تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 18 الأولىالأولى ... 789101112131415161718 الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 345

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الاعراف
    المجلد الثامن
    الحلقة( 317)

    من صــ 451 الى صـ 465





    وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير - لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 285 - 286].
    وأمته لا يستحلون أن يأخذوا شيئا من الدين من غير ما جاء به، ولا يبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
    لكن ما قصه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم اعتبروا به، وما حدثهم أهل الكتاب، موافقا لما عندهم، صدقوه، وما لم يعلموا صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا أنه باطل كذبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند أو الفرس أو اليونان أو غيرهم، كان - عندهم - من أهل الإلحاد والابتداع، وهذا هو الدين الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون، وهو الذي عليه أئمة الدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامتهم، ومن خرج عن ذلك كان مذموما مدحورا عند الجماعة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة الظاهرون إلى قيام الساعة، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة».
    وقد تنازع بعض المسلمين، مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عموما، ودين محمد خصوصا.
    ومن خالف في هذا الأصل كان - عندهم - ملحدا مذموما، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينا قام به أكابر علمائهم وعبادهم، وقاتل عليه ملوكهم، ودان به جمهورهم، وهو دين مبتدع ليس هو دين المسيح، ولا دين غيره من الأنبياء.
    والله - سبحانه وتعالى - أرسل رسله بالعلم النافع والعمل الصالح، فمن اتبع الرسل، حصل له سعادة الدنيا والآخرة. وإنما دخل في البدع من قصر في اتباع الأنبياء علما وعملا.
    ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق تلقى ذلك عنه المسلمون أمته.
    فكل علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذوه عن نبيهم، مع ما يظهر لكل عاقل: أن أمته أكمل الأمم في جميع الفضائل العلمية والعملية، ومعلوم أن كل كمال في الفرع المتعلم هو من الأصل المعلم، وهذا يقتضي أنه كان أكمل الناس علما ودينا، وهذه الأمور توجب العلم الضروري بأنه كان صادقا في قوله:
    {إني رسول الله إليكم جميعا} [الأعراف: 158].

    لم يكن كاذبا مفتريا، فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو من خيار الناس وأكملهم إن كان صادقا، أو هو من شر الناس وأخبثهم إن كان كاذبا.
    وما ذكر من كمال علمه ودينه، يناقض الشر والخبث والجهل، فتعين أنه متصف بغاية الكمال في العلم والدين، وهذا يستلزم أنه كان صادقا في قوله:
    {إني رسول الله} [الأعراف: 158].
    لأن الذي لم يكن صادقا: إما أن يكون متعمدا للكذب، أو مخطئا، والأول: يوجب أنه كان ظالما غاويا، والثاني: يقتضي أنه كان جاهلا ضالا، وكمال علمه ينافي جهله، وكمال دينه ينافي تعمد الكذب. فالعلم بصفاته يستلزم العلم بأنه لم يكن متعمدا للكذب، ولم يكن جاهلا يكذب بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك تعين أنه كان صادقا عالما بأنه صادق ; ولهذا نزهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى:
    {والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى - وما ينطق عن الهوى - إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 1 - 4].
    وقال تعالى عن الملك الذي جاء به:
    {إنه لقول رسول كريم - ذي قوة عند ذي العرش مكين - مطاع ثم أمين} [التكوير: 19 - 21].
    ، ثم قال عنه:
    {وما صاحبكم بمجنون - ولقد رآه بالأفق المبين - وما هو على الغيب بضنين} [التكوير: 22 - 24].
    أي: بمتهم أو بخيل، كالذي لا يعلم إلا بجعل، أو لمن يكرمه:{وما هو بقول شيطان رجيم - فأين تذهبون - إن هو إلا ذكر للعالمين} [التكوير: 25 - 27].
    وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين - نزل به الروح الأمين - على قلبك لتكون من المنذرين - بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 - 195].
    إلى قوله:

    {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - تنزل على كل أفاك أثيم - يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [الشعراء: 221 - 223].
    بين سبحانه أن الشيطان إنما ينزل على من يناسبه ليحصل به غرضه، فإن الشيطان يقصد الشر: وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذب، إما عمدا وإما خطأ، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضا، كما قال ابن مسعود - لما سئل عن مسألة -: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه ".
    فالرسول بريء من تنزل الشيطان عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول، فإنه قد يخطئ، ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورا له، فإذا لم يعرف له خبر أخبر به كان فيه مخطئا، ولا أمر أمر به كان فيه فاجرا، علم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه ملك كريم ; ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي:
    {إنه لقول رسول كريم - وما هو بقول شاعر - قليلا ما تؤمنون - ولا بقول كاهن - قليلا ما تذكرون - تنزيل من رب العالمين} [الحاقة: 40 - 43].
    (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163)
    (فصل في أن الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    " الإيجاب والتحريم " قد يكون نعمة؛ وقد يكون عقوبة؛ وقد يكون محنة. فالأول كإيجاب الإيمان والمعروف؛ وتحريم الكفر والمنكر وهو الذي أثبته القائلون بالحسن والقبح العقليين والعقوبة كقوله: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} إلى قوله: {ذلك جزيناهم ببغيهم} وقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} فسماها آصارا وأغلالا والآصار في الإيجاب والأغلال في التحريم. وقوله: {ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} ويشهد له قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فإن هذا النفي العام ينفي كل ما يسمى حرجا،والحرج: الضيق فما أوجب الله ما يضيق؛ ولا حرم ما يضيق وضده السعة والحرج مثل الغل وهو: الذي لا يمكنه الخروج منه مع حاجته إلى الخروج وأما المحنة فمثل قوله: {إن الله مبتليكم بنهر} الآية. ثم ذلك قد يكون بإنزال الخطاب وهذا لا يكون إلا في زمن الأنبياء وقد انقطع. وقد يكون بإظهار الخطاب لمن لم يكن سمعه؛ ثم سمعه وقد يكون باعتقاد نزول الخطاب أو معناه وإن كان اعتقادا مخطئا لأن الحكم الظاهر تابع لاعتقاد المكلف. فالتكليف الشرعي إما أن يكون باطنا وظاهرا؛ مثل الذي تيقن أنه منزل من عند الله. وإما أن يكون ظاهرا؛ مثل الذي يعتقد أن حكم الله هو الإيجاب أو التحريم؛ إما اجتهادا وإما تقليدا وإما جهلا مركبا بأن نصب سبب يدل على ذلك ظاهرا دون ما يعارضه تكليف ظاهر؛ إذ المجتهد المخطئ مصيب في الظاهر لما أمر به؛ وهو مطيع في ذلك هذا من جهة الشرع وقد يكون من جهة الكون بأن يخلق سبحانه ما يقتضي وجود التحريم الثابت بالخطاب والوجوب الثابت بالخطاب كقوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} فأخبر أنه بلاهم بفسقهم حيث أتى بالحيتان يوم التحريم ومنعها يوم الإباحة. كما يؤتى المحرم المبتلى بالصيد يوم إحرامه. ولا يؤتى به يوم حله؛ أو يؤتى بمن يعامله ربا ولا يؤتى بمن يعامله بيعا. ومن ذلك مجيء الإباحة والإسقاط نعمة وهذا كثير كقوله: {الآن خفف الله عنكم} وقد تقدم نظائرها.
    (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172)
    [فصل البرهان التاسع والثلاثون " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي.: " البرهان التاسع والثلاثون: قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [سورة الأعراف: 172] في. كتاب " الفردوس "
    لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد. قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} [سورة الأعراف: 172]. قالت الملائكة: بلى، فقال - تبارك وتعالى - أنا ربكم، ومحمد نبيكم، وعلي أميركم». وهو صريح في الباب ".

    والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة، والمطالبة بتقريرها. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب " الفردوس " لا تدل على أن الحديث صحيح، فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة * وأحاديث موضوعة، وإن كان من أهل العلم والدين، ولم يكن ممن يكذب هو، لكنه نقل ما في كتب الناس، والكتب *. فيها الصدق والكذب، ففعل. كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث: إما بالأسانيد، وإما محذوفة الأسانيد.
    الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. .
    الثالث: أن الذي في القرآن أنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير، وفيه قوله: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [سورة الأعراف: 173]. فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ; ليس فيه ميثاق النبوة ; فكيف ما دونها؟.
    الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا، التي في المسند والسنن والموطأ. وكتب التفسير وغيرها، ليس فيها شيء من هذا. ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس، وينفرد به من لا يعرف صدقه، بل يعرف أنه كذب.
    الخامس: أن الميثاق أخذ على جميع الذرية، فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم، من نوح إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كلام المجانين ; فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا، فكيف يكون أميرا عليهم؟.
    وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه. أما الإمارة على من خلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول. .
    ومن العجب أن هذا الحمار الرافضي الذي. هو أحمر من عقلاء اليهود، الذين قال الله فيهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} [سورة الجمعة: 5]. والعامة معذورون في

    قولهم: الرافضي حمار اليهودي، وذلك أن عقلاء اليهود يعلمون أن هذا ممتنع عقلا وشرعا، وأن هذا كما يقال: خر عليهم السقف من تحتهم فيقال.: لا عقل ولا قرآن.
    وكذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم.، وإنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين، وأن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمان والمرتبة، وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة. الذين يقولون إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، الذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة 206. فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوي الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
    ثم إن هذا الحمار الرافضي يقول: " وهو صريح في الباب " فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب؟ أو يحتج بهذا من يستحق.
    أو يؤهل للخطاب؟ فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة وتضليلهم وتكفيرهم وتجهيلهم؟.
    ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين - لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله.
    (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
    وسئل:
    عمن قال: لا يجوز الدعاء إلا بالتسعة والتسعين اسما ولا يقول: يا حنان يا منان ولا يقول: يا دليل الحائرين فهل له أن يقول ذلك؟.
    فأجاب:
    الحمد لله، هذا القول وإن كان قد قاله طائفة من المتأخرين كأبي محمد بن حزم وغيره؛ فإن جمهور العلماء على خلافه وعلى ذلك مضى سلف الأمة وأئمتها وهو الصواب لوجوه.
    أحدها أن التسعة والتسعين اسما لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث وفيها حديث ثان أضعف من هذا. رواه ابن ماجه. وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف. وهذا القائل الذي حصر أسماء الله في تسعة وتسعين لم يمكنه استخراجها من القرآن وإذا لم يقم على تعيينها دليل يجب القول به لم يمكن أن يقال هي التي يجوز الدعاء بها دون غيرها؛ لأنه لا سبيل إلى تمييز المأمور من المحظور فكل اسم يجهل حاله يمكن أن يكون من المأمور ويمكن أن يكون من المحظور وإن قيل: لا تدعوا إلا باسم له ذكر في الكتاب والسنة. قيل: هذا أكثر من تسعة وتسعين.

    الوجه الثاني: أنه إذا قيل تعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث مثل اسم " الرب " فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم كقول آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا}. وقول نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} وقول إبراهيم: {ربنا اغفر لي ولوالدي} وقول موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقول المسيح: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} وأمثال ذلك.
    حتى أنه يذكر عن مالك وغيره أنهم كرهوا أن يقال يا سيدي بل يقال: يا رب لأنه دعاء النبيين وغيرهم كما ذكر الله في القرآن. وكذلك اسم " المنان " ففي الحديث الذي رواه أهل السنن {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع داعيا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الملك أنت الله المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى} وهذا رد لقول من زعم أنه لا يمكن في أسمائه المنان. وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - لرجل ودعه قل: يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين واجعلني من عبادك الصالحين.





  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الاعراف
    المجلد الثامن
    الحلقة( 318)

    من صــ 466 الى صـ 480






    وقد أنكر طائفة من أهل الكلام: كالقاضي أبي بكر وأبي الوفاء ابن عقيل أن يكون من أسمائه الدليل؛ لأنهم ظنوا أن الدليل هو الدلالة التي يستدل بها والصواب ما عليه الجمهور؛ لأن الدليل في الأصل هو المعرف للمدلول ولو كان الدليل ما يستدل به فالعبد يستدل به أيضا فهو دليل من الوجهين جميعا.
    وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله وتر يحب الوتر}. وليس هذا الاسم في هذه التسعة والتسعين وثبت عنه في الصحيح أنه " قال: {إن الله جميل يحب الجمال} وليس هو فيها وفي الترمذي وغيره أنه قال: {إن الله نظيف يحب النظافة} وليس هذا فيها وفي الصحيح عنه أنه قال: {إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا} وليس هذا فيها. وتتبع هذا يطول. ولفظ التسعة والتسعين المشهورة عند الناس في الترمذي: الله. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الحبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي القيوم. الواجد. الماجد. الأحد - ويروى الواحد - الصمد القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرءوف. مالك الملك ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المعطي. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور.
    الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ". ومن أسمائه التي ليست في هذه التسعة والتسعين اسمه: السبوح وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {سبوح قدوس} واسمه " الشافي " كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: {أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقما} وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين وخير الغافرين ورب العالمين ومالك يوم الدين وأحسن الخالقين وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومقلب القلوب وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين وليس من هذه التسعة والتسعين. الوجه الثالث: ما احتج به الخطابي وغيره وهو حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك.
    أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم في الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وشفاء صدري وجلاء حزني وذهاب غمي وهمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن} رواه الإمام أحمد في المسند وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه. قال الخطابي وغيره: فهذا يدل على أن له أسماء استأثر بها وذلك يدل على أن قوله: {إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة} أن في أسمائه تسعة وتسعين من أحصاها دخل الجنة كما يقول القائل: إن لي ألف درهم أعددتها للصدقة وإن كان ماله أكثر من ذلك. والله في القرآن قال: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} فأمر أن يدعى بأسمائه الحسنى مطلقا ولم يقل: ليست أسماؤه الحسنى إلا تسعة وتسعين اسما والحديث قد سلم معناه والله أعلم.
    (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)
    فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} من أموالهم. هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين.
    وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير
    ما يحب أو ما يكره. فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به ولا يطالبهم بزيادة. وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم وأما هو فيأمرهم بالمعروف. وهذا باب واسع.
    (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)
    إن " المتقين " كما وصفهم الله بقوله: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} فإذا طاف بقلوبهم طائف من الشيطان تذكروا فيبصرون.
    قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله؛ فيكظم الغيظ. وقال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات فإذا أبصر رجع.
    ثم قال: {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}. أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات. ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في غي والشيطان يمده في غيه. وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب. فذلك النور والإبصار. وتلك الخشية والخوف يخرج من قلبه. وهذا: كما أن الإنسان يغمض عينيه فلا يرى شيئا وإن لم يكن أعمى؛ فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق. وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وهكذا جاء في الآثار: قال أحمد بن حنبل في كتاب (الإيمان): حدثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ينزع منه الإيمان؛ فإن تاب أعيد إليه}. وقال: حدثنا يحيى عن عوف قال: قال الحسن: " يجانبه الإيمان ما دام كذلك فإن راجع راجعه الإيمان ". وقال أحمد: حدثنا معاوية عن أبي إسحاق عن الأوزاعي قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث - {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه.
    وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. عن سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده رده وإن شاء أن يمنعه منعه. وقال أبو داود السجستاني: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية بن الوليد حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي أنه أخبره {عن أبي هريرة أنه كان يقول: إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويقلعه أخرى} وكذلك رواه بإسناده عن عمر وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وفي حديث عن أبي هريرة مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم {إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان}. وهذا (إن شاء الله) يبسط في موضع آخر.
    (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
    أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص. ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد وهذا قول جمهور السلف والخلف وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه وهو أحد قولي الشافعي واختاره طائفة من محققي أصحابه وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
    وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات.
    ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد.
    وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
    (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    فصل:
    قال الله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال} فأمر بذكر الله في نفسه فقد يقال: هو ذكره في قلبه بلا لسانه؛ لقوله بعد ذلك: {ودون الجهر من القول} وقد يقال وهو أصح: بل ذكر الله في نفسه باللسان مع القلب وقوله: {ودون الجهر من القول} كقوله: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}. وفي الصحيح عن عائشة قالت نزلت في الدعاء. وفي الصحيح عن {ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن أنزل عليه فقال الله: لا تجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت به عن أصحابك فلا يسمعوه}. فنهاه عن الجهر والمخافتة. فالمخافتة هي ذكره في نفسه والجهر المنهي عنه هو الجهر المذكور في قوله: {ودون الجهر}
    لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما. وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها وهذا خلاف إذا لم يسمع فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه فقراءة يثاب عليها خيرا من حديث نفس لا ثواب عليه. وبسط هذا له موضع آخر.
    فإن الجهر هو الإظهار الشديد يقال: رجل جهوري الصوت ورجل جهير. وكذلك قول عائشة في الدعاء فإن الدعاء كما قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} وقال: {إذ نادى ربه نداء خفيا} فالإخفاء قد يكون بصوت يسمعه القريب وهو المناجاة والجهر مثل المناداة المطلقة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم {لما رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير فقال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} " ونظير قوله: {واذكر ربك في نفسك} قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه
    " {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} " وهذا يدخل فيه ذكره باللسان في نفسه فإنه جعله قسيم الذكر في الملأ وهو نظير قوله: {ودون الجهر من القول} والدليل على ذلك أنه قال: {بالغدو والآصال} ومعلوم أن ذكر الله المشروع بالغدو والآصال في الصلاة وخارج الصلاة هو باللسان مع القلب مثل صلاتي الفجر والعصر والذكر المشروع عقب الصلاتين وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه وفعله من الأذكار والأدعية المأثورة من عمل اليوم والليلة المشروعة طرفي النهار بالغدو والآصال. وقد يدخل في ذلك أيضا ذكر الله بالقلب فقط؛ لكن يكون الذكر في النفس كاملا وغير كامل؛ فالكامل باللسان مع القلب وغير الكامل بالقلب فقط.
    ويشبه ذلك قوله تعالى {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} فإن القائلين بأن الكلام المطلق كلام النفس استدلوا بهذه الآية وأجاب عنها أصحابنا وغيرهم بجوابين: " أحدهما " أنهم قالوا بألسنتهم قولا خفيا.
    و " الثاني " أنه قيده بالنفس وإذا قيد القول بالنفس فإن دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق. وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به} " فقوله حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به دليل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق وأنه ليس باللسان. وقد احتج بعض هؤلاء بقوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور} وجعلوا القول المسر في القلب دون اللسان؛ لقوله: {إنه عليم بذات الصدور} وهذه حجة ضعيفة جدا؛ لأن قوله: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} يبين أن القول يسر به تارة ويجهر به أخرى وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة. وقوله بعد ذلك: {إنه عليم بذات الصدور} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى. ونظيره قوله: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}.
    (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وأما " سجود التلاوة " فهو خضوع لله وكان ابن عمر وغيره يسجدون على غير وضوء وعن عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة قال: تومئ برأسها وكذلك قال سعيد بن المسيب " قال: ويقول: اللهم لك سجدت. وقال الشعبي: من سمع السجدة وهو على غير وضوء يسجد حيث كان وجهه وقد سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ففعله الكافر والمسلم وسجد سحرة فرعون. وعلى هذا فليس بداخل في مسمى الصلاة.
    ولكن سجدتا السجود يشبهان صلاة الجنازة فإنها قيام مجرد لكن هي صلاة فيها تحريم وتحليل؛ ولهذا كان الصحابة يتطهرون لها ورخص ابن عباس في التيمم لها إذا خشي الفوات وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وهي كسجدتي السهو يشترط لها استقبال الكعبة والاصطفاف كما في الصلاة والمؤتم فيه تبع للإمام لا يكبر قبله ولا يسلم قبله كما في الصلاة؛ بخلاف سجود التلاوة فإنه عند كثير من أهل العلم يسجد وإن لم يسجد القارئ. والحديث الذي يروى {إنك إمامنا فلو سجدت لسجدنا} من مراسيل عطاء وهو من أضعف المراسيل قاله أحمد وغيره ومن قال: إنه لا يسجد إلا إذا سجد لم يجعله مؤتما به من كل وجه فلا يشترط أن يكون المستمعون يسجدون جميعا صفا كما يسجدون خلف الإمام للسهو ولا يشترط أن يكون الإمام إمامه كما في الصلاة وللمأموم أن يرفع قبل إمامه فعلم أنه ليس بمؤتم به في صلاة وإن قيل: إنه مؤتم به في غير صلاة كائتمام المؤمن على الدعاء بالداعي وائتمام المستمع بالقارئ.
    وقال شيخ الإسلام:

    فصل: في " سجود القرآن "
    وهو نوعان: خبر عن أهل السجود ومدح لهم أو أمر به وذم على تركه. فالأول سجدة الأعراف {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر. وفي الرعد {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} وفي النحل {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون} {ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون}{يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} وفي سبحان: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
    وكذلك في مريم {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلى عليهم القرآن يسجدون. وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة وكقوله {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} وإن كان المراد به الركوع. فالسجود هو خضوع له وذل له؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر: ترى الأكم فيها سجدا للحوافر. قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:ساجد المنخر ما يرفعه ... خاشع الطرف أصم المسمع
    قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا. وفي " سورة الحج " الأولى خبر: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} والثانية أمر مقرون بالركوع ولهذا صار فيها نزاع. وسجدة الفرقان: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد ليس هو مدحا. وكذلك سجدة " النمل ": {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله ولم يسجد لله. ومن قرأ ألا يا اسجدوا. كانت أمرا.

    وفي " الم تنزيل السجدة " {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص؛ فإنه نفى الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها. وفي " ص " خبر عن سجدة داود وسماها ركوعا. و " حم تنزيل " أمر صريح: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون}. و " النجم " أمر صريح: {فاسجدوا لله واعبدوا} و " الانشقاق " أمر صريح عند سماع القرآن {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}. و " {اقرأ باسم ربك الذي خلق} " أمر مطلق: {واسجد واقترب} فالستة الأول إلى الأولى من الحج خبر ومدح. والتسع البواقي من الثانية من الحج أمر وذم لمن لم يسجد إلا " ص " فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة.





  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد الثامن
    الحلقة( 319)

    من صــ 481 الى صـ 495



    قيل: يجب " وقيل لا يجب " وقيل يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة وهو رواية عن أحمد والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة كالثانية من الحج والفرقان واقرأ وهذا ضعيف فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها. وإذا كان سامعا لها فقد ذكر بها. وكذلك " سورة الانشقاق " {فما لهم لا يؤمنون} {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} وهذا ذم لمن لا يسجد إذا قرئ عليه القرآن كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم} {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}.
    وكذلك " سورة النجم " قوله: {أفمن هذا الحديث تعجبون} {وتضحكون ولا تبكون} {وأنتم سامدون} {فاسجدوا لله واعبدوا} أمر بالغا عقب ذكر الحديث الذي هو القرآن يقتضي أن سماعه سبب الأمر بالسجود لكن السجود المأمور به عند سماع القرآن كما أنه ليس مختصا بسجود الصلاة فليس هو مختصا بسجود التلاوة فمن ظن هذا أو هذا فقد غلط بل هو متناول لهما جميعا كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه.
    فالسجود عند سماع آية السجدة هو سجود مجرد عند سماع آية السجدة سواء تليت مع سائر القرآن أو وحدها ليس هو سجودا عند تلاوة مطلق القرآن فهو سجود عند جنس القرآن. وعند خصوص الأمر بالسجود فالأمر يتناوله. وهو أيضا متناول لسجود القرآن أيضا وهو أبلغ فإنه سبحانه وتعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه وهو لا يستكبر. ومعلوم أن قوله: {بآياتنا} ليس يعني بها آيات السجود فقط بل جميع القرآن فلا بد أن يكون إذا ذكر بجميع آيات القرآن يخر ساجدا وهذا حال المصلي فإنه يذكر بآيات الله بقراءة الإمام والإمام يذكر بقراءة نفسه فلا يكونون مؤمنين حتى يخروا سجدا وهو سجودهم في الصلاة وهو سجود مرتب ينتقلون أولا إلى الركوع ثم إلى السجود والسجود مثنى كما بينه الرسول ليجتمع فيه خروران: خرور من قيام وهو السجدة الأولى وخرور من قعود وهو السجدة الثانية. وهذا مما يستدل به على وجوب قعدة الفصل والطمأنينة فيها كما مضت به السنة؛ فإن الخرور ساجدا لا يكون إلا من قعود أو قيام. وإذا فصل بين السجدتين كحد السيف أو كان إلى القعود أقرب لم يكن هذا خرورا. ولكن الذي جوزه ظن أن السجود يحصل بوضع الرأس على الأرض كيف ما كان. وليس كذلك. بل هو مأمور به كما قال: {إذا ذكروا بها خروا سجدا} ولم يقل: سجدوا. فالخرور مأمور به كما ذكره في هذه الآية ونفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة كما أن وضع الجبهة على الأرض عبادة مقصودة.
    يدل على ذلك قوله تعالى {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا} {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا} فمدح هؤلاء وأثنى عليهم بخرورهم للأذقان أي على الأذقان سجدا. والثاني بخرورهم للأذقان: أي عليها يبكون. فتبين أن نفس الخرور على الذقن عبادة مقصودة يحبها الله وليس المراد بالخرور إلصاق الذقن بالأرض كما تلصق الجبهة والخرور على الذقن هو مبدأ الركوع والسجود منتهاه فإن الساجد يسجد على جبهته لا على ذقنه لكنه يخر على ذقنه والذقن آخر حد الوجه وهو أسفل شيء منه وأقربه إلى الأرض.
    فالذي يخر على ذقنه يخر وجهه ورأسه خضوعا لله. ومن حينئذ قد شرع في السجود فكما أن وضع الجبهة هو آخر السجود فالخرور على الذقن أول السجود وتمام الخرور أن يكون من قيام أو قعود وقد روي عن ابن عباس {يخرون للأذقان} أي للوجوه. قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم إنما يخر لوجهه والذقن مجتمع اللحيين وهو غضروف أعضاء الوجه. فإذا ابتدأ يخر فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن.
    وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه فلذلك قال: {للأذقان} ويجوز أن يكون المعنى يخرون للوجوه فاكتفى بالذقن من الوجه. كما يكتفي بالبعض من الكل. وبالنوع من الجنس. قلت: والذي يخر على الذقن لا يسجد على الذقن فليس الذقن من أعضاء السجود بل أعضاء السجود سبعة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء: الجبهة وأشار بيده إلى الأنف واليدين والركبتين والقدمين} ولو سجد على ذقنه ارتفعت جبهته والجمع بينهما متعذر أو متعسر؛ لأن الأنف بينهما وهو ناتئ يمنع إلصاقهما معا بالأرض في حال واحدة فالساجد يخر على ذقنه ويسجد على جبهته. فهذا خرور السجود. ثم قال: {ويخرون للأذقان يبكون} فهذا خرور البكاء قد يكون معه سجود وقد لا يكون.

    فالأول كقوله: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} فهذا خرور وسجود وبكاء. والثاني: كقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} فقد يبكي الباكي من خشية الله مع خضوعه بخروره وإن لم يصل إلى حد السجود وهذا عبادة أيضا؛ لما فيه من الخرور لله والبكاء له. وكلاهما عبادة لله فإن بكاء الباكي لله كالذي يبكي من خشية الله. من أفضل العبادات. وقد روي {عينان لا تمسهما النار: عين باتت تحرس في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين}.

    فذكر صلى الله عليه وسلم هؤلاء السبعة إذ كل منهم كمل العبادة التي قام بها وقد صنف مصنف في نعتهم سماه (اللمعة في أوصاف السبعة. فالإمام العادل: كمل ما يجب من الإمارة والشاب الناشئ في عبادة الله كمل ما يجب من عبادة الله والذي قلبه معلق بالمساجد كمل عمارة المساجد بالصلوات الخمس لقوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}. والعفيف: كمل الخوف من الله والمتصدق كمل الصدقة لله؛ والباكي: كمل الإخلاص.
    وأما قوله عن داود عليه السلام {وخر راكعا وأناب} لا ريب أنه سجد. كما ثبت بالسنة وإجماع المسلمين أنه سجد لله والله سبحانه مدحه بكونه خر راكعا وهذا أول السجود وهو خروره. فذكر سبحانه أول فعله وهو خروره راكعا ليبين أن هذا عبادة مقصودة وإن كان هذا الخرور كان ليسجد. كما أثنى على النبيين بأنهم كانوا {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} {الذين أوتوا العلم من قبله} أنهم {إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا} {ويخرون للأذقان يبكون} وذلك لأن الخرور هو أول الخضوع المنافي للكبر فإن المتكبر يكره أن يخر ويحب أن لا يزال منتصبا مرتفعا إذا كان الخرور فيه ذل وتواضع وخشوع؛ ولهذا يأنف منه أهل الكبر من العرب وغير العرب. فكان أحدهم إذا سقط منه الشيء لا يتناوله لئلا يخر وينحني.
    فإن الخرور انخفاض الوجه والرأس وهو أعلى ما في الإنسان وأفضله وهو قد خلق رفيعا منتصبا فإذا خفضه لا سيما بالسجود كان ذلك غاية ذله؛ ولهذا لم يصلح السجود إلا لله فمن سجد لغيره فهو مشرك ومن لم يسجد له فهو مستكبر عن عبادته وكلاهما كافر من أهل النار.
    قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقال في قصة بلقيس: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} والشمس أعظم ما يرى في عالم الشهادة وأعمه نفعا وتأثيرا.
    فالنهي عن السجود لها نهي عما هو دونها بطريق الأولى من الكواكب والأشجار وغير ذلك. وقوله: {واسجدوا لله الذي خلقهن} دلالة على أن السجود للخالق لا للمخلوق وإن عظم قدره؛ بل لمن خلقه.
    وهذا لمن يقصد عبادته وحده. كما قال: {إن كنتم إياه تعبدون} لا يصلح له أن يسجد لهذه المخلوقات قال تعالى: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} فإنه قد علم سبحانه أن في بني آدم من يستكبر عن السجود له فقال: الذين هم أعظم من هؤلاء لا يستكبرون عن عبادة ربهم " بل يسبحون له بالليل والنهار ولا يحصل لهم سآمة ولا ملالة. بخلاف الآدميين فوصفهم هنا بالتسبيح له ووصفهم بالتسبيح والسجود جميعا في قوله: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون}وهم يصفون له صفوفا كما قالوا: {وإنا لنحن الصافون} {وإنا لنحن المسبحون}. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها قال: يسدون الأول فالأول ويتراصون في الصف}.
    فصل:
    فآياته سبحانه توجب شيئين: أحدهما: فهمها وتدبرها ليعلم ما تضمنته.
    والثاني: عبادته والخضوع له إذا سمعت فتلاوته إياها وسماعها يوجب هذا وهذا فلو سمعها السامع ولم يفهمها كان مذموما ولو فهمها ولم يعمل بما فيها كان مذموما بل لا بد لكل أحد عند سماعها من فهمها والعمل بها. كما أنه لا بد لكل أحد من استماعها فالمعرض عن استماعها كافر والذي لا يفهم ما أمر به فيها كافر. والذي يعلم ما أمر به فلا يقر بوجوبه ويفعله كافر. وهو سبحانه يذم الكفار بهذا وهذا. وهذا كقوله: {فما لهم عن التذكرة معرضين} {كأنهم حمر مستنفرة} {فرت من قسورة} وقوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقوله: {كتاب
    فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ونظائره كثيرة. وقال فيمن لم يفهمها ويتدبرها: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} فذمهم على أنهم لا يفهمون ولو فهموا لم يعملوا بعلمهم. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وقال: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا}. قال ابن قتيبة: لم يتغافلوا عنها فكأنهم صم لم يسمعوها عمن لم يروها.
    وقال غيره من أهل اللغة: لم يبقوا على حالهم الأولى كأنهم لم يسمعوا ولم يروا وإن لم يكونوا خروا حقيقة. تقول العرب شتمت فلانا فقام يبكي وقعد يندب وأقبل يعتذر وظل يفتخر وإن لم يكن قام ولا قعد. قلت: في ذكره سبحانه لفظ الخرور دون غيره حكمة فإنهم لو خروا وكانوا صما وعميانا لم يكن ذلك ممدوحا بل معيبا. فكيف إذا كانوا صما وعميانا بلا خرور. فلا بد من شيئين: من الخرور والسجود. ولا بد من السمع والبصر لما في آياته من النور والهدى والبيان.
    وكذلك لما شرعت الصلاة شرع فيها القراءة في القيام ثم الركوع والسجود. فأول ما أنزل الله من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود فقال: {واسجد واقترب} فقوله تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم} يدل على أن التذكير بها كقراءتها في الصلاة موجب للسجود والتسبيح وإنه من لم يكن إذا ذكر بها يخر ساجدا ويسبح بحمد ربه فليس بمؤمن وهذا متناول الآيات التي ليس فيها سجود وهي جمهور آيات القرآن ففي القرآن أكثر من ستة آلاف آية وأما آيات السجدة فبضع عشرة آية.
    وقوله: {ذكروا بها} يتناول جميع الآيات فالتذكير بها جميعها موجب للتسبيح والسجود وهذا مما يستدل به على وجوب التسبيح والسجود. وعلى هذا تدل عامة أدلة الشريعة من الكتاب والسنة تدل على وجوب جنس التسبيح فمن لم يسبح في السجود فقد عصى الله ورسوله وإذا أتى بنوع من أنواع التسبيح المشروع أجزأه.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    فإن قيل: إذا كان المؤمن حقا هو الفاعل للواجبات التارك للمحرمات: فقد قال: {أولئك هم المؤمنون حقا} ولم يذكر إلا خمسة أشياء. وكذلك قال في الآية الأخرى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. وكذلك قوله: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله}. قيل عن هذا جوابان:
    (أحدهما): أن يكون ما ذكر مستلزما لما ترك؛ فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله، وزيادة إيمانهم إذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه وإقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا، وكذلك الإنفاق من المال والمنافع؛ فكان هذا مستلزما للباقي؛ فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه. وقد فسروا (وجلت) بفرقت. وفي قراءة ابن مسعود: (إذا ذكر الله فرقت قلوبهم). وهذا صحيح؛ فإن " الوجل في اللغة " هو الخوف يقال: حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنه قوله تعالى {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} {قالت عائشة: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف أن يعاقب؟ قال: لا يا ابنة الصديق هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه}.
    وقال السدي في قوله تعالى {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنه. وهذا كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}. قال مجاهد وغيره من المفسرين: هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛ فيتركها خوفا من الله. وإذا كان " وجل القلب من ذكره " يتضمن خشيته ومخافته؛ فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور. قال سهل بن عبد الله: ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله.
    ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وقد جمع الله بين وصفهم بوجل القلب إذا ذكر وبزيادة الإيمان إذا سمعوا آياته. قال الضحاك: زادتهم يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وعن ابن عباس تصديقا. وهكذا قد ذكر الله هذين الأصلين في مواضع قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
    (فصل فيمن يصعق أو يخر ميتا عند سماع القرآن)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه. كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فإذا نقر في الناقور} فخر ميتا وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم. والمنكرون لهم مأخذان: منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا.

    يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق. ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه.

    لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} وقال تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}وقال: {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}.
    وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم وقد فعلوا ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: (أحدها حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر وهؤلاء فيهم شبه من اليهود.
    قال الله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} وقال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
    و (الثانية) حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك. فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة.
    كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما بل معذورا فإن السكران بلا تمييز.





  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 320)

    من صــ 1 الى صـ 10




    فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله.
    ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسري به إلى السماء وأراه الله ما أراه وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة: لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل.
    والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة وذلك لشدة الخوف فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف الله خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء وهو حال الصحابة رضي الله عنهم.
    (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)
    وقال شيخ الإسلام:
    فصل:
    قال سبحانه في قصة بدر: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم} فوعدهم بالإمداد بألف وعدا مطلقا وأخبر أنه جعل إمداد الألف بشرى ولم يقيده وقال في قصة أحد: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} فإن هذا أظن فيه قولين: " أحدهما " أنه متعلق بأحد؛ لقوله بعد ذلك: {ليقطع طرفا من الذين كفروا} الآية.
    ولأنه وعد مقيد وقوله فيه: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به} يقتضي خصوص البشرى بهم. وأما قصة بدر فإن البشرى بها عامة فيكون هذا كالدليل على ما روي من أن ألف بدر باقية في الأمة فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم (به) على (لكم) عناية بالألف وفي أحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط.
    [فصل: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته]

    النوع السادس: من آياته صلى الله عليه وسلم تأييد الله له بملائكته قال الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9] الآية. وقال تعالى: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران: 124]، وقال تعالى: في الخندق:{إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} [الأحزاب: 9]. وقال تعالى في حنين: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 26]. وقال تعالى في الهجرة: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40].
    وقال تعالى في بدر: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال: 12]. وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى أسقط رداءه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
    فأنزل الله عز وجل:سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
    وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
    {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
    وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
    {أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
    وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
    عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
    وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
    وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار
    {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} [الأنفال: 9]
    فأمده الله بالملائكة.

    قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة
    الجزء التاسع
    سوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه، وشق وجهه كضربة بالسوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة " فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين»، وذكر الحديث.
    وذكر البخاري في هذا الحديث «فخرج يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول
    {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]»
    وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: «سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى. فلما نزلت الملائكة، ورآها إبليس، وأوحى الله إليهم
    {أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]
    وتثبيتهم أن الملائكة تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه وتقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا
    عليهم، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه، وقال: {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} [الأنفال: 48].
    وهو في صورة سراقة، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم، وخذوهم أخذا».
    وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره رجلين عليهم ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده، ويعني جبرائيل وميكائيل عليهما السلام»

    وفي الصحيحين عن عائشة قالت: «أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش (ابن العرقة) رماه في الأكحل فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وضع السلاح فاغتسل فأتاه جبريل عليه السلام، وهو ينفض عن رأسه الغبار فقال " وضعت السلاح، والله ما وضعناه، اخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد، قال: إني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، والنساء، وتقسم أموالهم»، وفي بعض طرق البخاري فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار وروى البخاري عن أنس قال: «كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل صلوات الله عليه حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
    وفي المغازي من غير طريق أن الصحابة رأوا جبريل في صورة دحية الكلبي، وأنه معتم بعمامة أرخى طرفها بين كتفيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثه الله إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويلقي الرعب في قلوبهم»
    وروى البخاري عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب»
    وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
    «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي ثم قال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا».
    (فصل)

    وسئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رضي الله عنه -:
    ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وفقهم الله لطاعته فيمن يقول: لا يستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحرم عليه هذا القول وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك؟ أفتونا مأجورين.
    فأجاب:
    الحمد لله، قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم (*) وأنه يشفع لهم. ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد. وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل.
    وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه. وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وفي سنن أبي داود وغيره {أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك} وذكر تمام الحديث فأنكر قوله نستشفع بالله عليك ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله بل أقره عليه فعلم جوازه فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع؛ وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
    وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال لا يدعى إلا الله وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه مثل غفران الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر وإنبات النبات ونحو ذلك: فهذا مصيب في ذلك بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضا. كما قال الله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} وكما قال تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} وكما قال تعالى: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله} وقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة: يجب إثباتها والمعاني المنفية بالكتاب والسنة؛ يجب نفيها والعبارة الدالة على المعاني نفيا وإثباتا إن وجدت في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب إقرارها. وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه وإلا رجع فيه إليه. وقد يكون في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عبارة لها معنى صحيح لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذا يرد عليه فهمه.

    كما روى الطبراني في معجمه الكبير {أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله} فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاري عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش له ميزاب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء الله تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله وأن كل غوث فمن عنده وإن كان جعل ذلك على يدي غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز. قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث وجاء ذكر المغيث في حديث أبي هريرة قالوا واجتمعت الأمة على ذلك.

    وقال أبو عبد الله الحليمي: الغياث هو المغيث وأكثر ما يقال غياث المستغيثين ومعناه المدرك عباده في الشدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلصهم وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: {اللهم أغثنا اللهم أغثنا} يقال أغاثه إغاثة وغياثا وغوثا وهذا الاسم في معنى المجيب والمستجيب قال تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال والاستجابة أحق بالأقوال وقد يقع كل منهما موقع الآخر. قالوا الفرق بين المستغيث والداعي أن المستغيث ينادي بالغوث.
    والداعي ينادي بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر فإن من صيغة الاستغاثة يا لله للمسلمين وقد روي عن معروف الكرخي أنه كان يكثر أن يقول وا غوثاه ويقول إني سمعت الله يقول: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} وفي الدعاء المأثور {: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك}. والاستغاثة برحمته استغاثة به في الحقيقة كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به في الحقيقة وكما أن القسم بصفاته قسم به في الحقيقة ففي الحديث: {أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق} وفيه {أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك}.
    ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بقوله: {أعوذ بكلمات الله التامة} قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق. وكذلك القسم قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وفي لفظ {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت في الصحيح: الحلف " بعزة الله " و " لعمر الله " ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير الله الذي نهي عنه والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به وإما مخطئ ضال. وأما بالمعنى الذي نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أيضا مما يجب نفيها ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضا كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
    وفي دعاء موسى عليه السلام " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك " ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصا بالله: صح إطلاق نفيه عما سواه ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوز مطلق الاستغاثة بغير الله ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله.

    وكذلك الاستغاثة أيضا فيها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستنصار. قال الله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر} والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا الله. ومن خالف ما ثبت بالكتاب والسنة: فإنه يكون إما كافرا وإما فاسقا وإما عاصيا إلا أن يكون مؤمنا مجتهدا مخطئا فيثاب على اجتهاده ويغفر له خطؤه وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذي تقوم عليه به الحجة فإن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك إما بالقتل وإما بدونه والله أعلم.





  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 321)

    من صــ 11 الى صـ 25




    (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم (17)
    وقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] معناه: ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب، فالمضاف إليه الحذف باليد، والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به، وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي [والرمي]، قالوا: كان هو الرامي في الحقيقة، فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال، فكان يقول:
    وما مشيت إذا مشيت ولكن الله مشى، وما لطمت ولكن الله لطم، وما طعنت ولكن الله طعن، وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب، وما ركبت الفرس ولكن الله ركب، وما صمت، وما صليت، وما حججت، ولكن الله صام وصلى وحج.
    ومن المعلوم بالضرورة بطلان هذا كله، وهذا من غلو المثبتين للقدر. ولهذا يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنهم كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر، فقال لهم: لماذا ترمونني؟ فقالوا: ما رميناك ولكن الله رماك. فقال: لو أن الله رماني لأصابني، ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني.
    وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون: إن الله خالق أفعال العباد. كما احتج بعض المثبتة بقوله تعالى: {ولكن الله رمى} [سورة الأنفال: 17] وكلاهما خطأ. فإن الله إذا خلق في عبد فعلا، لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد، كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا، لم يجب أن يكون ذلك طيبا، وإذا خلق للعبد عينين ولسانا، لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا. فاستناد الكذب الذي في الناس، كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين من الصفات القبيحة والأحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم، ولا أنه موصوف بتلك الصفات. ولكن لفظ " الاستناد " لفظ مجمل. أتراه أنه إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه، يكون هو عاجزا؟ فهذا مما يبين فساد هذه الحجة.
    وقال - رحمه الله -:
    فصل:

    في قوله: {فلم تقتلوهم} الآية ثلاثة أقوال: " أحدها " أنه مبني على أن الفعل المتولد ليس من فعل الآدمي؛ بل من فعل الله والقتل هو الإزهاق وذاك متولد وهذا قد يقوله من ينفي التولد وهو ضعيف؛ لأنه نفى الرمي أيضا وهو فعل مباشر ولأنه قال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} فأثبت القتل. ولأن القتل هو الفعل الصالح للإزهاق ليس هو الزهوق؛ بخلاف الإماتة.
    " الثاني " أنه مبني على خلق الأفعال وهذا قد يقوله كثير من الصوفية وأظنه مأثورا عن الجنيد سلب العبد الفعل نظرا إلى الحقيقة؛ لأن الله هو خالق كل صانع وصنعته وهذا ضعيف لوجهين.
    " أحدهما " أنا وإن قلنا بخلق الفعل فالعبد لا يسلبه بل يضاف الفعل إليه أيضا فلا يقال ما آمنت ولا صليت ولا صمت ولا صدقت ولا علمت فإن هذا مكابرة؛ إذ أقل أحواله الاتصاف وهو ثابت.
    وأيضا فإن هذا لم يأت في شيء من الأفعال المأمور بها إلا في القتل والرمي ببدر ولو كان هذا لعموم خلق الله أفعال العباد لم يختص ببدر.
    " الثالث " أن الله سبحانه خرق العادة في ذلك فصارت رءوس المشركين تطير قبل وصول السلاح إليها بالإشارة وصارت الجريدة تصير سيفا يقتل به. وكذلك رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابت من لم يكن في قدرته أن يصيبه فكان ما وجد من القتل وإصابة الرمية خارجا عن قدرتهم المعهودة فسلبوه لانتفاء قدرتهم عليه وهذا أصح وبه يصح الجمع بين النفي والإثبات {وما رميت} أي ما أصبت {إذ رميت} إذ طرحت {ولكن الله رمى} أصاب. وهكذا كل ما فعله الله من الأفعال الخارجة عن القدرة المعتادة بسبب ضعيف كإنباع الماء وغيره من خوارق العادات أو الأمور الخارجة عن قدرة الفاعل وهذا ظاهر فلا حجة فيه لا على الجبر ولا على نفي التولد.
    وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وقوله: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} يدل على أن الصيد مقتول للآدمي الذي قتله بخلاف قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} فإنه مثل قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} فإن قتلهم حصل بأمور خارجة عن قدرتهم مثل إنزال الملائكة وإلقاء الرعب في قلوبهم وكذلك الرمي لم يكن في قدرته أن التراب يصيب أعينهم كلهم ويرعب قلوبهم فالرمي الذي جعله الله خارجا عن قدرة العبد المعتاد هو الرمي الذي نفاه الله عنه. قال أبو عبيد: ما ظفرت أنت ولا أصبت ولكن الله ظفرك وأيدك. وقال الزجاج: ما بلغ رميك كفا من تراب أو حصى أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير إنما الله تولى ذلك. وذكر ابن الأنباري: ما رميت قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب. ولهذا كان هذا أمرا خارجا عن مقدوره فكان من آيات نبوته.
    [فصل: تسخير الأحجار له عليه السلام من أعلام نبوته]
    وأما النوع الخامس: تأثيره في الأحجار، وتصرفه فيها، وتسخيرها له ففي صحيح البخاري، عن أنس قال: «صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: اسكن - وضربه برجله - فليس عليك إلا نبي، وصديق، وشهيدان». وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن». وفي الترمذي، عن علي، قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله». ورواه الحاكم في صحيحه.
    وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدمته، فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم فتوارى عني، فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما،وعلي بردتان متزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعا. فلما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من الأرض، واستقبل به وجوههم، فقال: شاهت الوجوه. فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله».
    وفي صحيح مسلم، عن العباس بن عبد المطلب قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون، والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرادة أن لا تسرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس، ناد أصحاب الشجرة.
    فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله، وقد قال الله تعالى: عن يوم بدر: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17]»
    وروى ابن إسحاق، عن جماعة منهم عروة، والزهري، وعاصم بن عمر، وغيرهم قالوا: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش هو، وأبو بكر ما معهما غيرهما، وقد تدانى القوم بعضهم من بعض، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من نصره ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد. وأبو بكر يقول: بعد مناشدتك ربك يا رسول الله فإن الله سينجز لك ما وعدك من نصره.
    وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة، ثم هب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله عز وجل، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع - يقول: الغبار - ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبأ أصحابه وهيأهم، وقال: لا يعجلن رجل منكم بقتال حتى نؤذنه، فإذا أكثبكم القوم - يقول: قربوا منكم - فانضحوهم عنكم بالنبل، ثم تزاحم الناس فلما تدانى بعضهم من بعض خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من حصباء ثم استقبل بها قريشا، فنفخ بها وجوههم، وقال: شاهت الوجوه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احملوا عليهم يا معشر المسلمين. فحمل المسلمون وهزم الله قريشا، وقتل من قتل من أشرافهم، وأسر من أسر منهم. وفي حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، فقال له جبريل: خذ قبضة من تراب.
    فأخذ قبضة من تراب، ورمى بها وجوههم، فما في المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه، ومنخريه، وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين».
    (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)
    قال: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أي لأفهمهم ما سمعوه. ثم قال: ولو أفهمهم مع هذه الحال التي هم عليها {لتولوا وهم معرضون} فقد فسدت فطرتهم فلم يفهموا ولو فهموا لم يعملوا. فنفى عنهم صحة القوة العلمية وصحة القوة العملية.
    (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)

    وقال - رحمه الله -:
    فصل:
    في قوله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} والكلام عليها من وجهين:
    " أحدهما " في الاستغفار الدافع للعذاب.
    و" الثاني " في العذاب المدفوع بالاستغفار.
    أما " الأول ": فإن العذاب إنما يكون على الذنوب والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التي هي سبب العذاب فيندفع العذاب كما قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} فبين سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعا حسنا إلى أجل مسمى ثم إن كان لهم فضل أوتوا الفضل.
    وقال تعالى عن نوح: {يا قوم إني لكم نذير مبين} {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} {يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} إلى قوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا} {يرسل السماء عليكم مدرارا} الآية وقال تعالى: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم} وذلك أنه قد قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وقال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم} وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.

    وأما العذاب المدفوع فهو يعم العذاب السماوي ويعم ما يكون من العباد وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابا كما قال تعالى في النوع الثاني: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} وكذلك: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}.

    وعلى هذا فيكون العذاب بفعل العباد وقد يقال: التقدير: {ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده} أو يصيبكم بأيدينا؛ لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدي المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء؛ إذ قد يقال: أصابه بخير وأصابه بشر. قال تعالى: {وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده} وقال تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}.
    وقال تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء} ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر لاكتفى بذلك في قوله: {أن يصيبكم الله}. وقد قال تعالى أيضا: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}. ومن ذلك قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} إلى قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} وقوله تعالى {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}.
    ومن ذلك أنه يقال في بلال ونحوه: كانوا من المعذبين في الله ويقال إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله. وقال صلى الله عليه وسلم " {السفر قطعة من العذاب} ".
    وإذا كان كذلك فقوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} مع ما قد ثبت في الصحيحين عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أنه لما نزل قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون} " يقتضي أن لبسنا شيعا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذي يندفع بالاستغفار كما قال: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح. وقوله تعالى {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم} قد يكون العذاب من عنده وقد يكون بأيدي العباد فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألف بينهم وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض.
    وكذلك قوله: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} يدخل في العذاب الأدنى ما يكون بأيدي العباد كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب.
    وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} فأخبر أنه لا يعذب مستغفرا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب فيندفع العذاب كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب} وقد قال تعالى: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}. فبين أن من وحده واستغفره متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى ومن عمل بعد ذلك خيرا زاده من فضله وفي الحديث: {يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
    فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. ولهذا قال تعالى: {فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا فحقهم عند مجيء البأس التضرع وقال تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة.





  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 322)

    من صــ 26 الى صـ 40




    (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
    {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} قال السلف من الصحابة والتابعين: " المكاء " كالصفير ونحوه من التصويت مثل الغناء. و " التصدية ": التصفيق باليد. فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية والغناء لهم صلاة وعبادة وقربة يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله. وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فصلاتهم وعبادتهم القرآن واستماعه والركوع والسجود وذكر الله ودعاؤه ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين: المهاجرين والأنصار. فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه فقد عظمت مشابهته لهم.
    وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده أو لحسنات ماحية أو غير ذلك. فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر. لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذموما خارجا عن الشريعة داخلا في البدعة التي ضاهى بها المشركين فينبغي للمؤمن أن يتفطن له لهذا ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله.
    (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38)
    وسئل:
    عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم، هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام؟
    فأجاب:
    إذا أسلم باطنا وظاهرا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل: أن يكن مصرا على ذنب أو ظلم أو فاحشة ولم يتب منها بالإسلام. فقد قال بعض الناس: إنه يغفر له بالإسلام. والصحيح: أنه إنما يغفر له ما تاب منه. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل: {أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فقال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر} و " حسن الإسلام " أن يلتزم فعل ما أمر الله به وترك ما نهي عنه. وهذا معنى التوبة العامة فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها. وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص: {أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله} " فإن اللام لتعريف العهد والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن.
    وقوله: " {ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر} " أي: إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب فإنه يؤاخذ بالأول والآخر. وهذا موجب النصوص والعدل فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب ولم يجب أن يغفر له غيره. والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف. فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه. من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه. وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر. والله أعلم.
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    الحربي إذا أسلم لم يؤخذ بشيء مما عمله في الجاهلية لا من حقوق الله ولا من حقوق العباد من غير خلاف نعلمه لقوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}
    ولقوله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام يجب ما قبله " رواه مسلم ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية " متفق عليه.
    ولهذا أسلم خلق كثير وقد قتلوا رجالا يعرفون فلم يطلب أحدا منه بقود ولا دية ولا كفارة.
    أسلم وحشي قاتل حمزة وابن العاص قاتل ابن قوقل وعقبة بن الحارث قاتل خبيب بن عدي ومن لا يحصى ممن ثبت في الصحيح أنه أسلم وقد علم أنه قتل رجلا بعينه من المسلمين فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم قصاصا بل قال صلى الله عليه وسلم: " يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما صاحبه كلاهما يدخل الجنة يقتل هذا في سبيل الله فيدخل الجنة ثم يتوب الله على القاتل فيسلم ويقتل في سبيل الله فيدخل الجنة " متفق عليه.
    وكذلك أيضا لم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم مالا أتلفه للمسلمين ولا أقام على أحد حد زنا أو سرقة أو شرب أو قذف سواء كان قد أسلم بعد الأسر أو قبل الأسر وهذا مما لا نعلم بين المسلمين فيه خلافا لا في روايته ولا في الفتوى به.
    بل لو أسلم الحربي وبيده مال مسلم قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه مما لا يملك به مسلم من مسلم لكونه محرما في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص قول أحمد وقول الجماهير من أصحابه بناء على أن الإسلام أو العهد قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكا له لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله ووجب أجره على الله وآخذه هذا مستحلا له وقد غفر له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم فلم يضمنه بالرد إلى مالكه كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال ولا يقضي ما تركه من العبادات لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد فلما رجع عن الاعتقاد غفر له ما تبعه من الذنوب فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه فيه فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها من ربا وغيره.
    ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم وهو قول الشافعي وأبي الخطاب من الحنبلية بناء على أن اغتنامهم فعل محرم فلا يملكون به مال المسلم كالغصب ولأنه لو أخذه المسلم منهم أخذا لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه فإنه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اتفق الناس فيما نعلمه عليه ولو كانوا قد ملكوه كملكه الغانم منهم ولم يرده.
    والأول أصح لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك وقد أسلم عامة أولئك المشركين فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا.
    ويكفي في ذلك أن الله سبحانه قال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال: {أذن للذين يقاتلون} إلى قوله: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} وقال: {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج
    أهله منه} وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم}.
    فبين الله سبحانه أن المسلمين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق حتى صاروا فقراء بعد أن كانوا أغنياء.
    ثم إن المشركين استولوا على تلك الديار والأموال وكانت باقية إلى حين الفتح وقد أسلم من استولى عليها في الجاهلية ثم لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم أخرج من داره بعد الفتح والإسلام دارا ولا مالا بل قيل للنبي يوم الفتح: ألا تنزل في دارك؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ".
    وسأله المهاجرون أن يرد عليهم أموالهم التي استولى عليها أهل مكة فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها بعد إسلامه.
    وذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه وسلم ودور إخوته من الرجال والنساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب قال أبو رافع: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: "فهل ترك لنا عقيل منزلا؟ " وكان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة.

    وقد ذكر أهل العلم بالسيرة منهم أبو الوليد الأزرقي أن رباع عبد المطلب بمكة صارت لبني عبد المطلب فمنها شعب ابن يوسف وبعض دار ابن يوسف لأبي طالب والجو الذي بينه وبين دار ابن يوسف دار المولد مولد النبي صلى الله عليه وسلم وما حوله لأبي النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد المطلب ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له هذه الدار ورثها من أبيه وبها ولد وكان له دار ورثها هو وولده من خديجة رضي الله تعالى عنها.
    قال الأزرقي: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنيه كليهما مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة بنت خويلد وولد فيه ولده جميعا.
    قال: وكان عقيل بن أبي طالب أخذ مسكنه الذي ولد فيه وأما بيت خديجة فأخذه معتب بن أبي لهب وكان أقرب الناس إليه جوارا فباعه بعد من معاوية وقد شرح أهل السير ما ذكرنا في دور المهاجرين.
    قال: الأزرقي: دار جحش بن رئاب الأسدي التي بالمعلى لم تزل في يد ولد جحش فلما أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الهجرة إلى المدينة خرج آل جحش جميعا الرجال والنساء إلى المدينة مهاجرين وتركوا دارهم خالية وهم حلفاء حرب بني أمية فعمد أبو سفيان إلى دارهم هذه فباعها بأربعمائة دينار من عمرو بن علقمة العامري فلما بلغ آل جحش أن أبا سفيان باع دارهم أنشأ أبو أحمد يهجو أبا سفيان ويعيره ببيعها وذكر أبياتا.
    فلما كان يوم فتح مكة أتى أبو أحمد بن جحش وقد ذهب بصره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها فقال: يا رسول الله إن أبا سفيان عمد إلى داري فباعها فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فساره بشيء فما سمع أبو أحمد ذكرها بعد ذلك فقيل لأبي أحمد بعد ذلك: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قال لي " إن صبرت كان خيرا وكان لك بها دار في الجنة " قال: قلت: فأنا أصبر فتركها أبو أحمد.
    قال: وكان لعتبة بن غزوان دار تسمى ذات الوجهين فلما هاجر أخذها يعلي بن أمية وكان استوصاه بها حين هاجر فلما كان عام الفتح وكلم بنو جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارهم فكره أن يرجعوا في شيء من أموالهم أخذت منهم في الله تعالى وهجروه لله أمسك عتبة بن غزوان عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره هذه ذات الوجهين وسكت المهاجرون فلم يتكلم أحد منهم في دار هجرها لله ورسوله وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنه الذي ولد فيه ومسكنه الذي ابتنى فيه بخديجة وهذه القصة معروفة عند أهل العلم.
    قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر ببن حزم والزهير بن عكاشة بن أبي أحمد قال: أبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح عليهم في دورهم فقالوا لأبي أحمد يا أبا أحمد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره لكم أن ترجعوا في شيء من أموالكم مما أصيب في الله.
    وقال ابن إسحاق أيضا في رواية زياد بن عبد الله البكائي عنه: وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد منهم بمكة إلا مفتون أو محبوس ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله والى رسوله إلا أهل دور مسمون: بنو مظعون من بني جمح وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء عدي بن كعب فإن دورهم غلقت بمكة ليس فيها ساكن.

    ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة؟ " فقال: بلى فقال: "ذلك لك " فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد إن النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أصيب منكم في الله فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال الواقدي عن أشياخه قالوا: وقام أبو أحمد بن جحش على باب المسجد على جمل له حين فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته يعني الخطبة التي خطبها وهو واقف بباب الكعبة حين دخل الكعبة فصلى فيها ثم خرج يوم الفتح فقال أبو أحمد وهو يصيح: أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي أنشد بالله يا بني عبد مناف داري قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فسار عثمان بشيء فذهب عثمان إلى أبي أحمد فساره فنزل أبو أحمد عن بعيره وجلس مع القوم فما سمع أبو أحمد ذكرها حتى لقي الله.
    فهذا نص في أن المهاجرين طلبوا استرجاع ديارهم فمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها بيد من استولى عليها ومن اشتراها منه وجعل صلى الله عليه وسلم ما أخذه منهم الكفار بمنزلة ما أصيب من ديارهم وما أنفقوه من أموالهم وتلك دماء وأموال اشتراها الله وسلمت إليه ووجب أجرها على الله فلا رجعة فيها وذلك لأن المشركين يستحلون دماءنا وأموالنا وأصابوا ذلك كله استحلالا وهم آثمون في هذا الاستحلال فإذا أسلموا جب الإسلام ذلك الإثم وصاروا كأنهم ما أصابوا دما ولا مالا فما بأيديهم لا يجوز انتزاعه منهم.
    فإن قيل: ففي الصحيحين عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ألا تنزل في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.

    وفي رواية للبخاري أنه قال: يا رسول أين تنزل غدا؟ وذلك زمن الفتح فقال: "وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ " ثم قال: " لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر " قيل للزهري: ومن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب وفي رواية معمر عن الزهري أين منزلك غدا في حجتك؟ رواه البخاري.
    وظاهر هذا أن الدور انتقلت إلى عقيل بطريق الإرث لا بطريق الاستيلاء ثم باعها.
    قلنا: أما دار النبي صلى الله عليه وسلم التي ورثها من أبيه وداره التي هي له ولولده من زوجته المؤمنة خديجة فلا حق لعقيل فيها فعلم أنه استولى عليها وأما دور أبي طالب فإن أبا طالب توفي قبل الهجرة بسنين والمواريث لم تفرض ولم يكن نزل بعد منع المسلم من ميراث الكافر بل كل من مات بمكة من المشركين أعطي أولاده المسلمون نصيبهم من الإرث كغيرهم بل كان المشركون ينكحون المسلمات الذي هو أعظم من الإرث وإنما قطع الله الموالاة بين المسلمين والكافرين بمنع النكاح والإرث وغير ذلك بالمدينة وشرع الجهاد القاطع للعصمة.
    قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة نظر إلى تلك الرباع فما أدرك منها قد اقتسم على أمر الجاهلية تركه لم يحركه وما وجده لم يقسم قسمه على قسمة الإسلام.
    وهذا الذي رواه ابن أبي نجيح يوافق الأحاديث المسندة في ذلك مثل حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على ما قسم الإسلام " رواه أبو داود وابن ماجه.
    وهذا أيضا يوافق ما دل عليه كتاب الله ولا نعلم فيه خلافا فإن الحربي لو عقد عقدا فاسدا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك ثم أسلم بعد قبض العوض لم يحرم ما بيده ولم يجب عليه رده ولو ولم يكن قبضة لم يجز له أن يقبض منه إلا ما يجوز للمسلم كما دل عليه قوله تعالى: {اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} فأمرهم بترك ما بقي في ذمم الناس ولم يأمرهم برد ما قبضوه.
    وكذلك وضع النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس كل دم أصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية حتى ربا العباس ولم يأمر برد ما كان قبض فكذلك الميراث: إذا مات الميت في الجاهلية واقتسموا تركته أمضيت القسمة فإن أسلموا قبل الاقتسام أو تحاكموا إلينا قبل القسمة قسم على قسم الإسلام فلما مات أبو طالب كان الحكم بينهم أن يرثه جميع ولده فلم يقتسموا رباعه حتى هاجر جعفر وعلي إلى المدينة فاستولى عقيل عليها وباعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لم يترك لنا عقيل منزلا إلا استولى عليه وباعه " وكان معنى هذا الكلام أنه استولى على دور كنا نستحقها إذ ذاك ولولا ذلك لم تضف الدور إليه وإلى بني عمه إذا لم يكن لهم فيها حق ثم قال بعد ذلك:
    "لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن" يريد والله أعلم لو أن الرباع باقية بيده إلى الآن لم يقسم لكنا نعطي رباع أبي طالب كلها له دون إخوته لأنه ميراث لم يقسم فيقسم الآن على قسم الإسلام ومن قسم الإسلام أن لا يرث المسلم الكافر فكان نزول هذا الحكم بعد موت أبي طالب وقبل قسمة تركته بمنزله نزوله قبل موته فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليا وجعفرا ليس لهما المطالبة بشيء من ميراث أبي طالب لو كان باقيا فكيف إذا أخذ منهم في سبيل الله؟ فإذا كان المشرك الحربي لا يطالب بعد إسلامه بما كان أصابه من دماء المسلمين وأموالهم وحقوق الله ولا ينتزع ما بيده من أموالهم التي غنمها منهم لم يؤاخذ أيضا بما أسلفه من سب وغيره فهذا وجه العفو عن هؤلاء.
    وهذا الذي ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحتم قتل من كان يسبه من المشركين مع العفو عمن هو مثله في الكفر كان مستقرا في نفوس أصحابه على عهده وبعد عهده يقصدون قتل الساب ويحرضون عليه وإن أمسكوا عن غيره ويجعلون ذلك هو الموجب لقتله ويبذلون في ذلك نفوسهم كما تقدم من حديث الذي قال: "سبني وسب أبي وأمي وكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم حمل عليه حتى قتل وحديث الذي قتل أباه لما سمعه يسب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأنصاري الذي نذر أن يقتل العصماء فقتلها وحديث الذي نذر أن يقتل ابن أبي سرح وكف النبي صلى الله عليه وسلم عن مبايعته ليوفي بنذره.
    وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزني أحدهما فقال: أي عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال: فتعجبت لذلك قال وغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت لهما: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: " أيكما قتله؟ " فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال: "هل مسحتما سيفيكما" فقالا: لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله " وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان: معاذ ابن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.
    والقصة مشهورة في فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسجوده شكرا وقوله: " هذا فرعون هذه الأمة " هذا مع نهيه عن قتل أبي البختري ابن هشام مع كونه كافرا غير ذي عهد لكفه عنه وإحسانه بالسعي في نقض صحيفة الجور ومع قوله: " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى يعني الأسرى لأطلقتهم له " يكافئ المطعم بإجارته له بمكة والمطعم كافر غير معاهد فعلم أن مؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين إهلاكه والانتقام منه بخلاف الكاف عنه وإن اشتراكا في الكفر كما كان يكافئ المحسن إليه بإحسانه وإن كان كافرا.
    يؤيد ذلك أن أبا لهب كان له من القرابة ما له فلما آذاه وتخلف عن بني هاشم في نصره نزل القرآن فيه بما نزل من اللعنة والوعيد باسمه خزيا لم يفعل بغيره من الكافرين كما روي عن ابن عباس أنه قال: "ما كان أبو لهب إلا من كفار قومه حتى خرج منا حين تحالفت قريش علينا فظاهرهم فسبه الله وبنو المطلب مع مساواتهم لعبد شمس ونوفل في النسب لما أعانوه ونصروه وهم كفار شكر الله ذلك لهم فجعلهم بعد الإسلام مع بني هاشم في سهم ذوي القربى وأبو طالب لما أعانه ونصره وذب عنه خفف عنه العذاب فهو من أخف أهل النار عذابا".
    وقد روي أن أبا لهب يسقى في نقرة الإبهام لعتقه ثويبة إذ بشرته بولادته.
    (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39)
    فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة.
    وأصل الدين أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله. وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله، الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة الله، وطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله.
    وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك، ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعا، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله، ولم يكن مجاهدا في سبيل الله. فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره، معه حق وباطل، وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة؟.

    وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وكفر بعضهم بعضا، وفسق بعضهم بعضا. ولهذا قال تعالى فيهم: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة - وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [سورة البينة: 4 - 5].
    وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة} [سورة البقرة: 213]، يعني:
    فاختلفوا، كما في سورة يونس، وكذلك في قراءة بعض الصحابة. وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين: أنهم كانوا على دين الإسلام. وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس: أنهم كانوا على الكفر. وهذا ليس بشيء. وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس، بل قد ثبت عنه أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام.
    وقد قال في سورة يونس: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [سورة يونس: 19] فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد، فعلم أنه كان حقا.
    (فصل: ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه فعقوبتنا له في الدنيا أكبر)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وهنا قاعدة شريفة ينبغي التفطن لها:
    و
    هو أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه فعقوبتنا له في الدنيا أكبر وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا.
    وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض ثم هو نوعان:
    أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق وهو التفريط.
    والثاني: فعل ما يضر به وهو العدوان. فالتفريط في حقوق العباد. . . (1)
    __________
    Q (1) خرم في الأصل





  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 323)

    من صــ 41 الى صـ 55




    ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع بما لا يعاقب به الساكت ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين وإن كان في الدرك الأسفل من النار. وهذا لأن الأصل أن تكون العقوبة من فعل الله تعالى فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة وقد يجزيهم أيضا في الدنيا.
    وأما نحن فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات وترك المحرمات بحسب إمكاننا كما قال صلى الله عليه وسلم {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله} وقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقال: {والفتنة أكبر من القتل}.
    ولهذا من تاب من الكفار والمحاربين وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق الله، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه وأهله وماله، وكذلك قاطع الطريق والزاني والسارق والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه لأنه أسلم قبل القدرة عليه بخلاف من أسلم بعد الأسر فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه. ويبنى على هذه " القاعدة ": أنه قد يقر من الكفار والمنافقين بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد إذا لم يتعد ضرره إلى غيره: كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوه من الكفر والنفاق وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلما فاسقا أو عاصيا أو عدلا مجتهدا مخطئا بل صالحا أو عالما سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع.
    مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا والسرقة وشرب الخمر وشهادة الزور وقطع الطريق وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيرا من حال أهل العهد الكفار ومن حال المنافقين؛ إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع. وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذورا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد.
    وكذلك يجوز قتال " البغاة ": وهم الخارجون على الإمام أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولا ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه. من جزية أو خراج أو غير ذلك. إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ.

    وأما القتال: فليؤدوا ما تركوه من الواجب وينتهوا عما ارتكبوه من المحرم وإن كانوا متأولين. وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه وإن كانوا قوما صالحين فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا وإن كانوا معذورين فيه لدفع ضرر فعلهم في الدنيا كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحا وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم، وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم: القاتل مجاهد والمقتول شهيد. وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها وإما عقوبة فاعلها ونكاله. فأما هجره بترك. . . (1) في غير هذا الموضع. ومن هذا الباب هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة ولمن فعل بدعة ما؛ مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة؛ فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق.

    حتى قد قيل إن اثنين منهما شهدا بدرا وقد قال الله لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة فهذا " أصل عظيم " أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلا أو رجلا صالحا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة؛ وبين عقوبة الآخرة والله سبحانه أعلم.

    (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير (41)
    فصل:

    وقد قال الله تعالى في آية الخمس: {فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين} ومثل ذلك في آية الفيء. وقال في آية الصدقات: {للفقراء والمساكين والعاملين عليها} الآية فأطلق الله ذكر الأصناف؛ وليس في اللفظ ما يدل على التسوية بل على خلافها فمن أوجب باللفظ التسوية فقد قال ما يخالف الكتاب والسنة ألا ترى أن الله لما قال: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وقال تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} وقال تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} وقال تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم} {للسائل والمحروم} وقال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} وأمثال ذلك لم تكن التسوية في شيء من هذه المواضع واجبة؟ بل ولا مستحبة في أكثر هذه المواضع سواء كان الإعطاء واجبا أو مستحبا بل بحسب المصلحة.
    ونحن إذا قلنا في الهدي والأضحية: يستحب أن يأكل ثلثا ويتصدق بثلث؛ فإنما ذلك إذا لم يكن هناك سبب يوجب التفضيل؛ وإلا فلو قدر كثرة الفقراء لاستحببنا الصدقة بأكثر من الثلث وكذلك إذا قدر كثرة من يهدي إليه على الفقراء؛ وكذلك الأكل. فحيث كان الأخذ بالحاجة أو المنفعة كان الاعتبار بالحاجة والمنفعة بحسب ما يقع بخلاف المواريث فإنها قسمت بالأنساب التي لا يختلف فيها أهلها فإن اسم الابن يتناول الكبير والصغير والقوي والضعيف ولم يكن الأخذ لا لحاجته ولا لمنفعته؛ بل لمجرد نسبه؛ فلهذا سوى فيها بين الجنس الواحد.
    وأما هذه المواضع فالأخذ فيها بالحاجة والمنفعة؛ فلا يجوز أن تكون التسوية بين الأصناف واجبة ولا مستحبة؛ بل العطاء بحسب الحاجة والمنفعة كما كان أصل الاستحقاق معلقا بذلك والواو تقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم المذكور والمذكور أنه لا يستحق الصدقة إلا هؤلاء فيشتركون في أنها حلال لهم وليس إذا اشتركوا في الحكم المذكور وهو مطلق الحل يشتركون في التسوية فإن اللفظ لا يدل على هذا بحال. ومثله يقال في كلام الواقف والموصي وكان بعض الواقفين قد وقف على المدرس والمعيد والقيم والفقهاء والمتفقهة؛ وجرى الكلام في ذلك فقلنا: يعطي بحسب المصلحة فطلب المدرس الخمس بناء على هذا الظن؛ فقيل له: فأعطي القيم أيضا الخمس لأنه نظير المدرس فظهر بطلان حجته. آخره والحمد لله رب العالمين.

    (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ... (60)

    وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر هذه الآية فقال: " {ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي}. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: " {ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا}. وفي رواية: " {ومن تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة جحدها}.
    وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته. فإنهن من الحق}. وقال: " {ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه}. وقال مكحول: كتب عمر بن الخطاب إلى الشام: أن علموا علموا أولادكم الرمي والفروسية. وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا}. {ومر على نفر من أسلم ينتضلون فقال صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم}.
    وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه {نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني نفض كنانته يوم أحد - وقال: ارم فداك أبي وأمي} وقال علي بن أبي طالب: {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد إلا لسعد: قال له: ارم سعد فداك أبي وأمي}. وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " {لصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة} وكان إذا كان في الجيش جثا بين يديه ونثر كنانته فقال: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم له السيف والقوس والرمح.

    وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من رمى بسهم في سبيل الله - بلغ العدو أو لم يبلغه - كانت له عدل رقبة}. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير؛ والرامي به والممد به} وهذا لأن هذه الأعمال هي أعمال الجهاد والجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان وتطوعه أفضل من تطوع الحج وغيره كما قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم} {خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}.

    وفي الصحيح {أن رجلا قال: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام فقال علي بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله. فقال عمر بن الخطاب لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته عن ذلك. فسأله؛ فأنزل الله هذه الآية} فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج بالسقاية؛ ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضل من صلاة التطوع.
    وأما في الأمصار البعيدة من العدو فهو نظير صلاة التطوع. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله}. وهذه الأعمال كل منها له محل يليق به هو أفضل فيه من غيره فالسيف عند مواصلة العدو والطعن عند مقاربته والرمي عند بعده أو عند الحائل كالنهر والحصن ونحو ذلك. فكلما كان أنكى في العدو وأنفع للمسلمين فهو أفضل. وهذا يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين في العدو. ومنه ما يكون الرمي فيه أنفع ومنه ما يكون الطعن فيه أنفع. وهذا مما يعلمه المقاتلون.
    (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62)
    [فصل البرهان الثالث والعشرون " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " والجواب عليه]
    فصل

    قال الرافضي: البرهان الثالث والعشرون: قوله تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [سورة الأنفال: 62] من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي بن أبي طالب، وذلك قوله في كتابه: ({هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين}، يعني بعلي، وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام ".
    والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس حجة بالاتفاق. وأبو نعيم له كتاب مشهور في " فضائل الصحابة "، وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول " الحلية "، فإن كانوا يحتجون بما رواه، فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم، وإن كانوا [لا] يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله، ونحن نرجع فيما رواه - هو وغيره - إلى أهل العلم بهذا الفن والطرق التي بها يعلم صدق الحديث وكذبه، من النظر في إسناده ورجاله، وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل [عليه] على أحد الأمرين، لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل علي أو فضائل غيره، فما ثبت أنه صدق صدقناه، وما كان كذبا كذبناه.
    فنحن نجيء بالصدق ونصدق به، لا نكذب، ولا نكذب صادقا. وهذا معروف عند أئمة السنة. وأما من افترى على الله كذبا أو كذب بالحق، فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه للحق، كأتباع مسيلمة

    الكذاب والمكذبين بالحق الذي جاء به الرسول واتبعه عليه المؤمنون به: صديقه الأكبر وسائر المؤمنين.
    ولهذا نقول في الوجه الثاني: إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وهذا الحديث - وأمثاله - مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع، فنحن والله الذي لا إله إلا هو - نعلم علما ضروريا في قلوبنا، لا سبيل لنا إلى دفعه، أن هذا الحديث [كذب] ما حدث به أبو هريرة، وهكذا نظائره مما نقول فيه مثل ذلك.
    وكل من كان عارفا بعلم الحديث وبدين الإسلام يعرف، وكل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا، كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون أنه مغشوش، وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح.
    الثالث: أن الله تعالى قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [سورة الأنفال: 62 - 63]. وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم، وعلي واحد [منهم] ليس له قلوب يؤلف بينها.
    والمؤمنون صيغة جمع، فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا
    معينا، وكيف يجوز أن يقال: المراد بهذا علي وحده؟

    الوجه الرابع: أن يقال: من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان قيام دينه بمجرد موافقة علي، فإن عليا كان من أول من أسلم، فكان الإسلام ضعيفا، فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصرة، لم يحصل بعلي وحده شيء من التأييد، ولم يكن إيمان الناس وهجرتهم ولا نصرتهم على يد علي، ولم يكن علي منتصبا: لا بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان، كما كان أبو بكر منتصبا لذلك، ولم ينقل أنه أسلم على يد علي أحد من السابقين الأولين، لا من المهاجرين ولا من الأنصار، بل لا نعرف أنه أسلم على يد علي أحد من الصحابة، لكن لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قد يكون قد أسلم على يديه من أسلم، إن كان وقع ذلك وليس أولئك من الصحابة، وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر، ولا كان يدعو المشركين ويناظرهم، كما كان أبو بكر يدعوهم ويناظرهم، ولا كان المشركون يخافونه، كما يخافون أبا بكر وعمر.

    بل قد ثبت في الصحاح والمساند والمغازي، واتفق عليه الناس، أنه «لما كان يوم أحد وانهزم المسلمون، صعد أبو سفيان على الجبل وقال: أفي القوم محمد؟ [أفي القوم محمد؟] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
    " لا تجيبوه ". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجيبوه " فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجيبوه ". فقال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء، وقد بقي لك ما يسوءك. فقال: يوم بيوم بدر. فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. ثم أخذ أبو سفيان يرتجز ويقول:
    اعل هبل. . اعل هبل.
    فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تجيبوه؟ " فقالوا: وما نقول؟ قال: " قولوا: الله أعلى وأجل " فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا تجيبوه " فقالوا: وما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " فقال: ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني».
    فهذا جيش المشركين إذ ذاك لا يسأل إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فلو كان القوم خائفين من علي أو عثمان أو طلحة أو الزبير أو نحوهم، أو كان للرسول تأييد بهؤلاء، كتأييده بأبي بكر وعمر، لكان يسأل عنهم كما يسأل عن هؤلاء، فإن المقتضي للسؤال قائم، والمانع
    منتف، ومع وجود القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب معه وجود الفعل.

    الوجه الخامس: أنه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن، إلا ولغيره من الصحابة مثله، ولبعضهم آثار أعظم من آثاره. وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل. وأما من يأخذ بنقل الكذابين وأحاديث الطرقية، فباب الكذب مفتوح، وهذا الكذب يتعلق بالكذب على الله، {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه} [سورة العنكبوت: 68].
    ومجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع مغاز، والمغازي كلها بضع وعشرون غزاة، وأما السرايا فقد قيل: إنها تبلغ سبعين.
    __________
    Q (1) خرم بالأصل مقدار نصف سطر
    قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 83):
    ومن الظاهر أن آخر الكلام الذي سقط قوله [كما قد بسط] يعني (في غير هذا الموضع)، وقد بسط الشيخ الكلام على هذا الأصل، وبين نوعي الهجر بالتفصيل في: 28/ 203 - 210.





  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ الْأَنْفَالِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 324)

    من صــ 56 الى صـ 70






    ومجموع من قتل من الكفار في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغون ألفا أو أكثر أو أقل، ولم يقتل [علي] منهم عشرهم ولا نصف عشرهم، وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها. وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يشهد شيئا من الفتوحات: لا هو ولا عثمان ولا طلحة،
    ولا الزبير، إلا أن يخرجوا مع عمر حين خرج إلى الشام. وأما الزبير فقد شهد فتح مصر، وسعد شهد فتح القادسية، وأبو عبيدة فتح الشام.
    فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم والحال هذه؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان؟
    وقد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وثلاث عشر، ويوم أحد نحو سبعمائة، ويوم الخندق أكثر من ألف أو قريبا من ذلك، ويوم بيعة الرضوان ألفا وأربعمائة، وهم الذين شهدوا فتح خيبر، ويوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف، ويوم حنين كانوا اثني عشر ألفا: تلك العشرة، والطلقاء ألفان.

    وأما تبوك فلا يحصى من شهدها، بل كانوا أكثر من ثلاثين [ألفا]. وأما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه، وكان قد أسلم على عهده أضعاف من رآه وكان من أصحابه، وأيده الله بهم في حياته باليمن وغيرها. وكل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم، بل كل من آمن وجاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى.
    (ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)
    أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر:
    فحسبك والضحاك سيف مهند
    وتقول العرب: حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    فكل من اتبع الرسول فإن الله حسبه؛ أي كافيه وهاديه وناصره؛ أي: كافيه كفايته وهدايته وناصره ورازقه.
    [فصل البرهان الرابع والعشرون " ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي: " البرهان الرابع والعشرون: قوله تعالى: {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64]. من طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي. وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره، فيكون هو الإمام ".
    والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة.
    الثاني: أن هذا القول ليس بحجة.
    الثالث: أن يقال: هذا الكلام من أعظم الفرية على الله ورسوله. وذلك أن قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [سورة الأنفال: 64] معناه: أن الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين. وهذا كما تقول العرب: حسبك وزيدا درهم.
    ومنه قول الشاعر:
    فحسبك والضحاك سيف مهند

    وذلك أن " حسب " مصدر، فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار، فإن العطف بدون ذلك، وإن كان جائزا في أصح القولين فهو قليل، وإعادة الجار أحسن وأفصح، فعطف على المعنى، والمضاف إليه في معنى المنصوب، فإن قوله: " فحسبك والضحاك " [معناه: يكفيك والضحاك].
    والمصدر يعمل عمل الفعل، لكن إذا أضيف عمل في غير المضاف إليه، ولهذا إن أضيف إلى الفاعل نصب المفعول، وإن أضيف إلى المفعول رفع الفاعل، فتقول: أعجبني دق القصار الثوب، وهذا وجه الكلام. وتقول: أعجبني دق الثوب القصار.

    ومن النحاة من يقول: إعماله منكرا أحسن من إعماله مضافا ; لأنه بالإضافة قوي شبهه بالأسماء. والصواب أن إضافته إلى أحدهما وإعماله في الآخر أحسن من تنكيره وإعماله فيهما. فقول القائل: أعجبني دق القصار الثوب. أحسن من قوله: دق الثوب القصار، فإن التنكير أيضا من خصائص الأسماء، والإضافة أخف ; لأنه اسم، والأصل فيه أن يضاف ولا يعمل، لكن لما تعذرت إضافته إلى الفاعل والمفعول جميعا، أضيف إلى أحدهما، وأعمل في الآخر.
    وهكذا في المعطوفات: إن أمكن إضافتها إليها كلها، كالمضاف إلى الظاهر، فهو أحسن. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
    " «إن الله حرم بيع الخمر والميتة [والدم] والخنزير والأصنام» ".
    وكقولهم: «نهى عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة».
    وإن تعذر لم يحسن ذلك، كقولك: حسبك وزيدا درهم، عطفا على المعنى.
    ومما يشبه هذا قوله: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} [سورة الأنعام: 96]، نصب هذا على محل الليل المجرور، فإن اسم الفاعل كالمصدر، ويضاف تارة ويعمل تارة أخرى.
    وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية: أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون: {من اتبعك} رفعا عطفا على الله، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر ; فإن الله وحده حسب جميع الخلق.
    كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [سورة آل عمران: 173] * أي: الله وحده كافينا كلنا.
    وفي البخاري عن ابن عباس في هذه الكلمة: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل *.
    فكل من النبيين قال: حسبي الله، فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه، فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره.

    ومنه قوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده} [سورة الزمر: 36]، وقوله تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله} [سورة التوبة: 59] الآية، فدعاهم إلى أن يرضوا ما آتاهم الله ورسوله، وإلى أن يقولوا: حسبنا الله، ولا يقولوا: حسبنا الله ورسوله ; لأن الإيتاء يكون بإذن الرسول، كما قال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [سورة الحشر: 7]
    وأما الرغبة فإلى الله، كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب - وإلى ربك فارغب} [سورة الشرح: 7].

    وكذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده. فلهذا أمروا أن يقولوا: حسبنا الله، ولا يقولوا ورسوله. فإذا لم يجز أن يكون الله ورسوله * حسب المؤمن، كيف يكون المؤمنون مع الله حسبا لرسوله؟!
    وأيضا فالمؤمنون محتاجون إلى الله، كحاجة الرسول إلى الله *، فلا بد لهم من حسبهم، ولا يجوز أن يكون معونتهم وقوتهم من الرسول وقوة الرسول منهم ; فإن هذا يستلزم الدور، بل قوتهم من الله، وقوة الرسول من الله، [فالله] وحده يخلق قوتهم، والله وحده يخلق قوة الرسول.
    فهذا كقوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين - وألف بين قلوبهم} [سورة الأنفال: 62 - 63]، فإنه وحده هو المؤيد للرسول بشيئين: أحدهما: نصره الذي ينصر به، والثاني: بالمؤمنين الذين أتى بهم.
    وهناك قال: حسبك الله، ولم يقل: نصر الله. فنصر الله منه، كما أن المؤمنين من مخلوقاته أيضا، فعطف ما منه على ما منه، إذ كلاهما منه. وأما هو سبحانه فلا يكون معه غيره في إحداث شيء من الأشياء، بل هو وحده الخالق لكل ما سواه، ولا يحتاج في شيء من ذلك إلى غيره.
    وإذا تبين هذا، فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلا على جهل، فصاروا في
    ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} معناه: أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتبعوه هم علي بن أبي طالب.

    وجهلهم [في] هذا أظهر من جهلهم في الأول، فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس، وأما هذا فلا يخفى على عاقل، فإن عليا لم يكن وحده [من الخلق] كافيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن معه إلا علي لما أقام دينه. وهذا علي لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض، بل لما حاربه معاوية مع أهل الشام، كان معاوية مقاوما له أو مستظهرا، سواء كان ذلك بقوة قتال أو قوة مكر واحتيال، فالحرب خدعة:
    الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني

    فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان.
    فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتباع أكثر أهل الأرض له، فكيف يغني عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الأرض كلهم أعداؤه؟!
    وإذا قيل: إن عليا إنما لم يغلب معاوية ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
    قيل: فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه، فكيف يطيعه الكفار الذين يكفرون بنبيه وبه؟!
    وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين ; لفرط جهلهم وظلمهم: يجعلون عليا أكمل الناس قدرة وشجاعة، حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول، وأن الرسول كان محتاجا إليه. ويقولون مثل هذا الكفر، إذ يجعلونه شريكا لله في إقامة دين محمد، ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهور الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجا.
    ومن المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه، فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد، حتى قهر الكفار وأسلم الناس، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه، هم أقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول، وأقل منهم شوكة، وأقرب إلى الحق منهم؟!
    فإن الكفار حين بعث الله محمدا كانوا أكثر ممن نازع عليا وأبعد عن الحق، فإن أهل الحجاز والشام واليمن ومصر والعراق وخراسان والمغرب كلهم كانوا كفارا، ما بين مشرك وكتابي ومجوسي وصابئ، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام، ولما قتل عثمان كان الإسلام قد ظهر في الشام ومصر والعراق وخراسان والمغرب.
    فكان أعداء الحق عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل منهم

    وأضعف، وأقل عداوة منهم له عند مبعثه، وكذلك كانوا عند مقتل عثمان أقل منهم وأضعف، وأقل عداوة منهم له حين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ; فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه علي، هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن كذب بالحق الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقاتله عليه، كذب بما قاتل عليه علي من ذلك.

    فإذا كان علي في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل، فكيف يكون حاله حين المبعث، وهو أضعف وأعجز، وأعداء الحق أعظم وأكثر وأشد عداوة؟!
    ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى: ادعوا في المسيح الإلهية، وأنه رب كل شيء ومليكه، وهو على كل شيء قدير. ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه، وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه، فلا [أفلحوا] بدعوى تلك القدرة القاهرة، ولا بإثبات هذه الذلة التامة.
    وإن قالوا: كان هذا برضاه.
    قيل: فالرب إنما يرضى بأن يطاع لا بأن يعصى. فإن كان قتله وصلبه برضاه، كان ذلك عبادة وطاعة لله، فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين لله مطيعين في ذلك، فيمدحون على ذلك لا يذمون. وهذا من أعظم الجهل والكفر.
    وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم، تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز. كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال ". وفي لفظ: " عائل مزهو " وفي لفظ: " وعائل مستكبر» " وهذا معنى قول بعض العامة: الفقر والزنطرة.
    فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح: يدعي أحدهم الإلهية وما هو أعظم من النبوة، ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته، ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته، أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته، فيفتقر إلى لقمة، ويخاف من كلمة، فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز؟!
    وهذه حال المشركين الذين قال الله فيهم: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} [سورة الحج: 31].
    وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} [سورة العنكبوت: 41] وقال: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا} [سورة آل عمران: 151].
    والنصارى فيهم شرك بين، كما قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [سورة التوبة: 31]. وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنساك: فيه شرك وغلو، [كما في النصارى شرك وغلو] واليهود فيهم كبر، والمستكبر معاقب بالذل.
    قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [سورة آل عمران: 112].
    وقال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [سورة البقرة: 87] فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء كان استكبارا.
    فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه، وشبه من النصارى من وجه. ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى، وفيهم جبن وكبر وحسد وتكذيب بالحق كاليهود
    وهكذا غير الرافضة من أهل الأهواء والبدع، تجدهم في نوع من الضلال ونوع من الغي، فيهم شرك وكبر.

    لكن الرافضة أبلغ من غيرهم في ذلك، ولهذا تجدهم من أعظم الطوائف تعطيلا لبيوت الله ومساجده من الجمع والجماعات، التي هي أحب الاجتماعات إلى الله. وهم أيضا لا يجاهدون الكفار أعداء الدين، بل كثيرا ما يوالونهم ويستعينون بهم على عداوة المسلمين، فهم يعادون أولياء الله المؤمنين، ويوالون أعداءه المشركين وأهل الكتاب، كما يعادون أفضل الخلق [من] المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون أكفر الخلق من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من الملاحدة، وإن كانوا يقولون: هم كفار، فقلوبهم وأبدانهم إليهم أميل منها إلى المهاجرين والأنصار والتابعين وجماهير المسلمين.
    وما من أحد من أهل الأهواء والبدع، حتى المنتسبين إلى العلم والكلام والفقه والحديث والتصوف إلا وفيه شعبة من ذلك، كما يوجد أيضا شعبة من ذلك في أهل الأهواء من أتباع الملوك والوزراء والكتاب والتجار، لكن الرافضة أبلغ في الضلال والغي من جميع الطوائف أهل البدع.





  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 325)

    من صــ 71 الى صـ 85






    (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم (75)
    قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة وهكذا قوله تعالى {للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    (فصل في التعريف بالسورة الكريمة)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وقد أنزل الله " سورة براءة " التي تسمى الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين. أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل (ومنهم (ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.

    وعن المقداد بن الأسود قال: هي " سورة البحوث " لأنها بحثت عن سرائر المنافقين.
    وعن قتادة قال: هي المثيرة؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين. وعن ابن عباس قال: هي المبعثرة. والبعثرة والإثارة متقاربان. وعن ابن عمر: أنها المقشقشة. لأنها تبرئ من مرض النفاق. يقال: تقشقش المريض إذا برأ: قال الأصمعي: وكان يقال لسورتي الإخلاص: المقشقشتان؛ لأنهما يبرئان من النفاق.
    وهذه السورة نزلت في آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك عام تسع من الهجرة وقد عز الإسلام وظهر. فكشف الله فيها أحوال المنافقين ووصفهم فيها بالجبن وترك الجهاد. ووصفهم بالبخل عن النفقة في سبيل الله والشح على المال.
    وهذان داءان عظيمان: الجبن والبخل. قال النبي صلى الله عليه وسلم {شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع} حديث صحيح؛ ولهذا قد يكونان من الكبائر الموجبة للنار كما دل عليه قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وقال تعالى. {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}.
    وأما وصفهم بالجبن والفزع فقال تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون}. فأخبر سبحانه أنهم وإن حلفوا إنهم من المؤمنين فما هم منهم؛ ولكن يفزعون من العدو. فـ {لو يجدون ملجأ} يلجئون إليه من المعاقل والحصون التي يفر إليها من يترك الجهاد أو (مغارات وهي جمع مغارة. ومغارات سميت بذلك لأن الداخل يغور فيها أي يستتر؛ كما يغور الماء. أو مدخلا وهو الذي يتكلف الدخول إليه إما لضيق بابه أو لغير ذلك. أي مكانا يدخلون إليه. ولو كان الدخول بكلفة ومشقة (لولوا عن الجهاد {إليه وهم يجمحون} أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح الذي إذا حمل لا يرده اللجام. وهذا وصف منطبق على أقوام كثيرين في حادثتنا وفيما قبلها من الحوادث وبعدها.
    وقال في وصفهم بالشح: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون}. فهذه حال من أنفق كارها فكيف بمن ترك النفقة رأسا وقال: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} وقال: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون}.

    وقال في السورة: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}. فانتظمت هذه الآية حال من أخذ المال بغير حقه أو منعه من مستحقه من جميع الناس؛ فإن الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد. وقد أخبر أن كثيرا منهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون - أي يعرضون ويمنعون.

    يقال: صد عن الحق صدودا وصد غيره صدا. وهذا يندرج فيه ما يؤكل بالباطل: من وقف أو عطية على الدين كالصلاة والنذور التي تنذر لأهل الدين ومن الأموال المشتركة كأموال بيت المال ونحو ذلك. فهذا فيمن يأكل المال بالباطل بشبهة دين. ثم قال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فهذا يندرج فيه من كنز المال عن النفقة الواجبة في سبيل الله. والجهاد أحق الأعمال باسم سبيل الله سواء كان ملكا أو مقدما أو غنيا أو غير ذلك. وإذا دخل في هذا ما كنز من المال الموروث والمكسوب فما كنز من الأموال المشتركة التي يستحقها عموم الأمة - ومستحقها: مصالحهم - أولى وأحرى.
    (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وهذه الأشهر عند جمهور العلماء هي المذكورة في قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين} [التوبة: 2].
    فإن المشركين كانوا على نوعين: نوعا لهم عهد مطلق غير مؤقت، وهو عقد جائز غير لازم، ونوعا لهم عهد مؤقت، فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق ; لأن هذا العهد جائز غير لازم، وأمره أن يسيرهم أربعة أشهر، ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم، فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب، والصواب هو القول الثالث، وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة.
    فأما المطلقة فجائزة غير لازمة، يخير بين إمضائها وبين نقضها. والمؤقتة لازمة.
    [فصل قال الرافضي الحادي عشر أن رسول الله أنفذه لأداء سورة براءة ثم رده والرد عليه]
    (فصل)
    قال الرافضي: " الحادي عشر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذه لأداء سورة براءة، ثم أنفذ عليا، وأمره برده، وأن يتولى هو ذلك، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها، فكيف يصلح للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة؟! "
    والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم، وبالتواتر العام ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، لم يرده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام، وعلي من جملة رعيته، يصلي خلفه، ويدفع بدفعه، ويأتمر بأمره كسائر من معه.
    وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم: لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم. فكيف يقال: إنه أمره برده؟!
    ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم ; لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد.

    وفي الصحيحين م: وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع، في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: " أن: «لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» "، وفي رواية: «ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي، وأمره أن يؤذن ببراءة، فأذن علي معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة، وبأن لا يحج (* بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان». قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج *) عام حجة الوداع - التي حج فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرك.
    قال أبو محمد بن حزم: " وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله ; لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم، والناس منصتون لخطبته، يصلون خلفه، وعلي من جملتهم. وفي السورة فضل أبي بكر وذكر الغار، فقرأها علي على الناس، فهذا مبالغة في فضل أبي بكر، وحجة قاطعة ".
    وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله: " «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى»؟ "، ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة، ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه، ويزيدون فيه وينقصون.
    وهذا القدر، وإن كان الرافضي لم يفعله، فهو فعل شيوخه وسلفه الذين قلدهم، ولم يحقق ما قالوه، ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم، المعلوم لعامتهم وخاصتهم.
    الثاني: قوله: " الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة ".
    قول باطل ; فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها، لا تحتاج فيها إلى الإمام، إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء، وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها، إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك، كما «سألهم عن ميراث الجدة، فأخبره من أخبره منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس».
    الثالث: أن القرآن بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل أحد من المسلمين، فيمتنع أن يقال: إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه.
    الرابع: أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي ; فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر.

    الخامس: أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم: " «أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» " كما ثبت في الصحيحين. فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلغوا القرآن.
    (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)
    وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    عن قوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} فسماه هنا كلام الله وقال في مكان آخر: {إنه لقول رسول كريم} فما معنى ذلك؟ فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم ثم يقولون: أنتم تعتقدون أن موسى - صلوات الله عليه - سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة وتقولون: إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة فما الفرق بين هذا وهذا؟ وتقولون: إن القرآن صفة لله تعالى وأن صفات الله تعالى قديمة؛ فإن قلتم إن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية وإن قلتم: غير ذلك قلتم بمقالتنا ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، هذه الآية حق كما ذكر الله وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل وذلك أن قوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} فيه دلالة على أنه يسمع كلام الله من التالي المبلغ وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله كما في حديث جابر في السنن: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي} وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم: {الم} {غلبت الروم} {في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} قالوا له هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي؛ ولكنه كلام الله. وقد قال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} {وجعلت له مالا ممدودا} {وبنين شهودا} {ومهدت له تمهيدا} {ثم يطمع أن أزيد} {كلا إنه كان لآياتنا عنيدا} {سأرهقه صعودا} {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر} "

    فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر كان قوله مضاهيا لقول الوحيد الذي أصلاه الله سقر. ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ولو قال المبلغ هذا كلامي وقولي لكذبه الناس لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئا منشئا؛ لا لمن أداه راويا مبلغا. فإذا كان مثل هذا معلوما في تبليغ كلام المخلوق فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق الذي هو أولى أن لا يجعل كلاما لغير الخالق جل وعلا. وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه فقال: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}.

    فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس وكلاهما مبلغ له كما قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} وقال: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه قال الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} إلى قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}.
    كان بعض المشركين يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره كما ذكر ذلك المفسرون فقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه} أي يضيفون إليه التعليم لسان {أعجمي وهذا لسان عربي مبين} فكيف يتصور أن يعلمه أعجمي وهذا الكلام عربي؟ وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه؛ إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه وبيان أن هذا الذي تعلمه من غيره نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه.
    ومن المعلوم أن من بلغ كلام غيره كمن بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الناس أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لبيد:ألا كل شيء ما خلا الله باطل أو قول عبد الله بن رواحة حيث قال: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا أو قوله: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع وهذا الشعر قاله منشئه لفظه ومعناه وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد - والمحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا روى قوله: {إنما الأعمال بالنيات} بلغه بحركته وصوته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم به بحركته وصوته وليس صوت المبلغ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولا حركته كحركته والكلام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلام المبلغ له عنه. فإذا كان هذا معلوما معقولا فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ {الحمد لله رب العالمين} {الرحمن الرحيم} {مالك يوم الدين} أن يقال هذا الكلام كلام البارئ وإن كان الصوت صوت القارئ.

    فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق وبدعوه كما جهموا من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقالوا القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف فكيف من قال لفظي به قديم أو صوتي به قديم؟ فابتداع هذا وضلاله أوضح. فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو ضال مبتدع.





  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 326)

    من صــ 86 الى صـ 100






    وهؤلاء قد يحتجون بقوله {حتى يسمع كلام الله} ويقولون هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق فهذا غير مخلوق ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ وهذا جهل منهم فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة ويكون بواسطة الرسول المبلغ له قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا. ولو قال قائل: إنا نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحا فكيف من يقول أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى وإن كان الله كلم موسى تكليما بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتا للخالق. وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق؛ بل ولا مثلها بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فليس كلامه مثل كلامه ولا معناه مثل معناه ولا حرفه مثل حرفه ولا صوته مثل صوته كما أنه ليس علمه مثل علمه ولا قدرته مثل قدرته ولا سمعه مثل سمعه ولا بصره مثل بصره فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
    ولما استقر في فطر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب. وقد بين أئمة السنة والعلم - كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال وغيرهما من أئمة السنة - من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين.
    وقال أيضا شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
    فصل:

    قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} وهو منزل من الله كما قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}. فأخبر سبحانه أنهم يعلمون ذلك والعلم لا يكون إلا حقا. وقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال تعالى: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وقال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} ونحو ذلك وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق}.
    فأخبر سبحانه أنه منزل من الله ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه؛ بخلاف نزول الملائكة والمطر والحديد وغير ذلك. ولهذا كان القول المشهور عن السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود؛ فإن من قال إنه مخلوق يقول إنه خلق في بعض المخلوقات القائمة بنفسها فمن ذلك المخلوق نزل وبدأ لم ينزل من الله فإخبار الله تعالى أنه منزل من الله يناقض أن يكون قد نزل من غير الله؛ ولهذا فسر الإمام أحمد قوله " منه بدأ " أي هو المتكلم به وقال أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن عنه. و " أيضا " فلو كان مخلوقا في غيره لم يكن كلامه؛ بل كان يكون كلاما لذلك المخلوق فيه وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الإرادة والمحبة والمشيئة والرضى والغضب والمقت وغير ذلك من الأمور لو كان مخلوقا في غيره لم يكن الرب تعالى متصفا به بل كان يكون صفة لذلك المحل؛ فإن المعنى إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل ولم يكن صفة لغيره فيمتنع أن يكون المخلوق أو الخالق موصوفا بصفة موجودة قائمة بغيره؛ لأن ذلك فطري فما وصف به نفسه من الأفعال اللازمة يمتنع أن يوصف الموصوف بأمر لم يقم به. وهذا مبسوط في مواضع أخر.
    ولم يقل السلف: إن النبي سمعه من الله تعالى كما يقول ذلك بعض المتأخرين قال الله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته} وفي الصحيحين عن {ابن مسعود قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ علي القرآن قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت إلى هذه الآية {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان من البكاء}.
    والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل وهو الذي نزل عليه به وجبريل سمعه من الله تعالى كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة قال تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} وقال تعالى: {نزل به الروح الأمين} {على قلبك لتكون من المنذرين} {بلسان عربي مبين} وقال تعالى {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس - وهو الروح الأمين وهو جبريل - من الله بالحق ولم يقل أحد من السلف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من الله وإنما قال ذلك بعض المتأخرين.
    وقوله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه} {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} {ثم إن علينا بيانه} هو كقوله تعالى: {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق} وقوله: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} ونحو ذلك مما يكون الرب فعله بملائكته. فإن لفظ (نحن هو للواحد المطاع الذي له أعوان يطيعونه فالرب تعالى خلق الملائكة وغيرها تطيعه الملائكة أعظم مما يطيع المخلوق أعوانه فهو سبحانه أحق باسم " نحن " و " فعلنا " ونحو ذلك من كل ما يستعمل. وفي الصحيحين عن {ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان يحرك شفتيه فقال ابن عباس: أنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما}.
    وقال سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله {لا تحرك به لسانك لتعجل به} {إن علينا جمعه وقرآنه} قال: جمعه لك في صدرك وتقرؤه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} فإذا قرأه رسولنا وفي لفظ: فإذا قرأه جبريل فاستمع له وأنصت {ثم إن علينا بيانه} أي نقرؤه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه ".

    وقد بين الله تعالى أنواع تكليمه لعباده في قوله {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فبين سبحانه أن التكليم تارة يكون وحيا وتارة من وراء حجاب كما كلم موسى وتارة يرسل رسولا فيوحي الرسول بإذن الله ما يشاء وقال تعالى: {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} فإذا أرسل الله تعالى رسولا كان ذلك مما يكلم به عباده فيتلوه عليهم وينبئهم به كما قال تعالى: {قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} وإنما نبأهم بواسطة الرسول والرسول مبلغ به كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} وقال تعالى: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} والرسول أمر أمته بالتبليغ عنه. ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار} وقال صلى الله عليه وسلم لما خطب المسلمين: {ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع} وقال صلى الله عليه وسلم {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه}

    وفي السنن عن جابر قال {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي} وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم لم يقل واحدا من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من " الأئمة الأربعة " ولا غيرهم؛ بل الآثار متواترة عنهم بأنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله ولما ظهر من قال إنه مخلوق قالوا ردا لكلامه: إنه غير مخلوق ولم يريدوا بذلك أنه مفترى كما ظنه بعض الناس فإن أحدا من المسلمين لم يقل إنه مفترى بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم وإنما قالوا إنه مخلوق خلقه الله في غيره فرد السلف هذا القول كما تواترت الآثار عنهم بذلك وصنفوا في ذلك مصنفات متعددة وقالوا: منه بدأ وإليه يعود.
    وأول من عرف أنه قال مخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب ثم افترق الذين شاركوه في هذا القول. فمنهم من قال: الكلام معنى واحد قائم بذات الرب ومعنى القرآن كله والتوراة والإنجيل وسائر كتب الله وكلامه هو ذلك المعنى الواحد الذي لا يتعدد ولا يتبعض والقرآن العربي لم يتكلم الله به بل هو مخلوق خلقه في غيره. وقال جمهور العقلاء: هذا القول معلوم الفساد بالاضطرار فإنه من المعلوم بصريح العقل أن معنى " آية الكرسي " ليس معنى " آية الدين " ولا معنى {قل هو الله أحد} معنى {تبت يدا أبي لهب وتب} فكيف بمعاني كلام الله كله في الكتب المنزلة وخطابه لملائكته وحسابه لعباده يوم القيامة وغير ذلك من كلامه. ومنهم من قال: هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية لازمة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا بها. وكلا الحزبين يقول: إن الله تعالى لا يتكلم بمشيئته وقدرته وإنه لم يزل ولا يزال يقول: يا نوح يا إبراهيم يا أيها المزمل يا أيها المدثر كما قد بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع ولم يقل أحد من السلف بواحد من القولين ولم يقل أحد من السلف: إن هذا القرآن عبارة عن كلام الله ولا حكاية له ولا قال أحد منهم إن لفظي بالقرآن قديم أو غير مخلوق فضلا عن أن يقول: إن صوتي به قديم أو غير مخلوق؛ بل كانوا يقولون بما دل عليه الكتاب والسنة من أن هذا القرآن كلام الله والناس يقرءونه بأصواتهم ويكتبونه بمدادهم وما بين اللوحين كلام الله وكلام الله غير مخلوق.
    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تسافروا
    بالقرآن إلى أرض العدو} وقال تعالى: {بل هو قرآن مجيد} {في لوح محفوظ} والمداد الذي يكتب به القرآن مخلوق والصوت الذي يقرأ به هو صوت العبد والعبد وصوته وحركاته وسائر صفاته مخلوقة فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الباري والصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} وقال النبي صلى الله عليه وسلم " زينوا القرآن بأصواتكم " فبين أن الأصوات التي يقرأ بها القرآن أصواتنا والقرآن كلام الله ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة: يحسنه الإنسان بصوته كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم {لو علمت إنك تسمع لحبرته لك تحبيرا}.

    فكان ما قاله أحمد وغيره من أئمة السنة من أن الصوت صوت العبد موافقا للكتاب والسنة وقد قال تعالى: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} وقال تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} وقال تعالى: " {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} ففرق سبحانه بين المداد الذي يكتب به كلماته وبين كلماته فالبحر وغيره من المداد الذي يكتب به الكلمات مخلوق وكلمات الله غير مخلوقة.
    وقال تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} فالأبحر إذا قدرت مدادا تنفد وكلمات الله لا تنفد؛ ولهذا قال أئمة السنة لم يزل الله متكلما كيف شاء وبما شاء كما ذكرت الآثار بهذه المعاني عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.

    هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع فقال تعالى: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وذكر سبحانه نداءه لموسى عليه السلام في سورة " طه " و " مريم " و " الطس الثلاث " وفي سورة " والنازعات " وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال تعالى: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى}
    وقال تعالى: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا}واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت: نادى موسى وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف كما لم يقل أحد منهم إن الصوت الذي سمعه موسى قديم ولا إن ذلك النداء قديم ولا قال أحد منهم: إن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذي تكلم الله به؛ بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذي يتكلم الله به وبين أصوات العباد. وكان أئمة السنة يعدون من أنكر تكلمه بصوت من الجهمية كما قال الإمام أحمد لما سئل عمن قال إن الله لا يتكلم بصوت فقال: هؤلاء جهمية إنما يدورون على التعطيل.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وقال أبو بكر الصديق لأصحاب مسيلمة الكذاب لما سمع قرآن مسيلمة " ويحكم أين يذهب بعقولكم؟ إن هذا كلاما لم يخرج من إل " أي من رب. وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج ومنه بدا. أنه فارق ذاته وحل بغيره فإن كلام المخلوق إذ تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره فكيف يكون كلام الله؟ قال تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.

    و " أيضا " فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم فالقرآن أولى بذلك فالكلام كلام الباري والصوت صوت القارئ قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} وقال صلى الله عليه وسلم {زينوا القرآن بأصواتكم} ولكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره فيكون قد ابتدأ وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة فبين السلف والأئمة أن القرآن من الله بدأ وخرج وذكروا قوله {ولكن حق القول مني} فأخبر أن القول منه لا من غيره من المخلوقات. و " من " هي لابتداء الغاية فإن كان المجرور بها عينا يقوم بنفسه لم يكن صفة لله كقوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وقوله في المسيح: {وروح منه} وكذلك ما يقوم بالأعيان كقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله}.
    وأما إذا كان المجرور بها صفة ولم يذكر لها محل كان صفة لله كقوله {ولكن حق القول مني}. وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه وأنه نزل به جبريل منه ردا على هذا المبتدع المفتري وأمثاله ممن يقول: إنه لم ينزل منه قال تعالى: {أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وقال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى {نزل به الروح الأمين} {على قلبك} وقال {من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} وقال هنا {نزله روح القدس من ربك} فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء ولا من لوح ولا غير ذلك وكذلك سائر آيات القرآن كقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقوله {الم} {تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} وقوله {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}.
    فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله فمن قال: إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله مكذب لكتاب الله. متبع لغير سبيل المؤمنين. ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزله من بعض المخلوفات كالمطر بأن قال: {أنزل من السماء ماء}؟ فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء والقرآن أخبر أنه منزل منه.

    وأخبر بتنزيل مطلق في مثل قوله {وأنزلنا الحديد} لأن الحديد ينزل من رءوس الجبال لا ينزل من السماء وكذلك الحيوان؛ فإن الذكر ينزل الماء في الإناث. فلم يقل فيه من السماء ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة.
    فيكون بنو إسرائيل قد قرءوا الألواح التي كتبها الله وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد أخذه عن جبريل وجبريل عن اللوح فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أنزل عليهم كتابا لا يغسله الماء وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة وفرقه عليهم لأجل ذلك. فقال: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}.





  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 327)

    من صــ 101 الى صـ 115




    (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7) كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
    نفى سبحانه أن يكون لمشرك عهد ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم إلا قوما ذكرهم فإنه جعل لهم عهدا ما داموا مستقيمين لنا فعلم أن العهد لا يبقى للمشرك إلا ما دام مستقيما ومعلوم أن مجاهرتنا بالشتيمة والوقيعة في ربنا ونبينا وكتابنا وديننا يقدح في الاستقامة كما تقدح مجاهرتنا بالمحاربة في العهد بل ذلك أشد علينا إن كنا مؤمنين فإنه يجب علينا أن نبذل دماءنا وأموالنا حتى تكون كلمة الله هي العليا ولا يجهر في ديارنا بشيء من أذى الله ورسوله فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقدح في أهون الأمرين كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما؟.
    يوضح ذلك قوله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} أي كيف يكون لهم عهد ولو ظهروا عليكم لم يرقبوا الرحم التي بينكم ولا العهد الذي بينكم وبينهم؟ فعلم أن من كانت حاله أنه إذا ظهر لم يرقب ما بيننا وبينه من العهد لم يكن له عهد من جاهرنا بالطعن في ديننا كان ذلك دليلا على أنه لو ظهر لم يرقب العهد الذي بيننا وبينه فإنه إذا كان مع وجود العهد والذلة يفعل هذا فكيف يكون مع العزة والقدرة؟ وهذا بخلاف من لم يظهر لنا مثل هذا الكلام فإنه يجوز أن يفي لنا بالعهد لو ظهر.
    وهذه الآية وإن كانت في أهل الهدنة الذين يقيمون في دارهم فإن معناها ثابت في أهل الذمة المقيمين في دارنا بطريق الأولى.
    (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12) ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وهذه الآية تدل من وجوه:
    أحدها: أن مجرد نكث الأيمان مقتض للمقاتلة وإنما ذكر الطعن في الدين وأفرده بالذكر تخصيصا له بالذكر وبيانا لأنه من أقوى الأسباب الموجبة للقتال ولهذا يغلظ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يغلظ على غيره من الناقضين كما سنذكره إن شاء الله تعالى أو يكون ذكره على سبيل التوضيح وبيان سبب القتال فان الطعن في الدين هو الذي يجب أن يكون داعيا إلى قتالهم لتكون كلمة الله هي العليا وأما مجرد نكث اليمين فقد يقاتل لأجله شجاعة وحمية ورياء أو يكون ذكر الطعن في الدين لأنه أوجب القتال في هذه الآية بقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} وبقوله تعالى:
    {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم} فيفيد ذلك أن من لم يصدر منه إلا مجرد نكث اليمين جاز أن يؤمن ويعاهد وأما من طعن في الدين فإنه يتعين قتاله وهذه كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يهدر دماء من آذى الله ورسوله وطعن في الدين وإن أمسك عن غيره وإذا كان نقض العهد وحده موجبا للقتال وإن تجرد عن الطعن علم أن الطعن في الدين إما سبب آخر أو سبب مستلزم لنقض العهد فإنه لابد أن يكون له تأثير في وجوب المقاتلة وإلا كان ذكره ضائعا.
    فإن قيل: هذا يفيد أن من نكث عهده وطعن في الدين يجب قتاله أما من طعن في الدين فقط فلم تتعرض الآية له بل مفهومها أنه وحده لا يوجب هذا الحكم لأن الحكم المعلق بصفتين لا يجب وجوده عند وجود إحدهما.
    قلنا: لا ريب أنه لابد أن يكون لكل صفة تأثير في الحكم وإلا فالوصف العديم التأثير لا يجوز تعليق الحكم به كمن قال: من زنى وأكل جلد ثم قد يكون كل صفة مستقلة بالتأثير لو انفردت كما يقال: يقتل هذا لأنه مرتد زان وقد يكون مجموع الجزاء مرتبا على المجموع ولكل وصف تأثير في البعض كما قال: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} الآية وقد تكون تلك الصفات متلازمة كل منها لو فرض تجرده لكان مؤثرا على سبيل الاستقلال أو الاشتراك فيذكر إيضاحا وبيانا للموجب كما يقال: كفروا بالله وبرسوله وعصى الله ورسوله وقد يكون بعضها مستلزما للبعض من غير عكس كما قال: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق} الآية وهذه الآية من أي الأقسام فرضت كان فيها دلالة لأن أقصى ما يقال أن نقض العهد هو المبيح للقتال والطعن في الدين مؤكد له وموجب له فنقول: إذا كان الطعن يغلظ قتال من ليس بيننا وبينه عهد ويوجبه فأن يوجب قتال من بيننا وبينه ذمة وهو ملتزم للصغار أولى وسيأتي تقرير ذلك على أن المعاهد له أن يظهر في داره ما شاء من أمر دينه الذي لا يؤذينا والذمي ليس له أن يظهر في دار الإسلام شيئا من دينه الباطل وإن لم يؤذنا فحاله أشد وأهل مكة الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا معاهدين لا أهل ذمة فلو فرض أن مجرد طعنهم ليس نقضا للعهد لم يكن الذمي كذلك.
    الوجه الثاني: أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه وطعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك ويؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته عليه وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده وطعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية وهذه دلالة قوية حسنة لأن المنازع يسلم لنا أنه ممنوع من ذلك بالعهد الذي بيننا وبينه لكن نقول: ليس كل ما منع منه نقض عهده كإظهار الخمر والخنزير ونحو ذلك فنقول:
    قد وجد منه شيئان: ما منعه منه العهد وطعن في الدين بخلاف أولئك فإنه لم يوجد منهم إلا فعل ما هم ممنوعون منه بالعهد فقط والقرآن يوجب قتل من نكث يمينه من بعد عهده وطعن في الدين ولا يمكن أن يقال "لم ينكث" لأن النكث هو مخالفة العهد فمتى خالفوا شيئا مما صولحوا عليه فهو نكث مأخوذ من نكث الحبل وهو نقض قواه ونكث الحبل يحصل بنقض قوة واحدة كما يحصل بنقض جميع القوى ولكن قد بقى من قواه ما يستمسك الحبل به وقد يهن بالكلية وهذه المخالفة من المعاهد قد تبطل العهد بالكلية حتى تجعله حربيا وقد شعث العهد حتى تبيح عقوبتهم كما أن نقض بعض الشروط في البيع والنكاح ونحوهما قد يبطل البيع بالكلية كما لو وصفه بأنه فرس فظهر بعيرا وقد يبيح الفسخ كالإخلال بالرهن والضمين هذا عند من يفرق في المخالفة وأما من قال: "ينتقض العهد بجميع المخالفات" فالأمر ظاهر على قوله وعلى التقديرين قد اقتضى العقد أن لا يظهروا شيئا من عيب ديننا وأنهم متى أظهروا فقد نكثوا وطعنوا في الدين فيدخلون في عموم الآية لفظا ومعنى ومثل هذا العموم يبلغ درجة النص.
    الوجه الثالث: أنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم في الدين وأوقع الظاهر موقع المضمر لأن قوله {أئمة الكفر} إما أن يعنى به الذين نكثوا أو طعنوا أو بعضهم والثاني لا يجوز لأن الفعل الموجب للقتال صدر من جميعهم فلا يجوز تخصيص بعضهم بالجزاء إذا العلة يجب طردها إلا لمانع ولا مانع ولأنه علل ذلك ثانيا بأنهم لا أيمان لهم وذلك يشمل جميع الناكثين الطاعنين ولان النكث والطعن وصف مشتق مناسب لوجوب القتال وقد رتب عليه بحرف الفاء ترتيب الجزاء على شرطه وذلك نص في أن ذلك الفعل هو الموجب للثاني فثبت أنه عنى الجميع فيلزم أن الجميع أئمة كفر وإمام الكفر هو الداعي إليه المتبع فيه وإنما صار إماما في الكفر لأجل الطعن فإن مجرد النكث لا يوجب ذلك وهو مناسب لأن الطعن في الدين يعيبه ويذمه ويدعو إلى خلافه وهذا شأن الإمام فثبت أن كل طاعن في الدين فهو إمام في الكفر فإذا طعن الذمي في الدين فهو إمام في الكفر فيجب قتله لقوله تعالى:
    {فقاتلوا أئمة الكفر} ولا يمين له لأنه عاهدنا على أن لا يظهر عيب الدين وخالف واليمين هنا المراد بها العهود لا القسم بالله فيما ذكره المفسرون وهو كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاسمهم بالله عام الحديبية وإنما عاقدهم عقدا ونسخة الكتاب معروفة ليس فيها قسم وهذا لأن اليمين يقال: إنما سميت بذلك لأن المعاهدين يمد كل منهما يمينه إلى الآخر ثم غلبت حتى صار مجرد الكلام بالعهد يسمى يمينا ويقال: سميت يمينا لأن اليمين هي القوة والشدة كما قال الله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} فلما كان الحلف معقودا مشددا سمي يمينا فاسم اليمين جامع للعقد الذي بين العبد وبين ربه وإن كان نذرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "النذر حلفة" وقوله: "كفارة النذر كفارة اليمين" وقول جماعة من الصحابة للذي نذر نذر اللجاج والغضب: "كفر يمينك" وللعهد الذي بين المخلوقين ومنه قوله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} والنهي عن نقض العهود وإن لم يكن فيها قسم وقال تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله} وإنما لفظ العهد "بايعناك على أن لا نفر" ليس فيه قسم وقد سماهم معاهدين لله وقال تعالى:
    {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} قالوا: معناه يتعاهدون ويتعاقدون لأن كل واحد من المعاهدين إنما عاهده بأمانة الله وكفالته وشهادته فثبت أن كل من طعن في ديننا بعد أن عاهدناه عهدا يقتضي أن لا يفعل ذلك فهو إمام في الكفر لا يمين له فيجب قتله بنص الآية وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الناكث الذي ليس بإمام وهو من خالف بفعل شيء مما صولحوا عليه من غير الطعن في الدين.
    الوجه الرابع: أنه قال تعالى: {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة} فجعل همهم بإخراج الرسول من المحضضات على قتالهم وما ذاك إلا لما فيه من الأذى وسبه أغلظ من الهم بإخراجه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم عفا عام الفتح عن الذين هموا بإخراجه ولم يعف عمن سبه فالذمي إذا أظهر سبه فقد نكث عهده وفعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدأ بالأذى فيجب قتاله.
    الوجه الخامس: قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} أمر سبحانه بقتال الناكثين الطاعنين في الدين وضمن لنا إن فعلنا ذلك أن يعذبهم بأيدينا ويخزيهم وينصرنا عليهم ويشفي صدور المؤمنين الذين تأذوا من نقضهم وطعنهم وأن يذهب غيظ قلوبهم لأنه رتب ذلك على قتالهم ترتيب الجزاء على الشرط والتقدير: إن تقاتلوهم يكن هذا كله فدل على أن الناكث الطاعن مستحق هذا كله وإلا فالكفار يدالون علينا المرة وندال عليهم الأخرى وإن كانت العاقبة للمتقين وهذا تصديق ما جاء في الحديث:
    "ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو" والتعذيب بأيدينا هو القتل فيكون الناكث الطاعن مستحقا للقتل والساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناكث طاعن كما تقدم فيستحق القتل وإنما ذكر سبحانه النصر عليهم وأنه يتوب من بعد ذلك على من يشاء لأن الكلام في قتال الطائفة الممتنعة فأما الواحد المستحق للقتل فلا ينقسم حتى يقال فيه "يعذبه الله ويتوب الله من بعد ذلك على من يشاء" على أن قوله {من يشاء} يجوز أن يكون عائدا إلى من لم يطعن بنفسه وإنما أقر الطاعن فسميت الفئة طاعنة لذلك وعند التمييز فبعضهم دون بعضهم مباشر ولا يلزم من التوبة على الردء التوبة على المباشر ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر عام الفتح دم الذين باشروا الهجاء ولم يهدر دم الذين سمعوه وأهدر دم بني بكر ولم يهدر دم الذين أعاروهم السلاح.
    الوجه السادس: أن قوله تعالى: {ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم} دليل على أن شفاء الصدور من ألم النكث والطعن وذهاب الغيظ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمر مقصود للشارع مطلوب الحصول وأن ذلك يحصل إذا جاهدوا كما جاء في الحديث المرفوع:
    " عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الله يدفع الله به عن النفوس الهم والغم " ولا ريب أن من أظهر سب الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة وشتمه فإنه يغيظ المؤمنين ويؤلمهم أكثر مما لو سفك دماء بعضهم وأخذ أموالهم فإن هذا يثير الغضب لله والحمية له ولرسوله وهذا القدر لا يهيج في قلب المؤمن غيظا أعظم منه بل المؤمن المسدد لا يغضب هذا الغضب إلا لله والشارع يطلب شفاء صدور المؤمنين وذهاب غيظ قلوبهم وهذا إنما يحصل بقتل الساب لأوجه:
    أحدها: أن تعزيره وتأديبه يذهب غيظ قلوبهم إذا شتم واحدا من المسلمين أو فعل نحو ذلك فلو أذهب غيظ قلوبهم إذا شتم الرسول لكان غيظهم من شتمه مثل غيظهم من شتم واحد منهم وهذا باطل.
    الثاني: أن شتمه أعظم عندهم من أن يؤخذ بعض دمائهم ثم لو قتل واحدا منهم لم يشف صدورهم إلا قتله فأن لا تشفى صدورهم إلا بقتل الساب أولى وأحرى.
    الثالث: أن الله تعالى جعل قتالهم هو السبب في حصول الشفاء والأصل عدم سبب آخر يحصله فيجب أن يكون القتل والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا.
    الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتحت مكة وأراد أن يشفي صدور خزاعة وهم القوم المؤمنين من بني بكر الذين قاتلوهم مكنهم منهم نصف النهار أو أكثر مع أمانه لسائر الناس فلو كان شفاء صدورهم وذهاب غيظ قلوبهم يحصل بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا لما فعل ذلك مع أمانه للناس.
    فإن قيل: أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف.
    قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لأنا وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه.

    وتحرير الجواب أن كلتا المقدمتين باطلة.
    أما قوله "أقررناهم على دينهم" فيقال: لو أقررناهم على كل ما يدينون به لكانوا منزلة أهل ملتهم المحاربين ولو أقررناهم على كل ما يدينون به لم يعاقبوا على إظهار دينهم وإظهار الطعن في ديننا ولا خلاف أنهم يعاقبون على ذلك ولو أقررناهم على دينهم مطلقا لأقررناهم على هدم المساجد وإحراق المصاحف وقتل العلماء والصالحين فإن ما يدينون به مما يؤذي المسلمين كثيرة والخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ثم لا خلاف أنهم لا يقرون على شيء من ذلك وإنما أقررناهم كما قال غرفة بن الحارث على أن نخليهم يفعلون بينهم ما شاءوا مما لا يؤذي المسلمين ولا يضرهم ولا نعترض عليهم في أمور لا تظهر فإن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة وشرطنا عليهم أن لا يفعلوا شيئا يؤذينا ولا يضرنا سواء كانوا يستحلونه أو لا يستحلونه فمتى آذوا الله ورسوله فقد نقضوا العهد وشرطنا عليهم التزام حكم الإسلام وإن كانوا يرون أن ذلك لا يلزمهم في دينهم وشرطنا عليهم أداء الجزية وإن اعتقدوا أن أخذها منهم حرام وشرطنا عليهم إخفاء دينهم فلا يظهرون الأصوات بكتابهم ولا على جنائزهم ولا ضرب ناقوس وشرطنا عليهم أن لا يرتفعوا على المسلمين وأن يخالفوا بهيآتهم هيئة المسلمين على وجه يتميزون به ويكونون أذلاء في تميزهم إلى غير ذلك من الشروط التي يعتقدون أنها ذا تجب عليهم في دينهم.
    فعلم أنا شرطنا عليهم ترك كثير مما يعتقدون دينا لهم إما مباحا أو واجبا وفعل كثير مما يعتقدونه ليس من دينهم فكيف يقال: أقررناهم على دينهم مطلقا.
    وأما المقدمة الثانية فنقول: هب أنا أقررناهم على دينهم فقوله: "استحلال السب من دينهم" جوابه أن يقال: أهو من دينهم قبل العهد أو من دينهم وإن عاهدوا على تركه.
    الأول مسلم لكن لا ينفع لأن هؤلاء قد عاهدوا فإن لم يكن هذا من دينهم في هذه الحال لم يكن لهم أن يفعلوه لأنه من دينهم في حال أخرى وهذا كما أن المسلم من دينه استحلال دمائهم وأموالهم وأذاهم بالهجاء والسب إذا لم نعاهدهم وليس من دينه استحلال ذلك إذا عاهدهم فليس لنا أن نؤذيهم وتقول: قد عاهدناكم على ديننا ومن ديننا استحلال أذاكم فإن المعاهدة التي بين المتحاربين تحرم على كل واحد منهما في دينه ما كان يستحله من ضرر الآخر وأذاه قبل العهد.
    وأما الثاني فمنوع فإنه ليس من دينهم استحلال نقض العهد ولا مخالفة من عاهده في شيء مما عاهده بل من دين جميع أهل الأرض الوفاء بالعهد وإن لم يكن هذا معتقدهم فنحن إنما عاهدناهم على أن يدينوا بوجوب الوفاء بالعهد فإن لم يكن دينهم وجوب الوفاء به فلم نعاهدهم على دين يستحل صاحبه نقض العهد ولو عاهدناهم على هذا الدين لكنا قد عاهدناهم على أن يدينوا بنقض العهد فينقضوه ونحن موفون بالعهد وبطلان هذا واضح.
    وإذا لم يكن فعل ما عوهدوا على تركه من دينهم فنحن قد عاهدناهم على أن يكفوا عن أذانا بألسنتهم وأيديهم وأن لا يظهروا شيئا من أذى الله ورسوله وأن يخفوا دينهم الذي هو باطل في حكم الله ورسوله وإذا عاهدوا على ترك هذا وإخفاء هذا كان فعله حراما عليهم في دينهم لأن ذلك غدر وخيانة وترك للوفاء بالعهد ومن دينهم أن ذلك حرام ولو أن مسلما عاهده قوم من الكفار طائعا غير مكره على أن يمسك عن ذكر صليبهم لوجب عليه في دينه أن يمسك ما دام العهد قائما.
    فقول القائل: "من دينهم استحلال سب نبيا" باطل إذ ذلك مع العهد المقتضي لتركه حرام في دينهم كما يحرم عليهم في دينهم استحلال دمائنا وأموالنا لأجل العهد وهم يعتقدون عند أنفسهم أنهم إذا آذوا الله ورسوله بألستنهم أو ضروا المسلمين بعد العهد فقد فعلوا ما هو حرام في دينهم كما أن المسلم يعلم أنه إذا آذاهم بعد العهد فقد فعل ما هو حرام في دينه ويعلمون أن ذلك مخالفة للعهد وإن ظنوا أن لا عهد بيننا وبينهم وإنما هم مغلوبون تحت يد الإسلام فذلك أبعد لهم عن العصمة وأولى بالانتقام فإنه لا عاصم لهم منا إلا العهد فإن لم يعتقدوا الوفاء بالعهد فلا عاصم أصلا وهذا كله بين لمن تأمله يتبين به بعض فقه المسألة.
    ومن الفقهاء من أجاب عن هذا بأنا أقررناهم على ما يعتقدونه ونحن إنما نقول بنقض العهد إذا سبوه بما لا يعتقدونه من القذف ونحوه وهذا التفصيل ليس بمرض وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك.
    فإن قيل: فهب أنهم صولحوا على أن لا يظهروا ذلك لكن مجرد إظهار دينهم كيف ينقض العهد؟ وهل ذلك إلا بمثابة ما لو أظهروا أصواتهم بكتابهم أو صليبهم أو أعيادهم؟ فإن ذلك موجب لتنكيلهم وتعزيرهم دون نقض العهد.
    قلنا: وأي ناقض للعهد أعظم من أن يظهروا كلمة الكفر ويعلوها ويخرجوا عن حد الصغار ويطعنوا في ديننا ويؤذونا أذى هو أبلغ من قتل النفوس وأخذ الأموال.
    وأما إظهار تلك الأشياء بعد شرط عمر المعروف ففيها وجهان عندنا: أحدهما: ينتقض العهد فلا يلزمنا والآخر: لا ينتقض العهد.
    والفرق بينهما من وجهين:
    أحدهما: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيه ظهور كلمة الكفر وعلوها وإنما فيه ظهور لدين المشركين وبين البابين فرق فإن المسلم لو تكلم بكلمة الكفر كفر ولو لم يفعل إلا مجرد مشاركة الكافر في هدية عوقب ولم يكفر وكان ذلك كإظهار المعاصي من المسلم يوجب عقوبته ولا يبطل إيمانه والمتكلم بكلمة الكفر يبطل إيمانه كذلك أهل العهد: إذا أظهروا الكفر ونحوه نقضوا أمانهم وإذا أظهروا زيهم عصوا ولم ينقضوا أمانهم.
    وهذا جواب من يقول من أصحابنا وغيرهم: إنهم لو أظهروا التثليث ونحوه مما هو دينهم نقضوا العهد.
    الجواب الثاني: أن ظهور تلك الأشياء ليس فيها ضرر عظيم على المسلمين ولا معرة في دينهم ولا طعن في ملتهم وإنما فيه أحد أمرين: إما اشتباه زيهم بزي المسلمين أو إظهار لمنكرات دينهم في دار الإسلام كإظهار الواحد من المسلمين لشرب الخمر ونحوه وأما سب الرسول والطعن في الدين ونحوه ذلك فهو مما يضر المسلمين ضررا يفوق قتل النفس وأخذ المال من بعض الوجوه فإنه لا أبلغ في إسفال كلمة الله ولا إذلال كتاب الله وإهانة كتاب الله من أن يظهر الكافر المعاهد السب والشتم لمن جاء بالكتاب.

    ولأجل هذا الفرق فصل أصحابنا وأصحاب الشافعي الأمور المحرمة عليهم في العهد الذي بيننا وبينهم إلى ما يضر المسلمين في نفس أو مال أو دين وإلى ما لا يضر وجعلوا القسم الأول ينقض العهد حيث لا ينقضه القسم الثاني لأن مجرد العهد ومطلقه يوجب الإمتناع عما يضر المسلمين ويؤذيهم فحصوله تفويت لمقصود العقد فيفسخه كما لو فات مقصود البيع بتلف العوض قبل القبض أو ظهوره مستحقا ونحوه بخلاف غيره ولأن تلك المضرات يوجب جنسها عقوبة المسلم بالقتل فلأن يوجب عقوبة المعاهد بالقتل أولى وأحرى لأن كلاهما ملتزم إما بإيمانه أو بأمانة أن لا يفعلها ولأن تلك المضرات من جنس المحاربة والقتال وذلك لإبقاء العهد معه بخلاف المعاصي التي فيها مراغمة ومصارمة.
    فإن قيل: فقد أقروا على ما هم عليه من الشرك الذي هو أعظم من سب الرسول عليه الصلاة والسلام فيكون إقرارهم على سب الرسول أولى بل قد أقروا على سب الله تعالى وذلك لأن النصارى يعتقدون التثليث ونحوه وهو شتم لله تعالى لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ".
    وروى في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
    وكان معاذ ابن جبل يقول إذا رأى النصارى لا ترحموهم فلقد سب الله سبه ما سبه اياها أحد من البشر.
    وقد قال الله تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} الآية.
    وقد أقر اليهود على مقالتهم في عيسى عليه السلام وهي من أبلغ القذف.
    قلنا: الجواب من وجوه:
    أحدها: أن هذا السؤال فاسد الاعتبار فإن كون الشيء في نفسه أعظم إثما من غيره يظهر أثره في العقوبة عليه في الآخرة لا في الإقرار عليه في الدنيا ألا ترى أن أهل الذمة يقرون على الشرك ولا يقرون على الزنا ولا على السرقة ولا على قطع الطرق ولا على قذف المسلم ولا على محاربة المسلمين وهذه الأشياء دون الشرك بل سنة الله في خلقه كذلك فإنه عجل لقوم لوط العقوبة وفي الأرض مدائن مملوءة من الشرك لم يعاجلهم بالعقوبة لا سيما والمحتج بهذا الكلام يرى أن قتل الكفار إنما هو لمجرد المحاربة سواء كان كفره أصليا أو طارئا حتى أنه لا يرى قتل المرتد ويقول: الدنيا ليست دار الجزاء على الكفر وإنما الجزاء على الكفر في الآخرة وإنما يقاتل من يقاتل فقت لدفع أذاه.
    ثم لا يجوز أن يقال: إذا أقررناهم على الكفر فلأن نقرهم على المحاربة التي هي دون الكفر بطريق الأولى وسبب ذلك أن ما كان من الذنوب يتعدى ضرره فاعله عجلت لصاحبه العقوبة في الدنيا تشريعا وتقديرا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " ما من ذنب أحرى أن تعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم " لأن تأخير عقوبته فساد لأهل الأرض بخلاف ما لا يتعدى ضرره فاعله فإنه قد تؤخر عقوبته وإن كان أعظم كالكفر ونحوه فإذا أقررناهم على الشرك أكثر ما فيه تأخير العقوبة عليه وذلك لا يستلزم تأخير عقوبة ما يضر بالمسلمين لأنه دونه كما قدمناه.
    الوجه الثاني: أن يقال: لا خلاف أنهم إذا أقروا على ما هم عليه من الكفر غير مضارين للمسلمين لا يجوز أذاهم لا في دمائهم ولا في أبشارهم ولو أظهروا السب ونحوه عوقبوا على ذلك إما في الدماء أو في الأبشار.

    ثم إنه لا يقال: إذا لم يعاقبوا بالعزير على الشرك لم يعاقبوا على السب الذي هو دونه وإذا كان هذا السؤال معترضا على الإجماع لم يجب جوابه كيف والمنازع قد سلم أنهم يعاقبون على السب فعلم أنه لم يقرهم عليه فلا يقبل منه السؤال.
    والجواب عن هذه الشبهة مشترك فلا يجب علينا الانفراد به.
    الوجه الثالث: أن الساب ينضم السب إلى شركه الذي عوهد عليه بخلاف المشرك الذي لم يسب ولا يلزم من الإقرار على ذنب مفرد الإقرار عليه مع ذنب آخر وإن كان دونه فإن اجتماع الذنبين يوجب جرما مغلظا لا يحصل حال الانفراد.





  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 328)

    من صــ 116 الى صـ 130



    الوجه الرابع: قوله: "ما هم عليه من الكفر أعظم من سب الرسول" ليس بجيد على الإطلاق وذلك لأن أهل الكتاب طائفتان:
    أما اليهود فأصل كفرهم تكذيب الرسول وسبه أعظم من تكذيبه فليس لهم كفر أعظم من سب الرسول فإن جميع ما يكفرون به من الكفر بدين الإسلام وبعيسى وبما أخبر الله به من أمور الآخرة وغير ذلك متعلق بالرسول فسبه كفر بهذا كله لأن ذلك إنما علم من جهته وليس عند أهل الأرض في وقتنا هذا علم موروث يشهد عليه أنه من عند الله إلا العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم وما سوى ذلك مما يؤثر عن غيره من الأنبياء فقد اشتبه واختلط كثير منه أو أكثره والواجب فيما لا نعلم حقيقته منه أن لا يصدق ولا يكذب.
    وأما النصارى فسبهم للرسول طعنا فيما جاء به من التوحيد وأنباء الغيب والشرائع وإنما ذنبه الأعظم عندهم أن قال: أن عيسى عبد الله ورسوله كما أن ذنبه الأعظم عند اليهود أن غير شريعة التوراة وإلا فالنصارى ليسوا محافظين على شريعة مورثة بل كل برهة من الدهر تبتدع لهم الأحبار شريعة من الدين لم يأذن الله بها ثم لا يرعونها حق رعايتها فسبهم له متضمن للطعن في التوحيد وللشرك وللتكذيب بالأنبياء والدين ومجرد شركهم ليس متضمنا لتكذيب جميع الأنبياء ورد جميع الدين فلا يقال: ما هم عليه من الشرك أعظم من سب الرسول بل سب الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ما هم عليه من الشرك وزيادة.
    وبالجملة فينبغي للعاقل أن يعلم أن قيام دين الله في الأرض إنما هو بواسطة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلولا الرسل لما عبد الله وحده لا شريك له ولما علم الناس أكثر ما يستحقه سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات العلى ولا كانت له شريعة في الأرض.
    ولا تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته وأسمائه على وجهه اليقين فإن عامة من تكلم في هذا الباب بالعقل فإنما تكلم بعد أن بلغه ما جاءت به الرسل واستصغى بذلك واستأنس به سواء أظهر الانقياد للرسل أو لم يظهر وقد اعترف عامة الرؤوس منهم أنه لا ينال بالعقل علم جازم في تفاصيل الأمور الإلهية وإنما ينال به الظن والحسبان.
    والقدر الذي يمكن العقل إداركه بنظره فإن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم نبهوا الناس عليه وذكروهم به ودعوهم إلى النظر فيه حتى فتحوا أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
    والقدر الذي يعجز العقل عن إدراكه علموهم إياه وأنبأوهم به فالطعن فيهم طعن في توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه ودينه وشرائعه وأنبيائه وثوابه وعقابه وعامة الأسباب التي بينه وبين خلقه بل يقال: إنه ليس في الأرض مملكة قائمة إلا في بنبوة أو أثر نبوة وإن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا يستريبن العاقل في هذا الباب الذين درست النبوة فيهم مثل البراهمة والصابئة والمجوس ونحوهم فلا سفتهم وعامتهم قد أعرضوا عن الله وتوحيده وأقبلوا على عبادة الكواكب والنيران والأصنام وغير ذلك من الأوثان والطواغيت فلم يبق بأيديهم لا توحيد ولا غيره.

    وليست أمة مستمسكة بالتوحيد إلا أتباع الرسل قال الله سبحانه: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه} فأخبر أن دينه الذي يدعوا إليه المرسلون كبر على المشركين فما الناس إلا تابع لهم أو مشرك وهذا حق لا ريب فيه فعلم أن سب الرسل والطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر وجماع جميع الضلالات وكل كفر ففرع منه كما أن تصديق الرسل أصل جميع شعب الإيمان وجماع مجموع أسباب الهدى.
    الوجه الخامس: أن نقول: قد ثبت بالسنة ثبوتا لا يمكن دفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل من سبه وكان المسلمون يحرضون على ذلك مع الإمساك عمن هو مثل هذا الساب في الشرك أو هو أسوأ منه من محارب أو معاهد فلو كانت هذه الحجة مقبولة لتوجه أن يقال: إذا أمسكوا عن المشرك فالإمساك عن الساب أولى وإذا عوهد الذمي على كفره فمعاهدته على السب أولى وهذا لو قبل معارضة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل قياس عارض السنة فهو رد.
    الوجه السادس: أن يقال: ما هم عليه من الشرك وإن كان سبا لله فهم لا يعتقدونه سبا وإنما يعتقدونه تمجيدا وتقديسا فليسوا قاصدين به قصد السب والاستهانة بخلاف سب الرسول فلا يلزم من إقرارهم على شيء لا يقصدون به الاستخفاف إقرارهم على ما يقصدون به الاستخفاف وهذا جواب من يقتلهم إذا أظهروا سب الرسول ولا يقتلهم إذا أظهروا ما يعتقدونه من دينهم.
    الوجه السابع: أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين وإضرار بهم ومجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها وإن كانت دون الشرك وهذا أيضا جواب هذا القائل.
    الوجه الثامن: منع الحكم في الأصل المقيس عليه فإنا نقول: متى أظهروا كفرهم وأعلنوا به نقضوا العهد بخلاف مجرد رفع الصوت بكتابهم فإنه ليس كل ما فيه كفر ولسنا نفقه ما يقولون وإنما فيه إظهار شعار الكفر وفرق بين إظهار الكفر وبين إظهار شعار الكفر.
    أو نقول: متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا وهذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا ويفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذين القولين والذين قبلهما.
    قال كثير من فقهاء الحديث وأهل المدينة من أصحابنا وغيرهم: "لم نقرهم على أن يظهروا شيئا من ذلك ومتى أظهروا شيئا من ذلك نقضوا العهد".
    قال أبو عبد الله في رواية حنبل: "كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك وتعالى فعليه القتل مسلما كان أو كافرا" وهذا مذهب أهل المدينة.
    وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن وهو يؤذن فقال له: كذبت فقال: يقتل لأنه شتم.
    ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وما لا يعتقدونه ومن الناس من فرق بين ما يعتقدونه وإظهاره يضر بنا لأنه قدح في ديننا وبين ما يعتقدونه وإظهاره ليس بطعن في نفس ديننا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك فإن فروع المسألة تظهر مأخذها.
    وقد قدمنا عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمحضر من المهاجرين والأنصار للنصراني الذي قال إن الله لا يضل أحدا: إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لأن عدت لآخذن الذي فيه عيناك.
    و
    جميع ما ذكرناه من الآيات والاعتبار يجئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا وحتى يكون الدين كله لله وحتى يظهر دين الله على الدين كله وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
    والنهي عن إظهار المنكر واجب بحسب القدرة فإذا أظهروا كلمة الكفر وأعلنوها خرجوا عن العهد الذي عاهدونا عليه والصغار الذي التزموه ووجب علينا أن نجاهد الذي أظهروا كلمة الكفر وجهادهم بالسيف لأنهم كفار لا عهد لهم والله سبحانه أعلم.
    (فصل)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    الطريق الثانية: قوله سبحانه: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} الآيات.
    وقد قرأ ابن عامر والحسن وعطاء والضحاك والأصمعي وغيرهم عن أبي عمر (لا إيمان لهم) بكسر الهمزة وهي قراءة مشهورة.
    وهذه الآية تدل على أنه لا يعصم دم الطاعن إيمان ولا يمين ثانية.
    أما على قراءة الأكثرين فإن قوله {لا أيمان لهم} أي لا وفاء بالأيمان ومعلوم أنه إنما أراد لا وفاء في المستقبل بيمين أخرى إذ عدم اليمين في الماضي قد تحقق بقوله: {وإن نكثوا أيمانهم} فأفاد هذا أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يعقد له عهد ثان أبدا.
    وأما على قراءة ابن عامر فقد علم أن الإمام في الكفر ليس له إيمان ولم يخرج هذا مخرج التعليل لقتالهم لأن قوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر} أبلغ في انتفاء الإيمان عنهم من قوله تعالى: (لا إيمان لهم) وأدل على علة الحكم ولكن يشبه والله أعلم أن يكون المقصود أن الناكث الطاعن إمام في الكفر لا يوثق بما يظهره من الإيمان كما لم يوثق بما كان عقده من الأيمان لأن قوله تعالى: {لا إيمان} نكرة منفية بلا التي تنفي الجنس فتقتضي نفي الإيمان عنهم مطلقا فثبت أن الناكث الطاعن في الدين إمام في الكفر لا إيمان له من هؤلاء وأنه يجب قتله وإن أظهر الإيمان.
    يؤيد ذلك أن كل كافر فإنه لا إيمان له في حال الكفر فكيف بأئمة الكفر؟ فتخصيص هؤلاء بسلب الإيمان عنهم لا بد أن يكون له موجب ولا موجب له إلا نفيه مطلقا عنهم.
    والمعنى أن هؤلاء لا يرتجى إيمانهم فلا يستبقون وأنهم لو أظهروا إيمانا لم يكن صحيحا وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم" لأن الشيخ قد عسا في الكفر وكما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته لأمراء الأجناد شرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص: "ستلقون أقواما محوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منها بالسيوف فلأن أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله تعالى قال: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} والله أصدق القائلين" فإنه لا يكاد يعلم أحدا من الناقضين للعهود الطاعنين في الدين أئمة الكفر حسن إسلامه بخلاف من لم ينقض العهد أو نقضه ولم يطعن في الدين أو طعن ولم ينقض عهدا فإن هؤلاء قد يكون لهم إيمان.

    يبين ذلك أنه قال: {لعلهم ينتهون} أي عن النقض والطعن كما سنقرره وإنما يحصل الانتهاء إذا قوتلت الفئة الممتنعة حتى تغلب أو أخذ الواحد الذي ليس بممتنع فقتل لأنه متى استحيي بعد القدرة طمع أمثاله في الحياة فلا ينتهون.
    ومما يوضح ذلك أن هذه الآية قد قيل: إنها نزلت في اليهود الذين كانوا قد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداء من المشركين وهموا بمعاونة الكفار والمنافقين على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة فأخبر أنهم بدأوا بالغدر ونكث العهد فأمر بقتالهم.
    ذكر ذلك القاضي أبو يعلى فعلى هذا يكون سبب نزول الآية مثل مسألتنا سواء.
    وقد قيل: إنها نزلت في مشركي قريش ذكره جماعة وقالت طائفة من العلماء: وبراءة إنما نزلت بعد تبوك وبعد فتح مكة ولم يكن حينئذ بقي بمكة مشرك يقاتل فيكون المراد من أظهر الإسلام من الطلقاء ولم يبق قتله من الكفر إذا أظهروا النفاق.
    ويؤيد هذا قراءة مجاهد والضحاك: {نكثوا إيمانهم} بكسر الهمزة فتكون دالة على أن من نكث عهده الذي عاهد عليه من الإسلام وطعن في الدين فإنه يقاتل وإنه لا إيمان له قال من نصر هذا لأنه قال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ثم قال: {وإن نكثوا إيمانهم} فعلم أن هذا نكث بعد هذه التوبة لأنه قد تقدم الإخبار عن نكثهم الأول بقوله تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} وقوله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم} الآية وقد تقدم أن الأيمان من العهود فعلى هذا تعم الآية من نكث عهد الإيمان ومن نكث عهد الأيمان أنه إذا طعن في الدين قوتل وأنه لا إيمان له حينئذ فتكون دالة على أن الطاعن في الدين بسب الرسول ونحوه من المسلمين وأهل الذمة لا إيمان له ولا يمين له فلا يحقن دمه بشيء بعد ذلك.
    فإن قيل: قد قيل قوله تعالى: {لا إيمان لهم} أي لا أمان لهم مصدر آمنت الرجل أومنه إيمانا ضد أخفته كما قال تعالى: {وآمنهم من خوف}.
    قيل: إن كان هذا القول صحيحا فهو حجة أيضا لأنه لم يقصد لا أمان لهم في الحال فقط للعلم بأنهم قد نقضوا العهد وإنما يقصد لا أمان لهم بحال في الزمان الحاضر والمستقبل وحينئذ فلا يجوز أن يؤمن هذا بحال بل يقتل بكل حال.
    فإن قيل: إنما أمر في الآية بالمقاتلة لا بالقتل وقد قال بعدها: {ويتوب الله على من يشاء} فعلم أن التوبة منه مقبولة قيل لما تقدم ذكر طائفة ممتنعة أمر بالمقاتلة وأخبر سبحانه أنه يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصر المؤمنين عليهم ثم بعد ذلك يتوب الله على من يشاء لأن ناقضي العهد إذا كانوا ممتنعين فمن تاب منهم قبل القدرة عليه سقطت عنه الحدود ولذلك قال: {على من يشاء} وإنما يكون هذا في عدد تتعلق المشيئة بتوبة بعضهم.
    يوضح ذلك أنه قال: {ويتوب الله} بالضم وهذا كلام مستأنف ليس داخلا في حيز جواب الأمر وذلك يدل على أن التوبة ليست مقصودة من قتالهم ولا هي حاصلة بقتالهم وإنما المقصود بقتالهم انتهاؤهم عن النكث والطعن والمضمون بقتالهم تعذيبهم وخزيهم والنصر عليهم وفي ذلك ما يدل على أن الحد لا يسقط عن الطاعن الناكث بإظهار التوبة لأنه لم يقتل ويقاتل لأجلها.
    يؤيد هذا أنه قال: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله} إلى قوله:{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ثم قال: {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر} فذكر التوبة الموجبة للأخوة قبل أن يذكر نقض العهد والطعن في الدين وجعل للمعاهد ثلاثة أحوال:
    أحدها: أن يستقيم لنا فنستقيم له كما استقام فيكون مخلى سبيله لكن ليس أخا في الدين.
    الحالة الثانية: أن يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة فيصير أخا في الدين ولهذا لم يقل هنا فخلوا سبيلهم كما قال في الآية قبلها لأن الكلام هناك في توبة المحارب وتوبته توجب تخلية سبيله وهنا الكلام في توبة المعاهد وقد كان سبيله مخلى وإنما توبته توجب أخوته في الدين قال سبحانه: {ونفصل الآيات لقوم يعلمون}.
    وذلك أن المحارب إذا تاب وجب تخلية سبيله إذ حاجته إنما هي إلى ذلك وجاز أن يكون قد تاب خوف السيف فيكون مسلما لا مؤمنا فأخوته الإيمانية تتوقف على ظهور دلائل الإيمان كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} والمعاهد إذا تاب فلا ملجأ له إلى التوبة ظاهرا فإنا لم نكرهه على التوبة ولا يجوز إكراهه فتوبته دليل على أنه تاب طائعا فيكون مسلما مؤمنا والمؤمنون إخوة فيكون أخا.
    الحالة الثالثة: أن ينكث يمينه بعد عهده ويطعن في ديننا فأمر بقتاله وبين أنه ليس له أيمان ولا إيمان والمقصود من قتاله أن ينتهي عن النقض والطعن لا عن الكفر فقط لأنه قد كان معاهدا مع الكفر ولم يكن قتاله جائزا فعلم أن الانتهاء من مثل هذا عن الكفر ليس هو المقصود بقتاله وإنما المقصود بقتاله انتهاؤه عن ما أضر به المسلمين من نقض العهد والطعن في الدين وذلك لا يحصل إلا بقتل الواحد الممكن وقتال الطائفة الممتنعة قتالا يعذبون به ويخزون وينصر المؤمنون عليهم إذ تخصيص التوبة بحال دليل على انتفائها في الحال الأخرى.
    وذكره سبحانه التوبة بعد ذلك جملة مستقلة بعد أن أمر بما يوجب تعذيبهم وخزيهم وشفاء الصدور منهم دليل على أن توبة مثل هؤلاء لا بد معها من الانتقام منهم بما فعلوا بخلاف توبة الباقي على عهده فلو كان توبة المأخوذ بعد الأخذ تسقط القتل لكانت توبة خالية عن الانتقام وللزم أن مثل هؤلاء لا يعذبون ولا يخزون ولا تشفى الصدور منهم وهو خلاف ما أمر به في الآية وصار هؤلاء الذين نقضوا العهد وطعنوا في الدين كمن ارتد وسفك الدماء فإن كان واحدا فلا بد من قتله وإن عاد إلى الإسلام وإن كانوا ممتنعين قوتلوا فمن تاب بعد ذلك منهم لم يقتل والله سبحانه أعلم.

    (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وعمارة المساجد إنما هي بالعبادة فيها وقصدها لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} لأن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله}. والمقيم بالبيت أحق بمعنى العمارة من القاصد له ولهذا قيل: العمرة هي الزيارة لأن المعتمر لا بد أن يدخل من الحل وذلك هو الزيارة.
    وأما الأولى فيقال لها عمارة ولفظ عمارة أحسن من لفظ عمرة وزيادة اللفظ يكون لزيادة المعنى. ولهذا ثبت في الصحيح أن {بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج فقال علي: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم. فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قضيت الجمعة إن شاء الله دخلت عليه فسألته فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام} الآية}. وإذا كان كذلك فالمقيم في البيت طائفا فيه وعامرا له بالعبادة قد أتى بما هو أكمل من معنى المعتمر وأتى بالمقصود بالعمرة فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد ليصير بعد ذلك عامرا له؛ لأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

    (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20)

    [فصل البرهان السابع عشر " الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي: " البرهان السابع عشر: قوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} الآيات [سورة التوبة: 20]. روى رزين بن معاوية في " الجمع بين الصحاح الستة " أنها نزلت في علي لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس. وهذه لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام ".
    والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح.
    الثاني: أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين، بل الذي في الصحيح ما رواه «النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن
    أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} الآية إلى آخرها» [سورة التوبة: 19] أخرجه مسلم.
    وهذا الحديث يقتضي أن قول علي الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقاية - أصح من قول من فضل السدانة والسقاية، وأن عليا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها. وهذا صحيح.
    وعمر قد وافق ربه في عدة أمور، يقول شيئا وينزل القرآن بموافقته. «قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [سورة البقرة: 125]، وقال: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن بالحجاب، فنزلت آية الحجاب. وقال: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات}، فنزلت كذلك». وأمثال ذلك. وهذا كله ثابت في الصحيح. وهذا أعظم من تصويب علي في مسألة واحدة.
    وأما التفضيل بالإيمان والهجرة والجهاد، فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، فليس هاهنا فضيلة اختص بها علي، حتى يقال: إن هذا لم يثبت لغيره.

    الثالث: أنه لو قدر أنه اختص بمزية فهذه ليست من خصائص الإمامة، ولا موجبة لأن يكون أفضل مطلقا. فإن الخضر لما علم ثلاث مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى مطلقا، والهدهد لما قال لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} [سورة النمل: 22] لم يكن أعلم من سليمان مطلقا.
    الرابع: أن عليا كان يعلم هذه المسألة، فمن أين يعلم أن غيره من الصحابة لم يعلمها؟ فدعوى اختصاصه بعلمها باطل، فبطل الاختصاص على التقديرين. بل من المعلوم بالتواتر أن جهاد أبي بكر بماله أعظم من جهاد علي، فإن أبا بكر كان موسرا، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما نفعني مال كمال أبي بكر» وعلي كان فقيرا، وأبو بكر أعظم جهادا بنفسه، كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -.

    (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23)

    وقال: قد يستدل بقوله: {لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان} على أن الولد يكون مؤمنا بإيمان والده؛ لأنه لم يذكر الولد في استحبابه الكفر على الإيمان مع أنه أولى بالذكر وما ذاك إلا أن حكمه مخالف لحكم الأب والأخ.
    وهو الفرق بين المحجور عليه لصغره وجنونه وبين المستقل كما استدل سفيان بن عيينة وغيره بقوله: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم} أن بيت الولد مندرج في بيوتكم؛ لأنه وماله لأبيه. ويستدل بقوله: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} على أن إسلام الوليد صحيح؛ لأنه جعله من جملة القائلين قول من يطلب الهجرة وطلب الهجرة لا يصح إلا بعد الإيمان وإذا كان له قول في ذلك معتبر كان أصلا في ذلك ولم يكن تابعا؛ بخلاف الطفل الذي لا تمييز له؛ فإنه تابع لا قول له.

    (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)

    فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد الله به من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فعلم أنه يجب أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان وإلا لم يكن مؤمنا حقا ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} وهذا لفظ البخاري فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث.
    (أحدها أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنا بدونها. (الثاني أن يحب العبد لا يحبه إلا لله وهذا من لوازم الأول. و (الثالث أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر. وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين فيه وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا فهي مستلزمة لذلك فإن من كان الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لا بد أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة مثل إرادته نصر الله ورسوله ودينه والتقريب إلى الله ورسوله ومثل بغضه لمن يعادي الله ورسوله.

    ومن هذا الباب ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المرء مع من أحب} وفي رواية {الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم} أي ولما يعمل بأعمالهم فقال:
    {المرء مع من أحب} قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن يجعلني الله معهم وإن لم أعمل عملهم. وهذا الحديث حق فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك وكونه معه هو على محبته إياه فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه إذا كان المحب قادرا عليها فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك وإن كانت موجودة.





  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 329)

    من صــ 131 الى صـ 145




    (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وكذلك لفظ " الجزية " و " الدية " فإنها فعلة من جزى يجزي إذا قضى وأدى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم {تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك} وهي في الأصل جزى جزية كما يقال: وعد عدة ووزن زنة. وكذلك لفظ " الدية " هو من ودى يدي دية كما يقال: وعد يعد عدة والمفعول يسمى باسم المصدر كثيرا فيسمى المؤدى دية والمجزي المقضي جزية كما يسمى الموعود وعدا في قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} {قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين} {فلما رأوه زلفة} وإنما رأوا ما وعدوه من العذاب وكما يسمى مثل ذلك الإتاوة لأنه تؤتى أي: تعطى. وكذلك لفظ الضريبة لما يضرب على الناس. فهذه الألفاظ كلها ليس لها حد في اللغة ولكن يرجع إلى عادات الناس فإن كان الشرع قد حد لبعض حدا كان اتباعه واجبا.
    ولهذا اختلف الفقهاء في الجزية: هل هي مقدرة بالشرع أو يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة؟. وكذلك الخراج والصحيح أنها ليست مقدرة بالشرع. {وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا} قضية في عين لم يجعل ذلك شرعا عاما لكل من تؤخذ منه الجزية إلى يوم القيامة؛ بدليل أنه صالح لأهل البحرين على حالم ولم يقدره هذا التقدير وكان ذلك جزية وكذلك صالح أهل نجران على أموال غير ذلك ولا مقدرة بذلك فعلم أن المرجع فيها إلى ما يراه ولي الأمر مصلحة وما يرضى به المعاهدون فيصير ذلك عليهم حقا يجزونه أي: يقصدونه ويؤدونه.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته له ما لهم وعليه ما عليهم. وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن به من الأمم فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
    فمن كان لا يؤمن بالله بل يسب الله ويقول: إنه ثالث ثلاثة وأنه صلب. ولا يؤمن برسله؛ بل يزعم أن الذي حمل وولد وكان يأكل ويشرب ويتغوط وينام: هو الله وابن الله. وأن الله أو ابنه حل فيه وتدرعه ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين ويحرف نصوص التوراة والإنجيل؛ فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف بين ما أمر الله به وأوجبه ما فيها ولا يدين الحق. ودين الحق هو الإقرار بما أمر الله به وأوجبه من عبادته وطاعته ولا يحرم ما حرم الله ورسوله؛ من الدم والميتة ولحم الخنزير الذي ما زال حراما من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أباحه نبي قط؛ بل علماء النصارى يعلمون أنه محرم وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة. وبعضهم يمنعه العناد والعادة ونحو ذلك. ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأن عامتهم وإن كانوا يقرون بقيامة الأبدان؛ لكنهم لا يقرون بما أخبر الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار؛ بل غاية ما يقرون به من النعيم السماع والشم. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد وأكثر علمائهم زنادقة وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامهم؛ لا سيما بالنساء والمترهبين منهم: بضعف العقول. فمن هذا حاله فقد أمر الله رسوله بجهاده حتى يدخل في دين الله أو يؤدي الجزية وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} فأمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون ولا يجوز الإمساك عن قتالهم إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية ومعلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولا وامتنعوا من تسليمها ثانيا لم يكونوا معطين للجزية لأن حقيقة الإعطاء لم توجد وإذا كان الصغار حالا لهم في جميع المدة فمن المعلوم أن من أظهر سب نبينا في وجوهنا وشتم ربنا على رؤوس الملإ منا وطعن في ديننا في مجامعنا فليس بصاغر لأن الصاغر الذليل الحقير وهذا فعل متعزز مراغم بل هذا
    غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة قال أهل اللغة: الصغار الذل والضيم يقال: صغر الرجل بالكسر يصغر بالفتح صغرا وصغرا والصاغر: الراضي بالضيم ولا يخفى على المتأمل أن إظهار السب والشتم لدين الأمة التي اكتسب شرف الدنيا والآخرة ليس فعل راض بالذل والهوان وهذا ظاهر لا خفاء به.
    وإذا كان قتالهم واجبا علينا إلا أن يكونوا صاغرين وليسوا بصاغرين كان القتال مأمورا به وكل من أمرنا بقتاله من الكفار فإنه يقتل إذا قدرنا عليه.
    وأيضا فإنا إذا كنا مأمورين أن نقاتلهم إلى هذه الغاية لم يجز أن نعقد لهم عهد الذمة بدونها ولو عقد لهم كان عقدا فاسدا فيبقون على الإباحة.
    ولا يقال فيهم: فهم يحسبون أنهم معاهدون فتصير لهم شبهة أمان وشبهة الأمان كحقيقة فإن من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم.
    لأنا نقول: لا يخفى عليهم أنا لم نرض بأن يكونوا تحت أيدينا مع إظهار شتم ديننا وسب نبينا وهم يدرون أنا لا نعاهد ذميا على مثل هذه الحال فدعواهم أنهم اعتقدوا أنا عاهدناهم على مثل هذا مع اشتراطنا عليهم أن يكونوا صاغرين تجري عليهم أحكام الملة دعوى كاذبة فلا يلتفت إليها.
    وأيضا فإن الذين عاهدوهم أول مرة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمر وقد علمنا أنه يمتنع أن يعاهدهم عهدا خلاف ما أمر الله به في كتابه.
    وأيضا فإنا سنذكر شروط عمر رضي الله عنه وأنها تضمنت أن من أظهر الطعن في ديننا حل دمه وماله.

    (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30)

    سئل - رحمه الله -:
    عن قوله تعالى {وقالت اليهود عزير ابن الله} كلهم قالوا ذلك أم بعضهم؟ {وقول النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون العزير} الحديث. هل الخطاب عام أم لا؟.
    فأجاب:
    الحمد لله، المراد باليهود جنس اليهود كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} لم يقل جميع الناس ولا قال: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؛ بل المراد به الجنس. وهذا كما يقال الطائفة الفلانية تفعل كذا وأهل الفلاني يفعلون كذا وإذا قال بعضهم فسكت الباقون ولم ينكروا ذلك فيشتركون في إثم القول. والله أعلم.
    [فصل: قوله في التوراة الذي قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك]
    قالوا: نذكر رابعا، وقال في المزمور الثاني: (الذي قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك).
    والجواب من وجوه:
    أحدها: أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله - علمه وحياته - ابنا، ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة، فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه.
    والثاني: أن هذا حجة عليهم، فإنه هو سمى داود ابنه، فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح عليه السلام، بل سمى غيره من عباده ابنا، فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته، بل هو اسم لمن رباه من عبيده.
    وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به، بل كما سمى داود ابنا، وكما سمى إسرائيل ابنا فقال: (أنت ابني بكري).
    وهذا في كتبهم، كما ذكر، (فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه، لأنه أراد المربى، وإن لم يكن قول الله ورسله) فلا حجة فيه، لأن قول غير المعصوم ليس بحجة.
    الثالث: أن قوله: (وأنا اليوم ولدتك) يدل على حدوث هذا الفعل، وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي، كما قالوا في أمانتهم (وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء).
    فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور، وذاك ولد في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم.
    الوجه الرابع: أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه، كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة، فيكون المعنى: اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا.

    والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح، يراد به المسيح، فقد يقولون: المراد بهذا المسيح، وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه، وبتقدير صحته، فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق، وهو المسمى بالابن، لقوله (وأنا اليوم ولدتك).
    واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور، وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته، فالمعنى خلقتك، وإن كان يوم اصطفاه، فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك، كأنه قال: اليوم جعلتك ولدا وابنا، على لغتهم.

    (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)

    وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل} قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره كما سنذكره - إن شاء الله - وقد قال الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}. وفي حديث {عدي بن حاتم - وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما - وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني فسمعه يقرأ هذه الآية قال: فقلت له إنا لسنا نعبدهم؛ قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه قال: فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم} وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه وحرامه حلاله؛ فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء؛ فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال لا أنهم صلوا لهم وصاموا لهم ودعوهم من دون الله فهذه عبادة للرجال وتلك عبادة للأموال وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: {لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
    فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله}. فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعا معذبون وقال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}. وإنما يخرج من هذا من عبد مع كراهته لأن يعبد ويطاع في معصية الله. فهم الذين سبقت لهم الحسنى كالمسيح والعزير وغيرهما فأولئك (مبعدون).
    وأما من رضي بأن يعبد ويطاع في معصية الله فهو مستحق للوعيد ولو لم يأمر بذلك فكيف إذا أمر وكذلك من أمر غيره بأن يعبد غير الله وهذا من " أزواجهم " فإن " أزواجهم " قد يكونون رؤساء لهم وقد يكونون أتباعا وهم أزواج وأشباه لتشابههم في الدين، وسياق الآية يدل على ذلك فإنه سبحانه قال: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون} {من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.
    ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا - حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: (أحدهما): أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا - وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم - فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله؛ مشركا مثل هؤلاء.
    و (الثاني): أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب (*) كما ثبت في " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إنما الطاعة في المعروف} وقال: {على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية}.
    وقال: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}. وقال: {من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه}. ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع؛ فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.
    ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول؛ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه؛ فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق؛ لا يؤاخذ بما عجز عنه وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم}. وقوله: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
    وقوله: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؛ فهذا من أهل الجاهلية. وإن كان متبوعه مصيبا؛ لم يكن عمله صالحا. وإن كان متبوعه مخطئا؛ كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه؛ فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة فإن ذلك لما أحب المال حبا منعه عن عبادة الله وطاعته صار عبدا له. وكذلك هؤلاء؛ فيكون فيه شرك أصغر ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: {إن يسير الرياء شرك}. وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب.

    (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)

    {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} بالحجة والبيان؛ وباليد واللسان؛ وهذا إلى يوم القيامة؛ لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان؛ والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} و " سورة الفرقان " مكية وإنما جاهدهم باللسان والبيان؛ ولكن يكف عن الباطل وإنما قد بين في المكية. {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}.
    وقال تعالى: {الم} {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} إلى قوله: {ساء ما يحكمون} فبين سبحانه وتعالى: أنه أرسل رسله. والناس رجلان: رجل يقول: أنا مؤمن به مطيعه؛ فهذا لا بد أن يمتحن حتى يعلم صدقه من كذبه. ورجل مقيم على المعصية؛ فهذا قد عمل السيئات فلا يظن أن يسبقونا بل لا بد أن نأخذهم. وما لأحد من خروج عن هذين القسمين.

    (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)

    وقد ثبت في " الصحيح " وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليها في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. وفي حديث أبي ذر: {بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل وتكوي الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم}. وهذا كما في القرآن ويدل على أنه بعد دخول النار فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولا في الموقف.
    فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه وماله الذي صار عبدا له من دون الله فيعذب به وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار. ولهذا قال في آخر الحديث: {ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار}. فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يدخل الجنة.

    (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (40)

    {وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: {إن الله معنا} وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} وقال تعالى: {إن الله مع الصابرين}. وكل من وافق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر خالف فيه غيره فهو من الذين اتبعوه في ذلك؛ وله نصيب من قوله: {لا تحزن إن الله معنا} فإن المعية الإلهية المتضمنة للنصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة؛ وهذا قد دل عليه القرآن وقد رأينا من ذلك وجربنا ما يطول وصفه.
    __________
    Q (*) قال الشيخ ناصر بن حمد الفهد (ص 59):
    وقوله هنا (بتحريم الحلال وتحليل الحرام) قد أشار عدد من أهل العلم إلى أنها قد تكون تصحيفا من النساخ، والأظهر أن العبارة هي (بتحريم الحرام وتحليل الحلال).





  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 330)

    من صــ 146 الى صـ 160




    [فصل رد الرافضي لكثير مما ورد في فضائل أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
    فصل.
    قال الرافضي: " الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية الغار وقوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} [سورة الليل: 17]، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16] والداعي هو أبو بكر: وكان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة ".
    قال: " والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره.
    وأيضا فإن الآية تدل على نقيصة لقوله: {لا تحزن} فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - وبقضاء الله وقدره ; ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.

    وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه.
    وأما: {وسيجنبها الأتقى}، فإن المراد «أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة».
    وأما قوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} [سورة الفتح: 16]، يريد سندعوكم إلى قوم، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله: {قل لن تتبعونا} [سورة الفتح: 15] لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} [سورة الفتح: 16] يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأس شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة: كمؤتة وحنين، وتبوك، وغيرهما؛ فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    وأيضا جاز أن يكون [علي] هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ وكان رجوعهم إلى طاعته [إسلاما] لقوله عليه الصلاة والسلام: «يا علي حربك حربي»، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر.
    وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس؛ لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره
    لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته. وأيما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟.
    وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب ; لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به؛ فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه. وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال: إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش. وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر البتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في علي: {هل أتى} [سورة الإنسان: 1].
    ومن المعلوم أن النبي [- صلى الله عليه وسلم -] أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن؛ دل على كذب النقل.
    وأما تقديمه في الصلاة فخطأ؛ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر،
    فقال: أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة ".

    قال الرافضي: " فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد؛ فقد نهى الله تعالى [في كتابه] عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق [إلى] مستحقه، ولا
    يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة.
    والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود؛ فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
    وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما؛ فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه} [سورة الزمر: 32]، {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [سورة يونس: 17] ونحو هذه الآيات.
    فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديقا بالكذب؛ وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
    أما قوله: " لا فضيلة في الغار ".
    فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46].

    وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قال «نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ".
    وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه يقول: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
    والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة وخاصة؛ فالعامة كقوله تعالى:
    {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم} الآية [سورة الحديد: 4].
    وقوله: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7].
    فهذه المعية عامة لكل متناجين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق.
    ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» "، فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح. وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة.
    وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46]، فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون.
    وكذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " {لا تحزن إن الله معنا} " كان معناه: إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
    ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه.
    وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128]، فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى: {إن الله مع الصابرين} [سورة البقرة: 153] تخصيص لهم دون الجازعين.
    وكذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي} الآية [سورة المائدة: 12]، وقال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [سورة الأنفال: 12].
    وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى: ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة ; لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول [وأجواف البهائم]، كما هو فوق العرش [فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى ; لأنه على هذا القول لا يختص
    بقوم دون قوم، ولا مكان دون مكان، بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش].
    والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى؛ فعلم أنه ليس المراد بلفظ " المعية " اختلاطه.

    وفي هذا أيضا رد على من يدعي أن ظاهر القرآن هو الحلول؛ لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره، ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص.
    فيقال له: قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ، وذلك لوجوه.
    أحدها: أن لفظ (مع) في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال.
    كقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه} [سورة الفتح: 29] لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته.
    وقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [سورة التوبة: 119].
    وكذلك قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} [سورة الأنفال: 75].
    وكذلك قوله عن نوح: {وما آمن معه إلا قليل} [سورة هود: 40].
    وقوله عن نوح أيضا: {فأنجيناه والذين معه في الفلك} الآية [سورة الأعراف: 64].
    وقوله عن هود: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [سورة الأعراف: 72].
    وقول قوم شعيب: {لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا} [سورة الأعراف: 88].
    وقوله: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين} الآية [سورة النساء: 146].
    وقوله: {وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [سورة الأنعام: 68].
    وقوله: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [سورة المائدة: 53].
    وقوله: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم} [سورة الحشر: 11].
    وقوله عن نوح: {اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم} [سورة هود: 48].
    وقوله: {وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} [سورة الأعراف: 47].
    وقوله: {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} [سورة التوبة: 83].
    وقوله: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} [سورة التوبة: 87].
    وقال: {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} [سورة التوبة: 88].
    ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي.
    وإذا كان لفظ " مع " إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته؛ فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى.
    فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور؛ فكان الظهور منتفيا من كل وجه.
    الثاني: أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى.
    الثاني: أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص.
    الثالث: أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية، كما
    قال تعالى في آية المجادلة: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} [سورة المجادلة: 7] فافتتحها بالعلم، وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية.
    وهكذا فسرها السلف: الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري.
    وفي آية الحديد قال: {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [سورة الحديد: 4] فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله.
    كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: " «والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه» " فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى.
    وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
    منها، وهو مع العباد أينما كانوا: يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير.

    وأما قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون.
    وكذلك قوله لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى} [سورة طه: 46] فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره: " نحن معك " أي معاونوك وناصروك على عدوك.
    وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصديقه: " إن الله معنا " يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر.
    وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق.
    والمقصود هنا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم، فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم.
    ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة، كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} [سورة غافر: 51] وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله، وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
    ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن.
    وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر.
    وكذلك قوله: " «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» "؛ بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " محمد رسول الله؛ " فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: " وخليفة رسول الله " فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله: " {إن الله معنا} "، «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: " أمير المؤمنين " فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة.
    ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص؛ فيقال: صحبه ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبه عمره كله.
    وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب} [سورة النساء: 36] قيل: هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته [وتكثر]، وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} [سورة الأنعام: 101].
    ولهذا قال أحمد بن حنبل في " الرسالة " التي رواها عبدوس بن مالك

    عنه: " من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة، أو شهرا، أو يوما، أو ساعة، أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه ".
    وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم: يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت، وفي ذلك خلاف ضعيف.
    والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم». وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: " «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به.





  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 331)

    من صــ 161 الى صـ 175






    ثم يبعث البعث الثاني، فيقولون: هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، ثم يكون البعث الرابع فيقال: هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به» ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى؛ لكن لفظه: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلها: (صحب)، واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها؛ وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه.
    كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «خير أمتي القرن الذين يلونني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» ".
    وفي الصحيحين عن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون» " وفي رواية: " ويحلفون ولا يستحلفون " فقد شك عمران في القرن الرابع.
    وقوله: " يشهدون ولا يستشهدون " حمله طائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله: " «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» ".

    وقال طائفة أخرى: إنما المراد ذمهم على الكذب، أي يشهدون
    بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء؛ فإن هذه [من] آيات النفاق التي ذكرناها في قوله: " «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» " أخرجاه في الصحيحين.
    وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها، ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله، وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة، فأداها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال، وهذا أظهر القولين.
    وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعى عليه هل يسأله الجواب؟ والصحيح أنه يسأله الجواب ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعى، لأن دلالة الحال تغني عن السؤال.
    ففي الحديث الأول: " «هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، ثم قال: " هل فيكم [من رأى] من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -؟ "، فدل على أن الرائي هو الصاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: " هل فيكم من رأى من صحب [من صحب رسول الله؟] "، ثم يكون المراد بالصاحب الرائي.
    وفي الرواية الثانية: " «هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ * ثم يقال في الثالثة: " هل فيكم من رأى [من رأى] أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -. *

    ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية؛ ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى.
    ولفظ البخاري قال فيها كلها: " صحب " وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي نص في المسألة؛ وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    وأيضا فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - (رأى) فقد حصل المقصود وإن كان لفظه " صحب " في طبقة أو طبقات؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده؛ فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة، والعرف فيها مختلف.
    والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر؛ بل علق الحكم بمطلقها، ولا مطلق لها إلا الرؤية.
    وأيضا فإنه يقال: صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل؛ بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
    ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال: قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه رؤية من قصده لأن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له، فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء.

    وامتاز [أبو بكر] عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار.
    ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «وددت أني رأيت إخواني " قالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك قال: " بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» ".
    ومعلوم أن قوله: " إخواني " أراد به: إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأما أنتم فلكم مزية الصحبة، ثم قال: " «قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» "؛ فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه؛ فدل على أن من آمن به ورآه، فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه.
    فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها، وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة، وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات، وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة، وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة، فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا، وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه؛ فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أهل الشورى، كعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، وكان يدفع عنه من يؤذيه، ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة، وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله، فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا.
    ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة [من وجوه]: أحدها: أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: " «لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتينا فيه طرفي النهار» ".

    فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار، والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة، وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة.
    وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه.
    وأيضا فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه.

    فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدر فتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: «لما أسر الأسارى يوم بدر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: هم بنو العم والعشيرة، فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم: تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه. وأشار ابن رواحة بتحريفهم فاختلف أصحابه، فمنهم من يقول: الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول: الرأي ما رأى عمر، ومنهم من يقول: الرأي ما رأى ابن رواحة، قال: فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت». وذكر تمام الحديث.
    وأما الثاني: ففي يوم الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذرية الذين أعانوا قريشا، أو يذهب إلى البيت؛ فمن صده قاتله، والحديث معروف عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه، والحديث رواه البخاري ورواه أحمد في مسنده.
    حدثنا عبد الرزاق عن معمر، قال: قال الزهري: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل منهما صاحبه، قالا: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدي وأشعره، وأحرم بعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي؛ فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش» "، قال أحمد: " وقال يحيى بن سعيد عن ابن المبارك ": " «قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

    " أشيروا علي: أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؛ فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله، أو ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله؛ إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فروحوا إذا» ". قال الزهري: «وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم» -، قال الزهري: حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ".

    ومن هنا رواه البخاري من طريق ورواه في المغازي والحج.
    وقال الزهري في حديث المسور الذي اتفق عليه أحمد والبخاري «حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش؛ فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، " ما خلأت [القصواء] وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل؛ ثم قال: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها "، ثم زجرها فوثبت، قال:
    فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه وشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ونفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة» " وفي لفظ لأحمد: " مسلمهم ومشركهم " «فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
    فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين؛ فإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم؛ فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس؛ فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره ".
    قال بديل: " سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا؛ فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا؛ فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال سمعته يقول: كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟، قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، ولفظ أحمد: " خلقاء أن يفروا ويدعوك " فقال [له] أبو بكر: - رضي الله عنه -: امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال:
    من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف، ويقول: أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع عروة رأسه فقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة.

    قال: أي غدر، أولست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، [ثم جاء فأسلم]، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينيه؛ قال: فوالله ما تنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم [عنده] وما يحدون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم [والله] لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي؛ والله إن رأيت ملكا عظيما قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم بنخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده.





  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 332)

    من صــ 176 الى صـ 190






    وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها؛ فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأصحابه] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له " [فبعثت له] واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهذا أن يصد عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصد عن البيت؛ فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته؛ فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
    " هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر " فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد سهل لكم من أمركم "، قال معمر عن الزهري في حديثه: فجاء سهيل، فقال له: هات اكتب بيننا وبينك كتابا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل: أما الرحمن فما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اكتب باسمك اللهم "، ثم قال: " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله "؛ فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني؛ اكتب: محمد بن عبد الله ". قال الزهري: وذلك لقوله: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ".
    قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على أن تخلوا بيننا وبين المسجد الحرام نطوف به "؛ فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذاك من العام المقبل فكتب، وقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين؛ فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نقض الكتاب بعد قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فأجزه لي " قال:
    ما أنا مجيزه، قال: " بلى فافعل " قال: ما أنا بفاعل؛ قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت، وقد كان عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قال: قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري "؛ قلت: أولست كنت تحدثنا: أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " فأخبرتك أنك آتيه العام؟ " قلت: لا، قال: " فإنك آتيه ومطوف به " قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله [إنه] على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا قال فإنك آتيه ومطوف به؛ قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: " قوموا فانحروا، ثم احلقوا " قال:
    فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج ولا تكلم أحدا منهم، * حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك [فيحلقك]، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك فنحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه *، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} إلى قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [سورة الممتحنة: 10] فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك؛ فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة؛ فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة؛ فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه [منه]، فضرب به حتى برد، وفر الآخر حتى آتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير - رضي الله عنه - فقال: يا نبي الله قد وفى بذمتك، فلقد رددتني إليهم، ثم أنجاني
    الله منهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
    " ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم؛ فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل - رضي الله عنه -؛ فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة؛ قال: فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم إلا أرسل إليهم: فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وأنزل الله عز وجل: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة} [سورة الفتح: 24] حتى بلغ: {حمية الجاهلية} [سورة الفتح: 26] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " وحالوا بينهم وبين البيت» " رواه البخاري عن عبد الله بن محمد المسندي عن عبد الرازق ورواه أحمد عن عبد الرازق، وهو
    أجل قدرا من المسندي شيخ البخاري؛ فما فيه من زيادة هي أثبت مما في البخاري.
    وفي الصحيحين عن البراء بن عازب، قال: «كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين يوم الحديبية؛ فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لا تكتب رسول الله؛ لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: " امحه "، فقال: " ما أنا بالذي أمحوه " قال: فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، قال: وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها ثلاثا، ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح. قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه» ".
    وفي الصحيحين عن أبي وائل قال: «قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم؛ لقد كنا [مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] يوم الحديبية؛ ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وجاء عمر، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال: " بلى "، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: " بلى "، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؛ قال: " يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا "، قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفتح؛ فأرسل إلى عمر
    فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: " نعم» ".
    وفي لفظ مسلم " فطابت نفسه ورجع ".
    وفي لفظ لمسلم أيضا: " «أيها الناس اتهموا رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو [أني] أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته» ".
    وفي رواية: والله ورسوله أعلم: " والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا "، " ما
    نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له " يعني يوم صفين.
    وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه.
    وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر [بمنزلة] من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابة: لا عمر ولا علي ولا غيرهما، وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه، ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله.
    فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه [كان] يبدأ بالكلام بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - معاونة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره.

    فإنه لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - جاسوسه الخزاعي، وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش، وهي الجماعات المستجمعة من
    قبائل، والتحبش: التجمع، وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت، استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا، هل يميل إلى ذراري الأحابيش؟ أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال، فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال؛ فإن منعنا أحد من البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين له بقتال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " روحوا إذا "، ثم إنه [لما] تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وأخذ يقول له عن أصحابه: " إنهم أشواب " أي: أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك، قال له الصديق - رضي الله عنه -: امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه، فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة.
    ولهذا قال: من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهي عنه.
    كما في حديث أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " «من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا» " رواه
    أحمد فسمع أبي بن كعب رجلا يقول: يا فلان، فقال: اعضض أير أبيك، فقيل له في ذلك، فقال: بهذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
    ثم إنه لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله وثقة بوعده له، وأن الله سينصره عليهم، واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم، حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف؛ ولهذا كبر عليه علي - رضي الله عنه - لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب ومحاه بيده.
    وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي: " امح رسول الله " قال: لا والله لا أمحوك أبدا؛ فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، وليس يحسن يكتب فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ".
    وسهل بن حنيف يقول: " لو استطعت أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته "، وعمر يناظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا، ثم إنه رجع عن ذلك وعمل له أعمالا.
    وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شيء قط، بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يسمع جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

    وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا؛ إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله. وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك؛ فأين مقامه من مقام غيره؟! هذا يناظره ليرده عن أمره؛ وهذا يأمره ليمحو اسمه فلا يمحوه، وهذا يقول: لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته، وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون.
    ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله، وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر، وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر. ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها.
    لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي، والشرع على الهوى؛ فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم: تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى * على الشرع؛ فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه * الانقياد لنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه.
    كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري " فبين أنه رسول الله، يفعل ما أمره به مرسله، لا يفعل من تلقاء نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل؛ فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ما ظهر بعد ذلك، وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس، بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما.
    ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك - رضي الله عنهم - كما في الحديث رجوع عمر، وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال: " والله ورسوله أعلم " وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم؛ فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم؛ فإن الرأي يكون خطأ، كما كان رأيهم يوم الحديبية خطأ، وكذلك على الذي لم يفعل ما أمره به، والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
    والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق، وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، وقد رضي [الله] عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
    والاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية، وقد قص الله
    علينا من توبة أنبيائه، وحسن عاقبتهم، وما آل إليه أمرهم من على الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور، ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها؛ إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية.
    وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم [لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية] كما ذكر، فهو جاهل؛ لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات، وأنه لم يكن فيهم من يساويه.

    وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك، كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك؛ بل كانوا مطبقين على تقديم الصديق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وداود وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والليث وأصحابه، وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق.





  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 333)

    من صــ 191 الى صـ 205




    ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية - أو غيره - لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط، كما قال من أخذ يعتذر
    لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام: بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق ; لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك.
    وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه، أو يقول: مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور الإيمان على الكفر ونحو ذلك.
    فيقال: الأمر الجازم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أراد به الإيجاب، موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان، وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب، وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك.
    ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا، فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وروى أنه غضب وقال: مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع.
    وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع.
    ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع.
    وأيضا فإنه كان محتاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح؛ ولهذا محاه بيده، والأمر بذلك كان جازما. والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب، لما فيه من قلة احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح. فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله: " ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع " لا يمكن تسويغ المخالفة؛ لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره.
    فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم، فيقدح بذلك في أمر المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، كما فعل ذلك في توبة من تاب، وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفي على الفعل ما يوجب الملام، والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين.
    ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية، وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه؛ علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعم الله عليهم.
    وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد، مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش: لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر.
    وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من كان جاهلا أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله.

    فقوله تعالى في القرآن: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} [سورة التوبة: 40] لا يختص بمصاحبته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي كمل [في] الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره، فصار مختصا بالأكملية من الصحبة.
    كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه؛ فإنه لم يسؤني قط، أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان» ".
    فقد تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[خصه] دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا؛ لكن خصه بكمال الصحبة.
    ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.
    ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبتهم له، وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به، فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله، وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين.
    كأصحاب الصحيح: مثل: البخاري، ومسلم، والإسماعيلي،
    والبرقاني، وأبي نعيم، والدارقطني، ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم.

    وما صححه أئمة أهل الحديث [الذين] هم أجل من هؤلاء، أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين، مثل: مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، وأحمد، وابن معين وابن المديني، وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين، وخلائق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.
    فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب؛ فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس، وينفون عنه ما كذبه الكذابون، وغلط فيه الغالطون، ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه، وعلم بعض قدرهم، وإلا فليسلم القوس إلى باريها، كما يسلم إلى الأطباء طبهم، وإلى النحاة نحوهم، وإلى الفقهاء فقههم، وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في صناعتهم؛ إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع، وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل، فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب، ولا على التكذيب بصدق؛ بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه، أو تحليله أو تحريمه.
    ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص. مثل حديث المخالة، وحديث: إن الله معنا، وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث الإتيان إليه بعده، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة، وتركه له، وهو قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي» " وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر؛ وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج، وصبره وثباته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقياد الأمة [له]، وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك.
    ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر، وحديث علي حيث يقول: «كثيرا ما كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر» " وحديث استقائه من القليب، وحديث البقرة التي يقول فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أؤمن بها أنا وأبو بكر وعمر» " وأمثال ذلك.
    وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله: " «يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» "، وقوله في غزوة تبوك: " «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» " ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله: " «أنت مني وأنا منك» "، وليس في شيء من ذلك خصائص. وحديث: " «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» "، ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن.
    فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث، ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص.
    وقول من قال: صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره؛ كذب لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث؛ لكن قد يقال: روي له ما لم يرو لغيره، لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه؛ ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة، بل باطلة، وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها.
    والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها، فإنه لو أحصي الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه.
    وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد.
    وأما كمال معرفته ومحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه له فهو
    مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينة لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته.
    وأما نفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته له على الدين فكذلك.
    فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد.
    ويدل على ذلك ما رواه البخاري «عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما صاحبكم فقد غامر فسلم "، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: " يغفر الله لك يا أبا بكر " ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم. مرتين؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ". مرتين. فما أوذي بعدها».

    وفي رواية: «كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له؛ فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه؛ فأقبل أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم» -. . الحديث. قال: وغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: " «إني قلت يا أيها الناس: إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» ".
    فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله: " «فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟» " وبين فيه من أسباب ذلك: أن الله لما بعثه إلى الناس قال: " إني رسول الله إليكم جميعا "، قالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت؛ فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط، وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا.
    وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن.
    وهذا موافق لما رواه مسلم «عن عمرو بن عبسة، قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد " ومعه يومئذ أبو بكر وبلال».
    وأما خديجة وعلي وزيد؛ فهؤلاء كانوا من عيال النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي، وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال، فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان؛ لأن عليا كان صبيا، والقلم عنه مرفوع.
    ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل أن يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه؛ فإن ظاهر قوله: " «يا أيها الناس إني أتيت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت» " كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر.
    ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره، وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخلة فيمن بلغ.
    وقوله في حديث «عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله من معك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد» ".

    والذي في صحيح مسلم موافق لهذا، أي: اتبعه من المبلغين المدعوين، ثم ذكر قوله: " وواساني بنفسه وماله "، وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد.
    وقد ذكر هذا [النبي]- صلى الله عليه وسلم - في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه، كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر؛ فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخوة الإسلام. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر» " وفي رواية للبخاري: " «لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته». * وفي رواية " إلا خلة الإسلام ". وفيه: " قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. وفي رواية: " وبين ما عنده فاختار ما عنده "، وفيه فقال: " «لا تبك إن آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته * لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر» ".
    وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: " «إنه ليس أحد من الناس آمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر» ".
    وفي رواية: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته، ولكن أخوة الإسلام أفضل» ".
    وفي رواية: " ولكن أخي وصاحبي ".
    ورواه البخاري عن ابن الزبير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
    وسلم -: " «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا * لاتخذته يعني أبا بكر».
    ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «لو كنت متخذا خليلا * لاتخذت أبا بكر خليلا؛ ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا» ".
    وفي رواية: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة؛ ولكن صاحبكم خليل الله» ".
    وفي أخرى: " «ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله» ".

    فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام [بها] وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق، لو كانت المخالة ممكنة.
    وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل؛ قال: " فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: فمن الرجال؟ قال: " أبوها " قلت: ثم من؟ قال عمر: وعد رجالا» ". وفي رواية للبخاري: " قال: فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم ".





  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 334)

    من صــ 205 الى صـ 220




    [فصل مما يبين فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال]
    فصل.
    ومما يبين من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40] أي: أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد؛ فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة.
    ثم قال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40]؛ وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه.
    فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن، بل كان يضمر الفرح والسرور، ولا كان الرسول يقول له: " {لا تحزن إن الله معنا} ".
    فإن قال المفتري: إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن، وكان في الباطن مبغضا.
    قيل له فقد قال: " {إن الله معنا} "، فهذا إخبار بأن الله معهما [جميعا] بنصره، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق؛ وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [سورة التوبة: 101] فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم.
    ولهذا «لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال: " أما هذا فقد صدق "، أو قال: " صدقكم» ".

    وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " «أعطيت فلانا وفلانا، وتركت فلانا وهو مؤمن " قال: " أو مسلم " مرتين أو ثلاثا» فأنكر عليه إخباره بالإيمان، ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام.
    فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك؟ والكلام بلا علم لا يجوز.
    وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له، لا إخبار منكر له فعلم أن قوله: " {إن الله معنا} " من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه.
    وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم، ويطلبون قتله، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره؛ فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره، وقد أظهر له هذا حزنه، وهو مع ذلك عدو له في الباطن. والمصحوب يعتقد أنه وليه، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم.
    فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة.
    ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عدوه، ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا. قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث، وقد برأ الله رسوله منها، لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال: " كان قليل العقل ".

    ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل. وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول.
    [فصل مما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة]
    فصل.
    ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» ". انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: «لا تسبوا أصحابي» يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم.
    وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو. والحارث بن هشام، وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو، وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
    والمقصود هنا أنه نهي لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال:" «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ".
    فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون، فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟!.
    وقوله: " «لا تسبوا أصحابي» " قد ثبت في الصحيحين من غير وجه، منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» " تقدم هذا الحديث فيما مضى 2/ 20 - 21. .
    فصل.
    [قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والرد عليه]
    وأما قول الرافضي: " يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه ".
    والجواب: أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها.
    أحدها: أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته، فبطل هذا.
    الثاني: أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، من أعظم الخلق اختصاصا به، أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة، ومن سخاء حاتم، ومن موالاة علي ومحبته له، ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد.

    والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار. وليس هذا من بهتانهم ببعيد، فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار، ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات.
    ولهذا قال من قال: لو قيل: من أجهل الناس؟ لقيل: الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء \ مسألة فقهية: فيما إذا أوصى لأجهل الناس؛ قال: هم الرافضة، لكن هذه الوصية باطلة؛ فإن الوصية باطلة، فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية، بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع. والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق، فهو كما لو أوصى لأكفر الناس، أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق، فإن هذا لا يصح.
    وكون أبي بكر كان مواليا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره؛ أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون: إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي - صلى
    الله عليه وسلم - وأبو بكر وثالثهما عمر؛ لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله، كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة، فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم [كان] أعلم بباطن الدعوة، وأكتم لباطنها من غيره.
    ولهذا جعلوهم مراتب: فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من غيره، جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره، ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره.
    فمن قال: إنه كان في الباطن عدوه، كان من أعظم أهل الأرض فرية، ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي، وقيل [له] له زيادة في (م).: إنه كان في الباطن معاديا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته؛ فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو؛ طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته، ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا، وكان مراده إهلاك الباقين؛ لكن عجز؛ وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر.
    فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار؛ لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي؛ فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة، والحجة على معاداته باطلة، فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة، والحجة على معاداته أولى بالبطلان.
    الوجه الثالث: أن قوله: " استصحبه حذرا من أن يظهر أمره ".
    كلام من هو من أجهل الناس بما وقع، فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة، وأرسلوا الطلب، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج، وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه، وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر؛ فأي شيء كان يخاف؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك.
    الرابع: أنه إذا كان خرج ليلا، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه؟.
    فإن قيل: فلعله علم خروجه دون غيره؟.
    قيل: أولا: قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر بخروجه كما، خرج
    في وقت لم يشعر به المشركون، وكان يمكنه أن [لا] يعينه.
    فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة، فلم يأذن له حتى هاجر معه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: «جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه؛ فقال أبي: يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم سرينا ليلتنا كلها، ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه [النبي] النبي: - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظلها، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا فلقيته؛ فقلت: لمن. أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة - يريد مكة - لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له: أفي غنمك لبن؟ فقال: نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال: نعم فأخذ شاة؛ فقلت [له] انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن، قال: ومعي إداوة أرتوي فيها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ويتوضأ، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله؛ فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن، فشرب حتى رضيت، ثم قال: " ألم يأن للرحيل؟ " قلت:

    بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، قال: ونحن في جلد من الأرض فقلت:يا رسول الله: أتينا، فقال: {لا تحزن إن الله معنا}، فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا الله لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ما هنا، ولا يلقى أحدا إلا رده، وقال: خذ سهما من كنانتي فإنك تمر بإبلي وغلماني، فخذ منها حاجتك فقال: " لا حاجة لي في إبلك " قال: فقدمنا المدينة، فتنازعوا أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك "؛ فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله» ".

    وروى البخاري «عن عائشة، قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية؛ فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة. وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال:
    أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فاعبد ربك ببلدك، فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر، فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف،ويعين على نوائب الحق، فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى بفناء داره مسجدا، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، [وهم] يعجبون [منه] وينظرون إليه، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم؛ فقالوا: إنا كنا [قد] أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك، فابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن بالصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإلا فإن أبى إلا أن يعلن ذلك، فسله أن يرد إليك جوارك؛ فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة أبا بكر؛ فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه؛ فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر:

    إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله، ورسول الله يومئذ بمكة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد أريت دار هجرتكم: ذات نخل، بين لابتين - وهما الحرتان - فهاجر من هاجر إلى المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي " فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال " نعم " فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط أربعة أشهر، قال ابن شهاب:





  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 335)

    من صــ 221 الى صـ 235






    قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها؛ فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: " أخرج من عندك " فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: " فإني قد أذن لي في الخروج " قال أبو بكر: الصحابة يا رسول الله، قال: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بالثمن " قالت عائشة:
    فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة) من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من الليل، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وأبو بكر] رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت: الماهر بالهداية في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل» " قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: " جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
    وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل: أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت [له]: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي، ثم خرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجة الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها:
    أضرهم أرده فآخذ المائة ناقة أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت [فرسي]- وعصيت الأزلام - تقرب [بي] حتى [إذا] سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا؛ فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ".
    الوجه الخامس: أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر، وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك، فكان يمكنه أن
    يعلمهم بخبره.
    السادس: أنه إذا كان كذلك، والعدو قد جاء إلى الغار، ومشوا فوقه، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار، وينذر العدو به، وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو؛ فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه؛ فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار، وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه، وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة، ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه؛ فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما، والقدرة تامة، وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل؛ فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي، أو انتفاء القدرة، والقدرة موجودة؛ فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه، كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه.
    ومن هؤلاء المفترين من يقول: إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلدغته حية فردها حتى كفت عنه الألم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن نكثت نكث يدك، وإنه نكث بعد ذلك، فمات منها، وهذا يظهر كذبه من وجوه نبهنا على بعضها.
    ومنهم من قال: أظهر كعبه ليشعروا به، فلدغته الحية، وهذا من نمط الذي قبله.
    [فصل قول الرافضي إن الآية تدل على نقص خور أبي بكر وقلة صبره وعدم يقينه وعدم رضاه والرد عليه]
    فصل.
    وأما قول الرافضي: " الآية تدل على نقصه، لقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فإنه يدل على خوره، وقلة صبره، وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
    فالجواب: أولا: أن هذا يناقض قولكم: " إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره " فإنه إذا كان عدوه، وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه، كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به.
    وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله، فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا.
    وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه: أخبرهم به.
    فكلامهم في هذا يبطل قولهم: إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به.
    واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه، وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [سورة الحشر: 8].
    وقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
    وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم.

    وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا، وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره، فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به.
    ويكفي هذا في فضائل الصديق، وتمييزه على غيره، وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره، ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.
    فصل.
    وأما قوله: " إنه يدل على نقصه ".
    فنقول: أولا: النقص نوعان نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه.
    فإن أراد الأول فهو باطل، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127].
    وقال للمؤمنين عامة: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} [سورة آل عمران: 139].
    وقال: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم} [سورة الحجر: 87، 88] فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع، ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان.
    وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر، أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق، بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه.

    هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان، حتى ارتد أكثر الأعراب، واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره، وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت.
    ثم قرأ: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} الآية [سورة آل عمران: 144].
    وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا.
    ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} [سورة الزمر: 30]، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} [سورة آل عمران: 144] قال: فنشج الناس يبكون ".
    وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا، يريد بذلك أن يكون آخرهم، فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا
    تهتدون به، وبه هدى الله محمدا، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين، وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
    وفي طريق آخر في البخاري: أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا، وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " ذكره البخاري في كتاب " الاعتصام بالسنة ".

    وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت: " ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس، وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق " الذي عليهم.
    وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى الجزع؟!.
    وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة، مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا، وقد روي أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها، وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني - أو كما قال - قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام.
    ثم يقال: من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة: عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسني لا ينازع في فضله على عمر وعثمان، ولكن الرافضي الذي ادعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية، فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي، فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة، أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب؟!.
    ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان، بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه، ومن العسكر الذين
    يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا، وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله، فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين، ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي، بل كانوا أقل منه.
    ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافه؟!.
    [فصل قول الرافضي إن الآية تدل على خوره. . . والرد عليه]
    فصل.
    قول الرافضي: " إن الآية تدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ".
    فهذا كله كذب منه ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا وذلك من وجهين:
    أحدهما: أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى: {ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [سورة الأحزاب: 1]، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم.
    وكذلك قوله: {ولا تدع مع الله إلها آخر} [سورة القصص: 88]، (2 أو {لا تجعل مع الله إلها آخر} 2) [سورة الإسراء: 22] فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة، وقد نهي عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.

    الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " «أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك» " رواه أحمد في كتاب " مناقب الصحابة " فقال: حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة، قال: «لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور، قال: فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ قال: يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر، وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله كما أنت حتى أقمه»، قال نافع: حدثني رجل عن ابن أبي مليكة «أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه، وقال يا رسول الله إن كانت لسعة، أو لدغة كانت بي» ".
    وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا، بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.





  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    المجلد التاسع
    الحلقة( 336)

    من صــ 236 الى صـ 250




    وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [سورة الأحزاب: 6] وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ".
    وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف، فهذا يدل على أن الاتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به، فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به، فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول أعظم من حزن الإنسان على ابنه، فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه.
    ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال: {ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} الآية [سورة يوسف: 84 - 86]، فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن، ولم يكن هذا مما يسب عليه، فكيف يسب أبو بكر إذا حزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل، وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة؟!.
    ثم إن هؤلاء الشيعة - وغيرهم - يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف، وأنها بنت بيت الأحزان، ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس، ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب أكمل من حزن فاطمة، فإن كان مذموما على حزنه، ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته.
    وإن قيل: أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار.
    قيل: فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه، وكان استصحبه لئلا يظهر أمره.
    وقيل: هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين.
    ثم يقال هب أن حزنه كان عليه، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك، ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب.
    ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه، بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها، ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي.
    وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى: {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [سورة الحديد: 23] فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين.
    وإن قدر أنه حزن على الدنيا، فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له.
    وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح، وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك، ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها، وأبرأ من المذام كلها: حقيقيها وخياليها.
    [فصل قول الرافضي إن الآية تدل على قلة صبره والرد عليه]
    فصل.
    وأما قوله: " إنه يدل على قلة صبره ".
    فباطل، بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.

    كما قال صلى الله عليه وسلم: " «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا - يعني اللسان - أو
    يرحم» ".
    وقوله: " إنه يدل على عدم يقينه بالله ".
    كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله، كما ذكر الله عن يعقوب، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» ".
    وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تحزن عليهم} [سورة النحل: 127].
    وكذلك قوله: " يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره ".
    هو باطل، كما تقدم نظائره.
    [كلام الرافضي على حزن أبي بكر رضي الله عنه والرد عليه]
    فصل.
    وقوله: " وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة ".
    والجواب أولا: أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} الآية [سورة التوبة: 40].
    فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: " {إن الله معنا} "، وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته، وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه، وتقواه ما هو الفضيلة.
    وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم.

    ويقال: ثانيا: هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقوله: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [سورة الحجر: 88] ونحو ذلك، بل في قوله تعالى لموسى: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21].
    فيقال: إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه، وإن كان معصية فقد عصى.
    ويقال: إنه أمر أن يطمئن ويثبت، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف.
    فقوله لموسى {ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} [سورة طه: 21] هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف.
    وكذلك قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68] هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله.
    * وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه: " {لا تحزن إن الله معنا} نهي عن الحزن مقرون بما يوجب زواله * وهو قوله.
    إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره.
    وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} [سورة القصص: 25] وكذلك قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [سورة آل عمران: 139] قرن النهي عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين. وكذلك قوله: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127] مقرون بقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [سورة النحل: 128] وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم.
    وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [سورة آل عمران: 126].
    ويقال: ثالثا: ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت، وإن لم يكن المنهي عنه معصية، بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب.
    ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشي والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهي عنه معصية إذا حصل بغير اختياره، ولم يكن سببه محظورا.
    فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه.

    قيل: المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن، وهو قادر على اكتسابه، فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدنه، وعلى
    هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه، وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه.
    والحزن يؤذي القلب، فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة، والحزن إنما حصل بطاعة، وهو محبة الرسول ونصحه، وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك.
    ويقال: رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله، وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا، ثم تابوا كما تقدم.
    قال أبو محمد بن حزم: " وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاة بل عليهم، وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن، ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء، أو علم لم يأتوا بمثل هذا، إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا، لأن الله تعالى قال لموسى: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [سورة القصص: 35]، ثم قال عن السحرة لما قالوا:
    {إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} إلى قوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} [سورة طه: 67، 68]، فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما، وأنه هو الغالب، ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم، وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه، وأما محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله قال:
    {ومن كفر فلا يحزنك كفره} [سورة لقمان: 23] وقال تعالى: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [سورة النحل: 127]، وقال: {فلا يحزنك قولهم} [سورة يس: 76]، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [سورة فاطر: 8]، ووجدناه تعالى قد قال: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} [سورة الأنعام: 33] فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك، فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعة لله قبل أن ينهاه عنه، وما حزن أبو بكر
    بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن، فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ؟، لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن، كما قال تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} [سورة الإنسان: 24].
    [فصل الكلام على قوله تعالى لا تحزن إن الله معنا]

    فصل.
    قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] لا يدل على إيمان أبي بكر، فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر.
    كما قال تعالى: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا} [سورة الكهف: 32، 35] إلى قوله:
    {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة} [سورة الكهف: 37] الآية.
    فيقال: معلوم أن لفظ " الصاحب " في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه، أو عدوه، أو مؤمن، أو كافر، إلا لما يقترن به.
    وقد قال تعالى: {والصاحب بالجنب وابن السبيل} [سورة النساء: 36]، وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة، وليس فيه دلالة على إيمان، أو كفر.
    وكذلك قوله تعالى: {والنجم إذا هوى - ما ضل صاحبكم وما غوى} [سورة النجم: 1، 2] وقوله: {وما صاحبكم بمجنون} [سورة التكوير: 22] المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي، وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه.
    وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم، وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه} [سورة التوبة: 128]، وقال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [سورة إبراهيم: 4] فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم، وأمكنه
    أن يخاطبهم بلسانهم، فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه، فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم، والإحسان إليهم.
    وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» "، وقوله: " «هل أنتم تاركي لي صاحبي»؟ " وأمثال ذلك.
    فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له، وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به.
    والقرآن يقول فيه: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40] فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه، وهذه المعية تتضمن النصر والتأييد، وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا، ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن، ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه.
    وأيضا فقوله: " {لا تحزن} " دليل على أنه وليه، وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له: {لا تحزن إن الله معنا}، لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي، وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله: {لا تحزن}، ثم قوله: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار} [سورة التوبة: 40].
    ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف [لا] ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه، ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره؟.

    وقوله: {ثاني اثنين} حال من الضمير في أخرجه، أي: أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين، فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما.
    وذلك هو الواقع، فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [سورة الحشر: 8].
    وقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير - الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} [سورة الحج: 39، 40].
    وقال: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم} [سورة الممتحنة: 9].






الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •