عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 26 من 26

الموضوع: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    شهوة البطن

    (21)
    فهد بن عبد العزيز الشويرخ
    المنتقى من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معي واحد, والمنافق يأكل في سبعة أمعاء » أي: يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن, أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته.
    وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا )
    وقال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة, فإنها ثقل في الحياة, ونتن في الممات.
    وقال لقمان لابنه: يا بني, إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة, وخرست الحكمة, وقعدت الأعضاء عن العبادة.
    فوائد قلة الأكل:
    الفائدة الأولى: صفاء القلب, وإيقاد القريحة, وإنفاذ البصيرة, فإن الشبع يورث البلادة, والصبي إذا أكثر الأكل, بطل حفظه, وفسد ذهنه, وصار بطئ الفهم والإدراك
    الفائدة الثانية: رقة القلب, الذي به يتهيأ لإدراك لذة التأثر بالذكر, فكم من ذكر يجري على اللسان, ولكن القلب لا يلتذ به, ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب, وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر, وتلذذه بالمناجاة, وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه.
    الفائدة الثالثة: الانكسار والذل, وزوال البطر والفرح والأشر, الذي هو مبدأ الطغيان, والغفلة عن الله تعالى.
    الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه, ولا ينسى أهل البلاء, فإن الشبعان ينسى الجائع, وينسى الجوع, والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة.
    الفائدة الخامسة: وهي من أكبر الفوائد, كسر شهوات المعاصي كلها, والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء, فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى, ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة, فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة.
    الفائدة السادسة: دفع النوم, فإن من شبع شرب كثيراً, ومن كثر شربه كثر نومه, والنوم موت فتكثيره ينقص العمر, ثم فضيلة التهجد لا تخفى, وفي النوم فواتها, ومهما غلب النوم فإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
    الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة.
    الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن, ودفع الأمراض, فإن سببها كثرة الأكل, وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات, ويشوش القلب, ويمنع من الذكر والفكر, وينغص العيش.

    الفائدة التاسعة: خفة المؤنة, فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير, والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له.
    الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين, فيكون يوم القيامة في ظل صدقته, كما ورد به الخبر.
    فهذه عشر فوائد, يتشعب من كل فائدة فوائد, لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    آفات اللسان (1)


    (22)
    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    اللسان من النعم العظيمة, صغير جرمه, عظيم طاعته وجرمه, رحب الميدان ليس له مرد, ولا لمجاله منتهى وحدّ, له في الخير مجال, وله في الشر ذيل سحب, فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان, سلك به الشيطان في كل ميدان, وساقه إلى شفا جرف هار, إلى أن يضطره إلى البوار, ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم, ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع, فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة, ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
    عظيم خطر اللسان:
    خطر اللسان عظيم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وبكِ على خطيئتك ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة) » وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار, فقال: «( الفم والفرج )»
    «قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله: أنؤاخذ بما نقول ؟ قال: ثكلتك أمك, يا بن جبل, وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ ) » وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يشير إلى لسانه, ويقول: هذا الذي أوردني المهالك.
    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو, ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
    وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني.
    وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
    الكلام فيما لا يعنيك:
    اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك....ولا تتكلم بما أنت نستغن عنه, ولا حاجة بك إليه, فإنك مضيع به زمانك, ومحاسب على عمل لسانك, وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, لأنك لو....هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته, لكان خيراً لك, فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة ؟ ومن قدر أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسرا خسرنا مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى, واشتغل بمباح لا يعنيه, فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله.
    قال النبي صلى الله عليه وسلم: «( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )»
    وقال مجتهد: سمعت ابن عباس يقول: لا تتكلم فيما لا يعنيك, فإنه فضل, ولا آمن عليك الوزر. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك ؟ قال: لا أسأل عما كفيت, ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة, لم أقدر عليه, ولست بتارك طلبه, قالوا: وما هو ؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
    وحدّ الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم, ولم تستضر به في حال و لا مال, مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك, وما رأيت فيها من جبال وأنهار, وما وقع لك من الوقائع, وما استحسنته من الأطعمة والثياب, وما تعجبت منه. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم, ولم تستضر.
    ومن جملتها: أن تسأل غيرك عما لا يعنيك, فأنت بالسؤال مضيع وقتك, وقد ألجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع.
    والعلاج أن يعلم أن الموت بين يديه, وأنه مسئول عن كل كلمة, وأن أنفاسه رأس ماله, وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه.
    فضول الكلام:
    فضول الكلام...مذموم, وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني, والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة. فإن من يغنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر, ومهما تأتى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين, فالثانية فضول, أي: فضل عن الحاجة, وهو أيضاً مذموم _ لما سبق _ وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام, وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى, وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أمرا بمعروف, أو نهياً عن منكر, أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها, أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد, ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد, أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره, كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.
    واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر, بل المهم محصور في كتاب الله تعالى, قال الله عز وجل: { ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ) } [النساء:114]
    وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم, حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته
    وقال الحسن: ابن آدم بسطت لك صحيفتك, ووكل بها ملكان كريمان, يكتبان أعمالك, فاعمل ما شئت وأكثر وأقلّ.
    وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم, وإلا أمسك, والفاجر إنما لسانه رسلا, رسلا.
    وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه, ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه.
    الخوض في الباطل:
    وهو الكلام في المعاصي, كحكاية أحوال النساء, ومجالس الخمر, ومقامات الفساق,
    وتنعم الأغنياء, وتجبر الملوك, ومراسمهم المذمومة, وأحوالهم المكروهة, فإن كل ذلك بما لا يحل الخوض فيه, وهو حرام.
    ومن يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها, فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها, فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ بها ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله, ما يظن أن تبلغ به ما بلغت, فيكتب الله عليه سخطه إلى يوم القيامة.)» وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلاب بن الحارث.
    وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة.
    وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله.
    وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم, فيقول: توضئوا, فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
    فهذا هو الخوض بالباطل, ويدخل فيه: حكاية ما جرى بين من قتال الصحابة, على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل هذا باطل, والخوض فيه خوض في الباطل, نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.
    المراء والجدال:
    وهو منهي عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل)»
    قال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته وقال مالك بن أنس رحمه الله: ليس هذا الجدال من الدين في شيء. وقال: المراء يقسي القلوب, ويورث الضغائن. وقال لقمان يا بني, لا تجادل العلماء فيمقوتك. وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته.
    وحدّ المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه, إما في اللفظ, وإما في المعنى, وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض, فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدّق به, وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه. وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه, وتنقيصه بالقدح في كلامه, ونسبته إلى القصور والجهل فيه.

    وينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة, وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال.
    وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل, والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار نفسه. وكل من اعتاد المجادلة مدة, وأثنى الناس عليه, ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً, قويت فيه هذه المهلكات, ولا يستطيع عنها نزوحاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل, وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها ؟


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    آفات اللسان (2)


    (23)
    فهد بن عبد العزيز الشويرخ


    الخصومة:
    وهي أيضاً مذمومة, والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي به مال, أو حق مقصود, وذلك تارة يكون ابتداء, وتارة يكون اعتراضاً.
    قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم )»
    فإن قلت: إذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه, فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته ؟ فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل, والذي يخاصم بغير علم. فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة, ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً, فإن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر, والخصومة توغر الصدر, وتهيج الغضب, وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه, وبقى الحقد بين المتخاصمين, حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته, ويطلق اللسان في عرضه, فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات, وأقل ما فيه تشويش خاطره, حتى إنه في صلاته, يشتغل بمحاجة خصمه, فلا يبقى الأمر على حد الواجب. فالخصومة مبدأ كل شر, وكذا المراء والجدال, فينبغي إلا يفتح بابه إلا لضرورة, وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة, وذلك متعذر جداً, فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم, ولا تذم خصومته, إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه, لأن عنده ما يكفيه, فيكون تاركاً للأولى, ولا يكون أثماً, نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام, وما ورد فيه من الثواب.
    التقعر في الكلام:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون, المتفيهقون, المتشدقون في الكلام )» وقال فاطمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم, يأكلون ألوان الطعام, ويلبسون ألوان الثياب, ويتشدقون في الكلام.)»
    وقال عمر رضي الله عنه: شقائق الكلام من شقائق الشيطان.
    التقعر في الكلام بالتشدق, وتكلف السجع والفصاحة, كل ذلك من المذموم, ومن التكلف الممقوت...فينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده, ومقصود الكلام التفهيم للغرض, وما وراء ذلك تصنع مذموم, ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير, من غير إفراط أو إغراب, فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها...فلرشا ة اللفظ تأثير فيه, فهو لائق به.
    الفحش وبذاءة اللسان:
    وهو مذموم منهي عنه, ومصدره الخبث واللؤم, قال صلى الله عليه وسلم: «( إياكم والفحش, فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي )»
    فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة, وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع, وما يتعلق به, فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها, وأهل الصلاح يتحاشون عنها, بل يكنون عنها.
    والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء, وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق, وأهل الخبث واللؤم.
    المزاح:
    وأصله مذموم منهي عنه, إلا قدراً يسيراً يستثنى منه, فإن قلت: المزاح فيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه ؟ فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه, أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه, واللعب مباح, ولكن المواظبة عليه مذمومة, وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك, وكثرة الضحك تميت القلب, وتورث الضغينة في بعض الأحوال, وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو من هذه الأمور فلا يذم, كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «( إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً.)» إلا أن مثله يقدر أن يمزح, ولا يقول إلا حقاً, وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان.
    فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه ؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وهو أن تمزح, ولا تقول إلا حقاً, ولا تؤذي قلباً, ولا تفرط فيه, وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك.
    الشعر:
    الشعر كلامه حسنه حسن, وقبيحه قبيح, إلا أن التجرد له مذموم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه, خير له من أن يمتلئ شعراً.)»
    وسئل بعضهم عن شيء من الشعر, فقال: اجعل مكان هذا ذكراً, فإن ذكر الله خير من الشعر. وعلى الجملة فإنشاء الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن فيه كلام مستكره.
    اللعن:
    إما لحيوان أو جماد أو إنسان, كل ذلك مذموم, قال صلى الله عليه وسلم : « ( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم )» واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى, وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل, وهو الكفر والظلم, بأن يقول: لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين.
    السب:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( سباب المؤمن فسوق, وقتاله كفر ) » وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني, فقال: ( عليك بتقوى الله, وإن أمرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك, فلا تعيره بشيء فيه, يكن وباله عليه, وأجره لك, ولا تسبن شيئاً ) قال: فما سببت شيئاً بعد.
    السخرية والاستهزاء:
    وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى: {( أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن)} [الحجرات:11] ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير, والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه, وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول, وقد يكون بالإشارة والإيماء.
    إفشاء السر:
    وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف, قال عليه الصلاة والسلام: «( إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة ) » وهو حرام إذا كان فيه إضرار, ولؤم إن لم يكن فيه إضرار. قال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك.
    الوعد الكاذب:
    فإن اللسان سباق إلى الوعد, ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء, فيصير الوعد خلفاً, وذلك من أمارات النفاق, قال الله تعالى: «( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )» [المائدة:1] وكان ابن مسعود لا يعد وعداً, إلا ويقول: إن شاء الله. وهو الأولى.
    ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بدَّ من الوفاء إلا أن يتعذر, فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي, فهذا هو النفاق, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أربع من كن فيه كان منافقاً, ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها, إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر )» وهذا ينزل على عزم الخلف, أو ترك الوفاء من غير عذر.
    الكذب في القول واليمين:
    وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )»
    وقال صلى الله عليه وسلم «( إن التجار هم الفجار ) فقيل: يا رسول الله, أليس الله قد أحل البيع ؟ قال: ( نعم, ولكنهم يحلفون فيأثمون, ويحدثون فيكذبون ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يحدث فيكذب, ليضحك به القوم, ويل له, ويل له ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق, لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان )»

    قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله: اللسان الكذوب.
    قال عمر بن عبدالعزيز: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    آفات اللسان (3)


    (24)
    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الغيبة:
    قد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه, وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة, فقال تعالى: ( { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتُمُوهُ} ) [الحجرات:12] وقال عليه الصلاة والسلام: ( «كل المسلم على المسلم حرام, دمه, وماله, وعرضه » ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( « لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا, ولا يغتب بعظكم بعضاً, وكونوا عباد الله إخواناً» ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( «مررت ليلة أسري بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم, فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم » )
    قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء, وإياكم وذكر الناس فإنه داء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوب نفسك. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه, ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يعدرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة, ولكن في الكف عن أعراض عن الناس.
    حدّ الغيبة:
    اعلم أن حدَّ العيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه, سواء ذكرته بنقص في بدنه, أو نسبه, أو في خلقه, أو في فعله, أو في قوله, أو في دينه, أو في دنياه, حتى في ثوبه وداره ودابته.
    واعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأنه فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه, فالتعريض به كالتصريح, والفعل فيه كالقول, والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة, وكل ما يفهم فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
    البواعث على الغيبة:
    الأول: أن يشفي الغيظ, وذلك أنه إذا جرى سبب غضب به عليه, فإنه إذا هاج غضبه يشفيه بذكر مساويه, فيسبق لسانه إليه بالطبع إن لم يكن ثمّ دين وازع, وقد يمتنع الغيظ عند الغضب, فيحتقن الغضب في الباطن, فيصير حقداً ثابتاً, فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي, فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
    الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء, ومساعدتهم على الكلام, فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض, فيرى أنه لو أنكر عليهم استثقلوه, ونفروا منه, فيساعدهم ويرى أن ذلك من حسن العشرة, ويظن أنه مجاملة في الصحبة.
    الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده, ويطول لسانه عليه, أو يقبح حاله عند محتشم, أو يشهد عليه بشهادة, فيبادره قبل أن يقبح هو حاله, ويطعن فيه.
    الرابع: أن ينسب إلى شيء, فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله, وكان من حقه أن يبرئ نفسه, ولا يذكر الذي فعل.
    الخامس: إرادة التصنع والمباهاة, وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره, فيقول فلان جاهل, وفهمه ركيك, وكلامه ضعيف. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه.
    السادس: الحسد: وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه, ويحبونه ويكرمونه, فيريد زوال تلك النعمة عنه, فلا يجد سبيلاً إليه إلا القدح فيه.
    السابع: اللعب والهزل وتزجية الوقت بالضحك, فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة.
    الثامن: السخرية والاستهزاء, استحقاراً له, فإن ذلك يجرى في الحضور, وفي الغيبة. ومنشؤه التكبر.

    علاج الغيبة:
    أن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة, فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه, فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه, وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل, ومشبه عنده بآكل الميتة, بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته, وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان, ويدخل بها النار. وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله, وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب.
    الأعذار المرخصة في الغيبة:
    الأول: التظلم, فالمظلوم له أن يتظلم إلى السلطان, إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به, قال عليه الصلاة والسلام: ( إن لصاحب الحق مقالاً )
    الثاني: الاستعانة على تغير المنكر, ورد العاصي إلى منهج الصلاح.
    الثالث: الاستفتاء كما يقول للمفتي: ظلمني أبي, أو زوجتي, أو أخي, فكيف طريقي في الخلاص ؟
    الرابع: تحذير المسلم من الشر, فإذا رأيت فقهياً يتردد إلى مبتدع, أو فاسق, وخفت أن تتعدى إليه بدعته, وفسقه, مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق, لا غيره.
    الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه, كالأعرج, والأعمش, فلا إثم على من يقول: روى أبو الزناء عن الأعرج, وسلمان عن الأعمش.
    السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب المخور والمجاهر بشرب الخمر, بحيث لا يستنكف من أن يذكر به, فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك

    النميمة:
    قال الله تعالى: {( ويل لكل همزةٍ لمزةٍ ) } [الهمزة:1] قيل الهمزة: النمام.
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يدخل الجنة نمام ) »
    حدّ النميمة:
    اعلم أن اسم النميمة إنما يطلق في الأكثر على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه, كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا, وليست النميمة مختصة به, بل حدها كشف ما كره كشفه, سواء كرهه المنقول عنه, أو المنقول إليه, أو كرهه ثالث. وسواء كان الكشف بالقول, أو بالكتابة, أو بالرمز, أو بالإيماء, وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال.
    ما يجب على من نقلت إليه النميمة:
    كل من حملت إليه النميمة, وقيل له: إن فلانا قال فيك كذا وكذا, فعليه ستة أمور:
    الأول: أن لا يصدقه, لأن النمام فاسق, وهو مردود الشهادة, قال الله تعالى: {( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالةٍ ) } [الحجرات:6]
    الثاني: أن ينهاه عن ذلك, وينصح له, ويقبح عليه فعله, قال الله تعالى: {( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) } [لقمان:17]
    الثالث: أن يبغضه في الله تعالى, فإنه بغيض عند الله تعالى, ويجب بغض من يبغضه الله
    الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى: {( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم )} [الحجرات:12]
    الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس, والبحث للتحقق, اتباعاً لقول الله تعالى: {( ولا تجسسوا ) } [الحجرات:12]
    السادس: أن لا ترضي لنفسك ما نهيت النمام عنه, فلا تحكى نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا, فتكون به نماماً ومغتاباً, وتكون قد أتيت ما عنه نهيت.
    ذكر أن حكيماً زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له: قد أبطأت في الزيارة, وأتيت بثلاث جنايات: بغضت أخي إلي, وشغلت قلبي الفارغ, واتهمت نفسك الأمينة.
    قال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل
    كلام ذي اللسانين:
    كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين, ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( من كان له وجهان في الدنيا, كان له لسانان من نار يوم القيامة ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين, الذي يأتي هؤلاء بحديث, وهؤلاء بحديث»
    المدح:
    والمدح يدخله ست آفات, أربع في المادح, واثنتان في الممدوح. فأما المادح:
    فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب.
    الثانية: أنه قد يدخله الرياء, فإنه بالمدح مُظهر للحب.
    الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه.

    الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح, وهو ظالم أو فاسق, وذلك غير جائز.
    وأما الممدوح فيضره من وجهين:
    أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان.
    الثاني: أنه إذا أثنى عليه الخير فرح به, وفتر ورضي عن نفسه, وقل تشميره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    ذم الغضب


    (25)
    فهد بن عبد العزيز الشويرخ

    الغضب شعلة نار, ويستكبرها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد, كاستخراج الحجر النار من الحديد, ومن نتائج الغضب: الحقد, والحسد, وبهما هلك من هلك, وفسد من فسد. وإذا كان الحقد والحسد والغضب, مما يسوق العبد إلى مواطن العطب, فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه ! ليحذر ذلك ويتقيه, ويميطه عن القلب إن كان وينفيه, ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه, فإن من لا يعرف الشر يقع فيه, ومن عرفة فالمعرفة لا تكفيه, ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.
    الغضب:
    عن عكرمة في قوله تعالى: {(وسيداً وحصوراً ) } [آل عمران:39] قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب
    «روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, مرني بعمل وأقلل, فقال: ( لا تغضب ) ثم أعاد عليه, فقال: ( لا تغضب ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس الشديد بالصرعة, وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) »
    وقال سليمان بن داود عليهما السلام: يا بني, إياك وكثرة الغضب, فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم.
    قال بعضهم: إياك والغضب, فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار.
    قيل لعبدالله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. قال: لا تغضب.
    وقد قيل: الغضب عدو العقل, والغضب غول العقل.
    قيل لحكيم: ما أملك فلانا لنفسه ! قال: إذا لا تذله الشهوة, ولا يصرعه الهوى, ولا يغلبه الغضب.

    حقيقة الغضب ودرجاته:
    قوة الغضب محلها القلب, ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام, والناس في هذه القوة على درجات ثلاث, من: التفريط, والإفراط, والاعتدال.
    أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها, وذلك مذموم, وهو الذي يُقال فيه: إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار.
    وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار.
    وسبب غلبته أمور غريزية, وأمور اعتياديه, فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب, حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان, ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب, لأن الغضب من النار. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوما يتبجحون بتشفي الغيظ, وطاعة الغضب, ويسمون ذلك شجاعة ورجولة.
    ومن آثار هذا الغضب في الظاهر: تغير اللون, وشدة الرعدة في الأطراف, وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام, واضطراب الحركة والكلام, حتي يظهر الزبد على الأشداق, وتحمر الأحداق, وتنقلب المناخر, وتستحيل الخلقة, ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه, حياء من قبح صورته, واستحالة خلقته, وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره, فإن الظاهر عنوان الباطن.
    وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيى منه ذو العقل. ويستحيى منه قائله عند فتور الغضب.
    وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن.
    وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء.
    فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة, وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله, فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى لإفراط حتى جره إلى التهور, واقتحام الفواحش, فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب, ويقف على الوسط بين الطرفين, فهو الصراط المستقيم, فإن عجز عنه فليطلب القرب منه, فليس كل من عجز عن الاتيان بالخير كله, ينبغي أن يأتي بالشر, ولكن بعض الشر أهون من بعض, وبعض الخير أرفع من بعض, فهذه حقيقة الغضب, ودرجاته, نسال الله حسن التوفيق لما يرضيه.
    بيان الأسباب المهيجة للغضب وطرق علاجها:
    الأسباب المهيجة للغضب: الزهو, والعجب, والمزاح, والمماراة, والغدر, وشدة الحرص على فضول المال والجاه, وهي بأجمعها أخلاق رديئة, ومذمومة شرعاً, ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها
    وكل خلق من هذه الأخلاق, وصفة من هذه الصفات, يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة, والمواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس, فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل, وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها.
    علاج الغضب بعد هيجانه:
    يعالج الغضب بعد هيجانه بمعجون العلم والعمل, أما العلم فبأمور:
    الأول: أن يتفكر في الأخبار في فضل كظم الغيظ, والحلم, والاحتمال, والعفو, فيرغب في ثوابه, فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي, والانتقام, وينطفئ عنه غيظه.
    الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله, وهو أن يقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان, فلو أمضيت غضبي عليه, لم آمن أن يمضي الله غضبه عليّ يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.
    الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام, وتشمر العدو لمقابلته, والسعي في هدم أغراضه, والشماتة بمصائبه, وهو لا يخلو من المصائب, فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة.
    الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب, بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب.
    الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام, ويمنعه من كظم الغيظ, ولا بد أن يكون له سبب, مثل: قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز, وصغر النفس, والذل, والمهانة, وتصير حقيراً في أعين الناس ! فيقول لنفسه: ما أعجبك !, تأنفين من الاحتمال الآن, ولا تأنفين من خزى يوم القيامة.
    أما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً, واضطجع إن كنت جالساً, واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك, واطلب بالجلوس والاضطجاع السكون, فإن سبب الغضب الحرارة, وسبب الحرارة الحركة.
    فضيلة كظم الغيظ:
    قال الله تعالى: ( والكاظمين الغيظ ) [آل عمران: 134] وذكر ذلك في معرض المدح.
    وقال لقمان لابنه: يا بني, لا تذهب ماء وجهك بالمسألة, ولا تشف غيظك بفضيحتك, واعرف قدرك تنفعك معيشتك.

    بيان فضيلة الحلم:
    اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ, لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم إلى تكلف الحلم, ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه, ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة, ولكن إذا تعود ذلك مدة, صار ذلك اعتياداً, فلا يهيج الغيظ, وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب, وهو الحلم الطبيعي. وهو دلالة كمال العقل, واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل.
    وعن الحسن في قوله تعالى: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [الفرقان:63] قال: حلماء, إن جهل عليهم لم يجهلوا.
    قال أبو هريرة: إن رجلاً قال: يا رسول, إن لي قرابة أصلهم ويقطعون, وأحسن إليهم ويسيئون, ويجهلون علي وأحلم عنهم. قال: ( إن كان كما تقول, فكأنما تسفهم المل, ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك.) وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله, الحلم والأناة)
    وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم, وتعلموا للعلم السكينة والحلم.
    وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك. وقال: إن أول عوض الحليم من حلمه, أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل. وقال معاوية رضي الله عنه: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم, وجماع الأمر الصبر.

    وقال أيوب: حلم ساعة يدع شراً كثيراً.
    وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم, ولكني أتحلم.
    وقال بعض العلماء: إن الحلم أرفع من العقل, لأن الله تعالى تسمى به.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,900

    افتراضي رد: المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي

    ذم الحقد

    (26)


    فهد بن عبد العزيز الشويرخ



    اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال, رجع إلى الباطن, واحتقن فيه فصار حقداً. ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله, والبغضة له, والنفار عنه, وأن يدوم ذلك ويبقى. فالحقد ثمرة الغضب.
    ثمار الحقد:
    الحقد يثمر ثمانية أمور:
    الأول: الحسد, وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه, فتغتم بنعمة إن أصابها, وتسر بمصيبة إن نزلت به.
    الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن, فتشمت بما أصابه من البلاء.
    الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه, وإن طلبك وأقبل عليك.
    الرابع: وهو أن تعرضه عنه استصغاراً له.
    الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر, وهتك ستر, وغيره.
    السادس: أن تحاكيه استهزاء به, وسخرية منه.
    السابع: إيذاؤه بالضرب, وما يؤلم بدنه.
    الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين, أو صلة رحم, أو رد مظلمة, وكل ذلك حرام.
    أحوال المحقود عليه عند القدرة:
    الأول: أن يستوفي حقه الذي يستحقه, من غير زيادة, أو نقصان, وهو العدل.
    الثاني: أن يحسن إليه بالعفو, والصلة, وذلك هو الفضل.
    الثالث: أن يظلمه بما لا يستحقه, وذلك هو الجور, وهو اختيار الأراذل, والثاني هو اختيار الصديقين, والأول هو منتهى درجات الصالحين.

    فضيلة العفو والإحسان:
    اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه, ويبرى عنه من قصاص أو غرامة, وهو غير الحلم وكظم الغيد, فلذلك أفردناه, قال الله تعالى: ( { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ) [الأعراف:199] وقال الله تعالى: ( {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ) [البقرة:237]
    وقال رسول الله صلى الله عليه وسل: «( ثلاث والذي نفسي بيده, لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا, ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة, ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر )»
    سئل أبو الدرداء: عن أعزّ الناس, قال: الذي يعفو إذا قدر, فاعفوا يعزكم الله.
    قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. ودخل رجل على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله, فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه, ويقع فيه, فقال له عمر: إنك أن تلقى الله, ومظلمتك كما هي, خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها.
    وقال بعضهم: ليس الحليم من ظُلِمَ فحلم, حتى إذا قدر انتقم, ولكن الحليم من ظُلِمَ فحلم, حتى إذا قدر عفا. وقال زياد: القدرة تذهب الحفيظة, يعني: الحقد والغضب.
    وجلس ابن مسعود يبتاع طعاماً, فابتاع, ثم طلب الدراهم, وكانت في عمامته, فوجدها قد حلت, فقال: لقد جلست وإنها لمعي, فجعلوا يدعون على من أخذها, ويقولون: اللهم اقطع يد السارق, الذي أخذها, اللهم افعل به كذا. فقال ابن مسعود: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة, فبارك له فيها, وإن كان حملته جراءة على الذنب, فاجعله آخر ذنوبه.
    فضيلة الرفق:
    اعلم أن الرفق محمود, ويضاد العنف والحدة, والعنف نتيجة الغضب والفظاظة, والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة, فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق.
    وقد أثني النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق, فقال عليه الصلاة والسلام: «( إن الله رفيق يحب الرفق, ويعطي عليه ما لا يعطى على العنف ) » وقال صلى الله عليه وسلم: «( من يحرم الرفق, يحرم الخير كله )»
    وقال عليه الصلاة والسلام: ( أتدرون من يحرم على النار يوم القيامة: كل هين, لين, سهل, قريب.)
    وقال بعضهم: ما أحسن الإيمان يزينه العلم, وما أحسن العلم يزينه العمل, وما أحسن العمل يزينه الرفق.
    وقال عمر بن العاص لابنه عبدالله: ما الرفق ؟ فقال: تكون ذا أناة فتلاين الولاة. قال: فما الخرق ؟ قال: معاداة إمامك, ومناوأة من يقدر على ضررك.
    وعن أبي عون الأنصاري قال: ما تكلم الناس بكلمة صعبة, إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها, تجرى مجراها.

    وقال الحسن: المؤمن وقاف متأن, وليس حاطب ليل.
    فهذا ثناء أهل العلم على الرفق, وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال, وأغلب الأمور, والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور, وإنما الكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف, فيعطى كل أمر حقه, فإن كان قاصر البصيرة, أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع, فليكن ميله إلى الرفق, فإن النجح معه في الأكثر.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •