وأظهر الأقوال عندي : أنهم إن لم يعدلوا حدوا كلهم ; لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة ، كمن لم يأت بشيء ، وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه ; لأجل أن يقتل [ ص: 443 ] يقتص منه ، وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية ، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة : قال القرطبي : قال مالك ، والشافعي من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ، وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر ، ومن قذف أم الولد حد ، وروي عن ابن عمر ، وهو قياس قول الشافعي ، وقال الحسن البصري : لا حد عليه ، انتهى منه .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما حده في قذف أم الولد ، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها ، وعتقها من رأس مال مستولدها ، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل ، ولا سيما على قول من يجيز بيعها من العلماء ، والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حرا حرية كاملة فيما يظهر ، وكذلك لو قيل : إن من قذف من يظنه عبدا ، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر ، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر; لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف : ما قصدت قذفك ولا أقول : إنك زان ، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدا فأنت عفيف في نظري ، ولا أقول فيك إلا خيرا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة ، أو قذف واحدا ، مرات متعددة . وقد قدمنا خلاف أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات " الحج " 0
قال ابن قدامة في " المغني " ، في شرحه لقول الخرقي : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة ، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم ، ما نصه : وبهذا قال : طاوس والشعبي ، والزهري ، والنخعي ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، وأبو حنيفة وصاحباه ، وابن أبي ليلى وإسحاق ، وقال الحسن ، وأبو ثور ، وابن المنذر : لكل واحد حد كامل ، وعن أحمد مثل ذلك ، وللشافعي قولان كالروايتين ، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم ، فلزمه له حد كامل ; كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ; ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة ، فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على [ ص: 444 ] المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف .
وتزول المعرة ، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا منفردا ، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر ، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر ، فإذا ثبت هذا ، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم ، وإن طلبه واحد أقيم الحد ; لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل ، فأيهم طالب به استوفى ، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه ; لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطلب به ، لأنه قد أسقط حقه .
وروي عن أحمد - رحمه الله - رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد ، وكذلك إن طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد ، وإن طلبه واحد فأقيم له ، ثم طلبه آخر أقيم له ، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة ; لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه ، وقع استيفاؤه لجميعهم ، وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده ، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ( في ) إسقاطهم ، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد ، وبهذا قال عطاء ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة والشافعي ، وقال حماد ومالك : لا يجب إلا حد واحد ، لأنها جناية توجب حدا ، فإذا تكررت كفى حد واحد ، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء ، أو شرب أنواعا من المسكر ، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص ، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى ، إلى أن قالا : وإن قذف رجلا مرات فلم يحد ، فحد واحد رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات ، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت ، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم ، وحكي عن ابن القاسم : أنه أوجب حدا ثانيا ، وهذا يخالف إجماع الصحابة ، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيا ، فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة ، قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان ، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه ، وقال : شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة ، وجاء زياد ، فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا ، وقال : شهود زور ، فقال أبو بكرة : أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده ، فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان ، فأراد أن يعيد عليه الحد ، فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الحد ، أوجبت عليه الرجم ، وفي حديث آخر : فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله ، قول علي : إن جلدته فارجم صاحبك ، قال : كأنه جعل [ ص: 445 ] شهادته شهادة رجلين ، قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني ، ثم قال يقول : إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر ، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت ، فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان ; لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال ، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان :
إحداهما : يحد أيضا ; لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد ، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ، ولأن سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه ، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب .
والثانية : لا يحد ; لأنه قد حد له لمرة فلم يحد له بالقذف عقبه ، كما لو قذفه بالزنا الأول ، انتهى من " المغني " ، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدا مرات .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسائل لم نعلم فيها نصا من كتاب ولا سنة .
والذي يظهر لنا فيه ، والله تعالى أعلم : أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد ، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع ، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع .
والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدد عليه الحد ، بعدد الكلمات التي قذف بها ; لأنه قذف كل واحد قذفا مستقلا لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر ، ولا تزول به عنه المعرة . وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفردا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه ، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم ، كما اختاره صاحب " المغني " .
والأظهر عندنا أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد ، وأنه إن رماه بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضا ، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد ; كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة ، وإن كان القذف الثاني غير الأول ، كأن قال في الأول : زنيت بامرأة [ ص: 446 ] بيضاء ، وفي الثاني قال : بامرأة سوداء ، فالظاهر تكرره ، والعلم عند الله تعالى .
وعن مالك - رحمه الله - في " المدونة " : إن قذف رجلا فلما ضرب أسواطا قذفه ثانيا أو آخر ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ، ولا يعتد بما مضى من السياط .
المسألة الرابعة عشرة : الظاهر أن من قال لجماعة : أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه ; لأنه لم يعين واحدا فلم تلحق المعرة واحدا منهم ، فإن طلبوا إقامة الحد عليه جميعا لا يحد ، لأنه لم يرم واحدا منهم بعينه ، ولم يعرف من أراد بكلامه ، نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز ، ووجهه ظاهر كما ترى ، واقتصر عليه خليل في مختصره في قوله عاطفا على ما لا حد فيه ، أو قال لجماعة : أحدكم زان .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل ، فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم . وكذلك إن اختلف رجلان في شيء ، فقال أحدهما : الكاذب هو ابن الزانية ، فلا حد عليه ، نص عليه أحمد ; لأنه لم يعين أحدا بالقذف ، وكذلك ما أشبه هذا ، ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم ، لم يكن عليه حد ; لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه ، انتهى منه .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : أنت أزنى من فلان ، فهو قاذف لهما ، وعليه حدان ; لأن قوله أزنى صيغة تفضيل ، وهي تدل على اشتراك المفضل ، والمفضل عليه في أصل الفعل ، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه ، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل : أنت وفلان زانيان ، ولكنك تفوقه في الزنى ، وكون هذا قذفا لهما واضح ، كما ترى . وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أنه يحد للمخاطب فقط ، دون فلان المذكور لا ينبغي أن يعول عليه ، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي ، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول ، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف ، كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه ; لأن صيغة : أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة ، لا إشكال فيها .
وقال ابن قدامة في " المغني " محتجا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة : أنه لا حد على الثاني ، ما نصه : والثاني يكون قذفا للمخاطب خاصة ; لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل ; كقول الله تعالى [ ص: 447 ] أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما الآية [ 10 \ 35 ] ، وقال تعالى : فأي الفريقين أحق بالأمن [ 6 \ 81 ] ، وقال لوط : بناتي هن أطهر لكم [ 11 \ 78 ] ، أي من أدبار الرجال ، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه ، ولم يعول عليه .
وحاصل الاحتجاج المذكور : أن صيغة التفضيل قد ترد مرادا بها مطلق الوصف لا حصول التفضيل بين شيئين ، ومثل له هو بكلمة : أحق أن يتبع وكلمة : أحق بالأمن وكلمة : أطهر لكم ; لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف ، كما هو معلوم ، ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب " المغني " ، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل ، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك ، والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للتفضيل ; لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقية الاتباع أصلا في قوله : أحق أن يتبع أمن لا يهدي ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن ، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة .
ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضا قوله تعالى : وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، أي : هين سهل عليه ، وقول الشنفرى :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
أي : لم أكن بالعجل منهم ، وقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
أي : عزيزة طويلة ، وقول معن بن أوس :
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
أي : لوجل ، وقول الأحوص بن محمد الأنصاري :
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
أي : لمائل ، وقول الآخر :
[ ص: 448 ] تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
.
أي : بواحد ، وقال الآخر :
لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل
أي : وفاضل ، إلى غير ذلك من الشواهد ، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف ، إلا لدليل خارج ، أو قرينة واضحة تدل على ذلك .
وقوله له : أنت أزنى من فلان ، ليس هناك قرينة ، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل عن أصلها ، فوجب إبقاؤها على أصلها ، وحد القاذف لكل واحد منهما ، والإتيان بلفظة من في قوله : أنت أزنى من فلان ، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة عشرة : اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى ، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى ، ومن رمى أحدهما فعليه الحد ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه لم يثبت عليها زنى ، ولا على ولدها أنه ابن زنى ، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه .
وفي سنن أبي داود : حدثنا الحسن بن علي ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فجاء من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه . . ، الحديث ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد . . إلى آخر الحديث ، وفي هذا الحديث التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد .
واعلم : أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة : لست لأبيك الذي لاعن أمك ، فعليه الحد خلاف التحقيق ; لأن الزوج الملاعن ينتفي عنه نسب الولد باللعان ، فنفيه عنه حق مطابق للواقع ، ولذا لا يتوارثان ، ومن قال كلاما حقا ، فإنه لا يستوجب الحد بذلك ; كما لو قال له : يا من نفاه زوج أمه ، أو يا ابن ملاعنة ، أو يا ابن من لوعنت ; وإنما يجب الحد على قاذفه ، فيما لو قال : أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 449 ] المسألة السابعة عشرة : في حكم ما لو قال لرجل : يا زانية بتاء الفرق ، أو قال لامرأة : يا زاني ، بلا تاء ، قال ابن قدامة في " المغني " : هو قذف صريح لكل منهما ، قال : واختار هذا أبو بكر ، وهو مذهب الشافعي ، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به ، وهو قول أبي حنيفة ; لأنه يحتمل أن يريد بقوله : يا زانية ، أي : يا علامة في الزنا ; كما يقال للعالم : علامة ، ولكثير الرواية : راوية ، ولكثير الحفظ : حفظة ، ولنا أن ما كان قذفا لأحد الجنسين كان قذفا للآخر ; كقوله : زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا ، ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا ، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها ، ولذلك لو قال للمرأة : يا شخصا زانيا ، وللرجل : يا نسمة زانية ، كان قاذفا ، وقولهم : إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسما للفعل ، إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة ; كقولهم : حفظة للمبالغ في الحفظ ، وراوية للمبالغ في الرواية ، وكذلك همزة لمزة وصرعة ; ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح ، انتهى كلام صاحب " المغني " .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر : يا زانية بصيغة التأنيث ، أو قال لامرأة : يا زاني بصيغة التذكير ، أنه يلزمه الحد .
وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون عاميا لا يعرف العربية ، أو يكون له علم باللغة العربية ، فإن كان عاميا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين ، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه .
وإن كان عالما باللغة ، فالله يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصا .
وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان - رضي الله عنه - :
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه
سقم فهو داخل مكتوم
ومراده بالحبيب أنثى ، بدليل قوله بعده :
لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم
[ ص: 450 ] وقول كثير :
لئن كان يرد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب
ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي :
ولكن ليلى أهلكتني بقولها نعم ثم ليلى الماطل المتبلح
يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح .
وقول عروة بن حزام العذري :
وعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عني المعرض المتواني
أي : الشخص المعرض .
وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته ، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس ، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف ; كقوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال