تقرير علمي (8)ـ حول العصمة .. والخطيئة .. والمعجزات
د. محمد عمارة | 29-12-2009 22:47
وحتى « يُسَوِّق » كاتب هذا « المنشور التنصيري » عقيدة النصارى في ألوهية المسيح .. ذهب لنفي العصمة عن كل الأنبياء والمرسلين .. وإِلصاق الخطيئة بكل البشر – بمن فيهم الأنبياء والمرسلون – واعتبار طبيعة البشر « طبيعة ساقطة » .. وذلك باستثناء شخص واحد هو المسيح – ليكون متفردا وحده دون البشرية جمعاء – وليكون – من ثم – إِلها ، وليس عبدا لله ورسولا ! .
ولهذا ، قال صاحب هذا « المنشور التنصيري » ص 22 ، 36 : « إنه حتى الأنبياء لم يكونوا معصومين من الخطيئة .. وأن كل البشر – حتى الأنبياء والمرسلين – ليس فيهم من له خلاص كامل من عقاب الخطية .. باستثناء شخص واحد هو المسيح ، فهو الكامل كمالا مطلقا بلا أية خطية فعلية أو أصلية ، فهو غير مولود وارثا لطبيعة الخطية الأصلية من أبينا آدم » .
ولقد ذهب هذا « المنشور التنصيري » في نفي العصمة .. وإِثبات الخطيئة على الأنبياء والمرسلين ، إِلى محاولة تأويل آيات القرآن الكريم تأويلا فاسدا كي تشهد لدعواه .. ذهب ليستشهد على نفي العصمة عن الأنبياء : - بدعاء نوح – عليه السلام – { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ نوح : 28 ] .
- ودعاء إِبراهيم – عليه السلام – { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ ابراهيم : 41 ] .
كما ذهب فاستشهد بالعهد القديم – كتابه المقدس – على أن نوح – عليه السلام – قد سكر وتعرى – تكوين 9 : 21 ..
وأن إِبراهيم – عليه السلام – قد كذب ، وفرط في زوجته – تكوين 20 : 42 .
ونحن نقول :
إِن عقيدة العصمة للأنبياء والمرسلين : ضرورة عقلية لكمال الله – سبحانه وتعالى – ولحكمته ، في اصطفاء الأنبياء والمرسلين .. ولمصداقية الرسالات التي أرسلهم الله بها إلى الناس .
فمن العبث – الذي يتنزه عنه عقلاء البشر – أن يختار الإِنسان رسولا يبلغ رسالة وأمانة دون أن يكون هذا الرسول جديرا بجذب المصداقية إِلى هذه الرسالة وهذه الأمانة .
وإِذا كان ذلك عنوانا لحكمة البشر الأسوياء ، فما بالنا بحكمة الحكيم العليم ، الذي هو أعلم حيث يجعل رسالته ؟
ثم إِن هذه العصمة للأنبياء والمرسلين هي عصمة فيما يبلغون عن الله .. وعما ينفر أو يشين .. وليست عصمة من مطلق الاجتهادات التي قد لا توافق الأولى والصواب .. فهم في الاجتهادات غير معصومين ، لكن الله – سبحانه وتعالى – لا يقرهم على الاجتهادات التي تخالف الأولى والصواب ، وذلك حتى لا يكونوا قدوة وأسوة فيها .
ومن ثم فإِن إِتيان أي من الأنبياء والمرسلين لاجتهادات تخالف الأولى – في غير التبليغ عن الله – ودعاء هؤلاء الأنبياء والمرسلين ربهم كي يغفر لهم هذه الأخطاء ، لا ينافي العصمة الواجبة لهم فيما يبلغون عن الله ، والتي هي من مقتضيات الحكمة الإِلهية ، وانتفاء النقص والعبثية عن ذاته المتصفة بكل صفات الجلال والكمال .. كما أنها من ضرورات المصداقية للرسالات والأمانات التي حملوها إِلى الناس .
وفي الإِسلام .. تقرر أن العصمة للأنبياء والمرسلين فيما يبلغون عن الله عقيدة من العقائد التي يكفر منكرها .. لأنها من العقائد التي تستلزمها صفات الحكمة والكمال والجلال الواجبة لله – سبحانه وتعالى – ولقد تحدث الأستاذ الإِمام الشيخ محمد عبده ( 1266 – 1323 هـ 1849 – 1905 م ) عن عقيدة العصمة هذه ، وعن معانيها وأبعادها فقال :
« إِن من لوازم الإِيمان الإِسلامي : وجوب الاعتقاد بعلو فطرة الأنبياء والمرسلين ، وصحة عقولهم ، وصدقهم في أقوالهم ، وأمانتهم في تبليغ ما عُهد إِليهم أن يبلغوه ، وعصمتهم من كل ما يشوه المسيرة البشرية ، وسلامة أبدانهم مما تنبوا عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة ، وأنهم منزهون عما يضاد شيئا من هذه الصفات المتقدمة .
وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإِلهي بما لا يمكن معه لنفس إِنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية .. إِن لنفوسهم من نقاء الجوهر ، بأصل الفطرة ، ما تستعد به ، من محض الفيض الإِلهي ، لأن تتصل بالأفق الأعلى ، وتنتهي من الإِنسانية إِلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إِلى تعقله أو تحسسه بعصى الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا على ما يتلقاه أحدنا من أساتذة التعاليم ، ثم تصدر عن ذلك العلم إِلى تعليم ما علمت دعوة الناس إِلى ما حُمِلت على إِبلاغه إِليهم .
فهؤلاء الأنبياء والمرسلون من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص .. يعلّمون الناس من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به ، مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده .
يميزهم الله بالفطر السليمة ، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يطيقون للاستشراق بأنوار علمه ، والأمانة على مكنون سره ، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه ، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته ، فيشرفون على الغيب بإِذنه ، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين ، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها ، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها .
ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله بما خفى من العقول من شئون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه ، وما قدّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية ، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخر ما لابد لهم من علمه ، معبّرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم ، ولا يبعد من متناول أفهامهم ، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة ، تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله ، اللاحق علمه بأعماق ضمائرهم في إِجماله ، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ، ظاهرة وباطنة .
ثم يؤيدهم بما لا يبلغه قوى البشر من الآيات ، حتى تقوم لهم الحجة ، ويتم الإِقناع بصدق الرسالة ، فيكونوا بذلك رسلا من لدنه إِلى خلقه مبشرين ومنذرين .. } (31) .
تلك هي النظرة القرآنية ، والعقيدة الإِسلامية في اصطفاء الله للأنبياء والمرسلين .. وفي تميزهم .. وامتيازهم .. وعصمتهم عن كل ما ينفر أو يشين .
لذلك .. فإِننا نجد أنفسنا – في عقيدة العصمة للأنبياء والمرسلين – أمام مدرستين ، في الفكر الديني :
1 – المدرسة القرآنية : التي تقرر العصمة للأنبياء والمرسلين فيما يبلغون عن الله .. ومما ينفر أو يشين .. وذلك انطلاقا من عقيدة التنزيه للذات الإِلهية عن العبثية .. ووجوب بالحكمة والكمال لذاته – سبحانه وتعالى – فيما يصطفى من الأنبياء والمرسلين .
2 – ومدرسة أسفار العهدين القديم والجديد : التي تزدري الأنبياء والمرسلين ، عندما تجردهم من العصمة .. وتصفهم بالأوصاف الرديئة التي يتنزه عنها الناس الأسوياء ، فضلا عن المختارين المصطفين من الأنبياء والمرسلين ، الذين صنعهم الله على عينه .
فأبوا الأنبياء إِبراهيم الخليل – عليه السلام – في هذه المدرسة – اليهودية النصرانية – يخطئ في تقدير أخلاق المصريين – عند دخوله إِلى بلادهم – ويتواطأ مع زوجه سارة على الكذب .. وعلى الدياثة .. وإِسلام زوجه الجميلة لمن يعاشرها في الحرام .. طمعا في بقائه حيا .. وطمعا في الغنم والبقر والحمير والجمال والعبيد يعطيها له فرعون مصر لقاء زوجته الجميلة ! تكوين 12 : 10 – 20 .
بينما صورته في القرآن الكريم ، هي صورة أبي الأنبياء .. الأمة .. والإِمام .. والصالح .. المصطفى في الدنيا والآخرة .. والأواب .. الحليم .. المنيب .. الصدّيق .. خليل الرحمن .. والأسوة الحسنة .. والناظر في الملكوت ليقيم الدليل العقلي على التوحيد .. ومحطم الأصنام .. ومطهر البيت الحرام ، ورافع قواعده والذي صارت النار بردا وسلاما عليه .. والممتثل لأمر ربه أن يذبح ولده البكر الحبيب والوحيد .. والذي عليه سلام الله .
وكذلك الحال مع نبي الله لوط – عليه السلام ..
فصورته في العهد القديم صورة الذي سكر وزنى بابنتيه – تكوين 9 : 30 – 38 .
بينما صورته في القرآن الكريم هي صورة العبد الصالح .. صاحب العلم والحكمة والناهي عن الفحشاء والمنكر والمتطهر الذي نجاه الله .
وكذلك الحال مع نبي الله داود عليه السلام .
فصورته في العهد القديم هي صورة الفاسق المتلصص على عورات النساء والزاني والمتآمر والقاتل والمغتصب للنساء والزوجات – صموئيل الثاني 11 : 1 – 26 .
بينما صورته في القرآن الكريم هي صورة الخليفة .. الأواب الذي سبحت معه الطير والجبال وصاحب الزلفى وحسن المآب .
وكذلك الحال مع نبي الله سليمان عليه السلام .
فصورته في العهد القديم هي صورة زير النساء الخارج عن أوامر الرب الباني النُّصُب لعبادة الأوثان من دون الله والعابد لهذه الأوثان – الملوك الأول 11 : 1 – 11 .
بينما صورته في القرآن الكريم هي صورة صاحب العلم والفضل الذي علمه الله منطق الطير وأعطاه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده والشاكر لأنعم الله .
وإِذا كان هذا الازدراء للأنبياء والمرسلين في مدرسة العهد القديم قد طال الكثير من الأنبياء والمرسلين فإِن تبني النصارى للعهد القديم ، ولما جاء فيه عن ازدراء الأنبياء ونفي العصمة عنهم قد ورط هؤلاء النصارى فيما لا يحبون وضد ما يدعون .
فكاتب هذا المنشور التنصيري الذي ينفي العصمة عن الأنبياء والمرسلين والذي يجعل المسيح وحده الكامل كمالا مطلقا بلا أية خطية فعلية أو أصلية فهو غير مولود وارثا لطبيعة الخطية الأصلية من أبينا آدم .
قد تجاهل أن تبنى منهاج الازدراء للأنبياء ونفي العصمة عنهم قد قاد إِلى القول بأن مريم عليها السلام التي ولدت المسيح هي من نسل خطيئة الزنا ! فهي من نسل داود الزاني وداود هذا هو من نسل يهوذا – الزاني والذي من نسله توالي أبناء الزنا حتى مريم عليها السلام – تكوين 38 : 1 – 29 .
انها مدرسة الازدراء للأنبياء والمرسلين النافية للعصمة والتي أساءت وتسيء إِلى حكمة الله – سبحانه وتعالى – في اصطفاء هؤلاء الأنبياء والمرسلين (32) .
بل لقد تصاعد هذا الازدراء في هذه المدرسة إِلى حيث طال الذات الإِلهية تعالى الله عما يصفون .
فنسبوا إِلى الله الحزن والأسف « فحزن الرب أنه عمل الإِنسان في الأرض وتأسف في قلبه » تكوين 6 : 6 - ..
ونسبوا إليه البداء وتغيير الرأي والرجوع عن التدبير والقضاء « غير الرب رأيه » خروج 5 : 1
هوامش:
31ـ محمد عبده « الأعمال الكاملة » جـ 3 ص 400 ، 401 ، 416 ، 420 ، 406 – دراسة وتحقيق : د. محمد عمارة طبعة بيروت سنة 1972 م ، وطبعة دار الشروق – القاهرة سنة 2006 م .
32ـ انظر كتابنا « الأنبياء في القرآن والكتاب المقدس بين العصمة والازدراء » طبعة مكتبة الشروق الدولية – القاهرة سنة 2009 م .
رابط الحلقة الثامنة
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=22721
تقرير علمي (9)ـ معجزة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)
د. محمد عمارة | 30-12-2009 23:23
وإِمعانا في هذا الضلال وحتى يستأثر المسيح – عليه السلام – وحده في هذا المنشور التنصيري بالكمال المطلق لتأليهه ذهب كاتب هذا المنشور التنصيري بعد نفي العصمة عن الأنبياء والمرسلين إلى نفي المعجزة عن رسول الإِسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال – ص 9 .
« إِن محمدا لم يأت بمعجزة » وذلك لينسب للمسيح وحده من المعجزات ما لا نظير لها عند أي من الأنبياء والمرسلين .
ونحن في الرد على هذه الفرية نقول : إِن المعجزة هي خارق العادة المفارق للسنن المعتادة الذي يظره الله – سبحانه وتعالى – على أيدي الأنبياء والمرسلين تحديا لأقوامهم الذين يعجزون عن الإِتيان بأمثالها وذلك إِقامة للحجة على هؤلاء الأقوام بأن هؤلاء الأنبياء والمرسلين صادقون فيما إِليه يدعون .
ولقد تميزت المعجزات في الضوء الذي سبق دعوة الإِسلام بأنها كانت معجزات مادية تدهش العقول وذلك تناسبا مع طور طفولة العقل البشري فلما بلغت الإِنسانية سن الرشد وغدا لملكة العقل الإنساني سلطان في الهدى والرشاد جاءت معجزة رسول الإِسلام عقلية لا تدهش العقل فتشله عن الفعل وإنما تستنفره وتستحثه ليتفكر ويتدبر في الإِعجاز الذي جاء به القرآن الكريم والذي تحدى به الإِنس والجن تحديا أبديا أن يأتوا بشيء من مثل هذا الذي جاء بالقرآن الكريم .
ولقد أعلن أساطين الفصاحة والبلاغة والبيان خضوعهم وخشوعهم أمام هذا الإِعجاز القرآني المتحدى وشمل هذا المشروع والخضوع عددا من الذين ظلوا على وثنيتهم وعلى شركهم لكنهم لم يستطيعوا إِلا أن يعلنوا أن هذا الإِعجاز القرآني فوق طاقات البشر وملكاتهم ومن ثم فهو من عند الله ..
فأمام التحدي المعجز .. والإِعجاز المتحدي :
{ آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 1 - 2 ] ، { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 41 – 42 ] ، { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [ البروج : 21 – 22 ] ، { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة : 77 – 80 ] ، { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 37 – 38 ] ، { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } [ الطور : 33 – 34 ] ، { آلم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ السجدة : 1 – 3 ] ، { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ هود : 23 – 24 ] ، { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 23 – 24 ] .
أمام هذا التحدي المعجز والإِعجاز المتحدى دائما وأبدا خشعت ملكات الفصاحة والبلاغة والبيان لدى البشر – كل البشر فقالت إِن هذا القرآن ليس قول بشر وإنما هو كلام الله ..
فأبو عبد شمس ، الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم « 95 ق . هـ - 1 هـ - 530 – 622 م ) – وهو من زعماء قريش وزنادقتها من قضاة العرب في الجاهلية والملقب بالعدل لأنه كان عدل قريش كلها قال عندما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة غافر « والله لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإِنس ولا من كلام الجن .
والله ما هو بكاهن فقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .
ووالله ما هو بمجنون فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته .
ووالله ما هو بشاعر فقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بشاعر .
ووالله ما هو بساحر فقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده .
والله إِن لقوله حلاوة وإِن عليه طلاوة وإِن أصله لمغدق وإِن فرعه لمثمر وإِنه يعلو ولا يعلى عليه وما أنتم « يا معشر قريش » بقائلين فيه من هذا شيئا إِلا وأنا أعرف أنه باطل » (33) .
كما شهد عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أبو الوليد « 2 هـ - 624 م » وهو من سادة الشرك بمكة لهذا القرآن المعجز فقال : « لقد سمعت من محمد قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة والله ليكونن لهذا الذي سمعت نبأ عظيم » (34) .
ولقد ظل هذا الإِعجاز القرآني متحديا وظلت هذه المعجزة القرآني متفردة حتى شهد لها الشهود في عصرنا الحديث وواقعنا المعاصر .
فالدكتور طه حسين « 1306 – 1393 هـ / 1889 – 1973 م » وهو أحد أبرز بلغاء العصر والخبراء في صناعة الفصاحة والبيان شهد بأن هذا القرآن لا علاقة له بصناعة البشر وأنه متفرد بكونه من عند الله فقال : لقد قلت في بعض أحاديثي عن نشأة النثر عند العرب .
إِن القرآن ليس شعرا ولا نثرا وإِنما هو قرآن له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء .
فيه من قيود الموسيقى ما يخيل لأصحاب السذاجة أنه شعر وفيه من قيود القافية ما يخيل إِليهم أنه سجع وفيه من الحرية والانطلاق والترسل ما يخيل إِلى بعض أصحاب السذاجة الآخرين أنه نثر .
ومن أجل هذا خدع المشركون من قريش فقالوا : إِنه شعر وكذبوا في ذلك تكذيبا شديدا ومن أجل هذا خدع كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر فظنوا أنه أول النثر العربي وتكذبهم الحقائق الواقعة تكذيبا شديدا فلو قد حاول بعض الكتاب الثائرين وقد حاول بعضهم أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إِلا أن يأتوا بما يضحك ويثير السخرية » (35) .
وتحدث سعد زغلول باشا « 1273 – 1346 هـ - 1857 – 1927 م » وهو ابن الأزهر الشريف .. وتلميذ الأفغاني « 1254 – 1314 هـ - 1838 – 1898 م » ومحمد عبده عن هذا الإِعجاز القرآني فقال : « لقد تحدى القرآن أهل البيان في عبارات قارعة محرجة ولهجة واخزة مرغمة أن يأتوا بمثله أو سورة منه فما فعلوا ولو قدروا ما تأخروا لشدة حرصهم على تكذيبه ومعارضته بكل ما ملكت أيمانهم واتسع له إِمكانهم .. فهذا العجز الوضيع بعد ذلك التحدي الصارخ هو أثر تلك القدرة الفائقة وهذا السكوت الذليل بعد ذلك الاستفزاز الشامخ هو أثر ذلك الكلام العزيز » (36) .
كما شهد المستشرق الإنجليزي والقسيس الأنجليكاني « مونتجمرى وات » ( 1909 – 2006 م ) بعد خمسة وثلاثين عاما في دراسة القرآن والإِسلام واللغة العربية ، وبعد إِنجاز دراساته العليا في الفلسفة الإِسلامية وتأليفه العديد من الكتب في الإِسلام وتاريخه وحضارته – شهد بأن القرآن هو وحي الله المباشر إلى محمد ، وأنه الآية الإِلهية المعجزة لكل البشر المستحيلة على المحاكاة والتقليد ، ودعا اليهود والنصارى إِن كانوا أوفياء حقا لحقيقة اليهودية والنصرانية إِلى الإِيمان بهذا القرآن .. كما أعلن مونتجمرى وات أن التحريف قد لحق بالتوراة والأناجيل ، بينما ظل القرآن محفوظا من التحريف والتغيير والتبديل .
نعم أعلن مونتجمري وات وهو القسيس ابن القسيس الذي خدم في كنائس لندن وأدينبره والقدس ذلك فقال : « إِن الوحي الإسلامي لابد من تناوله بجدية » .
إِن القرآن صادر عن الله وبالتالي فهو وحي وليس كلام محمد بأي حال من الأحوال ولا هو نتاج تفكيره وإِنما هو كلام الله وحده ، قصد به مخاطبة محمد ومعاصريه ، ومن هنا فإِن محمدا ليس أكثر من رسول اختاره لحمل هذه الرسالة إِلى أهل مكة أولا ثم لكل العرب ، ومن هنا فهو قرآن عربي مبين .
وهناك إِشارات في القرآن إِلى أنه موجه للجنس البشري قاطبة ، وقد تأكد ذلك عمليا بانتشار الإِسلام في العالم كله ، وقبله بشر من كل الأجناس تقريبا .. إِن القرآن يحظى بقبول واسع بصرف النظر عن لغته ، لأنه يتناول القضايا الإِنسانية .
إِننا نؤمن بصدق محمد وإِخلاصه عندما يقول : إِن كلمات القرآن ليست نتيجة أي تفكير واع منه .
إِن القرآن لا ينبغي النظر إليه باعتباره نتاج عبقرية بشرية . وإِن التجربة النبوية مع الوحي يمكن إِيجاز ملامحها الرئيسية فيما يلي :
1 – محمد يشعر وهو في حالة وعي أن هناك كلمات بعينها تلقى في روعه أو تحضر في قلبه أو عقله الواعي .
2 – وأن هذه الكلمات والأفكار لم تكن أبدا نتيجة أي تفكير واع من جانبه .
3 – وأنه يعتقد أن هذه الكلمات التي ألقيت في روعه من قبل مندوب أو مبعوث خارجي يتحدث إِليه كَمَلَك .
4 – إِنه يعتقد أن هذه الرسالة قادمة من الله – تعالى – وعندما تحدى محمد أعداءه بأن يأتوا بسورة من مثل السور التي أوحيت إِليه كان من المفترض أنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي ، لأن السور التي تلاها محمد هي من عند الله ، وما كان لبشر أن يتحدى الله ، وليس من شك في أنه ليس من قبيل الصدفة أيضا أن كلمة « آية » تعني علامة القدرة الإِلهية وتعني أيضا فقرة من الوحي .
وعندما تمت كتابة هذا الوحي شكل النص القرآني الذي بين أيدينا .
وفي الحديث عن جمع القرآن نجد أن كلمة ( جمع ) قد استخدمت في آيات قرآنية مهمة :
{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 16 – 19 ] .
ومن الممكن أن يكون التفسير الطبيعي لهذه الآيات : أن محمدا مادام يتبع تلاوة ما يتلوه جبريل فإِن الله متكفل بجمع الآيات المتفوقة أو التي أوحى بها في أوقات مختلفة ليجعلها في سياق واحد .
وإِذا لم يكن محمد هو الذي رتب القرآن بناء على وحي نزل عليه ، فمن الصعب أن نتصور أن زيد بن ثابت « 11 ق . هـ - 611 – 665 م » أو أي مسلم آخر يقوم بهذا العمل ومن هنا فإِن كثيرا من السور قد اتخذت شكلها الذي هي عليه منذ أيام محمد نفسه .
إِن القرآن كان يسجل فور نزوله وقد جمع رسميا « سنة 30 هـ - 650 م » .
ولو احتفظ يهود العصر ومسيحيوه بيهوديتهم ومسيحيتهم في حالة نقاء لاعترفوا بالرسالة التي ألقاها الله إِليهم عن طريق محمد تماما كما فعل ورقة بن نوفل « 12 ق . هـ / 611 م » الذي أفادت الروايات أن استجابته كانت إيجابية لمحمد .
ومن هنا يمكن أن نقول إِن إِشارات القرآن إِلى تحريف لحق اليهودية والمسيحية بصورتهما الموجودة في أيامه « أيام محمد » قول صحيح .
إِن القرآن يؤكد أن الإِسلام هو دين مطابق لدين إِبراهيم الخالص وثمة ما يؤكد أن الإِسلام كان بمثابة مستودع لدين إِبراهيم في حالة نقائه الأولى (37) .
هوامش:
33ـ الإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي « سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد » جـ 2 ص 472 ، 473 – تحقيق : د. مصطفى عبد الواحد . طبعة القاهرة سنة 1418 هـ - سنة 1997 م .
34ـ « مختصر سيرة ابن هشام » لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري – جـ 1 ص 187 . طبعة القاهرة 1422 – سنة 2002 م .
35ـ د. طه حسين « الفتنة الكبرى – عثمان » ص 32 طبعة دار المعارف – القاهرة سنة 1984 م .
36ـ سعد زغلول – تقديم الكتاب « إعجاز القرآن والبلاغة النبوية » لمصطفى صادق الرافعي – طبعة القاهرة – الأولى – سنة 1926 م .
37ـ مونتجمري وات « الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر » ص 22 – 226 – ترجمة د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ – طبعة القاهرة – مكتبة الأسرة – سنة 2001 م .
رابط الحلقة التاسعة
http://www.almesryoon.com/news.aspx?id=22793
بارك الله في أستاذنا الدكتور محمد عمارة
وجعله الله مرابطا على ثغر الدفاع عن الأمة ضد شبهات الآثمين والمارقين والمشككين ومثيري الشبهات