تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 33 الأولىالأولى ... 789101112131415161718192021222324252627 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 643

الموضوع: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (320)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(1) الى الأية(11)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء


    " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " (1)
    هذا تعجب من حالة الناس, وأنه لا ينجع فيهم تذكير, ولا يرعون إلى نذير, وأنهم قد قرب حسابهم, ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة, والحال أنهم في غفلة معرضون أي: غفلة عما خلقوا له, وإعراض عما زجروا به.
    كأنهم للدنيا خلقوا, وللتمتع بها ولدوا, وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ, ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم, ولهذا قال

    " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون "(2)
    " مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ " يذكر ما ينفعهم, ويحثهم عليه وما يضرهم, ويرهبهم منه " إِلَّا اسْتَمَعُوهُ " سماعا, تقوم عليهم به الحجة.
    " وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ " أي: قلوبهم غافلة معرضة بمطالبها الدنيوية وأبدانهم لاعبة, قد اشتغلوا بتناول الشهوات, والعمل بالباطل, والأقوال الردية.
    مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة, تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه, وتستمعه استماعا, تفقه المراد منه, وتسعى جوارحهم, في عبادة ربهم, التي خلقوا لأجلها, ويجعلون القيامة والحساب, والجزاء منهم على بال.
    فبذلك يتم لهم أمرهم, وتستقيم أحوالهم, وتزكو أعمالهم.
    وفي معنى قوله " اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ " قولان.
    أحدهما أن هذه الأمة, هي آخر الأمم, ورسولها, آخر الرسل, وعلى أمته تقوم الساعة, فقد قرب الحساب منها, بالنسبة لما قبلها من الأمم, لقوله صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين, وقرن بين إصبعيه, السبابة والتي تليها " .
    والقول الثاني: أن المراد بقرب الحساب الموت, وأن من مات, قامت قيامته, ودخل في دار الجزاء على الأعمال, وأن هذا تعجب من كل غافل معرض, لا يدري متى يفجأه الموت, صباحا أو مساء.
    فهذه حالة الناس كلهم إلا من أدركته العناية الربانية, فاستعد للموت وما بعده.

    " لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " (3)
    ثم ذكر ما يتناجى به الكافرون الظالمون, على وجه العناد, ومقابلة الحق بالباطل, وأنهم تناجوا, وتواطأوا فيما بينهم, أن يقولوا في الرسول صلى الله عليه وسلم, إنه بشر مثلكم, فما الذي فضله عليكم, وخصه من بينكم.
    فلو ادعى أحد منكم مثل دعواه, لكان قوله من جنس قوله.
    ولكنه يريد أن يتفضل عليكم, ويرأس فيكم, فلا تطيعوه, ولا تصدقوه.
    وأنه ساحر, وما جاء به من القرآن, سحر, فانفروا عنه, ونفروا الناس, وقولوا.
    " أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ " هذا, وهم يعلمون أنه رسول الله حقا بما يشاهدون من الآيات الباهرة, ما لم يشاهده غيرهم, ولكن حملهم على ذلك, الشقاء والظلم والعناد.
    والله تعالى قد أحاط علما بما تناجوا به, وسيجازيهم عليه ولهذا قال:

    " قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم " (4)
    " قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ " الخفي والجلي " فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " أي: في جميع ما احتوت عليه أقطارهما " وَهُوَ السَّمِيعُ " لسائر الأصوات, باختلاف اللغات, على تفنن الحاجات " الْعَلِيمُ " بما في الضمائر, وأكنته السرائر.
    " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون "(5)
    يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم, وبما جاء به من القرآن العظيم, وأنهم تقولوا فيه, وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة.
    فتارة يقولون " أضغاث أحلام " بمنزلة كلام النائم الهاذي, الذي لا يحس بما يقول.
    وتارة يقولون " افتراه " واختلقه وتقوله من عند نفسه.
    وتارة يقولون.
    إنه شاعر وما جاء به شعر.
    وكل من له أدنى معرفة بالواقع, من حالة الرسول, ونظر في هذا الذي جاء به, جزم جزما لا يقبل الشك, أنه أجل الكلام وأعلاه, وأنه من عند الله, وأن أحدا من البشر, لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه.
    كما تحدى الله أعداءه بذلك, ليعارضوه مع توفر دواعيهم لمعارضته, وعداوته فلم يقدروا على شيء من معارضته, وهم يعلمون ذلك.
    وإلا, فما الذي أقامهم, وأقعدهم؟ وأقض مضاجعهم, وبلبل ألسنتهم إلا الحق الذي لا يقوم له شيء؟ وإنما يقولون هذه الأقوال فيه, حيث لم يؤمنوا به, تنفيرا عنه لمن لم يعرفه.
    وهو أكبر الآيات المستمرة, الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, وصدقه, وهو كاف شاف.
    فمن طلب دليلا غيره, أو اقترح آية من الآيات سواه, فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الذين كذبوه, وطلبوا من الآيات الاقتراحية, ما هو أضر شيء عليهم.
    وليس لهم فيها مصلحة لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله, فقد تبين دليله بدونها.
    وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم, إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة - على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات - لا يؤمنون قطعا, فلو جاءتهم كل آية, لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
    ولهذا قال الله عنهم: " فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ " أي: كناقة صالح, وعصى موسى, ونحو ذلك.

    " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " (6)
    قال الله: " مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا " أي: بهذه الآيات المقترحة.
    وإنما سنته تقتضي أن من طلبها, ثم حصلت له لم يأمن أن يعاجله بالعقوبة.
    فالأولون ما آمنوا بها أفيؤمن هؤلاء بها؟ ما الذي فضلهم على أولئك وما الخير الذي فيهم, يقتضي الإيمان عند وجودها؟ وهذا الاستفهام, يعني النفي, أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.

    " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (7)
    هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا, لا يحتاج إلى طعام وشراب, وتصرف في الأسواق؟ وهلا كان خالدا؟ فإذا لم يكن كذلك, دل على أنه ليس برسول.
    وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل, تشابهوا في الكفر, فتشابهت أقوالهم.
    فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول, المقرين بإثبات الرسل قبله.
    ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام, الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف.
    والمشركون, يزعمون أنهم على دينه وملته - بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم, كلهم من البشر, الذين يأكلون الطعام, ويمشون في الأسواق, وتطرأ عليهم العوارض البشرية, من الموت وغيره.
    وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم, فصدقهم من صدقهم, وكذبهم من كذبهم.
    وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة, والسعادة لهم, ولأتباعهم, وأهلك المسرفين المكذبين لهم.
    فما بال محمد صلى الله عليه وسلم, تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته وهي موجودة في إخوانه المرسلين, الذين يقر بهم المكذبون لمحمد؟ فهذا إلزام لهم, في غاية الوضوح.
    وأنهم إن أقروا برسول من البشر, ولن يقروا برسول من غير البشر, فإن شبههم باطلة, قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها, وتناقضهم بها.
    فلو قدر انتقالهم هنا إلى إنكار نبوة البشر رأسا, وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا, لا يأكل الطعام, فقد أجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: " وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ " .
    وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة " قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا " .
    فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ " من الكتب السالفة, كأهل التوراة والإنجيل, يخبرونكم بما عندهم من العلم, وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم.
    وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين من أهل الذكر, وهم أهل العلم, فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين, أصوله وفروعه, إذا لم يكن عند الإنسان علم منها, أن يسأل من يعلمها.
    ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم.
    ولم يؤمر بسؤالهم, إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.
    وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم, نهى عن سؤال المعروف بالجهل, وعدم العلم, ونهى له أن يتصدى لذلك, وفي هذه الآية, دليل على أن النساء ليس منهن نبية, لا مريم ولا غيرها, لقوله " إِلَّا رِجَالًا " .

    " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " (10)
    أي: لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم, محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب - كتابا جليلا, وقرآنا مبينا " فِيهِ ذِكْرُكُمْ " أي شرفكم وفخركم, وارتفاعكم, إن تذكرتم به, ما فيه من الأخبار الصادقة, فاعتقدتموها, وامتثلتم ما فيه من الأوامر, واجتنبتم ما فيه من النواهي, وارتفع قدركم, وعظم أمركم.
    " أَفَلَا تَعْقِلُونَ " ما ينفعكم وما يضركم؟ كيف لا تعملون على ما فيه ذكركم, وشرفكم في الدنيا والآخرة, فلو كان لكم عقل, لسلكتم هذا السبيل.
    فلما لم تسلكوه, وسلكتم غيره, من الطرق, التي فيها ضعتكم.
    وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما, علم أنه ليس لكم معقول صحيح, ولا رأي رجيح.
    وهذه الآية, مصداقها ما وقع.
    فإن المؤمنين بالرسول, والذين تذكروا بالقرآن, من الصحابة, فمن بعدهم, حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر, والصيت العظيم, والشرف على الملوك, ما هو أمر معلوم لكل أحد.
    كما أنه معلوم ما حصل, لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا, ولم يهتد, ولم يتزك به, من المقت والضعة, والتدسية, والشقاوة, فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخره, إلا بالتذكر بهذا الكتاب.

    " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين " (11)
    يقول تعالى - محذرا لهؤلاء الظالمين, المكذبين للرسول, بما فعل بالأمم المكذبة لغيره من الرسل - " وَكَمْ قَصَمْنَا " أي: أهلكنا بعذاب مستأصل " مِنْ قَرْيَةٍ " تلفت عن آخرها " وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ " وأن هؤلاء المهلكين, لما أحسوا بعذاب الله وعقابه, وباشرهم نزوله, لم يمكن لهم الرجوع ولا طريق إلى النزوع وإنما ضربوا الأرض بأرجلهم, ندما, وقلقا, وتحسروا على ما فعلوا.


  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (321)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(12) الى الأية(21)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء



    " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون " (13)
    فقيل لهم على وجه التهكم بهم: " لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ " أي: لا يفيدكم الركوض والندم.
    ولكن إن كان لكم اقتدار, فارجعوا إلى ما أترفتم فيه, من اللذات, والمشتهيات, ومساكنكم المزخرفات, ودنياكم التي غرتكم وألهتكم, حتى جاءكم أمر الله.
    فكونوا فيها متمكنين, وللذاتها جانين, وفي منازلكم مطمئنين معظمين, لعلكم أن تكونوا مقصودين في أموركم, كما كنتم سابقا, مسئولين من مطالب الدنيا, كحالتم الأولى, وهيهات, أين الأصول إلى هذا؟ وقد فات الوقت, وحل بهم العقاب والمقت, وذهب عنهم عزهم, وشرفهم ودنياهم, وحضرهم ندمهم وتحسرهم؟

    " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " (14)
    ولهذا " قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ " .
    أي: الدعاء بالويل والثبور, والندم, والإقرار على أنفسهم بالظلم وأن الله عادل فيما أحل بهم.
    " حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ " اى:.
    بمنزلة النبات الذي قد حصد وأنيم.
    قد خمدت منهم الحركات, وسكنت منهم الأصوات.
    فاحذروا - أيها المخاطبون - أن تستمروا على تكذيب أشرف الرسل فيحل بكم كما حل بأولئك.

    " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين " (16)
    يخبر تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض عبثا, ولا لعبا من غير فائدة بل خلقها بالحق وللحق, ليستدل بها العباد على أنه الخالق العظيم, المدبر الحكيم, الرحمن الرحيم, الذي له الكمال كله, والحمد كله, والعزة كلها.
    الصادق في قيله, الصادقة رسله, فيما تخبر عنه, وأن القادر على خلقهما مع سعتهما وعظمهما, قادر على إعادة الأجساد بعد موتها, ليجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.

    " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " (17)
    " لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا " على الفرض والتقدير المحال " لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا " أي: من عندنا " إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ " ولم نطلعكم على ما فيه عبث ولهو, لأن ذلك نقص ومثل سوء, لا نحب أن نريه إياكم.
    فالسماوات والأرض اللذان بمرأى منكم على الدوام, لا يمكن أن.
    يكون القصد منها العبث واللهو.
    كل هذا تنزل مع العقول الصغيرة وإقناعها بجميع الوجوه المقنعة.
    فسبحان الحليم الرحيم, الحكيم, في تنزيله الأشياء منازلها.

    " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " (18)
    يخبر تعالى, أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل.
    وإن كان باطل قيل وجودل به, فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان, ما يدمغه, فيضمحل, ويتبين لكل أحد بطلانه " فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ " .
    أي: مضمحل, فإن, وهذا عام في جميع المسائل الدينية, لا يورد مبطل, شبهة, عقلية ولا نقلية, في إحقاق باطل, أو رد حق, إلا وفي أدلة الله, من القواطع العقلية والنقلية, ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد.
    وهذا يتبين باستقراء المسائل, مسألة مسألة, فإنك تجدها كذلك, ثم قال: " وَلَكُمْ " أيها الواصفون الله, بما لا يليق به, من اتخاذ الولد والصاحبة, ومن الأنداد والشركاء, حظكم من ذلك, ونصيبكم الذي تدركون به " الْوَيْلُ " والندامة والخسران.
    ليس لكم مما قلتم فائدة, ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها, وتعملون لأجلها, وتسعون في الوصول إليها, إلا عكس مقصودكم, وهو: الخيبة والحرمان.
    ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما.
    فالكل عبيده ومماليكه, فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك, ولا معاونة عليه, ولا يشفع إلا بإذن الله.
    فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة وكيف يجعل الله منها ولد؟!

    " وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون "(19)
    فتعالى وتقدس, المالك العظيم, الذي خضعت له الرقاب, وذلت له الصعاب, وخشعت, له الملائكة المقربون, وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة, أجمعون.
    ولهذا قال: " وَمَنْ عِنْدَهُ " أي الملائكة " لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ " أي: لا يملكون ولا يسأمون, لشدة رغبتهم, وكمال محبتهم, وقوة أبدانهم.

    " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (20)
    " يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ " أي: مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم فليس في أوقاتهم وقت فارغ ولا خال منها وهم على كثرتهم بهذه الصفة, وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه وكمال علمه وحكمته, ما يوجب أن لا يعبد إلا هو, ولا تصرف العبادة لغيره.
    " أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون " (21)
    لما بين تعالى كل اقتداره وعظمته, وخضوع كل شيء له, أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض, في غاية العجز وعدم القدرة " هُمْ يُنْشِرُونَ " .
    استفهام بمعنى النفي, أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم, يفسرها قوله تعالى: " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا " " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ " .
    فالمشرك يعبد المخلوق, الذي لا ينفع ولا يضر, ويدع الإخلاص لله, الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر.
    وهذا من عدم توفيقه, وسوء حظه, وتوفر جهله, وشدة ظلمه.
    فإنه لا يصلح الوجود, إلا على إله واحد, كما أنه لم يوجد, إلا برب واحد.



  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (322)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(22) الى الأية(30)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء


    " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون "(22)
    ولهذا قال: " لَوْ كَانَ فِيهِمَا " أي: في السماوات والأرض " آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا " في ذاتهما, وفسد ما فيهما, من المخلوقات.
    وبيان ذلك: أن العالم العلوي والسفلي, على ما يرى, في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام, الذي ما فيه خلل ولا عيب, ولا ممانعة, ولا معارضة.
    فدل ذلك, على أن مدبره واحد, وربه واحد, وإلهه واحد.
    فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك, لاختل نظامه, وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان.
    وإذا أراد أحدهما تدبير شيء, وأراد الآخر عدمه, فإنه محال وجود مرادهما معا.
    ووجود مراد أحدهما دون الآخر, يدل على عجز الآخر, وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور, غير ممكن.
    فإذا, يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده, من غير ممانع ولا مدافع, هو الله الواحد القهار, ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله: " مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ " .
    ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى: " قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا " .
    ولهذا قال هنا: " فَسُبْحَانَ اللَّهِ " أي: تنزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده.
    " رَبُّ الْعَرْشِ " الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها, وأعظمها, فربوبية ما دونه من باب أولى.
    " عَمَّا يَصِفُونَ " أي: الجاحدون الكافرون, من اتخاذ الولد والصاحبة, وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه

    " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون " (24)
    " لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ " لعظمته وعزته, وكمال قدرته, لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه, لا بقول, ولا بفعل.
    ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها, وإتقانها, أحسن كل شيء يقدره العقل, فلا يتوجه إليه سؤال, لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال.
    " وَهُمْ " أي: المخلوقين كلهم " يَسْأَلُونَ " عن أفعالهم وأقوالهم, لعجزهم وفقرهم, ولكونهم عبيدا, قد استحقت أفعالهم وحركاتهم فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم, ولا في غيرهم, مثقال ذرة.

    " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " (25)
    ثم رجع إلى تهجين حال المشركين, وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا " أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ " أي حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه, ولن يجدوا لذلك سبيلا بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه, ولهذا قال: " هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي " أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم, من إبطال الشرك.
    فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء, بأدلته العقلية والنقلية.
    وهذه الكتب السابقة كلها, براهين وأدلة لما قلت.
    ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه, علم أنه لا برهان لهم, لأن البرهان القاطع, يجزم أنه لا معارض له, وإلا لم يكن قطعيا.
    وإن وجد في معارضات, فإنها شبه لا تغني من الحق شيئا.
    وقوله " بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ " أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه, تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى.
    وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه, وإنما ذلك, لإعراضهم عنه.
    وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات, لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا ولهذا قال " فَهُمْ مُعْرِضُونَ " .

    " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " (26)
    ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين, وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة, بينها أتم تبيين في قوله " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " .
    فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم, زبدة رسالتهم وأصلها, الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له, وبيان أنه الإله الحق المعبود, وأن عبادة ما سواه, باطلة.

    " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " (27)
    يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول, وأنهم زعموا - قبحهم الله - أن الله اتخذ ولدا فقالوا: الملائكة بنات الله, تعالى الله عن قولهم.
    وأخبر عن وصف الملائكة, بأنهم عبيد مربوبون مدبرون, ليس لهم من الأمر شيء.
    وإنما هم مكرمون عند الله, قد ألزمهم الله, وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته, وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل, وأنهم في غاية الأدب مع الله, والامتثال لأوامره.

    " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " (28)
    " لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ " أي: لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة, حتى يقول الله, لكمال أدبهم, وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.
    " وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ " أي: مهما أمرهم, امتثلوا لأمره, ومهما دبرهم عليه, فعلوه.
    فلا يعصونه طرفة عين, ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله, ومع هذا, فالله قد أحاط بهم علمه.

    " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " (29)
    " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ " أي: أمورهم الماضية والمستقبلة, فلا خروج لهم عن علمه, كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.
    ومن جزئيات وصفهم, بأنهم لا يسبقونه بالقول, وأنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه, فإذا أذن لهم, وارتضى من يشفعون فيه, شفعوا فيه.
    ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل, إلا ما كان خالصا لوجهه, متبعا فيه الرسول.
    وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة, وأن الملائكة يشفعون.
    " وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " أي: خائفون وجلون, قد خضعوا لجلاله, وعنت وجوههم لعزه وجماله.

    " أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون " (30)
    فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية, ولا يستحقون شيئا من العبودية بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك - ذكر أيضا أنه لا حظ لهم, من الألوهية, ولا بمجرد الدعوى, وأن من قال منهم: " إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ " على سبيل الفرض والتنزل " فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " .
    وأي: ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص, الفقير إلى الله من جميع الوجوه مشاركته الله في خصائص الإلهية والربوبية؟!!



  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله


    الحلقة (323)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(31) الى الأية(40)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء


    " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون " (31)
    أي: أو لم ينظر هؤلاء الذين كفروا بربهم, وجحدوا الإخلاص له في العبودية, ما يدلهم دلالة مشاهدة, على أنه الرب المحمود الكريم المعبود.
    فيشاهدون السماء والأرض فيجدونهما رتقا: هذه ليس فيها سحاب ولا مطر.
    وهذه هامدة ميتة, لا نبات فيها, ففتقناهما: السماء بالمطر, والأرض بالنبات.
    أليس الذي أوجد في السماء السحاب, بعد أن كان الجو صافيا لا قزعة فيه.
    وأودع فيه الماء الغزير, ثم ساقه إلى بلد ميت; قد أغبرت أرجاؤه, وقحط عنه ماؤه.
    فأمطره فيها, فاهتزت, وتحركت, وربت, وأنبتت من كل زوج بهيج, مختلف الأنواع, متعدد المنافع.
    أليس ذلك دليلا على أنه الحق, وما سواه باطل, وأنه محيي الموتى, وأنه الرحمن الرحيم؟ ولهذا قال " أَفَلَا يُؤْمِنُونَ " أي: إيمانا صحيحا, ما فيه شك ولا شرك.

    " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون " (32)
    ثم عدد تعالى الأدلة الأفقية فقال: " وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ " إلى " فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " .
    أي: ومن الأدلة على قدرته وكماله ووحدانيته ورحمته, أنه لما كانت الأرض لا تستقر إلا بالجبال, أرساها بها وأوتدها, لئلا تميد بالعباد, أي: لئلا تضطرب, فلا يتمكن العباد من السكون فيها, ولا حرثها, ولا الاستقرار بها.
    فأرساها بالجبال, فحصل بسبب ذلك, من المصالح والمنافع, ما حصل.
    ولما كانت الجبال المتصل بعضها ببعض, قد اتصلت اتصالا كثيرا جدا, فلو بقيت بحالها, جبالا شامخات, وقللا باذخات, لتعطل الاتصال بين كثير من البلدان.
    فمن حكمة الله ورحمته, أن جعل بين تلك الجبال فجاجا سبلا.
    أي: طرقا سهلة لا حزنة.
    لعلهم يهتدون إلى الوصول, إلى مطالبهم من البلدان.
    ولعهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية المنان.

    " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " (34)
    " وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا " للأرض التي أنتم عليها " مَحْفُوظًا " من السقوط " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا " محفوظا أيضا من استراق الشياطين للسمع.
    " وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ " أي: غافلون لاهون,: هذا عام في جميع آيات السماء, من علوها, وسعتها, وعظمتها, ولونها الحسن, وإتقانها العجيب, وغير ذلك من المشاهد فيها, من الكواكب الثوابت, والسيارات, وشمسها, وقمرها النيرات, المتولد عنهما, الليل والنهار, وكونهما دائما في فلكهما سابحين, وكذلك النجوم.
    فتقوم بسبب ذلك منافع العباد من الحر والبرد, والفصول, ويعرفون حساب عباداتهم ومعاملاتهم, ويستريحون في ليلهم, ويهدأون ويسكنون وينتشرون في نهارهم, ويسعون في معايشهم.
    كل هذه الأمور إذا تدبرها اللبيب, وأمعن فيها النظر, جزم حزما لا شك فيه, أن الله جعلها مؤقتة في وقت معلوم, إلى أجل محتوم, يقضي العباد منها مآربهم, وتقوم بها منافعهم, وليستمتعوا وينتفعوا.
    ثم بعد هذا, ستزول وتضمحل, ويفنيها الذي أوجدها, ويسكنها الذي حركها.
    وينتقل المكلفون إلى دار غير هذه الدار, يجدون فيها جزاء أعمالهم, كاملا موفرا ويعلم أن المقصود من هذه الدار أن تكون مزرعة لدار القرار, وأنها منزل سفر, لا محل إقامة.

    " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " (35)
    لما كان أعداء الرسول يقولون " نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ " قال الله تعالى: هذا طريق مسلوك ومعبد, منهوك, فلم نجعل لبشر " مِنْ قَبْلِكَ " يا محمد " الْخُلْدِ " في الدنيا.
    فإذا مت, فسبيل أمثالك, من الرسل والأنبياء, والأولياء.
    " أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ " أي: فهل إذا مت خلدوا بعدك.
    فليهنهم الخلود إذا, إن كان, وليس الأمر كذاك, بل كل من عليها فان.
    ولهذا قال: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ " وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق, وإنا هذا كأس لابد من شربه وإن طال بالعبد المدى, وعمر سنين.

    " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون " (36)
    ولكن الله تعالى, أوجد عباده في الدنيا, وأمرهم, ونهاهم, وابتلاهم بالخير والشر, وبالغنى والفقر, والعز والذل والحياة والموت, فتنة منه تعالى " لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو.
    " ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ " فنجازيكم بأعمالكم, إن خيرا فخير, وإن شرا فشر " وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " .
    وهذه الآية, تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر, وأنه مخلد في الدنيا.
    فهو قول, لا دليل عليه, ومناقض للأدلة الشرعية.

    " خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " (37)
    وهذا من شدة كفرهم, فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, استهزأوا به وقالوا: " أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ " .
    أي: هذا المحتقر بزعمهم, الذي يسب آلهتكم ويذمها, ويقع فيها, أي: فلا تبالوا به, ولا تحتفلوا به.
    هذا استهزاؤهم واحتقارهم له, بما هو من كماله, فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه, إخلاص العبادة لله, وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه, وذكر محله ومكانته.
    ولكن محل الازدراء والاستهزاء, هؤلاء الكفار, الذين جمعوا كل خلق ذميم.
    ولو لم يكن إلا كفرهم بربهم, وجحدهم لرسله فصاروا بذلك, من أخساء الخلق وأراذلهم, ومع هذا, فذكرهم للرحمن, الذي هو أعلى حالاتهم, كافرون به, لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون فذكرهم كفر وشرك, فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟ ولهذا قال: " وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ " وفي ذكر اسمه " الرَّحْمَنِ " هنا, بيان لقباحة حالهم, وأنهم كيف قابلوا الرحمن - مسدي النعم كلها, ودافع النقم الذي, ما بالعباد من نعمة إلا منه, ولا يدفع السوء إلا هو- بالكفر والشرك.

    " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين "(38)
    " خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ " أي: خلق عجولا, يبادر الأشياء, ويستعجل وقوعها.
    فالمؤمنون, يستعجلون عقوبة الله للكافرين, ويستبطئونها.
    والكافرون, يتولون ويستعجلون بالعذاب, تكذيبا وعنادا, ويقولون:

    " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون " (39)
    " مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " والله تعالى, يمهل ولا يهمل ويحلم, ويجعل لهم أجلا مؤقتا " فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " .
    ولهذا قال: " سَأُرِيكُمْ آيَاتِي " أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني " فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ " ذلك.
    وكذلك الذين كفروا يقولون: " مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " قالوا هذا القول, اغترارا, ولما يحق عليهم العقاب, وينزل بهم العذاب.

    " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون " (40)
    فـ " لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " حالهم الشنيعة " حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ " إذ قد أحاط بهم من كل جانب وغشيهم من كل مكان " وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ " أي: لا ينصرهم غيرهم, فلا نصروا ولا انتصروا.

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (324)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(41) الى الأية(48)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء


    " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " (41)

    " بَلْ تَأْتِيهِمْ " النار " بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ " من الانزعاج والذعر والخوف العظيم.
    " فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا " إذ هم أذل وأضعف, من ذلك.
    " وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ " أي: يمهلون, فيؤخر عنهم العذاب.
    فلو علموا هذه الحالة حق المعرفة, لما استعجلوا بالعذاب, ولخافوه أشد الخوف.
    ولكن لما ترحل عنهم هذا العلم, قالوا ما قالوا.
    ولما ذكر استهزاءهم برسوله بقولهم " أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ " سلاه بأن هذا دأب الأمم السالفة مع رسلهم فقال:

    " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون " (42)
    " وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ " .
    أي: نزل بهم " مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ " أي: نزل بهم العذاب, وتقطعت عنهم الأسباب.
    فليحذر هؤلاء, أن يصيهم ما أصاب أولئك المكذبين

    " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون " (43)
    يقول تعالى - ذاكرا عجز هؤلاء, الذين اتخذوا من دونه آلهة, وأنهم محتاجون مضطرون إلى ربهم الرحمن, الذي رحمته, شملت البر, والفاجر, في ليلهم ونهارهم فقال: " قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ " أي: يحرسكم ويحفظكم " بِاللَّيْلِ " إذا كنتم نائمين على فرشكم, وذهبت حواسكم " وَالنَّهَارِ " وقت انتشاركم وغفلتكم " مِنَ الرَّحْمَنِ " أي: بدله غيره.
    أي: هل يحفظكم أحد غيره؟ لا حافظ إلا هو.
    " بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ " فلهذا أشركوا به, وإلا فلو أقبلوا على ربهم, وتلقوا نصائحه, لهدوا لرشدهم, ووفقوا في أمرهم.

    " بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون " (44)
    " أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا " أي: إذا أردناهم بسوء هل من آلهتهم, من يقدر على منعهم من ذلك السوء, والشر النازل بهم.
    " لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ " أي: لا يعانون على أمورهم من جهتنا.
    وإذ لم يعانوا من الله, فهم مخذولون في أمورهم, لا يستظيعون جلب منفعة, ولا دفع مضرة.

    " قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون " (45)
    والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله: " بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ " أي: أمددناهم بالأموال والبنين, وأطلنا أعمارهم, فاشتغلوا بالتمتع بها, ولهوا بها, عما له خلقوا, وطال عليهم الأمد, فقست قلوبهم, وعظم طغيانهم.
    وتغلظ كفرانهم.
    فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم, وعن يسارهم من الأرض, لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية, ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك, وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس, الأشراك.
    ولهذا قال: " أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا " أي: بموت أهلها وفنائهم, شيئا فشيئا, حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
    فلو رأوا هذه الحالة, لم يغتروا, ويستمروا على ما هم عليه.
    " أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ " الذين بوسعهم, الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم, أذعنوا, وذلوا, ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟

    " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين " (46)
    أي: " قُلْ " يا محمد, للناس كلهم: " إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ " أي: إنما أنا رسول, لا آتيكم بشيء من عندي, ولا عندي خزائن الله, ولا أعلم الغيب, ولا أقول إني ملك, وإنما أنذركم بما أوحاه الله إلي.
    فإن استجبتم, فقد استجبتم لله, وسيثيبكم على ذلك.
    وإن أعرضتم وعارضتم, فليس بيدي من الأمر شيء, وإنما الأمر لله, والتقدير كله لله.
    " وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ " أي: الأصم لا يسمع صوتا, لأن سمعه قد فسد وتعطل.
    وشرط السماع مع الصوت, أن يوجد محل قابل لذلك.
    كذلك الوحي سبب لحياة القلوب والأرواح, والفقه عن الله.
    ولكن إذا كان القلب غير قابل لسماع الهدى, كان بالنسبة للهدى والإيمان, بمنزلة الأصم, بالنسبة إلى الأصوات فهؤلاء المشركون, صم عن الهدى, فلا يستغرب عدم اهتدائهم, خصوصا في هذه الحالة, التي لم يأتهم العذاب, ولا مسهم ألمه.

    " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " (47)
    " وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ " أي: ولو جزء يسير من عذابه.
    " لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ " أي: لم يكن قولهم إلا الدعاء بالويل والثبور, والندم, والاعتراف بظلمهم وكفرهم واستحقاقهم العذاب.

    " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " (48)
    يخبر تعالى عن حكمه العدل, وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم يوم القيامة, وأنه يضع لهم الموازين العادلة, التي يبين فيها مثاقيل الذر, الذي توزن به الحسنات والسيئات.
    " فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ " مسلمة ولا كافرة " شَيْئًا " بأن تنقص من حسناتها, أو يزاد في سيئاتها.
    " وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ " التي هي أصغر الأشياء وأحقرها, من خير أو شر " أَتَيْنَا بِهَا " وأحضرناها, ليجازي بها صاحبها.
    كقوله: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " .
    " وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا " .
    " وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ " يعني بذلك نفسه الكريمة, فكفى بها حاسبا, أي: عالما بأعمال العباد, حافظا لها, مثبتا لها في الكتاب, عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها واستحقاقها, موصلا للعمال جزاءها.


  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (325)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(49) الى الأية(56)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء




    " الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون " (49)
    كثيرا ما يجمع تعالى, بين هذين الكتابين الجليلين, اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما, ولا أعظم ذكرا, ولا أبرك, ولا أعظم هدى وبيانا, وهما التوراة والقرآن.
    فأخبر أنه آتى موسى أصلا, وهارون تبعا " الْفُرْقَانَ " وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل, والهدى والضلال, وأنها " ضِيَاءً " أي: نور يهتدي به المهتدون, ويأتم به السالكون, وتعرف به الأحكام, ويميز به بين الحلال والحرام, وينير في ظلمة الجهل والبدع والغواية.
    " وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ " يتذكرون به, ما ينفعهم, وما يضرهم, ويتذكر به الخير والشر.
    وخص " المتقين " بالذكر, لأنهم المنتفعون بذلك, علما وعملا, ثم فسر المتقين فقال:

    " وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون "(50)
    " الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ " أي:- يخشونه في حال غيبتهم, وعدم مشاهدة الناس لهم, فمع المشاهدة أولى, فيتورعون عما حرم, ويقومون بما ألزم.
    " وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ " أي: خائفون وجلون, لكمال معرفتهم بربهم.
    فجمعوا بين الإحسان والخوف والعطف, هنا, من باب عطف الصفات المتغايرات, الواردة على شيء واحد, وموصوف واحد.

    " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " (51)
    " وَهَذَا " أي: القرآن " ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ " فوصفه بوصفين جليلين.
    كونه ذكرا يتذكر به جميع المطالب, من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم, ومن أحكام الجزاء, والجنة, والنار, فيتذكر به المسائل والدلائل العقلية والنقلية.
    وسماه ذكرا, لأنه يذكر ما ركزه الله في العقول والفطر, من التصديق بالأخبار الصادقة, والأمر بالحسن عقلا, والنهي عن القبيح عقلا.
    وكونه " مباركا " يقتضي كثرة خيره ونماؤه, وزيادته.
    ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن, فإن كل خير ونعمة, وزيادة دينية أو دنيوية, أو أخروية, فإنها بسببه, وأثر عن العمل به.
    فإذا كان ذكرا مباركا, وجب تلقيه بالقبول والانقياد, والتسليم, وشكرا لله على هذه المنحة الجليلة, والقيام بها, واستخراج بركته, بتعلم ألفاظه ومعانيه.
    ومقابلته بضد هذه الحالة, من الإعراض عنه, والإضراب عنه, صفحا وإنكاره, وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم.
    ولهذا أنكر تعالى, على من أنكره فقال: " أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ " .

    " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون "(52)
    لما ذكر تعالى موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم, وكتابيهما قال: " وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ " أي: من قبل إرسال موسى ومحمد, ونزول كتابيهما.
    فأراه الله ملكوت السماوات والأرض, وأعطاه من الرشد, الذي كمل به نفسه, ودعا الناس إليه, ما لم يؤته أحدا من العالمين, غير محمد.
    وأضاف الرشد إليه, لكونه رشدا, بحسب حاله, وعلو مرتبته.
    وإلا, فلا مؤمن, له من الرشد, بحسب ما معه في الإيمان.
    " وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ " أي: أعطيناه رشده, واختصصناه بالرسالة والخلة, واصطفيناه في الدنيا والآخرة, لعلمنا أنه أهل لذلك, وكفء له, لزكائه وذكائه.
    ولهذا ذكر محاجته لقومه, ونهيهم عن الشرك, وتكسير الأصنام, وإلزامهم بالحجة.

    " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " (53)
    فقال: " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ " التي مثلتموها ونحتموها بأيديكم, على صور بعض المخلوقات " الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ " مقيمون على عبادتها, ملازمون لذلك, فما هي؟ وأي فضيلة ثبتت لها؟ وأين عقولكم, التي ذهبت حتى أفنيتم أوقاتكم بعبادتها؟ والحال أنكم مثلتموها, ونحتموها بأيديكم, فهذا من أكبر العجائب, تعبدون ما تنحتون.
    " قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين "(54)
    فأجابوا بغير حجة, جواب العاجز, الذي ليس بيده أدنى شبهة فقالوا: " وَجَدْنَا آبَاءَنَا " كذلك يفعلون, فسلكنا سبيلهم, وأتبعناهم على عبادتها.
    " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " (55)
    ومن المعلوم أن فعل أحد من الخلق سوى الرسل ليس بحجة, ولا تجوز به القدوة: خصوصا, في أصل الدين, وتوحيد رب العالمين.
    ولهذا قال لهم إبراهيم - مضللا للجميع: " لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " أي: ضلال بين واضح.
    وأي ضلال, أبلغ من ضلالهم في الشرك, وترك التوحيد؟!! أي: فليس ما قلتم, يصلح للتمسك به, وقد اشتركتم وإياهم في الضلال الواضح, البين لكل أحد.

    " قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين " (56)
    " قَالُوا " على وجه الاستغراب لقوله, والاستفهام لما قال, وكيف بادأهم بتسفيههم, وتسفيه آبائهم-: " أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ " أي هذا القول الذي قلته, والذي جئتنا به, هل هو حق وجد؟ أم كلامك لنا, كلام لاعب مستهزئ, لا يدري ما يقول؟ وهذا الذي أرادوا.
    وإنما رددوا الكلام بين الأمرين, لأنهم في نزلوه منزلة المتقرر المعلوم عند كل أحد, أن الكلام الذي جاء به إبراهيم, كلام سفيه لا يعقل ما يقول.
    فرد عليهم إبراهيم ردا يبين به وجه سفههم, وقلة عقولهم فقال:


  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (326)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(57) الى الأية(68)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء

    " وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " (57)
    " بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ " فجمع لهم بين الدليل العقلي, والدليل السمعي.
    أما الدليل العقلي, فإنه قد علم كل أحد حتى هؤلاء الذين جادلهم إبراهيم, أن الله وحده, الخالق لجميع المخلوقات, من بني آدم, والملائكة, والجن, والبهائم.
    والسماوات, والأرض, المدبر لهن, بجميع أنواع التدبير.
    فيكون كل مخلوق مفطورا مدبرا متصرفا فيه.
    ودخل في ذلك, جميع ما عبد من دون الله.
    أفيليق عند من له أدنى مسكة من عقل وتمييز, أن يعبد مخلوقا متصرفا فيه, لا يملك نفعا, ولا ضرا, ولا موتا, ولا حياة, ولا نشورا, ويدع عبادة الخالق الرازق المدبر؟ أما الدليل السمعي: فهو المنقول عن الرسل عليهم السلام, فإن ما جاءوا به معصوم لا يغلط ولا يخبر بغير الحق, ومن أنواع هذا القسم شهادة أحد من الرسل على ذلك فلهذا قال إبراهيم " وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ " أي أن الله وحده المعبود وأن عبادة ما سواه باطل " مِنَ الشَّاهِدِينَ " وأي شهادة بد شهادة الله أعلى من شهادة الرسل؟ خصوصا أولي العزم منهم خصوصا خليل الرحمن.

    " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " 59)
    ولما بين أن أصنامهم ليس لها من التدبير شيء أراد أن يريهم بالفعل عجزها وعدم انتصارها وليكيد كيدا يحصل به إقرارهم بذلك فلهذا قال " وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ " أي أكسرها على وجه الكيد " بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ " عنها إلى عيد من أعيادهم, فلما تولوا مدبرين, ذهب إليها بخفية " فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا " أي كسرا وقطعا, وكانت مجموعة في بيت واحد, فكسرها كلها.
    " إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ " أي إلا صنمهم الكبير, فإنه تركه لمقصد سيبينه.
    وتأمل هذا الاحتراز العجيب, فإن كل ممقوت عند الله, لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم, إلا على وجه إضافته لأصحابه, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: " إلى عظيم الفرس " , " إلى عظيم الروم " ونحو ذلك, ولم يقل " إلى العظيم " .
    وهنا قال تعالى: " إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ " ولم يقل " كبيرا من أصنامهم " .
    فهذا ينبغي التنبه له, والاحتراز من تعظيم ما حقره الله, إلا إذا أضيف إلى من عظمه.
    وقوله: " لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ " أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه, ويستملوا حجته, ويلتفتوا إليها, ولا يعرضوا عنها ولهذا قال في آخرها: " فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ " .

    " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " (62)
    فحين رأوا ما حل بأصنامهم من الإهانة والخزي " قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ " فرموا إبراهيم بالظلم الذي هم أولى به حيث كسرها ولم يدروا أن تكسيره لها من أفضل مناقبه ومن عدله وتوحيده.
    وإنما الظالم من اتخذها آلهة, وقد رأى ما يفعل بها " قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ " أي يعيبهم ويذمهم, ومن هذا شأنه لا بد أن يكون هو الذي كسرها أو أن بعضهم سمعه يذكر أنه سيكيدها " يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ " فلما تحققوا أنه إبراهيم " قَالُوا فَأْتُوا بِهِ " أي: بإبراهيم " عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ " أي بمرأى منهم ومسمع " لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ " .
    أي: يحضرون ما يصنع بمن كسر آلهتهم, وهذا الذي أراد إبراهيم وقصد أن يكون بيان الحق بمشهد من الناس ليشاهدوا الحق وتقوم عليهم الحجة, كما قال موسى حين واعد فرعون.
    " مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " .

    " قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون " (63)
    فحين حضر الناس وأحضر إبراهيم قالوا له: " أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا " أي: التكسير " بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ " ؟ وهذا استفهام تقرير, أي: فما الذي جرأك, وما الذي أوجب لك الإقدام على هذا الأمر؟.
    " فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون "(64)
    فقال إبراهيم والناس مشاهدون " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا " أي: كسرها غضبا عليها, لما عبدت معه, وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده.
    وهذا الكلام من إبراهيم, المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.
    ولهذا قال: " فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ " وأراد: الأصنام المكسرة اسئلوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر, اسألوه لأي شيء كسرها, إن كان عندهم نطق, فسيجيبونكم إلى ذلك, وأنا وأنتم, وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم, ولا تنفع ولا تضر, بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى.

    " قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " (66)
    " فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ " أي: ثايت إليهم عقولهم, ورجعت إليهم أحلامهم, وعلموا أنهم ضالون في عبادتها, وأقروا على أنفسهم بالظلم والشرك.
    " فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ " فحصل بذلك المقصود, ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم.
    ولكن لم يستمروا على هذه الحالة.
    بل " نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ " أي: انقلب الأمر عليهم, وانتكست عقولهم وضلت أحلامهم, فقالوا لإبراهيم: " لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ " فكيف تتهكم بنا وتستهزئ بنا وتأمرنا أن نسألها وأنت تعلم أنها لا تنطق؟

    " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (67)
    فقال إبراهيم - موبخا لهم ومعلنا بشركهم على رءوس الأشهاد, ومبينا عدم استحقاق آلهتهم للعبادة-: " أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ " .
    فلا نفع ولا دفع.

    " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين "(68)
    " أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " أي: ما أضلكم وأخسر صفقتكم, وما أخسكم, أنتم وما عبدتم من دون الله.
    " أَفَلَا تَعْقِلُونَ " لتعرفوا هذه الحال.
    فلما عدمتم العقل, وارتكبتم الجهل والضلال على بصيرة, صارت البهائم, أحسن حالا منكم.


  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (327)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(69) الى الأية(78)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء





    " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " (70)
    فحينئذ لما أفحمهم, ولم يبينوا حجة, استعملوا قوتهم في معاقبته.
    و " قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ " أي: اقتلوه أشنع القتلات, بالإحراق, غضبا لآلهتكم, ونصرة لها.
    فتعسا لهم ثم تعسا, حيث عبدوا كما أقروا أنه يحتاج إلى نصرهم, واتخذوه إلها.
    فانتصر الله لخليله لما ألقوه في النار وقال لها: " كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ " فكانت عليه بردا وسلاما, لم ينله فيها أذى, ولا أحس بمكروه.

    " ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " (71)
    " وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا " حيث عزموا على إحراقه.
    " فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ " أي: في الدنيا والآخرة, كما جعل الله خليله وأتباعه, هم الرابحين المفلحين.

    " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين " (72)
    " وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا " وذلك أنه لم يؤمن به من قومه إلا لوط عليه السلام قيل: إنه ابن أخيه, فنجاه الله, وهاجر " إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ " أي: الشام, فغادر قومه في " بابل " من أرض العراق.
    " وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي " إنه هو العزيز الحكيم.
    ومن بركة الشام, أن كثيرا من الأنبياء كانوا فيها, وأن الله اختارها, مهاجرا لخليله.
    وفيها أحد بيوته الثلاثة المقدسة, وهو بيت المقدس.

    " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " (73)
    " وَوَهَبْنَا لَهُ " حين اعتزل قومه " إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " ابن إسحاق " نَافِلَةً " بعد ما كبر, وكانت زوجته عاقرا, فبشرته الملائكة بإسحاق.
    " وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ " ويعقوب, هو إسرائيل, الذي كانت منه الأمة العظيمة, وإسماعيل بن إبراهيم, الذي كانت منه الأمة الفاضلة العربية, ومن ذريته, سيد الأولين والآخرين.
    " وَكُلَا " من إبراهيم وإسحاق ويعقوب " جَعَلْنَا صَالِحِينَ " أي: قائمين بحقوقه, وحقوق عباده.
    ومن صلاحهم, أنه جعلهم أئمة يهدون بأمره, وهذا من أكبر نعم الله على عبده أن يكون إماما يهتدي به المهتدون, ويمشي خلفه السالكون, وذلك لما صبروا, وكانوا بآيات الله يوقنون.

    " ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين " (74)
    وقوله: " يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " أي: يهدون الناس بديننا, لا يأمرون بأهواء أنفسهم, بل بأمر الله ودينه, واتباع مرضاته, ولا يكون العبد إماما حتى يدعو إلى أمر الله.
    " وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ " يفعلونها ويدعون الناس إليها.
    وهذا شامل للخيرات كلها, من حقوق الله, وحقوق العباد.
    " وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ " هذا من باب عطف الخاص على العام, لشرف هاتين العبادتين وفضلهما, ولأن من كملهما كما أمر, كان قائما بدينه, ومن ضيعهما, كان لما سواهما أضيع.
    ولأن الصلاة أفضل الأعمال, التي فيها حقه.
    والزكاة أفضل الأعمال, التي فيها الإحسان لخلقه.
    " وَكَانُوا لَنَا " أي: لا لغيرنا " عَابِدِينَ " أي: مديمين على العبادات القلبية والقولية والبدنية في أكثر أوقاتهم.
    فاستحقوا أن تكون العبادة وصفهم, فاتصفوا بما أمر الله به الخلق, وخلقهم لأجله.

    " وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين " (75)
    هذا ثناء من الله على رسوله (لوط) عليه السلام بالعلم الشرعي, والحكم بين الناس, بالصواب والسداد, وأن الله أرسله إلى قومه, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عما هم عليه من الفواحش, فلبث يدعوهم, فلم يستجيبوا له.
    فقلب الله عليهم ديارهم وعذبهم عن آخرهم لأنهم " كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ " .
    كذبوا الداعي, وتوعدوه بالإخراج, ونجى الله لوطا وأهله.
    فأمره أن يسري بهم ليلا, ليبعدوا عن القرية, فسروا ونجوا, وذلك من فضل الله عليهم ومنته.

    " ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم "(76)
    " وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا " التي من دخلها, كان من الآمنين, من جميع المخاوف, النائلين كل خير وسعادة, وبر, وسرور, وثناء.
    وذلك لأنه من الصالحين, الذين صلحت أعمالهم وزكت أحوالهم, وأصلح الله فاسدهم.
    والصلاح, هو السبب لدخول العبد برحمة الله.
    كما أن الفساد, سبب لحرمانه الرحمة والخير.
    وأعظم الناس صلاحا, الأنبياء عليهم السلام ولهذا يصفهم بالصلاح.
    وقال سليمان عليه السلام " وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ " .

    " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين "(78)
    أي: واذكر عبدنا ورسولنا, نوحا عليه السلام, مثنيا مادحا, حين أرسله الله إلى قومه, فلبث فيهم ألف سنة, إلا خمسين عاما, يدعوهم إلى عبادة الله, وينهاهم عن الشرك به, ويبدي فيهم ويعيد, ويدعوهم سرا وجهارا, وليلا ونهارا.
    فلما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ, ولا يفيد لديهم الزجر, نادى ربه وقال: " رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا " .
    فاستجاب الله له, فأغرقهم, ولم يبق منهم أحدا.
    ونجى الله نوحا وأهله, ومن معه من المؤمنين, في الفلك المشحون.
    وجعل ذريته هم الباقين, ونصرهم الله على قومه المستهزئين.


  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (328)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(79) الى الأية(87)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء



    " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " (79)
    أي: واذكر هذين النبيين الكريمين " سليمان " و " داود " مثنيا مبجلا, إذا آتاهما الله العلم الواسع والحكم بين العباد, بدليل قوله: " إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ " أي: إذ تحاكم إليهما صاحب حرث, نفشت فيه غنم القوم الأخرى, أي.
    رعت ليلا, فأكلت ما في أشجاره, ورعت زرعه.
    فقضى فيه داود عليه السلام, بأن الغنم تكون لصاحب الحرث, نظرا إلى تفريط أصحابها, فعاقبهم بهذه العقوبة.
    وحكم فيها سليمان بحكم موافق للصواب, بأن أصحاب الغنم يدفعون غنمهم إلى صاحب الحرث فينتفع بدرها وصوفها ويقومون على بستان صاحب الحرث, حتى يعود إلى حاله الأولى, فإذا عاد إلى حاله, ترادا ورجع كل منهما بما له, وكان هذا من كمال فهمه وفطنته عليه السلام ولهذا قال:

    " وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون " (80)
    " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ " أي فهمناه هذه القضية.
    ولا يدل ذلك, أن داود لم يفهمه الله في غيرها, ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله " وَكُلَا " من داود وسليمان " آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " .
    وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك.
    وليس بمعلوم إذا أخطأ, مع بذل اجتهاده.
    ثم ذكر ما خص به كلا منهما فقال: " وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ " .
    وذكر أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا, وتمجيدا.
    وكان قد أعطاه الله, من حسن الصوت ورقته ورخامته, ما لم يؤته أحدا من الخلق.
    فكان إذا سبح وأثنى على الله, جاوبته الصم والطيور البهم, وهذا فضل الله عليه وإحسانه ولهذا قال: " وَكُنَّا فَاعِلِينَ " .

    " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين "(81)
    " وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ " أي: علم الله داود عليه السلام, صنعة الدروع.
    فهو أول من صنعها وعلمها وسرت صناعته إلى من بعده.
    فألان الله له الحديد, وعلمه كيف يسردها والفائدة فيها كبيرة.
    " لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ " أي: هي وقاية لكم, وحفظ عند الحرب, واشتداد البأس.
    " فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ " نعمة الله عليكم, حيث أجراها على يد عبده داود.
    كما قال تعالى: " وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ " يحتمل أن تعليم الله لداود صنعة الدروع وإلانتها أمر خارق للعادة.
    وأن يكون - كما قاله المفسرون-: إن الله ألان له الحديد, حتى كان يعمله كالعجين والطين, من دون إذابة له على النار.
    ويحتمل أن تعليم الله له, على جاري العادة, وأن إلانة الحديد له, بما علمه الله من الأسباب المعروفة الآن, لإذابتها.
    وهذا هو الظاهر, لأن الله امتن على العباد وأمر بشكرها.
    ولولا أن صنعته من الأمور التي جعلها الله مقدورة للعباد, لم يمتن عليهم بذلك, ويذكر فائدتها, لأن الدروع التي صنع داود عليه السلام, متعذر أن يكون المراد أعينها, وإنما المنة بالجنس.
    والاحتمال الذي ذكره المفسرون, لا دليل عليه إلا قوله " وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ " .
    وليس فيه أن الإلانة من دون سبب, والله أعلم بذلك.

    " ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين " (82)
    " وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ " أي: سخرناها " عَاصِفَةً " أي: سريعة في مرورها.
    " تَجْرِي بِأَمْرِهِ " حيث أديرت امتثلت أمره, غدوها شهر ورواحها شهر " إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا " وهي أرض الشام, حيث كان مقره.
    فيذهب على الريح شرقا وغربا, ويكون مأواها ورجوعها, إلى الأرض المباركة.
    " وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ " قد أحاط علمنا بجميع الأشياء, وعلمنا داود وسليمان, ما أوصلناهما به إلى ما ذكرنا

    " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين "
    " وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ " هذا أيضا من خصائص سليمان عليه السلام, أن الله سخر له الشياطين والعفاريت, وسلطه على تسخيرهم في الأعمال, التي لا يقدر على كثير منها غيرهم.
    فكان منهم, من يغوصون له في البحر, ويستخرج الدر, واللؤلؤ, وغير ذلك.
    ومنهم من يعمل له " مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ " .
    وسخر طائفة منهم, لبناء بيت المقدس, ومات, وهم على عمله, وبقوا بعده سنة, حتى علموا موته, كما سيأتي, إن شاء الله تعالى.
    " وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ " أي: لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه, بل حفظهم الله له, بقوته وعزته, وسلطانه.

    " فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " (84)
    أي: واذكر عبدنا ورسولنا, أيوب, مثنيا معظما له, رافعا لقدره, حين ابتلاه, ببلاء شديد, فوجده صابرا راضيا عنه.
    وذلك أن الشيطان سلط على جسده, ابتلاء من الله, وامتحانا فنفخ في جسده, فتقرح قروحا عظيمة ومكث مدة طويلة, واشتد به البلاء, ومات أهله, وذهب ماله, فنادى ربه قائلا رب " أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ "

    " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين " (85)
    فتوسل إلى الله بالإخبار عن حال نفسه, وأنه بلغ الضر منه كل مبلغ.
    وبرحمة ربه الواسعة العامة استجاب الله له, وقال: " ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ " فركض برجله فخرجت من ركضته عين ماء باردة فاغتسل منها وشرب, فأذهب الله عنه ما به من الأذى.
    " وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ " أي: رددنا عليه أهله وماله.
    " وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ " بأن منحه الله العافية, ومن الأهل والمال شيئا كثيرا.
    " رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا " به, حيث صبر ورضي, فأثابه الله ثوابا عاجلا, قبل ثواب الآخرة.
    " وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ " أي: جعلناه عبرة للعابدين, الذين ينتفعون بالصبر.
    فإذا رأوا ما أصاب أيوب عليه السلام من البلاء, ثم ما أثابه الله بعد زواله, ونظروا السبب, وجدوه, الصبر.
    ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: " إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " .
    فجعلوه أسوة وقدوة, عندما يصيبهم الضر.

    " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " (87)
    أي: واذكر عبادنا المصطفين, وأنبياءنا المرسلين بأحسن الذكر, وأثن عليهم, أبلغ الثناء, إسماعيل بن إبراهيم, وإدريس, وذا الكفل, نبيين من أنبياء بني إسرائيل " كُلِّ " من هؤلاء المذكورين " مِنَ الصَّابِرِينَ " .
    والصبر هو: حبس النفس ومنعها, مما تميل بطبعها إليه.
    وهذا يشمل أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله والصبر عن معصية الله والصبر على أقدار الله المؤلمة.
    فلا يستحق العبد اسم الصبر التام, حتى يوفي هذه الثلاثة حقها.
    فهؤلاء الأنبياء, عليهم الصلاة والسلام, قد وصفهم الله بالصبر.
    فدل أنهم وفوها حقها, وقاموا, كما ينبغي.
    ووصفهم أيضا بالصلاح, وهو يشمل صلاح القلب, بمعرفة الله ومحبته, والإنابة إليه كل وقت.
    وصلاح اللسان, بأن يكون رطبا من ذكر الله.
    وصلاح الجوارح, باشتغالها بطاعة الله وكفها عن المعاصي.
    فبصبرهم وسلاحهم, أدخلهم الله برحمته, وجعلهم مع إخوانهم من المرسلين, وأثابهم الثواب العاجل والآجل.
    ولو لم يكن من ثوابهم, إلا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين وجعل لهم لسان صدق في الآخرين, لكفى بذلك شرفا وفضلا.


  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (329)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(88) الى الأية(95)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء



    " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين "(88)
    أي: واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو: يونس, أي: صاحب النون, وهي الحوت, بالذكر الجميل, والثناء الحسن.
    فإن الله تعالى أرسله إلى قومه, فدعاهم, فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم.
    فجاءهم العذاب ورأوه عيانا, فعجوا إلى الله, وضجوا وتابوا, فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى: " فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ " .
    وقال: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُم ْ إِلَى حِينٍ " .
    وهذه الأمة العظيمة, الذين آمنوا بدعوة يونس, من أكبر فضائله.
    ولكنه عليه الصلاة والسلام, ذهب مغاضبا, وأبق عن ربه لذنب من الذنوب, التي لم يذكرها الله لنا في كتابه, ولا حاجة لنا إلى تعيينها لقوله: " إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ " .
    .
    .
    " وَهُوَ مُلِيمٌ " أي: فاعل ما يلام عليه وظن أن الله, لا يقدر عليه, أي: يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى, ولا مانع من عروض هذا الظن للكل من الخلق على وجه لا يستقر, ولا يستمر عليه, فركب في السفينة مع أناس فاقترعوا, من يلقون منهم في البحر؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم.
    فأصابت القرعة يونس, فالتقمه الحوت, وذهب فيه إلى ظلمات البحار.
    فنادى في تلك الظلمات: " لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ " .
    فأقر لله تعالى بكمال الألوهية, ونزهه عن كل نقص, وعين, وآفة, واعترف بظلم نفسه وجنايته.

    " وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " (89)
    قال الله تعالى: " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " .
    ولهذا قال هنا: " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ " أي: الشدة التي وقع فيها.
    " وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ " وهذا وعد وبشارة, لكل مؤمن وقع في شدة وغم, أن الله تعالى سينجيه منها, ويكشف عنه ويخفف, لإيمانه كما فعل ب " يونس " عليه السلام.

    " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " (90)
    أي: واذكر عبدنا ورسولنا, زكريا, منوها بذكره, ناشرا لمناقبه وفضائله, التي من جملتها, هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه الخلق, ورحمة الله وإياه.
    وأنه " نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا " أي: " قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا " .
    من هذه الآيات علمنا أن قوله " رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا " أنه لما تقارب أجله.
    خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله, والنصح لعباد الله, وأن يكون في وقته فردا, ولا يخلف من يشفعه ويعينه, على ما قام به.
    " وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ " أي: خير الباقين, وخير من خلفني بخير, وأنت أرحم بعبادك مني.
    ولكني أريد ما يطمئن به قلبي, وتسكن له نفسي, ويجري في موازيني ثوابه.

    " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " (91)
    " فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى " النبي الكريم, الذي لم يجعل الله له من قبل سميا.
    " وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ " بعد ما كانت عاقرا, لا يصلح رحمها للولادة فأصلح الله رحمها للحمل, لأجل نبيه زكريا.
    وهذا من فوائد الجليس, والقرين الصالح, أنه مبارك على قرينه.
    فصار يحيى مشتركا بين الوالدين.
    ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين, كلا على انفراده, أثنى عليهم عموما فقال: " إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ " أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة, ويكملونها على الوجه اللائق, الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها, إلا انتهزوا الفرصة فيها.
    " وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا " أي يسألوننا الأمور المرغوب فيها, من مصالح الدنيا والآخرة, ويتعوذون بنا, من الأمور المرهوب منها, من مضار الدارين, وهم راغبون لا غافلون, لاهون ولا مدلون.
    " وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " أي خاضعين متذللين متضرعين, وهذا لكمال معرفتهم بربهم.

    " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " (92)
    أي: واذكر مريم, عليها السلام, مثنيا عليها مبينا لقدرها, شاهرا لشرفها.
    فقال: " وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا " أي: حفظته من الحرام وقربانه, بل ومن الحلال.
    فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة, واستغراق وقتها بالخدمة لربها.
    وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن " قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا " فجازاها الله من جنس عملها, ورزقها ولدا من غير أب, بل نفخ فيها جبريل عليه السلام, فحملت بإذن الله.
    " وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ " حيث حملت به, ووضعته من دون مسيس أحد, وحيث تكلم في المهد, وبرأها مما ظن بها المتهمون وأخبر عن نفسه في تلك الحالة, وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات, ما هو معلوم.
    فكانت وابنها آية للعالمين, يتحدث بها, جيلا بعد جيل, ويعتبر بها المعتبرون.

    " وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون " (93)
    ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام, قال مخاطبا للناس: " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً " .
    أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وائمتكم الذين بهم تأتمون, وبهديهم تقتدون, كلهم على دين واحد, وصراط واحد, والرب أيضا واحد.
    ولهذا قال: " وَأَنَا رَبُّكُمْ " الذي خلقتكم, وربيتكم بنعمتي, في الدين والدنيا.
    فإذا كان الرب واحدا, والنبي: واحدا, والدين واحدا, وهو: عبادة الله, وحده لا شريك له, بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم, والواجب عليكم, القيام بها.
    ولهذا قال: " فَاعْبُدُونِ " فرتب العبادة على ما سبق بالفاء, ترتيب المسبب على سببه.

    " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون " (94)
    وكان اللائق, الاجتماع على هذا الأمر, وعدم التفرق فيه.
    ولكن البغي والاعتداء, أبيا إلا الافتراق والتقطع.
    ولهذا قال " وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ " أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لأتباع الأنبياء فرقا, وتشتتوا, كل يدعي أن الحق معه, والباطل مع الفريق الآخر و " كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " وقد علم أن المصيب منهم, من كان سالكا للدين القويم, والصراط المستقيم, مؤتما بالأنبياء وسيظهر هذا, إذا انكشف الغطاء, وبرح الخفاء, وحشر الله الناس لفصل القضاء.
    فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب.
    ولهذا قال: " كُلِّ " من الفرق المتفرقة وغيرهم " إِلَيْنَا رَاجِعُونَ " أي: فنجازيهم أتم الجزاء.

    " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون "(95)
    ثم فصل جزاءه فيهم, منطوقا ومفهوما, فقال: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ " أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب " وَهُوَ مُؤْمِنٌ " بالله وبرسله, وما جاءوا به " فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ " .
    أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله, بل نضاعفه له, أضعافا كثيرة.
    " وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ " أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ, وفي الصحف التي مع الحفظة.
    أي: ومن يعمل من الصالحات, أو عملها وهو ليس بمؤمن, فإنه محروم, خاسر في دينه, ودنياه.


  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (330)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(96) الى الأية(103)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء



    " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " (96)
    أي: يمتنع على القرى المهلكة المعذبة, الرجوع إلى الدنيا, ليستدركوا ما فرطوا فيه فلا سبيل إلى الرجوع لمن أهلك وعذب.
    فليحذر المخاطبون, أن يستمروا على ما يوجب الإهلاك فيقع بهم, فلا يمكن رفعه, وليقلعوا وقت الإمكان والإدارك.

    " واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين " (97)
    هذا تحذير من الله للناس, أن يقيموا على الكفر والمعاصي, وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج, وهما قبيلتان من بني آدم, وقد سد عليهم ذو القرنين, لما شكي إليه إفسادهم في الأرض.
    وفي آخر الزمان, ينفتح السد عنهم, فيخرجون إلى الناس وفي هذه الحالة والوصف, الذي ذكره الله من كل من مكان مرتفع, وهو الحدب ينسلون أي: يسرعون.
    في هذا, دلالة على كثرتهم الباهرة, وإسراعهم في الأرض, إما بذواتهم, وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد, وتسهل عليهم الصعب.
    وأنهم يقهرون الناس, ويعلون عليهم في الدنيا, وأنه لا يد لأحد بقتالهم.

    " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " (98)
    " وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ " أي يوم القيامة الذي وعد الله بإتيانه, ووعده حق وصدق.
    ففي ذلك اليوم ترى أبصار الكفار شاخصة, من شدة الأفزاع والأهوال المزعجة, والقلاقل المفظعة, وما كانوا يعرفون من جناياتهم وذنوبهم, وأنهم يدعون بالويل والثبور, والندم والحسرة, على ما فات ويقولون: " قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا " اليوم العظيم, فلم نزل فيها مستغرقين, وفي لهو الدنيا متمتعين, حتى أتانا اليقين, ووردنا القيامة, فلو كان يموت أحد من الندم والحسرة, لماتوا.
    " بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ " اعترفوا بظلمهم, وعدل الله فيهم, فحينئذ يؤمر بهم إلى النار, وما كانوا يعبدون, ولهذا قال: " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ " إلى " تُوعَدُونَ " .

    " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون " (99)
    أي: وإنكم, أيها العابدون مع الله آلهة غيره " حَصَبُ جَهَنَّمَ " .
    أي: وقودها وحطبها " أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " وأصنامكم.
    والحكمة في دخول الأصنام, النار, وهي جماد, لا تعقل, وليس عليها ذنب- بيان كذب من اتخذها آلهة, وليزداد عذابهم, فلهذا قال:

    " لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " (100)
    " لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا " هذا كقوله تعالى " لِيُبَيِّنَ لَهُمُالَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ " .
    وكل من العابدين والمعبودين فيها, خالدون, لا يخرجون منها, ولا ينقلون عنها.

    " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " (101)
    " لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ " من شدة العذاب " وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ " صم بكم عمي.
    أولا يسمعون من الأصوات عير صوتها, لشدة غليانها, واشتداد زفيرها وتغيظها.
    ودخول آلهة المشركين النار, إنما هو الأصنام, أو من عبد, وهو راض بعبادته.

    " لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " (103)
    وأما المسيح, وعزير, والملائكة ونحوهم, ممن عبد من الأولياء, فإنهم لا يعذبون فيها, ويدخلون في قوله " إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى " أي: سبقت لهم سابقة السعادة في علم الله, وفي اللوح المحفوظ وفي تيسيرهم في الدنيا لليسرى والأعمال الصالحة.
    " أُولَئِكَ عَنْهَا " أي: عن النار " مُبْعَدُونَ " فلا يدخلونها, ولا يكونون قريبا منها, بل يبعدون عنها, غاية البعد, حتى لا يسمعوا حسيسها, ولا يروا شخصها.
    " وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ " من المآكل, والمشارب, والمناكح والمناظر, مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, مستمر لهم ذلك, يزداد حسنه على الأحقاب.


  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (331)
    تفسير السعدى
    سورة الانبياء
    من الأية(104) الى الأية(112)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الأنبياء


    " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين "(104)
    " لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ " أي: لا يقلقهم إذا فزع الناس أكبر فزع.
    وذلك يوم القيامة, حين تقرب النار, تتغيظ على الكافرين والعاصين فيفزع الناس لذلك الأمر وهؤلاء لا يحزنهم, لعلمهم بما يقدمون عليه وأن الله قد أمنهم مما يخافون.
    " وَتَتَلَقَّاهُم ُ الْمَلَائِكَةُ " إذا بعثوا من قبورهم, وأتوا على النجائب وفدا, لنشورهم, مهنئين لهم قائلين: " هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ " فليهنكم.
    ما وعدكم الله.
    وليعظم استبشاركم, بما أمامكم من الكرامة, وليكثر فرحكم وسروركم, بما أمنكم الله من المخاوف والمكاره.

    " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " (105)
    يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي: الورقة المكتوب فيها.
    فتنثر نجومها, وتكور شمسها وقمرها, وتزول عن أماكنها " كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ " أي إعادتنا للخلق, مثل ابتدائنا لخلقهم.
    فكما ابتدأنا خلقهم, ولم يكونوا شيئا, كذلك نعيدهم بعد موتهم.
    " وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ " ننفذ ما وعدنا, لكمال قدرته, وأنه لا تمتنع منه الأشياء.

    " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " (106)
    " وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ " وهو الكتاب المزبور, والمراد: الكتب المنزلة, كالتوراة ونحوها " مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ " أي: كتبناه في الكتب المنزلة, بعد ما كتبنا في الكتاب السابق, الذي هو اللوح المحفوظ, وأم الكتاب الذي توافقه - جميع التقادير المتأخرة عنه والمكتوب في ذلك.
    " أَنَّ الْأَرْضَ " أي أرض الجنة " يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ " الذين قاموا بالمأمورات, واجتنبوا المنهيات.
    فهم الذين يورثهم الله الجنات, كقول أهل الجنة: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ " .
    ويحتمل أن المراد: الاستخلاف في الأرض, وأن الصالحين يمكن الله لهم في الأرض, ويوليهم عليها كقوله تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " .

    " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " (107)
    يثني الله تعالى على كتابه العزيز " القرآن " ويبين كفايته التامة عن كل شيء, وأنه لا يستغنى عنه فقال: " إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ " أي: يتبلغون به, في الوصول إلى ربهم, وإلى دار كرامته, فوصلهم إلى أجل المطالب, وأفضل الرغائب.
    وليس للعابدين, الذين أشرف الخلق, وراءه غاية, لأنه الكفيل بمعرفة ربهم, بأسمائه, وصفاته, وأفعاله, وبالإخبار بالغيوب الصادقة, وبالدعوة لحقائق الإيمان, وشواهد الإيقان, المبين للمأمورات كلها, والمنهيات جميعا, المعرف بعيوب النفس والعمل, والطرق التي ينبغي سلوكها في دقيق الدين وجليله, والتحذير من طرق الشيطان, وبيان مداخله على الإنسان.
    فمن لم يغنه القرآن, فلا أغناه الله, ومن لا يكفيه, فلا كفاه الله.

    " قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون " (108)
    ثم أثنى على رسوله, الذي جاء بالقرآن فقال: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " .
    فهو رحمته المهداة لعباده.
    فالمؤمنون به, قبلوا هذه الرحمة, وشكروها, وقاموا بها.
    وغيرهم, كفروها, وبدلوا نعمة الله كفرا, وأبوا رحمة الله ونعمته.

    " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون " (109)
    " قُلْ " يا محمد " إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " الذي لا يستحق العبادة إلا هو, ولهذا قال: " فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " أي: منقادون لعبوديته مستسلمون لألوهيته, فإن فعلوا فليحمدوا ربهم على ما من عليهم, بهذه النعمة, التي, فاقت المنن.
    " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين " (111)
    " فَإِنْ تَوَلَّوْا " عن الانقياد لعبودية ربهم, فحذرهم حلول المثلات, ونزول العقوبة.
    " فَقُلْ آذَنْتُكُمْ " أي: أعلمتكم بالعقوبة " عَلَى سَوَاءٍ " أي علمي وعلمكم بذلك مستو فلا تقولوا - إذا أنزل بكم العذاب - " مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ " بل الآن, استوى علمي وعلمكم, لما أنذرتكم, وحذرتكم, وأعلمتكم بمآل الكفر, ولم أكتم عنكم شيئا.
    " وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ " أي: من العذاب لأن علمه عند الله, وهو بيده, ليس لي من الأمر شيء.

    " قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " (112)
    " وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ " أي: لعل تأخير العذاب الذي استعجلتموه, شر لكم, وإن تتمتعوا في الدنيا إلى حين, ثم يكون أعظم لعقوبتكم.

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (332)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(1) الى الأية(8)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج


    " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " (1)

    يخاطب الله الناس كافة, بأن يتقوا ربهم, الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
    فحقيق بهم, أن يتقوه, بترك الشرك, والفسوق, والعصيان, ويمتثلوا أوامره, مهما استطاعوا.
    ثم ذكر ما يعينهم على التقوى, ويحذرهم من تركها, وهو: الإخبار بأهوال القيامة, فقال: " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ " لا يقدر قدره, ولا يبلغ كنهه.
    ذلك بأنها إذا وقعت الساعة, رجفت الأرض, وزلزلت زلزالها, وتصدعت الجبال, واندكت, وكانت كثيبا مهيلا, ثم كانت هباء منبثا.
    ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج.
    فهناك تنفطر السماء, وتكور الشمس والقمر, وتنتثر النجوم, ويكون من القلاقل والبلابل, ما تنصدع له القلوب, وتوجل منه الأفئدة, وتشيب منه الولدان, ويذوب له الصم الصلاب, ولهذا قال:

    " يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " (2)
    " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ " مع أنها مجبولة على شدة محبتها لولدها, خصوصا في هذه الحال, التي لا يعيش إلا بها.
    " وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا " من شدة الفزع والهول.
    " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى " .
    أي: تحسبهم - أيها الرائي لهم - سكارى من الخمر, وليسوا سكارى.
    " وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " : فلذلك أذهب عقولهم, وفرغ قلوبهم, وملأها من الفزع, وبلغت القلوب الحناجر, وشخصت الأبصار.
    في ذلك اليوم, لا يجزي والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.
    و " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " وهناك يعض الظالم على يديه, يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا, يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا, وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه.
    وتنصب الموازين, التي يوزن بها مثاقيل الذر, من الخير والشر.
    وتنشر صحائف الأعمال, وما فيها من جميع الأعمال والأقوال, والنيات, من صغير وكبير, وينصب الصراط على متن جهنم.
    وتزلف الجنة للمتقين, وبرزت الجحيم للغاوين.
    إذا رأتهم من مكان بعيد, سمعوا لها تغيظا وزفيرا.
    وإذا ألفوا منها مكانا ضيقا مقرنين, دعوا هنالك ثبورا.
    ويقال لهم: " لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا " .
    وإذا نادوا ربهم, ليخرجهم منها, قال " اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ " .
    قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم, وأيسوا من كل خير, ووجدوا أعمالهم كلها, لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا.
    هذا, والمتقون في روضات الجنات يحبرون, وفي أنواع اللذات يتفكهون, وفيما اشتهت أنفسهم خالدون.
    فحقيق بالعاقل, الذي يعرف أن كل هذا أمامه, أن يعد له عدته, وأن لا يلهيه الأمل, فيترك العمل, وأن تكون تقوى الله شعاره, وخوفه دثاره, ومحبة الله, وذكره, روح أعماله.

    " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد " (3)
    أي: ومن الناس طائفة وفرقة, سلكوا طريق الضلال, وجعلوا يجادلون بالباطل الحق, يريدون إحقاق الباطل, وإبطال الحق.
    والحال, أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء.
    وغاية ما عندهم, تقليد أئمة الضلال, من كل شيطان مريد, متمرد على الله وعلى رسله, معاند لهم, قد شاق الله ورسوله, وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار.

    " كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " (4)
    " كُتِبَ عَلَيْهِ " أي: قدر على هذا الشيطان المريد " أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ " أي: اتبعه " فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ " عن الحق, ويجنبه الصراط المستقيم " وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ " .
    وهذا نائب إبليس حقا, فإن الله قال عنه " إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " فهذا الذي يجادل في الله, قد جمع بين ضلاله بنفسه, وتصديه إلى إضلال الناس.
    وهو متبع, ومقلد لكل شيطان مريد, ظلمات بعضها فوق بعض.
    ويدخل في هذا, جمهور أهل الكفر والبدع, فإن أكثرهم مقلدة, يجادلون بغير علم.

    " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " (5)
    يقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ " أي: شك واشتباه, وعدم علم بوقوعه, مع أن الواجب عليكم, أن تصدقوا ربكم, وتصدقوا رسله في ذلك.
    ولكن إذا أبيتم إلا الريب, فهاكم دليلين عقليين, تشاهدونهما, كل واحد منهما, يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه, ويزيل عن قلوبكم الريب.
    أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان, وأن الذي ابتدأه, سيعيده فقال فيه: " فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ " وذلك بخلق أبي البشر, آدم عليه السلام.
    " ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ " أي: مني, وهذا أبتداء أول التخليق.
    " ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ " أي: تنقلب تلك النطفة, بإذن الله, دما أحمر.
    " ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ " أي: ينتقل الدم مضغة, أي: قطعة لحم, بقدر ما يمضغ.
    وتلك المضغة تارة تكون " مُخَلَّقَةٍ " أي: مصور منها خلق الآدمي.
    " وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ " تارة, بأن تقذفها الأرحام, قبل تخليقها.
    " لِنُبَيِّنَ لَكُمْ " أصل نشأتكم, مع قدرته تعالى, على تكميل خلقه في لحظة واحدة, ولكن ليبين لنا, كمال حكمته, وعظيم قدرته, وسعة رحمته.
    " وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " , ونقر.
    أي: نبقي في الأرحام من الحمل, الذي لم تقذفه الأرحام, ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى وهو مدة الحمل.
    " ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ " من بطون أمهاتكم " طِفْلًا " لا تعلمون شيئا, وليس لكم قدرة.
    وسخرنا لكم الأمهات, وأجرينا لكم في ثديها, الرزق.
    ثم تنقلون, طورا بعد طور, حتى تبلغوا أشدكم, وهو كمال القوة والعقل.
    " وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى " من قبل أن يبلغ سن الأشد.
    ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر, أي: أخسه وأرذله, وهو: سن الهرم والتخريف, الذي به يزول العقل, ويضمحل, كما زالت باقي القوة, وضعفت.
    " لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " أي: لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا, مما كان يعلمه قبل ذلك, وذلك لضعف عقله.
    فقوة الآدمي محفوفة بضعفين, ضعف الطفولية ونقصها, وضعف الهرم ونقصه.
    كما قال تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ " .
    والدليل الثاني, إحياء الأرض بعد موتها, فقال الله فيه: " وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً " أي: خاشعة مغبرة لا نبات فيها, ولا خضرة.
    " فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ " أي: تحركت بالنبات " وَرَبَتْ " أي: ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها.
    " وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ " أي: صنف من أصناف النبات " بَهِيجٍ " أي: يهيج الناظرين, ويسر المتأملين.
    فهذان الدليلان القاطعان, يدلان على هذه المطالب الخمسة, وهي هذه.

    " ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير " (6)
    " ذَلِكَ " الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم, وأحيا الأرض بعد موتها.
    " بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ " أي الرب المعبود, الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
    وعبادته هي الحق, وعبادة غيره باطلة.
    " وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى " كما ابتدأ الخلق, وكما أحيا الأرض بعد موتها.
    " وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " كما أشهدكم من بديع قدرته, وعظيم صنعته, ما أشهدكم.

    " وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور " (7)
    " وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا " فلا وجه لاستبعادها.
    " وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ " فيجازيكم بأعمالكم حسنها وسيئها.

    " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " (8)
    المجادلة المتقدمة للمقلد, وهذه المجادلة للشيطان المريد, الداعي إلى البدع.
    فأخبر أنه " يُجَادِلُ فِي اللَّهِ " أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق.
    " بِغَيْرِ عِلْمٍ " صحيح " وَلَا هُدًى " أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه, لا عقل مرشد, ولا متبوع مهتد.
    " وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ " أي: واضح بين, فلا له حجة عقلية ولا نقلية.


  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (333)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(9) الى الأية(16)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق " (9)
    إن هي إلا شبهات, يوحيها إليه الشيطان " وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ " مع هذا " ثَانِيَ عِطْفِهِ " أي: لاوي جانبه وعنقه, وهذا كناية عن كبره عن الحق, واحتقاره للخلق.
    فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع.
    واحتقر أهل الحق, وما معهم من الحق.
    " لِيُضِلَّ " الناس أي: ليكون من دعاة الضلال.
    ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال.
    ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: " لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ " أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة.
    وهذا من آيات الله العجيبة, فإنك لا تجد داعيا مى دعاة الكفر والضلال, إلا وله من المقت بين العالمين, واللعنة, والبغض, والذم, ما هو حقيق به, وكل بحسب حاله.
    " وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ " أي نذيقه حرها الشديد, وسعيرها البليغ, وذلك بما قدمت يداه.

    " ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد " (10)
    " ذَلِكَ " ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي.
    وما فيه من معنى البعد (وهو معنى اللام في " ذلك " الموضوعة للدلالة على البعد) للدلالة على كون الكافر في الغاية القصوى من الهول والفظاعة.
    " بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ " أي: بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي.
    " وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " أي: والأمر أنه تعالى ليس بمعذب عبيده بغير ذنب من قبلهم.
    والمعنى الإجمالي: أنه يقال للكافر الموصوف بتلك الأوصاف في الآيتين السابقتين: ذلك الذي تلقاه من خزى وعذاب إنما كان بسبب افترائك وتكبرك لأن الله عادل لا يظلم, ولا يسوي بين المؤمن والكافر, والصالح والفاجر, بل يجازي كلا منهم بعمله.

    " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين "(11)
    أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان, لم يدخل الإيمان قلبه, ولم تخالطه بشاشته.
    بل دخل فيه, إما خوفا, وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن.
    " فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ " أي: إن استمر رزقه رغدا, ولم يحصل له من المكاره شيء, اطمأن بذلك الخير, لا إيمانه.
    فهذا, ربما أن الله يعافيه, ولا يقيض له من الفتن, ما ينصرف به عن دينه.
    " وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ " من حصول مكروه, أو زوال محبوب " انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ " أي: ارتد عن دينه.
    " خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ " أما في الدنيا, فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله, وعوضا عما يظن إدراكه فخاب سعيه, ولم يحصل له, إلا ما قسم له.
    وأما الآخرة, فظاهر, حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض والأرض, واستحق النار.
    " ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " أي: الواضح البين.

    " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد " (12)
    " يَدْعُو " هذا الراجع على وجهه " مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ " .
    وهذا صفة كل مدعو ومعبود, من دون الله, فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره, نفعا ولا ضرا.
    " ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ " الذي بلغ في البعد إلى حد النهاية, حيث أعرض عن عبادة النافع الضار, الغني المغني.

    " يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " (13)
    وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه, ليس بيده من الأمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب.
    ولهذا قال: " يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ " فإن ضرره في العقل والبدن, والدنيا والآخرة, معلوم " لَبِئْسَ الْمَوْلَى " أي هذا العبود " وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ " أي: القرين الملازم على صحبته.
    فإن المقصود من المولى والعشير, حصول النفع, ودفع الضرر.
    فإذا لم يحصل شيء من هذا, فإنه مذموم ملوم.

    " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد " (14)
    لما ذكر تعالى المجادل بالباطل, وأنه على قسمين, مقلد, وداع ذكر أن المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين, قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم.
    والقسم الثاني: المؤمن حقيقة, صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة فأخبر تعالى أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
    وسميت الجنة جنة, لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنباتات التي تجن من فيها, ويستتر بها, من كثرتها.
    " إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " فمهما أراده تعالى, فعله من غير ممانع ولا معارض.
    ومن ذلك, إيصال أهل الجنة إليها, جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.

    " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " (15)
    أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله, وأن دينه سيضمحل, فإن النصر, من الله ينزل من السماء " فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ " النصر عن الرسول.
    " فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ " أي: ما يكيد به الرسول, ويعمله من محاربته, والحرص على إبطال دينه, ما يغيظه من ظهور دينه.
    وهذا استفام بمعنى النفي, أي: إنه لا يقدر على شفاء غيظه, بما يعمله من الأسباب.
    ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم, الساعي في إطفاء دينه, الذي يظن بجهله, أن سعيه سيفيده شيئا.
    إعلم أنك, مهما فعلت من الأسباب, وسعيت في كيد الرسول, فإن ذلك لا يذهب غيظك, ولا يشفي كمدك, فليس لك قدرة في ذلك.
    ولكن سنشير عليك برأي, تتمكن به من شفاء غيظك, ومن قطع النصر عن الرسول, إن كان ممكنا.
    ائت الأمر من بابه, وارتق إليه بأسبابه.
    اعمد إلى حبل من ليف أو غيره, ثم علقه في السماء, ثم اصعد به, حتى تصل إلى الأبواب التي ينزل منها النصر, فسدها, وأغلقها, واقطعها, فبهذه الحال تشفي غيظك.
    فهذا هو الرأي والمكيدة, وما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ولو ساعدك من ساعدك من الخلق.
    وهذه الآية الكريمة, فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه, ولرسوله, وعباده المؤمنين, ما لا يخفى, ومن تأييس الكافرين, الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم, والله متم نوره, ولو كره الكافرون أي: وسعوا مهما أمكنهم.

    " وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد " (16)
    أي: وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما فصلنا, جعلناه آيات بينات, واضحات, دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة, ولكن الهداية بيد الله.
    فمن أراد الله هدايته, اهتدى بهذا القرآن, وجعله إماما له وقدوة, واستضاء بنوره.
    ومن لم يرد الله هدايته, فلو جاءته كل آية, ما آمن, ولم ينفعه القرآن شيئا, بل يكون حجة عليه.


  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (334)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(17) الى الأية(28)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد "(17)
    يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض, من الذين أوتوا الكتاب, من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين, ومن المجوس, ومن المشركين أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل, ويجازيهم بأعمالهم, التي حفظها وكتبها, وشهدها, ولهذا قال: " إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " كل يدعي أنه الحق.
    " فَالَّذِينَ كَفَرُوا " يشمل كل كافر, من اليهود, والنصارى, والمجوس, والصابئين, والمشركين.
    " قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ " أي: يجعل لهم ثياب من قطران, وتشعل فيها النار, ليعمهم العذاب, من جميع جوانبهم.
    " يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ " الماء الحار جدا, يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء, من شدة حره, وعظيم أمره.

    " ولهم مقامع من حديد " (21)
    " وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ " بيد الملائكة الغلاظ الشداد, تضربهم فيها وتقمعهم.
    " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " (22)
    " كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا " فلا يفتر عنهم العذاب, ولا هم ينظرون, ويقال لهم توبيخا: " ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " أي: المحرق للقلوب والأبدان.
    " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " (23)
    " إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " .
    ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين, الذين آمنوا بجميع الكتب, وجميع الرسل.
    " يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ " أي: يسورون في أيديهم, رجالهم ونساؤهم, أساور الذهب.
    " وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ " فتم نعيمهم بذلك, من أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها, لفظ الجنات, وذكر الأنهار السارحات.
    أنهار الماء واللبن والعسل والخمر, وأنواع اللباس, والحلي الفاخر.
    وذلك بسبب أنهم هدوا " إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ " الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص, ثم سائر الأقوال الطيبة, التي فيها, ذكر الله, أو إحسان إلى عبادة الله.
    " وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ " أي: الصراط المحمود.
    وذلك, لأن جميع الشرع كله, محتو على الحكمة والحمد, وحسن المأمور به, وقبح المنهي, وهو الدين الذي, لا إفراط فيه ولا تفريط, المشتمل على العلم النافع, والعمل الصالح.
    أو, وهدوا إلى صراط الله الحميد, لأن الله, كثيرا ما يضيف الصراط إليه, لأنه يوصل صاحبه إلى الله.
    وفي ذكر " الحميد " هنا, ليبين أنهم نالوا الهداية, بحمد ربهم, ومنته عليهم.
    ولهذا يقولون في الجنة " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ " .
    واعترض تعالى بين هذه الآيات, بذكر سجود المخلوقات له, جميع من في السماوات والأرض, والشمس, والقمر, والنجوم, والجبال, والشجر, والدواب, الذي يشمل الحيوانات كلها, وكثير من الناس, وهم المؤمنون.
    " وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ " أي: وجب وكتب, لكفره, وعدم إيمانه, فلم يوفقه للإيمان, لأن الله أهانه.
    " وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ " ولا راد لما أراد, ولا معارض لمشيئته.
    فإذا كانت المخلوقات كلها, ساجدة لربها, خاضعة لعظمته, مستكينة لعزته, عانية لسلطانه, دل على أنه وحده, الرب المعبود, والملك المحمود, وأن من عدل عنه إلى عبادة سواه, فقد ضل ضلالا بعيدا, وخسر خسرانا مبينا.

    " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " (25)
    يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم, وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله, وبن الصد عن سبيل الله, ومنع الناس من الإيمان, والصد أيضا, عن المسجد الحرام, الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم, بل الناس فيه سواء, المقيم فيه, والطارئ إليه.
    بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه, والحال أن المسجد الحرام, من حرمته واحترامه وعظمته, أن من يرد فيه بإلحاد بظلم, نذقه من عذاب أليم.
    فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم, موجب للعذاب, وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم.
    فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم, من الكفر والشرك, والصد عن سبيله ومنع من يريده بزيارة, فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟!! وفي هذه الآية الكريمة, وجوب احترام الحرم, وشدة تعظيمه, والتحذير من إرادة المعاصي فيه, وفعلها.

    " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود " (26)
    يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه وهو خليل الرحمن فقال: " وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ " أي: هيأناه له, وأنزلنا إياه.
    وجعل قسما من ذريته من سكانه, وأمره الله ببنيانه.
    فبناه على تقوى الله, وأسسه على طاعة الله.
    وبناه هو وابنه إسماعيل, وأمره أن لا يشرك به شيئا, بأن يخلص لله أعماله, ويبنيه على اسم الله.
    " وَطَهِّرْ بَيْتِيَ " أي: من الشرك والمعاصي, ومن الأنجاس والأدناس وإضافة الرحمن إلى نفسه, لشرفه, وفضله, ولتعظم محبته في القلوب, وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب, وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه, لكونه بيت الرب للطائفين به والعاكفين عنده, المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر, وقراءة وتعلم علم وتعليمه, وغير ذلك من أنواع القرب.
    " وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ " أي: المصلين, أي: طهره لهؤلاء الفضلاء, الذين همهم, طاعة مولاهم, وخدمته والتقرب إليه عند بيته.
    فهؤلاء, لهم الحق ولهم الإكرام, ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ويدخل في تطهيره, تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين, بالصلاة والطواف.
    وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة, لاختصاصه بهذا البيت.
    ثم الاعتكاف, لاختصاصه بجنس المساجد.

    " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " (27)
    " وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ " أي: أعلمهم به, وادعهم إليه, وبلغ.
    دانيهم وقاصيهم, فرضه وفضيلته.
    فإنك إذا دعوتهم, أتوك حجاجا: وعمارا, رجالا, أي: مشاة على أرجلهم من الشوق.
    " وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ " أي: ناقة ضامر, تقطع المهامه والمفاوز.
    وتواصل السير, حتى تأتي إلى أشرف الأماكن.
    " مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ " أي: من كل بلد بعيد.
    وقد فعل الخليل عليه السلام, ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم.
    فدعيا إلى حج هذا البيت, وأبديا في ذلك وأعادا.
    وقد حصل ما وعد الله به.
    أتاه الناس, رجالا وركبانا من مشارق الأرض, ومغاربها.
    ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام, مرغبا فيه فقال:

    " ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " (28)
    " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ " أي: لينالوا ببيت الله, منافع دينية, من العبادات الفاضلة, والعبادات التي لا تكون إلا فيه.
    ومنافع دنيوية, من التكسب: وحصول الأرباح الدنيوية, وكل هذا أمر مشاهد, كل يعرفه.
    " وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ " وهذا من المنافع الدينية والدنيوية أي: ليذكروا اسم الله, عند ذبح الهدايا, شكرا لله على ما رزقهم منها, ويسرها لهم.
    فإذا ذبحتموها " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ " .
    أي: شديد الفقر.


  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (335)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(29) الى الأية(36)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " (29)
    " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ " أي: يقضوا نسكهم, ويزيلوا الوسخ والأذى, الذي لحقهم في حال الإحرام " وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ " التي أوجبوها على أنفسهم, من الحج, والعمرة والهدايا.
    " وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " أي: القديم, أفضل المساجد على الإطلاق.
    والمعتق: من تسلط الجبابرة عليه.
    وهذا أمر بالطواف, خصوصا بعد الأمر بالمناسك له عموما, لفضله, وشرفه, ولكونه المقصود, وما قبله وسائل إليه.
    ولعله - والله أعلم أيضا - لفائدة أخرى, وهو: أن الطواف مشروع كل وقت, وسواء كان تابعا لنسك, أم مستقلا بنفسه.

    " ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " (30)
    " ذَلِكَ " أي: ما ذكرنا لكم من تلكم الأحكام, وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها, وتكريمها, لأن تعظيم حرمات الله, من الأمور المحبوبة لله, المقربة إليه, التي من عظمها وأجلها, أثابه الله ثوابا جزيلا, وكانت خيرا له, في دينه, ودنياه وأخراه, عند ربه.
    وحرمات الله: كل ما له حرمة, وأمر باحترامه, من عبادة أو غيرها, كالمناسك كلها, وكالحرم والإحرام, وكالهدايا, وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها.
    فتعظيمها يكون إجلالا بالقلب, ومحبتها, وتكميل العبودية فيها, غير متهاون, ولا متكاسل, ولا متثاقل.
    ثم ذكر منته وإحسانه, بما أحله لعباده, من بهيمة الأنعام, من إبل وبقر, وغنم, وشرعها من جملة المناسك, التي يتقرب بها إليه, فعظمت منته فيها من الوجهين.
    " إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " في القرآن تحريمه من قوله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ " الآية.
    ولكن الذي من رحمته بعباده, أن حرمه عليهم, ومنعهم منه, تزكية لهم, وتطهيرا من الشرك به, وقول الزور, ولهذا قال: " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ " أي الخبث القذر " مِنَ الْأَوْثَانِ " أي الأنداد, التي جعلتموها آلهة مع الله, فإنها أكبر أنواع الرجس.
    والظاهر أن " من " هنا ليست لبيان الجنس, كما قاله كثير من المفسرين, وإنما هي للتبعيض, وأن الرجس عام في جميع المنهيات المحرمات.
    فيكون منهيا عنها عموما, وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا.
    " وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " أي: جميع الأقوال المحرمات, فإنها من قول الزور.

    " حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " (31)
    أمرهم أن يكونوا " حُنَفَاءَ لِلَّهِ " مقبلين عليه, وعلى عبادته, معرضين عما سواه.
    " غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ " فمثله " فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ " أي: سقط منها " فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ " بسرعة " أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " أي: بعيد, كذلك المشركون.
    فالإيمان بمنزلة السماء, محفوظة مرفوعة.
    ومن ترك الإيمان, بمنزلة الساقط من السماء, عرضة للآفات والبليات.
    فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء, كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته الشياطين من كل جانب, ومزقوه, وأذهبوا عليه دينه ودنياه.
    وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلو به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع أعضاؤه في مكان بعيد جدا.

    " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " (32)
    أي: ذلك الذي ذكرناه لكم, من تعظيم حرماته وشعائره.
    والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة, ومنها المناسك كلها, كما قال تعالى " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " ومنها الهدايا والقربان للبيت.
    وتقدم أن معنى تعظيمها, إجلالها, والقيام بها, وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد.
    ومنها الهدايا, فتعظيمها, باستحسانها واستسمانها, وأن تكون مكملة من كل وجه.
    فتعظيم شعائر الله, صادر من تقوى القلوب.
    فالمعظم لها, يبرهن على تقواه, وصحة إيمانه, لأن تعظيمها, تابع لتعظيم الله وإجلاله.

    " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق " (33)
    " لَكُمْ فِيهَا " أي: في الهدايا " مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " هذا في الهدايا المسوقة, من البدن ونحوها, ينتفع بها أربابها, بالركوب, والحلب ونحو ذلك, مما لا يضرها " إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " مقدر, موقت وهو ذبحها, إذا وصلت " مَحِلُّهَا " وهو " الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " أي المحرم كله " منى " وغيرها.
    فإذا ذبحت, أكلوا منها, وأهدوا, وأطعموا البائس الفقير.

    " ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " (34)
    أي: ولكل أمة من الأمم السالفة, جعلنا منسكا.
    أي: فاستبقوا إلى الخيرات وسارعوا إليها, ولننظر أيكم أحسن عملا.
    والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا, إقامة ذكره, والالتفات لشكره.
    ولهذا قال: " لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " .
    وإن اختلفت أجناس الشرائع, فكلها متفقة على هذا الأصل, وهو: ألوهية الله, وإفراده بالعبودية, وترك الشرك به.
    ولهذا قال: " فَلَهُ أَسْلِمُوا " أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره, فإن الإسلام, طريق الوصول إلى دار السلام.
    " وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ " بخير الدنيا والآخرة.
    والمخبت: الخاضع لربه, المستسلم لأمره, المتواضع لعباده.

    " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " (35)
    ثم ذكر صفات المخبتين فقال: " الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ " أي: خوفا وتعظيما, فتركوا لذلك, المحرمات, لخوفهم ووجلهم من الله وحده.
    " وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ " من البأساء والضراء, وأنواع الأذى فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك, بل صبروا ابتغاء وجه ربهم, محتسبين ثوابه, مرتقبين أجره.
    " وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ " أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة, بأن أدوا اللازم فيها والمستحب, وعبوديتها الظاهرة والباطنة.
    " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة, كالزكاة, والكفارة, والنفقة على الزوجات والمماليك, والأقارب.
    والنفقات المستحبة, كالصدقات بجميع وجوهها.
    وأتي ب " من " المفيدة للتبعيض, ليعلم سهولة ما أمر الله به, ورغب فيه, وأنه جزء يسير مما رزق الله, ليس للعبد في تحصيله قدرة, لولا تيسير الله له, ورزقه إياه.
    فيا أيها المرزوق من فضل الله, أنفق مما رزقك الله, ينفق الله عليك, ويزدك من فضله.

    " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون " (36)
    هذا دليل على أن الشعائر عام, في جميع أعلام الدين الظاهرة.
    وتقدم أن الله أخبر أن من عظم شعائره, فإن ذلك من تقوى القلوب وهنا أخبر, أن من جملة شعائره, البدن, أي: الإبل, والبقر, على أحد القولين, فتعظم وتسمن, وتستحسن.
    " لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ " أي: للمهدي وغيره, من الأكل, والصدقة, والانتفاع, والثواب, والأجر.
    " فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا " أي: عند ذبحها قولوا " بسم الله " واذبحوها.
    " صَوَافَّ " أي: قائمات, بأن تقام على قوائمها الأربع, ثم تعقل يدها اليسرى, ثم تنحر.
    " فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا " أي: سقطت على الأرض جنوبها, حين تسلخ, ثم يسقط الجزار جنوبها على الأرض, فحينئذ قد استعدت, لأن يؤكل منها.
    " فَكُلُوا مِنْهَا " وهذا خطاب للمهدي, فيجوز له الأمر من هديه.
    " وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ " أي: الفقير الذي لا يسأل, تقنعا, وتعففا, والفقير الذي يسأل, فكل منهما, له حق فيهما.
    " كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ " أي: البدن " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " الله على تسخيرها.
    فإنه, لولا تسخيره لها, لم يكن لكم بها طاقة, ولكنه ذللها لكم, وسخرها, رحمة بكم وإحسانا إليكم, فاحمدوه.


  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (336)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(37) الى الأية(46)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين " (37)
    وقوله " لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا " أي: ليس المقصود منها, ذبحها فقط.
    ولا ينال الله من لحومها, ولا دمائها شيء, لكونه الغني الحميد.
    وإنما يناله الإخلاص فيها, والاحتساب, والنية الصالحة, ولهذا قال: " وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ " .
    ففي هذا, حث وترغيب على الإخلاص في النحر, أن يكون القصد وجه الله وحده, لا فخرا, ولا رياء, ولا سمعة, ولا مجرد عادة.
    وهكذا سائر العبادات, إن لم يقترن بها الإخلاص, وتقوى الله, كانت كالقشر الذي لا لب فيه, والجسد, الذي لا روح فيه.
    " كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ " أي: تعظموه وتجلوه.
    " عَلَى مَا هَدَاكُمْ " أي: مقابلة لهدايته إياكم, فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد, وأعلى التعظيم.
    " وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ " بعبادة الله بأن يعبدوا الله, كأنهم يرونه, فإن لم يصلوا إلى هذه الدرجة, فليعبدوه, معتقدين وقت عبادتهم, اطلاعه عليهم, ورؤيته إياهم.
    والمحسنين لعباد الله, بجميع وجوه الإحسان, من نفع مال, أو علم, أو جاه, أو نصح, أو أمر بمعروف, أو نهي عن منكر, أو كلمة طيبة ونحو ذلك.
    فالمحسنون, لهم البشارة من الله, بسعادة الدنيا والآخرة وسيحسن الله إليهم, كما أحسنوا في عبادته ولعباده " هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ " " لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ " .

    " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " (38)
    هذا إخبار, ووعد, وبشارة من الله, للذين آمنوا, أن الله يدفع عنهم كل مكروه.
    ويدفع عنهم - بسبب إيمانهم - كل شر من شرور الكفار, وشرور وسوسة الشيطان, وشرور أنفسهم, وسيئات أعمالهم ويحمل عنهم عند نزول المكاره, ما لا يتحملون, فيخفف عنهم غاية التخفيف.
    كل مؤمن, له من هذه المدافعة والفضيلة, بحسب إيمانه, فمستقل, ومستكثر.
    " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ " أي: خائن في أمانته, التي حمله الله إياها, فيبخس حقوق الله عليه, ويخونها, ويخون الخلق.
    " كَفُورٌ " لنعم الله, يوالي الله عليه الإحسان, ويتوالى منه الكفر والعصيان.
    فهذا لا يحبه الله, بل يبغضه ويمقته, وسيجازيه على كفره وخيانته.
    ومفهوم الآية, أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته, شكور لمولاه.

    " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " (39)
    كان المسلمون في أول الإسلام, ممنوعين من قتال الكفار, ومأمورين بالصبر عليهم, لحكمة إلهية.
    فلما هاجروا إلى المدينة, وأوذوا, وحصل لهم منعة وقوة, أذن لهم بالقتال, كما قال تعالى " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ " يفهم منه أنهم كانوا قبل, ممنوعين, فأذن الله لهم بقتال الذين يقاتلونهم.
    وإنما أذن لهم, لأنهم ظلموا, بمنعهم من دينهم, وأذيتهم عليه, وإخراجهم من ديارهم.
    " وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ " فليستنصروه, وليستعينوا به.

    " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " (40)
    ثم ذكر صفة ظلمهم فقال: " الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ " أي: ألجئوا إلى الخروج, بالأذية والفتنة " بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا " أن ذنبهم الذي نقم منهم أعداؤهم " أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ " أي: إلا لأنهم وحدوا الله, وعبدوه مخلصين له الدين.
    فإن كان هذا ذنبا, فهو ذنبهم كقوله تعالى " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ " وهذا يدل على حكمة الجهاد, فإن المقصود منه, إقامة دين الله, أو ذب الكفار المؤذين للمؤمنين, البادئين لهم بالاعتداء, عن ظلمهم, واعتدائهم, والتمكن من عبادة الله, وإقامة الشرائع الظاهرة.
    ولهذا قال: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ " فيدفع الله بالمجاهدين في سبيله, ضرر الكافرين.
    " لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ " أي: لهدمت هذه المعابد الكبار, لطوائف أهل الكتاب, معابد اليهود, والنصارى, والمساجد للمسلمين " يُذْكَرَ فِيهَا " أي: في هذه المعابد " اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا " تقام فيها الصلوات, وتتلى فيها كتب الله, ويذكر فيها, اسم الله, بأنواع الذكر.
    فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض, لاستولى الكفار على المسلمين, فخربوا معابدهم, وفتنوهم عن دينهم.
    فدل هذا, أن الجهاد مشروع, لأجل دفع الصائل والمؤذي, ومقصود لغيره.
    ودل ذلك, على أن البلدان, التي حصلت فيها الطمأنينة بعبادة الله, وعمرت مساجدها, وأقيمت فيها شعائر الدين كلها, من فضائل المجاهدين وبركتهم, فبذلك دفع الله عنها الكافرين قال الله تعالى: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ " .
    فإن قلت نرى الآن مساجد المسلمين عامرة لم تخرب, مع أنها كثير منها إمارة صغيرة, وحكومة غير منظمة, مع أنهم لا بد لهم بقتال من جاورهم من الأفرنج.
    بل نرى المساجد التي تحت ولايتهم وسيطرتهم, عامرة, وأهلها آمنون مطمئنون, مع قدرة ولاتهم من الكفار على هدمها والله أخبر أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض, لهدمت هذه المعابد, ونحن لا نشاهد دفعا.
    أجيب, بأن جواب هذا السؤال والاستشكال, داخل في عموم هذه الآية, وفرد من أفرادها.
    فإن من عرف أحوال الدول الآن ونظامها, وأنها تعتبر كل أمة وجنس, تحت ولايتها, وداخل في حكمها, تعتبره عضوا من أعضاء المملكة, وجزءا من أجزاء الحكومة, سواء كانت تك الأمة مقتدرة بعددها أو عددها, أو مالها, أو علمها, أو خدمتها.
    فتراعي الحكومات, مصالح ذلك الشعب, الدينية والدينوية, وتخشى إن لم تفعل ذلك, أن يختل نظامها, وتفقد بعض أركانها, فيقوم من أمر الدين بهذا السبب ما يقوم, خصوصا المساجد, فإنها - ولله الحمد - في غاية الانتظام, حتى في عواصم الدول الكبار.
    وتراعي تلك الدول, الحكومات المستقلة, نظرا لخواطر رعاياهم المسلمين مع وجود التحاسد والتباغض بين دول النصارى, الذي أخبر الله أنه لا يزال إلى يوم القيامة.
    فتبقى الحكومة المسلمة, التي لا تقدر على أن تداع عن نفسها, سالمة من كثير ضررهم, لقيام الحسد عندهم, وفيما بينهم.
    فلا يقدر أحد, أن يمد يده عليها, خوفا من احتمائها بالآخر مع أن الله تعالى, لا بد أن يري عباده من نصر الإسلام والمسلمين, ما قد وعد به في كتابه.
    وقد ظهرت ولله الحمد, أسبابه, بشعور المسلمين بضرورة رجوعهم إلى دينهم, والشعور مبدأ العمل فنحمده, ونسأله أن يتم نعمته.
    ولهذا قال في وعده الصادق المطابق للواقع: " وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ " .
    أي: يقوم بنصر دينه, مخلصا له في ذلك, يقاتل في سبيله, لتكون كلمة الله هي العليا.
    " إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " أي: كامل القوة, عزيز لا يرام, قد قهر الخلائق, وأخذ بنواصيهم.
    فأبشروا, يا معشر المسلمين, فإنكم, وإن ضعف عددكم, وعددكم.
    وقوي عدد عدوكم, فإن ركنكم, القوي العزيز, ومعتمدكم على من خلقكم وخلق ما تعملون.
    فاعملوا بالأسباب المأمور بها, ثم اطلبوا منه نصركم, فلا بد أن ينصركم.
    " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " وقوموا, أيها المسلون, بحق الإيمان والعمل الصالح فقد " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " .

    " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور " (41)
    ثم ذكر علامة من ينصره, وبها يعرف, أن من ادعى أنه ينصر الله, وينصر دينه, ولم يتصف بهذا الوصف, فهو كاذب فقال: " الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ " أي ملكناهم إياها, وجعلناهم المتسلطين عليها, من غير منازع ينازعهم, ولا معارض.
    " أَقَامُوا الصَّلَاةَ " في أوقاتها, وحددوها, وأركانها, وشروطها, في الجمعة والجماعات.
    " وَآتُوا الزَّكَاةَ " التي عليهم, خصوصا, وعلى رعيتهم عموما, آتوها أهلها, الذين هم أهلها.
    " وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ " وهذا يشمل معروف حسنه شرعا وعقلا, من حقوق الله, وحقوق الآدميين.
    " وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ " كل منكر شرعا وعقلا, معروف قبحه.
    والأمر بالشيء والنهي عنه, يدخل فيه, ما لا يتم إلا به.
    فإذا كان المعروف والمنكر, يتوقف على تعلم وتعليم, أجبروا الناس على التعلم والتعليم.
    وإذا كان يتوقف, على تأديب مقدر شرعا, أو غير مقدر, كأنواع التعزير, قاموا بذلك.
    وإذا كان يتوقف على جعل أناس, متصدين له, لزم ذلك, ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, إلا به.
    " وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ " أي: جميع الأمور, ترجع إلى الله, وقد أخبر أن العاقبة للتقوى.
    فمن سلطه أي: على العباد, من الملوك, وقام بأمر الله, كانت له العاقبة الحميدة, والحالة الرشيدة.
    ومن تسلط عليهم, بالجبروت, وأقام فيهم هوى نفسه, فإنه, وإن حصل له ملك مؤقت, فإن عاقبته غير حميدة, فولايته مسئومة, وعاقبته مذمومة.

    " وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود " (42)
    يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن يكذبك هؤلاء المشركون فلست بأول رسول كذب, وليسوا بأول أمة, كذبت رسولها.
    " فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ " أي قوم شعيب.
    " وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ " المكذبين, فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أمهلتهم, حتى استمروا في طغيانهم يعمهون, وفي كفرهم وشرهم يزدادون.
    " ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ " بالعذاب أخذ عزيز مقتدر " فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ " .
    أي: إنكاري عليهم كفرهم, وتكذيبهم كيف حاله, كان أشد العقوبات, وأفظع المثلات.
    فمنهم من أغرقه, ومنهم من أخذته الصيحة, ومنهم من أهلك بالريح العقيم.
    ومنهم من خسف به الأرض, ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة.
    فليعتبر بهم, هؤلاء المكذبون, أن يصيبهم ما أصابهم, فإنهم ليسوا خيرا منهم, ولا كتب لهم.
    وبراءة في الكتب المنزلة من الله.
    وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير, ولهذا قال:

    " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد " (45)
    " فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ " أي: وكم من قرية " أَهْلَكْنَاهَا " بالعذاب الشديد, والخزي الدنيوي.
    " وَهِيَ ظَالِمَةٌ " بكفرها بالله وتكذيبها لرسله, لم يكن عقوبتنا لها, ظلما منا.
    " فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا " أي: فديارهم متهدمة, قصورها, وجدرانها, قد سقطت على عروشها.
    فأصبحت خرابا, بعد أن كانت عامرة, وموحشة بعد أن كانت آهلة بأهلها آنسة.
    " وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " أي: وكم من بئر, قد كان يزدحم عليها الخلق, لشربهم, وشرب مواشيهم.
    فقد أهلها, وعدم منها الوارد والصادر.
    وكم من قصر, تعب عليه أهله, فشيدوه, ورفعوه, وحصنوه, وزخرفوه.
    فحين جاءهم أمر الله, لم يغن عنهم شيئا, وأصبح خاليا من أهله, قد صاروا عبرة لمن اعتبر, ومثالا لمن فكر ونظر.

    " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " (46)
    ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض, لينظروا, ويعتبروا فقال: " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ " بأبدانهم وقلوبهم " فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا " آيات الله ويتأملون بها مواقع عبره.
    " أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا " أخبار الأمم الماضين, وأنباء القرون المعذبين وإلا فمجرد نظر العين, وسماع الأذن, وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار, غير مفيد, ولا موصل إلى المطلوب.
    ولهذا قال: " فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " .
    أي: هذا العمى الضار في الدين, عمى القلب عن الحق, حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات, وأما عمى البصر, فغايته بلغة, ومنفعة دنيوية.


  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (337)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(47) الى الأية(56)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " (47)
    أي: يتعجلك هؤلاء المكذبون بالعذاب, لجهلهم, وظلمهم, وعنادهم وتعجيزا لله, وتكذيبا لرسله, ولن يخلف الله وعده.
    فما وعدهم به من العذاب, لابد من وقوعه, ولا يمنعهم منه مانع.
    وأما عجلته, والمبادرة فيه, فليس ذلك إليك يا محمد, ولا يستفزنك عجلتهم وتعجيزهم إيانا.
    فإن أمامهم, يوم القيامة, الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم, ويجازون بأعمالهم, ويقع بهم العذاب الدائم الأليم, ولهذا قال: " وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ " من طوله, وشدته, وهو له.
    فسواء أصابهم عذاب في الدنيا, أم تأخر عنهم العذاب, فإن هذا اليوم, لا بد أن يدركهم.
    ويحتمل أن المراد: أن الله حليم, ولو استعجلوا العذاب, فإن يوما عنده, كألف سنة مما تعدون.
    فالمدة, وإن تطاولتموها, واستبطأتم فيها نزول العذاب, فإن الله يمهل المدد الطويلة, ولا يهمل, حتى إذا أخذ الظالمين بعذابه, لم يفلتهم.

    " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير " (48)
    " وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا " أي: أمهلتها مدة طويلة " وَهِيَ ظَالِمَةٌ " أي: مع ظلمهم, فلم يكن مبادرتهم بالظلم, موجبا لمبادرتنا بالعقوبة.
    " ثُمَّ أَخَذْتُهَا " بالعذاب " وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ " أي: مع عذابها في الدنيا, سترجع إلى الله, فيعذبها بذنوبها.
    فليحذر هؤلاء الظالمون, من حلول عقاب الله, ولا يغتروا بالإمهال.

    " قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين " (49)
    يأمر تعالى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يخاطب الناس جميعا, بأنه رسول الله حقا, مبشرا للمؤمنين بثواب الله, منذرا للكافرين والظالمين, من عقابه.
    وقوله " مُبِينٌ " أي: بين الإنذار, وهو التخويف, مع الإعلام بالمخوف.
    وذلك لأنه أقام البراهين الساطعة, على صدق ما أنذرهم به.
    ثم ذكر تفصيل النذارة والبشارة فقال:

    " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم " (50)
    " فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " لما حصل منهم من الذنوب.
    " وَرِزْقٌ كَرِيمٌ " هي الجنة.
    والكريم من كل نوع: ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته.
    وحاصل معنى الآية.
    فالذين آمنوا بالله ورسوله واستقر ذلك الإيمان.
    بقلوبهم حتى أصبح إيمانا صادقا وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرة من الله لذنوبهم التي وقعوا فيها, كما أن لهم رزقا كريما في الجنة, جمع هذا الرزق جميع الفضائل والكمالات.

    " والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم " (51)
    " وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ " أي: سابقين أو سابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم " أُولَئِكَ " الموصوفون بما ذكر من السعي والمعاجزة " أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " أي: ملازمون للنار الموقدة المصاحبون لها في كل أوقاتهم, فلا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم لحظة من أليم عقابها.
    وحاصل المعنى.
    والذين أجهدوا أنفسهم في محاربة القرآن, مسابقين المؤمنين في زعمهم, معارضين لهم, شاقين, زاعمين - خطأ - أنهم بذلك يبلغون ما يريدون, أولئك يخلدون في عذاب الجحيم.

    " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " (52)
    يخبر تعالى بحكمته البالغة, واختياره لعباده, وأن الله ما أرسل قبل محمد " مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى " أي: قرأ قراءته, التي يذكر بها الناس, ويأمرهم وينهاهم.
    " أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ " أي: في قراءته, من طرقه, ومكايده, ما هو مناقض لتلك القراءة.
    مع أن الله تعالى, قد عصم الرسل, بما يبلغون عن الله, وحفظ وحيه, أن يشتبه, أو يختلط بغيره.
    ولكن هذا إلقاء من الشيطان, غير مستقر, ولا مستمر, وإنما هو عارض, يعرض, ثم يزول, وللعوارض أحكام, ولهذا قال: " فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ " أي: يزيله ويذهبه, ويبطله, ويبين أنه ليس من آياته.
    " ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ " أي: يتقنها, ويحررها, ويحفظها, فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان.
    " وَاللَّهُ عَزِيزٌ " أي: كامل القوة والاقتدار.
    فبكمال قوته, يحفظ وحيه, ويزيل ما تلقيه الشياطين.
    " حَكِيمٌ " يضع الأشياء مواضعها.
    فمن كمال حكمته, مكن الشياطين من الإلقاء المذكور, ليحصل ما ذكره بقوله:

    " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " (53)
    " لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً " لطائفتين من الناس, لا يبالي الله بهم.
    " لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ " أي: ضعف وعدم إيمان تام, وتصديق جازم, فيؤثر في قلوبهم, أدنى شبهة تطرأ عليها, فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان, داخلهم الريب والشك, فصار فتنة لهم.
    " وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ " أي: الغليظة, التي لا يؤثر فيها زجر ولا تذكير, ولا تفهم عن الله وعن رسوله لقسوتها.
    فإذا سمعوا ما ألقاه الشيطان, جعلوه حجة لهم على باطلهم, وجادلوا به وشاقوا الله ورسوله, ولهذا قال: " وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ " أي: مشاقة لله, ومعاندة للحق, ومخالفة له, بعيد من الصواب.
    فما يلقيه الشيطان, يكون فتنة لهؤلاء الطائفتين, فيظهر به ما في قلوبهم, من الخبث الكامن فيها.
    وأما الطائفة الثالثة, فإنه يكون رحمة في حقها, وهم المذكورون بقوله

    " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " (54)
    " وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ " وأن الله منحهم من العلم, ما به يعرفون الحق من الباطل, والرشد من الغي.
    فيفرقون بين الأمرين, الحق المستقر, الذي يحكمه الله, والباطل العارض الذي ينسخه الله, بما على كل منهما من الشواهد, وليعلموا أن الله حكيم, يقيض بعض أنواع الابتلاء, ليظهر بذلك كمائن النفوس الخيرة والشريرة.
    " فَيُؤْمِنُوا بِهِ " بسبب ذلك, ويزداد إيمانهم, عند دفع المعارض والشبهة.
    " فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ " أي: تخشع وتخضع, وتسلم لحكمته, وهذا من هدايته إياهم.
    " وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا " بسبب إيمانهم " إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " علم بالحق, وعمل بمقتضاه, فيثبت الله الذين آمنوا, بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
    وهذا النوع, من تثبيت الله لعبده.
    وهذه الآيات, فيها بيان أن للرسول صلى الله عليه وسلم, أسوة بإخوانه المرسلين, لما وقع منه عند قراءته صلى الله عليه وسلم " والنجم " فلما بلغ " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى " ألقى الشيطان في قراءته " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى " فحصل بذلك للرسول حزن وللناس فتنة, كما ذكر الله, فأنزل الله هذه الآيات.

    " ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " (55)
    يخبر تعالى عن حالة الكفار, وأنهم لا يزالون في شك, مما جئتهم به, يا محمد, لعنادهم, وإعراضهم, وأنهم لا يبرحون مستمرين على هذه الحال " حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً " أي: مفاجأة " أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ " أي: لا خير فيه, وهو يوم القيامة.
    فإذا جاءتهم الساعة, أو أتاهم ذلك اليوم, علم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين, وندموا, حيث لا ينفعهم الندم, وأبلسوا, وأيسوا من كل خير, وودوا, لو آمنوا بالرسول, واتخذوا معه سبيلا.
    ففي هذا, تحذير من إقامتهم على مريتهم وفريتهم.

    " الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم " (56)
    " الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ " أي: يوم القيامة " لِلَّهِ " تعالى, لا لغيره.
    " يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ " بحكمه العدل, وقضائه الفصل.
    " فَالَّذِينَ آمَنُوا " بالله ورسوله, وما جاءوا به " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " ليصدقوا بذلك إيمانهم " فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ " نعيم القلب, والروح, والبدن, مما لا يصفه الواصفون, ولا تدركه العقول.


  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (338)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(57) الى الأية(66)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج




    " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين " (57)
    " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " بالله ورسله " وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا " الهادية للحق والصواب فأعرضوا عنها, أو عاندوها.
    " فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ " لهم, من شدته, وألمه, وبلوغه للأفئدة كما استهانوا برسله وآياته, أهانهم الله بالعذاب.

    " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين " (58)
    هذه بشارة كبرى, لمن هاجر في سبيل الله.
    فخرج من داره, ووطنه, وأولاده, وماله ابتغاء وجه الله, ونصرة لدين الله.
    فهذا قد وجب أجره على الله, سواء مات على فراشه, أو قتل مجاهدا في سبيل الله.
    " لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا " في البرزخ, وفي يوم القيامة بدخول الجنة الجامعة, للروح والريحان, والحسن والإحسان, ونعيم القلب والبدن.
    أو يحتمل أن المراد: أن المهاجر في سبيل الله, قد تكفل الله برزقه في الدنيا, رزقا واسعا حسنا, سواء علم الله منه أنه يموت على فراشه, أو يقتل شهيدا, فكلهم مضمون له الرزق.
    فلا يتوهم أنه إذا خرج من دياره وأمواله, سيفتقر ويحتاج, فإن رازقه هو خير الرازقين.
    وقد وقع كما أخبر, فإن المهاجرين السابقين, تركوا ديارهم, وأبناءهم وأموالهم, نصرة لدين الله.
    فلم يلبثوا إلا يسيرا, حتى فتح الله عليهم البلاد, ومكنهم من العباد فاجتبوا من أموالها, ما كانوا به من أغنى الناس.
    ويكون على هذا القول, قوله

    " ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم "(59)
    " لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ " .
    إما ما يفتح الله عليهم من البلدان, خصوصا فتح مكة المشرفة, فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور.
    وإما المراد به, رزق الآخرة, وأن ذلك, دخول الجنة.
    فتكون الآية جمعت بين الرزقين, رزق الدنيا, ورزق الآخرة, واللفظ صالح لذلك كله, والمعنى صحيح, فلا مانع من إرادة الجميع.
    " وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ " بالأمور, ظاهرها, وباطنها, متقدمها, ومتأخرها.
    " حَلِيمٌ " يعصيه الخلائق, ويبارزونه بالعظائم, وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره, بل يواصل لهم رزقه, ويسدي إليهم, فضله

    " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور " (60)
    ذلك بأن من جني عليه وظلم, فإنه يجوز له مقابلة الجاني بمثل جنايته.
    فإن فعل ذلك.
    فليس عليه سبيل, وليس بملوم.
    فإن بغي عليه بعد هذا, فإن الله ينصره, لأنه مظلوم فلا يجوز أن يبغي عليه, بسبب أنه استوفى حقه.
    وإذا كان المجازي غيره, بإساءته إذا ظلم بعد ذلك, نصره الله.
    فالذي بالأصل لم يعاقب أحدا إذا ظلم, وجني عليه, فالنصر إليه أقرب.
    " إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ " أي: يعفو عن المذنبين, فلا يعاجلهم بالعقوبة, ويغفر ذنوبهم, فيزيلها, ويزيل آثارها عنهم.
    فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي, ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو, والمغفرة.
    فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم, أن تعفوا, وتصفحوا, وتغفروا ليعاملكم الله, كما تعاملون عباده " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " .

    " ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير " (61)
    ذلك الذي شرع لكم تلك الأحكام الحسنة العادلة, هو حسن التصرف, في تقديره, وتدبيره, الذي " يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ " أي: يدخل هذا على هذا, وهذا على هذا.
    فيأتي بالليل بعد النهار, وبالنهار بعد الليل, ويزيد في أحدهما, ما ينقصه من الآخر, ثم بالعكس.
    فيترتب على ذلك, قيام الفصول, ومصالح الليل والنهار, والشمس والقمر, التي هي من أجل نعمه على العباد, وهي من الضروريات لهم.
    " وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ " يسمع ضجيج الأصوات, باختلاف, اللغات, على تفنن الحاجات.
    " بَصِيرٌ " يرى دبيب النملة السوداء, تحت الصخرة الصماء, في الليلة الظلماء " سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ " .

    " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " (62)
    " ذَلِكَ " صاحب الحكم والأحكام, " بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ " أي: الثابت, الذي لا يزال ولا يزول, الأول, الذي ليس قبله شيء, الآخر, الذي ليس بعده شيء, كامل الأسماء والصفات, صادق الوعد, الذي وعده حق ولقاؤه حق, ودينه حق, وعبادته هي الحق النافعة الباقية على الدوام.
    " وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ " من الأصنام والأنداد, من الحيوانات والجمادات.
    " هُوَ الْبَاطِلُ " الذي, هو باطل في نفسه, وعبادته باطلة, لأنها متعلقة بمضمحل فان, فتبطل تبعا لغايتها ومقصودها.
    " وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " العلي في ذاته, فهو عال على جميع المخلوقات وفي قدره, فهو كامل الصفات, وفي قهره لجميع المخلوقات, الكبير في ذاته, وفي أسمائه, وفي صفاته, الذي من عظمته وكبريائه, أن الأرض قبضته يوم القيامة, والسماوات مطويات بيمينه.
    ومن كبريائه, أن كرسيه, وسع السماوات والأرض.
    ومن عظمته وكبريائه, أن نواصي العباد بيده.
    فلا يتصرفون إلا بمشيئته, ولا يتحركون ويسكنون, إلا بإرادته.
    وحقيقة الكبرياء, التي لا يعلمها إلا هو, لا ملك مقرب, ولا نبي مرسل, أنها كل صفة كمال وجلال, وكبرياء, وعظمة, فهي ثابتة له, وله من تلك الصفة, أجلها وأكملها.
    ومن كبريائه, أن العبادات كلها, الصادرة من أهل السماوات والأرض, كلها المقصود منها, تكبيره وتعظيمه, وإجلاله وإكرامه.
    ولهذا كان التكبير, شعارا للعبادات الكبار, كالصلاة وغيرها.

    " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير " (63)
    هذا, حث منه تعالى, وترغيب في النظر بآياته الدالة على وحدانيته, وكماله, فقال: " أَلَمْ تَرَ " أي: ألم تشاهد ببصرك وبصيرتك " أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " وهو: المطر, فينزل على أرض خاشعة مجدبة, قد أغبرت أرجاؤها, ويبس ما فيها, من شجر, ونبات.
    " فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً " قد اكتست من كل زوج كريم, وصار لها بذلك, منظر بهيج.
    إن الذي أحياها بعد موتها وهمودها, لمحيي الموتى بعد أن كانوا رميما.
    " إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ " اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء, وخفيايتها, وسرائرها.
    الذي يسوق إلى عباده الخير, ويدفع عنهم الشر, بطرق لطيفة تخفى على العباد.
    ومن لطفه, أنه يري عبده, عزته في انتقامه وكمال اقتداره, ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك.
    ومن لطفه, أنه يعلم مواقع القطر من الأرض, وبذور الأرض في بواطنها.
    فيسوق ذلك الماء, إلى ذلك البذر, الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات.
    " خَبِيرٌ " بسرائر الأمور, وخبايا الصدور, وخفايا الأمور.

    " له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد " (64)
    " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " خلقا وعبيدا, يتصرف فيهم بملكه وحكمته, وكمال اقتداره, أي لأحد غيره من الأمر شيء.
    " وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ " بذاته الذي له الغنى المطلق التام, من جميع الوجوه.
    ومن غناه, أنه لا يحتاج إلى أحد من خلقه, ولا يواليهم من ذلة, ولا يتكثر بهم من قلة.
    ومن غناه, أنه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا.
    ومن غناه, أنه صمد, لا يأكل ولا يشرب, ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلق, بوجه من الوجوه, فهو يطعم ولا يطعم.
    ومن غناه, أن الخلق كلهم, مفتقرون إليه, في إيجادهم, وإعدادهم, وإمدادهم, وفي دينهم ودنياهم.
    ومن غناه, أنه لو اجتمع من في السماوات ومن في الأرض, الأحياء منهم والأموات, في صعيد واحد, فسأل كل منهم ما بلغت أمنيته, فأعطاهم فوق أمانيهم, ما نقص ذلك من ملكه شيئا.
    ومن غناه أن يده سحاء بالخير والبركات, الليل والنهار, لم يزل إفضاله على الأنفاس.
    ومن غناه وكرمه, ما أودعه في دار كرامته, مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
    " الْحَمِيدِ " أي: المحمود في ذاته, وفي أسمائه, لكونها حسنى.
    وفي صفاته, لكونها كلها صفات كمال.
    وفي أفعاله, لكونها حمل دائرة بين العدل والإحسان, والرحمة, والحكمة وفي شرعه, لكونه لا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة, أو راجحة, ولا ينهى إلا عما فيه, مفسدة خالصة أو راجحة, الذي له الحمد, الذي يملأ ما في السماوات والأرض, وما بينهما, وما شاء بعدهما, الذي لا يحصى العباد ثناء على حمده, بل هو كما أثنى على نفسه, وفوق ما يثني عليه عباده, وهو المحمود على توفيق من يوفقه, وخذلان من يخذله, وهو الغني في حمده, الحميد في غناه.

    " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم "(65)
    أي: ألم تشاهد ببصرك وقلبك, نعمة ربك السابغة, وأياديه الواسعة.
    " أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ " من حيوانات, ونبات, وجمادات.
    فجميع ما في الأرض, مسخر لبني آدم, حيواناتها, لركوبه, وحمله, وأعماله, وأكله, وأنواع انتفاعه, وأشجارها, وثمارها, يقتاتها.
    وقد سلط على غرسها واستغلالها, ومعادنها, يستخرجها, وينتفع بها.
    " وَالْفُلْكِ " أي: وسخر لكم الفلك, وهي السفن " تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ " تحملكم, وتحمل تجاراتكم, وتوصلكم من محل إلى محل.
    وتستخرجون من البحر, حلية تلبسونها.
    ومن رحمته بكم أنه يمسك " السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ " فلولا رحمته وقدرته, لسقطت السماء على الأرض, فتلف ما عليها, وهلك من فيها " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا " .
    " إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ " أرحم بهم من والديهم, ومن أنفسهم.
    ولهذا يريد لهم الخير, ويريدون لها الشر والضر.
    ومن رحمته, أن سخر لهم, ما سخر من هذه الأشياء.

    " وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور " (66)
    " وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ " وأوجدكم من العدم " ثُمَّ يُمِيتُكُمْ " بعد أن أحياكم.
    " ثُمَّ يُحْيِيكُمْ " بعد موتكم, ليجازي المحسن بإحسانه, والمسيء بإساءته.
    " إِنَّ الْإِنْسَانَ " أي: جنسه, إلا من عصمه الله " لَكَفُورٌ " لنعم الله, كفور بالله, لا يعترف بإحسانه, بل ربما كفر بالبعث وقدرة ربه.


  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

    الحلقة (339)
    تفسير السعدى
    سورة الحج
    من الأية(67) الى الأية(78)
    عبد الرحمن بن ناصر السعدي

    تفسير سورة الحج



    " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم "(67)
    يخبر تعالى أنه جعل لكل أمة " مَنْسَكًا " أي: معبدا وعبادة, قد تختلف في بعض الأمور, مع اتفاقها على العدل والحكمة, كما قال تعالى: " لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ " الآية.
    " هُمْ نَاسِكُوهُ " أي: عاملون عليه, بحسب أحوالهم, فلا اعتراض على شريعة من الشرائع, خصوصا من الأميين, أهل الشرك, والجهل المبين.
    فإنه إذا ثبت رسالة إلى الرسول بأدلتها, وجب أن يتلقى جميع ما جاء به بالقبول والتسليم, وترك الاعتراض, ولهذا قال: " فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ " أي: لا ينازعنك المكذبون لك, ويعترضوا على بعض ما جئتهم به, بعقولهم الفاسدة, مثل منازعتهم في حل الميتة, بقياسهم الفاسد يقولون " تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون ما قتل الله " .
    وكقولهم " إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا " ونحو ذلك من اعتراضاتهم, التي لا يلزم الجواب عن أعيانها, وهم منكرون لأصل الرسالة, وليس فيها مجادلة ومحاجة بانفرادها, بل لكل مقام مقال.
    فصاحب هذا الاعتراض, المنكر لرسالة الرسول, إذا زعم أنه يجادل ليسترشد, يقال له: الكلام معك في إثبات الرسالة وعدمها, وإلا, فالاقتصار على هذه, دليل على أن مقصوده, العنت والتعجيز.
    ولهذا أمر الله رسوله, أن يدعو إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة, ويمضي على ذلك.
    سواء اعترض المعترضون أم لا.
    وأنه لا ينبغي أن يثنيك عن الدعوة شيء لأنك على " هُدًى مُسْتَقِيمٍ " أي: معتدل موصل للمقصود, متضمن علم الحق والعمل به.
    فأنت على ثقة من أمرك, ويقين من دينك, فيوجب ذلك لك الصلابة والمضي لما أمرك به ربك ولست على أمر مشكوك فيه, أو حديث مفترى, فتقف مع الناس, ومع أهوائهم, وآرائهم, ويوقفك اعتراضهم.
    ونظير هذا قوله تعالى: " فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ " .
    مع أن في قوله " إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ " إرشادا لأجوبة المعترضين, على جزئيات الشرع, بالعقل الصحيح, فإن الهدى, وصف لكل ما جاء به الرسول.
    والهدى: ما تحصل به الهداية, في مسائل الأصول والفروع, وهي المسائل التي يعرف حسنها, وعدلها, وحكمهتا, بالعقل, والفطرة السليمة, وهذا يعرف بتدبر تفاصيل المأمورات والمنهيات.

    " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون " (68)
    ولهذه أمره الله بالعدول عن جدالهم في هذة الحالة فقال: " وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ " أي: هو عالم بمقاصدكم, ونياتكم, فمجازيكم عليها وهو " يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ " .
    فمن وافق الصراط المستقيم, فهو من أهل النعيم, ومن زاغ عنه, فهو من أهل الجحيم.
    ومن تمام حكمه, أن يكون حكما بعلم, فلذلك ذكر إحاطة علمه, وإحاطة كتابه فقال:

    " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " (70)
    " أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ " لا يخفى عليه منها خافية, من ظواهر الأمور, وبواطنها, خفيها, وجليها, متقدمها, ومتأخرها.
    ذلك العلم المحيط بما في السماء والأرض قد أثبته الله في كتاب, وهو اللوح المحفوظ, حين خلق الله القلم قال له " اكتب " قال: ما أكتب؟ قال: " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " .
    " إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ " وإن كان تصوره عندهم لا يحاط به, فالله تعالى يسير عليه أن يحيط علما بجميع الأشياء, وأن يكتب ذلك في كتاب مطابق للواقع.

    " ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير " (71)
    يذكر تعالى حالة المشركين به, العادلين به غيره, وأن حالهم أقبح الحالات.
    وأنه لا مستند لهم على ما فعلوه, فليس لهم به علم, وإنما هو تقليد, تلقوه عن آبائهم الضالين.
    وقد يكون الإنسان لا علم عنده بما فعله, وهو - في نفس الأمر - له حجة ما علمها.
    فأخبر هنا, أن الله لم ينزل في ذلك سلطانا, أي: حجة تدل عليه, ويحوزه, بل قد أنزل البراهين القاطعة, على فساده, وبطلانه.
    ثم توعد الظالمين منهم المعاندين للحق فقال: " وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ " ينصرهم من عذاب الله, إذا نزل بهم وحل.
    وهل لهؤلاء, الذين لا علم لهم بما عليه, قصد في اتباع الآيات والهدى إذا جاءهم؟ أم هم راضون بما عليه من الباطل؟ ذكر ذلك بقوله: " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ " التي هي آيات الله الجليلة المستلزمة لبيان الحق من الباطل, لم يلتفتوا إليها, ولم يرفعوا بها رأسا.
    بل " تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ " من بغضها وكراهتها, ترى وجوههم معبسة, وأبشارهم مكفهرة.
    " يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا " أي: يكادون يوقعون بهم القتل والضرب البليغ, من شدة بغضهم, وبغض الحق وعداوته.
    فهذه الحالة من الكفار بئست الحالة, وشرها بئس الشر.
    ولكن ثم ما هو شر منها, حالتهم التي يئولون إليها, فلهذا قال: " قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُ مْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " فهذه شرها طويل عريض, ومكروهها وآلامها, تزداد على الدوام.

    " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " (73)
    هذا مثل ضربه الله, لقبح عبادة الأوثان, وبيان نقصان عقول من عبدها, وضعف الجميع فقال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ " هذا خطاب للمؤمنين والكفار, المؤمنون يزدادون علما وبصيرة, والكافرون, تقوم عليهم الحجة.
    " ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ " أي: ألقوا إليه أسماعكم, وافهموا ما احتوى عليه, ولا يصادف منكم قلوبا لاهية, وأسماعا معرضة, بل ألقوا إليه القلوب والأسماع, وهو هذا.
    " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ " شمل ما يدعى من دون الله.
    " لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا " الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها.
    فليس في قدرتهم, خلق هذا المخلوق الضعيف, فما فوقه من باب أولى.
    " وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ " بل أبلغ من ذلك " وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ " وهذا غاية ما يصير من العجز.
    " ضَعُفَ الطَّالِبُ " الذي هو المعبود من دون الله " وَالْمَطْلُوبُ " الذي هو الذباب, فكل منهما ضعيف.
    وأضعف منهما, من يتعلقون بهذا الضعيف, وينزلونه منزلة رب العالمين.

    " ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " (74)
    فهؤلاء " مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ " حيث سووا الفقير العاجز من جميع الوجوه, بالغني القوي من جميع الوجوه.
    سووا من لا يملك لنفسه, ولا لغيره نفعا ولا ضرا, ولا موتا ولا حياة ولا نشورا, بمن هو النافع الضار, المعطي المانع, مالك الملك.
    والمتصرف فيه بجميع أنواع التصريف.
    " إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " أي: كامل القوة, كامل العزة.
    ومن كمال قوته وعزته, أن نواصي الخلق بيديه, وأنه لا يتحرك متحرك, ولا يسكن ساكن, إلا بإرادته ومشيئته, فما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن.
    ومن كمال قوته, أن يمسك السماوات والأرض أن تزولا.
    ومن كمال قوته, أنه يبعث الخلق كلهم, أولهم وآخرهم, بصيحة واحدة.
    ومن كمال قوته, أنه أهلك الجبابرة, والأمم العاتية, بشيء يسير, وسوط من عذابه.

    " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير " (75)
    لما بين تعالى كماله وضعف الأصنام, وأنه المعبود حقا, بين حالة الرسل, وتميزهم عن الخلق, بما تميزوا به, من الفضائل فقال: " اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ " أي: يختار ويجتبي من الملائكة رسلا, ومن الناس رسلا, يكونون أزكى ذلك النوع, وأجمعه لصفات المجد, وأحقه بالاصطفاء.
    فالرسل, لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق.
    والذي اختارهم, واجتباهم, ليس جاهلا بحقائق الأشياء, أو يعلم شيئا دون شيء وأن المصطفى لهم, السميع, البصير, الذي قد أحاط علمه وسمعه وبصره بجميع الأشياء.
    فاختياره إياهم, عن علم منه, أنهم أهل لذلك, وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى: " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ " .
    " وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ " أي: هو يرسل الرسل, يدعون الناس إلى الله.
    فمنهم المجيب, ومنهم الراد لدعوتهم, ومنهم العامل, ومنهم الناكل فهذا وظيفة الرسل.
    وأما الجزاء على تلك الأعمال, فمصيرها إلى الله, فلا تعدم منه, فضلا وعدلا.

    " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون " (77)
    يأمر تعالى, عباده المؤمنين بالصلاة, وخص منها الركوع والسجود, لفضلهما وركنيتهما, وعبادته التي هي قرة العيون, وسلوة القلب المحزون, وأن ربوبيته وإحسانه على العباد, يقتضي منهم أن يخلصوا له العبادة, ويأمرهم بفعل الخير عموما.
    وعلق تعالى, الفلاح على هذه الأمور فقال: " لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
    أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب, وتنجون من المكروه المرهوب.
    فلا طريق للفلاح, سوى الإخلاص في عبادة الخالق, والسعي في نفع عبيده.
    فمن وفق لذلك, فله القدح المعلى, من السعادة, والنجاح والفلاح.

    " وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " (78)
    " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ " والجهل بذل الوسع, في حصول الغرض المطلوب.
    فالجهاد في الحق جهاده, هو القيام التام بأمر الله, ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك, من نصيحة وتعليم وقتال وأدب وزجر, ووعظ, وغير ذلك.
    " هُوَ اجْتَبَاكُمْ " أي: اختاركم - يا معشر المسلمين - من بين الناس, واختار لكم الدين, ورضيه لكم, واختار لكم أفصل الكتب, وأفضل الرسل.
    فقابلوا هذه المنحة العظيمة, بالقيام بالجهاد فيه حق القيام.
    ولما كان قوله: " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ " ربما توهم متوهم أن هذا, من باب تكليف ما لا يطاق, أو تكليف ما يشق, احترز منه بقوله: " وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " أي: مشقة وعسر, بل يسره غاية التيسير, وسهل بغاية السهولة.
    فأولا ما أمر وألزم إلا بما هو سهل على النفوس, لا يثقلها, ولا يؤودها.
    ثم إذا عرض بعض الأسباب الموجبة للتخفيف, خفف ما أمر به.
    إما بإسقاطه, أو إسقاط بعضه.
    ويؤخذ من هذه الآية, قاعدة شرعية وهي أن " المشقة تجلب التيسير " و " الضرورات تبيح المحظورات " .
    قيدخل في ذلك من الأحكام الفروعية, شيء كثير معروف في كتب الأحكام.
    " مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ " أي: هذه الملة المذكورة, والأوامر المزبورة, ملة أبيكم إبراهيم, التي ما زال عليها, فالزموها واستمسكوا بها.
    " هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ " أي: في الكتب السابقة, أنتم مذكورون ومشهورون [أي: بأن إبراهيم سماكم: مسلمين].
    " وَفِي هَذَا " أي: هذا الكتاب, وهذا الشرع أي: ما زال هذا الاسم لكم قديما وحديثا.
    " لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ " بأعمالكم خيرها وشرها " وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " لكونكم خير أمة أخرجت للناس, أمة وسطا عدلا خيارا.
    تشهدون للرسل أنهم بلغوا أممهم, وتشهدون على الأمم أن رسلهم بلغتهم بما أخبركم الله به في كتابه.
    " فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ " بأركانها وشروطها, وحدودها, وجميع لوازمها.
    " وَآتُوا الزَّكَاةَ " المفروضة لمستحقيها شكرا لله, على ما أولاكم.
    " وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ " أي: امتنعوا به وتوكلوا عليه في ذلك, ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم.
    " هُوَ مَوْلَاكُمْ " الذي يتولى أموركم, فيدبركم بحسن تدبيره, ويصرفكم على أحسن تقديره.
    " فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ " أي: نعم المولى لمن تولاه, فحصل له مطلوبه " وَنِعْمَ النَّصِيرُ " لمن استنصره فدفع عنه المكروه.


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •