تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(355)
الحلقة (369)
صــ 381 إلى صــ 400
5758 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول : من بعد موسى وعيسى . [ ص: 381 ]
5759 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات " يقول : من بعد موسى وعيسى .
القول في تأويل قوله تعالى ( ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ( 253 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل ، لما لم يشأ الله منهم - تعالى ذكره - أن لا يقتتلوا ، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف ، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه ، فكفر بالله وبآياته بعضهم ، وآمن بذلك بعضهم . فأخبر - تعالى ذكره - أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته .
ثم قال - تعالى ذكره - لعباده : " ولو شاء الله ما اقتتلوا " يقول : ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم - عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا " ولكن الله يفعل ما يريد " بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه ، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه .
[ ص: 382 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون ( 254 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم ، وتصدقوا منها ، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم . وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه :
5760 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم " قال : من الزكاة والتطوع .
" من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " يقول : ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم بالنفقة منها في سبيل الله والصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها ، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة بتقديم ذلك لأنفسكم ، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه ، بما ندبتكم إليه ، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه " يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه ، يقول : لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه - بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها بما أمرتكم به أو ندبتكم إليه - في الدنيا قادرين ؛ لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب ، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية ، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ أو [ ص: 383 ] بالعمل بطاعة الله سبيل .
ثم أعلمهم - تعالى ذكره - أن ذلك اليوم - مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضا الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به - يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا ، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء ، والمظاهرة له على ذلك . فآيسهم - تعالى ذكره - أيضا من ذلك ؛ لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله ، بل ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) كما قال الله - تعالى ذكره - وأخبرهم - أيضا - أنهم يومئذ - مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم ، والعمل بأبدانهم ، وعدمهم النصراء من الخلان ، والظهراء من الإخوان - لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا ، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة ، وغير ذلك من الأسباب ، فبطل ذلك كله يومئذ ، كما أخبر - تعالى ذكره - عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها : ( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) [ الشعراء : 100 - 101 ]
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص ، وإنما معناه : " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " لأهل الكفر بالله ؛ لأن أهل [ ص: 384 ] ولاية الله والإيمان به يشفع بعضهم لبعض . وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وكان قتادة يقول في ذلك بما : -
5761 - حدثنا به بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا ، ويشفع بعضهم لبعض ، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين .
وأما قوله : " والكافرون هم الظالمون " فإنه يعني - تعالى ذكره - بذلك : والجاحدون لله المكذبون به وبرسله " هم الظالمون " يقول : هم الواضعون جحودهم في غير موضعه ، والفاعلون غير ما لهم فعله ، والقائلون ما ليس لهم قوله .
وقد دللنا على معنى " الظلم " بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
قال أبو جعفر : وفي قوله - تعالى ذكره - في هذا الموضع : " والكافرون هم الظالمون " دلالة واضحة على صحة ما قلناه ، وأن قوله : " ولا خلة ولا شفاعة " إنما هو مراد به أهل الكفر ، فلذلك أتبع قوله ذلك : " والكافرون هم الظالمون " . فدل بذلك على أن معنى ذلك : حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء ، والشفاعة من الأولياء والأقرباء ، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين ، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا ، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم . [ ص: 385 ]
فإن قال قائل : وكيف صرف الوعيد إلى الكفار ، والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان ؟
قيل له : إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس : أحدهما أهل كفر ، والآخر أهل إيمان ، وذلك قوله : " ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " . ثم عقب الله - تعالى ذكره - الصنفين بما ذكرهم به بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به ، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته . وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به ، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ، ونفقتهم في الصد عن سبيله ، فقال - تعالى ذكره - : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي ، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني ، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي . وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم ، وهم الظالمون أنفسهم دوني ؛ لأني غير ظلام لعبيدي . وقد : -
5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم قال : حدثني عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت عمر بن سليمان يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : " والكافرون هم الظالمون " ولم يقل : " الظالمون هم الكافرون " .
[ ص: 386 ] القول في تأويل قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله : " الله " .
وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو " فإن معناه : النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه - تعالى ذكره - في هذه الآية . يقول : " الله " الذي له عبادة الخلق " الحي القيوم " لا إله سواه ، لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سنة ولا نوم ، والذي صفته ما وصف في هذه الآية .
وهذه الآية إبانة من الله - تعالى ذكره - للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا - تعالى ذكره - أنه فضل بعضهم على بعض واختلفوا فيه ، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض ، وإيمانا به من بعض . فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ، ووفقنا للإقرار .
وأما قوله : " الحي " فإنه يعني : الذي له الحياة الدائمة ، والبقاء الذي لا أول له بحد ، ولا آخر له بأمد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا [ ص: 387 ] فلحياته أول محدود ، وآخر ممدود ، ينقطع بانقطاع أمدها ، وينقضي بانقضاء غايتها .
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5763 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " الحي " حي لا يموت .
5764 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .
قال أبو جعفر : وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : إنما سمى الله نفسه " حيا " لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها ، فهو حي بالتدبير لا بحياة .
وقال آخرون : بل هو حي بحياة هي له صفة .
وقال آخرون : بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره . [ ص: 388 ]
وأما قوله : " القيوم " فإنه " الفيعول " من " القيام " وأصله " القيووم " : سبق عين الفعل ، وهي " واو " " ياء " ساكنة ، فأدغمتا فصارتا " ياء " مشددة .
وكذلك تفعل العرب في كل " واو " كانت للفعل عينا ، سبقتها " ياء " ساكنة . ومعنى قوله : " القيوم " القائم برزق ما خلق وحفظه ، كما قال أمية :
لم تخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يعوم قدره المهيمن القيوم
والجسر والجنة والجحيم إلا لأمر شأنه عظيم
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5765 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " القيوم " قال : القائم على كل شيء .
5766 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " القيوم " قيم كل شيء ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه .
5767 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " القيوم " وهو القائم . [ ص: 389 ]
5768 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : " الحي القيوم " قال : القائم الدائم .
القول في تأويل قوله تعالى ( لا تأخذه سنة ولا نوم )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " لا تأخذه سنة " لا يأخذه نعاس فينعس ، ولا نوم فيستثقل نوما .
" والوسن " خثورة النوم ، ومنه قول عدي بن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
[ ص: 390 ]
ومن الدليل على ما قلنا من أنها خثورة النوم في عين الإنسان ، قول الأعشى ميمون بن قيس :
تعاطي الضجيع إذا أقبلت بعيد النعاس وقبل الوسن
وقال آخر :
باكرتها الأغراب في سنة النو م فتجري خلال شوك السيال
[ ص: 391 ]
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها ، يقال منه : " وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان " إذا كان كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5769 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : " لا تأخذه سنة " قال : السنة : النعاس ، والنوم : هو النوم .
5770 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تأخذه سنة " السنة : النعاس .
5771 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : " لا تأخذه سنة " قالا نعسة .
5772 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : السنة : الوسنة ، وهو دون النوم ، والنوم : الاستثقال ،
5773 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن [ ص: 392 ] جويبر ، عن الضحاك : " لا تأخذه سنة ولا نوم " السنة : النعاس ، والنوم : الاستثقال .
5774 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك مثله سواء .
5775 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا تأخذه سنة ولا نوم " أما " سنة " فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان .
5776 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : " السنة " الوسنان بين النائم واليقظان .
5777 - حدثني عباس بن أبي طالب قال : حدثنا منجاب بن الحرث قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع : " لا تأخذه سنة " قال : النعاس .
5778 - حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " قال : " الوسنان " : الذي يقوم من النوم لا يعقل ، حتى [ ص: 393 ] ربما أخذ السيف على أهله .
قال أبو جعفر : وإنما عنى - تعالى ذكره - بقوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " لا تحله الآفات ، ولا تناله العاهات . وذلك أن " السنة " " والنوم " معنيان يغمران فهم ذي الفهم ، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه .
فتأويل الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا - : " الله لا إله إلا هو الحي " الذي لا يموت " القيوم " على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال " لا تأخذه سنة ولا نوم " لا يغيره ما يغير غيره ، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام ، بل هو الدائم على حال ، والقيوم على جميع الأنام ، لو نام كان مغلوبا مقهورا ؛ لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السماوات والأرض وما فيهما دكا ؛ لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته ، والنوم شاغل المدبر عن التدبير ، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه كما :
5779 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : أخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : " لا تأخذه سنة ولا نوم " أن موسى سأل الملائكة : هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة ، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام . ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يديه ، [ ص: 394 ] في كل يد واحدة . قال : فجعل ينعس وينتبه ، وينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما . قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله ، يقول : فكذلك السماوات والأرض في يديه .
5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن موسى - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ، قال : وقع في نفس موسى : هل ينام الله - تعالى ذكره - ؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، أمره أن يحتفظ بهما . قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى ، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان . قال : ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض .
[ ص: 395 ] القول في تأويل قوله تعالى ( له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " له ما في السماوات وما في الأرض " أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد ، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود .
وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ؛ لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه ، وليس له خدمة غيره إلا بأمره . يقول : فجميع ما في السماوات والأرض ملكي وخلقي ، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه ؛ لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه ، ولا يطيع سوى مولاه .
وأما قوله : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " يعني بذلك : من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه ، ويأذن له بالشفاعة لهم . وإنما قال ذلك - تعالى ذكره - لأن المشركين قالوا : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ! فقال الله - تعالى ذكره - لهم : لي ما في السماوات وما في الأرض مع السماوات والأرض ملكا ، فلا ينبغي العبادة لغيري ، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى ، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا ، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي .
[ ص: 396 ] القول في تأويل قوله تعالى ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما ، لا يخفى عليه شيء منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5781 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : " يعلم ما بين أيديهم " الدنيا " وما خلفهم " الآخرة .
5782 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " يعلم ما بين أيديهم " ما مضى من الدنيا " وما خلفهم " من الآخرة .
5783 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال ابن جريج قوله : " يعلم ما بين أيديهم " ما مضى أمامهم من الدنيا " وما خلفهم " ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة .
5784 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " يعلم ما بين أيديهم " قال : [ وأما ] " ما بين أيديهم " فالدنيا " وما خلفهم " فالآخرة .
وأما قوله : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " فإنه يعني - تعالى ذكره - : أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء ، محيط بذلك كله ، [ ص: 397 ] محص له دون سائر من دونه وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه ، فأراد فعلمه ، وإنما يعني بذلك : أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا ألبتة من وثن وصنم ؟ ! يقول : أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها ، يعلمها ، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
5786 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا يحيطون بشيء من علمه " يقول : لا يعلمون بشيء من علمه " إلا بما شاء " هو أن يعلمهم .
القول في تأويل قوله تعالى ( وسع كرسيه السماوات والأرض )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى " الكرسي " الذي أخبر الله - تعالى ذكره - في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض .
فقال بعضهم : هو علم الله - تعالى ذكره - .
ذكر من قال ذلك :
5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " وسع كرسيه " قال : كرسيه علمه .
5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا مطرف ، [ ص: 398 ] عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله . وزاد فيه : ألا ترى إلى قوله : " ولا يئوده حفظهما " ؟
وقال آخرون : " الكرسي " : موضع القدمين .
ذكر من قال ذلك :
5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني أبي ، قال : حدثني محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي موسى قال : الكرسي : موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل .
5790 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " وسع كرسيه السماوات والأرض " فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه .
5791 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش ، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم .
5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين قال : الكرسي : موضع القدمين . [ ص: 399 ]
5793 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال : لما نزلت : " وسع كرسيه السموات والأرض " قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض ، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) إلى قوله : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) [ الزمر : 67 ] .
5794 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال ابن زيد : فحدثني أبي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض .
وقال آخرون : الكرسي : هو العرش نفسه .
ذكر من قال ذلك :
5795 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : كان الحسن يقول : الكرسي هو العرش .
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب ، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما : - [ ص: 400 ]
5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني قال : حدثنا عبيد الله بن موسى قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ! فعظم الرب - تعالى ذكره - ثم قال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع - ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد ، إذا ركب من ثقله " .
5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه .