بسم الله، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه
وبعد ..
فالمسألة الأولي وهي :
طلب الدعاء من الغائب ميتا أو حيا .
الثانية : طلب الدعاء من الميت عند قبره .
فأما المسألة الأولى : وهي طلب الدعاء من الغائب فهي أم لعدة عظائم من الشرك الأكبر ، ويظهر ذلك من تصور هذه المسألة .
(( أن يطلب الداعي من الغائب ميتا كان أو حيا أن يدعو له ، كأن يكون رجل في وسط البحر في حالة غرق فينادي شيخه الحي وهو في بلد أخرى أو ينادي ميتا يعتقد ولايته قائلا : يا بدوي يا دسوقي يا حسين ادع الله لي أن ينجيني )).
فهذا كما ترى شرك أكبر بإجماع العلماء ، فيه من أمهات الشرك :
1- أن هذا الذي طلب الدعاء اعتقد أن الذي دعاه له سمع أحاط بأصوات العباد ، وإلا فكيف يدعوه وبينه وبينه آلاف الكيلو مترات ولا يعتقد أنه يسمع دعاءه؟
2- أن هذا الذي طلب الدعاء اعتقد أن الذي دعاه علم بحاله وأدرك أنه في حالة غرق حقيقي لا يدعي ذلك ، ولذلك يتوجه بالدعاء لله لنجاة هذا العبد .
3- ما يتبع ذلك من شرك الاعتقاد واعتقاد قدرة وتصرف من طلب منه الدعاء ، وهذا كله من انواع الشرك الأكبر .
4- كون العبد لا يلجأ إلى الله مباشرة ويطلب منه النجاة إلا عن طريق هذه الواسطة التي جعلها بينه وبين الله ، هذا الذي كان عليه أهل الجاهلية من إثبات الواسطة الشركية .
5- أن هذا العبد شبه الله بالملوك الجائرين في الدنيا الذين لا يقضون حاجة العباد وغن كانوا في ضيق شديد وكرب عظيم إلا مع الواسطة .
وكل هذه المعتقدات شرك اكبر مخرج من ملة الإسلام بإجماع علماء المسلمين.
قال فضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله :
(( سؤال حي لميت وهو غائب عن قبره بأن يدعو الله له . وهذا النوع لا يختلف المسلمون بأنه شرك أكبر ، وأنه من جنس قول النصارى في مريم وابنها ـ عليهما السلام ـ بدعائهما وأنهما يعلمان ما يفعله العباد حسب زعم النصارى ))(1).
وقال العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله :
(( معلوم قول النصارى : يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله . نداء إذا جهر به المنادي ، ولا يخرجه ذلك عن كونه دعاء وعبادة بإجماع المسلمين ، ولو كان المطلوب مجرد شفاعتها فإباحة هذا النوع وجعله لا محذور فيه هو عين الجهل والضلال ))(2)
ثم قال : (( وقد تقدم أن قول النصارى : يا والدة المسيح اشفعي لنا عند الإله . شرك بإجماع المسلمين ))(3)
قلت : وهذا الحكم لا يمكن أن يخالف فيه أحد ممن يفهم العقيدة الإسلامية فهمًا سلفيًا صحيحًا .
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الدهلوي ـ رحمه الله :
((فإنهم وإن لم يشركوا عن طريق طلب قضاء الحاجة فإنهم أشركوا عن طريق النداء فقد ظنوا أنهم يسمعون نداءهم عن بعد كما يسمعون نداءهم عن قرب))(4).
وبمثل هذا القول قال الشيخ بشير السهسواني الحنفي وغيره من محققي الحنفية كما نقل عنهم العلامة الدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني في كتابه الماتع (( جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية )) .
قال العلامة ابن عبد الهادي رحمه الله :
(( وليس أحد من البشر بل ولا من الخلق يسمع أصوات العباد كلهم ، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون : إن المسيح هو الله ، وأنه يعلم ما يفعله العباد ويسمع أصواتهم ويجيب دعاءهم ، قال تعالى : }كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ** [ المائدة : 72ــ 76 ] ))(5)
المسألة الثانية : طلب الدعاء من الميت عند قبره :
وصورة هذه المسألة شرك أكبر على الصحيح من أقوال أهل العلم وذلك لعدة أسباب :
1- أنه جعل هؤلاء الموتى وسائط بينه وبين الله رب العالمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(( ومن أثبت للأنبياء ومن سواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون الى الله حوائج خلقه وأن الله تعالى إنما يهدى عباده ويرزقهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب من الملك إلى الطالب فمن أثبت وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ... ))(6).
ثانيا : أنه جعل للميت بعض خصائص الربوبية مثل علم الغيب ؛ وذلك لأن من يذهب ليطلب الدعاء من الميت يعلم أن هذا الميت لا يستحق أن يطلب منه الدعاء إلا وهو يعلم اضطرار هذا العبد وحاجته واحتياجه ولذلك ذهب إليه ليطل منه الدعاء ولما كان الميت قد انتقل إلى دار الدنيا فيكون علمه بحال العبد من جنس علم الغيب ، فإثبات طالب الدعاء علم الغيب للميت شرك أكبر ، وإن لم يصرح بذلك ففعله يدل على ذلك ـ وكذلك من يذهب إلى قبور الصالحين يطلب منهم الدعاء يثبت لهم سمعًا فوق طاقة البشر ، وذلك لأنه على القول بأن الموتى يسمعون في قبورهم وهو قول ضعيف فقد (( ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في رده على البكري قاعدة مهمة في فحوى كلامه ، وهو أن الميت على القول بسماعه ، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصه فإنه لا يسمع بقوة هي أكبر من قوته في الدنيا ))(7)
وكما هو معلوم أن الحي لو كان تحت الأرض بهذه الصورة وبينه وبين من فوق الأرض هذه الحواجز من التراب والطوب والبناء وغير ذلك ،ما استطاع أبدًا أن يسمع كلامه فكيف به وهو ميت ؟ فمن أثبت للميت أنه يسمع طلبه من خلف هذه الحواجز فقد أثبت له ما لا يجوز لبشر ، واما على القول الصحيح وهو أن الموتى لا يسمعون في قبورهم فإن إثبات هذا السمع لهم بلا شك هو من جنس إثبات السمع المحيط بأصوات العباد وهو سمع رب العالمين .
ثالثًا : أن من طلب من الميت عند قبره الدعاء قد شبه الله بخلقه حيث شبهه عز وجل بملوك الدنيا الجائرين الذين لا يغيثون الملهوف إلا إذا كان معه من يشفع له عند الملك ، وهذا من الشرك الأكبر .
سئل فضيلة الشيخ صالح آل الشيخ ـ حفظه الله :
(( من سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وأن يطلب له المغفرة من الله بعد موته هل هذا شرك ؟
فأجاب :
الجواب نعم هو شرك أكبر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى بعد موته ، فطلب الدعاء من الميت وطلب الدعاء بالإغاثة أو الاستسقاء ، يعني أن يدعو الله أن يغيث أو أن يدعو الله أن يغفر أن يدعو الله أن يعطي ونحو ذلك ، هذا كله داخل في لفظ الدعاء ، والله عز وجل قال
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا( [ الجن : 18 ] والذي يقول : إن هذه الصورة وهي طلب الدعاء يخرج عن الطلب الذي به يكون الشرك شركًا . فإنه ينقض أصل التوحيد كله في هذا الباب ، فكل انواع الطلب ، طلب الجعاء ، يعني طلب الدعاء من الميت ، طلب المغفرة من الميت ، أو طلب الإعانة أو نحو ذلك كلها باب واحد هي طلب ، والطلب جعاء فداخلة في قوله تعالى :}وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ** [ المؤمنون : 117 ] وفي قوله : }وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ** [ فاطر : 13 ] ونحو ذلك من الآيات ، فالتفريق مضاد للدليل . ومن فهم من كلام بعض أئمتنا التفريق ، أو أن هذا ـ طلب الدعاء من الميت ـ أنه بدعة ، لا يعني أنه ليس بشرك ، بل بدعة شركية يعني ما كان اهل الجاهلية يفعلونه ، وإنما كانوا يتقربون ليدعوا لهم لكن أن يطلب من الميت هذا بدعة ما كانت اصلا موجودة لا عند الجاهلين ولا عند المسلمين فحدثت فهي بدعة ولا شك ، ولكنها بدعة شركية كفرية ، وهي معنى الشفاعة ، إيش معنى الشفاعة التي من طلبها من غير الله فقد أشرك ؟
الشفاعة طلب الدعاء ، طلب الدعاء من الميت هو الشفاعة ))(8).
وسئل إمام أهل السنة رحمه الله شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله
: كثير من الطلبة يفهم من الشرك أنه طلب قضاء الحاجة من الأموات ، وأنه إذا طلب من الميت الشفاعة والدعاء ، يعني يدعو له ، فيقول هذا ليس من الشرك لكن يكون بدعة ؟
فأجاب رحمه الله :
(( هذا من الشرك الأكبر لا يستطيعون أن يدعوا له ولا يشفعوا له ، كلهم مرتهنون بأعمالهم ، والدعاء والشفاعة تكون في حياته ، ولهذا لما استسقى عمر بالصحابة لم يستسق بالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم إنما استسقوا بالعباس وبيزيد بن الأسود وبالدعاء ، ولو كان هذا شرعيًا لاستسقوا بالنبي وقالوا : ادع لنا يا رسول الله ))(9).
فسئل رحمه الله : صرح بعض الناس أن هذا قول ابن تيمية ؟
فأجاب : صرح ابن تيمية بأن هذا شرك أكبر(10).
قال شيخ الإسلام : (( وقد يخاطبون الميت عند قبره : سل لي ربك . أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرًا حيا ، وينشدون قصائد يقول احدهم فيها : يا سيدي فلان أنا في حسبك ، أنا في جوارك ،اشفع لي إلى الله ، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا ، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة ، أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة . أو أن يقول أحدهم : سل الله أن يغفر لي ... فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك ... ))(11)
فتأمل رحمك الله في هذا الكلام الصريح من شيخ الإسلام تجده سوى بين طلب الدعاء من الغائب وطلب الدعاء من الميت عند قبره وطلب الشفاعة منه ، وجعل الثلاثة من أعظم أنواع الشرك ، وهذا هو قول شيخ الإسلام الواضح الذي لا لبس فيه ، وهو الذي فهمه أهل العلم كما صرح بذلك الشيخ ابن باز رحمه الله وقد نقلنا قوله .
وكذلك فضيلة الشيخ الدكتور شمس الدين السلفي الأفغاني ـ حفظه الله :
بعد قول : إن قول القبوري : يا فلان الولي ادع الله لي ، أو اشفع لي عند الله ، أو يكشف كربتي ، ويقضي حاجتي ، ويغفر حوبتي ن ومثل ذلك : هو إشراك صريح بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله العظيم .
قال : وأصل هذا التحقيق من كلام المجاهد المجتهد الهمام الإمام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية شيخ الإسلام ))(12)
وخلاصة القول :
أن طلب الدعاء من الغائب ومن الميت عند قبره شرك اكبر مخرج من ملة الإسلام ، والصورة الأولى شرك اكبر بالإجماع لم ينازع فيها أحد من أهل السنة ، وهي طلب الدعاء من الغائب ، والثانية حدث فيها خلاف (مابين مبدع ومكفر) ، والصحيح أنها شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام .
ـــــــــــــــ ـ
(1) تصحيح الدعاء ( ص 250 ) .
(2) مصباح الظلام ( ص 211)
(3) المصدر السابق ( ص 259 )
(4) رسالة التوحيد ( ص 67 ) .
(5) نقلا من مصباح الظلام ( ص 254 ) .
(6) مجموع الفتاوى ( 1/ 126 )
(7)نقلا من شرح الطحاوية (2/644) .
(8) شرح الطحاوية ( 2 / 1437 ) .
(9) شرح كشف الشبهات للشيخ ابن باز ( ص 52 ) .
(10) المصدر السابق ( ص 64 ) .
(11) مجموع الفتاوى ( 1/ 158 ) .
(12) جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية ( 3/ 1487_1488) .
منقول من كتاب لأحد طلبة العلم بتصرف يسير
تنبيهٌ :لماذا أطلق بعض العلماء أن طلب الدعاء من الأموات بدعة؟
قال الشيخ صالح آل الشيخ
لأن "المشركين لم يكونوا يطلبون من آلهتهم الدّعاء، لم يكونوا يطلبون من أوثانهم لتشفع ولكن كانوا يتقربون إليها لتشفع.
فإذن صورة طلب الشفاعة من الميّت محدثة.
ولهذا يُعَبِّر كثير من أهل العلم عن طلب الشفاعة من الأموات بأنها بدعة محدثة؛ لأنّها لم تكن فيما قبل الزمان الذي أُحدثت فيه تلك المحدثات في هذه الأمة.
فإذاً تعبير بعض أهل العلم عنها بأنها بدعة، لا يعني أنها ليست بشرك؛ لأنَّ البِدَعَ منها ما هو كفري شركي ومنها ما هو دون ذلك".شرح العقيدة الطحاوية للشيخ صالح آل الشيخ