الباب الأول
وفيه مباحث
1ـ معنى الوسيلة.
2ـ تخريج الآثار والأخبار
التي استدل بها كاتب "المفاهيم".
3ـ رد استدلالات الكاتب بما ساقه من آثار.
الباب الأول
وفيه مباحث
1ـ معنى الوسيلة.
2ـ تخريج الآثار والأخبار
التي استدل بها كاتب "المفاهيم".
3ـ رد استدلالات الكاتب بما ساقه من آثار.
قال (ص45):
(الوسيلة: كل ما جعله الله سببا في الزلفى عنده،
ووصلة إلى قضاء الحوائج منه.
والمدار فيها
على أن يكون
للوسيلة قدر وحرمة
عند المتوسل إليه ) ا هـ.
أقول: كلامه حوى جملتين
الأولى من الحق،
والثانية فيها إجمال
به يتوصل إلى
ما نهى الله عنه،
ولم يجعله وسيلة.
فقول:
(والمدار فيها..الخ)!
مجمل يمكن تفسيره
على أحد وجهين:
الأول: أن يدخل في ذلك
ذوات الأنبياء والصالحين
باعتبار أن لهم من المنزلة
والزلفى عند الله
ما يجل عن الوصف.
فإن كان هذا معنيا،
فالله سبحانه وتعالى
لم يجعل
ذوات الأنبياء والصالحين
أو جاههم
أو حرمتهم
وسيلة إليه
ولا سببا للزلفى لديه.
وإنما جعل الوسيلة إليه
هو اتباعهم
وتصديق ما أخبروا به،
واتباع النور الذي جاءوا به،
والجهاد من أجل تقريره وتثبيته بين الخلق،
فهذا من الوسائل المشروعة
التي يشرع للداعي بمسألة أن يقدمها
بين يدي مسألته،
ولا يصح للداعي دعاء عبادة
دعاؤه إلا باتباعهم وتصديقهم.
فهذا من الوسائل المشروعة التي أمر الله بها،
وشرعها.
وأما الأنبياء والصالحون
فليس من المشروع
التوسل بذواتهم
ولا جاههم
ولا حرمتهم
كما سيأتي بيانه.
وإنما يُشرع التوسل
بدعائهم في حياتهم
كما كان يفعله المسلمون
زمنه صلى الله عليه وسلم
وبعده من طلب الدعاء
في الاستسقاء وغيره.
وأما بعد مماتهم
فليس التوسل بدعائهم
ولا ذواتهم
مشروعا
بإجماع القرون المفضلة.
الثاني:
أن تكون الوسائل
من الأعمال ونحوها مشروعة،
لم تتبع فيها سبل المبتدعة،
وإنما اتبع فيها السنة،
وهذا حق.
والكاتب أجمل
ليُدخل الوسيلة المبتدعة
في خلل كلمات الحق،
وقد بينا ما فيها،
وما كان ينبغي له ذلك
وهو يفسر آية من كتاب الله.
وفي الوسيلة قولان
ذكرهما أهل التفسير،
وقربهما ابن الجوزي في "زاد المسير"
(2/348)
قال:
( أحدهما:
أنه القربة،
قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء.
وقال قتادة:
تقربوا إليه
بما يرضيه.
قال أبو عبيدة:
يقال: توسلت إليه،
أي: تقربت إليه.
وأنشد:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصافي بيننا والوسائل
الثاني:
المحبة،
يقول:
تحببوا إلى الله.
هذا قول ابن زيد ) اهـ.
وفي أسئلة نافع بن الأزرق لابن عباس:
أخبرني عن قوله تعالى:
{ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }
[ المائدة: 35 ]،
قال:
الوسيلة الحاجة.
قال:
وهل تعرف العرب ذلك ؟
قال: نعم.
أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة
أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وفي المادة شواهد غير ما ذكر.
فالوسيلة:
التقرب إلى الله
بأنواع القُرَب والطاعات،
وأعلاها إخلاص الدين له،
والتقرب إليه بمحبته
ومحبة رسوله
ومحبة دينه
ومحبة من شُرِعَ حبه،
بهذا يُجمع ما قاله السلف،
وقولهم من اختلاف التنوع.
وتأمل قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }
[ المائدة: 35]،
ففي تقديم الجار والمجرور
{ إليه }
إفادة اختصاص
الوسائل بالله،
لا يشركه معه
فيها أحد.
كما في
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
[ الفاتحة: 5].
قال العلامة الشنقيطي
رحمه الله في"تفسيره" (2/98):
( التحقيق في معنى الوسيلة
هو ما ذهب إليه عامة العلماء
من أنها التقرب إلى الله تعالى
بالإخلاص له في العبادة
على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
وتفسير ابن عباس داخل في هذا،
لأن دعاء الله
والابتهال إليه
في طلب الحوائج
من أعظم
أنواع عبادته
التي هي الوسيلة
إلى نيل
رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق
تعلم أن ما يزعمه كثير
من ملاحدة أتباع الجهال،
المدعين للتصوف
من أن المراد بالوسيلة في الآية
الشيخ
الذي يكون له واسطة
بينه وبين ربه
أنه تخبط في الجهل والعمى،
وضلال مبين،
وتلاعب بكتاب الله تعالى.
واتخاذ الوسائط من دون الله
من أصول كفر الكفار
كما صرح به تعالى في قوله عنهم:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا
إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }
[الزمر: 3]،
وقوله:
{ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ
قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ
وَلا فِي الْأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ }
[يونس: 18].
فيجب على كل مكلف
أن يعلم أن الطريقة الموصلة
إلى رضا الله
وجنته
ورحمته
هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم،
ومن حاد عن ذلك
فقد ضل سواء السبيل
{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ
وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ
مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ }
[ النساء: 123] )
انتهى كلامه.
قال الكاتب (ص43):
( إن التوسل ليس أمرا لازماً أو ضرورياً،
وليست الإجابة متوقفة عليه،
بل الأصل
دعاء الله تعالى مطلقا،
كما قال تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّيفَإِنِّي قَرِيب }[ البقرة: 186 ] )انتهى.
أقول:إذا كان الأصل هو
دعاء الله تعالى
بلا واسطة،
فلمَ العدول عن الأصل إلى غيره،
ولا يخفى أن غير الأصل لا يتمسك به
إلا من عدم الأصل،
والله جل جلاله
حي قيوم،
لا تأخذه سنة ولا نوم،
يحب أن يدعوه عبده،
وأن يرجوه،
وأن يخافه،
وأن يتوسل إليه
بأسمائه وصفاته.
فإذا كان هذا لا ينقطع عن مسلم
في أي بقعة كان
وهو الأصل الأصيل،
فَلِمَ العدول عنه،
والتنكب له ؟!
أفتعدل إلى طريق هي أهدى ؟!.
تقولُ:
إن التوسل الذي ننكره وهو التوسل بالذوات
وعمل غير الداعي ونحوها،
ليس الأصل،
بل الأصل.
معكم
وأنتم حقيقون بالأصل.
تُقر لنا
بالهداية والاتباع،
وترغب في مخالفة الأصل
دون دليلٍ صحيح !
أما في الأصل لك كفاية ؟!
أما في
دعاء الله وحده بلا واسطة
لك مقنع ؟!
إذا كان الحي القيوم
الذي يجيب المضطر إذا دعاه
ويكشف السوء،
يحب أن
يدعوه عبده كل حين:
دعاء عبادة
أو دعاء مسألة،
وهو الذي يقول:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيب }
[ البقرة: 186]
إذا كان كذلك
فلمَ العدول إلى الأموات
تتوسل
بذواتهم
أو جاههم
أو حُرمتهم
وغيرها من
الألفاظ البدعية ؟!
لِمَ لا يُعلَّم المسلمون
دعاء الله وحده،
فتخلص قلوبهم
من الالتفات إلى غيره
في دفع كربة
أو رفع بلاء،
أو جلب نفع ؟
علموهم هذا
ولا تعلقوا قلوبهم بغير الله
فيتخذوهم أنداداً،
فيذهب ذكرهم لربهم وحده،
وحبهم له وحده،
إذ نفعهم
معلق في أذهانهم
بوسائط .
إن من انفتح عليهم باب البدعة في التوسل
ألقى بهم ولو بعد حين
إلى دائرة الإشراك،
إذ هو طريقه وسبيله
ومنه يتدرج إلى دعاء الأموات أنفسهم
أو سؤالهم
الشفاعة،
أو الإغاثة،
أو الإعانة.
وكل هذه صرَّح كاتب المفاهيم بتجويزها
في مواضع من كتابه،
كما سيأتي في مباحث الشفاعة.
وكل ذلك من سيئات ترك الأصول المتفق عليها،
واتباع المتشابهات المنهي عنها.
قال الكاتب (ص44):
( ونحن نرى أن الخلاف شكلي،
وليس بجوهري،
لأن التوسل بالذوات يرجع في الحقيقة
إلى توسل الإنسان بعمله،
وهو المتفق على جوازه ).
أقول:
هذا خَطَلٌ من القول،
ومخادعةٌ للنفس ظاهرة،
إذ المتوسلون بالذوات يعلمون
بُعْدَ هذا التبرير والتأويل،
وأن الخلاف جوهري
لا صوري،
وبرهان ذلك
فساد الدليل الذي ادعيتموه،
وهو راجع إلى المجاز العقلي،
والكلام فيه سيأتي مفصلاً،
ثم هل
عمل الذات المتوسَّل بها
عمل للمتوسِّل
المتفق على جوازه ؟
ولكنى أقول هنا
على سبيل المجاراة والمناظرة:
هب أن الخلاف شكلي.أفلا يجب عليكم
ترك الألفاظ الموهمة
لأمور غير شرعية ؟
فإن القائل:
أتوسل بفلان،
دالٌ ظاهر لفظه
على التوسل بالذات المجردةعن الجامع بين الذاتين،
ولا قرينة
لفظية
ولا غير لفظية
متصلة
ولا غير متصلة
تصرفه عن هذا الظاهر.
والقرينة المدعاة قلبية خفية،
والحكم على ما في قلوب الناس
فرع الاطلاع عليها،
ولا سبيل إلى ذلك.
ومن المتقرر أن الشريعة المطهرة
جاءت بترك الألفاظ الموهمة
لما يُنهى عنه شرعًا،
كما قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَاوَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا
وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[ البقرة: 104].
فقد كانت يهود تستعمل (راعنا) للسب،
والمسلمون حين قالوها
لا يشركونهم في ما عقدت قلوبهم عليه
من تفسير اللفظ،
ومن اليقين أن الصحابة
لم يقولوا اللفظ
وهم يعنون المعنى الفاسد،
فهذه من أقوى القرائن القلبية.
ومع هذا نُهوا عن ذلك.
قال القرطبي في " تفسيره " (2/57):
( في هذه الآية دليلان:
أحدهما:
على تجنب الألفاظ المحتملة
التي فيها التعريض للتنقيص والغض.
الدليل الثاني:
التمسك بسد الذرائع وحمايتها )
انتهى.
وقال الجصاص
في " أحكام القرآن " (1/58):
( وقوله { رَاعِنَا }
وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار،
فإنه لما احتمل الهزء
على النحو الذي كانت اليهود تطلقهنهوا عن إطلاقه،
لما فيه من احتمال
المعنى المحظور إطلاقه،
ومثله موجود في اللغة)
ثم قال:
( وهذا يدلعلى أن كل لفظ
احتمل الخير والشر
فغير جائز إطلاقه
حتى يقيد
بما يفيد الخير )
انتهى كلام الجصاص.
فتأمل
كيف أن الصحابة
استعملوا هذا اللفظ
وهم أبعد الناس
عن إرادة معنى الهزء والتنقص،
فنهاهم الله تعالى
عن ذلك اللفظ
لما فيه من الاشتراك،
ولم يكفِ في تجويز استعماله
ما قام بقلوبهم ونياتهم
من المعنى الخير الصحيح.
وهذا جليٌّ لمن تجرَّد !
قال (ص44):( ومحل الخلاف في مسألة التوسلهو التوسل بغير عمل المتوسل،كالتوسل بالذوات والأشخاص.بأن يقول اللهم إني أتوسل إليك بنبيكمحمد صلى الله عليه وسلم،أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديقأو بعمر بن الخطابأو بعثمانأو بعلي رضي الله عنهم ).
أقول:الواجب عند الاختلافالرد إلى كتاب اللهوسنة رسولهصلى الله عليه وسلموفهم أصحابه الكرامرضى الله عنهم،كما قال تعالى:{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىوَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً }
[ النساء: 115].ومسألة التوسل بالذوات،وكذا التوسل بأعمال من انقضى سعيهم،لا خلاف عند السلفمن الصحابة والتابعينأنها ليست من الدين،ولا هي سائغة في الدعاء.وبرهان ذلكأنه لم ينقل عن واحد منهمبنقل صحيح مصدقأنه توسلبأحد الخلفاء الأربعةأو العشرةأو البدريين.والعمل على وفق ما فهموه هو المُنجي
كما في فصل" السلف والسلفية،من هذا الكتاب،ومن ابتغى نهجا جديدا فهو الخَلَفي،
وليس له حظ منهم.