أخي الكريم ،
بارك الله فيك .. إنما عنيت الإنصاف في صوغ السؤال .. لكن على أي حال ، غفر الله لي ولك ..
اعذرني في تعليق الجواب عن سؤالك حتى ننتهي من التأصيل ، فأنا قد دخلت مناظرات كثيرة في مسألة التحاكم هذه ، وما وجدت الأسئلة المبنية على أمثلة إلا تزيد الحوار تعقيداً واضطراباً .. فكما قيل : أثبت العرش ثم انقش .. ونحن الآن نتحاور في أدلة هذه المسألة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما ينبغي في كل حوار .. وليس هذا تهرباً ، ولكنه ما أراه صواباً في التحوار البناء .
فاعذرني في تعليقي للجواب حتى ننتهي من التأصيل ، من بعد إذنك .
-----------------------
أما بخصوص أجوبتك ، فدعني أقول إن في مبحثي الثالث في هذه المسألة دليلاً على ما ذهبت إليه .. فمن الأدلة على ذلك :
1- تصدير الله - عز وجل - لآيات التحاكم بأمره بالطاعة ، وجعل الأمر بالتحاكم ضمن الأمر بالطاعة .. قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء : 59] .. فالتحاكم مطلوب حتى يتضح حكم الله فيُطاع فيه .. وتفيد الآية أنه إن حصل الاتفاق عدم التحاكم .
فأصل المسألة قائم على "الطاعة" .. لذلك جعل الله تعالى أمره بالتحاكم ضمن أمره بالطاعة ، فجعله شرطاً داخلاً في أمر ، لذلك قال "فإن تنازعتم".. أي فإن لم تعلموا حكم الله الواجب الطاعة ، فتحاكموا إليه .
إذن فالتحاكم وسيلة إلى الطاعة .. وأعني بذلك أنه من خلاله يعرف حكم الله فيُطاع فيه .
ومن أدلتي كذلك على أن التحاكم غير مطلوب لذاته ، وإنما هو للطاعة .. ما جاء في سبب نزول آية : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ } [آل عمران : 23] .
وهذا الحديث مرو بإسناد حسن .حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال ، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ، فقال له نعيم بن عمرو ، والحارث ابن زيد : على أيّ دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملة إبراهيم ودينه . فقالا : فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا ! فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فهلمُّوا إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ! فأبيا عليه ، فأنزل الله - عز وجل - : { ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون } إلى قوله : { ما كانوا يفترون } .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود إلى التوراة لتحكم بينهم .. فهل يقال إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحاكم إلى الشرائع المنسوخة لتفصل بينه وبين اليهود فيما كانوا فيه يختلفون ؟؟
ومن أدلتي الأخرى أيضاً ما جاء في تفسير قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [يوسف : 50]
يوسف - عليه السلام - لم يرد الخروج بمنة الملك ، بل أراد الخروج بالعذر .. أي بإثبات براءته ، ومن ثم إخراجه من السجن بموجب هذا العذر ..حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قرأ : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ، الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو بعث إليَّ لأسرعت في الإجابة ، وما ابتغيت العذر .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عفان بن مسلم قال ، حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرأ هذه الآية : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت أنا ، لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العُذر .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة } ، أراد نبيُّ الله - عليه السلام - أن لا يخرج حتى يكون له العذر .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ، قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن .
هل يُقال إن يوسف - عليه السلام - سعى لحكم الطاغوت ، أو أنه تحاكم إلى الطاغوت ؟
هناك أدلة أخرى سأذكرها في المبحث الثالث - إن شاء الله - ، فالمقام هنا لا يتسع .
أما من قول علمائنا ، فقد قال ابن تيمية - رحمه الله - في مجموع الفتاوى :
جعل علة كون الذي يُتحاكم إليه طاغوتاً أنه يُتبع في معصية الله تعالى .. ولم يقل : لأنه جُعل حكماً يفصل بين الناس من دون كتاب الله .والمطاع في معصية الله والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق - سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله - هو طاغوت ؛ ولهذا سمي من تحوكم إليه من حاكم بغير كتاب الله طاغوت
وجاء في المحلى لابن حزم :
تأمل كيف ربط المسألة بالطاعة ، وأنهم بتحاكمهم لم يريدوا إلا اتباع الهوى .. ولم يجعل هذه المسألة كما تقول ، إنها من منازعة الله في حكمه .وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ } إلى قوله تعالى : { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ) في كتاب مسلم وغيره : ( إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ). ومن طريق مسلم أيضاً - نا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا جميعاً : نا عبد الله بن نمير نا الأعمش ، عن عبد الله بن مرة عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، إذا وعد أخلف ، إذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ) . فقد صح أن هاهنا نفاقاً لا يكون صاحبه كافراً ، ونفاقاً يكون صاحبه كافراً ، فيمكن أن يكون هؤلاء الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت لا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مظهرين لطاعة - رسول الله صلى الله عليه وسلم - عصاة بطلب الرجوع في الحكم إلى غيره ، غير معتقدين لصحة ذلك ، لكن رغبة في اتباع الهوى ، فلم يكونوا بذلك كفاراً بل عصاة . فقد ندعو نحن عند الحاكم إلى القرآن وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنهم بإقرارهم ، فيأبون ذلك ، ويرضون برأي أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، هذا أمر لا ينكره أحد ، فلا يكونون بذلك كفاراً . فقد يكون أولئك هكذا حتى إذا بيّن الله تعالى أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم ، وجب أن من وقف على هذا قديماً وحديثاً ، وإلى يوم القيامة فأبى وعند فهو كافر ، وليس في الآية : أن أولئك عندوا بعد نزول هذه الآية .
مع عدم أخذي بتفسيره في هذه القضية ، إلا أن الشاهد في كلامه أنه ربط المسألة بالطاعة .
ثم تقول :
يعني من لم يخضع لحكم الطاغوت ولم ينقد له ، فهل يُرفع عنه حكم الكفر ؟المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فاطمة الحسني
أصل التحاكم هو : معرفة حكم الله .. والخضوع والانقياد هذه تترتب على ما بعد التحاكم .. لذلك قال الله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [النساء : 65]
فهناك أولاً تحاكم لمعرفة حكم الله ، ثم إقرار بالقلب ، وانقياد ظاهر وباطن .
ثم تقول :
رويدك أخي الكريم .المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فاطمة الحسني
خذ أصل المسألة وابن عليها حكمك ، وهي مسألة الطاعة .. الله - عز وجل - يقول : { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 3] .. فهل من اتبع غير أمر الله تعالى ، دون اعتقاد بأحقيته للأمر ، ومع اعتقاد عصيانه ، وبغضه للأمر بالمعصية ، هل يكون ممن نازع الله في ملكه وألوهيته ؟
وكذلك قوله تعالى : { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54] .. فهل من أطاع غير الله في أمره ، وتولى عن أمر الله ، مع اعتقاده عصيانه واستحقاقه للعقاب ، يكون كافراً ؟
وأخيراً .. من تحاكم إلى الهوى .. مع اعتقاده بعصيانه واستحقاقه للعقوبة ، هل يكون هذا كافراً ؟ .. هذا لا شك له نصيب من آية التحاكم إلى الطاغوت ،
=========
أما جوابك عن سؤالي الثاني ، فإني أرجئه حتى ننتهي من الجواب الأول ، لأنك كما ترى فإن تعقيبي قد طال .
وجزاك الله خيراً