من حديث : (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا) .
الصيام جنة :
"تشبيه بليغ" بحذف أداة التشبيه ووجه الشبه ، فتقدير الكلام : الصيام كالجنة يحمي الصائم من الذنوب والسيئات كما تحمي الجنة المقاتل من الضرب والطعنات .
والتشبيه البليغ يمكن إدراجه في باب : "الإيجاز بالحذف" ، إذ حذفت أداة التشبيه ووجهه ، على التفصيل السابق ، فقلت الألفاظ وازداد المعنى قوة وبهاء .
ومادة : "جن" تدل على الستر والوقاية ، ومنه قيل : لــ : "الجن" : جن ، بالكسر ، لاستتارهم عن أعين البشر ، و "الجنة" : جنة بفتح الجيم ، لأنها مستترة بأشجارها الكثيفة .
فصار للمادة معنى كلي متواطئ هو : "الستر" ، يتفرع عليه حقائق متباينة يجمعها هذا الأصل الكلي تبعا لاختلاف حركة الجيم ، وهذا من أوجه ثراء اللغة العربية ، فالمادة الواحدة تدل على أكثر من حقيقة على التفصيل السابق .
فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ :
إما أن يقال بأن البخاري على عادته في اختصار المتون ، أو روايتها بالمعنى ، قد حذف من السياق ما دل المذكور عليه ، فتقدير الكلام : فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ............... ، أو يقال بأن الرواية هكذا وقعت في سماعه ، فأداها كما تحملها ، فيكون "إيجاز الحذف" قد وقع فيها ابتداء .
فَلَا يَرْفُثْ :
إما أن يكون المقصود : النهي عن أحاديث الجماع ومقدماته ......... إلخ من أحاديث الرجل مع أهله ، وإما أن يكون المقصود أعم من ذلك ، ومتى صح حمل النص على المعنى الأعم ، فهو أولى ، إثراء للسامع .
وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ :
إيجاز بحذف آخر ، إذ حذف العامل بعد "إن" ، إذ لا يليها إلا الفعل ، اكتفاء بالفعل الوارد بعد "امرؤ" : "قاتله" ، فهو من جنس المحذوف ، فلا يجمع بين الشيء وعوضه ، لئلا يصير الكلام معيبا بالتكرار ، وإن صح التقدير من جهة المعنى ، بل إن تقدير معنى العامل المحذوف دون ذكر لفظه ، يزيد المعنى قوة ، إذ التكرار مظنة التوكيد ، فوقع تمام البيان من وجهين :
الأول : وجه حذف ما دل عليه السياق إيجازا ، فالتكرار اللفظي هنا معيب للاستغناء بالمذكور عن المحذوف على التفصيل المتقدم .
والثاني : يقدر فيه العامل المحذوف من جنس المذكور ، معنى لا لفظا ، فيكون التكرار المعنوي مظنة التوكيد ، فلا يصير معيبا كالتكرار اللفظي بل إن تقدير المحذوف دون ذكره يحقق الفائدتين : الإيجاز في اللفظ والتوكيد في المعنى .
قاتله : صيغة مفاعلة تقتضي مشاركة من اثنين لإيجاد الفعل ، والصائم منهي ابتداء عن إنشاء القتال ، والجواب عن ذلك أن صيغة المفاعلة : لا يلزم منها وقوع الفعل ، فلا يلزم من قولك : خادع فلان فلانا أنه قد خدعه بالفعل ، وكذلك الشأن هنا ، أو يقال بأن : "فاعَلَ" تطلق ويراد بها وقوع الفعل من واحد كما تقول : عالج فلان الأمر ، وقد تولى ذلك بمفرده ، ويمكن تخريج زيادة المبنى في "قاتل" و "شاتم" على القاعدة المطردة : الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى ، فيكون لفظ "قاتل" أبلغ في الدلالة على الجناية من "قتل" وكذلك "شاتم" .
إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ :
تكرار يفيد التوكيد .
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ : توكيد بالقسم ولام الابتداء عناية بالمقسم عليه .
يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ : بيان لعلة المقسم عليه ، وكأن السامع قد تبادر إلى ذهنه سؤال عن : علة ذلك ؟ ، فجاء الجواب : لأنه يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، فيكون في الكلام إيجاز بالحذف دل عليه السياق اقتضاء ، ودلالة الاقتضاء أصل يفزع إليه في تقدير ما يستقيم به السياق .
طعامه وشرابه وشهوته :
إما أن يقال بأن عطف الشهوة على الطعام والشراب من باب : عطف العام على الخاص ، فقدم الخاص : الطعام والشراب لأنها آكد الشهوات التي يمتنع الصائم عنها ، ثم عطف عليها العام ، فيكون ذكرها قد تكرر مرتين : مرة بالنص على أعيانها ، ومرة ضمن عام يشملها ، وفي ذلك من العناية بشأنها ما فيه ، فإفرادها بالذكر يدل عليها : مطابقة ، وإدراجها في عام يشملها يدل عليها : تضمنا ، فاجتمع في حقها الدلالتان .
وإما أن يقال بأن الشهوة هنا قد أريد بها شهوة الفرج ، فيكون الكلام من قبيل : التأسيس لا التوكيد ، فأسس اللفظ المذكور معنى جديدا لم يرد في السياق ، ويرجح ذلك ما اطرد من قول أهل العلم بأنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس فحمله على التأسيس أولى لأن فيه إنشاء معنى جديد ، بخلاف التوكيد فهو تنبيه على معنى مذكور ، والأصل في النصوص ، كما تقدم ، دلالتها على أكبر قدر من المعاني إثراء لذهن السامع .
الصِّيَامُ لِي : يمكن النظر إلى هذه الجملة من وجهين :
من وجه : التوكيد المستفاد من الحصر بتعريف الجزأين ، إن قلنا بأن الخبر هو نفس الجار والمجرور فهو معرف بالإضافة ، فيكون تقدير الكلام : الصوم لي وحدي لا لأحد غيري .
ومن وجه إفراد الصيام بالإضافة إلى الباري مع أنه مفعول العبد لا الرب ، فيكون في ذلك من التعظيم ما فيه ، تماما كما قيل في : بيت الله ، وناقة الله ، فإضافة هذه الأعيان إلى الله إضافة تشريف .
وَأَنَا أَجْزِي بِهِ : توكيد بالفاعل المستتر في : أجزي ، فيكون قد ذكر مرتين بارزا كـــ : مبتدأ ، فالمبتدأ فاعل في المعنى ، ومستترا في عامله ، ومجيء العامل بصيغة المضارع يدل على تجدد الجزاء بتجدد الصيام ، فليس أمرا ماضيا قد انتهى ، وإنما هو أمر متجدد باستمرار ، فكلما صمت وأطعت ، وجدت جزاء ذلك عند الرب ، جل وعلا ، وفي هذا من استنهاض الهمم ما فيه .
*
-------------
* الناقل : مهاجر - وفقه الله -.
الموضوع : من حديث : (الصيام جنة فلا يرفث .............)
الحلقة : حلقة البلاغة والنقد.