تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 20 من 33 الأولىالأولى ... 101112131415161718192021222324252627282930 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 381 إلى 400 من 643

الموضوع: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

  1. #381
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (379)
    تفسير السعدى
    سورة الشعراء
    من الأية(153) الى الأية(176)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الشعراء



    " قالوا إنما أنت من المسحرين " (153)

    فلم يفد فيهم هذا النهي والوعظ شيئا, فقالوا لصالح: " إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ " .
    أي: قد سحرت, فأنت تهذى, بما لا معنى له.

    " ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين " (154)
    " مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا " فأي: فضيلة فقتنا بها, حتى تدعونا إلى اتباعك؟ " فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " هذا, مع أن مجرد اعتبار حالته وحالة ما دعا إليه, من أكبر الآيات البينات على ما جاء به وصدقه, ولكنهم من قسوتهم, سألوا آيات الاقتراح, التي في الغالب, لا يفلح من طلبها, لكون طلبه مبنيا على التعنت, لا على الاسترشاد.
    " قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " (155)
    فقال صالح: " هَذِهِ نَاقَةُ " تخرج من صخرة صماء ملساء - تابعنا في هذا كثيرا من المفسرين, ولا مانع في ذلك - ترونها وتشاهدونها بأجمعكم.
    " لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ " أي: تشرب ماء البئر يوما, وأنتم تشربون لبنها, ثم تصدر عنكم اليوم الآخر, وتشربون أنتم ماء البئر.

    " ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم " (156)
    " وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ " بعقر أو غيره " فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ " .
    فخرجت واستمرت عندهم بتلك الحال, فلم يؤمنوا, واستمروا على طغيانهم.

    " فعقروها فأصبحوا نادمين "(157)
    " فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ " وهي صيحة نزلت عليهم, فدمرتهم أجمعين.
    " فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " (158)
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً " على صدق ما جاءت به رسلنا, وبطلان قول معارضيهم.
    " وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " .

    " كذبت قوم لوط المرسلين " (160)
    قال لهم وقالوا, كما قال من قبلهم, تشابهت قلوبهم في الكفر, فتشابهت أقوالهم.
    وكانوا - مع شركهم - يأتون فاحشة, لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
    يختارون نكاح الذكران, المستقذر الخبيث, ويرغبون عما خلق لهم من أزواجهم لإسرافهم وعدوانهم فلم يزل ينهاهم حتى " قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ " أي: من البلد.
    فلما رأى استمرارهم عليه " قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ " أي: المبغضين الناهين عنه المحذرين منه.

    " رب نجني وأهلي مما يعملون " (169)
    قال " رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ " من فعله وعقوبته فاستجاب الله له.
    " فنجيناه وأهله أجمعين " (170)
    " فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ " أي: الباقين في العذاب, وهي امرأته.
    " ثم دمرنا الآخرين "(172)
    " ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا " أي: حجارة من سجيل " فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ " أهلكهم الله عن آخرهم.
    " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين "(174)
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " .
    " كذب أصحاب الأيكة المرسلين " (176)
    أصحاب الأيكة: أي: البساتين الملتفة الأشجار, وهم أصحاب مدين, فكذبوا نبيهم شعيبا, الذي جاء بما جاء به المرسلون

  2. #382
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (380)
    تفسير السعدى
    سورة الشعراء
    من الأية(177) الى الأية(197)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الشعراء



    " إذ قال لهم شعيب ألا تتقون " (177)
    " إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ " الله تعالى, فتتركون ما يسخطه ويغضبه, من الكفر والمعاصي.
    " إني لكم رسول أمين "(178)
    " إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ " يترتب على ذلك, أن تتقوا الله وتطيعوني.
    " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين "(181)
    وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكاييل والموازين, فلذلك قال لهم: " أَوْفُوا الْكَيْلَ " أي: أتموه وأكملوه " وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ " الذين ينقصون الناس أموالهم ويسلبونها, ببخس المكيال والميزان.
    " وزنوا بالقسطاس المستقيم " (182)
    " وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ " أي: بالميزان العادل, الذي لا يميل
    " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين " (184)
    " وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ " أي: الخليقة الأولين.
    فكما انفرد بخلقكم, وخلق من قبلكم من غير مشاركة له في ذلك, فأفردوه بالعبادة والتوحيد.
    وكما أنعم عليهم بالإيجاد والإمداد بالنعم, فقابلوه بشكره.

    " قالوا إنما أنت من المسحرين " (185)
    قالوا له, مكذبين له, رادين لقوله: " إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ " فأنت تهذى وتتكلم كلام المسحور, الذي غايته, أن لا يؤاخذ به.

    " وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين " (186)
    " وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا " فليس فيك فضيلة, اختصصت بها علينا, حتى تدعونا إلى اتباعك.
    وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم, ممن, عارضوا الرسل بهذه الشبهة التي لم يزالوا, يدلون بها ويصولون, ويتفقون عليها, لاتفاقهم على الكفر, وتشابه قلوبهم.
    وقد أجابت عنها الرسل بقولهم: " إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " .
    " وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ " وهذا جراءة منهم وظلم, وقول زور, قد انطووا على خلافه.
    فإنه ما من رسول من الرسل, واجه قومه ودعاهم, وجادلهم وجادلوه, إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات, ما به يتيقنون صدقه وأمانته, خصوصا شعيبا عليه السلام, الذي يسمى خطيب الأنبياء, لحسن مراجعته قومه, ومجادلتهم بالتي هي أحسن.
    فإن قومه قد تيقنوا صدقه, وأن ما جاء به حق, ولكن إخبارهم عن ظن كذبه, كذب منهم.

    " فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين " (187)
    " فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ " أي: قطع عذاب تستأصلنا.
    " إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ " كقول إخوانهم " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك, فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " .
    أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح, التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.

    " قال ربي أعلم بما تعملون " (188)
    " قَالَ " شعيب عليه السلام: " رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ " أي: نزول العذاب, ووقوع آيات الاقتراح, لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم, وليس علي إلا تبليغكم ونصحكم وقد فعلت.
    وإنما الذي يأتي بها, ربي العالم بأعمالكم وأحوالكم, الذي يجازيكم ويحاسبكم.

    " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم " (189)
    " فَكَذَّبُوهُ " أي: صار التكذيب لهم, وصفا والكفر لهم ديدنا, بحيث لا تفيدهم الآيات, وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب.
    " فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ " أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين, لظلها غير الظليل, فأحرقهم بالعذاب, فظلوا تحهتا خامدين, ولديارهم مفارقين, وبدار الشقاء والعذاب نازلين.
    " إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ " لا كرة لهم إلى الدنيا, فيستأنفوا العمل ولا يفتر عنهم العذاب ساعة, ولا هم ينظرون.

    " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " (190)
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً " دالة على صدق شعيب, وصحة ما دعا إليه, وبطلان رد قومه عليه.
    " وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ " مع رؤيتهم الآيات, لأنهم لا زكاء فيهم, ولا خير لديهم " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " .

    " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " (191)
    " وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ " الذي امتنع بقدرته, عن إدراك أحد, وقهر كل مخلوق.
    " الرَّحِيمِ " الذي, الرحمة وصفه ومن آثارها, جميع الخيرات في الدنيا والآخرة, من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهايه له.
    ومن عزته, أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله.
    ومن رحمته, أن نجى أولياءه ومن معهم من المؤمنين.

    " وإنه لتنزيل رب العالمين " (192)
    لما ذكر قصص الأنبياء مع أممهم, وكيف دعوهم, وما ردوا عليهم به; وكيف أهلك الله أعداءهم, وصارت لهم العاقبة.
    ذكر هذا الرسول الكريم, والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب, الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال: " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ " فالذي أنزله, فاطر الأرض والسماوات, المربي جميع العالم, العلوي والسفلي.
    وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم, فإنه يربيهم أيضا, بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم.
    ومن أعظم ما رباهم به, إنزال هذا الكتاب الكريم, الذي اشتمل على الخير الكثير, والبر الغزير.
    وفيه من الهداية, لمصالح الدارين, والأخلاق الفاضلة, ما ليس في غيره في قوله: " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ " من تعظيمه وشدة الاهتمام به, من كونه نزل من الله, لا من غيره, مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم.

    " نزل به الروح الأمين " (193)
    " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ " وهو: جبريل عليه السلام, الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم " الْأَمِينُ " الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص.
    " على قلبك لتكون من المنذرين " (194)
    " عَلَى قَلْبِكَ " يا محمد " لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ " تهدي به إلى طريق الرشاد, وتنذر به عن طريق الغي.
    " بلسان عربي مبين " (195)
    " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ " وهو أفضل الألسنة, بلغة من بعث إليهم, وباشر دعوتهم أصلا, اللسان البين الواضح.
    وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم.
    فإنه أفضل الكتب, نزل به أفضل الملائكة, على أفضل الخلق, على أفضل أمة أخرجت للناس, بأفضل الألسنة وأفصحها, وأوسعها, وهو: اللسان العربي المبين.

    " وإنه لفي زبر الأولين " (196)
    " وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ " أي: قد بشرت به كتب الأولين وصدقته.
    وهو لما نزل, طبق ما أخبرت به, صدقها, بل جاء بالحق, وصدق المرسلين.

    " أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " (197)
    " أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً " على صحته, وأنه من الله " أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ " الذين قد انتهى إليهم العلم, وصاروا أعلم الناس, وهم أهل الصنف.
    فإن كل شيء يحصل به اشتباه, يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية, فيكون قولهم حجة على غيرهم.
    كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر, صدق معجزة موسى, وأنه ليس بسحر.
    فقول الجاهلين بعد هذا, لا يؤبه به.


  3. #383
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (381)
    تفسير السعدى
    سورة الشعراء
    من الأية(198) الى الأية(215)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الشعراء


    " ولو نزلناه على بعض الأعجمين " (198)
    " وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ " الذين لا يفقهون لسانهم, ولا يقدرون على التعبير كما ينبغي " فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ " يقولون: ما نفقه ما يقول, ولا ندري ما يدعو إليه.
    فليحمدوا ربهم, أن جاءهم على لسان أفصح الخلق, وأقدرهم على التعبير عن المقاصد, بالعبارات الواضحة, وأنصحهم.
    وليبادروا إلى التصديق به, وتلقيه بالتسليم والقبول.
    ولكن تكذيبهم له من غير شبهة, إن هو إلا محض الكفر والعناد, وأمر قد توارثته الأمم المكذبة, فلهذا قال:

    " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " (200)

    " كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ " , أي: أدخلنا التكذيب, ونظمناه في قلوب أهل الإجرام, كما يدخل السلك في الإبرة, فتشربته, وصار وصفا لها.
    " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم "(201)
    وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم, فلذلك " لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ " على تكذيبهم.
    " فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " (202)
    " فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " أي: يأتيهم على حين غفلة, وعدم إحساس منهم, ولا استشعار بنزوله, ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.
    " فيقولوا هل نحن منظرون " (203)
    " فَيَقُولُوا " إذ ذاك: " هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ " أي: يطلبون أن ينظروا ويمهلوا.
    والحال إنه قد فات الوقت, وحل بهم العذاب, الذي لا يرفع عنهم, ولا يفتر ساعة.

    " أفبعذابنا يستعجلون "(204)
    يقول تعالى: " أَفَبِعَذَابِنَ ا " وهو العذاب الأليم العظيم, الذي لا يستهان به, ولا يحتقر.
    " يَسْتَعْجِلُونَ " فما الذي غرهم؟ هل فيهم قوة وطاقة, للصبر عليه؟.
    أم عندهم قوة يقدرون بها على دفعه, أو رفعه, إذا نزل؟.
    أم يعجزوننا, ويظنون أننا, لا نقدر على ذلك؟.

    " أفرأيت إن متعناهم سنين " (205)
    " أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ " .
    أي: أفرأيت إذا لم نستعجل عليهم, بإنزال العذاب, وأمهلناهم عدة سنين, يتمتعون في الدنيا " ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ " من العذاب.

    " ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " (207)
    " مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ " من اللذات, والشهوات.
    أي: أي شيء يغني عنهم, ويفيدهم, وقد مضت اللذات وبطلت, واضمحلت, وأعقبت تبعا لها, وضوعف لهم العذاب عند طول المدة.
    القصد أن الحذر, من وقوع العذاب, واستحقاقهم له.
    وأما تعجيله وتأخيره, فلا أهمية تحته, ولا جدوى عنده.

    " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون " (208)
    يخبر تعالى عن كمال عدله, في إهلاك المكذبين, وأنه ما أوقع بقرية, هلاكا وعذابا, إلا بعد أن يعذر بهم, ويبعث فيهم النذر بالآيات البينات, فيدعونهم إلى الهدى, وينهونهم عن الردى, ويذكرونهم بآيات الله, وينهونهم على أيامه في نعمه ونقمه.
    " ذكرى وما كنا ظالمين " (209)
    " ذِكْرَى " لهم وإقامة حجة عليهم.
    " وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ " فنهلك القرى, قبل أن ننذرهم, ونأخذهم, وهم غافلون عن النذر, كما قال تعالى " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا " " رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ " .

    " وما تنزلت به الشياطين " (210)
    ولما بين تعالى, كمال القرآن وجلالته, نزهه عن كل صفة نقص, وحماه - وقت نزوله, وبعد نزوله - من شياطين الجن والإنس فقال: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ " أي: لا يليق بحالهم ولا يناسبهم " وَمَا يَسْتَطِيعُونَ " ذلك.
    " إنهم عن السمع لمعزولون " (212)
    " إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ " قد: أبعدوا عنه, وأعدت لهم الرجوم لحفظه, ونزل به جبريل, أي الملائكة, الذي لا يقدر شيطان أن يقربه, أو يحوم حول ساحته.
    وهذا كقوله " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "

    " فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين " (213)
    ينهى تعالى رسوله أصلا, وأمته أسوة له في ذلك, عن دعاء غير الله, من جميع المخلوقين, وأن ذلك موجب للعذاب الدائم, والعقاب السرمدي, لكونه شركا.
    " مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ " .
    والنهي عن الشيء, أمر بضده.
    فالنهي عن الشرك, أمر بإخلاص العبادة وحده لا شريك له, محبة, وخوفا, ورجاء, وذلا, وإنابة إليه في جميع الأوقات.
    ولما أمره بما فيه كمال نفسه, أمره بتكميل غيره فقال:

    " وأنذر عشيرتك الأقربين " (214)
    " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " الذين هم أقرب الناس إليك, وأحقهم بإحسانك الديني والدنيوي, وهذا لا ينافي أمره بإنذار جميع الناس.
    كما إذا أمر الإنسان بعموم الإحسان, ثم قيل له " أحسن إلى قرابتك " .
    فيكون هذا الخصوص, دالا على التأكيد, وزيادة الحث.
    فامتثل صلى الله عليه وسلم, هذا الأمر الإلهي, فدعا سائر بطون قريش, فعمم وخصص, وذكرهم ووعظهم, ولم يبق صلى الله عليه وسلم, من مقدوره شيئا, من نصحهم, وهدايتهم, إلا فعله, فاهتدى من اهتدى, وأعرض من أعرض.

    " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين "(215)
    " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " بلين جانبك, ولطف خطابك لهم, وتوددك, وتحببك إليهم, وحسن خلقك والإحسان التام بهم.
    وقد فعل صلى الله عليه وسلم, ذلك كما قال تعالى: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ " .
    فهذه أخلاقه صلى الله عليه وسلم, أكمل الأخلاق, التي يحصل بها من المصالح العظيمة, ودفع المضار, ما هو مشاهد.
    فهل يليق بمؤمن بالله ورسوله, ويدعي اتباعه والاقتداء به, أن يكون كلا على المسلمين, شرس الأخلاق, شديد الشكيمة, غليظ القلب, فظ القول, فظيعه؟.
    وإن رأى منهم معصية, أو سوء أدب, هجرهم, ومقتهم, وأبغضهم.
    لا لين عنده, ولا أدب لديه, ولا توفيق.
    قد حصل من هذه المعاملة, من المفاسد, وتعطيل, المصالح, ما حصل, ومع ذلك تجده محتقرا, لمن اتصف بصفات الرسول الكريم, وقد رماه بالنفاق والمداهنة, وذكر نفسه ورفعها, وأعجب بعمله.
    فهل يعد هذا, إلا من جهله, وتزيين الشيطان, وخدعه له.
    ولهذا قال الله لرسوله: " فَإِنْ عَصَوْكَ " في أمر من الأمور, فلا تتبرأ منهم, ولا تترك معاملتهم, بخفض الجناح, ولين الجانب.
    بل تبرأ من عملهم, فعظهم عليه, وانصحهم, وابذل قدرتك في ردهم عنه, وتوبتهم منه.
    وهذا الدفع, احتراز وهم من يتوهم, أن قوله " وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ " للمؤمنين, يقتضي الرضاء بجميع ما يصدر منهم, ما داموا مؤمنين, فدفع هذا, والله أعلم.


  4. #384
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (382)
    تفسير السعدى
    سورة الشعراء
    من الأية(216) الى الأية(227)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الشعراء


    " وتوكل على العزيز الرحيم "(217)
    أعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به, الاعتماد على ربه, والاستعانة بمولاه, على توفيقه للقيام بالمأمور, فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال: " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ " والتوكل هو: اعتماد القلب على الله تعالى, في جلب المنافع, ودفع المضار, مع ثقته به, وحسن ظنه بحصول مطلوبه, فإنه عزيز رحيم, بعزته يقدر على إيصال الخير, ودفع الشر عن عبده, وبرحمته به, يفعل ذلك.
    ثم نبهه على الاستعانة, باستحضار قرب الله, والنزول في منزل الإحسان فقال:

    " الذي يراك حين تقوم " (218)
    " الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ " أي: يراك في هذه العبادة العظيمة, التي هي الصلاة, وقت قيامك, وتقلبك راكعا وساجدا.
    خصها بالذكر, لفضلها وشرفها, ولأن من استحضر فيها قرب ربه, خشع وذل, وأكملها, وبتكميلها, يكمل سائر عمله, ويستعين بها على جميع أموره.

    " إنه هو السميع العليم " (220)
    " إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لسائر الأصوات, على اختلافها, وتشتتها, وتنوعها.
    " الْعَلِيمُ " الذي أحاط بالظواهر والبواطن, والغيب والشهادة.
    فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله, وسمعه لكل ما ينطق به, وعلمه بما ينطوي عليه قلبه, من الهم, والعزم, والنيات, يعينه على منزلة الإحسان.

    " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " (221)
    هذا جواب لمن قال من مكذبي الرسول: إن محمدا ينزل عليه شيطان.
    وقول من قال: إنه شاعر فقال: " هَلْ أُنَبِّئُكُمْ " أي: أخبركم الخبر الحقيقي, الذي لا شك فيه, ولا شبهة, عن من تنزل الشياطين عليه, أي: بصفة الأشخاص, الذين تنزل عليهم الشياطين

    " تنزل على كل أفاك أثيم " (222)
    " تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ " أي: كذاب, كثير القول للزور, والإفك بالباطل.
    " أَثِيمٍ " في فعله, كثير المعاصي.
    هذا الذي تنزل عليه الشياطين, وتناسب حاله حالهم.

    " يلقون السمع وأكثرهم كاذبون " (223)
    " يُلْقُونَ " عليه " السَّمْعَ " الذي يسترقونه من السماء.
    " وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ " أي: أكثر ما يلقون اليه, كذب, فيصدق واحدة, ويكذب معها مائة, فيختلط الحق بالباطل, ويضمحل الحق بسبب قلته, وعدم علمه.
    فهذه صفة الأشخاص.
    الذين تنزل عليهم الشياطين, وهذه صفة وحيهم له.
    وأما محمد صلى الله عليه وسلم, فحاله مباينة لهذه الأحوال, أعظم مباينة, لأنه الصادق الأمين, البار, الراشد, الذي جمع بين بر القلب, وصدق اللهجة, ونزاهة الأفعال, من المحرم.
    والوحي الذي ينزل عليه من عند الله, ينزل محروسا محفوظا, مشتملا, على الصدق العظيم, الذي لا شك فيه ولا ريب.
    فهل يستوي - يا أهل العقول - هديه وإفكهم؟.
    وهل يشتبهان, إلا على مجنون, لا يميز, ولا يفرق بين الأشياء؟.

    " والشعراء يتبعهم الغاوون " (224)
    فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه, برأه أيضا من الشعر فقال: " وَالشُّعَرَاءُ " أي: هل أنبئكم أيضا عن حالة الشعراء, ووصفهم الثابت.
    فإنهم " يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ " عن طريق الهدى, المقبلون على طريق الغي والردى.
    فهم في أنفسهم غاوون, وتجد أتباعهم كل غاو, ضال فاسد.

    " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " (225)
    " أَلَمْ تَرَ " غوايتهم وشدة ضلالهم " أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ " من أودية الشعر.
    " يَهِيمُونَ " فتارة, في مدح, وتارة, في قدح, وتارة, يتغزلون, وأخرى يسخرون, ومرة يمرحون, وآونة يحزنون, فلا يستقر لهم قرار, ولا يثبتون على حال من الأحوال.

    " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " (226)
    " وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ " أي: هذا وصف الشعراء, أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم.
    فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق, قلت هذا أشد الناس غراما, وقلبه فارغ من ذاك,.
    وإذا سمعته يمدح أو يذم, قلت: هذا صدق, وهو كذب.
    وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها, وتروك لم يتركها, وكرم لم يحم حول ساحته, وشجاعة يعلو بها على الفرسان, وتراه أجبن من كل جبان.
    هذا وصفهم.
    فانظر, هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, الراشد البار, الذي يتبعه كل راشد ومهتد, الذي قد استقام على الهدى, وجانب الردى, ولم تتناقض أفعاله؟.
    فهو لا يأمر إلا بالخير, ولا ينهى إلا عن الشر.
    ولا أخبر بشيء إلا صدق, ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له, ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له.
    فهل تناسب حاله, حالة الشعراء, ويقاربهم؟.
    أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟ فصلوات الله وسلامه, على هذا الرسول الأكمل, والهمام الأفضل, أبد الأبدين, ودهر الداهرين, الذي ليس بشاعر, ولا ساحر, ولا مجنون, لا يليق به إلا كمال.

    " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " (227)
    ولما وصف الشعراء بما وصفهم به, استثنى منهم من آمن بالله ورسوله, وعمل صالحا, وأكثر من ذكر الله, وانتصر من أعدائه المشركين, من بعد ما ظلموهم.
    فصار شعرهم, من أعمالهم الصالحة, وآثار إيمانهم, لاشتماله على مدح أهل الإيمان, والانتصار من أهل الشرك والكفر, والذب عن دين الله, وتبيين العلوم النافعة, والحث على الأخلاق الفاضلة فقال.
    " إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " إلى موقف وحساب, لا يغادر صغيرة ولا كبيرة, إلا أحصاها, ولا حقا إلا استوفاه.


  5. #385
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (383)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(1) الى الأية(7)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل


    " طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين " (1)



    ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن, ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال: " تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ " أي هي أعلى الآيات, وأقوى البينات, وأوضح الدلالات, وأبينها على أجل المطالب, وأفضل المقاصد, وخير الأعمال, وأزكى الأخلاق.
    آيات تدل على الأخبار الصادقة, والأوامر الحسنة, والنهي عن كل عمل وخيم, وخلق ذميم.
    آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة, مبلغ الشمس للأبصار.
    آيات دلت على الإيمان, ودعت للوصول إلى الإيمان, وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة, طبق ما كان ويكون.
    آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم, بأسمائه الحسنى, وصفاته العليا, وأفعاله الكاملة.
    آيات عرفتنا برسله وأوليائه, ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا.
    ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين, ولم يهتد بها جميع المعاندين, صونا لها, عن من لا خير فيه ولا صلاح, ولا زكاء في قلبه.
    وإنما اهتدى بها, من خصهم الله بالإيمان, واستنارت بذلك قلوبهم, وصفت سرائرهم.

    " هدى وبشرى للمؤمنين " (2)
    فلهذا قال: " هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " أي: تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم, وتبين لهم, ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه.
    وتبشرهم بثواب الله, المرتب على الهداية لهذا الطريق.
    ربما قيل: لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحق, فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال:


    " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون " (3)
    " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " فرضها, ونفلها, فيأتون بأفعالها الظاهرة, من أركانها, وشروطها, وواجباتها, ومستحباتها.
    وأفعالها الباطنة, وهو: الخشوع الذي روحها ولبها, باستحضار قرب الله, وتدبر ما يقوله المصلي ويفعله.
    " وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " المفروضة لمستحقيها.
    " وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين, وهو: العلم التام, والواصل إلى القلب, الداعي إلى العمل.
    ويقينهم بالآخرة, يقتضي كمال سعيهم لها, وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب, وهذا أصل كل خير.

    " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " (4)
    " إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ " ويكذبون بها, ويكذبون من جاء بإثباتها.
    " زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ " حائرين مترددين, مؤثرين سخط الله على رضاه.
    قد انقلبت عليهم الحقائق, فرأوا الباطل حقا, والحق باطلا.

    " أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون " (5)
    " أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ " أي: أشده, وأسوأه, وأعظمه.
    " وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ " حصر الخسار فيهم, بكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة, وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل.

    " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " (6)
    " وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ " أي: وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك, وتتلقه, ينزل من عند " حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها, وينزلها منازلها.
    " عَلِيمٌ " بأسرار الأحوال, وبواطنها كظواهرها.
    وإذا كان من عند " حَكِيمٌ عَلِيمٌ " علم كله حكمة ومصالح للعباد, من الذي هو أعلم بمصالحهم منهم؟

    " إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " (7)
    " إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا " إلى آخر قصته.
    يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران, وابتداء الوحي إليه واصطفاءه برسالته, وتكليم الله إياه.
    وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين, وسار بأهله من مدين, متوجها إلى مصر.
    فلما كان في أثناء الطريق, ضل, وكان في ليلة مظلمة باردة, فقال لهم: " إِنِّي آنَسْتُ نَارًا " أي: أبصرت نارا من بعيد " سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ " عن الطريق.
    " أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ " أي: تستدفئون.
    وهذا دليل على أنه تائه, ومشتد برده, هو أهله.


  6. #386
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (384)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(8) الى الأية(14)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " (8)
    " فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا " أي: ناداه الله تعالى وأخبره, أن هذا محل مقدس مبارك.
    ومن بركته, أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وإرساله.
    " وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " على أن يظن به نقص, أو سوء, بل هو الكامل, في وصفه, وفعله.

    " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " (9)

    " يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة, وحده لا شريك له, كما في الآية الأخرى " إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي " " الْعَزِيزُ " الذي قهر جميع الأشياء, وأذعنت له كل المخلوقات.
    " الْحَكِيمُ " في أمره وخلقه.
    ومن حكمته, أن أرسل عبده, موسى بن عمران, الذي علم الله منه, أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه ومن عزته, أن تعتمد عليه, ولا تستوحش من انفرادك, وكثرة أعدائك, وجبروتهم.
    فإن نواصيهم, بيد الله, وحركاتهم وسكونهم, بتدبيره.


    " وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون "(10)
    " وَأَلْقِ عَصَاكَ " فألقاها " فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ " وهو ذكر الحيات, سريع الحركة.
    " وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ " ذعرا من الحية, التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية.
    فقال الله له: " يَا مُوسَى لَا تَخَفْ " وقال في الآية الأخرى " أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ " .
    " إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ " لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره, وتصريفه, وأمره.
    فالذين اختصهم الله برسالته, واصطفاهم, لوحيه, لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله, خصوصا عند زيادة القرب منه, والحظوة بتكليمه.

    " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " (11)
    " إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ " أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم, وما تقدم له من الجرم.
    وأما المرسلون, فما لهم وللوحشة, والخوف؟ ومع هذا, من ظلم نفسه بمعاصي الله, وتاب وأناب, فبدل سيئاته حسنات, ومعاصيه طاعات, فإن الله غفور رحيم.
    فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته, فإنه يغفر الذنوب جميعا, وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.

    " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " (12)
    " وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ " لا برص ولا نقص, بل بياض يبهر الناظرين شعاعه.
    " فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ " أي: هاتان الآيتان, انقلاب العصا حية تسعى, وإخراج اليد من الجيب, فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات, تذهب بها, وتدعو فرعون وقومه " إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ " .
    فسقوا بشركهم, وعتوهم, وعلوهم على عباد الله, واستكبارهم في الأرض, بغير الحق.
    فذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وملأه, ودعاهم إلى الله تعالى, وأراهم الآيات.

    " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين "(13)
    " فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً " مضيئة, تدل على الحق, ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس.
    " قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ " لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر, بل قالوا: " مبين " ظاهر لكل أحد.
    وهذا من أعجب العجائب, الآيات المبصرات, والأنوار الساطعات تجعل من بين الخزعبلات, وأظهر السحر.
    هل هذا, إلا من أعظم المكابرة, وأوقح السفسطة.

    " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " (14)
    " وَجَحَدُوا بِهَا " أي كفروا بآيات الله, جاحدين لها.
    " وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ " أي: ليس جحدهم, مستندا إلى الشك والريب.
    وإنما جحدهم مع علمهم وتيقنهم بصحتها " ظُلْمًا " منهم لحق ربهم ولأنفسهم.
    " وَعُلُوًّا " على الحق وعلى العباد, وعلى الانقياد للرسل.
    " فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ " أسوأ عاقبة, دمرهم الله وأغرقهم في البحر, وأخزاهم, وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.


  7. #387
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (385)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(15) الى الأية(21)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " (15)
    يذكر في هذا القرآن, وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه, بالعلم الواسع الكثير, بدليل التنكير, كما قال تعالى: " وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " الآية.
    " وَقَالَا " شاكرين لربهما منته, الكبرى بتعليمهما: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ " .
    فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين, أهل السعادة, وأنهما كانا من خواصهم.
    ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون, ثم فوقهم: الشهداء, ثم فوقهم: الصديقون, ثم فوقهم: الأنبياء.
    وداود وسليمان, من خواص الرسل, وإن كانا دون درجة أولي العزم الخمسة.
    لكنهما من جملة الرسل الفضلاء الكرام, الذين نوه الله بذكرهم, ومدحهم في كتابه, مدحا عظيما, فحمدا الله على بلوغ هذه المنزلة.
    وهذا عنوان سعادة العبد, أن يكون شاكرا لله على نعمه, الدينية والدنيوية, وأن يرى جميع النعم من ربه.
    فلا يفخر بها ولا يعجب بها, بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا.
    فلما مدحهما مشتركين, خص سليمان, بما خصه به, لكون الله أعطاه ملكا عظيما, وصار له من المجريات, ما لم يكن لأبيه, صلى الله عليهما وسلم, فقال:


    " وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين "(16)
    " وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ " أي: ورث علمه ونبوته, فانضم علم أبيه إلى علمه, فلعله تعلم من أبيه ما عنده, من العلم, مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه, كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان.
    وقال شكرا لله, وتبجحا بإحسانه, وتحدثا بنعمته: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ " .
    فكان عليه الصلاة والسلام, يفقه ما تقول, وتتكلم به, كما راجع الهدهد, وراجعه, وكما فهم قول الله للنمل, كما يأتي, وهذا, لم يكن لأحد غير سليمان عليه السلام.
    " وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ " أي: أعطانا الله من النعم, ومن أسباب الملك, ومن السلطنة والقهر, ما لم يؤت أحدا من الآدميين.
    ولهذا دعا ربه فقال: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " فسخر الله له الشياطين, يعملون له كل ما شاء, من الأعمال, التي يعجز عنها غيرهم, وسخر له الريح, غدوها شهر, ورواحها شهر.
    " إِنَّ هَذَا " الذي أعطانا الله, وفضلنا, واختصنا به " لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ " الواضح الجلي, فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.

    " وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " (17)
    " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ " أي: جمع له جنوده الكثيرة, الهائلة, المتنوعة, من بني آدم, ومن الجن, والشياطين, ومن الطيور فهم يوزعون, يدبرون, ويرد أولهم على آخرهم, وينظمون غاية التنظيم, في سيرهم ونزولهم, وحلهم, وترحالهم قد استعد لذلك, وأعد له عدته.
    وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره, لا تقدر على عصيانه, ولا تتمرد عليه, كما قال تعالى: " هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ " أي: أعط بغير حساب.
    فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره.


    " حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " (18)
    " حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ " منبهة لرفقتها, وبني جنسها: " يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " .
    فنصحت هذه النملة, وأسمعت النمل, إما بنفسها, ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة, لأن التنبيه للنمل, الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة, من أعجب العجائب.
    وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل, ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض, حتى بلغ الجميع, وأمرتهن بالحذر, والطريق في ذلك, وهو دخول مساكنهن.
    وعرفت حالة سليمان وجنوده, وعظمة سلطانه, واعتذرت عنهم, أنهم إن حطموكم, فليس عن قصد منهم, ولا شعور.
    فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها, وفهمه.

    " فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (19)
    " فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا " إعجابا منه, بنصح أمتها, ونصحها, وحسن تعبيرها.
    وهذا حال الأنبياء, عليهم الصلاة والسلام, الأدب الكامل, والتعجب في موضعه, وأن لا يبلغ بهم الضحك, إلا إلى التبسم.
    كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم, جل ضحكه, التبسم.
    فإن القهقهة, تدل على خفة العقل, وسوء الأدب.
    وعدم التبسم والعجب, مما يتعجب منه, يدل على شراسة الخلق, والجبروت.
    والرسل منزهون عن ذلك.
    وقال شاكرا لله, الذي أوصله إلى هذه الحال: " رَبِّ أَوْزِعْنِي " أي: ألهمني ووفقني " أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ " .
    فإن النعمة عل الوالدين, نعمة على الولد.
    فسأل ربه, التوفيق للقيام بشكر نعمته, الدينية, والدنيوية, عليه وعلى والديه.
    " وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ " أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه, لكونه موافقا لأمرك, مخلصا فيه, سالما من المفسدات والمنقصات.
    " وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ " التي منها الجنة " فِي " جملة " عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " .
    فإن الرحمة مجعولة للصالحين, على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.
    فهذا نموذج, ذكره الله من حالة سليمان, عند سماعه خطاب النملة ونداءها.

    " وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " (20)
    ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال: " وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ " دل هذا, على كمال عزمه وحزمه, وحسن تنظيمه لجنوده, وتدبيره بنفسه, للأمور الصغار والكبار.
    حتى إنه لم يهمل هذا الأمر, وهو: تفقد الطيور, والنظر, هل هي موجودة كلها, أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية.
    ولم يصنع شيئا من قال: إنه تفقد الطير, لينظر أين الهدهد منه, ليدله على بعد الماء وقربه.
    كما زعموا عن الهدهد, أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة.
    فإن هذا القول, لا يدل عليه دليل, بل الدليل العقلي واللفظي, دال على بطلانه.
    أما العقلي, فإنه قد عرف بالعادة, والتجارب, والمشاهدات, أن هذه الحيوانات كلها, ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة, وينظر الماء تحت الأرض الكثيفة.
    ولو كان كذلك, لذكره الله, لأنه من أكبر الآيات.
    وأما الدليل اللفظي, فلو أريد هذا المعنى, لقال " وطلب الهدهد لينظر له الماء, فلما فقده قال ما قال " أو " فتش عن الهدهد, أو بحث عنه " ونحو ذلك من العبارات.
    وإنما تفقد الطير, لينظر الحاضر منها والغائب, ولزومها للمراكز والمواضع, التي عينها لها.
    وأيضا فإن سليمان عليه السلام, لا يحتاج, ولا يضطر إلى الماء, بحيث يحتاج لهندسة الهدهد.
    فإن عنده من الشياطين, والعفاريت, ما يحفرون له الماء, ولو بلغ في العمق ما بلغ.
    وسخر الله له الريح, غدوها شهر, ورواحها شهر.
    فكيف - مع ذلك - يحتاج إلى الهدهد؟!!.
    وهذه التفاسير, التي توجد, وتشتهر بها أقوال, لا يعرف غيرها, تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل, مجردة, ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة, وتطبيقها على الأقوال.
    ثم لا تزال تتناقل, وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم, حتى يظن أنها الحق.
    فيقع من الأقوال الردية في التفاسير, ما يقع.
    واللبيب الفطن, يعرف أن هذا القرآن الكريم, العربي المبين, الذي خاطب الله به الخلق كلهم, عالمهم, وجاهلهم, وأمرهم بالتفكر في معانيه, وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني, التي لا تجهلها العرب العرباء.
    وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم, ردها إلى هذا الأصل.
    فإن وافقه, قبلها, لكون اللفظ دالا عليها.
    وإن خالفته لفظا ومعنى, أو لفظا أو معنى, ردها, وجزم ببطلانها, لأن عنده أصلا معلوما, مناقضا لها, وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته.
    والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير, وفقده الهدهد, يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه, وكمال فطنته, حتى تفقد هذا الطائر الصغير " فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ " أي: هل عدم رؤيتي إياه, لقلة فطنتي به, لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟.
    أم على بابها, بأن كان غائبا من غير إذني, ولا أمري؟.

    " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " (21)
    فحينئذ تغيظ عليه, وتوعده فقال " لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا " دون القتل.
    " أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ " أي: حجة واضحة على تخلفه.
    وهذا من كمال ورعه وإنصافه, أنه لم يقسم على مجرد عقوبته, بالعذاب أو القتل, لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب.
    وغيبته, وقد تحتمل أنها لعذر واضح, فلذلك استثناه, لورعه وفطنته.




  8. #388
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (386)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(22) الى الأية(30)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين " (22)
    " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ " ثم جاء, وهذا يدل على هيبة جنودة منه, وشدة ائتمارهم لأمره.
    حتى إن هذا الهدهد, الذي خلفه العذر الواضح, لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا.
    " فَقَالَ " لسليمان: " أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ " عندي العلم, علم ما ما أحطت به, على علمك الواسع, وعلى درجتك فيه.
    " وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ " القبيلة, المعروفة في اليمن " بِنَبَإٍ يَقِينٍ " أي: خبر متيقن.

    " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم " (23)
    تم فسر هذا النبأ فقال: " إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ " أي: تملك قبيلة سبأ, وهي امرأة " وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ " يؤتاه الملوك, من الأموال, والسلاح, والجنود, والحصون, والقلاع ونحو ذلك.
    " وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ " أي: كرسي ملكها, الذي تجلس عليه, عرش هائل.
    وعظم العروش, تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.

    " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون " (24)
    " وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ " أي: هم مشركون يعبدون الشمس.
    " وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ " فرأوا ما عليه هو الحق.
    " فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ " لأن الذي يرى أن الذي عليه حق, لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.

    " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون " (25)
    ثم قال: " أَلَا " أي هلا " يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: يعلم الخفي الخبيء, في أقطار السماوات, وأنحاء الأرض, من صغار المخلوقات, وبذور النباتات, وخفايا الصدور.
    ويخرج خبء الأرض والسماء, بإنزال المطر, وإنبات النباتات.
    ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض, ليجازيهم بأعمالهم " وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ " .

    " الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " (26)
    " اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ " أي: لا تنبغي العبادة, والإنابة, والذل, والحب, إلا له, لأنه المألوه, لما له من الصفات الكاملة, والنعم الموجبة لذلك.
    " رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ " الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات.
    فهذا الملك, عظيم السلطان, كبير الشأن, هو الذي يذل له, ويخضع, ويسجد له, ويركع.
    فسلم الهدهد, حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم, وتعجب سليمان كيف خفى عليه.

    " قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين "(27)

    وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته: " سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا " وسيأتي نصه " فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ " أي: استأخر غير بعيد " فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ " إليك وما يتراجعون به.
    " قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم "(29)
    فذهب به فألقاه عليها, فقالت لقومها: " إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ " .
    أي: جليل المقدار, من أكبر ملوك الأرض.

    " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم "(30)
    ثم بينت مضمونه فقالت: " إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " أي: لا تكونوا فوقي, بل اخضعوا تحت سلطاني, وانقادوا لأوامري, وأقبلوا إلي مسلمين.
    وهذا في غاية الوجازة, مع البيان التام, فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه, والبقاء على حالهم, التي هم عليها والانقياد لأمره, والدخول تحت طاعته, ومجيئهم إليه, ودعوتهم إلى الإسلام.
    وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة, وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب.
    فمن حزمها وعقلها, أن جمعت كبار دولتها, ورجال مملكتها وقالت:


  9. #389
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (387)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(31) الى الأية(39)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " (32)
    " يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي " أي: أخبروني, ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته, وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ " مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ " أي: ما كنت مستبدة بأمر, دون رأيكم ومشورتكم.
    " قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " (33)
    " قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ " أي: إن رددت عليه قوله, ولم تدخلي في طاعتة, فإنا أقوياء على القتال.
    فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي, الذي لو تم, لكان فيه دمارهم.
    ولكنهم أيضا, لم يستقروا عليه, بل قالوا: الأمر " إِلَيْكَ " أي: الرأي ما رأيت, لعلمهم بعقلها, وحزمها, ونصحها لهم " فَانْظُرِي " نظر فكر وتدبر " مَاذَا تَأْمُرِينَ " .


    " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " (34)
    فقالت لهم - مقنعة لهم بالعدول عن رأيهم, ومبينة سوء مغبة القتال - " إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا " قتلا, وأسرا, ونهبا لأموالها, وتخريبا لديارها.
    " وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً " أي: جعل الرؤساء السادة, أشراف الناس من الأرذلين.
    أي: فهذا رأي غير سديد.
    وأيضا فلست بمطيعة له, قبل الاحتيال, وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها.
    وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا.

    " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون "(35)
    فقالت: " وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ " منه.
    هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية, وتتبدل فكرته, وكيف أحواله وجنوده؟

    " فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " (36)
    فأرسلت إليه بهدية, مع رسل من عقلاء قومها, وذوي الرأي منهم.
    " فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ " أي: جاءه الرسل بالهدية " قَالَ " منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم: " أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ " فليست تقع عندي موقعا, ولا أفرح بها, قد أغناني الله عنها, وأكثر علي النعم.
    " بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ " لحبكم للدنيا, وقلة ما بأيديكم, بالنسبة لما أعطاني الله.

    " ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " (37)
    ثم أوصى الرسول من غير كتاب, لما رأى من عقله, وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال: " ارْجِعْ إِلَيْهِمْ " أي: بهديتك " فَلَنَأْتِيَنَّ هُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ " .
    أي: لا طاقة لهم " بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّ هُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ " .
    فرجع إليهم, وأبلغهم ما قال سليمان, وتجهزوا للمسير إلى سليمان.
    وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه, فقال لمن حضره من الجن والإنس:

    " قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " (38)
    " أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " أي: لأجل أن نتصرف فيه, قبل أن يسلموا, فتكون أموالهم محترمة " قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ " والعفريت هو: القوي النشيط جدا:
    " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " (39)
    " أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ " .
    والظاهر أن سليمان إذ ذاك, في الشام, فيكون بينه وبين سبأ, نحو مسيرة أربعة أشهر, شهران ذهابا, وشهران إيابا.
    ومع ذلك, يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به, على كبره وثقله.
    وبعده, قبل أن تقوم من مجلسك, الذي أنت فيه.
    والمعتاد من المجالس الطويلة, أن تكون معظم الضحى, نحو ثلث يوم, هذا نهاية المعتاد.
    وقد يكون دون ذلك, أو أكثر وهذا الملك العظيم, الذي عند آحاد رعيته, هذه القوة, والقدرة, وأبلغ من ذلك أن " قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ " قال المفسرون: هو رجل عالم, صالح, عند سليمان يقال له " آصف بن برخيا " كان يعرف اسم الله الأعظم, الذي إذا دعا الله به أجاب, وإذا سأل به أعطى.


  10. #390
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (388)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(40) الى الأية(47)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " (40)
    " أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ " بأن يدعو الله بذلك الاسم, فيحضر حالا, وأنه دعا الله فحضر.
    فالله أعلم, هل هذا هو المراد, أم أن عنده علما من الكتاب, يقتدر به على جلب البعيد, وتحصيل الشديد؟.
    " فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ " حمد الله تعالى على إقداره وملكه, وتسير الأمور له, و " قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ " أي: ليختبرني بذلك.
    فلم يغتر عليه السلام, بملكه, وسلطانه, وقدرته, كما هو دأب الملوك الجاهلين.
    بل علم أن ذلك اختبار من ربه, فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة.
    ثم بين أن هذا الشكر, لا ينتفع الله به, وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه, فقال: " وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ " غني عن أعماله, كريم, كثير الخير, يعم به الشاكر والكافر.
    إلا أن شكر نعمه, داع للمزيد منها, وكفرها, داع لزوالها.
    ثم قال لمن عنده " نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا " أي: غيروه بزيادة ونقص.
    ونحن في ذلك " نَنْظُرْ " مختبرين لعقلها " أَتَهْتَدِي " للصواب, ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها " أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ " .

    " فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " (42)
    " فَلَمَّا جَاءَتْ " قادمة على سليمان, عرض عليها عرشها, وكان عهدها به, قد خلفته في بلدها.
    و " قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ " أي: أنه استقر عدنا, أن لك عرشا عظيما, فهل هو كهذا العرش, الذي أحضرناه لك؟ " قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ " وهذا من ذكائها وفطنتها, لم تقل " هو " لوجود التغيير فيه والتنكير, ولم تنف أنه هو, لأنها عرفته.
    فأتت بلفظ محتمل للأمرين, صادق على الحالين.
    فقال سليم ن متعجبا من هدايتها وعقلها, وشاكرا لله, أن أعطاه أعظم منها.
    " وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا " أي: الهداية, والعقل, والحزم, من قبل هذه الملكة.
    " وَكُنَّا مُسْلِمِينَ " وهي الهداية النافعة الأصلية.
    ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ " وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه, فزيادة اقتداره, من قبل هذه الحالة, التي رأينا فيها قدرته, على إحضار العرش, من المسافة البعيدة, فأذعنا له, وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه " .

    " وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين " (43)

    قال الله تعالى: " وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ " أي عن الإسلام وإلا فلها من الذكاء والفطنة, ما به تعرف الحق من الباطل, ولكن العقائد الباطلة, تذهب بصيرة القلب " إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ " فاستمرت على دينهم.
    وانفراد الواحد عن أهل الدين, والعادة المستمرة بأمر, يراه بعقله من ضلالهم وخطأهم, من أندر ما يكون, فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر.
    ثم إن سليمان أراد, أن ترى من سلطانه, ما يبهر العقول, فأمرها أن تدخل الصرح, وهو المجلس المرتفع المتسع, وكان مجلسا من قوارير, تجري تحته الأنهار.

    " قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين " (44)
    " قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً " ماء, لأن القوارير شفافة, يرى الماء الذي تحتها, كأنه بذاته, يجري, ليس دونه شيء.
    " وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا " لتخوضه, وهذا أيضا من عقلها, وأدبها.
    فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل, الذي أمرت بدخوله, لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه, قد بناه على الحكمة, ولم يكن, في قلبها أدنى شك, من حالة السوء بعد ما رأت, ما رأت.
    فلما استعدت للخوض قيل لها " إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ " أي: مجلس " مِنْ قَوَارِيرَ " فلا حاجة منك لكشف الساقين.
    فحينئذ لما وصلت إلى سليمان, وشاهدت ما شاهدت, وعلمت نبوته ورسالته, ثابت ورجعت عن كفرها, و " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " .
    فهذا ما قصه الله علينا, من قصة ملكة سبأ, وما جرى لها مع سليمان.
    وما عدا ذلك من الفروع المولدة, والقصص الإسرائيلية, فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله, وهو من الأمور, التي يتوقف الجزم بها, على الدليل المعلوم عن المعصوم.
    والمنقولات في هذا الباب كلها, أو أكثرها, ليس كذلك.
    قالحزم كل الحزم, الإعراض عنها, وعدم إدخالها في التفاسير.
    والله أعلم.

    " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون " (45)
    يخبر تعالى أنه أرسل إلى ثمود, القبيلة المعروفة, أخاهم في النسب, صالحا, وأنه أمرهم, أن يعبدوا الله وحده, ويتركوا الأنداد والأوثان.
    " فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ " منهم المؤمن, ومنهم الكافر, وهم معظمهم.

    " قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون " (46)
    " قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ " أي: لم تبادرون فعل السيئات, وتحرصون عليها, قبل فعل الحسنات, التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم, إلى الذهاب لفعل السيئات؟.
    " لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ " بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم, وتدعوا أن يغفر لكم.
    " لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " فإن رحمة الله قريب من المحسنين, والتائب من الذنوب, هو من المحسنين.

    " قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون " (47)
    " قَالُوا " لنبيهم صالح, مكذبين ومعارضين: " اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ " .
    زعموا - قبحهم الله - أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا, وأنه, هو ومن معه, من المؤمنين, صاروا سببا لمنع مطالبهم الدنيوية.
    فقال لهم صالح: " طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ " أي: ما أصابكم الله, بذنوبكم.
    " بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ " بالسراء والضراء, والخير والشر, لينظر هل تقلعون وتتوبون, أم لا؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم, وما قابلوه به.




  11. #391
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (389)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(48) الى الأية(55)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون " (48)
    " وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ " التي فيها صالح, الجامعة لمعظم قومه " تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ " أي: وصفهم الإفساد في الأرض, ولا لهم قصد, ولا فعل بالإصلاح, قد استعدوا لمعاداة صالح, والطعن في دينه, ودعوة قومهم إلى ذلك, كما قال تعالى: " فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ "
    " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " (49)
    فلم يزالوا بهذه الحال الشنيعة, حتى إنهم من عداوتهم " تَقَاسَمُوا " فيما بينهم, كل واحد, أقسم للآخر " لَنُبَيِّتَنَّه ُ وَأَهْلَهُ " , أي: لنأتينهم ليلا, هو وأهله, فلنفتننهم.
    " ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ " إذا قام علينا, وادعى علينا, أنا قتلناهم, ننكر ذلك, وننفيه ونحلف.
    " مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ " , فتواطئوا على ذلك.

    " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون "(50)
    " وَمَكَرُوا مَكْرًا " دبروا أمرهم, على قتل صالح وأهله, على وجه الخفية, حتى من قومهم, خوفا من أوليائه.
    " وَمَكَرْنَا مَكْرًا " بنصر نبينا صالح, عليه السلام, وتيسير أمره, وإهلاك قومه المكذبين " وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "

    " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين "(51)
    " فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ " هل حصل مقصودهم؟ وأدركوا بذلك المكر مطلوبهم, أم انتقض عليهم الأمر.
    ولهذا قال: " أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ " أهلكناهم, واستأصلنا شأفتهم.
    فجاءتهم صيحة عذاب, فأهلكوا عن آخرهم.

    " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون " (52)
    " فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً " قد تهدمت جدرانها على سقوفها, وأوحشت من ساكنيها, وعطلت من نازليها.
    " بِمَا ظَلَمُوا " أي: هذا عاقبة ظلمهم وشركهم بالله, وبغيهم في الأرض.
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ " الحقائق, ويتدبرون وقائع الله, في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك, ويعلمون أن عاقبة الظلم, الدمار والهلاك, وأن عاقبة الإيمان والعدل, النجاة والفوز.


    " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " (53)
    ولهذا قال: " وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ " أي: أنجينا المؤمنين بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والقدر, خيره, وشره, وكانوا يتقون الشرك بالله, والمعاصي, ويعملون بطاعته, وطاعة رسله.
    " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " (54)

    أي: واذكر عبدنا, ورسولنا, لوطا, ونبأه الفاضل, حين قال لقومه - داعيا إلى الله, وناصحا-: " أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ " أي: الفعلة الشنعاء, التي تستفحشها العقول والفطر, وتستقبحها الشرائع " وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " ذلك, وتعلمون قبحه, فعاندتم, وارتكبتم ذلك, ظلما منكم وجرأة على الله.
    " أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون "(55)
    ثم فسر تلك الفاحشة فقال: " أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ " .
    أي: كيف توصلتم إلى هذه الحال, فصارت شهوتكم للرجال, وأدبارهم, محل الغائط والنجو, والخبث: وتركتم ما خلق الله لكم, من النساء, من المحال الطيبة, التي جبلت النفوس على الميل إليها.
    وأنتم انقلب عليكم الأمر, فاستحسنتم القبيح, واستقبحتم الحسن.
    " بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ " متجاوزون لحدود الله, متجرئون على محارمه.


  12. #392
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (390)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(56) الى الأية(60)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " (56)
    " فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ " قبول ولا انزجار, ولا تذكر, وادكار.
    إنما كان جوابهم, المعارضة, والمناقضة, والتوعد لنبيهم الناصح, ورسولهم الأمين, بالإجلاء عن وطنه, والتشريد عن بلده.
    فما كان جواب قومه " إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ " .
    فكأنه قيل: ما نقمتم منهم, وما ذنبهم الذي أوجب لهم الإخراج.
    فقالوا: " إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ " أي: يتنزهون عن اللواط, وأدبار الذكور.
    فقبحهم الله, جعلوا أفضل الحسنات, بمنزلة أقبح السيئات.
    ولم يكتفوا بمعصيتهم نبيهم, وفيما وعظهم به, حتى وصلوا إلى إخراجه والبلاء موكل بالمنطق, فهم قالوا: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ " .
    ومفهوم هذا الكلام " وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة, المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم, ونجاة من خرج منها " .

    " فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين " (57)
    ولهذا قال تعالى: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ " وذلك لما جاءته الملائكة في صورة أضياف, وسمع بهم قومه, فجاءوا إليه يريدونهم بالشر, وأغلق الباب دونهم, واشتد الأمر عليه.
    ثم أخبرته الملائكة عن جلية الحال, وأنهم جاءوا لاستنقاذه, من بين أظهرهم, وأنهم يريدون إهلاكهم, وأن موعدهم الصبح.
    وأمروه أن يسري بأهله ليلا, إلا امرأته, فإنه سيصيبها ما أصابهم فخرج بأهله ليلا, فنجوا, وصبحهم العذاب.
    فقلب الله عليهم ديارهم, وجعل أعلاها أسفلها, وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود, مسومة عند ربك.

    " وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين " (58)
    ولهذا قال هنا: " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ " .
    أي: بئس المطر مطرهم, وبئس العذاب عذابهم, لأنهم أنذروا وخوفوا, فلم ينزجروا, ولم يرتدعوا, فأحل الله بهم, عقابه الشديد.

    " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون " (59)
    أي: قل " الحمد لله الذي يستحق كمال الحد, والمدح والثناء, لكمال أوصافه, وجميل معروفه, وهباته, وعدله, وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين.
    وسلم أيضا على عباده, الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين, من الأنبياء والمرسلين, وصفوة الله رب العالمين.
    وذلك لرفع ذكرهم, وتنويها بقدرهم, وسلامتهم من الشر والأدناس وسلامة ما قالوه في ربهم, من النقائص والعيوب.
    " آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ " وهذا استفهام قد تقرر وعرف.
    أي: الله الرب العظيم, كامل الأوصاف, عظيم الألطاف, خير أم الأصنام والأوثان, التي عبدوها معه, وهي ناقصة من وجه كل, لا تنفع ولا تضر, ولا تملك, لأنفسها, ولا لعابديها, مثقال ذرة من الخير فالله خير مما يشركون.

    " أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " (60)
    ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف, ويتبين أنه الإله المعبود, وأن عبادته هي الحق, وعبادة ما سواه, هي الباطل فقال: " أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ " إلى " يَعْدِلُونَ " .
    أي: أمن خلق السماوات, وما فيها, من الشمس والقمر, والنجوم, والملائكة, والأرض, وما فيها من جبال, وبحار, وأنهار, وأشجار, وغير ذلك.
    " وَأَنْزَلَ لَكُمْ " أي: لأجلكم " مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ " أي: بساتين " ذَاتَ بَهْجَةٍ " أي: حسن منظر, من كثرة أشجارها, وتنوعها, وحسن ثمارها.
    " مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا " لولا منة الله عليكم, بإنزال المطر.
    " أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ " فعل هذا الأفعال, حتى يعبد معه ويشرك به؟.
    " بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ " به غيره, ويسوون به سواه, مع علمهم أنه وحده, خالق العالم العلوي والسفلي, ومنزل الرزق.


  13. #393
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (391)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(61) الى الأية(65)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " (61)
    أي: هل الأصنام والأوثان, الناقصة من كل وجه, التي لا فعل منها ولا رزق ولا نفع, خير؟ أم الله الذي " جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا " يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى, والحرث, والبناء, والذهاب, والإياب.
    " وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا " أي: جعل في خلال الأرض, أنهارا ينتفع بها العباد, في زروعهم وأشجارهم, وشربهم, وشرب مواشيهم.
    " وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ " أي: جبالا ترسيها وتثبتها, لئلا تميد, وتكون أوتادا لها, لئلا تضطرب.
    " وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ " البحر المالح والبحر العذب " حَاجِزًا " يمنع من اختلاطهما, فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما, بل جعل بينهما حاجزا من الأرض.
    جعل مجرى الأنهار في الأرض, مبعدة عن البحار, فتحصل منها مقاصدها ومصالحها.
    " أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ " فعل ذلك, حتى يعدل به الله ويشرك به معه.
    " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فيشركون بالله, تقليدا لرؤسائهم وإلا, فلو علموا حق العلم, لم يشركوا به شيئا.

    " أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " (67)
    أي: هل يجيب المضطرب, الذي أقلقته الكروب, وتعسر عليه المطلوب, واضطر للخلاص, مما هو فيه, إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء, أي: البلاء, والشر, والنقمة, إلا الله وحده؟.
    ومن يجعلكم خلفاء الأرض, يمكنكم منها, ويمد لكم بالرزق, ويوصل إليكم نعمه, وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم, ويأتي بقوم بعدكم, أإله مع الله, يفعل هذه الأفعال؟.
    لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك, حتى بإقراركم أيها المشركون.
    ولهذا كانوا إذا مسهم الضر, دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده, المقتدر على دفعه وإزالته.
    " قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور, التي إذا تذكرتموها, أدركتم, ورجعتم إلى الهدى.
    ولكن الغفلة والإعراض, شامل لكم, فلذلك ما أرعويتم, ولا اهتديتم.


    " أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون "( 63)

    أي: من هو الذي يهديكم, حين تكونون في ظلمات البر والبحر, حيث لا دليل, ولا معلم يرى, ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم, وتيسيره الطريق, وجعل ما جعل لكم من الأسباب, التي تهتدون بها.
    " وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ " أي: بن يدي المطر.
    فيرسلها, فتثير السحاب, ثم تؤلفه, ثم تجمعه, ثم تلقحه, ثم تدره, فيستبشر بذلك العباد, قبل نزول المطر.
    " أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ " فعل ذلك؟ أم هو وحده, الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره, وعبدتم سواه؟.
    " تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " تعاظم, وتنزه وتقدس عن شركهم, وتسويتهم به غيره.

    " أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " (64)
    أي: من هو الذي يبدأ الخلق, وينشئ المخلوقات, ويبتدي خلقها, ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض, بالمطر والنبات؟.
    " أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ " يفعل ذلك, ويقدر عليه؟.
    " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ " أي: حجتكم ودليلكم على ما قلتم " إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " وإلا, فبتقدير أنكم تقولون: إن الأصنام لها مشاركة له, في شيء من ذلك, فذلك مجرد دعوى, صدقتموها بلا برهان.
    وإلا, فاعرفوا أنكم مبطلون, لا حجة لكم.
    فارجعوا إلى الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله, هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن يصرف له جميع أنواع العبادات.

    " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " (65)
    يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض, كقوله تعالى: " وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " وكقوله " إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ " إلى آخر السورة.
    فهذه الغيوب ونحوها, اختص الله بعلمها, فلم يعلمها ملك مقرب, ولا نبي مرسل.
    وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك, المحيط علمه بالسرائر, والبواطن, والخفايا, فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
    ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة, منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال: " وَمَا يَشْعُرُونَ " أي وما يدرون " أَيَّانَ يُبْعَثُونَ " أي: متى البعث والنشور, والقيام من القبور, أي: فلذلك لم يستعدوا.


  14. #394
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (392)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(66) الى الأية(72)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون " (66)
    " بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ " أي: بل ضعف, ولم يكن يقينا, ولا علما واصلا إلى القلب, وهذا أقل, وأدنى درجة للعلم, ضعفه ووهاؤه, بل ليس عندهم علم قوي, ولا ضعيف, وإنما " هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا " .
    أي: من الآخرة.
    والشك زال به العلم, لأن العلم بجميع مراتبه, لا يجامع الشك.
    " بَلْ هُمْ مِنْهَا " أي من الآخرة " عَمُونَ " قد عميت عنها بصائرهم.
    ولم يكن في قلوبهم علم من وقوعها ولا احتمال, بل أنكروها واستبعدوها.

    " وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون " (67)
    ولهذا قال: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ " أي: هذا بعيد, غير ممكن, قاسوا قدرة كامل القدرة, بقدرهم الضعيفة.
    " لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين " (68)
    " لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا " أي: البعث " نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ " أي: فلم يجئنا, ولا رأينا منه شيئا.
    " إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " أي: قصصهم وأخبارهم, التي تقطع بها الأوقات, وليس لها أصل, ولا صدق فيها.
    فانتقل في الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار أنهم لا يدرون متى وقت الآخرة, ثم الإخبار بضعف علمهم فيها, ثم الإخبار بأنه شك, ثم الإخبار بأنهم عمي, ثم الإخبار بإنكارهم لذلك, واستبعادهم وقوعه.
    أي: وبسبب هذه الأحوال ترحل خوف الآخرة من قلوبهم, فأقدموا على معاصي الله, وسهل عليهم تكذيب الحق, والتصديق بالباطل, واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات, فخسروا دنياهم وأخرهم.

    " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين " (69)
    نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال: " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ " فلا تجدون مجرما قد استمر على إجرامه.
    إلا وعاقبته شر عاقبة, وقد أحل الله به من الشر والعقوبة, ما يليق بحاله.

    " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون " (70)
    أي: لا تحزن يا محمد, على هؤلاء المكذبين, وعدم إيمانهم.
    فإنك لو علمت ما فيهم من الشر, وأنهم لا يصلحون الخير, لم تأس ولم تحزن.
    ولا يضق صدرك, ولا تقلق نفسك بمكرهم, فإن مكرهم ستعود عاقبته عليهم.
    " وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ " .
    ويقول المكذبون بالمعاد, وبالحق الذي جاء به الرسول, مستعجلين للعذاب:

    " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " (71)
    " مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم, فإن وقوعه ووقته, قد أجله الله بأجله, وقدره بقدره.
    فلا يدل عدم استعجاله, على بعض مطلوبهم.

    " قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون " (72)
    ولكن - مع هذا - قال تعالى, محذرا لهم وقوع ما يستعجلون: " قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ " أي: قرب منكم, وأوشك أن يقع بكم " بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ " من العذاب.



  15. #395
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (393)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(73) الى الأية(79)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون " (73)
    ينبه عباده, على سعة جوده, وكثرة أفضاله, ويحثهم على شكرها.
    ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا عن الشكر, واشتغلوا بالنعم عن المنعم.

    " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " (74)
    " وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ " أي: تنطوي عليه " صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ " .
    فليحذروا من عالم السرائر والظواهر, وليراقبوه.

    " وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين " (75)
    " وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أي: خفية, وسر من أسرار العالم, العلوي والسفلي.
    " إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " قد أحاط ذلك الكتاب, بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة.
    فكل حادث جلي أو خفي إلا وهو مطابق, لما كتب في اللوح المحفوظ.

    " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " (76)
    وهذا خبر عن هيمنة القرآن, على الكتب السابقة, وتفصيله, وتوضيحه: لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل, قصه هذا القرآن قصا, زال به الإشكال واستبان به الصواب من المسائل المختلف فيها.
    وإذا كان بهذه المثابة, من الجلالة والوضوح, وإزالة كل خلاف, وفصل كل مشكل, كان أعظم نعم الله على العباد, ولكن ما كل أحد, يقابل النعمة بالشكر.
    ولهذا بين أن نفعه, ونوره, وهداه, مختص بالمؤمنين فقال:

    " وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين " (77)
    " وَإِنَّهُ لَهُدًى " من الضلالة والغي والشبه " وَرَحْمَةٌ " تثلج له صدورهم, وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية " لِلْمُؤْمِنِينَ " به المصدقين له, المتلقين له بالقبول, المقبلين على تدبره, المتفكرين في معانيه.
    فهؤلاء, تحصل لهم به, الهداية إلى الصراط المستقيم, والرحمة المتضمنة للسعادة, والفوز والفلاح.

    " إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم " (78)
    أي إن الله تعالى سيفصل بين المختصين, وسيحكم بين المختلفين, بحكمه العدل, وقضائه القسط.
    فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين, لخفاء الدليل, ولبعض المقاصد, فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع, حين يحكم الله فيها.
    " وَهُوَ الْعَزِيزُ " الذي قهر الخلائق, فأذعنوا له.
    " الْعَلِيمُ " بجميع الأشياء " الْعَلِيمُ " بأقوال المختلفين, وعما ذا صددت, وعن غاياتها ومقاصدها, وسيجازي كلا بما علمه فيه.

    " فتوكل على الله إنك على الحق المبين " (79)
    أي: اعتمد على ربك, في جلب المصالح, ودفع المضار, وفي تبليغ الرسالة, وإقامة الدين, وجهاد الأعداء.
    " إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ " الواضح, والذي على الحق, يدعو إليه, ويقوم بنصرته, أحق من غيره بالتوكل, فإنه يسعى إلى أمر مجزوم به, معلوم صدقه, لا شك فيه, ولا مرية.
    وأيضا, فهو حق, في غاية البيان, لا خفاء به, ولا اشتباء.
    وإذا قمت بما حملت, وتوكلت على الله في ذلك, فلا يضرك ضلال من ضل, وليس عليك هداهم, فلهذا قال:




  16. #396
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (394)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(80) الى الأية(86)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل



    " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " (80)
    " إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ " أي, حين تدعوهم وتناديهم, وخصوصا " إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ " فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.
    " وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون " (81)
    " وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ " كما قال تعالى: " إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ " .
    " إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ " أي: هؤلاء الذين ينقادون لك, هم الذين يؤمنون بآيات الله, وينقادون لها بأعمالهم, واستسلامهم كما قال تعالى: " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ " .


    " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " (82)
    أي: إذا وقع على الناس, القول الذي حتمه الله, وفرض وقته.
    " أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً " خارجة " مِنَ الْأَرْضِ " أو دابة من دواب الأرض, ليست من السماء.
    وهذه الدابة " تُكَلِّمُهُمْ " أي: تكلم العباد " أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ " أي: لأجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات الله.
    فإظهار الله هذه الدابة, من آيات الله العجيبة, ليبين للناس, ما كانوا فيه يمترون.
    وهذه الدابة, هي الدابة المشهورة, التي تخرج في آخر الزمان, وتكون من أشراط الساعة, كما تكاثرت بذلك الأحاديث, لم يذكر الله ورسوله, كيفية هذه الدابة.
    وإنما ذكر أثرها والمقصود منها وأنها من آيات الله, تكلم الناس كلاما خارقا للعادة, حين يقع القول على الناس, وحين يمترون بآيات الله.
    فتكون حجة وبرهانا للمؤمنين, وحجة على المعاندين.

    " حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون " (83)
    يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة, وأن الله يجمعهم, ويحشر من كل أمة من الأمم فوجا وطائفة " مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ " .
    يجمع أولهم على آخرهم, وآخرهم على أولهم, ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم.
    " حَتَّى إِذَا جَاءُوا " وحضروا, قال لهم, موبخا ومقرعا: " أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا " العلم, أي: الواجب عليكم التوقف, حتى ينكشف لكم الحق, وأن لا تتكلموا إلا بعلم.
    فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا به علما؟ " أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " أي: يسألهم عن علمهم, وعن عملهم, فيجد عليهم, تكذيبا بالحق, وعملهم لغير الله, أو على غير سنة رسولهم.

    " ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون " (85)
    " وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا " أي: حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم, الذي استمروا عليه, وتوجهت عليهم الحجة.
    " فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ " لأنه لا حجة لهم.

    " ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون "(86)
    أي: ألم يشاهدوا الآية العظيمة, والنعمة الجسيمة, وهو تسخير الله لهم الليل والنهار.
    هذا بظلمته, ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب, ويستعدوا للعمل.
    وهذا بضيائه, لينتشروا فيه في معاشهم وتصرفاتهم.
    " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " بكمال وحدانية الله وسبوغ نعمته.


  17. #397
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (395)
    تفسير السعدى
    سورة النمل
    من الأية(87) الى الأية(93)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة النمل


    " ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين " (87)
    يخوف الله عباده, ما أمامهم من يوم القيامة, وما فيه من المحن والكروب, ومزعجات القلوب, فقال: " وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ " بسبب النفخ فيه " مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ " أي: انزعجوا وارتاعوا, وماج بعضهم ببعض, خوفا مما هو مقدمة له.
    " إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ " ممن أكرمه الله, وثبته, وحفظه من الفزع.
    " وَكُلٌّ " من الخلق عند النفخ في الصور " أَتَوْهُ دَاخِرِينَ " صاغرين ذليلين.
    كما قال تعالى " إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا " .
    ففي ذلك اليوم, يتساوى الرؤساء والمرءوسون, في الذل والخضوع, لمالك الملك.

    " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون " (88)
    ومن هوله أنك ترى " الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً " لا تفقد شيئا منها, وتظنها باقية على الحال المعهودة, وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كل مبلغ, وقد تفتت, ثم تضمحل, ويكون هباء منبثا.
    ولهذا قال: " وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ " من خفتها, وشدة ذلك الخوف وذلك " صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ " فيجازيكم بأعمالكم.

    " من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون " (89)

    ثم بين كيفية جزائه فقال: " مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ " يعم جنس الحسنات, قولية, أو فعلية, أو قلبية " فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا " هذا أقل التفضيل.
    " وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ " أي: من الأمر الذي فزع الخلق لأجله آمنون, وإن كانوا يفزعون معهم.

    " ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " (90)
    " وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ " اسم جنس, يشمل كل سيئة " فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ " أي: ألقوا في النار على وجوههم, ويقال لهم " هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " .
    " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين "(91)
    أي قل لهم يا محمد " إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ " أي: مكة المكرمة " الَّذِي حَرَّمَهَا " وأنعم على أهلها, فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول.
    " وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ " من العلويات والسفليات, أتي به, لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده.
    " وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " أي: أبادر إلى الإسلام.
    وقد فعل صلى الله عليه وسلم, فإنه أول هذه الأمة إسلاما, وأعظمها استسلاما.

    " وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " (92)
    وأمرت أيضا أن " أَتْلُوَ " عليكم " الْقُرْآنُ " لتهتدوا به, وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه, فهذا الذي علي, وقد أديته.
    " فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ " نفعه يعود عليه, وثمرته عائدة إليه " وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ " وليس بيدي من الهداية شيء.

    " وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون " (93)
    " وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي له الحمد في الأولى والآخرة, ومن جميع الخلق.
    خصوصا أهل الاختصاص والصفوة من عباده.
    فإن الذي وقع, والذي ينبغي, أن يقع منهم, من الحمد والثناء على ربهم, أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم, وكمال قربهم منه, وكثرة خيراته عليهم.
    " سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَهَ ا " معرفة, تدلكم على الحق والباطل.
    فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به في الظلمات.
    " لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ " .
    " وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ " بل قد علم ما أنتم عليه من الأعمال والأحوال, وعلم مقدار جزاء تلك الأعمال, وسيحكم بينكم حكما, تحمدونه عليه, ولا يكون لكم حجه, بوجه من الوجوه عليه.


  18. #398
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (396)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(1) الى الأية(7)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " تلك آيات الكتاب المبين " (2)

    " تِلْكَ " الآيات المستحقة للتعظيم والتفخيم " آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ " لكل أمر يحتاج إليه العباد, من معرفة ربهم, ومعرفة حقوقه, ومعرفة أوليائه وأعدائه, ومعرفة وقائعه وأيامه, ومعرفة ثواب الأعمال, وجزاء العمال.
    فهذا القرآن قد بينها غاية التبيين, وجلَّالها للعباد, ووضحها.

    " نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " (3)
    ومن جملة ما أبان, قصة موسى وفرعون, فإنه أبداها, وأعادها في عدة مواضع.
    وبسطها في هذا الموضع فقال: " نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ " .
    فإن نبأهما غريب, وخبرهما عجيب.
    " لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " فإليهم يساق الخطاب, ويوجه الكلام.
    حيث إن معهم من الإيمان, ما يقبلون به, على تدبُّر ذلك, وتلقِّيه بالقبول والاهتداء, بمواقع العبر, ويزدادون به إيمانا, ويقينا, وخيرا إلى خيرهم.
    وأما من عداهم, فلا يستفيدون منه, إلا إقامة الحجة عليهم, وصانه اللّه عنهم, وجعل بينهم وبينه حجابا أن يفقهوه.


    " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين " (4)
    فأول هذه القصة " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ " في ملكه وسلطانه, وجنوده, وجبروته, فصار من أهل العلو فيها, لا من الأعلين فيها.
    " وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا " أي: طوائف متفرقة, يتصرف فيهم بشهوته, وينفذ فيهم ما أراد من قهره, وسطوته.
    " يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ " وتلك الطائفة, هم: بنو إسرائيل, الذين فضلهم اللّه على العالمين, الذين ينبغي له أن يكرمهم ويجلهم.
    ولكنه استضعفهم, بحيث إنه رأى أنهم لا منعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم.
    فصار لا يبالي بهم ولا يهتم بشأنهم, وبلغت به الحال, إلى أنه " يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ " خوفا من أن يكثروا, فيغمروه في بلاده, ويصير لهم الملك.
    " إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ " الذين لا قصد لهم في صلاح الدين, ولا صلاح الدنيا, وهذا من إفساده في الأرض.

    " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " (5)
    " وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ " بأن نزيل عنهم مواد الاستضعاف, ونهلك من قاومهم, ونخذل من ناوأهم.
    " وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً " في الدين, وذلك لا يحصل مع استضعاف, بل لا بد من تمكين في الأرض, وقدرة تامة.
    " وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " للأرض, الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.

    " ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " (6)
    " وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ " فهذه الأمور كلها, قد تعلقت بها إرادة اللّه, وجرت بها مشيئته.
    وكذلك نريد أن " وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ " وزيره " وَجُنُودَهُمَا " الذين بهم صالوا وجالوا, وعلوا وبغوا " مِنْهُمْ " أي: من هذه الطائفة المستضعفة.
    " مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ " من إخراجهم من ديارهم, ولذلك كانوا يسعون في قمعهم, وكسر شوكتهم, وتقتيل أبنائهم, الذين هم محل ذلك.
    فكل هذا قد أراده اللّه, وإذا أراد أمرا, سهل أسبابه, ونهج طرقه.
    وهذا الأمر كذلك, فإنه قدر وأجرى من الأسباب - التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه - ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود.

    " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " (7)
    فأول ذلك, لما أوجد اللّه رسوله موسى, الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه, وكان في وقت تلك المخافة العظيمة, التي يذبحون بها الأبناء, أوحى إلى أمه, أن ترضعه, ويمكث عندها.
    " فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ " بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم.
    " فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ " أي نيل مصر, في وسط تابوت مغلق.
    " وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ " .
    فبشرها بأنه سيرده إليها, وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم, ويجعله اللّه رسولا.
    وهذا من أعظم البشائر الجليلة, وتقديم هذه البشارة لأم موسى, ليطمئن قلبها, ويسكن روعها, فكأنها خافت عليه, وفعلت ما أمرت به, ألقته في اليم, وساقه اللّه تعالى.


  19. #399
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (397)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(8) الى الأية(14)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص


    " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين "(8)
    " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ " فصار من لقطهم, وهم الذين باشروا وجدانه.
    " لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا " أي: لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط, أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم, بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر, وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل, قيض اللّه أن يكون زعيمهم, يتربى تحت أيديهم, وعلى نظرهم, وبكفالتهم.
    وعند التدبر والتأمل, تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل, ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم, ومنع كثير من التعديات قبل رسالته بحيث إنه صار من كبار المملكة.
    وبالطبع لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا, وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة.
    ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف - الذي بلغ بهم الذل والإهانة, إلى ما قص اللّه علينا بعضه - أن صار بعض أفراده, ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض: كما سيأتي بيانه.
    وهذا مقدمة للظهور, فإن اللّه تعالى من سنته الجارية, أن جعل الأمور تمشي على التدريج, شيئا فشيئا, ولا تأتي دفعة واحدة.
    وقوله " إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ " أي: مجرمين, فأردنا أن نعاقبهم على إجرامهم, ونكيد لهم, جزاء على مكرهم وكيدهم.

    " وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون "(9)
    فلما التقظه آل فرعون, حنَّن اللّه عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة, المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " وَقَالَتِ " : هذا الولد " قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ " .
    أي أبقه لنا, لِتقرَّ به أعيننا, ونسر به في حياتنا.
    " عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " أي: لا يخلو, إما أن يكون بمنزلة الخدم, الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا أو نرقيه درجة أعلى من ذلك, نجعله ولدا لنا, ونكرمه, ونجله.
    فقدَّر اللّه تعالى, أنه نفع امرأة فرعون, التي قالت تلك المقالة.
    فإنه لما صار قرة عين لها, وأحبته حبا شديدا, فلم يزل لها بمنزلة الولد الشقيق, حتى كبر, ونبأه اللّه وأرسله, بادرت إلى الإسلام والإيمان به, رضى اللّه عنها, وأرضاها.
    قال اللّه تعالى هذه المراجعات والمقاولات, في شأن موسى: " وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " ما جرى به القلم, ومضى به القدر, من وصوله إلى ما وصل إليه.
    وهذا من لطفه تعالى, فإنهم لو شعروا, لكان لهم وله, شأن آخر.

    " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين "(10)
    ولما فقدت موسى أمه, حزنت حزنا شديدا, وأصبح فؤادها فارغا من القلق, الذي أزعجها, على مقتضى الحالة البشرية, مع أن اللّه تعالى نهاها عن الحزن والخوف, ووعدها برده.
    " إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ " أي: بما في قلبها " لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا " فثبتناها, فصبرت, ولم تبد به.
    " لِتَكُونَ " بذكر الصبر والثبات " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " فإن العبد إذا أصابته مصيبة, فصبر وثبت, ازداد بذلك إيمانه, ودل ذلك, على أن استمرار الجزع مع العبد, دليل على ضعف إيمانه

    " وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون " (11)
    " وَقَالَتِ " أم موسى " لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ " أي: اذهبي فقصي الأثر عن أخيك, وابحثي عنه, من غير أن يحس بك أحد, أو يشعروا بمقصودك.
    فذهبت تقصه " فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " أي: أبصرته على وجه, كأنها مارة لا قصد لها فيه.
    وهذا من تمام الحزم والحذر, فإنها لو أبصرته, وجاءت إليهم قاصدة لظنوا بها, أنها هي التي ألقته, فربما عزموا على ذبحه, عقوبة لأهله.

    " وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون "(12)
    ومن لطف اللّه بموسى وأمه, أن منعه من قبول ثدي امرأة, فأخرجوه إلى السوق, رحمة به, ولعل أحدا يطلبه.
    فجاءت أخته, وهو بتلك الحال " فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ " .
    وهذا جُلُّ غرضهم, فإنهم أحبوه حبا شديدا, وقد منعه اللّه من المراضع فخافوا أن يموت.
    فلما قالت لهم أخته, تلك المقالة المشتملة على الترغيب, في أهل هذا البيت, بتمام حفظه وكفالته, والنصح له, بادروا إلى إجابتها, فأعلمتهم, ودلتهم على أهل هذا البيت.


    " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " (13)
    " فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ " كما وعدناها بذلك " كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ " بحيث أنه تربى عندها, على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة, تفرح به, وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك.
    " وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ " فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا, ليطمئن بذلك قلبها, ويزداد إيمانها, ولتعلم أنه سيحصل وعد اللّه, في حفظه, ورسالته.
    " وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " فإذا رأوا السبب متشوشا, شوش ذلك إيمانهم, لعدم علمهم الكامل, أن اللّه تعالى يجعل المحن والعقبات الشاقة, بين يدي الأمور العالية, والمطالب الفاضلة.
    فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون, يتربى في سلطانهم, ويركب مراكبهم, ويلبس ملابسهم.
    وأمه بذلك مطمئنة, قد استقر أنها أمه من الرضاع, ولم يستنكر ملازمته إياها, وحنوه عليها.
    وتأمل هذا اللطف من اللّه, وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه, وتيسير الأمر, الذي صار به التعلق, بينه وبينها, الذي بان للناس, أنه هو الرضاع, الذي بسببه يسميها أُمَّا, فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله, صدقا وحقا.

    " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين " (14)
    " وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ " من القوة والعقل واللب, وذلك نحو أربعين سنة في الغالب.
    " وَاسْتَوَى " فكملت فيه تلك الأمور " آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " أي: حكما يعرف به الأحكام الشرعية, ويحكم به بين الناس, وعلما كثيرا.
    " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " في عبادة اللّه المحسنين, لخلق اللّه, يعطيهم علما وحكما, بحسب إحسانهم, ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.




  20. #400
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (398)
    تفسير السعدى
    سورة القصص
    من الأية(15) الى الأية(22)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة القصص



    " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين "(15)
    " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا " إما وقت القائلة, أو غير ذلك من الأوقات, التي بها يغفلون عن الانتشار.
    " فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ " يتخاصمان ويتضاربان " هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ " أي من بني إسرائيل " وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ " كالقبط.
    " فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ " لأنه قد اشتهر, وعلم الناس أنه من بني إسرائيل, واستغاثته لموسى, دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا, يخاف منه, ويرجى من بيت المملكة والسلطان.
    " فَوَكَزَهُ مُوسَى " أي: وكز الذي من عدوه, استجابة لاستغاثة الإسرائيلي.
    " فَقَضَى عَلَيْهِ " أي: أماته من تلك الوكزة, لشدتها, وقوة موسى.
    فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه, و " قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ " أي: من تزيينه, ووسوسته " إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ " فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة, وحرصه على الإضلال.

    " قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " (16)
    ثم استغفر ربه " قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " خصوصا للمخبتين إليه, المبادرين للإنابة والتوبة, كما جرى من موسى عليه السلام.
    " قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين " (17)
    " قَالَ " موسى " رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ " بالتوبة والمغفرة, والنعم الكثيرة " فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا " أي: معينا ومساعدا " لِلْمُجْرِمِينَ " أي: لا أعين أحدا على معصية.
    وهذا وعد من موسى عليه السلام, بسبب منة اللّه عليه, أن لا يعين مجرما, كما فعل في قتل القبطي.
    وهذا يفيد أن النعم, تقتضي من العبد فعل الخير, وترك الشر.

    " فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين " (18)
    لما جرى منه قتل الذي هو من عدوه " فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ " هل يشعر به آل فرعون, أم لا؟ وإنما خاف, لأنه قد علم, أنه لا يتجرأ أحد على مثل هذه الحال, سوى موسى, من بني إسرائيل.
    فبينما هو على تلك الحال " فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ " على عدوه " يَسْتَصْرِخُهُ " على قبطي آخر.
    " قَالَ لَهُ مُوسَى " موبخا على حاله " إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ " أي: بين الغواية, ظاهر الجراءة.

    " فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين " (19)
    " فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ " موسى " بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا " أي: له وللمخاصم المستصرخ لموسى, أي: لم يزل اللجاج بين القبطي والإسرائيلي, وهو يستغيث بموسى, فأخذته الحمية, حتى هم أن يبطش بالقبطي.
    " قَالَ " له القبطي زاجرا له عن قتله: " يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ " لأن من أعظم آثار الجبار في الأرض, قتل النفس بغير حق.
    " وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ " وإلا, فلو أردت الإصلاح, لحلت بيني وبينك, من غير قتل أحد.
    فانكف موسى عن قتله, وارعوى, لوعظه وزجره.
    وشاع الخبر بما جرى من موسى في هاتين القضيتين, حتى تراود ملأ فرعون, وفرعون على قتله, وتشاوروا على ذلك.

    " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين " (20)
    فقيض اللّه, ذلك الرجل الناصح, وبادر إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رَأْيُ ملإهم.
    فقال: " وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى " أي: ركضا على قدميه, من نصحه لموسى, وخوفه أن يوقعوا به, قبل أن يشعر.
    " قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ " أي: يتشاورون فيك " لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ " عن المدينة " إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ " .

    " فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين " (21)
    فامتثل نصحه " فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ " أن يوقع به القتل, ودعا اللّه.
    " قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ " فإنه قد تاب من ذنبه وفعله غضبا, من غير قصد منه للقتل, فَتَوعُّدُهُمْ له, ظلم منهم وجراءة.

    " ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " (22)
    " وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ " أي: قاصدا بوجهه مدين, وهو جنوبي فلسطين, حيث لا ملك فيه لفرعون.
    " قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ " أي: وسط الطريق المختصر, الموصل إليها, بسهولة ورفق, فهداه اللّه سواء السبيل, فوصل إلى مدين.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •