يوم ينادي المنادي ) أي : واستمع يا محمد صيحة القيامة والنشور يوم ينادي المنادي ، قال مقاتل : يعني إسرافيل ينادي بالحشر يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ( من مكان قريب ) من صخرة بيت المقدس ، وهي وسط الأرض . قال الكلبي : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا .

    ( يوم يسمعون الصيحة بالحق ) وهي الصيحة الأخيرة ( ذلك يوم الخروج ) من القبور .
    [ ص: 367 ] ( إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير ( 43 ) يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير ( 44 ) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ( 45 ) )

    ( إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ) جمع سريع ، أي : يخرجون سراعا ( ذلك حشر علينا ) جمع علينا ( يسير ) .

    ( نحن أعلم بما يقولون ) يعني : كفار مكة في تكذيبك ( وما أنت عليهم بجبار ) بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) أي : ما أوعدت به من عصاني من العذاب .

    قال ابن عباس : قالوا : يا رسول الله لو خوفتنا ، فنزلت " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " .
    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ( 1 ) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ( 2 ) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ( 3 ) فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا ( 4 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( 5 ) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ( 6 ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ( 7 ) )

    ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) يَعْنِي : الرِّيَاحَ الَّتِي تَذْرُو التُّرَابَ ذَرْوًا ، يُقَالُ : ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وَأَذْرَتْ .

    ( فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ) يَعْنِي : السَّحَابَ تَحْمِلُ ثُقْلًا مِنَ الْمَاءِ .

    ( فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ) هِيَ السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا .

    ( فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا ) هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُقَسِّمُونَ الْأُمُورَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ ، أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صُنْعِهِ وَقُدْرَتِهِ .

    ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ ) مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ( لَصَادِقٌ ) .

    ( وَإِنَّ الدِّينَ ) [ الْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ ] ( لَوَاقِعٌ ) لِكَائِنٌ . ثُمَّ ابْتَدَأَ قَسَمًا آخَرَ فَقَالَ :

    ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ : ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي ، يُقَالُ لِلنَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبَ فَأَجَادَ : مَا أَحْسَنَ حَبْكَهُ! قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ذَاتُ الزِّينَةِ . قَالَ الْحَسَنُ : حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ . قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ الْمُتْقَنَةُ الْبُنْيَانِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ : ذَاتُ الطَّرَائِقِ [ ص: 372 ] كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ :
    ( إنكم لفي قول مختلف ( 8 ) يؤفك عنه من أفك ( 9 ) قتل الخراصون ( 10 ) الذين هم في غمرة ساهون ( 11 ) يسألون أيان يوم الدين ( 12 ) يوم هم على النار يفتنون ( 13 ) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ( 14 ) )

    ( إنكم ) أي : يا أهل مكة ( لفي قول مختلف ) في القرآن وفي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، تقولون في القرآن : سحر وكهانة وأساطير الأولين ، وفي محمد - صلى الله عليه وسلم - : ساحر وشاعر ومجنون . وقيل : " لفي قول مختلف " أي : مصدق ومكذب .

    ( يؤفك عنه من أفك ) يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه ، يعني : من حرمه الله الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن . وقيل " عن " بمعنى : من أجل ، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف أو بسببه عن الإيمان من صرف . وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون : إنه ساحر وكاهن ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، وهذا معنى قول مجاهد .

    ( قتل الخراصون ) لعن الكذابون ، يقال : تخرص على فلان الباطل ، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب مكة ، واقتسموا القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام . وقال مجاهد : هم الكهنة .

    ( الذين هم في غمرة ) غفلة وعمى وجهالة ( ساهون ) لاهون غافلون عن أمر الآخرة ، والسهو : الغفلة عن الشيء ، وهو ذهاب القلب عنه .

    ( يسألون أيان يوم الدين ) يقولون : يا محمد متى يوم الجزاء ، يعني : يوم القيامة تكذيبا واستهزاء .

    قال الله - عز وجل - : ( يوم هم ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم ( على النار يفتنون ) أي : يعذبون ويحرقون بها كما يفتن الذهب بالنار . وقيل : " على " بمعنى الباء أي بالنار ، وتقول لهم خزنة النار : ( ذوقوا فتنتكم ) .

    ( ذوقوا فتنتكم ) عذابكم ( هذا الذي كنتم به تستعجلون ) في الدنيا تكذيبا به .
    [ ص: 372 ] ( إن المتقين في جنات وعيون ( 15 ) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ( 16 ) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ( 17 ) وبالأسحار هم يستغفرون ( 18 ) )

    ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ) أعطاهم ( ربهم ) من الخير والكرامة ( إنهم كانوا قبل ذلك ) قبل دخولهم الجنة ( محسنين ) في الدنيا .

    ( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) والهجوع النوم بالليل دون النهار ، " وما " صلة ، والمعنى : كانوا يهجعون قليلا من الليل ، أي يصلون أكثر الليل .

    وقيل : معناه كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس ، يعني : كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا ، إما من أولها أو من أوسطها . قال أنس بن مالك : كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء . وقال محمد بن علي : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها . قال مجاهد : كانوا لا ينامون كل الليل .

    ووقف بعضهم على قوله : " قليلا " أي : كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ : " من الليل ما يهجعون " ، وجعله جحدا أي : لا ينامون بالليل البتة ، بل يقومون للصلاة والعبادة ، وهو قول الضحاك ومقاتل . ( وبالأسحار هم يستغفرون ) قال الحسن : لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نشطوا فمدوا إلى السحر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار . وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصلون ، وذلك أن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينزل الله إلى سماء الدنيا كل [ ص: 374 ] ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول : أنا الملك أنا الملك ، من الذي يدعوني فأستجيب له ؟ من الذي يسألني فأعطيه ؟ من الذي يستغفرني فأغفر له ؟ " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يتهجد ، قال : " اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، [ ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ] ولك الحمد أنت الحق ، ووعدك الحق ، ولقاؤك حق ، وقولك حق ، والجنة حق والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت ، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ولا إله غيرك " . قال سفيان : وزاد عبد الكريم أبو أمية : " ولا حول ولا قوة إلا بالله " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا صدقة ، أخبرنا الوليد عن الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، حدثني عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من تعار من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا استجيب له ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته " .
    ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( 19 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : الذي ليس له في الغنائم سهم ، ولا يجرى عليه من الفيء شيء ، هذا قولابن عباس وسعيد بن [ ص: 375 ] المسيب ، قالا [ المحروم الذي ] ليس له في الإسلام سهم ، ومعناه في اللغة : الذي منع الخير والعطاء .

    وقال قتادة والزهري : " المحروم " المتعفف الذي لا يسأل .

    وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته . وهو قول محمد بن كعب القرظي ، قال : المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ : " إنا لمغرمون بل نحن محرومون " ( الواقعة - 66 - 67 ) .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (385)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الذَّارِيَاتِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية20 إلى الاية 60


    ( وفي الأرض آيات للموقنين ( 20 ) وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 21 ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 ) فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ( 23 ) )

    ( وفي الأرض آيات ) عبر ( للموقنين ) إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار وأنواع النبات . ( وفي أنفسكم ) آيات ، إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى أن نفخ فيها الروح .

    وقال عطاء عن ابن عباس : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع .

    وقال ابن الزبير : يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين .

    ( أفلا تبصرون ) [ قال مقاتل ] أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث .

    ( وفي السماء رزقكم ) قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق ( وما توعدون ) قال عطاء : من الثواب والعقاب . وقال مجاهد : من الخير والشر . وقال الضحاك : وما توعدون من الجنة والنار ، ثم أقسم بنفسه فقال :

    ( فورب السماء والأرض إنه لحق ) أي : ما ذكرت من أمر الرزق لحق ( مثل ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : " مثل " برفع اللام بدلا من " الحق " ، وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل ( ما أنكم تنطقون ) فتقولون : لا إله إلا الله . وقيل : شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق [ ص: 376 ] نطق الآدمي ، كما تقول : إنه لحق كما أنت ها هنا ، وإنه لحق كما أنك تتكلم ، والمعنى : إنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : يعني : كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره .
    ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( 24 ) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ( 25 ) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ( 26 ) فقربه إليهم قال ألا تأكلون ( 27 ) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ( 28 ) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم ( 29 ) )

    قوله - عز وجل - : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم ) ذكرنا عددهم في سورة هود ( المكرمين ) [ قيل : سماهم مكرمين ] لأنهم كانوا ملائكة كراما عند الله ، وقد قال الله تعالى في وصفهم : " بل عباد مكرمون " ( الأنبياء - 26 ) وقيل : لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وكان إبراهيم أكرم الخليقة ، وضيف الكرام مكرمون .

    وقيل : لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم ، والقيام بنفسه عليهم بطلاقة الوجه .

    وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : خدمته إياهم بنفسه .

    وروي عن ابن عباس : سماهم مكرمين لأنهم جاءوا غير مدعوين . وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .

    ( إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ) أي : غرباء لا نعرفكم ، قال ابن عباس : قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم . وقيل : إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان . وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض .

    ( فراغ ) فعدل ومال ( إلى أهله فجاء بعجل سمين ) مشوي .

    ( فقربه إليهم ) ليأكلوا فلم يأكلوا ( قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة ) أي : صيحة ، قيل : لم يكن ذلك إقبالا من مكان [ ص: 377 ] إلى مكان ، وإنما هو كقول القائل : أقبل يشتمني ، بمعنى أخذ في شتمي ، أي أخذت تولول كما قال : " قالت يا ويلتا " ، ( هود - 72 ( فصكت وجهها ) قال ابن عباس : لطمت وجهها . وقال الآخرون : جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبا ، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا ، وأصل الصك : ضرب الشيء بالشيء العريض .

    ( وقالت عجوز عقيم ) مجازه : أتلد عجوز عقيم ؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك .
    ( قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ( 30 ) قال فما خطبكم أيها المرسلون ( 31 ) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ( 32 ) لنرسل عليهم حجارة من طين ( 33 ) مسومة عند ربك للمسرفين ( 34 ) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين ( 35 ) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ( 36 ) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ( 37 ) )

    ( قالوا كذلك قال ربك ) أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلاما ( إنه هو الحكيم العليم ) .

    ( قال ) [ يعني إبراهيم ] ( فما خطبكم أيها المرسلون ) . ( قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ) يعني : قوم لوط .

    ( لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة ) معلمة ( عند ربك للمسرفين ) قال ابن عباس : للمشركين ، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها .

    ( فأخرجنا من كان فيها ) أي : في قرى قوم لوط ( من المؤمنين ) وذلك قوله : " فأسر بأهلك بقطع من الليل " ( هود - 81 ) .

    ( فما وجدنا فيها غير بيت ) أي غير أهل بيت ( من المسلمين ) يعني لوطا وابنتيه ، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم .

    ( وتركنا فيها ) أي في مدينة قوم لوط ( آية ) عبرة ( للذين يخافون العذاب الأليم ) أي : علامة للخائفين تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم .
    [ ص: 378 ] ( وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ( 38 ) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون ( 39 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم ( 40 ) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ( 41 ) ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( 42 ) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ( 43 ) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ( 44 ) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين ( 45 ) )

    ( وفي موسى ) أي : وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة . وقيل : هو معطوف على قوله : " وفي الأرض آيات للموقنين " ، [ وفي موسى ] ( إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين ) بحجة ظاهرة .

    ( فتولى ) فأعرض وأدبر عن الإيمان ( بركنه ) أي بجمعه وجنوده الذين كانوا يتقوى بهم ، كالركن الذي يقوى به البنيان ، نظيره : " أو آوي إلى ركن شديد " ( هود - 80 ( وقال ساحر أو مجنون ) قال أبو عبيدة : " أو " بمعنى الواو .

    ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ) أغرقناهم فيه ( وهو مليم ) أي : آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسول .

    ( وفي عاد ) أي : وفي إهلاك عاد أيضا آية ( إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) وهي التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا .

    ( ما تذر من شيء أتت عليه ) من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم ( إلا جعلته كالرميم ) كالشيء الهالك البالي ، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس . قال مجاهد : كالتبن اليابس . قال قتادة : كرميم الشجر . قال أبو العالية : كالتراب المدقوق . وقيل : أصله من العظم البالي .

    ( وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين ) يعني وقت فناء آجالهم ، وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم : تمتعوا ثلاثة أيام .

    ( فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة ) يعني بعد مضي الأيام الثلاثة ، وهي الموت في قول ابن عباس ، قال مقاتل : يعني العذاب ، و " الصاعقة " : كل عذاب مهلك ، وقرأ الكسائي : " الصعقة " ، وهي الصوت الذي يكون من الصاعقة ( وهم ينظرون ) يرون ذلك عيانا .

    [ ص: 379 ] ( فما استطاعوا من قيام ) فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض . قال قتادة : لم ينهضوا من تلك الصرعة ( وما كانوا منتصرين ) ممتنعين منا . قال قتادة : ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله .
    ( وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين ( 46 ) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ( 47 ) والأرض فرشناها فنعم الماهدون ( 48 ) ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ( 49 ) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ( 50 ) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ( 51 ) كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ( 52 ) )

    ( وقوم نوح ) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : " وقوم " بجر الميم ، أي : وفي قوم نوح ، وقرأ الآخرون بنصبها بالحمل على المعنى ، وهو أن قوله : " فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم " ، معناه : أغرقناهم وأغرقنا قوم نوح . ( من قبل ) أي : من قبل هؤلاء ، وهم عاد وثمود وقوم فرعون . ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) .

    ( والسماء بنيناها بأيد ) بقوة وقدرة ( وإنا لموسعون ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : قادرون . وعنه أيضا : لموسعون الرزق على خلقنا . وقيل : ذو سعة . قال الضحاك : أغنياء ، دليله : قوله - عز وجل - : " على الموسع قدره " ( البقرة - 236 ) ، قال الحسن : مطيقون .

    ( والأرض فرشناها ) بسطناها ومهدناها لكم ( فنعم الماهدون ) الباسطون نحن : قال ابن عباس : نعم ما وطأت لعبادي .

    ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والليل والنهار ، والبر والبحر ، والسهل والجبل ، والشتاء والصيف ، والجن والإنس ، والذكر والأنثى ، والنور والظلمة ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحق والباطل ، والحلو والمر . ( لعلكم تذكرون ) فتعلمون أن خالق الأزواج فرد .

    ( ففروا إلى الله ) فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه ، بالإيمان والطاعة . قال ابن عباس : فروا منه إليه واعملوا بطاعته . وقال سهل بن عبد الله : فروا مما سوى الله إلى الله ( إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين ) .

    ( كذلك ) أي : كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك ( ما أتى الذين من قبلهم ) [ ص: 380 ] من قبل كفار مكة ( من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) .
    ( أتواصوا به بل هم قوم طاغون ( 53 ) فتول عنهم فما أنت بملوم ( 54 ) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( 55 ) وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 ) )

    قال الله تعالى : ( أتواصوا به ) أي : أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضا بالتكذيب وتواطئوا عليه ؟ والألف فيه للتوبيخ ( بل هم قوم طاغون ) قال ابن عباس : حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك ( فتول عنهم ) فأعرض عنهم ( فما أنت بملوم ) لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وما قصرت فيما أمرت به .

    قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتد ذلك على أصحابه ، وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى عنهم ، فأنزل الله تعالى : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) فطابت أنفسهم .

    قال مقاتل : معناه عظ بالقرآن كفار مكة ، فإن الذكرى تنفع من [ سبق ] في علم الله أن يؤمن منهم . وقال الكلبي : عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم .

    ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) قال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة ابن عباس : " وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون " ، ثم قال في أخرى : " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس " ، ( الأعراف - 79 ) .

    وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : هو على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة .

    وقال علي بن أبي طالب : " إلا ليعبدون " أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ، يؤيده قوله - عز وجل - : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا " . ( التوبة - 31 ) .

    وقال مجاهد : إلا ليعرفوني . وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، دليله : قوله [ ص: 381 ] تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) .

    وقيل : معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق عليه .

    وقيل : " إلا ليعبدون " إلا ليوحدوني ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله - عز وجل - : " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين " . ( العنكبوت - 65 ) .
    ( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ( 57 ) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ( 58 ) فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ( 59 ) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ( 60 ) )

    ( ما أريد منهم من رزق ) أي : أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم ( وما أريد أن يطعمون ) أي : أن يطعموا أحدا من خلقي ، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه . كما جاء في الحديث يقول الله تعالى : " استطعمتك فلم تطعمني " أي : لم تطعم عبدي ، ثم بين أن الرازق هو لا غيره فقال :

    ( إن الله هو الرزاق ) يعني : لجميع خلقه ( ذو القوة المتين ) وهو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة .

    ( فإن للذين ظلموا ) كفروا من أهل مكة ( ذنوبا ) نصيبا من العذاب ( مثل ذنوب أصحابهم ) مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود ، وأصل " الذنوب " في اللغة : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ثم استعمل في الحظ والنصيب ( فلا يستعجلون ) بالعذاب يعني أنهم أخروا إلى يوم القيامة .

    يدل عليه قوله - عز وجل - : ( فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ) . يعني : يوم القيامة ، وقيل : يوم بدر .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (386)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الطُّورِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 37


    سُورَةُ الطُّورِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) )

    ( وَالطُّورِ ) أَرَادَ بِهِ الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ .

    ( وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ) مَكْتُوبٍ .

    ( فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) " وَالرَّقُّ " : مَا يُكْتَبُ فِيهِ ، وَهُوَ أَدِيمُ الصُّحُفِ ، وَ " الْمَنْشُورُ " : الْمَبْسُوطُ ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، قَالَ الْكَلْبِيُّ : هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ بِيَدِهِ لِمُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُوسَى يَسْمَعُ صَرِيرَ الْقَلَمِ .

    وَقِيلَ : هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ . وَقِيلَ : دَوَاوِينُ الْحَفَظَةِ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْشُورَةً ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ . دَلِيلُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا " ، ( الْإِسْرَاءِ - 13 ) .

    ( وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) بِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْأَهْلِ ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ حِذَاءَ الْعَرْشِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ : الضُّرَاحُ ، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا .

    ( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) يَعْنِي : السَّمَاءَ ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا " . ( الْأَنْبِيَاءِ - 32 ) .
    [ ص: 386 ] ( والبحر المسجور ( 6 ) إن عذاب ربك لواقع ( 7 ) ما له من دافع ( 8 ) )

    ( والبحر المسجور ) قال محمد بن كعب القرظي والضحاك : يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور ، وهو قول ابن عباس ، وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم ، كما قال الله تعالى : " وإذا البحار سجرت " ، ( التكوير - 6 ) وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا ، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا " .

    وقال مجاهد والكلبي : " المسجور " : المملوء ، يقال : سجرت الإناء إذا ملأته .

    وقال الحسن ، وقتادة ، وأبو العالية : هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب

    وقال الربيع بن أنس : المختلط العذب بالمالح .

    وروى الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي أنه قال في البحر المسجور : هو بحر تحت العرش ، غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين ، فيه ماء غليظ يقال له : بحر الحيوان . يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا فينبتون في قبورهم . هذا قول مقاتل : أقسم الله بهذه الأشياء . ( إن عذاب ربك لواقع ) نازل كائن .

    ( ما له من دافع ) مانع ، قال جبير بن مطعم : قدمت المدينة لأكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب ، وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ " والطور " إلى قوله " إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع " ، فكأنما صدع قلبي حين سمعته ، ولم يكن أسلم يومئذ ، قال : فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب .
    [ ص: 387 ] يوم تمور السماء مورا ( 9 ) وتسير الجبال سيرا ( 10 ) فويل يومئذ للمكذبين ( 11 ) الذين هم في خوض يلعبون ( 12 ) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ( 13 ) هذه النار التي كنتم بها تكذبون ( 14 ) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ( 15 ) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( 16 ) إن المتقين في جنات ونعيم ( 17 ) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ( 18 ) )

    ثم بين أنه متى يقع فقال :

    ( يوم تمور السماء مورا ) أي : تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة . قال قتادة : تتحرك . قال عطاء الخراساني : تختلف أجزاؤها بعضها في بعض . وقيل : تضطرب ، و " المور " يجمع هذه المعاني ، فهو في اللغة : الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب .

    ( وتسير الجبال سيرا ) فتزول عن أماكنها وتصير هباء منثورا .

    ( فويل ) فشدة عذاب ( يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون ) يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين .

    ( يوم يدعون ) يدفعون ( إلى نار جهنم دعا ) دفعا بعنف وجفوة ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون بهم إلى النار دفعا على وجوههم ، وزجا في أقفيتهم حتى يردوا النار ، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها :

    ( هذه النار التي كنتم بها تكذبون ) في الدنيا . ( أفسحر هذا ) وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر ، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر ، فوبخوا به ، وقيل لهم : ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ) .

    ( اصلوها ) قاسوا شدتها ( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) الصبر والجزع ( إنما تجزون ما كنتم تعملون ) .

    ( إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين ) معجبين بذلك ناعمين ( بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) ويقال لهم :
    [ ص: 388 ] ( كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ( 19 ) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين ( 20 ) والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ( 21 ) )

    ( كلوا واشربوا هنيئا ) مأمون العاقبة من التخمة والسقم ( بما كنتم تعملون ) .

    ( متكئين على سرر مصفوفة ) موضوعة بعضها إلى جنب بعض ( وزوجناهم بحور عين ) .

    ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ) قرأ أبو عمرو : " وأتبعناهم " ، بقطع الألف على التعظيم ، " ذرياتهم " ، بالألف وكسر التاء فيهما لقوله : " ألحقنا بهم " " وما ألتناهم " ، ليكون الكلام على نسق واحد .

    وقرأ الآخرون : " واتبعتهم " بوصل الألف وتشديد التاء بعدها وسكون التاء الأخيرة .

    ثم اختلفوا في " ذريتهم " : قرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء ، والثانية بالألف وكسر التاء ، وقرأ أهل الشام ويعقوب كلاهما بالألف وكسر التاء في الثانية ، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما ورفع التاء في الأولى ونصبها في الثانية .

    واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، يعني : أولادهم الصغار والكبار ، فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعا لأحد الأبوين ( ألحقنا بهم ذريتهم ) المؤمنين [ في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم ] تكرمة لآبائهم لتقر بذلك أعينهم . وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم .

    وقال آخرون : معناه والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم البالغون بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم . وهو قول الضحاك ، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أخبر الله - عز وجل - أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه ، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه ، من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئا ، فذلك قوله : ( وما ألتناهم ) قرأ ابن كثير بكسر اللام ، والباقون بفتحها أي ما نقصناهم يعني الآباء ( من عملهم من شيء ) . [ ص: 389 ]

    أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الحديثي ، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جبارة بن المغلس ، حدثنا قيس بن الربيع ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه " ، ثم قرأ : " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " ، إلى آخر الآية .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي - رضي الله عنه - قال : سألت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما في النار " ، فلما رأى الكراهة في وجهها ، قال : " لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " ، قالت : يا رسول الله فولدي منك ؟ قال : " في الجنة " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار " ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " .

    ( كل امرئ بما كسب رهين ) قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا ، لقوله - عز وجل - : " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " ، ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال :
    [ ص: 390 ] وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون ( 22 ) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ( 23 ) ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ( 24 ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( 25 ) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ( 26 ) )

    ( وأمددناهم بفاكهة ) زيادة على ما كان لهم ( ولحم مما يشتهون ) من أنواع اللحمان .

    ( يتنازعون ) يتعاطون ويتناولون ( فيها كأسا لا لغو فيها ) وهو الباطل ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال مقاتل بن حيان : لا فضول فيها . وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها . وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها . وقال القتيبي : لا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا ( ولا تأثيم ) أي لا يكون منهم ما يؤثمهم . قال الزجاج : لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر . وقيل : لا يأثمون في شربها .

    ( ويطوف عليهم ) بالخدمة ( غلمان لهم كأنهم ) في الحسن والبياض والصفاء ( لؤلؤ مكنون ) مخزون مصون لم تمسه الأيدي . قال سعيد بن جبير : يعني في الصدف .

    قال عبد الله بن عمر : وما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه .

    وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال : قالوا يا رسول الله : الخادم كاللؤلؤ المكنون ، فكيف المخدوم ؟

    وعن قتادة أيضا قال : ذكر لنا أن رجلا قال : يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم ؟ قال : " فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " .

    ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) يسأل بعضهم بعضا في الجنة . قال ابن عباس : يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا .

    ( قالوا إنا كنا قبل في أهلنا ) في الدنيا ( مشفقين ) خائفين من العذاب .
    [ ص: 391 ] فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم ( 27 ) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ( 28 ) فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ( 29 ) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ( 30 ) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ( 31 ) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون ( 32 ) )

    ( فمن الله علينا ) بالمغفرة ( ووقانا عذاب السموم ) قال الكلبي : عذاب النار . وقال الحسن : " السموم " اسم من أسماء جهنم .

    ( إنا كنا من قبل ) في الدنيا ( ندعوه ) نخلص له العبادة ( إنه ) قرأ أهل المدينة [ والكسائي ] " أنه " بفتح الألف ، أي : لأنه أو بأنه ، وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف ( هو البر ) قال ابن عباس : اللطيف . وقال الضحاك : الصادق فيما وعد ( الرحيم ) .

    ( فذكر ) يا محمد بالقرآن أهل مكة ( فما أنت بنعمة ربك ) برحمته وعصمته ( بكاهن ) تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي ( ولا مجنون ) نزلت في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكهانة والسحر والجنون والشعر .

    ( أم يقولون ) بل يقولون ، يعني : هؤلاء المقتسمين الخراصين ( شاعر ) أي : هو شاعر ( نتربص به ريب المنون ) حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء ، ويتفرق أصحابه ، وإن أباه مات شابا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه ، و " المنون " يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى الموت ، سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل .

    ( قل تربصوا ) انتظروا بي الموت ( فإني معكم من المتربصين ) [ من المنتظرين ] حتى يأتي أمر الله فيكم ، فعذبوا يوم بدر بالسيف .

    ( أم تأمرهم أحلامهم ) عقولهم ( بهذا ) وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول ، فأزرى الله بعقولهم حين لم تتميز لهم معرفة الحق من الباطل ( أم هم ) بل هم ( قوم طاغون ) .
    [ ص: 392 ] أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ( 33 ) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ( 34 ) أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( 35 ) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ( 36 ) أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون ( 37 ) )

    ( أم يقولون تقوله ) أي : يخلق القرآن من تلقاء نفسه ، " والتقول " ، تكلف القول ، ولا يستعمل إلا في الكذب ، ليس الأمر كما زعموا ( بل لا يؤمنون ) بالقرآن استكبارا . ثم ألزمهم الحجة فقال : ( فليأتوا بحديث مثله ) أي : مثل القرآن ونظمه وحسن بيانه ( إن كانوا صادقين ) أن محمدا يقوله من قبل نفسه .

    ( أم خلقوا من غير شيء ) قال ابن عباس : من غير رب ، ومعناه : أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق ؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون ، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم ، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق ( أم هم الخالقون ) لأنفسهم وذلك في البطلان أشد ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق ؟

    فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به ، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي .

    وقال الزجاج : معناه : أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ؟ وقال ابن كيسان : أخلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون ، فهو كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء أي : لغير شيء ، أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر ؟

    ( أم خلقوا السماوات والأرض ) فيكونوا هم الخالقين ، ليس الأمر كذلك ( بل لا يوقنون ) .

    ( أم عندهم خزائن ربك ) قال عكرمة : يعني النبوة . قال مقاتل : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا ؟ قال الكلبي : خزائن المطر والرزق ( أم هم المسيطرون ) المسلطون الجبارون ، قال عطاء : أرباب قاهرون فلا يكونوا تحت أمر ونهي ، يفعلون ما شاءوا . ويجوز بالسين والصاد جميعا ، قرأ ابن عامر بالسين هاهنا وقوله : " بمسيطر " ، وقرأ حمزة بإشمام الزاي فيهما ، وقرأ ابن كثير هاهنا بالسين و " بمصيطر " بالصاد ، وقرأ الآخرون بالصاد فيهما .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (387)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّجْمِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 11


    [ ص: 393 ] أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ( 38 ) أم له البنات ولكم البنون ( 39 ) أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ( 40 ) أم عندهم الغيب فهم يكتبون ( 41 ) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ( 42 ) )

    ( أم لهم سلم ) مرقى ومصعد إلى السماء ( يستمعون فيه ) أي يستمعون عليه الوحي ، كقوله : " ولأصلبنكم في جذوع النخل " ( طه - 71 ) أي : عليها ، معناه : ألهم سلم يرتقون به إلى السماء ، فيستمعون الوحي ويعلمون أن ما هم عليه حق بالوحي ، فهم مستمسكون به كذلك ؟ ( فليأت مستمعهم ) إن ادعوا ذلك ( بسلطان مبين ) حجة بينة .

    ( أم له البنات ولكم البنون ) هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون ، كقوله : " فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون " ( الصافات - 149 ) .

    ( أم تسألهم أجرا ) جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه من الدين ( فهم من مغرم مثقلون ) أثقلهم ذلك المغرم الذي تسألهم ، فمنعهم من ذلك عن الإسلام .

    ( أم عندهم الغيب ) أي : علم ما غاب عنهم ، حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث باطل .

    وقال قتادة : هذا جواب لقولهم : " نتربص به ريب المنون " ، يقول : أعندهم علم الغيب حتى علموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يموت قبلهم ؟ ( فهم يكتبون ) أي : يحكمون ، والكتاب : الحكم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه : " أقضي بينكما بكتاب الله " أي بحكم الله .

    وقال ابن عباس : معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به ؟

    ( أم يريدون كيدا ) مكرا بك ليهلكوك ؟ ( فالذين كفروا هم المكيدون ) أي : هم المجزيون بكيدهم ، يريد أن ضرر ذلك يعود عليهم ، ويحيق مكرهم بهم ، وذلك أنهم مكروا به في دار الندوة فقتلوا ببدر .
    [ ص: 394 ] أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ( 43 ) وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ( 44 ) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ( 45 ) يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ( 46 ) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 47 ) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ( 48 ) )

    ( أم لهم إله غير الله ) يرزقهم وينصرهم ؟ ( سبحان الله عما يشركون ) قال الخليل : ما في هذه السورة من ذكر " أم " كله استفهام وليس بعطف .

    ( وإن يروا كسفا ) قطعة ( من السماء ساقطا ) هذا جواب لقولهم : " فأسقط علينا كسفا من السماء " ، يقول : لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم ( يقولوا ) لمعاندتهم هذا ( سحاب مركوم ) بعضه على بعض يسقينا .

    ( فذرهم حتى يلاقوا ) يعانوا ( يومهم الذي فيه يصعقون ) أي : يموتون ، حتى يعانوا الموت ، قرأ ابن عامر وعاصم يصعقون بضم الياء ، أي : يهلكون .

    ( يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ) أي : لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع .

    ( وإن للذين ظلموا ) [ كفروا ] ( عذابا دون ذلك ) أي : عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة . قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر ، وقال الضحاك : هو الجوع والقحط سبع سنين . وقال البراء بن عازب : هو عذاب القبر . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن العذاب نازل بهم .

    ( واصبر لحكم ربك ) إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم ( فإنك بأعيننا ) أي بمرأى منا ، قال ابن عباس : نرى ما يعمل بك . وقال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك . ( وسبح بحمد ربك حين تقوم ) قال سعيد بن جبير وعطاء : أي : قل حين تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك ، فإن كان المجلس خيرا ازددت فيه إحسانا ، وإن كان غير ذلك كان كفارة له . [ ص: 395 ]

    أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد القفال ، أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البرونجردي ، أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي ، حدثنا أحمد بن عبد الله القرشي ، حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من جلس مجلسا وكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلا كان كفارة لما بينهما " .

    وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : معناه صل لله حين تقوم من مقامك .

    وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " .

    أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا الحسن بن عرفة ويحيى بن موسى قال : حدثنا أبو معاوية عن حارثة بن أبي الرجال ، عن عمرة عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال : " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " .

    وقال الكلبي : هو ذكر الله باللسان حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة .

    أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلئي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا [ ص: 396 ] محمد بن نافع ، حدثنا زيد بن حباب ، أخبرني معاوية بن صالح ، أخبرنا أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد قال : سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان يفتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيام الليل ؟ فقالت : كان إذا قام كبر الله عشرا ، وحمد الله عشرا ، وسبح الله عشرا ، وهلل عشرا ، واستغفر عشرا ، وقال : اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة " .
    ( ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ( 49 ) )

    ( ومن الليل فسبحه ) أي : صل له ، قال مقاتل : يعني صلاة المغرب والعشاء . ( وإدبار النجوم ) يعني الركعتين قبل صلاة الفجر ، وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الضحاك : هو فريضة صلاة الصبح .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور .
    سُورَةُ النَّجْمِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) )

    ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ : يَعْنِي الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ وَغَابَتْ ، وَهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الثُّرَيَّا نَجْمًا .

    وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا : " مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطُّ وَفِي الْأَرْضِ مِنَ الْعَاهَةِ شَيْءٌ إِلَّا رُفِعَ " وَأَرَادَ بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا .

    وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ نُجُومُ السَّمَاءِ كُلُّهَا حِينَ تَغْرُبُ لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ ، سُمِّيَ الْكَوْكَبُ نَجْمًا لِطُلُوعِهِ ، وَكُلُّ طَالِعٍ نَجْمٌ ، يُقَالُ : نَجَمَ السِّنُّ وَالْقَرْنُ وَالنَّبْتُ : إِذَا طَلَعَ .

    وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ الرُّجُومُ مِنَ النُّجُومِ يَعْنِي مَا تُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ . [ ص: 400 ]

    وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَّالِيُّ : هِيَ النُّجُومُ إِذَا انْتَثَرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْقُرْآنُ سَمِّيَ نَجْمًا لِأَنَّهُ نُزِّلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً فِي عِشْرِينَ سَنَةً ، وَسُمِّي التَّفْرِيقُ : تَنْجِيمًا ، وَالْمُفَرَّقُ : مُنَجَّمًا ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيُّ .

    " الْهُوِّيُّ " : النُّزُولُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ . وَقَالَ الْأَخْفَشُ : " النَّجْمُ " هُوَ النَّبْتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ " ( الرَّحْمَنِ - 6 ) ، وَهُوِيُّهُ سُقُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ . وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ : يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ، وَ " الْهُوِيُّ " : النُّزُولُ ، يُقَالُ : هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا [ إِذَا نَزَلَ ] مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا .
    ( ما ضل صاحبكم وما غوى ( 2 ) وما ينطق عن الهوى ( 3 ) إن هو إلا وحي يوحى ( 4 ) علمه شديد القوى ( 5 ) ذو مرة فاستوى ( 6 ) وهو بالأفق الأعلى ( 7 ) )

    وجواب القسم : قوله : ( ما ضل صاحبكم ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما ضل عن طريق الهدى ( وما غوى ( وما ينطق عن الهوى ) أي : بالهوى يريد لا يتكلم بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول القرآن من تلقاء نفسه .

    ( إن هو ) ما نطقه في الدين ، وقيل : القرآن ( إلا وحي يوحى ) أي : وحي من الله يوحى إليه .

    ( علمه شديد القوى ) جبريل ، والقوى جمع القوة .

    ( ذو مرة ) قوة وشدة في خلقه يعني جبريل . قال ابن عباس : ذو مرة يعني : ذو منظر حسن . وقال مقاتل : ذو خلق طويل حسن . ( فاستوى ) يعني : جبريل .

    ( وهو ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولون استوى هو وفلان ، وقلما يقولون : استوى وفلان نظير هذا قوله : " أئذا كنا ترابا وآباؤنا " ( النمل - 67 ) عطف الآباء على المكنى في " كنا " من غير إظهار نحن ، ومعنى الآية : استوى جبريل ومحمد عليهما السلام ليلة المعراج ( بالأفق الأعلى ) وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس ، وقيل : " فاستوى " يعني جبريل ، وهو كناية عن جبريل أيضا أي : قام في صورته التي خلقه [ ص: 401 ] الله ، وهو بالأفق الأعلى ، وذلك أن جبريل كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين ، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريه نفسه على الصورة التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، والمراد بالأعلى جانب المشرق ، وذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب ، فخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغشيا عليه ، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه ، وهو قوله : " ثم دنا فتدلى " وأما في السماء فعند سدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
    ( ثم دنا فتدلى ( 8 ) فكان قاب قوسين أو أدنى ( 9 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) اختلفوا في معناه :

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن ابن الأشوع عن الشعبي عن مسروق قال : قلت لعائشة فأين قوله : " ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " ؟ قالت : " ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل ، وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته ، فسد الأفق " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : " فكان قاب قوسين أو أدنى " ، قال : أخبرنا عبد الله - يعني ابن مسعود - أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح .

    فمعنى الآية : ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض " فتدلى " فنزل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان منه " قاب قوسين أو أدنى " ، بل أدنى ، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة ، قيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : ثم تدلى فدنا؛ لأن التدلي سبب الدنو .

    وقال آخرون : ثم دنا الرب - عز وجل - من محمد - صلى الله عليه وسلم - فتدلى ، فقرب منه حتى كان قاب [ ص: 402 ] قوسين أو أدنى . وروينا في قصة المعراج عن شريك بن عبد الله عن أنس : ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى . وهذا رواية ابن سلمة عن ابن عباس ، " والتدلي " هو النزول إلى الشيء حتى يقرب منه .

    وقال مجاهد : دنا جبريل من ربه .

    وقال الضحاك : دنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه فتدلى فأهوى للسجود ، فكان منه قاب قوسين أو أدنى .

    ومعنى قوله : " قاب قوسين " أي قدر قوسين ، و " القاب " و " القيب " و " القاد " و " القيد " : عبارة عن المقدار ، و " القوس " : ما يرمى به في قول الضحاك ومجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس ، فأخبر أنه كان بين جبريل وبين محمد عليهما السلام مقدار قوسين ، قال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس ، وهذا إشارة إلى تأكيد القرب . وأصله : أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما ، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه .

    وقال عبد الله بن مسعود : " قاب قوسين " أي : قدر ذراعين ، وهو قول سعيد بن جبير وشقيق بن سلمة ، و " القوس " : الذراع يقاس بها كل شيء ، " أو أدنى " : بل أقرب .
    ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ( 10 ) )

    ( فأوحى ) أي : أوحى الله ( إلى عبده ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى ، قال ابن عباس في رواية عطاء ، والكلبي ، والحسن ، والربيع ، وابن زيد : معناه : أوحى جبريل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى إليه ربه - عز وجل - .

    قال سعيد بن جبير : أوحى إليه : " ألم يجدك يتيما فآوى " ( الضحى - 6 ) إلى قوله تعالى : " ورفعنا لك ذكرك " ، ( الشرح - 4 ) وقيل : أوحى إليه : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
    [ ص: 403 ] ( ما كذب الفؤاد ما رأى ( 11 ) )

    ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) قرأ أبو جعفر " ما كذب الفؤاد " بتشديد الذال أي : ما كذب قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما رأى بعينه تلك الليلة ، بل صدقه وحققه ، وقرأ الآخرون بالتخفيف أي : ما كذب فؤاد محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رأى بل صدقه ، يقال : كذبه إذا قال له الكذب مجازه : ما كذب الفؤاد فيما رأى ، واختلفوا في الذي رآه ، فقال قوم : رأى جبريل ، وهو قول ابن مسعود وعائشة .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص هو ابن غياث عن الشيباني عن زر عن عبد الله قال : " ما كذب الفؤاد ما رأى " قال : رأى جبريل له ستمائة جناح .

    وقال آخرون : هو الله - عز وجل - . ثم اختلفوا في معنى الرؤية ، فقال بعضهم : جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده ، وهو قول ابن عباس .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس : " ما كذب الفؤاد ما رأى " . " ولقد رآه نزلة أخرى " قال : رآه بفؤاده مرتين .

    وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة ، قالوا : رأى محمد ربه ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية .

    وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وتحمل الآية على رؤيته جبريل عليه السلام : [ ص: 404 ]

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال : قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت : أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب ؟ من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " ، ( الأنعام - 103 ) " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " ( الشورى - 51 ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا " ( لقمان - 34 ) ومن حدثك أنه كتم شيئا فقد كذب ، ثم قرأت : " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ( المائدة - 67 ) الآية ، ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن [ شقيق ] عن أبي ذر قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (388)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّجْمِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 12 إلى الاية 33


    ( أفتمارونه على ما يرى ( 12 ) ولقد رآه نزلة أخرى ( 13 ) عند سدرة المنتهى ( 14 ) )

    ( أفتمارونه على ما يرى ) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " أفتمرونه " بفتح التاء [ وسكون الميم ] بلا ألف ، أي : أفتجحدونه ، تقول العرب : مريت الرجل حقه إذا جحدته ، وقرأ الآخرون : " أفتمارونه " بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به ، والمعنى : أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه .

    ( ولقد رآه نزلة أخرى ) يعني : رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى ، وذلك أنه رآه في صورته مرتين ، مرة في الأرض ومرة في السماء .

    ( عند سدرة المنتهى ) وعلى قول ابن عباس معنى : " نزلة أخرى " هو أنه كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات ، فيكون لكل عرجة نزلة ، فرأى ربه [ ص: 405 ] في بعضها ، وروينا عنه : " أنه رأى ربه بفؤاده مرتين " وعنه : " أنه رأى بعينه " قوله : " عند سدرة المنتهى " روينا عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، قال تعالى : " عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى " ، قال : فراش من ذهب .

    وروينا في حديث المعراج : " ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام فسلمت عليه ، ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة " .

    " والسدرة " شجرة النبق ، وقيل لها : سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم الخلق . قال هلال بن [ يساف ] : سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر ، فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رءوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق ، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة ، حدثنا المسوحي ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا يونس بن بكير ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر سدرة المنتهى ، قال : " يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة عام ويستظل في الفنن منها مائة ألف راكب ، فيها فراش من ذهب ، كأن ثمرها القلال " .

    وقال مقاتل : هي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، وهي طوبى التي ذكرها الله تعالى في سورة الرعد .
    [ ص: 406 ] ( عندها جنة المأوى ( 15 ) إذ يغشى السدرة ما يغشى ( 16 ) ما زاغ البصر وما طغى ( 17 ) لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( 18 ) )

    ( عندها جنة المأوى ) قال عطاء عن ابن عباس : جنة يأوي إليها جبريل والملائكة . وقال مقاتل والكلبي : يأوي إليها أرواح الشهداء .

    ( إذ يغشى السدرة ما يغشى ) قال ابن مسعود : فراش من ذهب .

    وروينا في حديث المعراج عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشى من أمر الله ما غشى تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، وأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة " .

    وقال مقاتل : تغشاها الملائكة أمثال الغربان ، وقال السدي : من الطيور . وروي عن أبي العالية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أو غيره قال : غشيها نور الخلائق وغشيتها الملائكة من حب الله أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة . قال : فكلمه عند ذلك ، فقال له : سل . وعن الحسن قال : غشيها نور رب العزة فاستنارت . ويروى في الحديث : " رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح الله تعالى " .

    ( ما زاغ البصر وما طغى ) أي : ما مال بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يمينا ولا شمالا وما طغى ، أي ما جاوز ما رأى . وقيل : ما جاوز ما أمر به وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا .

    ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) يعني : الآيات العظام . وقيل : أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره وعوده ، دليله قوله : " لنريه من آياتنا " ، ( الإسراء - 1 ) وقيل : معناه لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا [ ص: 407 ] شعبة عن سليمان الشيباني سمع زر بن حبيش عن عبد الله قال : لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح .

    وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمرو ، حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة [ عن عبد الله ] " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ؟ قال : رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء .
    ( أفرأيتم اللات والعزى ( 19 ) )

    قوله - عز وجل - : ( أفرأيتم اللات والعزى ) هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها ، اشتقوا لها أسماء من أسماء الله تعالى فقالوا من الله : اللات ، ومن العزيز : العزى . وقيل : العزى : تأنيث الأعز ، أما " اللات " قال قتادة : كانت بالطائف ، وقال ابن زيد : بيت بنخلة كانت قريش تعبده .

    وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح : " اللات " بتشديد التاء ، وقالوا : كان رجلا يلت السويق للحاج ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه .

    وقال مجاهد : كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط ، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها حيسا فيطعم منه الحاج ، وكان ببطن نخلة ، فلما مات عبدوه ، وهو اللات .

    وقال الكلبي : كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم ، وكان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلت به أسوقتهم ، فلما مات الرجل حولتها ثقيف إلى منازلها فعبدتها ، فسدرة الطائف على موضع اللات .

    وأما " العزى " : قال مجاهد : هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد بن الوليد يضربها بالفأس ويقول : [ ص: 408 ]
    يا عز كفرانك لا سبحانك

    إني رأيت الله قد أهانك


    فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها .

    ويقال : إن خالدا رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد قلعتها ، فقال : ما رأيت ؟ قال : ما رأيت شيئا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما قلعت ، فعاودها فعاد إليها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة ، فقتلها ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك ، فقال : " تلك العزى ولن تعبد أبدا " .

    وقال الضحاك : هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني ، وذلك أنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما ، فعاد إلى بطن نخلة ، وقال لقومه : إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ، ولهم إله يعبدونه وليس لكم ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : أنا أصنع لكم كذلك ، فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة ونقلهما إلى نخلة ، فوضع الذي أخذ من الصفا ، فقال : هذا الصفا ، ثم وضع الذي أخذه من المروة ، فقال : هذه المروة ، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة ، فقال : هذا ربكم ، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة ، حتى افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ، فأمر برفع الحجارة ، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها .

    وقال ابن زيد : هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف .
    ( ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) )

    ( ومناة ) قرأ ابن كثير بالمد والهمزة ، وقرأ العامة بالقصر غير مهموز ، لأن العرب سمت زيد مناة وعبد مناة ، ولم يسمع فيها المد . قال قتادة : هي لخزاعة كانت بقديد ، قالت عائشة رضي الله عنها في الأنصار : كانوا يهلون لمناة ، وكانت حذو قديد . قال ابن زيد : بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب . قال الضحاك : مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة . وقال بعضهم : اللات والعزى ومناة : أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها .

    واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة : فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء . وقال بعضهم : ما كتب في المصحف بالتاء يوقف عليه بالتاء ، وما كتب بالهاء فيوقف عليه بالهاء . [ ص: 409 ]

    وأما قوله : ( الثالثة الأخرى ) [ فالثالثة ] نعت لمناة ، أي : الثالثة للصنمين في الذكر ، وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى ، إنما الأخرى هاهنا نعت للثانية . قال الخليل : فالياء لوفاق رءوس الآي ، كقوله : " مآرب أخرى " ( طه - 18 ) ولم يقل : أخر . وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة .

    ومعنى الآية : " أفرأيتم " : أخبرونا يا أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله ، قال الكلبي : كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات الله ، وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك .
    ( ألكم الذكر وله الأنثى ( 21 ) تلك إذا قسمة ضيزى ( 22 ) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( 23 ) )

    فقال الله تعالى منكرا عليهم : ( ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) قال ابن عباس وقتادة : أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم . قال مجاهد ومقاتل : قسمة عوجاء . وقال الحسن : غير معتدلة .

    قرأ ابن كثير : " ضئزى " بالهمز ، وقرأ الآخرون بغير همز .

    قال الكسائي : يقال منه ضاز يضيز ضيزا ، وضاز يضوز ضوزا ، وضاز يضاز ضازا إذا ظلم ونقص ، وتقدير ضيزى من الكلام فعلى بضم الفاء ، لأنها صفة والصفات لا تكون إلا على فعلى بضم الفاء ، نحو حبلى وأنثى وبشرى ، أو فعلى بفتح الفاء ، نحو غضبى وسكرى وعطشى ، وليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت ، إنما يكون في الأسماء ، مثل : ذكرى وشعرى ، وكسر الضاد هاهنا لئلا تنقلب الياء واوا وهي من بنات الياء كما قالوا في جمع أبيض بيض ، والأصل بوض مثل حمر وصفر ، فأما من قال : ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى .

    ( إن هي ) ما هذه الأصنام ( إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) حجة بما تقولون إنها آلهة . ثم رجع إلى الخبر بعد المخاطبة فقال : ( إن يتبعون إلا الظن ) في قولهم إنها آلهة ( وما تهوى الأنفس ) وما زين لهم الشيطان ( ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) البيان بالكتاب والرسول أنها ليست بآلهة ، فإن العبادة لا تصلح إلا لله الواحد القهار .
    [ ص: 410 ] ( أم للإنسان ما تمنى ( 24 ) فلله الآخرة والأولى ( 25 ) وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ( 26 ) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ( 27 ) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 28 ) فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ( 29 ) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ( 30 ) )

    ( ( أم للإنسان ما تمنى ) أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام ؟

    ( فلله الآخرة والأولى ) ليس كما ظن الكافر وتمنى ، بل لله الآخرة والأولى ، لا يملك أحد فيهما شيئا إلا بإذنه .

    ( وكم من ملك في السماوات ) يعبدهم هؤلاء الكفار ويرجون شفاعتهم عند الله ( لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله ) في الشفاعة ( لمن يشاء ويرضى ) أي : من أهل التوحيد . قال ابن عباس : يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن - رضي الله عنه - . وجمع الكناية في قوله : " شفاعتهم " والملك واحد؛ لأن المراد من قوله : " وكم من ملك " الكثرة ، فهو كقوله : " فما منكم من أحد عنه حاجزين " ( الحاقة - 47 ) .

    ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى ) أي : بتسمية الأنثى حين قالوا : إنهم بنات الله .

    ( وما لهم به من علم ) قال مقاتل : [ معناه ] ما يستيقنون أنهم [ بنات الله ] ( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) " والحق " بمعنى العلم ، أي : لا يقوم الظن مقام العلم . وقيل : " الحق " بمعنى العذاب ، [ أي : أظنهم لا ينقذهم من العذاب شيء ] .

    ( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ) يعني القرآن . وقيل : الإيمان ( ولم يرد إلا الحياة الدنيا . ) .

    ثم صغر رأيهم فقال : ( ذلك مبلغهم من العلم ) أي : ذلك نهاية علمهم وقدر عقولهم أن [ ص: 411 ] آثروا الدنيا على الآخرة .

    وقيل : لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله ، وأنها تشفع لهم ، فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن .

    ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) أي : هو عالم بالفريقين فيجازيهم .
    ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( 31 ) الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ( 32 ) )

    ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ) فاللام في قوله : " ليجزي " متعلق بمعنى الآية الأولى؛ لأنه إذا كان أعلم بهم جازى كلا بما يستحقه ، الذين أساءوا وأشركوا : بما عملوا من الشرك ( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) وحدوا ربهم : " بالحسنى " بالجنة . وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك ، ولذلك قال : " ولله ما في السماوات وما في الأرض " .

    ثم وصفهم فقال : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية : إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة [ ومجاهد ، والحسن ] ، ورواية عطاء عن ابن عباس .

    قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك .

    وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : " إلا اللمم " ، فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم . [ ص: 412 ]

    وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : " إلا اللمم " ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما " .

    وأصل " اللمم والإلمام " : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون إعادة ، ولا إقامة .

    وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : لكن اللمم ، ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن ثابت ، وزيد بن أسلم .

    وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمود بن غيلان ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه " .

    ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وزاد : " العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد [ زناها ] البطش ، والرجل زناها الخطى " . [ ص: 413 ]

    وقال الكلبي : " اللمم " على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه .

    وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب أي خطر .

    وقال الحسين بن الفضل : " اللمم " النظرة من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب .

    ( إن ربك واسع المغفرة ) قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام هاهنا ، ثم قال : ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ) أي خلق أباكم آدم من التراب ( وإذ أنتم أجنة ) جمع جنين ، سمي جنينا لاجتنانه في البطن ( في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم ) قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرءوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها .

    قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( هو أعلم بمن اتقى ) أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
    ( أفرأيت الذي تولى ( 33 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ( أفرأيت الذي تولى ) نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيره بعض المشركين وقال له : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن الذي عاتبه إن هو [ وافقه ] أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل [ ص: 414 ] عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه ، فأنزل الله - عز وجل - " أفرأيت الذي تولى " أدبر عن الإيمان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (389)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّجْمِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 34 إلى الاية 62


    ( وأعطى قليلا وأكدى ( 34 ) أعنده علم الغيب فهو يرى ( 35 ) أم لم ينبأ بما في صحف موسى ( 36 ) وإبراهيم الذي وفى ( 37 ) )

    ( وأعطى ) صاحبه ( قليلا وأكدى ) بخل بالباقي .

    وقال مقاتل : " أعطى " يعني الوليد " قليلا " من الخير بلسانه ، ثم " أكدى " : يعني قطعه وأمسك ولم يقم على العطية .

    وقال السدي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وذلك أنه كان ربما يوافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور .

    وقال محمد بن كعب القرظي نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال : والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق ، فذلك قوله : " وأعطى قليلا وأكدى " أي لم يؤمن به ، ومعنى " أكدى " : يعني قطع ، وأصله من الكدية ، وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر ، تقول العرب : أكدى الحافر وأجبل ، إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل .

    ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه .

    ( أم لم ينبأ ) لم يخبر ( بما في صحف موسى ) يعني : أسفار التوراة .

    ( وإبراهيم ) في صحف إبراهيم عليه السلام ( الذي وفى ) تمم وأكمل ما أمر به .

    قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه

    قال مجاهد : وفى بما فرض عليه . [ ص: 415 ]

    قال الربيع : وفى رؤياه وقام بذبح ابنه .

    وقال عطاء الخراساني : استكمل الطاعة . وقال أبو العالية : وفى سهام الإسلام . وهو قوله : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " ، ( البقرة - 124 ) والتوفية الإتمام . وقال الضحاك : وفى ميثاق المناسك .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الخيري ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري ، حدثنا إسحاق بن منصور عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إبراهيم الذي وفى [ صلى ] أربع ركعات أول النهار " .

    أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، حدثنا أبو العباس المحبوبي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو جعفر الشيباني ، حدثنا أبو مسهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى أنه قال : " ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " .
    ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ( 38 ) )

    ثم بين ما في صحفهما فقال : ( ألا تزر وازرة وزر أخرى ) أي : لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى ، ومعناه : لا تؤخذ نفس بإثم غيرها . وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة بأنه يحمل عنه الإثم . [ ص: 416 ]

    وروى عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره ، كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده ، حتى كان إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك ، وبلغهم عن الله : " ألا تزر وازرة وزر أخرى " .
    ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( 39 ) )

    ( ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) أي : عمل ، كقوله : " إن سعيكم لشتى " ، ( الليل - 4 ) وهذا أيضا في صحف إبراهيم وموسى .

    وقال ابن عباس : هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة ، بقوله : " ألحقنا بهم ذريتهم " ، ( الطور - 21 ) فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء .

    وقال عكرمة : كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى ، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم ، لما روي أن امرأة رفعت صبيا لها فقالت : يا رسول الله ألهذا حج ؟ قال : " نعم ، ولك أجر " .

    وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أمي افتلتت نفسها ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : " نعم " .

    وقال الربيع بن أنس : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " يعني الكافر ، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له .

    وقيل : ليس للكافر من الخير إلا ما عمل هو ، فيثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير [ ص: 417 ]

    ويروى أن عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصا ألبسه إياه ، فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفنه فيه ، فلم يبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها .
    ( وأن سعيه سوف يرى ( 40 ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى ( 41 ) وأن إلى ربك المنتهى ( 42 ) )

    ( وأن سعيه سوف يرى ) في ميزانه يوم القيامة ، [ مأخوذة ] من : أريته الشيء .

    ( ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) الأكمل والأتم أي : يجزى الإنسان بسعيه ، يقال : جزيت فلانا سعيه وبسعيه ، قال الشاعر :
    إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد
    فجمع بين اللغتين .

    ( وأن إلى ربك المنتهى ) أي : منتهى الخلق ومصيرهم إليه ، وهو مجازيهم بأعمالهم . وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد الشيباني أخبرنا محمد بن سليمان بن الفتح الحنبلي ، حدثنا علي بن محمد المصري ، أخبرنا أبو إسحاق بن منصور الصعدي ، أخبرنا العباس بن زفر ، عن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " وأن إلى ربك المنتهى " ، قال : " لا فكرة في الرب " ، وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا : " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق " فإنه لا تحيط به الفكرة .
    [ ص: 418 ] ( وأنه هو أضحك وأبكى ( 43 ) وأنه هو أمات وأحيا ( 44 ) وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( 45 ) من نطفة إذا تمنى ( 46 ) وأن عليه النشأة الأخرى ( 47 ) )

    ( وأنه هو أضحك وأبكى ) فهذا يدل على أن كل ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه حتى الضحك والبكاء ، قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر .

    قال عطاء بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك ، والحزن يجلب البكاء .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا قيس ، هو ابن الربيع الأسدي ، حدثنا سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم وكان أصحابه يجلسون ويتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - .

    وقال معمر عن قتادة : سئل ابن عمر هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون ؟ قال : نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل .

    ( وأنه هو أمات وأحيا ) أي : أمات في الدنيا وأحيا للبعث . وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء . وقيل : أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة .

    ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) من كل حيوان .

    ( من نطفة إذا تمنى ) أي : تصب في الرحم ، يقال : منى الرجل وأمنى . قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح . وقال آخرون : تقدر ، يقال : منيت الشيء إذا قدرته .

    ( وأن عليه النشأة الأخرى ) أي : الخلق الثاني للبعث يوم القيامة .
    [ ص: 419 ] ( وأنه هو أغنى وأقنى ( 48 ) وأنه هو رب الشعرى ( 49 ) وأنه أهلك عادا الأولى ( 50 ) )

    ( ( وأنه هو أغنى وأقنى ) قال أبو صالح : أغنى الناس بالأموال وأقنى أي : أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية .

    قال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال ، وأقنى بالإبل والبقر والغنم .

    وقال قتادة والحسن : " أقنى " : أخدم .

    وقال ابن عباس : " أغنى وأقنى " : أعطى فأرضى .

    قال مجاهد ومقاتل : " أقنى " : أرضى بما أعطى وقنع .

    وقال ابن زيد : " أغنى " : أكثر " وأقنى " : أقل وقرأ : " يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " ، ( الإسراء - 30 ) وقال الأخفش : " أقنى " : أفقر . وقال ابن كيسان : أولد .

    ( وأنه هو رب الشعرى ) وهو كوكب خلف الجوزاء وهما شعريان ، يقال لإحداهما العبور وللأخرى الغميصاء ، سميت بذلك لأنها أخفى من الأخرى ، والمجرة بينهما . وأراد هاهنا الشعرى العبور ، وكانت خزاعة تعبدها ، وأول من سن لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها ، وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى طولا فهي مخالفة لها ، فعبدتها خزاعة ، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة لخلافه إياهم ، كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى .

    ( ( وأنه أهلك عادا الأولى ) قرأ أهل المدينة والبصرة بلام مشددة بعد الدال ، ويهمز واوه قالون عن نافع ، والعرب تفعل ذلك فتقول : قم لان عنا ، تريد : قم الآن ، ويكون الوقف عند " عادا " ، والابتداء " أولى " بهمزة واحدة مفتوحة بعدها لام مضمومة ، [ ويجوز الابتداء : لولى ] بحذف الهمزة المفتوحة .

    وقرأ الآخرون : " عادا الأولى " ، وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر ، فكان لهم عقب ، فكانوا عادا الأخرى .
    [ ص: 420 ] ( وثمود فما أبقى ( 51 ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ( 52 ) والمؤتفكة أهوى ( 53 ) فغشاها ما غشى ( 54 ) فبأي آلاء ربك تتمارى ( 55 ) هذا نذير من النذر الأولى ( 56 ) أزفت الآزفة ( 57 ) ليس لها من دون الله كاشفة ( 58 ) أفمن هذا الحديث تعجبون ( 59 ) وتضحكون ولا تبكون ( 60 ) )

    ( وثمود ) قوم صالح أهلكهم الله بالصيحة ( فما أبقى ) منهم أحدا .

    ( وقوم نوح من قبل ) أي : أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ( إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ) لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على الله بالمعصية والتكذيب .

    ( والمؤتفكة ) قرى قوم لوط ( أهوى ) أسقط أي : أهواها جبريل بعدما رفعها إلى السماء .

    ( فغشاها ) ألبسها الله ( ما غشى ) يعني : الحجارة المنضودة المسومة .

    ( فبأي آلاء ربك ) نعم ربك أيها الإنسان ، وقيل : أراد الوليد بن المغيرة ( تتمارى ) تشك وتجادل ، وقال ابن عباس : تكذب .

    ( هذا نذير ) يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( من النذر الأولى ) أي : رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم ، وقال قتادة : يقول : أنذر محمد كما أنذر الرسل من قبله .

    ( أزفت الآزفة ) دنت القيامة واقتربت الساعة .

    ( ليس لها من دون الله كاشفة ) أي : مظهرة مقيمة كقوله تعالى : " لا يجليها لوقتها إلا هو " ، ( الأعراف - 187 ) والهاء فيه للمبالغة أو على تقدير : نفس كاشفة . ويجوز أن تكون الكاشفة مصدرا كالخافية والعافية ، والمعنى : ليس لها من دون الله كاشف أي : لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره .

    وقيل : معناه : ليس لها راد يعني : إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد ، وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك .

    ( أفمن هذا الحديث ) يعني القرآن ( تعجبون وتضحكون ) يعني : استهزاء ( ولا تبكون ) مما فيه من الوعيد .

    [ ص: 421 ] ( وأنتم سامدون ( 61 ) فاسجدوا لله واعبدوا ( 62 ) )

    ( ( وأنتم سامدون ) لاهون غافلون ، و " السمود " : الغفلة عن الشيء واللهو ، يقال : دع عنك سمودك أي لهوك ، هذا رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال عكرمة عنه : هو الغناء بلغة أهل اليمن ، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا . وقال الضحاك : أشرون بطرون . وقال مجاهد : غضاب مبرطمون . فقيل له : ما البرطمة ؟ قال : الإعراض .

    ( فاسجدوا لله واعبدوا ) أي : واعبدوه .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة : النجم ، قال : فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف .

    وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم بن أبي إياس ، أخبرنا ابن أبي ذئب ، أخبرنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - " والنجم " فلم يسجد فيها .

    قلت : فهذا دليل على أن سجود التلاوة غير واجب . قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : [ ص: 422 ] إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء . وهو قول الشافعي وأحمد .

    وذهب قوم إلى أن وجوب سجود التلاوة على القارئ والمستمع جميعا ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (390)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ القمر
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 37


    سورة القمر

    مكية


    بسم الله الرحمن الرحيم

    ( ( اقتربت الساعة وانشق القمر ( 1 ) )

    ( اقتربت الساعة ) دنت القيامة ( وانشق القمر ) .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، أخبرنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما .

    وقال شيبان عن قتادة : فأراهم انشقاق القمر مرتين .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين ، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اشهدوا " . [ ص: 426 ]

    وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة . وقال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك .

    وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : [ انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة ، فاسألوا السفار ، فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه ، فأنزل الله - عز وجل - : " اقتربت الساعة وانشق القمر " .
    ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( 2 ) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ( 3 ) )

    ( ( وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ) أي : ذاهب وسوف يذهب ويبطل من قولهم : مر الشيء واستمر إذا ذهب ، مثل قولهم : قر واستقر ، قال هذا قول مجاهد وقتادة . وقال أبو العالية [ والضحاك ] : " مستمر " أي : قوي شديد يعلو كل سحر ، من قولهم : مر الحبل إذا صلب واشتد وأمررته إذا أحكمت فتله واستمر الشيء إذا قوي واستحكم .

    ( وكذبوا واتبعوا أهواءهم ) أي : كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عاينوا من قدرة الله - عز وجل - واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل . ( وكل أمر مستقر ) قال الكلبي : لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وما كان منه في الآخرة فسيعرف . وقال قتادة : كل أمر مستقر فالخير مستقر بأهل الخير ، [ والشر مستقر بأهل الشر ] .

    وقيل : كل أمر من خير أو شر مستقر قراره ، فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار .

    وقيل : يستقر قول المصدقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب . وقال مقاتل : لكل حديث منتهى . وقيل : كل ما قدر كائن واقع لا محالة .

    وقرأ أبو جعفر " مستقر " بكسر الراء ، ولا وجه له .
    [ ص: 427 ] ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ( 4 ) حكمة بالغة فما تغن النذر ( 5 ) فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر ( 6 ) خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ( 7 ) )

    ( ولقد جاءهم ) يعني : أهل مكة ( من الأنباء ) أخبار الأمم المكذبة في القرآن ( ما فيه مزدجر ) [ متناهى ] ، مصدر بمعنى الازدجار ، أي نهي وعظة ، يقال : زجرته وازدجرته إذا نهيته عن السوء ، وأصله : مزتجر ، قلبت التاء دالا .

    ( حكمة بالغة ) يعني : القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية ( فما تغن النذر ) يجوز أن تكون " ما " نفيا على معنى : فليست تغني النذر ، ويجوز أن يكون استفهاما والمعنى : فأي شيء تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم ؟ كقوله : " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ( يونس - 101 ) و " النذر " : جمع نذير .

    ( فتول عنهم ) أعرض عنهم نسختها آية القتال . قيل : هاهنا وقف تام . وقيل : ( فتول عنهم يوم يدع الداع ) أي : إلى يوم الداعي ، قال مقاتل : هو إسرافيل ينفخ قائما على صخرة بيت المقدس ( إلى شيء نكر ) [ منكر ] فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما ، قرأ ابن كثير : " نكر " بسكون الكاف ، والآخرون بضمها .

    ( خشعا أبصارهم ) قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، وحمزة ، والكسائي : " خاشعا " على الواحد ، وقرأ الآخرون : " خشعا " - بضم الخاء وتشديد الشين - على الجمع . ويجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والجمع والتذكير والتأنيث ، تقول : مررت برجال حسن أوجههم ، وحسنة أوجههم ، وحسان أوجههم ، قال الشاعر :
    ورجال حسن أوجههم

    من إياد بن نزار بن معد


    وفي قراءة عبد الله : " خاشعة أبصارهم " أي : ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب .

    ( يخرجون من الأجداث ) من القبور ( كأنهم جراد منتشر ) منبث حيارى ، وذكر المنتشر [ ص: 428 ] على لفظ الجراد ، نظيرها : " كالفراش المبثوث " ، ( القارعة - 4 ) وأراد أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم يقصدها ، كالجراد لا جهة لها ، تكون مختلطة بعضها في بعض .
    ( مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر ( 8 ) كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( 9 ) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ( 10 ) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ( 11 ) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ( 12 ) وحملناه على ذات ألواح ودسر ( 13 ) )

    ( مهطعين ) مسرعين مقبلين ( إلى الداعي ) إلى صوت إسرافيل ( يقول الكافرون هذا يوم عسر ) يوم صعب شديد .

    قوله - عز وجل - : ( كذبت قبلهم ) أي : قبل أهل مكة ( قوم نوح فكذبوا عبدنا ) نوحا ( وقالوا مجنون وازدجر ) أي : زجروه عن دعوته ومقالته بالشتم والوعيد ، وقالوا : " لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين " ( الشعراء - 116 ) وقال مجاهد : معنى : ازدجر أي : استطير جنونا .

    ( فدعا ) نوح ( ربه ) وقال ( أني مغلوب ) مقهور ( فانتصر ) فانتقم لي منهم .

    ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) منصب انصبابا شديدا ، لم ينقطع أربعين يوما ، وقال يمان : قد طبق ما بين السماء والأرض .

    ( وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء ) يعني ماء السماء وماء الأرض ، وإنما قال : " فالتقى الماء " والالتقاء لا يكون من واحد ، إنما يكون بين اثنين فصاعدا؛ لأن الماء يكون جمعا وواحدا . وقرأ عاصم الجحدري : فالتقى الماءان . ( على أمر قد قدر ) أي : قضي عليهم في أم الكتاب . وقال مقاتل : قدر الله أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر .

    ( وحملناه ) يعني : نوحا ( على ذات ألواح ودسر ) أي سفينة ذات ألواح ، ذكر النعت وترك الاسم ، أراد بالألواح خشب السفينة العريضة ( ودسر ) أي : المسامير التي تشد بها الألواح ، واحدها دسار ودسير ، يقال : دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير . وقال الحسن : الدسر صدر السفينة سميت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها ، أي تدفع . وقال مجاهد : هي عوارض السفينة . وقيل : أضلاعها . وقال الضحاك : الألواح جانباها ، والدسر أصلها وطرفاها .
    [ ص: 429 ] ( تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ( 14 ) ولقد تركناها آية فهل من مدكر ( 15 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 16 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 17 ) )

    ( تجري بأعيننا ) أي : بمرأى منا . وقال مقاتل بن حيان : بحفظنا ، ومنه قولهم للمودع : عين الله عليك . وقال سفيان : بأمرنا ( جزاء لمن كان كفر ) [ قال مقاتل بن حيان ] : يعني : فعلنا به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لمن كان كفر به وجحد أمره ، وهو نوح عليه السلام ، وقيل : " من " بمعنى ما أي : جزاء لما كان كفر من أيادي الله ونعمه عند الذين أغرقهم ، أو جزاء لما [ صنع ] بنوح وأصحابه . وقرأ مجاهد : " جزاء لمن كان كفر " بفتح الكاف والفاء ، يعني كان الغرق جزاء لمن كان كفر بالله وكذب رسوله .

    ( ولقد تركناها ) يعني : [ الفعلة التي ] فعلنا ( آية ) يعتبر بها . وقيل : أراد السفينة . قال قتادة : أبقاها الله [ بباقر دي ] من أرض الجزيرة . عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ( فهل من مدكر ) أي : متذكر متعظ معتبر خائف مثل عقوبتهم .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود عن قوله : " فهل من مدكر " أو مذكر ؟ قال : سمعت عبد الله يقرؤها " فهل من مدكر " ، وقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها : " فهل من مدكر " دالا .

    ( فكيف كان عذابي ونذر ) أي : إنذاري . قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران ، تقول العرب : أنذرت إنذارا ونذرا ، كقولهم أنفقت إنفاقا ونفقة ، وأيقنت إيقانا ويقينا ، أقيم الاسم مقام المصدر .

    ( ولقد يسرنا ) سهلنا ( القرآن للذكر ) ليتذكر ويعتبر به ، وقال سعيد بن جبير : يسرناه للحفظ والقراءة ، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن " فهل من مدكر " ، متعظ بمواعظه .
    [ ص: 430 ] ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر ( 18 ) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ( 19 ) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ( 20 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 21 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 22 ) كذبت ثمود بالنذر ( 23 ) فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر ( 24 ) أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر ( 25 ) )

    ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا ) شديدة الهبوب ( في يوم نحس مستمر ) شديد دائم الشؤم ، استمر عليهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحدا إلا أهلكه . قيل : كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر .

    ( تنزع الناس ) تقلعهم ثم ترمي بهم على رءوسهم فتدق رقابهم . وروي أنها كانت تنزع الناس من قبورهم ( كأنهم أعجاز نخل ) قال ابن عباس : أصولها ، وقال الضحاك : أوراك نخل . ( منقعر ) [ منقطع ] من مكانه ساقط على الأرض . وواحد الأعجاز عجز ، مثل عضد وأعضاد وإنما قال : " أعجاز نخل " وهي أصولها التي قطعت فروعها؛ لأن الريح كانت تبين رءوسهم من أجسادهم ، فتبقي أجسادهم بلا رءوس .

    ( فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت ثمود بالنذر ) بالإنذار الذي جاءهم به صالح .

    ( فقالوا أبشرا ) آدميا ( منا واحدا نتبعه ) ونحن جماعة كثيرة وهو واحد ( إنا إذا لفي ضلال ) خطأ وذهاب عن الصواب ( وسعر ) قال ابن عباس : عذاب . وقال الحسن : شدة عذاب . وقال قتادة : عناء ، يقولون : إنا إذا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته . قال سفيان بن عيينة : هو جمع سعير . وقال الفراء : جنون ، يقال ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هائمة على وجهها . وقال وهب : وسعر : أي : بعد عن الحق .

    ( أألقي الذكر عليه ) أأنزل الذكر الوحي ( من بيننا بل هو كذاب أشر ) بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة ، " والأشر " : المرح والتجبر .
    ( سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ( 26 ) إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ( 27 ) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ( 28 ) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ( 29 ) فكيف كان عذابي ونذر ( 30 ) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ( 31 ) )

    ( سيعلمون ) قرأ ابن عامر وحمزة : " ستعلمون " بالتاء على معنى قال صالح لهم ، وقرأ [ ص: 431 ] الآخرون بالياء ، يقول الله تعالى : ( سيعلمون غدا ) حين ينزل بهم العذاب . وقال الكلبي : يعني يوم القيامة . وذكر " الغد " للتقريب على عادة الناس ، يقولون : إن مع اليوم غدا ( من الكذاب الأشر ) .

    ( إنا مرسلو الناقة ) أي : باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا ، وذلك أنهم تعنتوا على صالح ، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء ، فقال الله تعالى : ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم ) محنة واختبارا لهم ( فارتقبهم ) فانتظر ما هم صانعون ( واصطبر ) واصبر على ارتقابهم ، وقيل : على ما يصيبك من الأذى .

    ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) وبين الناقة يوم لها ويوم لهم ، وإنما قال بينهم لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلبت بني آدم على البهائم ( كل شرب ) نصيب من الماء ( محتضر ) يحضره من كانت نوبته ، فإذا كان يومها حضرت شربها ، وإذا كان يومهم حضروا شربهم ، وحضر واحتضر بمعنى واحد ، قال مجاهد : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة ، فإذا جاءت الناقة حضروا اللبن .

    ( فنادوا صاحبهم ) وهو قدار بن سالف ( فتعاطى ) فتناول الناقة بسيفه ( فعقر ) أي : فعقرها .

    ( فكيف كان عذابي ونذر ) ثم بين عذابهم فقال :

    ( إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة ) قال عطاء : يريد صيحة جبريل عليه السلام ( فكانوا كهشيم المحتظر ) قال ابن عباس : هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجرة والشوك دون السباع ، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم . [ ص: 432 ]

    وقال ابن زيد : هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح . والمعنى : أنهم صاروا كيبس الشجر إذا تحطم ، والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس : هشيما .

    وقال قتادة : كالعظام النخرة المحترقة . وقال سعيد بن جبير : هو التراب الذي يتناثر من الحائط .
    ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 32 ) كذبت قوم لوط بالنذر ( 33 ) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر ( 34 ) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ( 35 ) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ( 36 ) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ( 37 ) )

    ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت قوم لوط بالنذر إنا أرسلنا عليهم حاصبا ) ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى وقال الضحاك : يعني صغار الحصى . وقيل : " الحصباء " هي الحجر الذي دون ملء الكف ، وقد يكون الحاصب الرامي فيكون المعنى على هذا : أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم أي : يرميهم بالحجارة ، ثم استثنى فقال : ( إلا آل لوط ) يعني لوطا وابنتيه ( نجيناهم ) من العذاب ( بسحر ) .

    ( نعمة من عندنا ) أي : جعلناه نعمة منا عليهم حيث أنجيناهم ( كذلك ) كما أنعمنا على آل لوط ( نجزي من شكر ) قال مقاتل : من وحد الله لم يعذبه مع المشركين .

    ( ولقد أنذرهم ) لوط ( بطشتنا ) أخذنا إياهم بالعقوبة ( فتماروا بالنذر ) شكوا بالإنذار وكذبوا ولم يصدقوا .

    ( ولقد راودوه عن ضيفه ) طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه ( فطمسنا أعينهم ) وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط وعالجوا الباب ليدخلوا ، قالت الرسل [ للوط ] : خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه بإذن الله فتركهم عميا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب ، فأخرجهم لوط عميا لا يبصرون . قوله : " فطمسنا أعينهم " أي : صيرناها [ ص: 433 ] كسائر الوجه لا يرى لها شق ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال الضحاك : طمس الله أبصارهم فلم يروا الرسل ، فقالوا : قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا ، فلم يروهم فرجعوا . ( فذوقوا عذابي ونذر ) أي : [ ما أنذركم ] به لوط من العذاب .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (391)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 1 إلى الاية 11

    ( ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر ( 38 ) فذوقوا عذابي ونذر ( 39 ) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ( 40 ) ولقد جاء آل فرعون النذر ( 41 ) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ( 42 ) أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ( 43 ) أم يقولون نحن جميع منتصر ( 44 ) سيهزم الجمع ويولون الدبر ( 45 ) )

    ( ولقد صبحهم بكرة ) جاءهم وقت الصبح ( عذاب مستقر ) دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة ، وقيل : عذاب حق .

    ( فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ولقد جاء آل فرعون النذر ) يعني : موسى وهارون عليهما السلام ، وقيل : هي الآيات التي أنذرهم بها موسى .

    ( كذبوا بآياتنا كلها ) وهي الآيات التسع ( فأخذناهم ) بالعذاب ( أخذ عزيز ) غالب في انتقامه ( مقتدر ) قادر على إهلاكهم ، لا يعجزه ما أراد ، ثم خوف أهل مكة فقال :

    ( أكفاركم خير من أولئكم ) أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون ؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي : ليسوا بأقوى منهم ( أم لكم براءة ) العذاب ( في الزبر ) في الكتب ، أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية .

    ( أم يقولون ) يعني : كفار مكة ( نحن جميع منتصر ) قال الكلبي : نحن جميع أمرنا [ منتصر ] من أعدائنا المعنى : نحن يد واحدة على من خالفنا منتصر ممن عادانا ، ولم يقل منتصرون لموافقة رءوس الآي .

    قال الله تعالى : ( سيهزم الجمع ) قرأ يعقوب : " سنهزم " بالنون " الجمع " نصب وقرأ الآخرون بالياء وضمها ، " الجمع " رفع على غير تسمية الفاعل ، يعني : كفار مكة ( ويولون الدبر ) [ ص: 434 ] يعني : الأدبار فوحد لأجل رءوس الآي ، كما يقال : ضربنا منهم الرءوس وضربنا منهم الرأس إذا كان الواحد يؤدي معنى الجمع ، أخبر الله أنهم يولون أدبارهم منهزمين فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبته يوم بدر : " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم " ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك - وهو في الدرع - فخرج وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " .

    ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ( 46 ) إن المجرمين في ضلال وسعر ( 47 ) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ( 48 ) )

    ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) قال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول : لما نزلت : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يثب في درعه ويقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم جميعا والساعة أدهى وأمر " أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر .

    ( إن المجرمين ) المشركين ( في ضلال وسعر ) قيل : " في ضلال " بعد عن الحق . قال الضحاك : " وسعر " أي : نار تسعر عليهم : وقيل : " ضلال " ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة ، " وسعر " : نار مسعرة ، قال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة . وقال قتادة : في عناء وعذاب .

    ثم بين عذابهم فقال : ( يوم يسحبون ) يجرون ( في النار على وجوههم ) ويقال لهم ( ذوقوا مس سقر ) .

    [ ص: 435 ] ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ( 49 ) )

    ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) أي : ما خلقناه فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ ، قال الحسن : قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، أخبرنا أبو [ معشر ] يعقوب بن عبد الجليل بن يعقوب ، حدثنا أبو يزيد حاتم بن محبوب ، أخبرنا أحمد بن نصر النيسابوري ، أخبرنا عبد الله بن الوليد العدني ، أخبرنا الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاءت مشركو قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية : " إن المجرمين في ضلال وسعر " إلى قوله : " إنا كل شيء خلقناه بقدر " .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي الخدشاهي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن [ الحبلي ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وكان عرشه على الماء " .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : " كل شيء بقدر الله " ، قال : وسمعت عبد الله بن [ عمر ] - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ، أو الكيس والعجز " .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا أبو جعفر [ ص: 436 ] محمد بن علي بن دحيم الشيبابي ، أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة ، أخبرنا يعلى بن عبيد ، [ وعبيد الله ] بن موسى وأبو نعيم عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر - زاد [ عبيد الله ] : خيره وشره " .

    ورواه أبو داود عن شعبة عن منصور وقال : عن ربعي عن علي ولم يقل : عن رجل ، وهذا أصح .

    ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ( 50 ) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر ( 51 ) وكل شيء فعلوه في الزبر ( 52 ) وكل صغير وكبير مستطر ( 53 ) )

    ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) ( واحدة ) . يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي : وما أمرنا إلا مرة واحدة

    وقيل : معناه : وما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة : كن فيكون لا مراجعة فيها كلمح بالبصر . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر وقال الكلبي عنه : وما أمرنا لمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر .

    ( ولقد أهلكنا أشياعكم ) أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة .

    ( فهل من مدكر ) متعظ يعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر .

    ( وكل شيء فعلوه ) يعني فعله الأشياع من خير وشر ( في الزبر ) في كتاب الحفظة ، وقيل : في اللوح المحفوظ .

    ( وكل صغير وكبير ) من الخلق وأعمالهم وآجالهم ( مستطر ) مكتوب ، يقال : سطرت [ ص: 437 ] واستطرت وكتبت واكتتبت .

    ( إن المتقين في جنات ونهر ( 54 ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر ( 55 ) )

    ( إن المتقين في جنات ) بساتين ( ونهر ) أي أنهار ، ووحده لأجل رءوس الآي ، وأراد أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل . وقال الضحاك : يعني في ضياء وسعة ومنه النهار . وقرأ الأعرج " ونهر " ، بضمتين جمع نهار يعني : نهارا لا ليل لهم .

    ( في مقعد صدق ) في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم ( عند مليك مقتدر ) ملك قادر لا يعجزه شيء . قال [ جعفر ] الصادق : مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق .

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسَانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( 4 ) )

    ( الرَّحْمَنُ ) قِيلَ : نَزَلَتْ حِينَ قَالُوا : وَمَا الرَّحْمَنُ ؟ . وَقِيلَ : هُوَ جَوَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا : إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .

    ( عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) قَالَ الْكَلْبِيُّ : عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا . وَقِيلَ : " عَلَّمَ الْقُرْآنَ " يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ .

    ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ ) يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ . ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَقِيلَ : عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا ، وَكَانَ آدَمُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِمِائَةِ [ أَلْفِ ] لُغَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ .

    وَقَالَ الْآخَرُونَ : " الْإِنْسَانُ " اسْمُ جِنْسٍ ، وَأَرَادَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ " عَلَّمَهُ الْبَيَانَ " النُّطْقَ وَالْكِتَابَةَ وَالْفَهْمَ وَالْإِفْهَامَ ، حَتَّى عَرَفَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ . هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ .

    وَقَالَ السُّدِّيُّ : عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ .

    وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : " خَلَقَ الْإِنْسَانَ " يَعْنِي : مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " عَلَّمَهُ الْبَيَانَ " يَعْنِي بَيَانَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ كَانَ يُبِينُ [ عَنِ ] الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ يَوْمِ الدِّينِ .

    [ ص: 442 ] ( الشمس والقمر بحسبان ( 5 ) والنجم والشجر يسجدان ( 6 ) والسماء رفعها ووضع الميزان ( 7 ) ألا تطغوا في الميزان ( 8 ) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ( 9 ) والأرض وضعها للأنام ( 10 ) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ( 11 ) )

    ( الشمس والقمر بحسبان ) قال مجاهد : كحسبان الرحى . وقال غيره : أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما تحسب الأوقات والآجال ، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا . وقال الضحاك : يجريان بقدر ، والحسبان يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا ، مثل الغفران والكفران ، والرجحان والنقصان ، وقد يكون جمع الحساب كالشبهان والركبان .

    ( والنجم والشجر يسجدان ) النجم ما ليس له ساق من النبات ، والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء ، وسجودهما سجود ظلهما كما قال : " يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله " ( النحل - 48 ) قال مجاهد : النجم هو الكوكب وسجوده طلوعه .

    ( والسماء رفعها ) فوق الأرض ( ووضع الميزان ) قال مجاهد : أراد بالميزان العدل . المعنى : أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : ( ألا تطغوا في الميزان ) أي لا تجاوزوا العدل . وقال الحسن وقتادة والضحاك : أراد به الذي يوزن به ليوصل به إلى الإنصاف والانتصاف ، وأصل الوزن التقدير " ألا تطغوا " يعني لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان .

    ( وأقيموا الوزن بالقسط ) بالعدل ، وقال أبو الدرداء وعطاء : معناه أقيموا لسان الميزان بالعدل . قال ابن عيينة : الإقامة باليد والقسط بالقلب ( ولا تخسروا ) ولا تنقصوا ( الميزان ) ولا تطففوا في الكيل والوزن .

    ( والأرض وضعها للأنام ) للخلق الذين بثهم فيها .

    ( فيها فاكهة ) يعني : أنواع الفواكه ، قال ابن كيسان : يعني ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى ( والنخل ذات الأكمام ) الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم ينشق ، واحدها كم ، وكل ما ستر شيئا فهو كم وكمة ، ومنه كم القميص ، ويقال للقلنسوة كمة ، قال الضحاك : " ذات الأكمام " أي ذات الغلف . وقال الحسن : أكمامها : لفيفها . [ وقال ابن زيد : [ ص: 443 ] هو الطلع قبل أن ينشق ] .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (392)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 12 إلى الاية 39


    ( والحب ذو العصف والريحان ( 12 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 13 ) )

    ( والحب ذو العصف ) أراد بالحب جميع الحبوب التي تحرث في الأرض ، قال مجاهد : هو ورق الزرع . قال ابن كيسان : " العصف " ورق كل شيء يخرج منه الحب ، يبدو أولا ورقا وهو العصف ثم يكون سوقا ، ثم يحدث الله فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب . وقال ابن عباس في رواية الوالبي : هو التبن . وهو قول الضحاك وقتادة . وقال عطية عنه : هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رءوسه ويبس ، نظيره : " كعصف مأكول " ( الفيل - 5 ) .

    ( والريحان ) هو الرزق في قول الأكثرين ، قال ابن عباس : كل ريحان في القرآن فهو رزق . وقال الحسن وابن زيد هو ريحانكم الذي يشم ، قال الضحاك : " العصف " : هو التبن . و " الريحان " ثمرته .

    وقراءة العامة : " والحب ذو العصف والريحان " ، كلها مرفوعات بالرد على الفاكهة . وقرأ ابن عامر " والحب ذا العصف والريحان " بنصب الباء والنون وذا بالألف على معنى : خلق الإنسان وخلق هذه الأشياء . وقرأ حمزة والكسائي " والريحان " بالجر عطفا على العصف فذكر قوت الناس والأنعام ، ثم خاطب الجن والإنس فقال :

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) أيها الثقلان ، يريد من هذه الأشياء المذكورة . وكرر هذه الآية في هذه السورة تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والإشباع ، يعدد على الخلق آلاءه ويفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا ؟ ألم تك خاملا ؟ فعززتك أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا التكرار شائع في كلام العرب حسن تقريرا .

    وقيل : خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب تخاطب الواحد بلفظ التثنية كقوله تعالى : " ألقيا في جهنم " ( ق - 24 ) .

    وروي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله : قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : " ما لي أراكم سكوتا ، للجن [ كانوا ] أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم هذه [ ص: 444 ] الآية مرة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب ، فلك الحمد " .

    ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ( 14 ) وخلق الجان من مارج من نار ( 15 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 16 ) رب المشرقين ورب المغربين ( 17 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 18 ) مرج البحرين يلتقيان ( 19 ) بينهما برزخ لا يبغيان ( 20 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 21 ) )

    ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار ) .

    ( وخلق الجان ) وهو أبو الجن . وقال الضحاك : هو إبليس ( من مارج من نار ) وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه . قال مجاهد : وهو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت ، من قولهم : مرج أمر القوم ، إذا اختلط .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان رب المشرقين ) مشرق الصيف ومشرق الشتاء . ( ورب المغربين ) مغرب الصيف ومغرب الشتاء . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( مرج البحرين ) العذب والمالح أرسلهما وخلاهما ( يلتقيان ) .

    ( بينهما برزخ ) حاجز من قدرة الله تعالى ( لا يبغيان ) لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه . وقال قتادة : لا يطغيان على الناس بالغرق . وقال الحسن : " مرج البحرين " بحر الروم وبحر الهند ، وأنتم الحاجز بينهما . وعن قتادة أيضا : بحر فارس وبحر الروم بينهما برزخ يعني الجزائر . قال مجاهد والضحاك : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    [ ص: 445 ] ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( 22 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 23 ) وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ( 24 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 25 ) كل من عليها فان ( 26 ) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( 27 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 28 ) )

    ( يخرج منهما ) قرأ أهل المدينة والبصرة : " يخرج " بضم الياء وفتح الراء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الراء ( اللؤلؤ والمرجان ) وإنما يخرج من المالح دون العذب وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل ، كما قال - عز وجل - : " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " ( الأنعام - 130 ) . وكانت الرسل من الإنس دون الجن . وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر . قال ابن جريج : إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة كانت لؤلؤة ، واللؤلؤة : ما عظم من الدر ، والمرجان : صغارها . وقال مقاتل ومجاهد على الضد من هذا . وقيل : " المرجان " الخرز الأحمر . وقال عطاء الخراساني : هو اليسر . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( وله الجواري ) السفن الكبار ( المنشآت ) قرأ حمزة وأبو بكر : " المنشئات " بكسر الشين ، أي : المنشئات للسير [ يعني اللاتي ابتدأن وأنشأن السير ] . وقرأ الآخرون بفتح الشين أي المرفوعات ، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض . وقيل : هي ما رفع قلعه من السفن وأما ما لم يرفع قلعه فليس من المنشئات . وقيل المخلوقات المسخرات ( في البحر كالأعلام ) كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل ، شبه السفن في البحر ، بالجبال في البر ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( كل من عليها ) أي على الأرض من حيوان فإنه هالك ( فان ) .

    ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال ) ذو العظمة والكبرياء ( والإكرام ) أي مكرم أنبيائه وأوليائه بلطفه مع جلاله وعظمته . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ( 29 ) )

    ( يسأله من في السماوات والأرض ) من ملك وإنس وجن . وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء والأرض . قال ابن عباس : فأهل السماوات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرحمة [ والرزق والتوبة والمغفرة ] وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق [ ص: 446 ] والمغفرة وتسأله الملائكة أيضا لهم الرزق والمغفرة .

    ( كل يوم هو في شأن ) قال مقاتل : نزلت في اليهود حين قالوا إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا .

    قال المفسرون : من شأنه أن يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قوما ، ويذل قوما ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ويفرج مكروبا ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله وأحداثه في خلقه ما يشاء .

    أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزكي - إملاء - أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز ، أخبرنا يحيى بن الربيع المكي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، أخبرنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن مما خلق الله - عز وجل - لوحا من درة بيضاء ، دفتاه ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، ينظر الله - عز وجل - فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله : " كل يوم هو في شأن " .

    قال سفيان بن عيينة : الدهر كله عند الله يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة ، فالشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا : الإخبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، وشأن يوم القيامة : الجزاء والحساب ، والثواب والعقاب .

    وقيل : شأنه جل ذكره أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر ، عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا ، وعسكرا من الدنيا إلى القبور ، ثم يرتحلون جميعا إلى الله - عز وجل - . [ ص: 447 ]

    قال الحسين بن الفضل : هو سوق المقادير إلى المواقيت . وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية : كل يوم له إلى العبيد بر جديد .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 30 ) سنفرغ لكم أيها الثقلان ( 31 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 32 ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( 33 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان سنفرغ لكم ) قرأ حمزة والكسائي : سيفرغ بالياء لقوله : " يسأله من في السماوات والأرض " ، " ويبقى وجه ربك " " وله الجوار " فأتبع الخبر .

    وقرأ الآخرون بالنون ، وليس المراد منه الفراغ عن شغل ، لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، ولكنه وعيد من الله تعالى [ للخلق ] بالمحاسبة ، كقول القائل : لأتفرغن لك ، وما به شغل ، وهذا قول ابن عباس والضحاك وإنما حسن هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن .

    وقال آخرون : معناه : سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم ، كقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي . وقال بعضهم : إن الله وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور ، ثم قال : سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم ، فنحاسبكم ونجازيكم وننجز لكم ما وعدناكم ، فيتم ذلك ويفرغ منه ، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل .

    ( أيها الثقلان ) أي الجن والإنس ، سميا ثقلين لأنهما ثقل على الأرض أحياء وأمواتا ، قال الله تعالى : " وأخرجت الأرض أثقالها " ، ( الزلزلة - 2 ) وقال بعض أهل المعاني : كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما .

    وقال جعفر بن محمد الصادق : سمي الجن والإنس ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ) أي تجوزوا وتخرجوا ، [ ص: 448 ] ( من أقطار السماوات والأرض ) أي من جوانبهما وأطرافهما ( فانفذوا ) معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض : فاهربوا واخرجوا منها . [ والمعنى ] حيثما كنتم أدرككم الموت ، كما قال جل ذكره : " أينما تكونوا يدرككم الموت " ، ( النساء - 78 ) وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ( لا تنفذون إلا بسلطان ) أي : بملك ، وقيل بحجة ، والسلطان : القوة التي يتسلط بها على الأمر ، فالملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني . وروي عن ابن عباس قال : معناه : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله - عز وجل - . وقيل قوله : " إلا بسلطان " أي إلا إلى سلطان كقوله : " وقد أحسن بي " ( يوسف - 100 ) أي إلي .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 34 ) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( 35 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وفي الخبر : يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ) الآية فذلك قوله - عز وجل - :

    ( يرسل عليكما شواظ من نار ) . ( يرسل عليكما شواظ من نار ) قرأ ابن كثير " شواظ " : بكسر الشين والآخرون بضمها ، وهما لغتان ، مثل صوار من البقر وصوار . وهو اللهيب الذي لا دخان فيه هذا قول أكثر المفسرين . وقال مجاهد هو اللهب الأخضر المنقطع من النار ( ونحاس ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ونحاس " بجر السين عطفا على النار ، وقرأ الباقون برفعها عطفا على الشواظ .

    قال سعيد بن جبير والكلبي : " النحاس " : الدخان وهو رواية عطاء عن ابن عباس .

    ومعنى الرفع يرسل عليكما شواظ ، ويرسل نحاس ، أي يرسل هذا مرة وهذا مرة ، ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر ، ومن كسر بالعطف على النار يكون ضعيفا؛ لأنه لا يكون شواظ من نحاس ، فيجوز أن يكون تقديره : شواظ من نار وشيء من نحاس ، على أنه حكي أن الشواظ لا يكون من النار والدخان جميعا . [ ص: 449 ]

    قال مجاهد وقتادة : النحاس هو الصفر المذاب يصب على رءوسهم ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وقال عبد الله بن مسعود : هو المهل .

    ( فلا تنتصران ) أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكم ناصر منه .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 36 ) فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ( 37 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 38 ) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( 39 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ( فإذا انشقت ) [ انفرجت ] ( السماء ) فصارت أبوابا لنزول الملائكة ( فكانت وردة كالدهان ) أي كلون الفرس الورد ، وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة والصفرة . قال قتادة : إنها اليوم خضراء ، ويكون لها يومئذ لون آخر يضرب إلى الحمرة .

    وقيل : إنها تتلون ألوانا يومئذ كلون الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد الشتاء كان أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه .

    ( كالدهان ) جمع دهن ، شبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل ، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه ، وهو قول الضحاك ومجاهد وقتادة والربيع .

    وقال عطاء بن أبي رباح : " كالدهان " كعصير الزيت يتلون في الساعة ألوانا .

    وقال مقاتل : كدهن الورد الصافي . وقال ابن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم .

    وقال الكلبي : كالدهان أي كالأديم الأحمر وجمعه أدهنة ودهن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . ( فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ) قال الحسن وقتادة : لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم ؛ لأن الله - عز وجل - علمها منهم ، وكتبت الملائكة عليهم ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس . [ ص: 450 ]

    وعنه أيضا : لا تسأل الملائكة المجرمين ؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم . دليله : ما بعده ، وهذا قول مجاهد .

    وعن ابن عباس في الجمع بين هذه الآية وبين قوله : " فوربك لنسألنهم أجمعين " ( الحجر - 92 ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ؛ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا ؟

    وعن عكرمة أنه قال : إنها مواطن ، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها .

    وعن ابن عباس أيضا : لا يسألون سؤال شفقة ورحمة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .

    وقال أبو العالية : لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم .






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (393)
    الجزء السابع
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الرَّحْمَنِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 40 إلى الاية 68



    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 40 ) ( يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام ( 41 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 42 ) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ( 43 ) يطوفون بينها وبين حميم آن ( 44 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 45 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( يعرف المجرمون بسيماهم ) وهو سواد الوجوه وزرقة العيون ، كما قال جل ذكره : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ( آل عمران - 106 ( فيؤخذ بالنواصي والأقدام ) تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ثم يقال لهم : ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ) المشركون ( يطوفون بينها وبين حميم آن ) قد انتهى حره . قال الزجاج : أنى يأنى فهو آن إذا انتهى في النضج ، والمعنى : أنهم يسعون بين الجحيم والحميم فإذا استغاثوا من حر النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي صار كالمهل . وهو قوله " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل " ( الكهف - 29 ) وقال كعب الأحبار : " آن " واد من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تنخلع أوصالهم ، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا فيلقون في النار وذلك قوله : " يطوفون بينها وبين حميم آن " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وكل ما ذكر الله تعالى من قوله : " كل من عليها فان " إلى [ ص: 451 ] هاهنا مواعظ وزواجر وتخويف . وكل ذلك نعمة من الله تعالى ؛ لأنها تزجر عن المعاصي ولذلك ختم كل آية بقوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ( 46 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 47 ) )

    ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه فقال : ( ولمن خاف مقام ربه ) أي : مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية والشهوة . وقيل : قيام ربه عليه ، بيانه قوله : " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " ( الرعد - 33 ) . وقال إبراهيم ومجاهد : هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من مخافة الله . ( جنتان ) قال مقاتل : جنة عدن وجنة نعيم . قال محمد بن علي الترمذي : جنة لخوفه ربه وجنة لتركه شهوته .

    قال الضحاك : هذا لمن راقب الله في السر والعلانية بعلمه ما عرض له من محرم تركه من خشية الله وما عمل من خير أفضى به إلى الله ، لا يحب أن يطلع عليه أحد .

    وقال قتادة : إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا لله ودأبوا بالليل والنهار .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين القرشي ، أخبرنا أبو مسلم غالب بن علي الرازي ، حدثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن يونس ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى الحلواني ، وأخبرنا محمد بن عبيد الهمداني ، أخبرنا هاشم بن القاسم عن أبي عقيل هو الثقفي عن يزيد بن سنان سمعت [ بكير ] بن فيروز قال : سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " .

    أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، [ ص: 452 ] أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشمهيني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزى عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص على المنبر وهو يقول : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ولمن خاف مقام ربه جنتان " فقلت الثانية : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " . فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء " .

    ( ذواتا أفنان ( 48 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 49 ) فيهما عينان تجريان ( 50 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 51 ) فيهما من كل فاكهة زوجان ( 52 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ثم وصف الجنتين فقال :

    ( ذواتا أفنان ) أغصان ، واحدها فنن ، وهو الغصن المستقيم طولا . وهذا قول مجاهد وعكرمة والكلبي . وقال عكرمة : ظل الأغصان على الحيطان . قال الحسن : ذواتا ظلال . قال ابن عباس : ألوان . قال سعيد بن جبير والضحاك : ألوان الفاكهة ، واحدها فن من قولهم أفنن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب . وجمع عطاء بين القولين فقال : في كل غصن فنون من الفاكهة . وقال قتادة : ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( فيهما عينان تجريان ) قال ابن عباس : بالكرامة والزيادة على أهل الجنة . قال الحسن : تجريان بالماء الزلال ، إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل . وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) صنفان ونوعان قيل : معناه : إن فيهما من كل ما يتفكه [ ص: 453 ] به ضربين رطبا ويابسا . قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 53 ) متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان ( 54 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 55 ) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 56 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( متكئين على فرش ) جمع فراش ( بطائنها ) جمع بطانة ، وهي التي تحت الظهارة . وقال الزجاج : وهي مما يلي الأرض . ( من إستبرق ) وهو ما غلظ من الديباج . قال ابن مسعود وأبو هريرة : هذه البطائن فما ظنكم بالظواهر ؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق ، فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال الله - عز وجل - : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " ( السجدة - 17 ) وعنه أيضا قال : بطائنها من إستبرق فظواهرها من نور جامد . وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر .

    ( وجنى الجنتين دان ) الجنى ما يجتنى من الثمار ، يريد : ثمرها دان قريب يناله القائم والقاعد والنائم . قال ابن عباس : تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله ، إن شاء قائما وإن شاء قاعدا . قال قتادة : لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .

    ( فيهن قاصرات الطرف ) غاضات الأعين ، قصرن طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم . ولا يردن غيرهم . قال ابن زيد : تقول لزوجها : وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك . ( لم يطمثهن ) لم يجامعهن ولم [ يفترعهن ] [ ص: 454 ] وأصله من الطمث ، وهو الدم ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قال : لم تدمهن بالجماع ( إنس قبلهم ولا جان ) قال الزجاج : فيه دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي . قال مجاهد : إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه .

    قال مقاتل في قوله : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) لأنهن خلقن في الجنة . فعلى قوله : هؤلاء من حور الجنة .

    وقال الشعبي : هن من نساء الدنيا لم يمسسن منذ أنشئن خلقا ، وهو قول الكلبي يعني : لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان .

    وقرأ طلحة بن مصرف : " لا يطمثهن " بضم الميم فيهما .

    وقرأ الكسائي إحداهما بالضم ، فإن كسر الأولى ضم الثانية وإن ضم الأولى كسر الثانية ؛ لما روى أبو إسحاق السبيعي قال : كنت أصلي خلف أصحاب علي - رضي الله عنه - فأسمعهم يقرءون : لم يطمثهن بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله بن مسعود فأسمعهم يقرءون بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ويكسر الأخرى لئلا يخرج عن هذين الأثرين .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 57 ) كأنهن الياقوت والمرجان ( 58 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان ) قال قتادة : صفاء الياقوت في بياض المرجان .

    وروينا عن أبي سعيد في صفة أهل الجنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ سوقهن دون لحمهما ودمائهما وجلدهما " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين على إثرهم كأشد [ ص: 455 ] كوكب إضاءة ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لكل امرئ منهم زوجتان كل واحدة منهما يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن ، يسبحون الله بكرة وعشيا لا يسقمون ولا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ، ولا يتمخطون ، آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ، ووقود مجامرهم الألوة ، ورشحهم المسك " .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين ، أخبرنا هارون بن محمد بن هارون ، أخبرنا حازم بن يحيى الحلواني ، أخبرنا سهيل بن عثمان العسكري ، أخبرنا عبيدة بن حميد ، عن عطاء بن السائب ، عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المرأة من أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ، ومخها ، إن الله تعالى يقول : كأنهن الياقوت والمرجان ، فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه " .

    وقال عمرو بن ميمون : " إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 59 ) هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ( 60 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة . وقال ابن عباس : هل جزاء من قال : لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا الجنة ؟ . [ ص: 456 ]

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أخبرنا [ ابن شيبة ] ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام ، أخبرنا الحجاج بن يوسف المكتب ، أخبرنا بشر بن الحسين ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " ثم قال : [ هل تدرون ما قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ] قال : " يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 61 ) ومن دونهما جنتان ( 62 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان ) أي من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان . قال ابن عباس : من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل . وقال أبو موسى الأشعري : جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين . وقال ابن جريج : هن أربع ، جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان ، وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا علي بن عبد الله ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن أبي عمران ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " .

    وقال الكسائي : " ومن دونهما جنتان " أي أمامهما وقبلهما ، يدل عليه قول الضحاك : الجنتان [ ص: 457 ] الأوليان من ذهب وفضة ، والأخريان من ياقوت .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 63 ) مدهامتان ( 64 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 65 ) فيهما عينان نضاختان ( 66 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان ) ناعمتان سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما ؛ لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد . يقال : إدهام الزرع إذا علاه السواد ريا ادهيماما فهو مدهام .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان ) فوارتان بالماء لا تنقطعان . " والنضخ " : فوران الماء من العين . قال ابن عباس : تنضخان بالخير والبركة على أهل الجنة . وقال ابن مسعود : تنضخان بالمسك والكافور على أولياء الله . وقال أنس بن مالك : تنضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان ) قال بعضهم : ليس النخل والرمان من الفاكهة ، والعامة على أنها من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من جملة الفواكه للتخصيص والتفصيل . كما قال تعالى : " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال " ( البقرة - 98 ) .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر ، وورقها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة فيها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (394)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 40 إلى الاية 68


    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 69 ) فيهن خيرات حسان ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 71 ) حور مقصورات في الخيام ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( 74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ( 76 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن ) يعني في الجنات الأربع ( خيرات حسان ) روى [ ص: 458 ] الحسن عن أبيه عن أم سلمة قالت : قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبرني عن قوله : ( خيرات حسان ) قال : " خيرات الأخلاق حسان الوجوه " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات ) محبوسات مستورات في الحجال . يقال : امرأة مقصورة وقصيرة إذا كانت مخدرة مستورة لا تخرج . وقال مجاهد : يعني قصرن طرفهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين لهم بدلا .

    وروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى [ أهل ] الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " .

    ( في الخيام ) جمع خيمة ، أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن المثنى ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، أخبرنا عمران الجوني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر ) قال سعيد بن جبير : " الرفرف " : رياض الجنة . " خضر " : مخضبة . ويروى ذلك عن ابن عباس واحدتها رفرفة ، وقال : الرفارف جمع الجمع . وقيل : " الرفرف " : البسط ، وهو قول الحسن ومقاتل والقرظي وروى العوفي عن ابن عباس : " الرفرف " : فضول المجالس والبسط .

    [ ص: 459 ] وقال الضحاك وقتادة : هي مجالس خضر فوق الفرش . وقال ابن كيسان : هي المرافق . وقال ابن عيينة الزرابي وقال غيره : كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف .

    ( وعبقري حسان ) هي الزرابي والطنافس الثخان ، وهي جمع واحدتها عبقرية . وقال قتادة : " العبقري " عتاق الزرابي ، وقال أبو العالية : هي الطنافس المخملة إلى الرقة . وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند العرب : عبقري .

    وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي .

    قال الخليل : كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب : عبقري ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمر - رضي الله عنه - : " فلم أر عبقريا يفري فريه " .

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ( 78 ) )

    ( فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) قرأ أهل الشام " ذو الجلال " بالواو وكذلك هو في مصاحفهم إجراء على الاسم .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد بن محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، حدثنا أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا أحمد بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية الضرير عن عاصم عن عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " .

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ( 1 ) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ( 2 ) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ( 3 ) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ( 4 ) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ( 5 ) )

    ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ . وَقِيلَ : إِذَا نَزَلَتْ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ .

    ( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا ) لِمَجِيئِهَا ( كَاذِبَةٌ ) كَذِبٌ كَقَوْلِهِ : " لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً " ( الْغَاشِيَةِ - 11 ) أَيْ : لَغْوًا يَعْنِي أَنَّهَا تَقَعُ صِدْقًا وَحَقًّا . وَ " الْكَاذِبَةُ " اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالنَّازِلَةِ .

    ( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ) تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ . وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : تَخْفِضُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ ، وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْتَضْعَفِينَ .

    ( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ) حُرِّكَتْ وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا قَالَ الْكَلْبِيُّ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَوْحَى إِلَيْهَا اضْطَرَبَتْ فَرَقًا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : تُرَجُّ كَمَا يُرَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا ، وَأَصْلُ " الرَّجِّ " فِي اللُّغَةِ : التَّحْرِيكُ يُقَالُ : رَجَجْتُهُ فَارْتَجَّ .

    ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) [ قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ ] فُتَّتْ فَتًّا فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ : كُسِرَتْ كَسْرًا . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ [ ص: 8 ] الْأَرْضِ تَسْيِيرًا . قَالَ الْحَسَنُ : قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ ، نَظِيرُهَا : " فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا " ( طه - 105 ) . قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً .

    ( فكانت هباء منبثا ( 6 ) وكنتم أزواجا ثلاثة ( 7 ) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( 8 ) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ( 9 ) والسابقون السابقون ( 10 ) )

    ( فكانت هباء منبثا ) غبارا متفرقا كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل الكوة وهو الهباء .

    ( وكنتم أزواجا ) أصنافا ( ثلاثة ) ، ثم فسرها فقال :

    ( فأصحاب الميمنة ) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة . وقال ابن عباس : هم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه ، وقال الله تعالى لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي . وقال الضحاك : هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم . وقال الحسن والربيع : هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم وكانت أعمارهم في طاعة الله ، وهم التابعون بإحسان ثم عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ما أصحاب الميمنة ) وهذا كما يقال : زيد ما زيد ! يراد : زيد شديد .

    ( وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ) يعني أصحاب الشمال ، والعرب تسمي اليد اليسرى الشؤمى ومنه يسمى الشام واليمن ؛ لأن اليمن عن يمين الكعبة والشام عن شمالها ، وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار .

    وقال ابن عباس : هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية ، وقال الله لهم : هؤلاء في النار ولا أبالي .

    وقال الضحاك : هم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم . وقال الحسن : هم المشائيم على أنفسهم وكانت أعمارهم في المعاصي .

    ( والسابقون السابقون ) قال ابن عباس : السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة . وقال عكرمة : السابقون إلى الإسلام . قال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين ، دليله : قوله : [ ص: 9 ] " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار " ( التوبة - 100 ) .

    قال الربيع بن أنس : السابقون إلى إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى .

    وقال مقاتل : إلى إجابة الأنبياء بالإيمان .

    وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : إلى الصلوات الخمس . وقال الضحاك : إلى الجهاد .

    وقال سعيد بن جبير : هم المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر . قال الله تعالى : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " ( الحديد - 21 ) " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " ( آل عمران - 133 )

    ثم أثنى عليهم فقال : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " قال ابن كيسان : والسابقون إلى كل ما دعا الله إليه .

    وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة . وقيل : هم أولهم رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله . وقال القرظي : إلى كل خير .

    ( أولئك المقربون ( 11 ) في جنات النعيم ( 12 ) ثلة من الأولين ( 13 ) وقليل من الآخرين ( 14 ) على سرر موضونة ( 15 ) متكئين عليها متقابلين ( 16 ) )

    ( أولئك المقربون ) من الله . ( في جنات النعيم ثلة من الأولين ) أي من الأمم الماضية من لدن آدم - عليه السلام - إلى زمان نبينا - صلى الله عليه وسلم - والثلة : جماعة غير محصورة العدد .

    ( وقليل من الآخرين ) يعني من هذه الأمة . قال الزجاج : الذين عاينوا جميع النبيين من لدن آدم - عليه الصلاة والسلام - وصدقوهم أكثر ممن عاين النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    ( على سرر موضونة ) منسوجة كما توضن حلق الدرع فيدخل بعضها في بعض . قال المفسرون : هي موصولة منسوجة بالذهب والجواهر . وقال الضحاك : موضونة مصفوفة .

    ( متكئين عليها متقابلين ) لا ينظر بعضهم في قفا بعض .

    [ ص: 10 ] ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ( 17 ) بأكواب وأباريق وكأس من معين ( 18 ) لا يصدعون عنها ولا ينزفون ( 19 ) وفاكهة مما يتخيرون ( 20 ) ولحم طير مما يشتهون ( 21 ) وحور عين ( 22 ) )

    ( يطوف عليهم ) للخدمة ( ولدان ) [ غلمان ] ( مخلدون ) لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون . وقال الفراء : [ تقول العرب لمن كبر ولم يشمط : إنه مخلد ] .

    قال ابن كيسان : يعني ولدانا لا يحولون من حالة إلى حالة .

    قال سعيد بن جبير : مقرطون ، يقال : خلد جاريته إذا حلاها بالخلد ، وهو القرط .

    قال الحسن : هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ؛ لأن الجنة لا ولادة فيها فهم خدام أهل الجنة . ( بأكواب وأباريق ) فالأكواب : جمع كوب ، وهي الأقداح المستديرة الأفواه ، لا آذان لها ولا عرى ، والأباريق وهي : ذوات الخراطيم ، سميت أباريق لبريق لونها من الصفاء . ( وكأس من معين ) خمر جارية . ( لا يصدعون عنها ) لا تصدع رءوسهم من شربها ( ولا ينزفون ) أي لا يسكرون [ هذا إذا قرئ بفتح الزاي ، ومن كسر فمعناه لا ينفد شرابهم ] . ( وفاكهة مما يتخيرون ) يختارون ما يشتهون يقال تخيرت الشيء إذا أخذت خيره . ( ولحم طير مما يشتهون ) قال ابن عباس يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى ، ويقال : إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب . ( وحور عين ) قرأ أبو جعفر ، وحمزة والكسائي : بكسر الراء والنون أي : وبحور عين ، أتبعه قوله : " بأكواب وأباريق " وفاكهة ولحم طير " في الإعراب وإن اختلفا في المعنى ؛ لأن الحور لا يطاف بهن ، كقول الشاعر :
    إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
    [ ص: 11 ]

    والعين لا تزجج وإنما تكحل ، ومثله كثير . وقيل : معناه ويكرمون بفاكهة ولحم طير وحور عين .

    وقرأ الباقون بالرفع ، أي : ويطوف عليهم حور عين . وقال الأخفش رفع على معنى : لهم حور عين ، وجاء في تفسيره : " حور عين " بيض ضخام العيون .

    ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ( 23 ) جزاء بما كانوا يعملون ( 24 ) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ( 25 ) إلا قيلا سلاما سلاما ( 26 ) وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( 27 ) في سدر مخضود ( 28 ) )

    ( كأمثال اللؤلؤ المكنون ) المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي . ويروى : أنه يسطع نور في الجنة ، قالوا : وما هذا ؟ قالوا : ضوء ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها .

    ويروى أن الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها ، وإن عقد الياقوت ليضحك من نحرها ، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح . ( جزاء بما كانوا يعملون ) .

    ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا ) أي قولا ( سلاما سلاما ) نصبهما اتباعا لقوله " قيلا " أي يسمعون قيلا سلاما سلاما . قال عطاء : يحيي بعضهم بعضا بالسلام . ثم ذكر أصحاب اليمين وعجب من شأنهم فقال - جل ذكره - : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( في سدر مخضود ) لا شوك فيه كأنه خضد شوكه ، أي قطع ونزع منه ، هذا قول ابن عباس وعكرمة .

    وقال الحسن . لا يعقر الأيدي . قال ابن كيسان : هو الذي لا أذى فيه . قال : وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما يكون في الدنيا من الباقلاء وغيره بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه . قال الضحاك ومجاهد : هو الموقر حملا .

    قال سعيد بن جبير : ثمارها أعظم من القلال . .

    قال أبو العالية والضحاك : نظر المسلمون إلى وج - وهو واد مخصب بالطائف - فأعجبهم سدرها وقالوا يا ليت لنا مثل هذا فأنزل الله هذه الآية .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (395)
    الجزء الثامن
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية 32 إلى الاية 47


    ( وطلح منضود ( 29 ) وظل ممدود ( 30 ) وماء مسكوب ( 31 ) )

    ( وطلح ) أي : موز - واحدتها طلحة - عن أكثر المفسرين . وقال الحسن : ليس هو بالموز ولكنه شجر له ظل بارد طيب . قال الفراء وأبو عبيدة : الطلح عند العرب : شجر عظام لها شوك .

    وروى [ مجالد ] عن الحسن بن سعد قال : قرأ رجل عند علي رضي الله عنه : " وطلح منضود " فقال : وما شأن الطلح ؟ إنما هو : طلع منضود ، ثم قرأ : " طلعها هضيم " قلت : يا أمير المؤمنين إنها في المصحف بالحاء أفلا تحولها ؟ فقال : إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحول .

    و " المنضود " المتراكم الذي قد نضد بالحمل من أوله إلى آخره ، ليست له سوق بارزة . قال مسروق : أشجار الجنة من عروقها إلى أفنائها ثمر كله . ( وظل ممدود ) دائم لا تنسخه الشمس والعرب تقول للشيء الذي لا ينقطع : ممدود .

    أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " .

    وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : ( وظل ممدود ) قال : شجرة في الجنة على ساق العرش يخرج إليها أهل الجنة فيتحدثون في أصلها ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله - عز وجل - عليها ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا . ( وماء مسكوب ) مصبوب يجري دائما في غير أخدود لا ينقطع .

    ( وفاكهة كثيرة ( 32 ) لا مقطوعة ولا ممنوعة ( 33 ) وفرش مرفوعة ( 34 ) إنا أنشأناهن إنشاء ( 35 ) فجعلناهن أبكارا ( 36 ) )

    ( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) قال ابن عباس : لا تنقطع إذا جنيت ، ولا تمتنع من أحد أراد أخذها . وقال بعضهم : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان ، كما ينقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء ، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن . وقال القتيبي : يعني لا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا .

    وجاء في الحديث : " ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل الله مكانها ضعفين " . ( وفرش مرفوعة ) قال علي : " وفرش مرفوعة " على الأسرة . وقال جماعة من المفسرين : بعضها فوق بعض فهي مرفوعة عالية .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن حبيش ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي حدثنا أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : " وفرش مرفوعة " قال : " إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمسمائة عام "

    وقيل أراد بالفرش النساء ، والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا على الاستعارة " مرفوعة " رفعن بالجمال والفضل على نساء الدنيا دليل هذا التأويل قوله في عقبه : ( إنا أنشأناهن إنشاء ( إنا أنشأناهن إنشاء ) خلقناهن خلقا جديدا . قال ابن عباس : يعني الآدميات العجز الشمط ، يقول خلقناهن بعد الهرم خلقا آخر . ( فجعلناهن أبكارا ) عذارى . [ ص: 14 ]

    أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي عن الهيثم بن كليب الشاشي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا عبد بن حميد ، أخبرنا مصعب بن المقدام ، أخبرنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : أتت عجوز النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : " يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز " ، قال : فولت تبكي قال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : " إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا "

    أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الخطيب ، أخبرنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور ، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن سليمان بن الحارث الواسطي ببغداد ، أخبرنا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي حدثنا سفيان الثوري عن يزيد بن أبان ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " إنا أنشأناهن إنشاء " قال : عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا . فجعلهن أبكارا .

    وقال المسيب بن شريك : هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا . .

    وذكر المسيب عن غيره : أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا .

    وقال مقاتل وغيره : هن الحور العين أنشأهن الله لم يقع عليهن ولادة ، فجعلناهن أبكارا عذارى وليس هناك وجع .

    ( عربا أترابا ( 37 ) )

    ( عربا ) قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع وأبو بكر : " عربا " ساكنة الراء ، الباقون بضمها [ ص: 15 ] وهي جمع " عروب " أي : عواشق متحببات إلى أزواجهن . قاله الحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس .

    وقال عكرمة عنه : ملقة . وقال عكرمة : غنجة . وقال أسامة بن زيد عن أبيه : " عربا " حسنات الكلام .

    ( أترابا ) مستويات في السن على سن واحد .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن شيبة حدثنا الفريابي عن علي بن أبي شيبة أخبرنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمود ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، حدثني عمرو بن الحارث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة [ من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ] . كما بين الجابية إلى صنعاء " .

    وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب ، وإنه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك " .

    وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون أبناء ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار " . [ ص: 16 ]

    وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب " .

    أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر الحارثي أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن سليم عن الحجاج بن عتاب العبدي عن عبد الله بن معبد الرماني عن أبي هريرة قال : أدنى أهل الجنة منزلة - وما منهم دنيء - لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم ، مع كل واحد منهم طريفة ليست مع صاحبه .

    ( لأصحاب اليمين ( 38 ) ثلة من الأولين ( 39 ) وثلة من الآخرين ( 40 ) )

    قوله - عز وجل - ( لأصحاب اليمين ) يريد أنشأناهن لأصحاب اليمين . ( ثلة من الأولين ) من المؤمنين الذين كانوا قبل هذه الأمة . ( وثلة من الآخرين ) من مؤمني هذه الأمة هذا قول عطاء ومقاتل .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد العدل ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا عيسى بن المساور ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عيسى بن موسى عن عروة بن رويم قال : لما أنزل الله على رسوله " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين " بكى عمر رضي الله عنه وقال : يا نبي الله آمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقناه ومن ينجو منا قليل ؟ فأنزل الله - عز وجل - : " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر فقال : " قد أنزل الله - عز وجل - فيما قلت " فقال عمر رضي الله عنه : رضينا عن ربنا وتصديق نبينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من آدم إلينا ثلة ومني إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها إلا سودان من رعاة الإبل ممن قال : لا إله إلا الله .

    " أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : " عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي [ ص: 17 ] ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان ، والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكونوا أمتي فقيل : هذا موسى في قومه ، ثم قيل لي : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ، ولكنا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال : أمنهم أنا يا رسول الله ؟ فقال : نعم . فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ قال عليه السلام : " قد سبقك بها عكاشة "

    ورواه عبد الله بن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرضت علي الأنبياء الليلة بأتباعها حتى أتى علي موسى عليه السلام في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت : أي رب هؤلاء ؟ قيل : هذا أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل ، قلت : رب فأين أمتي ؟ قيل : انظر عن يمينك ، فإذا ظراب مكة قد سدت بوجوه الرجال ، قيل : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت ، رب رضيت ، قيل انظر عن يسارك ، فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال ، قيل : هؤلاء أمتك أرضيت ؟ قلت : رب رضيت : فقيل : إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة لا حساب لهم ، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، وإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون كثيرا " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبة فقال : " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قلنا : نعم ، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قلنا : نعم ، قال : والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر . [ ص: 18 ]

    وذهب جماعة إلى أن الثلتين جميعا من هذه الأمة وهو قول أبي العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك ، قالوا : " ثلة من الأولين " من سابقي هذه الأمة " وثلة من الآخرين " من آخر هذه الأمة في آخر الزمان .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني الحسين بن محمد الدينوري حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية : " ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هما جميعا من أمتي " .

    ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ( 41 ) في سموم وحميم ( 42 ) وظل من يحموم ( 43 ) لا بارد ولا كريم ( 44 ) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ( 45 ) وكانوا يصرون على الحنث العظيم ( 46 ) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 47 ) )

    قوله تعالى : ( وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم ) ريح حارة ( وحميم ) ماء حار ( وظل من يحموم ) دخان شديد السواد ، تقول العرب : أسود يحموم إذا كان شديد السواد ، وقال الضحاك : النار سوداء وأهلها سود ، وكل شيء فيها أسود . وقال ابن كيسان : " اليحموم " اسم من أسماء النار . ( لا بارد ولا كريم ) قال قتادة : لا بارد المنزل ولا كريم المنظر . وقال سعيد بن المسيب : ولا كريم ، ولا حسن ، نظيره " من كل زوج كريم " ( الشعراء - 7 ) . وقال مقاتل : طيب . ( إنهم كانوا قبل ذلك ) يعني في الدنيا ( مترفين ) منعمين . ( وكانوا يصرون ) يقيمون ( على الحنث العظيم ) على الذنب الكبير وهو الشرك . وقال الشعبي : " الحنث العظيم " اليمين الغموس . ومعنى هذا : أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك . ( وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) قرأ أبو جعفر ، ونافع [ ص: 19 ] والكسائي ويعقوب : " أئذا " مستفهما " إنا " بتركه ، وقرأ الآخرون بالاستفهام فيهما .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •