تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 17 من 23 الأولىالأولى ... 7891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 321 إلى 340 من 450

الموضوع: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

  1. #321
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (316)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّمْلِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 9


    [ ص: 134 ] ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ( 216 ) وتوكل على العزيز الرحيم ( 217 ) الذي يراك حين تقوم ( 218 ) وتقلبك في الساجدين ( 219 ) إنه هو السميع العليم ( 220 ) )

    ( فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ) من الكفر وعبادة غير الله . ) ( وتوكل ) قرأ أهل المدينة ، والشام : " فتوكل " بالفاء ، وكذلك هو في مصاحفهم وقرأ الباقون بالواو " وتوكل " ) ( على العزيز الرحيم ) ليكفيك كيد الأعداء . ( الذي يراك حين تقوم ) إلى صلاتك ، عن أكثر المفسرين . وقال مجاهد : الذي يراك أينما كنت . وقيل : حين تقوم لدعائهم . ( وتقلبك في الساجدين ) أي : يرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك . قال عكرمة وعطية عن ابن عباس : في الساجدين أي : في المصلين . وقال مقاتل والكلبي : أي مع المصلين في الجماعة ، يقول : يراك حين تقوم وحدك للصلاة ويراك إذا صليت مع المصلين في الجماعة . وقال مجاهد : يرى تقلب بصرك في المصلين ، فإنه كان يبصر من خلفه كما يبصر من أمامه . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هل ترون قبلتي هاهنا ، فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ، إني لأراكم من وراء ظهري " وقال الحسن : " وتقلبك في الساجدين " أي : تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين . وقال سعيد بن جبير : يعني وتصرفك في أحوالك ، كما كانت الأنبياء من قبلك . والساجدون : هم الأنبياء . وقال عطاء عن ابن عباس : أراد تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة . ( إنه هو السميع العليم ) .
    [ ص: 135 ] ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ( 221 ) تنزل على كل أفاك أثيم ( 222 ) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ( 223 ) والشعراء يتبعهم الغاوون ( 224 ) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ( 225 ) )

    ( هل أنبئكم ) أخبركم ( على من تنزل الشياطين ) هذا جواب قولهم : تنزل عليه شيطان ، ثم بين فقال : ) ( تنزل ) أي : تتنزل ) ( على كل أفاك ) كذاب ) ( أثيم ) فاجر ، قال قتادة : هم الكهنة ، يسترق الجن السمع ثم يلقون إلى أوليائهم من الإنس . وهو قوله - عز وجل - : ) ( يلقون السمع ) ( يلقون السمع ) أي : يستمعون من الملائكة مستقرين ، فيلقون إلى الكهنة ) ( وأكثرهم كاذبون ) لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا . قوله - عز وجل - : ) ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال أهل التفسير : أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر مقاتل أسماءهم ، فقال : منهم عبد الله بن الزبعرى السهمي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، ومشافع بن عبد مناف . وأبو عزة بن عبد الله الجمحي ، وأمية بن أبي الصلت الثقفي ، تكلموا بالكذب وبالباطل ، وقالوا : نحن نقول مثل ما يقول محمد . وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم حين يهجون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ويروون عنهم وذلك . قوله : ) والشعراء يتبعهم الغاوون ( هم الرواة الذين يروون هجاء [ النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمين . وقال قتادة ومجاهد : الغاوون هم الشياطين . وقال الضحاك : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، ومع كل واحد منهما غواة من قومه ، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية . وهي رواية عطية عن ابن عباس . ( ألم تر أنهم في كل واد ) من أودية الكلام ) ( يهيمون ) جائرون وعن طريق الحق حائدون ، والهائم : الذاهب على وجهه لا مقصد له . [ ص: 136 ]

    قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية : في كل لغو يخوضون وقال مجاهد : في كل فن يفتنون . وقال قتادة : يمدحون بالباطل ويستمعون ويهجون بالباطل فالوادي مثل لفنون الكلام ، كما يقال : أنا في واد وأنت في واد . وقيل : " في كل واد يهيمون " أي : على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي .
    ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ( 226 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( 227 ) )

    ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) أي : يكذبون في شعرهم ، يقولون : فعلنا وفعلنا ، وهم كذبة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا ، خير له من أن يمتلئ شعرا " ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون شعراء الكفار ، وينافحون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، منهم حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال : ( ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل " . [ ص: 137 ]

    أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت ، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
    خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله
    ويذهل الخليل عن خليله


    فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خل عنه يا عمر ، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل "
    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا شعبة ، أخبرني عدي أنه سمع البراء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان : " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك " .

    أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر - المعنى واحد - قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله يؤيد حسان بروح القدس ، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغفار بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، [ ص: 138 ] حدثني أبي عن جدي ، حدثنا خالد بن زيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل " ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : " اهجهم " ، فهجاهم فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه ، فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تعجل ، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي " ، فأتاه حسان ثم رجع ، فقال : يا رسول الله قد خلص لي نسبك ، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين . قالت عائشة : فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان : " إن روح القدس لا يزال يؤيدك ، ما نافحت عن الله ورسوله " ، وقالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " هجاهم حسان فشفى واشتفى " ، قال حسان :
    هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
    هجوت محمدا برا حنيفا رسول الله شيمته الوفاء
    فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
    فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
    وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء


    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من الشعر لحكمة " قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : الشعر كلام ، فمنه حسن ، ومنه قبيح ، فخذ الحسن ودع القبيح وقال الشعبي : كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة . [ ص: 139 ]

    وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده; فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال :
    أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر


    فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها ، وهي قريبة من سبعين بيتا ، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها ، وكان حفظها بمرة واحدة . ( وذكروا الله كثيرا ) أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال مقاتل : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدءوا بالهجاء . ثم أوعد شعراء المشركين فقال : ( وسيعلم الذين ظلموا ) أشركوا وهجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أي منقلب ينقلبون ) أي مرجع يرجعون بعد الموت . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إلى جهنم والسعير . والله أعلم .
    سُورَةُ النَّمْلِ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ( 1 ) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 3 ) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ( 5 ) )

    ( طس ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ الْهِجَاءِ . ) ( تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ ) أَيْ : هَذِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ ) ( وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) أَيْ : وَآيَاتُ كِتَابٍ مُبِينٍ . ( هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) يَعْنِي : هُوَ هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ بِالْجَنَّةِ . ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) . ( إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) الْقَبِيحَةَ حَتَّى رَأَوْهَا حَسَنَةً ( فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) أَيْ : يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا مُتَحَيِّرِينَ . ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ) شِدَّةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ بِبَدْرٍ ( وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَصَارُوا إِلَى النَّارِ .
    [ ص: 144 ] ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ( 6 ) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ( 7 ) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ( 8 ) )

    ( وإنك لتلقى القرآن ) أي : تؤتى القرآن وتلقن ( من لدن حكيم عليم ) أي : وحيا من عند الله الحكيم العليم . قوله - عز وجل - : ( إذ قال موسى لأهله ) أي : واذكر يا محمد إذ قال موسى لأهله في مسيره من مدين إلى مصر : ( إني آنست نارا ) أي : أبصرت نارا . ( سآتيكم منها بخبر ) أي : امكثوا مكانكم ، سآتيكم بخبر عن الطريق ، وكان قد ترك الطريق ( أو آتيكم بشهاب قبس ) قرأ أهل الكوفة : " بشهاب " بالتنوين ، جعلوا القبس نعتا للشهاب ، وقرأ الآخرون بلا تنوين على الإضافة ، وهو إضافة الشيء إلى نفسه ، لأن الشهاب والقبس متقاربان في المعنى ، وهو العود الذي في أحد طرفيه نار ، وليس في الطرف الآخر نار . وقال بعضهم : الشهاب هو شيء ذو نور ، مثل العمود ، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهابا ، والقبس : القطعة من النار ) ( لعلكم تصطلون ) تستدفئون من البرد ، وكان ذلك في شدة الشتاء . ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) أي : بورك على من في النار أو من في النار ، والعرب تقول : باركه الله وبارك فيه ، وبارك عليه ، بمعنى واحد . وقال قوم : البركة راجعة إلى موسى والملائكة ، معناه : بورك في من طلب النار ، وهو موسى عليه السلام ) ( ومن حولها ) وهم الملائكة الذين حول النار ، ومعناه : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذا تحية من عند الله - عز وجل - لموسى بالبركة ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . ومذهب أكثر المفسرين أن المراد بالنار النور ، ذكر بلفظ النار لأن موسى حسبه نارا ، و " من في النار " هم الملائكة ، وذلك أن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتقديس والتسبيح ، [ ص: 145 ] و " من حولها " هو موسى لأنه كان بالقرب منها ، ولم يكن فيها . وقيل : " من في النار ومن حولها " جميعا الملائكة . وقيل : " من في النار " موسى و " من حولها " الملائكة ، وموسى وإن لم يكن في النار كان قريبا منها ، كما يقال : بلغ فلان المنزل ، إذا قرب منه ، وإن لم يبلغه بعد . وذهب بعضهم إلى أن البركة راجعة إلى النار . وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : معناه بوركت النار . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أبيا يقرأ : أن بوركت النار ومن حولها ، و " من " قد تأتي بمعنى ما ، كقوله تعالى : فمنهم من يمشي على بطنه ( النور - 45 ) ، و " ما " قد يكون صلة في الكلام ، كقوله " جند ما هنالك " ( ص - 11 ) ، ومعناه : بورك في النار وفيمن حولها ، وهم الملائكة وموسى عليهم السلام ، وسمى النار مباركة كما سمى البقعة مباركة فقال : " في البقعة المباركة " .

    وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن في قوله : ( بورك من في النار ) يعني قدس من في النار ، وهو الله ، عنى به نفسه ، على معنى أنه نادى موسى منها وأسمعه كلامه من جهتها كما روي : أنه مكتوب في التوراة : " جاء الله من سيناء ، وأشرف من ساعين ، واستعلى من جبال فاران " فمجيئه من سيناء : بعثة موسى منها ، ومن ساعين بعثة المسيح منها ، ومن جبال فاران بعثة المصطفى منها ، وفاران مكة . قيل : كان ذلك نوره - عز وجل - . قال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها ، والنار إحدى حجب الله تعالى ، كما جاء في الحديث : " حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " ثم نزه الله نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب ، فقال جل ذكره . ( وسبحان الله رب العالمين )
    ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ( 9 ) )

    ثم تعرف إلى موسى بصفاته ، فقال : ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) والهاء في قوله ) ( إنه ) عماد ، وليس بكناية ، وقيل : هي [ ص: 146 ] كناية عن الأمر والشأن ، أي : الأمر والشأن ، أي : المعبود أنا

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #322
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (317)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّمْلِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية10 إلى الاية 21

    ( وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ( 10 ) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ( 11 ) )

    ثم أرى موسى آية على قدرته ، فقال : ( وألق عصاك فلما رآها تهتز ) تتحرك ) ( كأنها جان ) وهي الحية الصغيرة التي يكثر اضطرابها ) ( ولى مدبرا ) هرب من الخوف ) ( ولم يعقب ) لم يرجع ، يقال : عقب فلان إذا رجع ، وكل راجع معقب . وقال قتادة : ولم يلتفت ، فقال الله - عز وجل - : ( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) يريد إذا آمنتهم لا يخافون ، أما الخوف الذي هو شرط الإيمان فلا يفارقهم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أخشاكم لله " . وقوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) واختلف في هذا الاستثناء ، قيل : هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك ، ثم تاب فقال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فغفر له . قال ابن جريج : قال الله تعالى لموسى : إنما أخفتك لقتلك النفس . وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحا وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله : ) ( إلا من ظلم ) ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة . وفي الآية متروك استغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه ، تقديره : فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم .

    وقال بعض العلماء : ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم ، بل هو استثناء من المتروك في الكلام ، معناه : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين ، إلا من ظلم ثم تاب ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، معناه لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف ، فإن تاب وبدل حسنا بعد سوء فإن الله غفور رحيم ، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه . [ ص: 147 ]

    وقال بعض النحويين : " إلا " هاهنا بمعنى : " ولا " يعني : لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ، يقول : لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون ، كقوله تعالى : " لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم " ( البقرة - 150 ) ، يعني : ولا الذين ظلموا
    ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 12 ) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين ( 13 ) ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( 14 ) ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ( 15 ) )

    ثم أراه الله آية أخرى فقال : ( وأدخل يدك في جيبك ) والجيب حيث جيب من القميص ، أي : قطع ، قال أهل التفسير : كانت عليه مدرعة من صوف لا كم لها ولا أزرار ، فأدخل يده في جيبه وأخرجها ، فإذا هي تبرق مثل البرق ، فذلك قوله : ( تخرج بيضاء من غير سوء ) من غير برص ) ( في تسع آيات ) يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهن ( إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) بينة واضحة يبصر بها ( قالوا هذا سحر مبين ) ظاهر . ) ( وجحدوا بها ) أي : أنكروا الآيات ولم يقروا أنها من عند الله ) ( واستيقنتها أنفسهم ) أي : علموا أنها من عند الله ، قوله : ( ظلما وعلوا ) أي : شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى ( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) قوله - عز وجل - : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما ) أي : علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسخير الشياطين وتسبيح الجبال ( وقالا الحمد لله الذي فضلنا ) بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين والجن والإنس ( على كثير من عباده المؤمنين )
    [ ص: 148 ] ) ( وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين ( 16 ) )

    ( وورث سليمان داود ) نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده وكان لداود تسعة عشر ابنا ، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك ، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين . قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان ، وكان سليمان شاكرا لنعم الله تعالى .

    ( وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير ) سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم منه ، كما يفهم من كلام الناس . روي عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان عليه السلام ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب ، وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول هذا ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم ، وصاح صرد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، قال : وصاحت طوطى ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : كل حي ميت وكل حديد بال ، وصاح خطاف ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : قدموا خيرا تجدوه ، وهدرت حمامة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه ، وصاح قمري ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : سبحان ربي الأعلى ، قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا الله ، والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه ، والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل لسان . وعن مكحول قال : صاح دراج عند سليمان ، فقال : هل تدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال : فإنه يقول : الرحمن على العرش استوى . [ ص: 149 ]

    وعن فرقد السبخي قال مر سليمان على بلبل فوق شجر يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ فقالوا الله ونبيه أعلم ، قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس : إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا ، قال : سلوا تفقها ولا تسألوا تعنتا ، قالوا : أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره ، والديك في صقيعه ، والضفدع في نقيقه ، والحمار في نهيقه ، والفرس في صهيله ، وماذا يقول الزرزور والدراج ؟ قال : نعم ، أما القنبر فيقول : اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد ، وأما الديك فيقول : اذكروا الله يا غافلين ، وأما الضفدع فيقول : سبحان المعبود في لجج البحار ، وأما الحمار فيقول : اللهم العن العشار ، وأما الفرس فيقول : إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وأما الزرزور فيقول : اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رازق ، وأما الدراج فيقول : الرحمن على العرش استوى ، قال : فأسلم اليهود وحسن إسلامهم .

    وروي عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يا ابن آدم ، عش ما شئت آخره الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أنس ، وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطاف ، قرأ : الحمد لله رب العالمين ، ويمد الضالين كما يمد القارئ . قوله تعالى : ( وأوتينا من كل شيء ) يؤتى الأنبياء والملوك ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا والآخرة . وقال مقاتل : يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح ( إن هذا لهو الفضل المبين ) الزيادة الظاهرة على ما أعطى غيرنا . وروى أن سليمان عليه السلام أعطي مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع وأعطي على ذلك منطق كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة .
    ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ( 17 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ) في مسيره له ) ( فهم يوزعون ) فهم يكفون . قال قتادة : كان على كل صف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير ، والوازع الحابس ، وهو النقيب . وقال مقاتل : يوزعون يساقون ، [ ص: 150 ] وقال السدي : يوقفون . وقيل : يجمعون . وأصل الوزع الكف والمنع . قال محمد بن كعب القرظي : كان معسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه ، ويأمر الرخاء فتسير به ، وأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح ، فأخبرتك .
    ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ( 18 ) )

    قوله - عز وجل - : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل ) روي عن وهب بن منبه عن كعب قال : كان سليمان إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه ، وقد اتخذ مطابخ ومخابز يحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام ، يسع كل قدر عشر جزائر وقد اتخذ ميادين للدواب أمامه ، فيطبخ الطباخون ، ويخبز الخبازون ، وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض ، والريح تهوي بهم ، فسار من اصطخر إلى اليمن فسلك مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال سليمان : هذه دار هجرة نبي في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه ، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت ، فأوحى الله إلى البيت ما يبكيك ؟ فقال : يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا علي فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي ، والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه أن لا تبك ، فإني سوف أملؤك وجوها سجدا ، وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي ، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني ، وأفرض على عبادي فريضة يذفون إليك ذفيف النسور إلى وكرها ، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها ، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين ثم مضى سليمان حتى مر بوادي السدير واد من الطائف ، فأتى على وادي النمل ، هكذا قال كعب : إنه واد بالطائف . وقال قتادة ومقاتل : هو أرض بالشام . وقيل : واد كان يسكنه الجن ، وأولئك النمل مراكبهم [ ص: 151 ]

    وقال نوف الحميري : كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب . وقيل : كالبخاتي . والمشهور : أنه النمل الصغير . وقال الشعبي : كانت تلك النملة ذات جناحين . وقيل : كانت نملة عرجاء فنادت : ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) ولم تقل : ادخلن ، لأنه لما جعل لهم قولا كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين ) ( لا يحطمنكم ) لا يكسرنكم ) ( سليمان وجنوده ) والحطم الكسر ) ( وهم لا يشعرون ) فسمع سليمان قولها ، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان . قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، قال مقاتل : كان اسمها جرمى . فإن قيل : كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض ؟ قيل : كان جنوده ركبانا وفيهم مشاة على الأرض تطوى لهم . وقيل : يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان . قال أهل التفسير : علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم . ومعنى الآية : أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطؤوكم ولم يشعروا بكم . ويروى أن سليمان لما بلغ وادي النمل حبس جنوده حتى دخل النمل بيوتهم .
    ( فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ( 19 ) )

    قوله - عز وجل - : ( فتبسم ضاحكا من قولها ) قال الزجاج : أكثر ضحك الأنبياء التبسم . وقوله ) ( ضاحكا ) أي : متبسما . قيل : كان أوله التبسم وآخره الضحك . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب ، أخبرنا عمرو ، هو ابن الحارث ، أخبرنا النضر ، [ ص: 152 ] حدثه عن سليمان بن يسار ، عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعا قط ضاحكا حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم . أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن المغيرة عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال : ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    قال مقاتل : كان ضحك سليمان من قول النملة تعجبا ، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك ، ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه . ( وقال رب أوزعني ) ألهمني ( أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) أي : أدخلني في جملتهم ، وأثبت اسمى مع أسمائهم واحشرني في زمرتهم ، قال ابن عباس : يريد مع إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومن بعدهم من النبيين . وقيل : أدخلني الجنة برحمتك من عبادك الصالحين .
    ( وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ( 20 ) )

    قوله - عز وجل - : ) ( وتفقد الطير ) أي : طلبها وبحث عنها ، والتفقد : طلب ما فقد ، ومعنى الآية : طلب ما فقد من الطير ( فقال ما لي لا أرى الهدهد ) أي : ما للهدهد لا أراه ؟ . تقول العرب : ما لي أراك كئيبا ؟ أي : مالك ؟ والهدهد : طائر معروف . وكان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ، قيل : إخلاله بالنوبة ، وذلك أن سليمان كان إذا نزل منزلا يظله وجنده الطير من الشمس ، فأصابته الشمس من موضع الهدهد ، فنظر فرآه خاليا .

    وروي عن ابن عباس : أن الهدهد كان دليل سليمان على الماء وكان يعرف موضع الماء ويرى الماء تحت الأرض ، كما يرى في الزجاجة ، ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض ، ثم تجيء الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن الأزرق : يا وصاف انظر ما تقول ، إن الصبي منا يضع الفخ ويحثو عليه التراب ، فيجيء الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه ، [ ص: 153 ] فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر . وفي رواية : إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر . فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فطلبوا فلم يجدوا ، فتفقد الهدهد ليدل على الماء ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد ، على تقرير أنه مع جنوده ، وهو لا يراه ، ثم أدركه الشك في غيبته ، فقال : ( أم كان من الغائبين ) يعني أكان من الغائبين ؟ والميم صلة ، وقيل : " أم " بمعنى " بل " ، ثم أوعده على غيبته ، فقال : ( لأعذبنه عذابا شديدا )
    ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( 21 ) )

    ( لأعذبنه عذابا شديدا ) واختلفوا في العذاب الذي أوعده به ، فأظهر الأقاويل أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا ، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض . وقال مقاتل وابن حيان : لأطلينه بالقطران ولأشمسنه . وقيل : لأودعنه القفص . وقيل : لأفرقن بينه وبين إلفه . وقيل : لأحبسنه مع ضده . ) ( أو لأذبحنه ) لأقطعن حلقه ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) بحجة بينة في غيبته ، وعذر ظاهر ، قرأ ابن كثير : " ليأتينني " بنونين ، الأولى مشددة ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة .

    وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهز للمسير ، واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، فحملهم الريح ، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم ، وكان ينحر كل يوم بمقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة وقال لمن حضره من أشراف قومه : إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد عنده في الحق سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم . قالوا فبأي دين يدين يا نبي الله ؟ قال : يدين بدين الحنيفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، فقالوا : كم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل ، قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ، ثم خرج من مكة صباحا ، وسار نحو اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فأحب [ ص: 154 ] النزول بها ليصلي ويتغدى ، فلما نزل قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ، ففعل ذلك ، فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان اسم هدهد سليمان " يعفور " واسم هدهد اليمن " عنفير " ، فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود . فقال : ومن سليمان ؟ قال ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمن أين أنت ؟ قال : أنا من هذه البلاد ، قال : ومن ملكها ؟ قال : امرأة يقال لها بلقيس ، وإن لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكة اليمن كلها ، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل ، فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال الهدهد اليماني : إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، وما رجع إلى سليمان إلا في وقت العصر . قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير ماء ، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموا ، فتفقد الطير ، ففقد الهدهد ، فدعا عريف الطير - وهو النسر - فسأله عن الهدهد ، فقال : أصلح الله الملك ، ما أدري أين هو ، وما أرسلته مكانا ، فغضب عند ذلك سليمان ، وقال : ) ( لأعذبنه عذابا شديدا ) الآية . ثم دعا العقاب سيد الطير فقال : علي بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده ، فقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء ، قال : فولى عنه العقاب ، وقال له : ويلك ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان ، فلما انتهيا إلى المعسكر تلقاه النسر والطير ، فقالوا له : ويلك أين غبت في يومك هذا ؟ ولقد توعدك نبي الله ، وأخبراه بما قال ، فقال الهدهد : أوما استثنى رسول الله ؟ قالوا : بلى ، قال : " أو ليأتيني بسلطان مبين " ، قال : فنجوت إذا ، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه ، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبي الله ، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال : أين كنت ؟ لأعذبنك عذابا شديدا ، فقال الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي أبطأ بك عني ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عنه في قوله : ) ( فمكث غير بعيد )
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #323
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (318)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّمْلِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية22 إلى الاية 37


    ( فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين ( 22 ) ( إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ( 23 ) )

    ( فمكث غير بعيد ) قرأ عاصم ويعقوب : ) ( فمكث ) بفتح الكاف ، وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان ) ( غير بعيد ) أي : غير طويل ( فقال أحطت بما لم تحط به ) والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ، يقول : علمت ما لم تعلم ، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جنودك ) ( وجئتك من سبإ ) قرأ أبو عمرو ، والبزي عن ابن كثير من " سبأ " و " لسبأ " في سورة سبأ ، مفتوحة الهمزة ، وقرأ القواص عن ابن كثير ساكنة بلا همزة ، وقرأ الآخرون بالإجراء ، فمن لم يجره جعله اسم البلد ، ومن أجراه جعله اسم رجل ، فقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن سبأ فقال : " كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة " . ) ( بنبإ ) بخبر ) ( يقين ) فقال سليمان : وما ذاك ؟ قال : ) ( إني وجدت امرأة تملكهم ) ( إني وجدت امرأة تملكهم ) وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن ، قد ولد له أربعون ملكا هو آخرهم ، وكان يملك أرض اليمن كلها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج فيهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها ، وجاء في الحديث : إن إحدى أبوي بلقيس كان جنيا . فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون ، فملكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقتين ، كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه ، فلما رأت ذلك بلقيس [ ص: 156 ] أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها الملك ، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك ، فقالت لا أرغب عنك ، كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ، فجمعهم وخطبها إليهم ، فقالوا : لا نراها تفعل هذا ، فقال لهم : إنها ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاؤوها ، فذكروا لها ، فقالت : نعم أحببت الولد . فزوجوها منه ، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها ، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر ، ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب دارها ، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وقالوا : أنت بهذا الملك أحق من غيرك ، فملكوها .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عثمان بن الهيثم ، أخبرنا عوف ، عن الحسن ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . قوله تعالى : ) ( وأوتيت من كل شيء ) يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة ) ( ولها عرش عظيم ) سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق . قال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا : وطوله في السماء ثلاثون ذراعا . وقال مقاتل : كان طوله ثمانين ذراعا وطوله في السماء ثمانين ذراعا . وقيل : كان طوله ثمانين ذراعا وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا .
    ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ( 24 ) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ( 25 ) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ( 26 ) قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ( 27 ) [ ص: 157 ]

    ) ( ألا يسجدوا ) قرأ أبو جعفر والكسائي : " ألا يسجدوا " بالتخفيف ، وإذا وقفوا يقفون " ألا يا " : ألا يا ثم يبتدئون : " اسجدوا " ، على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وجعلوه أمرا من عند الله مستأنفا ، وحذفوا هؤلاء اكتفاء بدلالة " يا " عليها ، وذكر بعضهم سماعا من العرب : ألا يا ارحمونا ، يريدون ألا يا قوم ، وقال الأخطل :
    ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وإن كان حيانا عدا آخر الدهر


    يريد : ألا يا اسلمي يا هند ، وعلى هذا يكون قوله " ألا " كلاما معترضا من غير القصة ، إما من الهدهد ، وإما من سليمان . قال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف يعني : يا أيها الناس اسجدوا . وقرأ الآخرون : " ألا يسجدوا " بالتشديد ، بمعنى : وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا ( لله الذي يخرج الخبء ) أي : الخفي المخبأ ) ( في السماوات والأرض ) أي : ما خبأت . قال أكثر المفسرين : خبء السماء : المطر ، وخبء الأرض : النبات . وفي قراءة عبد الله : " يخرج الخبء من السماوات والأرض " ، و " من " و " في " يتعاقبان ، تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد : منكم . وقيل : معنى " الخبء " الغيب ، يريد : يعلم غيب السماوات والأرض . ( ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) قرأ الكسائي ، وحفص ، عن عاصم : بالتاء فيهما ، لأن أول الآية خطاب على قراءة الكسائي بتخفيف ألا وقرأ الآخرون بالياء . ( الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) أي : هو المستحق للعبادة والسجود لا غيره . وعرش ملكة سبأ وإن كان عظيما فهو صغير حقير في جنب عرشه - عز وجل - ، تم هاهنا كلام الهدهد ، فلما فرغ الهدهد من كلامه . ) ( قال ) سليمان للهدهد : ) ( سننظر أصدقت ) فيما أخبرت ) ( أم كنت من الكاذبين ) ؟ فدلهم الهدهد على الماء ، فاحتفروا الركايا وروي الناس والدواب ، ثم كتب سليمان كتابا : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام على من اتبع الهدى ، [ ص: 158 ] أما بعد : فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله في كتابه . وقال قتادة : وكذلك الأنبياء كانت تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون . فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه . فقال للهدهد ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم )
    ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ( 28 ) قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ( 29 ) )

    ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة : ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ، ويعقوب وقالون كسرا ، والآخرون بالإشباع كسرا ) ( ثم تول عنهم ) تنح عنهم فكن قريبا منهم ) ( فانظر ماذا يرجعون ) يردون من الجواب . وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم تول عنهم ، أي : انصرف إلي ، فأخذ الهدهد الكتاب فأتى به إلى بلقيس ، وكانت بأرض يقال لها " مأرب " من صنعاء على ثلاثة أيام ، فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب ، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها ، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها ، فألقى الكتاب على نحرها ، هذا قول قتادة . وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها .

    وقال ابن منبه ، وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع ، فإذا نظرت إليها سجدت لها ، فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر ، فرمى بالصحيفة إليها ، فأخذت بلقيس الكتاب ، وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم أرعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه ، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب إليها أعظم ملكا منها ، فقرأت الكتاب ، وتأخر الهدهد غير بعيد ، فجاءت حتى قعدت على سرير مملكتها وجمعت الملأ من قومها ، وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل . وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف قيل ، مع كل قيل مائة ألف والقيل الملك دون الملك الأعظم ، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف ، قال : فجاءوا وأخذوا مجالسهم . ) ( قالت ) لهم بلقيس : ) ( يا أيها الملأ ) وهم أشراف الناس وكبراؤهم ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) [ ص: 159 ] قال عطاء والضحاك : سمته كريما لأنه كان مختوما . وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كرامة الكتاب ختمه " وقال قتادة ومقاتل : " كتاب كريم " أي : حسن ، وهو اختيار الزجاج ، وقال : حسن ما فيه ، وروي عن ابن عباس : " كريم " ، أي : شريف لشرف صاحبه ، وقيل : سمته كريما لأنه كان مصدرا ببسم الله الرحمن الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت : ) ( إنه من سليمان )
    ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ( 31 ) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ( 32 ) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ( 33 ) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ( 34 ) )

    ( إنه من سليمان ) وبينت المكتوب فقالت : ( وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) ( ألا تعلوا علي ) قال ابن عباس : أي : لا تتكبروا علي . وقيل : لا تتعظموا ولا تترفعوا علي . معناه : لا تمتنعوا من الإجابة ، فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر ) ( وأتوني مسلمين ) مؤمنين طائعين . قيل : هو من الإسلام ، وقيل : هو من الاستسلام . ( قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ) أشيروا علي فيما عرض لي ، وأجيبوني فيما أشاوركم فيه ) ( ما كنت قاطعة ) قاضية وفاصلة ) ( أمرا حتى تشهدون ) أي : تحضرون . ) ( قالوا ) مجيبين لها : ) ( نحن أولو قوة ) في القتال ) ( وأولو بأس شديد ) عند الحرب ، قال مقاتل : أرادوا بالقوة كثرة العدد ، وبالبأس الشديد الشجاعة ، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك ، ثم قالوا : ) ( والأمر إليك ) أيتها الملكة في القتال وتركه ) ( فانظري ) من الرأي ) ( ماذا تأمرين ) تجدينا لأمرك مطيعين . ) ( قالت ) بلقيس مجيبة لهم عن التعريض للقتال : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية ) عنوة ، [ ص: 160 ] ) ( أفسدوها ) خربوها ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) أي : أهانوا أشرافها وكبراءها ، كي يستقيم لهم الأمر ، تحذرهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم ، وتناهى الخبر عنها هاهنا ، فصدق الله قولها فقال : ) ( وكذلك يفعلون ) أي : كما قالت هي يفعلون .
    ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ( 35 ) )

    ثم قالت : ( وإني مرسلة إليهم بهدية ) والهدية هي : العطية على طريق الملاطفة . وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست ، فقالت للملأ من قومها : إني مرسلة إليهم ، أي : إلى سليمان وقومه ، بهدية أصانعه بها عن ملكي وأختبره بها أملك هو أم نبي ؟ فإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف ، وإن كان نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه ، فذلك قوله تعالى : ( فناظرة بم يرجع المرسلون ) فأهدت إليه وصفاء ووصائف ، قال ابن عباس ألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف ذكر من أنثى . وقال مجاهد : ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان . واختلفوا في عددهم ، فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة وقال مجاهد : ومقاتل مائتا غلام ومائتا جارية .

    وقال قتادة ، وسعيد بن جبير : أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج . وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج . وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب . وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، فألبست الغلمان لباس الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر ، وألبست الجواري لباس الغلمان; الأقبية والمناطق ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون ، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون ، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة ، [ ص: 161 ] وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع ، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج ، وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب ، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه ، رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل ، وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية ، وقالت فيه : إن كنت نبيا فميز بين الوصائف والوصفاء ، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها ، واثقب الدر ثقبا مستويا ، وأدخل خيطا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جن . وأمرت بلقيس الغلمان ، فقالت : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال .

    ثم قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره ، فإنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ، ورد الجواب . فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر كله ، فأمر سليمان الجن أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا ، شرفها من الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله إنا رأينا دوابا في بحر كذا وكذا منطقة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص ، فقال : علي بها الساعة ، فأتوا بها ، فقال : شدوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفتها فيها ، ثم قال للجن : علي بأولادكم ، فاجتمع خلق كثير ، فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير ، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره . فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة ، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم ، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ، ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا [ ص: 162 ] يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش ، حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق ، وقال : ما وراءكم ؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له ، وأعطاه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، ثم قال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة ، فقال : إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب ، فقال الرسول : صدقت ، فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان : من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن ، فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثم سأل الشياطين ، فقالوا : نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تصير رزقي في الشجرة ، فقال لك ذلك .

    وروي أنه جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت : أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف ، فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر . ثم قال : من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال سليمان : ما حاجتك ؟ فقالت : تجعل رزقي في الفواكه ، قال : لك ذلك ، ثم ميز بين الجواري والغلمان ، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام كما يأخذه من الآنية يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، وكانت الجارية تصب الماء صبا وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدرا ، فميز بينهم بذلك ، ثم رد سليمان الهدية ، كما قال الله تعالى : ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال )
    ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ( 36 ) )

    ( فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال ) قرأ حمزة ، ويعقوب : " أتمدوني " بنون واحدة مشددة وإثبات الياء ، وقرأ الآخرون : بنونين خفيفين ، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة ، والآخرون يحذفونها ) ( فما آتاني الله ) أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك ) ( خير ) أفضل ( مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها ، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض ، فأما أنا فلا أفرح بها ، وليست الدنيا من حاجتي ، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة ، ثم قال للمنذر بن عمرو وأمير الوفد : ) ( ارجع إليهم )
    [ ص: 163 ] ) ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ( 37 ) قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ( 38 ) )

    ( ارجع إليهم ) بالهدية ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم ) لا طاقة لهم ) ( بها ولنخرجنهم منها ) أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ) ( أذلة وهم صاغرون ) ذليلون إن لم يأتوني مسلمين . قال وهب وغيره من أهل الكتب : فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان ، قالت : قد عرفت - والله - ما هذا بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها ، ثم أغلقت دونه الأبواب ، ووكلت به حراسا يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي ، لا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة . قال ابن عباس : وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه ، فرأى رهجا قريبا منه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان ، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان ، قال ابن عباس : وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده . ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) أي : مؤمنين ، وقال ابن عباس : طائعين . واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها ، فقال أكثرهم : لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها ، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها . وقيل : ليريها قدرة الله - عز وجل - وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها . [ ص: 164 ]

    وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد ، فأحب أن يراه . قال ابن زيد : أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #324
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (319)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّمْلِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية38 إلى الاية 59


    ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ( 39 ) قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ( 40 ) )

    ( قال عفريت من الجن ) وهو المارد القوي ، قال وهب : اسمه كوذى وقيل : ذكوان ، قال ابن عباس : العفريت الداهية . وقال الضحاك : هو الخبيث . وقال الربيع : الغليظ ، قال الفراء : القوي الشديد ، وقيل : هو صخرة الجني ، وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) أي : من مجلسك الذي تقضي فيه ، قال ابن عباس : وكان له كل غداة مجلس يقضي فيه إلى منتهى النهار ) ( وإني عليه ) أي : على حمله ) ( لقوي أمين ) على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان : أريد أسرع من هذا . ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) واختلفوا فيه فقال بعضهم هو جبريل . وقيل : هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام . وقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخياء ، وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى . وروى جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن آصف قال لسليمان حين صلى : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد سليمان عينيه ، فنظر نحو اليمين ، ودعا آصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون به خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان . [ ص: 165 ]

    وقال الكلبي : خر آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان . وقيل : كانت المسافة مقدار شهرين . واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف ، فقال مجاهد ، ومقاتل : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الكلبي : يا حي يا قيوم . وروي ذلك عن عائشة . وروي عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان ، قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفهما : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سليمان : هات ، قال : أنت النبي ابن النبي ، وليس أحد أوجه عند الله منك ، فإن دعوت الله وطلبت إليه كان عندك ، فقال : صدقت ، ففعل ذلك ، فجيء بالعرش في الوقت .

    وقوله تعالى : ( قبل أن يرتد إليك طرفك ) قال سعيد بن جبير : يعني : من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك . قال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر . وقال مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا . وقال وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه ، حتى أمثله بين يديك ) ( فلما رآه ) يعني : رأى سليمان العرش ) ( مستقرا عنده ) محمولا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ) نعمته ) ( أم أكفر ) فلا أشكرها ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) أي : يعود نفع شكره إليه ، وهو أن يستوجب به تمام النعمة ودوامها ، لأن الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة ( ومن كفر فإن ربي غني ) عن شكره ) ( كريم ) بالإفضال على من يكفر نعمه .
    ( قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ( 41 ) )

    قوله تعالى : ( قال نكروا لها عرشها ) يقول : غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته ، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص ، وروي أنه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله ، وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر ) ( ننظر أتهتدي ) إلى عرشها فتعرفه ) ( أم تكون من ) الجاهلين ) ( الذين لا يهتدون ) إليه ، وإنما حمل سليمان على ذلك كما ذكره وهب ومحمد بن كعب [ ص: 166 ] وغيرهما : أن الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن وذلك أن أمها كانت جنية ، وإذا ولدت له ولدا لا ينفكون من تسخير سليمان وذريته من بعده ، فأساؤا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، وقالوا : إن في عقلها شيئا وإن رجلها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح .
    ( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ( 42 ) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ( 43 ) )

    ( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو ) قال مقاتل : عرفته لكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها . وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل : نعم ، خوفا من أن تكذب ، ولم تقل : لا خوفا من التكذيب ، قالت : كأنه هو ، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر . وقيل اشتبه عليها أمر العرش ، لأنها تركته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها ، وقيل لها : فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب ، فقال : ( وأوتينا العلم ) بصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدية والرسل ، ( من قبلها ) من قبل الآية في العرش ( وكنا مسلمين ) منقادين طائعين لأمر سليمان . وقيل قوله : وأوتينا العلم من قبلها قاله سليمان ، يقول : وأوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة ، وكنا مسلمين ، هذا قول مجاهد . وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله - عز وجل - . قوله - عز وجل - : ( وصدها ما كانت تعبد من دون الله ) أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله ، وهو الشمس ، أن تعبد الله ، أي : صدها عبادة الشمس عن التوحيد وعبادة الله ، فعلى هذا التأويل يكون " ما " في محل الرفع . [ ص: 167 ]

    وقيل : معناه صدها عن عبادة الله لا نقصان عقلها كما قالت الجن : إن في عقلها شيئا ، بل كانت تعبد من دون الله . وقيل : معناه وصدها سليمان ما كانت تعبد من دون الله ، أي : منعها ذلك وحال بينها وبينه ، فيكون محل " ما " نصبا . ( إنها كانت من قوم كافرين ) هذا استئناف ، أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس ، فنشأت بينهم ولم تعرف إلا عبادة الشمس .
    ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( 44 ) )

    قوله - عز وجل - : ( قيل لها ادخلي الصرح ) الآية ، وذلك أن سليمان أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها من غير أن يسألها كشفها ، لما قالت الشياطين : إن رجليها كحافر الحمار ، وهي شعراء الساقين ، أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي : قصرا من زجاج ، وقيل بيتا من زجاج كأنه الماء بياضا ، وقيل : الصرح صحن الدار ، وأجرى تحته الماء ، وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ، ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس . وقيل : اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع ، فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء . وقيل : إنما بنى الصرح ليختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف فلما جلس على السرير دعا بلقيس ، فلما جاءت قيل لها ادخلي الصرح . [ ص: 168 ]

    ( فلما رأته حسبته لجة ) وهي معظم الماء ، ( وكشفت عن ساقيها ) لتخوضه إلى سليمان ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس قدما وساقا إلا أنها كانت شعراء الساقين ، فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنه وناداها ( قال إنه صرح ممرد ) مملس مستو ، ( من قوارير ) وليس بماء ، ثم إن سليمان دعاها إلى الإسلام ، وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت ، و ( قالت رب إني ظلمت نفسي ) بالكفر . وقال مقاتل : لما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله فقالت : رب إني ظلمت نفسي بعبادة غيرك ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي : أخلصت له التوحيد . وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة ، قالت في نفسها : إن سليمان يريد أن يغرقني ، وكان القتل علي أهون من هذا ، فقولها : " ظلمت نفسي " تعني بذلك الظن .

    واختلفوا في أمرها بعد إسلامها ، قال عون بن عبد الله : سأل رجل عبد الله بن عتبة : هل تزوجها سليمان ؟ قال : انتهى أمرها إلى قولها : أسلمت مع سليمان لله رب العالمين ، يعني : لا علم لنا وراء ذلك . وقال بعضهم : تزوجها ، ولما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها ، فسأل الإنس : ما يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، فقالت المرأة : لم تمسني حديدة قط ، فكره سليمان الموسى ، وقال : إنها تقطع ساقيها ، فسأل الجن فقالوا : لا ندري ، ثم سأل الشياطين فقالوا : إنا نحتال لك حيلة حتى تكون كالفضة البيضاء ، فاتخذوا النورة والحمام ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا ، وأقرها على ملكها ، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، وهي : سلحين وبينون وعمدان . ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيام ، يبتكر من الشام إلى اليمن ، ومن اليمن إلى الشام ، وولدت له فيما ذكر وروي عن وهب قال : زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان : اختاري رجلا من قومك أزوجكه ، قالت : ومثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان ؟ قال : نعم ، إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ، ولا ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله لك ، فقالت : زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همذان فزوجه إياها ، ثم ردها إلى اليمن ، وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ، ودعا زوبعة أمير جن اليمن ، فقال : اعمل لذي تبع ما [ ص: 169 ] استعملك فيه ، فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ، فلما أن حال الحول ، وتبينت الجن موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته : يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات ، فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا ، وانقضى ملك ذي تبع ، وملك بلقيس مع ملك سليمان . وقيل : إن الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة .
    ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ( 45 ) قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ( 46 ) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون ( 47 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن ) أي : أن ( اعبدوا الله ) وحده ، ( فإذا هم فريقان ) مؤمن وكافر ( يختصمون ) في الدين ، قال مقاتل : واختصامهم ما ذكر في سورة الأعراف : " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم " ، إلى قوله : " يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " ( الأعراف - 75 - 77 ) . ( فقال ) لهم صالح ، ( يا قوم لم تستعجلون بالسيئة ) بالبلاء والعقوبة ، ( قبل الحسنة ) العافية والرحمة ، ( لولا ) هلا ( تستغفرون الله ) بالتوبة من كفركم ، ( لعلكم ترحمون ) ( قالو اطيرنا ) أي : تشاءمنا ، وأصله : تطيرنا ، ( بك وبمن معك ) قيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم . وقيل : لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا ، فقالوا : أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك . ( قال طائركم عند الله ) أي : ما يصيبكم من الخير والشر عند الله بأمره ، وهو مكتوب عليكم ، سمي طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم . قال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله لكفركم . وقيل : طائركم أي : عملكم عند الله ، سمي طائرا لسرعة صعوده إلى السماء . ( بل أنتم قوم تفتنون ) قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشر ، نظيره قوله تعالى : " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " ( الأنبياء - 35 ) ، وقال محمد بن كعب القرظي : تعذبون .
    [ ص: 170 ] ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( 48 ) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ( 49 ) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ( 50 ) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ( 51 ) )

    قوله تعالى : ( وكان في المدينة ) يعني : مدينة ثمود ، وهي الحجر ، ( تسعة رهط ) من أبناء أشرافهم ، ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) وهم الذين اتفقوا على عقر الناقة ، وهم غواة قوم صالح ، ورأسهم قدار بن سالف ، وهو الذي تولى عقرها ، كانوا يعملون بالمعاصي . قالوا ( تقاسموا بالله ) تحالفوا ، يقول بعضهم لبعض : أي : احلفوا بالله أيها القوم . وموضع " تقاسموا " جزم على الأمر ، وقال قوم : محله نصب على الفعل الماضي ، يعني : أنهم تحالفوا وتواثقوا ، تقديره : قالوا متقاسمين بالله ، ( لنبيتنه ) أي : لنقتلنه بياتا أي : ليلا ( وأهله ) أي : وقومه الذين أسلموا معه ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي " لتبيتنه " و " لتقولن " بالتاء فيهما وضم لام الفعل على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالنون فيهما وفتح لام الفعل ، ( ثم لنقولن لوليه ) أي : لولي دمه ، ( ما شهدنا ) ما حضرنا ، ( مهلك أهله ) أي : إهلاكهم ، ولا ندري من قتله ، ومن فتح الميم فمعناه هلاك أهله ، ( وإنا لصادقون ) في قولنا ما شهدنا ذلك . ( ومكروا مكرا ) غدروا غدرا حين قصدوا تبييت صالح والفتك به ، ( ومكرنا مكرا ) جزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم ، ( وهم لا يشعرون ) ( فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا ) قرأ أهل الكوفة " أنا " بفتح الألف ردا على العاقبة ، أي : كانت العاقبة أنا دمرناهم ، وقرأ الآخرون : " إنا " بالكسر على الاستئناف ، ( دمرناهم ) أي : أهلكناهم التسعة . واختلفوا في كيفية هلاكهم ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم ، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة ، فقتلهم . قال مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم . ( وقومهم أجمعين ) أهلكهم الله بالصيحة .
    ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ( 52 ) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 53 ) ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ( 54 ) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون ( 55 ) ) ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ( 56 ) فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ( 57 ) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ( 58 ) قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون ( 59 ) )

    ( فتلك بيوتهم خاوية ) نصب على الحال أي : خالية ، ( بما ظلموا ) أي : بظلمهم وكفرهم ، [ ص: 171 ] ( إن في ذلك لآية ) لعبرة ، ( لقوم يعلمون ) قدرتنا . ( وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) يقال : كان الناجون منهم أربعة آلاف . قوله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ) وهي الفعلة القبيحة ، ( وأنتم تبصرون ) أي : تعلمون أنها فاحشة . وقيل : معناه يرى بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون عتوا منهم . ( أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) من أدبار الرجال . ( فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها ) قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا ، ( من الغابرين ) أي : الباقين في العذاب . ( وأمطرنا عليهم مطرا ) وهو الحجارة ، ( فساء ) فبئس ، ( مطر المنذرين ) قوله تعالى : ( قل الحمد لله ) هذا خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يحمد الله على هلاك كفار الأمم الخالية . وقيل : على جميع نعمه . ( وسلام على عباده الذين اصطفى ) قال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون دليله قوله - عز وجل - : " وسلام على المرسلين " . [ ص: 172 ]

    وقال ابن عباس في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال الكلبي : هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين ( آلله خير أم ما يشركون ) قرأ أهل البصرة وعاصم : ( يشركون ) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، يخاطب أهل مكة ، وفيه إلزام الحجة على المشركين بعد هلاك الكفار ، يقول : آلله خير لمن عبده ، أم الأصنام لمن عبدها ؟ والمعنى : أن الله نجى من عبده من الهلاك ، والأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #325
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (320)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النَّمْلِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية60 إلى الاية 87


    ( أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون ( 60 ) أم من جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ( 61 ) )

    ( أمن خلق السماوات والأرض ) معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السماوات والأرض ، ( وأنزل لكم من السماء ماء ) يعني المطر ، ( فأنبتنا به حدائق ) ؟ بساتين جمع حديقة ، قال الفراء : الحديقة البستان المحاط عليه ، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ، ( ذات بهجة ) أي : منظر حسن ، والبهجة : الحسن يبتهج به من يراه ، ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) أي : ما ينبغي لكم ، لأنكم لا تقدرون عليها . ( أإله مع الله ) استفهام على طريق الإنكار ، أي : هل معه معبود سواه أعانه على صنعه ؟ بل ليس معه إله . ( بل هم قوم ) يعني كفار مكة ، ( يعدلون ) يشركون . ( أمن جعل الأرض قرارا ) لا تميد بأهلها ، ( وجعل خلالها ) وسطها ( أنهارا ) تطرد بالمياه ، ( وجعل لها رواسي ) جبالا ثوابت ، ( وجعل بين البحرين ) العذب والمالح ، ( حاجزا ) [ ص: 173 ] مانعا لئلا يختلط أحدهما بالآخر ، ( أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ) توحيد ربه وسلطانه .
    ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ( 62 ) أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ( 63 ) ( أم من يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( 64 ) قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ( 65 ) )

    ( أمن يجيب المضطر ) المكروب المجهود ، ( إذا دعاه ويكشف السوء ) الضر ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) سكانها يهلك قرنا وينشئ آخر . وقيل : يجعل أولادكم خلفاءكم وقيل : جعلكم خلفاء الجن في الأرض . ( أإله مع الله قليلا ما تذكرون ) قرأ أبو عمرو بالياء والآخرون بالتاء . ( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ) إذا سافرتم ، ( ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) أي : قدام المطر ، ( أإله مع الله تعالى الله عما يشركون أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ) بعد الموت ، ( ومن يرزقكم من السماء والأرض ) أي : من السماء المطر ومن الأرض النبات . ( أإله مع الله قل هاتوا برهانكم ) حجتكم على قولكم أن مع الله إلها آخر . ( إن كنتم صادقين ) ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) نزلت في المشركين حيث سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقت قيام الساعة ( وما يشعرون أيان يبعثون )
    [ ص: 174 ] ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ( 66 ) وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ( 67 ) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( 68 ) )

    ( بل ادارك علمهم ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : " أدرك " على وزن أفعل أي : بلغ ولحق ، كما يقال : أدركه علمي إذا لحقه وبلغه ، يريد : ما جهلوا في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة . قال مجاهد : يدرك علمهم ، ( في الآخرة ) ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم . قال مقاتل : بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وهو قوله : ( بل هم في شك منها ) يعني : هم اليوم في شك من الساعة ، وقرأ الآخرون : " بل ادارك " موصولا مشددا مع ألف بعد الدال المشددة ، أي : تدارك وتتابع علمهم في الآخرة وتلاحق . وقيل : معناه اجتمع علمهم في الآخرة أنها كائنة ، وهم في شك في وقتهم ، فيكون بمعنى الأول . وقيل : هو على طريق الاستفهام ، معناه : هل تدارك وتتابع علمهم بذلك في الآخرة ؟ أي : لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه ، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد يدل عليه . قراءة ابن عباس " بلى " بإثبات الياء ، " أدارك " بفتح الألف على الاستفهام ، أي : لم يدرك ، وفي حرف أبي " أم تدارك علمهم " ، والعرب تضع " بل " موضع " أم " و " أم " موضع " بل " وجملة القول فيه : أن الله أخبر أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يستوي علمهم في الآخرة وما وعدوا فيها من الثواب والعقاب ، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا . وذكر علي بن عيسى أن معنى " بل " هاهنا : " لو " ومعناه : لو أدركوا في الدنيا ما أدركوا في الآخرة لم يشكوا .

    قوله - عز وجل - : ( بل هم في شك منها ) بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة . ( بل هم منها عمون ) جمع عم ، وهو أعمى القلب . قال الكلبي : يقول هم جهلة بها . ( وقال الذين كفروا ) يعني مشركي مكة ، ( أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ) من قبورنا أحياء ، قرأ أهل المدينة : " إذا " غير مستفهم ، " أئنا " بالاستفهام ، وقرأ ابن عامر ، والكسائي : " أإذا " بهمزتين ، " أإننا " بنونين ، وقرأ الآخرون باستفهامها . ( لقد وعدنا هذا ) أي : هذا البعث ، ( نحن وآباؤنا من قبل ) أي : من قبل محمد ، [ ص: 175 ] وليس ذلك بشيء ( إن هذا ) ما هذا ، ( إلا أساطير الأولين ) أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها .
    ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ( 69 ) ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( 70 ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( 71 ) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ( 72 ) وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ( 73 ) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ( 74 ) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ( 75 ) إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ( 76 ) )

    ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ) ( ولا تحزن عليهم ) على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة . ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف ) أي : دنا وقرب ، ( لكم ) وقيل : تبعكم ، والمعنى : ردفكم ، أدخل اللام كما أدخل في قوله " لربهم يرهبون " ( الأعراف - 154 ) ، قال الفراء : اللام صلة زائدة ، كما تقول : نقدته مائة ، ونقدت له ( بعض الذي تستعجلون ) من العذاب ، فحل بهم ذلك يوم بدر . ( وإن ربك لذو فضل على الناس ) قال مقاتل : على أهل مكة حيث لم يعجل عليهم العذاب ، ( ولكن أكثرهم لا يشكرون ) ذلك . ( وإن ربك ليعلم ما تكن ) ما تخفي ( صدورهم وما يعلنون ) ( وما من غائبة ) أي : جملة غائبة من مكتوم سر ، وخفي أمر ، وشيء غائب ، ( في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) أي : في اللوح المحفوظ . ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ) أي : يبين لهم ، ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) من أمر الدين ، قال الكلبي : إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على [ ص: 176 ] بعض ، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه .
    ( وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ( 77 ) إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ( 78 ) فتوكل على الله إنك على الحق المبين ( 79 ) إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( 80 ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( 81 ) )

    ( وإنه ) يعني القرآن ، ( لهدى ورحمة للمؤمنين ) ( إن ربك يقضي ) يفصل ( بينهم ) أي : بين المختلفين في الدين يوم القيامة ، ( بحكمه ) الحق ، ( وهو العزيز ) المنيع فلا يرد له أمر ، ( العليم ) بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء . ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) البين . ( إنك لا تسمع الموتى ) يعني الكفار ، ( ولا تسمع الصم الدعاء ) قرأ ابن كثير : " لا يسمع " بالياء وفتحها وفتح الميم " الصم " رفع ، وكذلك في سورة الروم ، وقرأ الباقون بالتاء وضمها وكسر الميم ، " الصم " نصب . ( إذا ولوا مدبرين ) معرضين . فإن قيل ما معنى قوله : ( ولوا مدبرين ) وإذا كانوا صما لا يسمعون سواء ولوا أو لم يولوا ؟ . قيل ذكره : على سبيل التأكيد والمبالغة . وقيل : الأصم إذا كان حاضرا فقد يسمع برفع الصوت ويفهم بالإشارة ، فإذا ولى لم يسمع ولم يفهم . قال قتادة : الأصم إذا ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان . ومعنى الآية : أنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه ، والأصم الذي لا يسمع . ( وما أنت بهادي العمي ) قرأ الأعمش ، وحمزة : " تهدي " بالتاء وفتحها على الفعل " العمي " بنصب الياء هاهنا وفي الروم . وقرأ الآخرون بهادي بالباء على الاسم ، " العمي " بكسر الياء ، ( عن ضلالتهم ) أي : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى قلبه عن الإيمان ، ( إن تسمع ) ما تسمع ، ( إلا من يؤمن بآياتنا ) إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله ، ( فهم مسلمون ) مخلصون .
    [ ص: 177 ] ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ( 82 ) )

    قوله تعالى : ( وإذا وقع القول عليهم ) وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم ، ( أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ) واختلفوا في كلامها ، فقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقال بعضهم : كلامها أن تقول لواحد : هذا مؤمن ، وتقول لآخر : هذا كافر . وقيل كلامها ما قال الله تعالى : ( أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) قال مقاتل تكلمهم بالعربية ، فتقول : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث .

    قرأ أهل الكوفة : " أن الناس " بفتح الألف ، أي : بأن الناس ، وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف ، أي : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون قبل خروجها . قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . وقرأ سعيد بن جبير ، وعاصم الجحدري ، وأبو رجاء العطاردي : " تكلمهم " بفتح التاء وتخفيف اللام من " الكلم " وهو الجرح . قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن هذه الآية : " تكلمهم أو تكلمهم " ؟ قال : كل ذلك تفعل ، تكلم المؤمن ، وتكلم الكافر . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخاصة أحدكم ، وأمر العامة " . أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا [ ص: 178 ] محمد بن بشر ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا " .

    وأخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن فنجويه ، أخبرنا أبو بكر بن خرجة ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي ، أخبرنا هشيم بن حماد ، أخبرنا عمرو بن محمد العبقري ، عن طلحة عن عمرو ، عن عبد الله بن عمير الليثي ، عن أبي سريحة الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية " ، يعني مكة ، " ثم تمكث زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - فبينما الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله - عز وجل - يعني المسجد الحرام - لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو " كذا قال ابن عمر ، وما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبتت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي ؟ فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ، ويشتركون في الأموال ، يعرف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن : يا مؤمن ، ويقال للكافر : يا كافر "

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسن بن محمد ، أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، أخبرنا أبي ، حدثنا بهز ، حدثنا حماد ، هو ابن أبي سلمة ، أخبرنا علي بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر [ ص: 179 ] بالخاتم ، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر " . وروي عن علي قال : ليست بدابة لها ذنب ، ولكن لها لحية ، كأنه يشير إلى أنه رجل والأكثرون على أنها دابة . وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا ، ومعها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضيء بها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت وجهه بخاتم سليمان فيسود بها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم يا مؤمن ؟ بكم يا كافر ؟ ثم تقول لهم الدابة : يا فلان أنت من أهل الجنة ، ويا فلان أنت من أهل النار ، فذلك قوله - عز وجل - : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض ) الآية .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني عقيل بن محمد الجرجاني الفقيه ، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، أخبرنا أبو كريب ، أخبرنا الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها . وبه عن محمد بن جرير الطبري قال : حدثني عصام بن داود بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن سعيد ، أخبرنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة ، قلت : يا رسول الله من أين تخرج ؟ قال : " من أعظم المساجد حرمة على الله ، بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضرب الأرض تحتهم ، وتنشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدر منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها [ ص: 180 ] طالب ولن يفوتها هارب ، تسمي الناس مؤمنا وكافرا ، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء ، وتكتب بين عينيه كافر " . وروي عن ابن عباس : أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم ، وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه . وعن عبد الله بن عمر ، قال : تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا ، فتمر بالإنسان يصلي فتقول : ما الصلاة من حاجتك ، فتخطمه .

    وعن ابن عمر قال : تخرج الدابة ليلة جمع الناس والناس يسيرون إلى منى . وعن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بئس الشعب شعب أجياد " ، مرتين أو ثلاثا ، قيل : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : " تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين " وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير ، فتخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون .
    ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ( 83 ) حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ( 84 ) )

    قوله تعالى : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ) أي : من كل قرن جماعة ، ( ممن يكذب بآياتنا ) وليس " من " هاهنا للتبعيض ، لأن جميع المكذبين يحشرون ، ( فهم يوزعون ) يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى النار . ( حتى إذا جاءوا ) يوم القيامة ، ( قال ) الله لهم : ( أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ) ولم تعرفوها حق معرفتها ، ( أم ماذا كنتم تعملون ) حين لم تفكروا فيها . ومعنى الآية : أكذبتم [ ص: 181 ] بآياتي غير عالمين بها ، ولم تفكروا في صحتها بل كذبتم بها جاهلين ؟
    ( ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ( 85 ) ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 86 ) ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين ( 87 ) )

    ( ووقع القول ) وجب العذاب ، ( عليهم بما ظلموا ) بما أشركوا ، ( فهم لا ينطقون ) قال قتادة : كيف ينطقون ولا حجة لهم ، نظيره قوله تعالى : " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " ( المرسلات - 36 ) ، وقيل : لا ينطقون لأن أفواههم مختومة . قوله - عز وجل - : ( ألم يروا أنا جعلنا ) خلقنا ( الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ) مضيئا يبصر فيه ، ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) يصدقون فيعتبرون .

    قوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل ، وقال الحسن : الصور هو القرن ، وأول بعضهم كلامه أن الأرواح تجمع في القرن ثم ينفخ فيه فتذهب الأرواح إلى الأجساد فتحيا الأجساد . وقوله : ( ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) أي : فصعق ، كما قال في آية أخرى : " فصعق من في السماوات ومن في الأرض " ( الزمر - 68 ) ، أي : ماتوا ، والمعنى أنهم يلقى عليهم الفزع إلى أن يموتوا . وقيل : ينفخ إسرافيل في الصور . ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين . قوله : ( إلا من شاء الله ) اختلفوا في هذا الاستثناء ، روي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عن قوله : ( إلا من شاء الله ) قال : هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش .

    وروى سعيد بن جبير ، وعطاء عن ابن عباس : هم الشهداء لأنهم أحياء عند ربهم لا يصل [ ص: 182 ] الفزع إليهم . وفي بعض الآثار : " الشهداء ثنية الله - عز وجل - " أي : الذين استثناهم الله تعالى . وقال الكلبي ، ومقاتل : يعني جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، فلا يبقى بعد النفخة إلا هؤلاء الأربعة ، ثم يقبض الله روح ميكائيل ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت ، ثم روح جبريل فيكون آخرهم موتا جبريل عليه السلام . .

    ويروى أن الله تعالى يقول لملك الموت : خذ نفس إسرافيل ، ثم يقول : من بقي يا ملك الموت ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ، بقي جبريل وميكائيل وملك الموت ، فيقول : خذ نفس ميكائيل ، فيأخذ نفسه ، فيقع كالطود العظيم ، فيقول : من بقي ؟ فيقول : سبحانك ربي تباركت وتعاليت ، بقي جبريل وملك الموت ، فيقول : مت يا ملك الموت ، فيموت ، فيقول : يا جبريل من بقي ؟ فيقول : تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبريل الميت الفاني ، قال : فيقول يا جبريل لا بد من موتك ، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه فيروى أن فضل خلقه على فضل ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب . ويروى أنه يبقى مع هؤلاء الأربعة حملة العرش فيقبض روح جبريل وميكائيل ، ثم أرواح حملة العرش ، ثم روح إسرافيل ، ثم روح ملك الموت .

    أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن علي الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يرفع رأسه ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان ممن استثنى الله - عز وجل - أم رفع رأسه قبلي ؟ ومن قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " [ ص: 183 ]

    قال الضحاك : هم رضوان ، والحور ، ومالك ، والزبانية . وقيل : عقارب النار وحياتها . قوله - عز وجل - : ( وكل ) أي : الذين أحيوا بعد الموت ، ( أتوه ) قرأ الأعمش ، وحمزة ، وحفص : " أتوه " مقصورا بفتح التاء على الفعل ، أي : جاءوه ، وقرأ الآخرون بالمد وضم التاء كقوله تعالى : " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " ( مريم - 95 ) ، ( داخرين ) صاغرين .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #326
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (321)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْقَصَصِ
    مَكِّيَّةٌ
    الاية1 إلى الاية 14


    ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ( 88 ) ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ( 89 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وترى الجبال تحسبها جامدة ) قائمة واقفة ، ( وهي تمر مر السحاب ) أي : تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض . فتستوي بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر ، كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمتها ، كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر ، ( صنع الله ) نصب على المصدر ، ( الذي أتقن كل شيء ) أي : أحكم ، ( إنه خبير بما تفعلون ) قرأ ابن كثير ، وأهل البصرة : بالياء والباقون بالتاء . ( من جاء بالحسنة ) بكلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ولا يستثني : أن الحسنة لا إله إلا الله . وقال قتادة : بالإخلاص . وقيل : هي كل طاعة ( فله خير منها ) قال ابن عباس : فمنها يصل الخير إليه ، يعني : له من تلك الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب ، أما أن يكون له شيء خير من الإيمان فلا لأنه ليس شيء خيرا من قوله لا إله إلا الله . وقيل : فله خير منها يعني : رضوان الله ، قال تعالى : " ورضوان من الله أكبر " ( التوبة - 72 ) ، وقال محمد بن كعب ، وعبد الرحمن بن زيد : " فله خير منها " يعني : [ ص: 184 ] الأضعاف ، أعطاه الله تعالى بالواحدة عشرا فصاعدا وهذا حسن لأن للأضعاف خصائص ، منها : أن العبد يسأل عن عمله ولا يسأل عن الأضعاف ، ومنها : أن للشيطان سبيلا إلى عمله وليس له سبيل إلى الأضعاف ، ولا مطمع للخصوم في الأضعاف ، ولأن الحسنة على استحقاق العبد والتضعيف كما يليق بكرم الرب تبارك وتعالى . ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) قرأ أهل الكوفة : " من فزع " بالتنوين " يومئذ " بفتح الميم ، وقرأ الآخرون بالإضافة لأنه أعم فإنه يقتضي الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وبالتنوين كأنه فزع دون فزع ، ويفتح أهل المدينة الميم من يومئذ .
    ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ( 90 ) إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين ( 91 ) وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ( 92 ) وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ( 93 ) )

    ( ومن جاء بالسيئة ) يعني الشرك ، ( فكبت وجوههم في النار ) يعني ألقوا على وجوههم ، يقال : كببت الرجل : إذا ألقيته على وجهه ، فانكب وأكب ، وتقول لهم خزنة جهنم : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) في الدنيا من الشرك . قوله تعالى : ( إنما أمرت ) يقول الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - قل إنما أمرت ، (أن أعبد رب هذه البلدة ) يعني : مكة ، ( الذي حرمها ) جعلها الله حرما آمنا ، لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصاد صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ( وله كل شيء ) خلقا وملكا ، ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) لله . ( وأن أتلو القرآن ) يعني : وأمرت أن أتلو القرآن ، ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) أي : نفع اهتدائه يرجع إليه ، ( ومن ضل ) عن الإيمان وأخطأ عن طريق الهدى ، ( فقل إنما أنا من المنذرين ) من المخوفين فليس علي إلا البلاغ . نسختها آية القتال . ( وقل الحمد لله ) على نعمه ، ( سيريكم آياته ) يعني : يوم بدر ، من القتل والسبي وضرب [ ص: 185 ] الملائكة وجوههم وأدبارهم ، نظيره قوله - عز وجل - : " سأريكم آياتي فلا تستعجلون " ( الأنبياء - 37 ) ، وقال مجاهد سيريكم آياته في السماء والأرض وفي أنفسكم ، كما قال : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم " ( فصلت - 53 ) ، ( فتعرفونها ) يعني : تعرفون الآيات والدلالات ، ( وما ربك بغافل عما تعملون ) وعدهم بالجزاء على أعمالهم .
    سُورَةُ الْقَصَصِ

    سُورَةُ الْقَصَصِ

    مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) وَفِيهَا آيَةٌ نَزَلَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 ) )

    ( طسم )

    ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ) بِالصِّدْقِ ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ .

    ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا ) اسْتَكْبَرَ وَتَجَبَّرَ وَتَعَظَّمَ ( فِي الْأَرْضِ ) أَرْضِ مِصْرَ ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) فِرَقًا وَأَصْنَافًا فِي الْخِدْمَةِ وَالتَّسْخِيرِ ( يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ ) أَرَادَ بِالطَّائِفَةِ : بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ فَسَّرَ الِاسْتِضْعَافَ فَقَالَ : ( يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) سَمَّى هَذَا اسْتِضْعَافًا ؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا وَضَعُفُوا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ( إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )
    [ ص: 190 ] ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ( 5 ) ( ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ( 6 ) وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( 7 ) )

    ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ) يعني : بني إسرائيل ، ( ونجعلهم أئمة ) قادة في الخير يقتدى بهم . وقال قتادة : ولاة وملوكا ، دليله : قوله - عز وجل - : " وجعلكم ملوكا " ( المائدة - 20 ) . وقال مجاهد : دعاة إلى الخير . ( ونجعلهم الوارثين ) يعني : أملاك فرعون وقومه يخلفونهم في مساكنهم .

    ( ونمكن لهم في الأرض ) نوطن لهم في أرض مصر والشام ، ونجعلها لهم مكانا يستقرون فيه ، ( ونري فرعون وهامان وجنودهما ) قرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي : " ويرى " بالياء وفتحها ، ( فرعون وهامان وجنودهما ) مرفوعات على أن الفعل لهم ، وقرأ الآخرون بالنون وضمها ، وكسر الراء ، ونصب الياء ونصب ما بعده بوقوع الفعل عليه ، ( منهم ما كانوا يحذرون ) والحذر هو التوقي من الضرر ، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يد رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل منه ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون .

    ( وأوحينا إلى أم موسى ) وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب ، ( أن أرضعيه ) واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل : ثمانية أشهر . وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو لا يبكي ولا يتحرك ، ( فإذا خفت عليه ) يعني : من الذبح ، ( فألقيه في اليم ) واليم : البحر ، وأراد هاهنا النيل ، ( ولا تخافي ) قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، ( ولا تحزني ) على فراقه ، ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال . [ ص: 191 ] إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم على يد نبيه . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضرب بها الطلق أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فلينفعني حبك إياي اليوم ، قالت : فعالجت قبالتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها . ثم قالت لها : يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومن رأيي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حبا ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاءوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع .

    قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - النار عليه بردا وسلاما ، فاحتملته . قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في نفسها أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتا صغيرا ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ؟ قالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب . قال ولم تقل : أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول . فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق - أيضا - يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئا ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل الله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيث ما كان ، فعرف الله منه الصدق فرد عليه لسانه وبصره فخر لله [ ص: 192 ] ساجدا ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح ، فدله الله عليه ، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله - عز وجل - . وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتشن النساء تفتيشا لم يفتشن قبل ذلك مثله . وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها " أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه " الآية ، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها ، لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتا له مطبقا ثم ألقته في البحر ليلا .

    قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها ، فقالوا له : أيها الملك لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ايتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبنا ، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله ، فهم فرعون بقتله . قالت آسية : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو [ ص: 193 ] لك لهداه الله كما هداها " . فقيل لآسية سميه فقالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فمو هو الماء ، وسي هو الشجر فذلك قوله - عز وجل - : ( فالتقطه آل فرعون )
    ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ( 8 ) وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ( 9 ) )

    ( فالتقطه آل فرعون ) والالتقاط هو وجود الشيء من غير طلب ، ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) وهذه اللام تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة ؛ لأنهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن صار عاقبة أمرهم إلى ذلك . قرأ حمزة والكسائي : " حزنا " بضم الحاء وسكون الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، وهما لغتان ، ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) عاصين . آثمين .

    قوله تعالى : ( وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك ) قال وهب : لما وضع التابوت بين يدي فرعون فتحوه فوجد فيه موسى فلما نظر إليه قال عبراني من الأعداء فغاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح ؟ وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء ومن بنات الأنبياء وكانت أما للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم . قالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن يذبح الولدان لهذه السنة فدعه يكون قرة عين لي وذلك ، ( لا تقتلوه ) وروي أنها قالت له : إنه أتانا من أرض أخرى ليس من بني إسرائيل ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ) أن هلاكهم على يديه ، فاستحياه فرعون ، وألقى الله عليه محبته وقال لامرأته : عسى أن ينفعك فأما أنا فلا أريد نفعه . قال وهب قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لو أن عدو الله قال في موسى كما قالت آسية : عسى أن ينفعنا لنفعه الله ، ولكنه أبى ؛ للشقاء الذي كتبه الله عليه .
    [ ص: 194 ] ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ( 10 ) وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ( 11 ) )

    وقوله تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ) أي : خاليا من كل شيء إلا من ذكر موسى وهمه ، وهذا قول أكثر المفسرين . وقال الحسن : " فارغا " أي : ناسيا للوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهد أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان فقال : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجره وثوابه وتوليت أنت قتله فألقيته في البحر ، وأغرقته ، ولما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه في النيل قالت : إنه وقع في يد عدوه الذي فررت منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : " فارغا " أي : فارغا من الحزن ؛ لعلمها بصدق وعد الله تعالى . وأنكر القتيبي هذا ، وقال : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : " إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " ؟ والأول أصح .

    قول الله - عز وجل - : ( إن كادت لتبدي به ) قيل الهاء في " به " راجعة إلى موسى ، أي : كادت لتبدي به أنه ابنها من شدة وجدها . وقال عكرمة عن ابن عباس : كادت تقول : وابناه . وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها . وقال الكلبي : كادت تظهر أنه ابنها ، وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعدما شب : موسى بن فرعون ، فشق عليها فكادت تقول : بل هو ابني . وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي أي : كادت تبدي بالوحي الذي أوحى الله إليها أن يرده إليها . ( لولا أن ربطنا على قلبها ) بالعصمة والصبر والتثبيت ، ( لتكون من المؤمنين ) المصدقين لوعد الله حين قال لها : ( إنا رادوه إليك )

    ( وقالت لأخته ) أي : لمريم أخت موسى : ( قصيه ) اتبعي أثره حتى تعلمي خبره ، ( فبصرت به عن جنب ) أي : عن بعد ، وفي القصة أنها كانت تمشي جانبا وتنظر اختلاسا لترى أنها لا تنظره ، [ ص: 195 ] ( وهم لا يشعرون ) أنها أخته وأنها ترقبه . قال ابن عباس : إن امرأة فرعون كان همها من الدنيا أن تجد له مرضعة ، فكلما أتوا بمرضعة لم يأخذ ثديها فذلك قوله - عز وجل - : ( وحرمنا عليه المراضع )
    ( وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ( 12 ) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 13 ) ( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ( 14 ) )

    ( وحرمنا عليه المراضع ) والمراد من التحريم المنع ، والمراضع : جمع المرضع ، ( من قبل ) أي : من قبل مجيء أم موسى ، فلما رأت أخت موسى التي أرسلتها أمه في طلبه ذلك قالت لهم : هل أدلكم ؟ وفي القصة أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا ويصيح وهم في طلب مرضعة له .

    ( فقالت ) يعني أخت موسى : ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه ) أي : يضمنونه ( لكم ) ويرضعونه ، وهي امرأة قد قتل ولدها فأحب شيء إليها أن تجد صغيرا ترضعه ، ( وهم له ناصحون ) والنصح ضد الغش ، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد . قالوا : نعم فأتينا بها . قال ابن جريج والسدي : لما قالت أخت موسى : " وهم له ناصحون " أخذوها وقالوا : إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله . فقالت : ما أعرفه ، وقلت : هم للملك ناصحون . وقيل : إنها قالت : إنما قلت هذا رغبة في سرور الملك واتصالنا به . وقيل إنها لما قالت : " هل أدلكم على أهل بيت " قالوا لها : من ؟ قالت : أمي قالوا : ولأمك ابن ؟ قالت : نعم هارون ، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها . قالوا : صدقت ، فأتينا بها ، فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها ، وجاءت بها إليهم ، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها ، وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه ريا . قال السدي : كانوا يعطونها كل يوم دينارا فذلك قوله تعالى : ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها )

    ( فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ) برد موسى إليها ، ( ولا تحزن ) أي : ولئلا تحزن . ( ولتعلم أن وعد الله حق ) برده إليها . ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن الله وعدها رده إليها .

    ( ولما بلغ أشده ) قال الكلبي : الأشد ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . قال مجاهد [ ص: 196 ] وغيره : ثلاث وثلاثون سنة . ( واستوى ) أي : بلغ أربعين سنة ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقيل : استوى انتهى شبابه ( آتيناه حكما وعلما ) أي : الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا ، ( وكذلك نجزي المحسنين )
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #327
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (322)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْقَصَصِ
    مَكِّيَّةٌ
    الاية15 إلى الاية 28


    ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ( 15 ) )

    قوله تعالى : ( ودخل المدينة ) يعني : دخل موسى المدينة . قال السدي : هي مدينة " منف " من أرض مصر . وقال مقاتل : كانت قرية " حابين " على رأس فرسخين من مصر . وقيل : مدينة " عين الشمس " ، ( على حين غفلة من أهلها ) وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة . وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء . واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت . قال السدي : وذلك أن موسى - عليه السلام - كان يسمى : ابن فرعون ، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض " منف " فدخلها نصف النهار ، وليس في طرفها أحد ، فذلك قوله - عز وجل - : ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) قال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها . وقال ابن زيد : لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره ، فأراد فرعون قتله ، قالت امرأته : هو صغير ، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها يعني : عن ذكر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به .

    [ ص: 197 ]

    وروي عن علي في قوله : " حين غفلة " كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم . ( فوجد فيها رجلين يقتتلان ) يختصمان ويتنازعان ، ( هذا من شيعته ) بني إسرائيل ، ( وهذا من عدوه ) من القبط . قيل : الذي كان من شيعته : السامري . والذي من عدوه من القبط قيل : طباخ فرعون اسمه فليثون . وقيل : " هذا من شيعته . وهذا من عدوه " أي : هذا مؤمن وهذا كافر ، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع ، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم ، فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون ، ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة : طلب الغوث ، فغضب موسى واشتد غضبه ; لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى ، فقال للفرعوني : خل سبيله ، فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، فنازعه . فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك ، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، ( فوكزه موسى ) وقرأ ابن مسعود : " فلكزه موسى " ، ومعناهما واحد ، وهو الضرب بجمع الكف . وقيل : " الوكز " الضرب في الصدر " واللكز " في الظهر . وقال الفراء : معناهما واحد ، وهو الدفع . قال أبو عبيدة : الوكز الدفع بأطراف الأصابع ، وفي بعض التفاسير : عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره ، ( فقضى عليه ) أي : فقتله وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه . فندم موسى - عليه السلام - ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل ، ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) أي : بين الضلالة .
    ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ( 16 ) قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ( 17 ) )

    ( قال رب إني ظلمت نفسي ) بقتل القبطي من غير أمر ، ( فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم )

    ( قال رب بما أنعمت علي ) بالمغفرة ، ( فلن أكون ظهيرا ) عونا ، ( للمجرمين ) قال [ ص: 198 ] ابن عباس : للكافرين . وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا ، وهو قول مقاتل . قال قتادة : لن أعين بعدها على خطيئة ، قال ابن عباس : لم يستثن فابتلي به في اليوم الثاني .
    ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين ( 18 ) فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ( 19 ) وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ( 20 ) )

    ( فأصبح في المدينة ) أي : في المدينة التي قتل فيها القبطي ( خائفا ) من قتله القبطي ، ( يترقب ) ينتظر سوءا . والترقب : انتظار المكروه . قال الكلبي : ينتظر متى يؤخذ به ، ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) يستغيثه ويصيح به من بعد . قال ابن عباس : أتي فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فخذ لنا بحقنا ، فقال : ابغوا لي قاتله ومن يشهد عليه ، فلا يستقيم أن يقضي بغير بينة ، فبينما هم يطوفون لا يجدون بينة إذ مر موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا فاستغاثه على الفرعوني فصادف موسى ، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتل القبطي ، ( قال له موسى ) للإسرائيلي : ( إنك لغوي مبين ) ظاهر الغواية قاتلت بالأمس رجلا فقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه ؟ وقيل : إنما قال موسى للفرعوني : إنك لغوي مبين بظلمك ، والأول أصوب ، وعليه الأكثرون أنه قال ذلك للإسرائيلي .

    ( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما ) وذلك أن موسى أدركته الرقة بالإسرائيلي فمد يده ليبطش بالفرعوني ، فظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه وسمع قوله : إنك لغوي مبين ، ( قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد ) ما تريد ، ( إلا أن تكون جبارا في الأرض ) بالقتل ظلما ، ( وما تريد أن تكون من المصلحين ) فلما سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني ، فانطلق إلى فرعون وأخبره بذلك ، وأمر فرعون بقتل موسى . قال ابن عباس : فلما أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم .

    ( وجاء رجل ) من شيعة موسى ، ( من أقصى المدينة ) أي : من آخرها ، قال أكثر أهل التأويل : اسمه " حزبيل " مؤمن من آل فرعون ، وقيل : اسمه " شمعون " ، وقيل : " شمعان " ، ( يسعى ) [ ص: 199 ] أي : يسرع في مشيه ، فأخذ طريقا قريبا حتى سبق إلى موسى فأخبره وأنذره حتى أخذ طريقا آخر ، ( قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ) يعني : أشراف قوم فرعون يتشاورون فيك ، ( ليقتلوك ) قال الزجاج : يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، ( فاخرج ) من المدينة ، ( إني لك من الناصحين ) في الأمر لك بالخروج .
    ( فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ( 21 ) ( ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ( 22 ) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ( 23 ) )

    ( فخرج منها ) موسى ، ( خائفا يترقب ) أي : ينتظر الطلب ، ( قال رب نجني من القوم الظالمين ) الكافرين ، وفي القصة : أن فرعون بعث في طلبه حين أخبر بهربه فقال اركبوا ثنيات الطريق فإنه لا يعرف كيف الطريق .

    ( ولما توجه تلقاء مدين ) أي : قصد نحوها ماضيا إليها ، يقال : داره تلقاء دار فلان ، إذا كانت في محاذاتها ، وأصله من اللقاء ، قال الزجاج : يعني سلك الطريق الذي تلقاء مدين فيها ، ومدين هو مدين بن إبراهيم ، سميت البلدة باسمه ، وكان موسى قد خرج خائفا بلا ظهر ولا حذاء ولا زاد ، وكانت مدين على مسيرة ثمانية أيام من مصر ، ( قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) أي : قصد الطريق إلى مدين ، قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها قبل ، فلما دعا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به إلى مدين . قال المفسرون : خرج موسى من مصر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر والبقل ، حتى يرى خضرته في بطنه ، وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه . قال ابن عباس : وهو أول ابتلاء من الله - عز وجل - لموسى عليه السلام .

    ( ولما ورد ماء مدين ) وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم ، ( وجد عليه أمة ) جماعة ( من الناس يسقون ) مواشيهم ، ( ووجد من دونهم ) يعني : سوى الجماعة ، ( امرأتين تذودان ) يعني : تحبسان وتمنعان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس وتخلو لهم البئر ، قال الحسن : تكفان الغنم عن أن تختلط بأغنام الناس ، وقال قتادة : تكفان الناس عن أغنامهما . وقيل : تمنعان أغنامهما [ ص: 200 ] عن أن تشذ وتذهب . والقول الأول أصوبها ، لما بعده ، وهو قوله : ( قال ) يعني : موسى للمرأتين ، ( ما خطبكما ) ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟ ( قالتا لا نسقي ) أغنامنا ، ( حتى يصدر الرعاء ) قرأ أبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " يصدر " بفتح الياء وضم الدال على اللزوم ، أي : حتى يرجع الرعاء عن الماء ، وقرأ الآخرون : بضم الياء وكسر الدال ، أي : حتى يصرفوا هم مواشيهم عن الماء ، و " الرعاء " جمع راع ، مثل : تاجر وتجار . ومعنى الآية : لا نسقي مواشينا حتى يصدر الرعاء ، لأنا امرأتان لا نطيق أن نسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال ، فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض .

    ( وأبونا شيخ كبير ) لا يقدر أن يسقي مواشيه ، فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم . واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد ، والضحاك ، والسدي والحسن : هو شعيب النبي عليه السلام . وقال وهب بن منبه ، وسعيد بن جبير : هو يثرون بن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كف بصره ، فدفن بين المقام وزمزم . وقيل : رجل ممن آمن بشعيب قالوا : فلما سمع موسى قولهما رحمهما فاقتلع صخرة من رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس .

    [ ص: 201 ]

    وقال ابن إسحاق : إن موسى زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر ، فسقى غنم المرأتين . ويروى : أن القوم لما رجعوا بأغنامهم غطوا رأس البئر بحجر لا يرفعه إلا عشرة نفر ، فجاء موسى ورفع الحجر وحده ، وسقى غنم المرأتين . ويقال : إنه نزع ذنوبا واحدا ودعا فيه بالبركة ، فروى منه جميع الغنم ، فذلك قوله : ( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل )
    ( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( 24 ) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( 25 ) )

    ( فسقى لهما ثم تولى إلى الظل ) ظل شجرة ، فجلس في ظلها من شدة الحر وهو جائع ، ( فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير ) طعام ، ( فقير ) قال أهل اللغة اللام بمعنى " إلى " ، يقال : هو فقير له ، وفقير إليه ، يقول : إني لما أنزلت إلي من خير ، أي : طعام ، فقير محتاج ، كان يطلب الطعام لجوعه . قال ابن عباس : سأل الله تعالى فلقة خبز يقيم بها صلبه . قال الباقر : لقد قالها وإنه لمحتاج إلى شق تمرة . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لقد قال موسى : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) وهو أكرم خلقه عليه ، ولقد افتقر إلى شق تمرة . وقال مجاهد : ما سأله إلا الخبز . قالوا : فلما رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفل بطان ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا أغنامنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي .

    قال الله تعالى : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، ( قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) قال أبو حازم سلمة بن [ ص: 202 ] دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعا فلم يجد بدا من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل .

    ( فلما جاءه وقص عليه القصص ) يعني : أمره أجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، ( قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) يعني : فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على مدين .
    ( قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ( 26 ) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( 27 ) )

    ( قالت إحداهما يا أبت استأجره ) اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا ، ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) يعني : خير من استعملت من قوي على العمل وأدى الأمانة ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته : فإنه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعه إلا عشرة . وقيل : إلا أربعون رجلا وأما أمانته : فإنه قال لي امشي خلفي حتى لا تصف الريح بدنك .

    ( قال ) شعيب عند ذلك : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) واسمها " صفورة " و " ليا " في قول شعيب الجبائي ، وقال ابن إسحاق : " صفورة " و " شرقا " وقال غيرهما : الكبرى " صفراء " والصغرى " صفيراء " . وقيل زوجه الكبرى . وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها [ ص: 203 ] " صفورة " ، وهي التي ذهبت لطلب موسى ، ( على أن تأجرني ثماني حجج ) يعني : أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ، قال الفراء : يعني : تجعل ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : آجرك الله بأجرك أي : أثابك ، والحجج : السنون ، واحدتها حجة ، ( فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي : إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ، ليس بواجب عليك ، ( وما أريد أن أشق عليك ) أي : ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) قال عمر : يعني : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت .
    ( قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ( 28 ) )

    ( قال ) موسى ، ( ذلك بيني وبينك ) يعني : هذا الشرط بيني وبينك ، فما شرطت علي فلك وما شرطت من تزويج إحداهما فلي ، والأمر بيننا ، تم الكلام ، ثم قال : ( أيما الأجلين قضيت ) يعني : أي الأجلين : و " ما " صلة ، " قضيت " : أتممت وفرغت منه ، الثمان أو العشر ، ( فلا عدوان علي ) لا ظلم علي بأن أطالب بأكثر منهما ، ( والله على ما نقول وكيل ) قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك . وقيل : حفيظ . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على خير العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس قال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال فعل وروي عن أبي ذر مرفوعا : إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى ؟ فقل : خيرهما وأبرهما ، وإذا سئلت : فأي المرأتين تزوج ؟ فقل : الصغرى منهما ، وهي التي جاءت ، فقالت يا أبت استأجره ، فتزوج أصغرهما وقضى أوفاهما .

    [ ص: 204 ]

    وقال وهب : أنكحه الكبرى . وروي عن شداد بن أوس مرفوعا : بكى شعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من حب الله - عز وجل - حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، ثم بكى حتى عمي فرد الله عليه بصره ، فقال الله : ما هذا البكاء ؟ أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار ؟ قال : لا يا رب ، ولكن شوقا إلى لقائك ، فأوحى الله إليه إن يكن ذلك فهنيئا لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى كليمي .

    ولما تعاقدا هذا العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في تلك العصا; قال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه . وقال آخرون : كانت من آس الجنة ، حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء ، وكان لا يأخذها غير نبي إلا أكلته ، فصارت من آدم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم حتى وصلت إلى شعيب ، فكانت عصا الأنبياء عنده فأعطاها موسى . وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل ، فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتته بها ، فلما رآها شعيب قال لها : ردي هذه العصا ، وأتيه بغيرها ، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي ، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فأعطاها موسى [ ص: 205 ] فأخرجها موسى معه ، ثم إن الشيخ ندم وقال : كانت وديعة ، فذهب في أثره ، وطلب أن يرد العصا فأبى موسى أن يعطيه . وقال : هي عصاي ، فرضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن يطرح العصا فمن حملها فهي له ، فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ ليأخذها فلم يطقها ، فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ .

    ثم إن موسى لما أتم الأجل وسلم شعيب ، ابنته إليه ، قال موسى للمرأة : اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم ، فطلبت من أبيها ، فقال شعيب : لكما كل ما ولدت هذا العام على غير شيتها . وقيل : أراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيته إكراما له وصلة لابنته ، فقال له إني قد وهبت لك من الجدايا التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال : فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله - عز وجل - إلى موسى وامرأته فوفى له شرطه وسلم الأغنام إليه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #328
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (323)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْقَصَصِ
    مَكِّيَّةٌ
    الاية29 إلى الاية 47


    ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ( 29 ) )

    قوله - عز وجل - : ( فلما قضى موسى الأجل ) يعني أتمه وفرغ منه ، ( وسار بأهله ) قال مجاهد : لما قضى موسى الأجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا آخر فأقام عنده عشرين سنة ، ثم استأذنه في العود إلى مصر ، فأذن له ، فخرج بأهله إلى جانب مصر ، ( آنس ) يعني : أبصر ، ( من جانب الطور نارا ) وكان في البرية في ليلة مظلمة ، شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق ، ( قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر ) [ ص: 206 ] عن الطريق ، لأنه كان قد أخطأ الطريق ، ( أو جذوة من النار ) يعني : قطعة وشعلة من النار . وفيها ثلاث لغات ، قرأ عاصم : " جذوة " بفتح الجيم ، وقرأ حمزة بضمها ، وقرأ الآخرون بكسرها ، قال قتادة ومقاتل : هي العود الذي قد احترق بعضه ، وجمعها " جذى " ( لعلكم تصطلون ) تستدفئون .
    ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إني أنا الله رب العالمين ( 30 ) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ( 31 ) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين ( 32 ) )

    ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن ) من جانب الوادي الذي عن يمين موسى ، ( في البقعة المباركة ) لموسى ، جعلها الله مباركة لأن الله كلم موسى هناك وبعثه نبيا . وقال عطاء : يريد المقدسة ، ( من الشجرة ) من ناحية الشجرة ، قال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء تبرق ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة . قال وهب من العليق ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : أنها العناب ، ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين )

    ( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز ) تتحرك ، ( كأنها جان ) وهي الحية الصغيرة من سرعة حركتها ، ( ولى مدبرا ) هاربا منها ، ( ولم يعقب ) لم يرجع ، فنودي : ( يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين )

    ( اسلك ) أدخل ( يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) برص ، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس ، ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) قرأ أهل الكوفة ، والشام : بضم الراء وسكون الهاء ، ويفتح الراء حفص ، وقرأ الآخرون بفتحهما ، وكلها لغات بمعنى الخوف [ ص: 207 ] ومعنى الآية : إذا هلك أمر يدك وما ترى من شعاعها فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى . " والجناح " : اليد كلها . وقيل : هو العضد . وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم : أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقال : ما من خائف بعد موسى إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه . قال مجاهد : كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع . وقيل : المراد من ضم الجناح : السكون ، أي : سكن روعك واخفض عليك جانبك ، لأن من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ، ومثله قوله : " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " ( الإسراء - 24 ) ، يريد الرفق ، وقوله : " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " ( الشعراء - 215 ) ، أي : ارفق بهم وألن جانبك لهم .

    قال الفراء : أراد بالجناح العصا ، معناه : اضمم إليك عصاك . وقيل : " الرهب " الكم بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول : أعطني ما في رهبك ، أي : في كمك ، معناه : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ، لأنه تناول العصا ويده في كمه . ( فذانك ) يعني : العصا ، واليد البيضاء ، ( برهانان ) آيتان ، ( من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين )
    ( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ( 33 ) وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ( 34 ) )

    ( قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون )

    ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا ) وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه من وضع الجمرة في فيه ، ( فأرسله معي ردءا ) عونا ، يقال ردأته أي : أعنته ، قرأ نافع ( ردا ) بفتح الدال [ ص: 208 ] من غير همز طلبا للخفة ، وقرأ الباقون بسكون الدال مهموزا ، ( يصدقني ) قرأ عاصم ، وحمزة : برفع القاف على الحال ، أي : ردءا مصدقا ، وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والتصديق لهارون في قول الجميع ، قال مقاتل : لكي يصدقني فرعون ، ( إني أخاف أن يكذبون ) يعني فرعون وقومه .
    ( قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( 35 ) ( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( 36 ) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ( 37 ) وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ( 38 ) )

    ( قال سنشد عضدك بأخيك ) أي : نقويك بأخيك ، وكان هارون يومئذ بمصر ، ( ونجعل لكما سلطانا ) حجة وبرهانا ، ( فلا يصلون إليكما بآياتنا ) أي : لا يصلون إليكما بقتل ولا سوء لمكان آياتنا ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : ونجعل لكما سلطانا بآياتنا بما نعطيكما من المعجزات فلا يصلون إليكما ، ( أنتما ومن اتبعكما الغالبون ) أي : لكما ولأتباعكما الغلبة على فرعون وقومه .

    ( فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات ) واضحات ، ( قالوا ما هذا إلا سحر مفترى ) مختلق ، ( وما سمعنا بهذا ) بالذي تدعونا إليه ، ( في آبائنا الأولين )

    ( وقال موسى ) قرأ أهل مكة بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ، ( ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ) بالمحق من المبطل ، ( ومن تكون له عاقبة الدار ) العقبى المحمودة في الدار الآخرة ، ( إنه لا يفلح الظالمون ) أي : الكافرون .

    ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين ) فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ من الآجر وبنى به ، ( فاجعل لي صرحا ) قصرا عاليا ، وقيل : منارة ، قال أهل التفسير لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال والفعلة [ ص: 209 ] حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله - عز وجل - أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دما ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين ، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى : ( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى ) أنظر إليه وأقف على حاله ، ( وإني لأظنه ) يعني موسى ، ( من الكاذبين ) في زعمه أن للأرض والخلق إلها غيري ، وأنه رسوله .
    ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ( 39 ) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ( 40 ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ( 41 ) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ( 42 ) )

    ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ويعقوب : " يرجعون " بفتح الياء وكسر الجيم ، والباقون بضم الياء وفتح الجيم .

    ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم ) فألقيناهم ، ( في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين )

    ( وجعلناهم أئمة ) قادة ورؤساء ، ( يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ) لا يمنعون من العذاب .

    ( وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ) خزيا وعذابا ، ( ويوم القيامة هم من المقبوحين ) المبعدين الملعونين ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من [ ص: 210 ] المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، يقال : قبحه الله وقبحه : إذا جعله قبيحا ، ويقال : قبحه قبحا ، وقبوحا ، إذا أبعده من كل خير .
    ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ( 43 ) ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ( 44 ) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ( 45 ) )

    قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) يعني : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كانوا قبل موسى ، ( بصائر للناس ) أي : ليبصروا بذلك الكتاب ويهتدوا به ، ( وهدى ) من الضلالة لمن عمل به ، ( ورحمة ) لمن آمن به ، ( لعلهم يتذكرون ) بما فيه من المواعظ والبصائر .

    ( وما كنت ) يا محمد ، ( بجانب الغربي ) يعني : بجانب الجبل الغربي ، قاله قتادة والسدي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد حيث ناجى موسى ربه ، ( إذ قضينا إلى موسى الأمر ) يعني عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه ، ( وما كنت من الشاهدين ) الحاضرين ذلك المقام فتذكره من ذات نفسك .

    ( ولكنا أنشأنا قرونا ) خلقنا أمما بعد موسى عليه السلام ، ( فتطاول عليهم العمر ) أي : طالت عليهم المهلة فنسوا عهد الله وتركوا أمره ، وذلك أن الله تعالى قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به ، فلما طال عليهم العمر وخلفت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها . ( وما كنت ثاويا ) مقيما ، ( في أهل مدين ) كمقام موسى وشعيب فيهم ، ( تتلو عليهم آياتنا ) تذكرهم بالوعد والوعيد ، قال مقاتل : يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ، ( ولكنا كنا مرسلين ) أي : أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولم تخبرهم بها .
    [ ص: 211 ] ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ( 46 ) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ( 47 ) )

    ( وما كنت بجانب الطور ) بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، ( إذ نادينا ) قيل : إذ نادينا موسى : خذ الكتاب بقوة . وقال وهب : قال موسى : يا رب أرني محمدا ، قال : إنك لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمته وأسمعتك صوتهم ، قال : بلى يا رب ، قال الله تعالى : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير : ونادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني .

    وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورفعه بعضهم - ، قال الله : يا أمة محمد ، فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات : لبيك اللهم لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك . قال الله تعالى : يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عقابي ، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني ، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني ، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة ، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر . قوله تعالى : ( ولكن رحمة من ربك ) أي : ولكن رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك وإطلاعك على الأخبار الغائبة عنك ، ( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ) يعني : أهل مكة ، ( لعلهم يتذكرون )

    ( ولولا أن تصيبهم مصيبة ) عقوبة ونقمة ، ( بما قدمت أيديهم ) من الكفر والمعصية ، [ ص: 212 ] ( فيقولوا ربنا لولا ) هلا ( أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ) وجواب " لولا " محذوف ، أي : لعاجلناهم بالعقوبة ، يعني : لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم . وقيل : معناه لما بعثناك إليهم رسولا ولكن بعثناك إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #329
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (324)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْقَصَصِ
    مَكِّيَّةٌ
    الاية48 إلى الاية 75


    ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ( 48 ) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ( 49 ) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( 50 ) )

    ( فلما جاءهم الحق من عندنا ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ( قالوا ) يعني : كفار مكة ، ( لولا ) هلا ( أوتي ) محمد ، ( مثل ما أوتي موسى ) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وقيل : مثل ما أوتي موسى كتابا جملة واحدة . قال الله تعالى : ( أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ) أي : فقد كفروا بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد ( قالوا سحران تظاهرا ) قرأ أهل الكوفة : " سحران " ، أي : التوراة والقرآن : " تظاهرا " يعني : كل سحر يقوي الآخر ، نسب التظاهر إلى السحرين على الاتساع ، قال الكلبي : كانت مقالتهم تلك حين بعثوا إلى رءوس اليهود بالمدينة ، فسألوهم عن محمد فأخبروهم أن نعته في كتابهم التوراة ، فرجعوا فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا : سحران تظاهرا . وقرأ الآخرون : " ساحران " يعنون محمدا وموسى عليه السلام ، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب ، ( وقالوا إنا بكل كافرون )

    ( قل ) يا محمد ، ( فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ) يعني : من التوراة والقرآن ، ( أتبعه إن كنتم صادقين )

    ( فإن لم يستجيبوا لك ) أي : لم يأتوا بما طلبت ، ( فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
    [ ص: 213 ] ( ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ( 51 ) الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ( 52 ) )

    ( ولقد وصلنا لهم القول ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بينا . قال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا . قال قتادة : وصل لهم القول في هذا القرآن ، يعني كيف صنع بمن مضى . قال مقاتل : بينا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم . وقال ابن زيد : وصلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، ( لعلهم يتذكرون )

    ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله ) من قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وقيل : من قبل القرآن ، ( هم به يؤمنون ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب; عبد الله بن سلام وأصحابه . وقال مقاتل : بل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال سعيد بن جبير : هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا : يا نبي الله إن لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا وجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم ، فانصرفوا فأتوا بأموالهم ، فواسوا بها المسلمين ، فنزل فيهم : ( الذين آتيناهم الكتاب ) إلى قوله تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون ) . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب ، أربعون من نجران ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من الشام . ثم وصفهم الله فقال : ( وإذا يتلى عليهم )
    [ ص: 214 ] ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ( 53 ) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون ( 54 ) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ( 55 ) )

    ( وإذا يتلى عليهم ) يعني القرآن ، ( قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ) وذلك أن ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، ( إنا كنا من قبله مسلمين ) أي : من قبل القرآن مسلمين مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبي حق .

    ( أولئك يؤتون أجرهم مرتين ) لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ، ( بما صبروا ) على دينهم . قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حفص الجويني ، أخبرنا أحمد بن سعيد الدارمي ، أخبرنا عثمان ، أخبرنا شعبة ، عن صالح ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده " . قوله - عز وجل - : ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، قال مقاتل : يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) في الطاعة .

    ( وإذا سمعوا اللغو ) القبيح من القول ، ( أعرضوا عنه ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم ، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ، [ ص: 215 ] ( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) لنا ديننا ولكم دينكم ، ( سلام عليكم ) ليس المراد منه سلام التحية ، ولكنه سلام المتاركة ، معناه : سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول ، ( لا نبتغي الجاهلين ) أي : دين الجاهلين ، يعني : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه . وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .
    ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ( 56 ) وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 57 ) )

    قوله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ) أي : أحببت هدايته . وقيل : أحببته لقرابته ، ( ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) قال مجاهد ، ومقاتل : لمن قدر له الهدى ، نزلت في أبي طالب قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لا إله إلا الله ، أشهد لك بها يوم القيامة ، قال : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الجزع ، لأقررت بها عينك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

    ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) مكة ، نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لنعلم أن الذي تقول حق ، ولكنا إن اتبعناك على دينك خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة . وهو معنى قوله : ( نتخطف من أرضنا ) ، والاختطاف : الانتزاع بسرعة . قال الله تعالى : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا ) وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تغير بعضهم على بعض ، ويقتل بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا ، لحرمة الحرم ، ومن المعروف أنه كان يأمن فيه الظباء من الذئاب والحمام من الحدأة ، ( يجبى ) قرأ أهل المدينة ويعقوب : " تجبى " بالتاء لأجل الثمرات ، والآخرون بالياء للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ، أي : يجلب ويجمع ، ( إليه ) يقال : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، قال مقاتل : يحمل إلى الحرم ، ( ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن ما يقوله حق .
    [ ص: 216 ] ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ( 58 ) وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( 59 ) ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ( 60 ) أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ( 61 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وكم أهلكنا من قرية ) أي من أهل قرية ، ( بطرت معيشتها ) أي : في معيشتها ، أي : أشرت وطغت ، قال عطاء : عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يسكنها إلا المسافرون ومار الطريق يوما أو ساعة ، معناه : لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا . وقيل : معناه : لم يعمر منها إلا أقلها وأكثرها خراب ، ( وكنا نحن ، الوارثين ) " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها " ( مريم - 40 ) .

    ( وما كان ربك مهلك القرى ) أي : القرى الكافرة أهلها ، ( حتى يبعث في أمها رسولا ) يعني : في أكبرها وأعظمها رسولا ينذرهم ، وخص الأعظم ببعثة الرسول فيها ، لأن الرسول يبعث إلى الأشراف ، والأشراف يسكنون المدائن ، والمواضع التي هي أم ما حولها ، ( يتلو عليهم آياتنا ) قال مقاتل : يخبرهم الرسول أن العذاب نازل بهم إن لم يؤمنوا ، ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) مشركون ، يريد : أهلكتهم بظلمهم .

    ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها ) تتمتعون بها أيام حياتكم ثم هي إلى فناء وانقضاء ، ( وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون ) أن الباقي خير من الفاني . قرأ عامة القراء : " تعقلون " بالتاء وأبو عمرو بالخيار بين التاء والياء .

    ( أفمن وعدناه وعدا حسنا ) أي الجنة ( فهو لاقيه ) مصيبه ومدركه وصائر إليه ( كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ) ويزول عن قريب ( ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) النار ، قال [ ص: 217 ] قتادة : يعني المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي جهل . وقال محمد بن كعب : نزلت في حمزة وعلي ، وأبي جهل . وقال السدي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة .
    ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( 62 ) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ( 63 ) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ( 64 ) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ( 65 ) )

    ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) في الدنيا أنهم شركائي .

    ( قال الذين حق عليهم القول ) وجب عليهم العذاب وهم رءوس الضلالة ، ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا ) أي : دعوناهم إلى الغي ، وهم الأتباع ، ( أغويناهم كما غوينا ) أضللناهم كما ضللنا ، ( تبرأنا إليك ) منهم ( ما كانوا إيانا يعبدون ) برئ بعضهم من بعض وصاروا أعداء ، كما قال تعالى : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو " ( الزخرف - 67 ) .

    ( وقيل ) للكفار : ( ادعوا شركاءكم ) أي : الأصنام لتخلصكم من العذاب ، ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) يجيبوهم ، ( ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) وجواب " لو " محذوف على تقدير : لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما رأوا العذاب .

    ( ويوم يناديهم ) أي : يسأل الله الكفار ، ( فيقول ماذا أجبتم المرسلين )
    [ ص: 218 ] ( فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون ( 66 ) فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ( 67 ) وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ( 68 ) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ( 69 ) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ( 70 ) )

    ( فعميت ) خفيت واشتبهت ( عليهم الأنباء ) أي : الأخبار والأعذار ، وقال مجاهد : الحجج ، ( يومئذ ) فلا يكون لهم عذر ولا حجة ، ( فهم لا يتساءلون ) لا يجيبون ، وقال قتادة : لا يحتجون ، وقيل : يسكتون لا يسأل بعضهم بعضا .

    ( فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ) السعداء الناجين .

    قوله تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) نزلت هذه الآية جوابا للمشركين حين قالوا : " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ، يعني : الوليد بن المغيرة ، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم . قوله - عز وجل - : ( ما كان لهم الخيرة ) قيل : " ما " للإثبات ، معناه : ويختار الله ما كان لهم الخيرة ، أي : يختار ما هو الأصلح والخير . وقيل : هو للنفي أي : ليس إليهم الاختيار ، وليس لهم أن يختاروا على الله ، كما قال تعالى : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة " ( الأحزاب - 36 ) ، " والخيرة " : اسم من الاختيار يقام مقام المصدر ، وهي اسم للمختار أيضا كما يقال : محمد خيرة الله من خلقه . ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان الله وتعالى عما يشركون )

    ( وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) يظهرون .

    ( وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة ) يحمده أولياؤه في الدنيا ، ويحمدونه في الآخرة في الجنة ، ( وله الحكم ) فصل القضاء بين الخلق . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : [ ص: 219 ] حكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل معصيته بالشقاء ، ( وإليه ترجعون )
    ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ( 71 ) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ( 72 ) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 73 ) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( 74 ) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 75 ) )

    قوله - عز وجل - : ( قل أرأيتم ) أخبروني يا أهل مكة ( إن جعل الله عليكم الليل سرمدا ) دائما ، ( إلى يوم القيامة ) لا نهار معه ، ( من إله غير الله يأتيكم بضياء ) بنهار تطلبون فيه المعيشة ، ( أفلا تسمعون ) سماع فهم وقبول .

    ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة ) لا ليل فيه ، ( من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) ما أنتم عليه من الخطأ .

    ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ) أي : في الليل ، ( ولتبتغوا من فضله ) بالنهار ، ( ولعلكم تشكرون ) نعم الله - عز وجل - .

    ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) كرر ذكر النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ .

    ( ونزعنا ) أخرجنا ، ( من كل أمة شهيدا ) يعني : رسولهم الذي أرسل إليهم ، كما قال : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد " ( النساء - 41 ) ، ( فقلنا هاتوا برهانكم ) حجتكم بأن معي شريكا . ( فعلموا أن الحق ) التوحيد ، ( لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ) في الدنيا .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #330
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (325)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْقَصَصِ
    مَكِّيَّةٌ
    الاية76 إلى الاية 88


    ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ( 76 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إن قارون كان من قوم موسى ) كان ابن عمه; لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري ، ( فبغى عليهم ) قيل : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال . وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك . وقال شهر بن حوشب : زاد في طول ثيابه شبرا ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء " وقيل : بغى عليهم بالكبر والعلو . ( وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه ) هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل : مفاتحه : خزائنه ، كما قال : " وعنده مفاتح الغيب " ( الأنعام - 59 ) ، أي : خزائنه ( لتنوء بالعصبة أولي القوة ) أي : لتثقلهم ، وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، قال أبو عبيدة : هذا من المقلوب ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا .

    واختلفوا في عدد العصبة ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقال قتادة : ما بين العشرة إلى الأربعين . وقيل : أربعون رجلا . وقيل : سبعون . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال . وقال جرير عن منصور عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا ما يزيد منها مفتاح على أصبع لكل مفتاح كنز .

    [ ص: 221 ]

    ويقال : كان قارون أينما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلما ثقلت عليه جعلها من خشب ، فثقلت فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا . ( إذ قال له قومه ) قال لقارون قومه من بني إسرائيل : ) ( لا تفرح ) لا تبطر ولا تأشر ولا تمرح ( إن الله لا يحب الفرحين ) الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم .
    ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ( 77 ) )

    ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ) اطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة والجنة وهو أن تقوم بشكر الله فيما أنعم عليك وتنفقه في رضا الله تعالى ( ولا تنس نصيبك من الدنيا ) قال مجاهد ، وابن زيد : لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب ، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة . وقال السدي : بالصدقة وصلة الرحم . وقال علي : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن شاذان ، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي ، أخبرنا حسين المروزي ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا جعفر بن برقان ، عن زياد بن الجراح ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل : وهو يعظه : " اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك " الحديث مرسل . قال الحسن : أمره أن يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه ، قال منصور بن زاذان في قوله : " ولا تنس نصيبك من الدنيا " ، قال : قوتك وقوت أهلك .

    ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) [ أي : أحسن بطاعة الله ] كما أحسن الله إليك بنعمته . [ ص: 222 ] وقيل : أحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك ( ولا تبغ الفساد في الأرض ) من عصى الله فقد طلب الفساد في الأرض ( إن الله لا يحب المفسدين )
    ( قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ( 78 ) فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ( 79 ) )

    ( قال ) يعني قارون ، ( إنما أوتيته على علم عندي ) أي : على فضل وخير علمه الله عندي فرآني أهلا لذلك ، ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره . قيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى يعلم الكيمياء فعلم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلم كالب بن يوقنا ثلثه وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه وكان ذلك سبب أمواله . وقيل : " على علم عندي " بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب . قوله تعالى : ( أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون ) الكافرة ( من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ) للأموال ( ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ولا سؤال ، وقال مجاهد : يعني لا يسأل الملائكة عنهم ، لأنهم يعرفونهم بسيماهم . قال الحسن : لا يسألون سؤال استعلام وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ .

    ( فخرج على قومه في زينته ) قال إبراهيم النخعي : خرج هو وقومه في ثياب حمر وصفر ، قال ابن زيد : في سبعين ألفا عليهم المعصفرات . [ قال مجاهد : على براذين بيض عليها سرج الأرجوان ] قال مقاتل : خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ، ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر ، وهن على البغال الشهب ، ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) من المال .
    [ ص: 223 ] ) ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ( 80 ) فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ( 81 ) )

    ( وقال الذين أوتوا العلم ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني الأحبار من بني إسرائيل . وقال مقاتل : أوتوا العلم بما وعد الله في الآخرة ، قالوا للذين تمنوا مثل ما أوتي قارون في الدنيا : ( ويلكم ثواب الله خير ) يعني ما عند الله من الثواب والجزاء خير ) ( لمن آمن ) وصدق بتوحيد الله ) ( وعمل صالحا ) مما أوتي قارون في الدنيا ( ولا يلقاها إلا الصابرون ) قال مقاتل : لا يؤتاها ، يعني الأعمال الصالحة . وقال الكلبي لا يعطاها في الآخرة . وقيل : لا يؤتى هذه الكلمة وهي قوله : " ويلكم ثواب الله خير " إلا الصابرون على طاعة الله وعن زينة الدنيا .

    قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض ) قال أهل العلم بالأخبار : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون عليهما السلام وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى ، وكان أول طغيانه وعصيانه أن الله أوحى إلى موسى أن يأمر قومه أن يعقلوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أزرق كلون السماء ، يذكروني به إذا نظروا إليها ، ويعلمون أني منزل منها كلامي ، فقال موسى : يا رب أفلا تأمرهم أن يجعلوا أرديتهم كلها خضرا فإن بني إسرائيل تحقر هذه الخيوط ، فقال له ربه : يا موسى إن الصغير من أمري ليس بصغير فإذا هم لم يطيعوني في الأمر الصغير لم يطيعوني في الأمر الكبير ، فدعاهم موسى عليه السلام ، وقال : إن الله يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، ففعلت بنو إسرائيل ما أمرهم به موسى ، واستكبر قارون فلم يطعه ، وقال : إنما يفعل هذا الأرباب ، بعبيدهم لكي يتميزوا عن غيرهم ، فكان هذا بدء عصيانه وبغيه فلما قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعلت الحبورة لهارون ، وهي رياسة المذبح ، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديهم إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون من ذلك في نفسه وأتى موسى فقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست ، في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ التوراة ، لا صبر لي على هذا . فقال له موسى : ما أنا جعلتها في هارون بل الله جعلها له . فقال قارون : والله لا أصدقك حتى تريني بيانه ، فجمع موسى رؤساء بني إسرائيل فقال : هاتوا عصيكم ، فحزمها وألقاها في قبته التي كان [ ص: 224 ] يعبد الله فيها ، فجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟ فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، واعتزل قارون ، موسى بأتباعه ، وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد إلا عتوا وتجبرا ومعاداة لموسى ، حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب ، وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه .

    قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ، فلما نزلت الزكاة على موسى أتاه قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء على شيء ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه ، فجمع بني إسرائيل فقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه ، وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي ، فنجعل لها جعلا حتى تقذف موسى بنفسها ، فإذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل عليه ورفضوه ، فدعوها فجعل لها قارون ألف درهم ، وقيل ألف دينار ، وقيل طستا من ذهب ، وقيل : قال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل ، فلما كان من الغد جمع قارون بني إسرائيل ثم أتى موسى فقال : إن بني إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم ، فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض ، فقام فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ، ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت ، أنا ، قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلما أن جاءت قال لها موسى : يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء ؟ وعظم عليها ، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة إلا صدقت ، فتداركها الله تعالى بالتوفيق فقالت في نفسها : أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : لا كذبوا ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي ، فخر موسى ساجدا يبكي ويقول : اللهم إن كنت ، رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله تعالى إليه : إني أمرت ، الأرض أن تطيعك ، فمرها بما شئت ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليثبت مكانه ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا ولم يبق مع قارون إلا رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم فأخذت الأرض بأقدامهم .

    وفي رواية : كان على سريره وفرشه فأخذته حتى غيبت سريره ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم [ ص: 225 ] إلى الركب ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ، ويناشده قارون الله والرحم ، حتى روي أنه ناشده سبعين مرة وموسى عليه السلام في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ، ثم قال : يا أرض خذيهم فانطبقت عليهم الأرض ، وأوحى الله إلى موسى ما أغلظ قلبك استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه ، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرة لأغثته ، وفي بعض الآثار : لا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد . قال قتادة : خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة . قال : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وكنوزه وأمواله الأرض ، فذلك قوله - عز وجل - : ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) يمنعونه من الله ( وما كان من المنتصرين ) الممتنعين مما نزل به من الخسف .
    ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون ( 82 ) )

    ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ) صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني ، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح ، تقول : أصبح فلان عالما ، وأضحى معدما ، وأمسى حزينا ( يقولون ويكأن الله ) اختلفوا في معنى هذه اللفظة ، قال مجاهد : ألم تعلم ، وقال قتادة : ألم تر . قال الفراء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه . وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت . وعن الحسن : أنه كلمة ابتداء ، تقديره : أن الله يبسط الرزق . وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا وقال قطرب : " ويك " بمعنى ويلك ، حذفت منه اللام ، كما قال عنترة :
    ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم


    [ ص: 226 ] أي : ويلك ، و " أن " منصوب بإضمار اعلم أن الله ، وقال الخليل : " وي " مفصولة من " كأن " ومعناها التعجب ، كما تقول : وي لم فعلت ذلك! وذلك أن القوم تندموا فقالوا : وي! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناه أظن ذلك وأقدره ، كما تقول كأن : الفرج قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره ( يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ) أي : يوسع ويضيق ( لولا أن من الله علينا لخسف بنا ) قرأ حفص ، ويعقوب : بفتح الخاء والسين ، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين ( ويكأنه لا يفلح الكافرون )
    ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ( 83 ) من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ( 84 ) ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ( 85 ) )

    قوله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ) قال الكلبي ومقاتل : استكبارا عن الإيمان ، وقال عطاء : " علوا " واستطالة على الناس وتهاونا بهم . وقال الحسن : لم تطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطان . وعن علي رضي الله عنه : أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدرة ) ( ولا فسادا ) قال الكلبي : هو الدعاء إلى عبادة غير الله . وقال عكرمة : أخذ أموال الناس بغير حق . وقال ابن جريج ومقاتل : العمل بالمعاصي . ( والعاقبة للمتقين ) أي : العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه . وقال قتادة : الجنة للمتقين .

    ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ) . قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن ) أي : أنزل عليك القرآن على قول أكثر المفسرين وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن ( لرادك إلى معاد ) إلى مكة ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وهو قول مجاهد . قال القتيبي : معاد الرجل : بلده ، لأنه [ ص: 227 ] ينصرف ثم يعود إلى بلده ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج من الغار مهاجرا إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب ، فلما أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة ، وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله تعالى يقول : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) ، وهذه الآية نزلت بالجحفة ليست بمكية ولا مدنية .

    وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " لرادك إلى معاد " إلى الموت . وقال الزهري وعكرمة : إلى القيامة . وقيل : إلى الجنة . ( قل ربي أعلم من جاء بالهدى ) [ أي : يعلم من جاء بالهدى ] ، وهذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك لفي ضلال ، فقال الله - عز وجل - : قل لهم ربي أعلم من جاء بالهدى ، يعني نفسه ( ومن هو في ضلال مبين ) يعني المشركين ، ومعناه : أعلم بالفريقين .
    ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين ( 86 ) )

    قوله تعالى : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب ) أي : يوحى إليك القرآن ( إلا رحمة من ربك ) قال الفراء : هذا من الاستثناء المنقطع ، معناه : لكن ربك رحمك فأعطاك القرآن ( فلا تكونن ظهيرا للكافرين ) أي : معينا لهم على دينهم . قال مقاتل : وذلك حين دعي إلى دين آبائه فذكر الله نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه .
    [ ص: 228 ] ) ( ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ( 87 ) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ( 88 ) )

    ( ولا يصدنك عن آيات الله ) يعني القرآن ( بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ) إلى معرفته وتوحيده ( ولا تكونن من المشركين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : الخطاب في الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أهل دينه ، أي : لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم .

    ( ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه ) أي : إلا هو ، وقيل : إلا ملكه ، قال أبو العالية : إلا ما أريد به وجهه ( له الحكم ) أي : فصل القضاء ( وإليه ترجعون ) تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #331
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (326)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 26


    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الم ( 1 ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( 2 ) )

    ( الم أَحَسِبَ النَّاسُ ) أَظَنَّ النَّاسُ ( أَنْ يُتْرَكُوا ) بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءٍ ) ( أَنْ يَقُولُوا ) [ أَيْ : بِأَنْ يَقُولُوا ( آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) لَا يُبْتَلَوْنَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ؟ كَلَّا لَنَخْتَبِرَنَّ هُمْ لِنُبَيِّنَ الْمُخَلِصَ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الشَّعْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارٌ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا ، فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ .

    [ ص: 232 ]

    وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : أَرَادَ بِالنَّاسِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَكَّةَ : سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَغَيْرَهُمْ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي مِهْجَعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى عُمَرَ ، كَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِهْجَعٌ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ " ، فَجَزِعَ أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ . وَقِيلَ : " وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ " بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ ، ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَسَائِرَ الشَّرَائِعِ ، فَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، ثُمَّ عَزَّاهُمْ فَقَالَ : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )
    [ ص: 233 ] ( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ( 5 ) ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ( 6 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ( 7 ) ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ( 8 ) )

    ( من كان يرجو لقاء الله ) قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - ومقاتل : من كان يخشى البعث والحساب ، والرجاء بمعنى الخوف . وقال سعيد بن جبير - رضي الله عنه - : من كان يطمع في ثواب الله ( فإن أجل الله لآت ) يعني : ما وعد الله من الثواب والعقاب . وقال مقاتل : يعني : يوم القيامة لكائن . ومعنى الآية : أن من يخشى الله أو يأمله فليستعد له ، وليعمل لذلك اليوم . كما قال : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا " الآية ( الكهف - 110 ( وهو السميع العليم )

    ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) له ثوابه ، " والجهاد " : هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس . ( إن الله لغني عن العالمين ) عن أعمالهم وعباداتهم .

    ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ) لنبطلنها ، يعني : حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل . والتكفير : إذهاب السيئة بالحسنة ( ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) أي : بأحسن أعمالهم وهو الطاعة . وقيل : نعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن ، كما قال : " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " ( الأنعام - 160 ) .

    قوله - عز وجل - : ( ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ) أي : برا بهما وعطفا عليهما ، معناه : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن . نزلت هذه الآية والتي في سورة لقمان ( الآية 15 ) ، والأحقاف ( الآية 15 ) في سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري ، وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس - لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين ، وكان بارا بأمه ، قالت له أمه : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه ، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمه . ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم [ ص: 234 ] تستظل ، فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوما آخر لم تأكل ولم تشرب ، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي ، فلما أيست منه أكلت وشربت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأمره بالبر بوالديه والإحسان إليهما وأن لا يطيعهما في الشرك ، فذلك قوله - عز وجل - : ( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) . وجاء في الحديث : " لا طاعة لمخلوق في معصية الله " . ثم أوعد بالمصير إليه فقال : ( إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها .
    ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ( 9 ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ( 10 ) )

    ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ) في زمرة الصالحين وهم الأنبياء والأولياء ، وقيل : في مدخل الصالحين ، وهو الجنة .

    قوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله ) أصابه بلاء من الناس افتتن ( جعل فتنة الناس كعذاب الله ) أي : جعل أذى الناس وعذابهم كعذاب الله في الآخرة . أي : جزع من عذاب الناس ولم يصبر عليه ، فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عذابه ، هذا قول السدي وابن زيد ، قالا هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر . ( ولئن جاء نصر من ربك ) أي : فتح ودولة للمؤمنين ) ( ليقولن ) يعني : هؤلاء المنافقين للمؤمنين : ( إنا كنا معكم ) على عدوكم وكنا مسلمين وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا ، فكذبهم الله وقال : [ ص: 235 ] ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) من الإيمان والنفاق .
    ( وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ( 11 ) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( 12 ) )

    ( وليعلمن الله الذين آمنوا ) صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء ( وليعلمن المنافقين ) بترك الإسلام عند نزول البلاء . واختلفوا في نزول هذه الآية ، قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا . وقال عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت في الذين أخرجهم المشركون إلى بدر ، وهم الذين نزلت فيهم : " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " ( النساء - 97 ) . وقال قتادة : نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة . وقال الشعبي : هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هاهنا مدنية ، وباقي السورة مكية .

    ( وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ) قال مجاهد : هذا من قول كفار مكة لمن آمن منهم . وقال الكلبي ومقاتل : قاله أبو سفيان لمن آمن من قريش ، " اتبعوا سبيلنا " : ديننا وملة آبائنا ، ونحن الكفلاء بكل تبعة من الله تصيبكم ، فذلك قوله : ( ولنحمل خطاياكم ) أوزاركم . قال الفراء : لفظه أمر ، ومعناه جزاء مجازه : إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم ، كقوله : " فليلقه اليم بالساحل " ( طه - 39 ) . وقيل : هو جزم على الأمر ، كأنهم أمروا أنفسهم بذلك ، فأكذبهم الله - عز وجل - فقال : ( وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ) فيما قالوا من حمل خطاياهم .
    [ ص: 236 ] ) ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ( 13 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ( 14 ) ( فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ( 15 ) وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( 16 ) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ( 17 ) )

    ( وليحملن أثقالهم ) أوزار أعمالهم التي عملوها بأنفسهم ( وأثقالا مع أثقالهم ) أي : أوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزارهم . نظيره قوله - عز وجل - : " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " ( النحل - 25 ) . ( وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) سؤال توبيخ وتقريع .

    قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان ) فغرقوا ) ( وهم ظالمون ) قال ابن عباس : مشركون .

    ( فأنجيناه وأصحاب السفينة ) يعني من الغرق ) ( وجعلناها ) يعني السفينة ) ( آية ) أي : عبرة ) ( للعالمين ) فإنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة . وقيل : جعلنا عقوبتهم للغرق عبرة . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : بعث نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وكان عمره ألفا وخمسين سنة .

    قوله - عز وجل - : ) ( وإبراهيم ) أي : وأرسلنا إبراهيم ، ( إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ) أطيعوا الله وخافوه ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )

    ( إنما تعبدون من دون الله أوثانا ) أصناما ( وتخلقون إفكا ) تقولون كذبا . قال مجاهد : تصنعون أصناما بأيدكم فتسمونها آلهة ( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ) لا يقدرون أن يرزقوكم ) ( فابتغوا ) فاطلبوا ( عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون )
    [ ص: 237 ] ) ( وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( 18 ) أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ( 19 ) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ( 20 ) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ( 21 ) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ( 22 ) )

    ( وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ) مثل عاد وثمود وغيرهم فأهلكوا ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين )

    ( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ) كيف يخلقهم ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ) ( ثم يعيده ) في الآخرة عند البعث ( إن ذلك على الله يسير )

    ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) فانظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ) . ( ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) أي : ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت ، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبدءا لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدا . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ) ( النشأة ) بفتح الشين ممدودة حيث وقعت ، وقرأ الآخرون بسكون الشين مقصورة نظيرها : الرأفة والرآفة . ( إن الله على كل شيء قدير )

    ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ) تردون .

    ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) فإن قيل : ما وجه قوله : " ولا في السماء " والخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء ؟ .

    قال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجز ، كقول حسان بن ثابت :
    فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء


    أراد : من يمدحه ومن ينصره ، فأضمر " من " يريد : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ، ولا أهل السماء في السماء . وقال قطرب : معناه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقول الرجل : ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة ، أي : ولا بالبصرة لو كان بها ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) أي : من ولي يمنعكم مني ولا نصير ينصركم من عذابي .
    [ ص: 238 ] ) ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ( 23 ) ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 24 ) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ( 25 ) فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ( 26 ) )

    ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه ) بالقرآن وبالبعث ( أولئك يئسوا من رحمتي ) جنتي ( أولئك لهم عذاب أليم ) فهذه الآيات في تذكير أهل مكة وتحذيرهم ، وهي معترضة في قصة إبراهيم ، فقال جل ذكره : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار )

    ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار ) وجعلها عليه بردا وسلاما ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) يصدقون .

    ) ( وقال ) يعني إبراهيم لقومه : ( إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم ) قرأ ابن كثير ، والكسائي ، وأبو عمرو ، ويعقوب : " مودة " رفعا بلا تنوين " بينكم " خفضا بالإضافة على معنى : إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي مودة بينكم ( في الحياة الدنيا ) ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة . ونصب حمزة ، وحفص : " مودة " من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها . وقرأ الآخرون " مودة " منصوبة منونة " بينكم " بالنصب معناه : إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا تتواردون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا . ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) تتبرأ الأوثان من عابديها ، وتتبرأ القادة من الأتباع ، وتلعن الأتباع القادة ) ( ومأواكم ) جميعا العابدون والمعبودون ( النار وما لكم من ناصرين )

    ( فآمن له لوط ) يعني : صدقه ، وهو أول من صدق إبراهيم وكان ابن أخيه ) ( وقال ) يعني إبراهيم ، ( إني مهاجر إلى ربي ) فهاجر من كوثى ، وهو من سواد الكوفة ، إلى حران ثم إلى الشام ، ومعه لوط وامرأته سارة ، وهو أول من هاجر . قال مقاتل : هاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو ابن خمس وسبعين سنة ، ( إنه هو العزيز الحكيم )

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #332
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (327)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية27 إلى الاية 46

    ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 27 ) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ( 28 ) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ( 29 ) )

    ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) يقال : إن الله لم يبعث نبيا بعد إبراهيم إلا من نسله ( وآتيناه أجره في الدنيا ) وهو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه . وقال السدي : هو الولد الصالح ، وقيل : هو أنه رأى مكانه في الجنة ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) أي : في زمرة الصالحين . قال ابن عباس : مثل آدم ونوح .

    قوله تعالى : ( ولوطا إذ قال لقومه إنكم ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " أئنكم " بالاستفهام ، وقرأ الباقون بلا استفهام ، واتفقوا على استفهام الثانية ( لتأتون الفاحشة ) وهي إتيان الرجال ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين )

    ( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ) وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين ، فترك الناس الممر بهم . وقيل : تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء ( وتأتون في ناديكم المنكر ) النادي ، والندى ، والمنتدى : مجلس القوم ومتحدثهم . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو العباس بن سهل بن محمد المروزي ، أخبرنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أن بشر بن معاذ حدثهم : أخبرنا يزيد بن زريع ، أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب [ عن أم هانئ ] قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : ( وتأتون في ناديكم المنكر ) قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتونه ؟ قال : " كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم " .

    [ ص: 240 ]

    ويروى أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيه حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به . وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم ، ولهم قاض بذلك . وقال القاسم بن محمد : كانوا يتضارطون في مجالسهم . وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم . وعن عبد الله بن سلام قال : كان يبزق بعضهم على بعض . وعن مكحول قال : كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء ، وحل الإزار ، والصفير ، والحذف ، واللواطية ( فما كان جواب قومه ) لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح ) ( إلا أن قالوا ) له استهزاء : ( ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ) أن العذاب نازل بنا ، فعند ذلك .
    ( قال رب انصرني على القوم المفسدين ( 30 ) ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ( 31 ) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ( 32 ) )

    ( قال ) لوط : ( رب انصرني على القوم المفسدين ) بتحقيق قولي في العذاب .

    ( ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) من الله بإسحاق ويعقوب ، ( قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية ) يعني قوم لوط ، والقرية سدوم ( إن أهلها كانوا ظالمين )

    ( قال ) إبراهيم للرسل : ( إن فيها لوطا قالوا ) يعني : قالت الملائكة ( نحن أعلم بمن فيها لننجينه ) [ ص: 241 ] قرأ حمزة والكسائي ويعقوب : " ) ( لننجينه ) بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ( وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) أي : الباقين في العذاب .
    ( ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ( 33 ) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 34 ) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ( 35 ) وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 36 ) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ( 37 ) )

    ( ولما أن جاءت رسلنا لوطا ) ظن أنهم من الإنس ( سيء بهم وضاق بهم ) بمجيئهم ( ذرعا وقالوا لا تخف من ) قومك علينا ( ولا تحزن ) بإهلاكنا إياهم ( إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ) قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، ويعقوب : " منجوك " بالتخفيف ، وقرأ الآخرون بالتشديد .

    ( إنا منزلون ) قرأ ابن عامر بالتشديد ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ( على أهل هذه القرية رجزا ) عذابا ) ( من السماء ) قال مقاتل : الخسف والحصب ( بما كانوا يفسقون )

    ( ولقد تركنا منها ) من قريات لوط ، ) ( آية بينة ) عبرة ظاهرة ) ( لقوم يعقلون ) يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول . قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة . وقال قتادة : هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة . وقال مجاهد : هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض .

    ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) أي : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا ( فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ) أي : واخشوا ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين )
    ( وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ( 38 ) 3 .

    وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ( 39 ) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 40 ) )

    ( وعادا وثمود ) أي : وأهلكنا عادا وثمودا ، ( وقد تبين لكم ) يا أهل مكة ، ( من مساكنهم ) منازلهم بالحجر واليمن ، ( وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ) عن سبيل الحق ( وكانوا مستبصرين ) قال مقاتل ، والكلبي ، وقتادة : كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم ، يحسبون أنهم على هدى ، وهم على الباطل ، والمعنى : أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين . قال الفراء : كانوا عقلاء ذوي بصائر .

    ( وقارون وفرعون وهامان ) أي : أهلكنا هؤلاء ( ولقد جاءهم موسى بالبينات ) بالدلالات ( فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ) أي : فائتين من عذابنا .

    ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ) وهم قوم لوط ، " والحاصب " : الريح التي تحمل الحصباء ، وهي الحصا الصغار ( ومنهم من أخذته الصيحة ) يعني ثمود ، ( ومنهم من خسفنا به الأرض ) يعني قارون وأصحابه ( ومنهم من أغرقنا ) يعني : قوم نوح ، وفرعون وقومه ( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .
    ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( 41 ) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ( 42 ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( 43 ) )

    ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ) يعني : الأصنام ، يرجون نصرها ونفعها ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) لنفسها تأوي إليه ، وإن بيتها في غاية الضعف والوهاء ، لا يدفع عنها حرا ولا بردا ، وكذلك الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا . ( وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون )

    ( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ) قرأ أهل البصرة ، وعاصم : " يدعون " بالياء لذكر الأمم قبلها ، وقرأ الآخرون بالتاء .

    ( وتلك الأمثال ) الأشباه ، والمثل : كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول ، يريد : أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة ) ( نضربها ) نبينها ) ( للناس ) قال مقاتل : لكفار مكة ، ( وما يعقلها إلا العالمون ) أي : ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، أخبرنا ابن برزة ، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة ، أخبرنا داود بن المحبر ، أخبرنا عباد بن كثير ، عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية : ) ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) قال : " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " .
    ( خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ( 44 ) اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ( 45 ) )

    قوله - عز وجل - : ( خلق الله السماوات والأرض بالحق ) أي : للحق وإظهار الحق ) ( إن في ذلك ) في خلقها ) ( لآية ) لدلالة ) ( للمؤمنين ) على قدرته وتوحيده .

    ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب ) يعني القرآن ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) الفحشاء : ما قبح من الأعمال ، والمنكر : ما لا يعرف في الشرع . قال ابن مسعود ، وابن عباس : في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا .

    وقال الحسن ، وقتادة : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه . وروي عن أنس قال : كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه ، فوصف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاله فقال : " إن صلاته تنهاه يوما " [ ص: 245 ] فلم يلبث أن تاب وحسن حاله . وقال ابن عون : معنى الآية أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها .

    وقيل : أراد بالصلاة القرآن ، كما قال تعالى : " ولا تجهر بصلاتك " ( الإسراء - 110 ) أي : بقراءتك ، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة ، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق ، قال : " ستنهاه قراءته " .

    وفي رواية قيل : يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : " إن صلاته لتردعه " . قوله - عز وجل - : ( ولذكر الله أكبر ) أي : ذكر الله أفضل الطاعات . أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد ، أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي ، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، [ ص: 246 ] أخبرنا هارون بن معروف أبو علي الضرير ، أخبرنا أنس بن عياض ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش ، عن أبي تجرية ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، وأن تلقوا عدوكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم " ؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " ذكر الله " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو الأسود ، أخبرنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي ، العباد أفضل ، درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا " قالوا : يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله ؟ فقال : " لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر أو يختضب دما ، لكان الذاكر الله كثيرا أفضل منه درجة " . وروينا أن أعرابيا قال : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : " أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج القشيري ، أخبرنا أمية بن بسطام العيشي ، أخبرنا يزيد ، يعني : ( ابن زريع ) ، أخبرنا روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان ، [ ص: 247 ] فقال : " سيروا ، هذا جمدان ، سبق المفردون " ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " .

    أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " . وقال قوم : معنى قوله : " ولذكر الله أكبر " أي : ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال عطاء في قوله : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية . ( والله يعلم ما تصنعون ) قال عطاء : يريد لا يخفى عليه شيء .
    ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ( 46 ) )

    قوله تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب ) لا تخاصموهم ( إلا بالتي هي أحسن ) أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه وأراد من قبل الجزية منهم ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، [ ص: 248 ] ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " ( التوبة - 29 ( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ) يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم .

    ( وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرازق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : أنه بينا هو جالس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أعلم " ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه " .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #333
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (328)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية47 إلى الاية 69

    ( وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ( 47 ) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ( 48 ) )

    قوله تعالى : ) ( وكذلك ) أي : كما أنزلنا إليهم الكتب ( أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ) ( ومن هؤلاء ) يعني : أهل مكة ، ( من يؤمن به ) وهم مؤمنوا أهل مكة ( وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ) ، وذلك أن اليهود عرفوا أن محمدا نبي ، والقرآن حق ، فجحدوا . قال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة .

    ( وما كنت تتلو ) يا محمد ، ( من قبله من كتاب ) من قبل ما أنزلنا إليك الكتاب ( ولا تخطه بيمينك ) ولا تكتبه ، أي : لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي ( إذا لارتاب المبطلون ) يعني لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة ، وقالوا : إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها ، قاله قتادة . وقال مقاتل : " المبطلون " هم اليهود ، ومعناه : إذا لشكوا فيك واتهموك ، وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت .
    ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( 49 ) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين ( 50 ) أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ( 51 ) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ( 52 ) )

    ( بل هو آيات بينات ) قال الحسن : يعني القرآن آيات بينات ( في صدور الذين أوتوا العلم ) يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وقتادة : بل هو - يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - - ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ، لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم ( وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون )

    ( وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ) كما أنزل على الأنبياء من قبل ، قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " آية " على التوحيد ، وقرأ الآخرون : " آيات من ربه " لقوله - عز وجل - : ( قل إنما الآيات عند الله ) القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها ( وإنما أنا نذير مبين ) أنذر أهل المعصية بالنار ، وليس إنزال الآيات بيدي .

    ( أولم يكفهم ) هذا الجواب لقوله : " لولا أنزل عليه آيات من ربه " قال : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) يعني : أولم يكفهم من الآيات القرآن يتلى عليهم ) ( إن في ذلك ) في إنزال القرآن ( لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) أي : تذكيرا وعظة لمن آمن وعمل به .

    ( قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا ) أني رسوله وهذا القرآن كتابه ( يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل ) قال ابن عباس : بغير الله . وقال مقاتل : بعبادة الشيطان ( وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون )
    [ ص: 251 ] ) ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ( 53 ) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( 54 ) يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ( 55 ) يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ( 56 ) )

    ( ويستعجلونك بالعذاب ) نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ( ولولا أجل مسمى ) قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة كما قال : " بل الساعة موعدهم " ( القمر - 46 ) ، وقال الضحاك : مدة أعمارهم ، لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب ، وقيل : يوم بدر ، ( لجاءهم العذاب وليأتينهم ) يعني : العذاب وقيل الأجل ( بغتة وهم لا يشعرون ) بإتيانه .

    ( يستعجلونك بالعذاب ) أعاده تأكيدا ( وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) جامعة لهم لا يبقى أحد منهم إلا دخلها .

    ( يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) يعني : إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم ، كما قال : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " ( الأعراف - 41 ) ( ويقول ذوقوا ) قرأ نافع ، وأهل الكوفة : " ويقول " بالياء ، أي : ويقول لهم الموكل بعذابهم : ذوقوا ، وقرأ الآخرون بالنون; لأنه لما كان بأمره نسب إليه ( ما كنتم تعملون ) أي : جزاء ما كنتم تعملون .

    ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة ، يقول : إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة ، إن أرضي - يعني المدينة - واسعة آمنة . قال مجاهد : إن أرضي المدينة واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة . وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة . وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها [ ص: 252 ] بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة . وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة ، وقالوا : نخشى ، إن هاجرنا ، من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج . وقال مطرف بن عبد الله : " أرضي واسعة " أي : رزقي لكم واسع فاخرجوا .
    ( كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ( 58 ) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 59 ) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ( 60 ) )

    ( كل نفس ذائقة الموت ) خوفهم بالموت ليهون عليهم الهجرة ، أي : كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت ( ثم إلينا ترجعون ) فنجزيكم بأعمالكم ، وقرأ أبو بكر : " يرجعون بالياء " .

    ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم ) قرأ حمزة ، والكسائي : بالثاء ساكنة من غير همز ، يقال : ثوى الرجل إذا أقام ، وأثويته : إذا أنزلته منزلا يقيم فيه . وقرأ الآخرون بالباء وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها ، أي : لننزلنهم ( من الجنة غرفا ) علالي ( تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين )

    ( الذين صبروا ) على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ( وعلى ربهم يتوكلون ) يعتمدون .

    ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها ) وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : " هاجروا إلى المدينة " ، فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ، فمن يطعمنا بها ويسقينا ؟ فأنزل الله : ( وكأين من دابة ) ذات حاجة إلى غذاء ( لا تحمل رزقها ) أي : لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير ( الله يرزقها وإياكم ) [ ص: 253 ] حيث كنتم ( وهو السميع العليم ) السميع لأقوالكم : لا نجد ما ننفق بالمدينة ، العليم بما في قلوبكم . وقال سفيان عن علي بن الأقمر : وكأين من دابة لا تحمل رزقها ، قال : لا تدخر شيئا لغد . قال سفيان : ليس شيء من خلق الله يخبأ إلا الإنسان والفأرة والنملة .

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي ، أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق ، أخبرنا محمد بن عبد العزيز ، أخبرنا إسماعيل بن زرارة الرقي ، أخبرنا أبو العطوف الجراح بن منهال ، عن الزهري ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطا من حوائط الأنصار ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقط الرطب بيده ويأكل ، فقال : كل يا ابن عمر ، قلت : لا أشتهيها يا رسول الله ، قال : لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده ، فقلت إنا لله ، الله المستعان ، قال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين ، فنزلت ) ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الآية

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس السراج ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان لا يدخر شيئا لغد .

    [ ص: 254 ]

    وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا " . أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري ، أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه ، أخبرنا أبو نصر بن حمدويه المطوعي ، أخبرنا أبو الموجه محمد بن عمرو ، أخبرنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن إسماعيل هو ابن أبي خالد ، عن رجلين أحدهما زبيد اليامي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته " وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد عمن أخبره عن ابن مسعود .
    ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ( 61 ) الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ( 62 ) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ( 63 ) )

    قوله تعالى : ( ولئن سألتهم ) يعني كفار مكة ، ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ) .

    ( الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ) .

    ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله ) على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله ( بل أكثرهم لا يعقلون ) وقيل : قل الحمد لله على [ ص: 255 ] إقرارهم لزوم الحجة عليهم ( بل أكثرهم لا يعقلون ) ينكرون التوحيد مع إقرارهم بأنه الخالق لهذه الأشياء .
    ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ( 64 ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ( 65 ) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون ( 66 ) أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ( 67 ) )

    قوله تعالى : ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ) اللهو هو : الاستمتاع بلذات الدنيا ، واللعب : العبث ، سميت بهما لأنها فانية . ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) أي : الحياة الدائمة الباقية ، و " الحيوان " : بمعنى الحياة ، أي : فيها الحياة الدائمة ( لو كانوا يعلمون ) فناء الدنيا وبقاء الآخرة .

    قوله تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك ) وخافوا الغرق ( دعوا الله مخلصين له الدين ) وتركوا الأصنام ( فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرون أن القادر على كشفها هو الله - عز وجل - وحده ، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم . قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا .

    ( ليكفروا بما آتيناهم ) هذا لام الأمر ، ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) ، أي : ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إياهم ) ( وليتمتعوا ) قرأ حمزة ، والكسائي : ساكنة اللام ، وقرأ الباقون بكسرها نسقا على قوله : " ليكفروا " ( فسوف يعلمون ) وقيل : من كسر اللام جعلها لام كي وكذلك في ليكفروا ، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة .

    ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) يعني العرب ، يسبي بعضهم بعضا ، وأهل مكة آمنون ) ( أفبالباطل ) بالأصنام والشيطان ( يؤمنون وبنعمة الله ) بمحمد والإسلام ) ( يكفرون )
    [ ص: 256 ] ) ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( 68 ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ( 69 ) )

    ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) فزعم أن لله شريكا وأنه أمر بالفواحش ( أو كذب بالحق ) بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ( لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ) استفهام بمعنى التقرير ، معناه : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم .

    ( والذين جاهدوا فينا ) الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا ( لنهدينهم سبلنا ) لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه . وقيل : لنزيدنهم هدى كما قال : " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " ( مريم - 76 ) ، وقيل : لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله - عز وجل - . قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات . قال الحسن : أفضل الجهاد مخالفة الهوى . وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به . وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة . وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا . ( وإن الله لمع المحسنين ) بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #334
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (329)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الرُّومِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 24


    سُورَةُ الرُّومِ

    مَكِّيَّةٌ


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( الم ( 1 ) غلبت الروم ( 2 ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( 3 ) )

    ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) سبب نزول هذه الآية على - ما ذكره المفسرون : - أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليها رجلا يقال له شهريراز ، وبعث قيصر جيشا إلى فارس واستعمل عليهم رجلا يدعى يحفس ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس [ على ما ] أخبرنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه - والمناحبة : المراهنة - على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاثة إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج [ ص: 260 ] أبو بكر ولقي أبيا ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت : فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب ، قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته ، وجاء به يحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تصدق به " .

    وكان سبب غلبة الروم فارسا - على ما قاله عكرمة وغيره - : أن شهريراز بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان ، إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس أني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهريراز ، وقال : إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهريراز ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين روميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا . فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ، ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما ، [ ص: 261 ] فقال شهريراز : إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك . قال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ، ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله - عز وجل - : ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض ) أي : أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة : هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة . وقال مقاتل : الأردن وفلسطين . ( وهم من بعد غلبهم ) أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم ، والغلب والغلبة لغتان ) ( سيغلبون ) فارسا .
    ( في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ( 4 ) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ( 5 ) )

    ( في بضع سنين ) والبضع ما بين الثلاث إلى السبع ، وقيل : ما بين الثلاثة إلى التسع وقيل : ما دون العشرة . وقرأ عبد الله بن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، والحسن ، وعيسى بن عمر : " غلبت " بفتح الغين واللام ، " سيغلبون " بضم الياء وبفتح اللام . وقالوا : نزلت حين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غلبة الروم فارسا . ومعنى الآية : الم غلبت الروم فارسا في أدنى الأرض إليكم ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، يغلبهم المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم . والأول أصح ، وهو قول أكثر المفسرين . ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) أي : من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها ، فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره . ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ) الروم على فارس . قال السدي : فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون بظهورهم على [ ص: 262 ] المشركين يوم بدر ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ( ينصر من يشاء وهو العزيز ) الغالب ) ( الرحيم ) بالمؤمنين .
    ( وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 6 ) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 7 ) أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ( 8 ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 9 ) )

    ( وعد الله ) نصب على المصدر ، أي : وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس ، ( لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) يعني : أمر معاشهم ، كيف يكتسبون ويتجرون ، ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون ، وكيف يبنون ويعيشون ، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطئ وهو لا يحسن يصلي ( وهم عن الآخرة هم غافلون ) ساهون عنها جاهلون بها ، لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها . ( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) أي : للحق ، وقيل : لإقامة الحق ( وأجل مسمى ) أي : لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت ، وهو القيامة ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) أولم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا ( كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض ) حرثوها وقلبوها للزراعة ( وعمروها أكثر مما عمروها ) [ أي : أكثر مما عمرها ] أهل مكة ، قيل : قال [ ص: 263 ] ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث ( وجاءتهم رسلهم بالبينات ) فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ( فما كان الله ليظلمهم ) بنقص حقوقهم ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ببخس حقوقهم .
    ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( 10 ) الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ( 11 ) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ( 12 ) ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ( 13 ) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ( 14 ) )

    ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا ) أي : أساؤوا العمل ) ( السوأى ) يعني : الخلة التي تسوؤهم وهي النار ، وقيل : " السوأى " اسم لجهنم ، كما أن " الحسنى " اسم للجنة ) ( أن كذبوا ) أي : لأن كذبوا . وقيل تفسير " السوأى " ما بعده ، وهو قوله : " أن كذبوا " يعني : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أن كذبوا ( أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) قرأ أهل الحجاز والبصرة : " عاقبة " بالرفع ، أي : ثم كان آخر أمرهم السوء ، وقرأ الآخرون بالنصب على خبر كان ، تقديره : ثم كان السوأى عاقبة الذين أساءوا . قوله تعالى : ( الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) أي : يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ، ولم يقل : يعيدهم ، رده إلى الخلق ( ثم إليه ترجعون ) فيجزيهم بأعمالهم . قرأ أبو عمرو ، وأبو بكر : " يرجعون " بالياء ، والآخرون بالتاء . ( ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ) قال قتادة ، والكلبي : ييأس المشركون من كل خير . وقال الفراء : ينقطع كلامهم وحجتهم . وقال مجاهد : يفتضحون . ( ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ) جاحدين متبرئين يتبرءون منها وتتبرأ منهم . ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) أي : يتميز أهل الجنة من أهل النار . وقال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبدا .
    ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ( 15 ) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ( 16 ) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( 17 ) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ( 18 ) )

    ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ) وهي البستان الذي في غاية النضارة ) ( يحبرون ) قال ابن عباس : يكرمون . وقال مجاهد وقتادة : ينعمون . وقال أبو عبيدة : يسرون . و " الحبرة " : السرور . وقيل : " الحبرة " في اللغة : كل نعمة حسنة ، والتحبير التحسين . وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : " تحبرون " هو السماع في الجنة . وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت ، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم وتسبيحهم . ( وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ) أي : البعث يوم القيامة ( فأولئك في العذاب محضرون ) قوله تعالى : ( فسبحان الله ) أي : سبحوا الله ، ومعناه : صلوا لله ( حين تمسون ) أي : تدخلون في المساء ، وهو صلاة المغرب والعشاء ( وحين تصبحون ) أي : تدخلون في الصباح ، وهو صلاة الصبح . ( وله الحمد في السماوات والأرض ) قال ابن عباس : يحمده أهل السماوات والأرض ويصلون له ( وعشيا ) أي : صلوا لله عشيا ، يعني صلاة العصر ( وحين تظهرون ) تدخلون في الظهيرة ، وهو صلاة الظهر . قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم ، وقرأ هاتين الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، [ ص: 265 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من قال : سبحان الله وبحمده في كل يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر . أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، حدثنا السري ، بن خزيمة الأبيوردي ، حدثنا المعلى بن سعد ، أخبرنا عبد العزيز بن المختار ، عن سهيل ، عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان الله وبحمده ، مائة مرة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد " .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا محمد بن فضيل ، أخبرنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم "

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا علي بن المديني ، أخبرنا ابن عيينة ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة قال : سمعت كريبا أبا رشدين يحدث عن ابن عباس ، عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات غداة من عندها ، وكان اسمها برة فحوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسماها جويرية ، وكره أن يقال خرج من عند برة ، فخرج وهي في المسجد ، ورجع بعدما تعالى النهار ، فقال : ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت ، بعد ؟ قالت : نعم ، فقال : " لقد قلت ، بعدك أربع كلمات ، ثلاث مرات ، لو وزنت بكلماتك لوزنتهن : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضاء نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته " .
    ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ( 19 ) )

    قوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ) [ ص: 266 ] قرأ حمزة والكسائي : " تخرجون " بفتح التاء وضم الراء ، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الراء .
    ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ( 20 ) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 21 ) ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ( 22 ) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ( 23 ) ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ( 24 ) )

    ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ) أي : خلق أصلكم يعني آدم من تراب ( ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) تنبسطون في الأرض . ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ) قيل : من جنسكم من بني آدم . وقيل : خلق حواء من ضلع آدم ( لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادان ويتراحمان ، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) في عظمة الله وقدرته . ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم ) يعني : اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ) ( وألوانكم ) أبيض وأسود وأحمر ، وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة ( إن في ذلك لآيات للعالمين ) قرأ حفص : ) ( للعالمين ) بكسر اللام . ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ) أي : منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ، أي : تصرفكم في طلب المعيشة ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) سماع تدبر واعتبار .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #335
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله



    الحلقة (330)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الرُّومِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية25 إلى الاية 47


    ( ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ( 25 ) وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ( 26 ) وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ( 27 ) )

    ( ومن آياته يريكم البرق خوفا ) للمسافر من الصواعق ) ( وطمعا ) للمقيم في المطر . ( وينزل من السماء ماء فيحيي به ) يعني بالمطر ( الأرض بعد موتها ) أي : بعد يبسها [ ص: 267 ] وجدوبتها ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) قال ابن مسعود : قامتا على غير عمد بأمره . وقيل : يدوم قيامها بأمره ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ) قال ابن عباس : من القبور ( إذا أنتم تخرجون ) منها ، وأكثر العلماء على أن معنى الآية : ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض . ( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) مطيعون ، قال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعا . وعن ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة . ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ) يخلقهم أولا ثم يعيدهم بعد الموت للبعث ( وهو أهون عليه ) قال الربيع بن خيثم ، والحسن ، وقتادة ، والكلبي : أي : هو هين عليه وما شيء عليه بعزيز ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس . وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق ؟
    إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول


    أي : عزيزة طويلة .

    وقال مجاهد وعكرمة : " وهو أهون عليه " : أي : أيسر ، ووجهه أنه على طريق ضرب المثل ، [ ص: 268 ] أي : هو أهون عليه على ما يقع في عقولكم ، فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء ، أي : الابتداء . وقيل : هو أهون عليه عندكم وقيل : هو أهون عليه ، أي : على الخلق ، يقومون بصيحة واحدة ، فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ، ثم علقا ثم مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء ، وهذا معنى رواية ابن حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . ( وله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ( في السماوات والأرض ) قال ابن عباس : هي أنه ليس كمثله شيء . وقال قتادة : هي أنه لا إله إلا هو ) ( وهو العزيز ) في ملكه ) ( الحكيم ) في خلقه .
    ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ( 28 ) )

    ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) أي : بين لكم شبها بحالكم ، وذلك المثل من أنفسكم ثم بين المثل فقال : ( هل لكم من ما ملكت أيمانكم ) أي : عبيدكم وإمائكم ( من شركاء في ما رزقناكم ) من المال ) ( فأنتم ) وهم ( فيه سواء ) أي : هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم; ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) أي : تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمر دونه ، وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث ، وهو يحب أن ينفرد به . قال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم تخافوا هذا من ماليككم ولم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي ؟ . [ ص: 269 ] ومعنى قوله : " أنفسكم " ، أي : أمثالكم من الأحرار كقوله : " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " ( النور - 12 ) ، أي : بأمثالهم . ( كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم .
    ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ( 29 ) فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 ) )

    ( بل اتبع الذين ظلموا ) أشركوا بالله ( أهواءهم ) في الشرك ) ( بغير علم ) جهلا بما يجب عليهم ( فمن يهدي من أضل الله ) أي : أضله الله ( وما لهم من ناصرين ) مانعين يمنعونهم من عذاب الله - عز وجل - . قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين ) أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ) ( حنيفا ) مائلا مستقيما عليه ( فطرة الله ) دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : إلزم فطرة الله ( التي فطر الناس عليها ) أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين . وهم الذين فطرهم الله على الإسلام : أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتجون البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ ، قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . [ ص: 270 ]

    ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله : " ألست ، بربكم قالوا بلى " ( الأعراف - 172 ) ، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ( الزمر - 3 ) ، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : " فأبواه يهودانه " ؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة .

    وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . . . ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك على الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه . [ ص: 271 ]

    قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك ( ذلك الدين القيم ) المستقيم ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل ، فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .
    ( منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( 32 ) وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ( 33 ) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( 34 ) )

    ( منيبين إليه ) أي : فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل معه فيها الأمة ، كما قال : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " ( الطلاق - 1 ) ( منيبين إليه ) أي : راجعين إليه بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة ( واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) أي : صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى . وقيل : هم أهل البدع من هذه الأمة ( كل حزب بما لديهم فرحون ) أي : راضون بما عندهم . قوله تعالى : ( وإذا مس الناس ضر ) قحط وشدة ( دعوا ربهم منيبين إليه ) مقبلين إليه بالدعاء ( ثم إذا أذاقهم منه رحمة ) خصبا ونعمة ( إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم ) ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد فقال : ( فتمتعوا فسوف تعلمون ) حالكم في الآخرة .
    [ ص: 272 ] ( أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ( 35 ) وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ( 36 ) أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 37 ) فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون ( 38 ) وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ( 39 ) )

    ( أم أنزلنا عليهم سلطانا ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : حجة وعذرا . وقال قتادة : كتابا ( فهو يتكلم ) ينطق ( بما كانوا به يشركون ) أي : ينطق بشركهم ويأمرهم به . ( وإذا أذقنا الناس رحمة ) أي : الخصب وكثرة المطر ( فرحوا بها ) يعني فرح البطر ( وإن تصبهم سيئة ) أي : الجدب وقلة المطر ويقال : الخوف والبلاء ( بما قدمت أيديهم ) من السيئات ( إذا هم يقنطون ) ييأسون من رحمة الله ، وهذا خلاف وصف المؤمن ، فإنه يشكر الله عند النعمة ، ويرجو ربه عند الشدة . ( أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) قوله تعالى : ( فآت ذا القربى حقه ) البر والصلة ) ( والمسكين ، ) وحقه أن يتصدق عليه ) ( وابن السبيل ) يعني : المسافر ، وقيل : هو الضعيف ( ذلك خير للذين يريدون وجه الله ) يطلبون ثواب الله بما يعملون ) ( وأولئك هم المفلحون ) قوله - عز وجل - : ) ( وما آتيتم من ربا ) قرأ ابن كثير : " أتيتم " مقصورا ، وقرأ الآخرون بالمد ، أي : أعطيتم ، ومن قصر فمعناه : ما جئتم من ربا ، ومجيئوهم ذلك على وجه الإعطاء كما تقول : أتيت خطئا ، وأتيت صوابا ، فهو يؤول في المعنى إلى قول من مد . ( ليربوا في أموال الناس ) قرأ أهل المدينة ، ويعقوب : " لتربوا " بالتاء وضمها وسكون الواو على الخطاب ، أي : لتربوا أنتم وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها ، ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا لقوله : ( فلا يربو عند الله ) في أموال الناس ، أي : في اختطاف أموال الناس واجتذابها . [ ص: 273 ]

    واختلفوا في معنى الآية ، فقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاوس ، وقتادة ، والضحاك ، وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي غيره العطية ليثب أكثر منها فهذا جائز حلال ، ولكن لا يثاب عليه في القيامة ، وهو معنى قوله - عز وجل - : " فلا يربوا عند الله " ، وكان هذا حراما على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لقوله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " ( المدثر - 6 ) ، أي : لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت . وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله ولا يريد به وجه الله . وقال الشعبي : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه ، لا لوجه الله ، فلا يربوا عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى .

    ( وما آتيتم من زكاة ) أعطيتم من صدقة ( تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات ، تقول العرب : القوم مهزولون ومسمونون : إذا هزلت أو سمنت إبلهم .
    ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون )(40) .

    الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون
    [ ص: 274 ] ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ( 41 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ظهر الفساد في البر والبحر ) يعني : قحط المطر وقلة النبات ، وأراد بالبر البوادي والمفاوز ، وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية . قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحرا ، تقول : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ( بما كسبت أيدي الناس ) أي : بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : " البر " ظهر الأرض من الأمصار وغيرها ، و " البحر " هو البحر المعروف ، وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف لأن الصدف إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤا . وقال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد : الفساد في البر : قتل أحد ابني آدم أخاه ، وفي البحر : غصب الملك الجائر السفينة .

    قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن ، آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - امتلأت الأرض ظلما وضلالة ، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة .

    ( ليذيقهم بعض الذي عملوا ) أي : عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ) ( لعلهم يرجعون ) عن الكفر وأعمالهم الخبيثة .
    [ ص: 275 ] ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين ( 42 ) فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون ( 43 ) من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ( 44 ) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين ( 45 ) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( 46 ) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ( 47 ) )

    ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل ) لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية ( كان أكثرهم مشركين ) أي : كانوا مشركين ، فأهلكوا بكفرهم . ( فأقم وجهك للدين القيم ) المستقيم وهو دين الإسلام ( من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ) يعني : يوم القيامة ، لا يقدر أحد على رده من الله ( يومئذ يصدعون ) أي : يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير . ( من كفر فعليه كفره ) أي : وبال كفره ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ) يوطئون المضاجع ويسوونها في القبور . ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليثيبهم الله أكثر من ثواب أعمالهم ( إنه لا يحب الكافرين ) قوله - عز وجل - : ( ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) تبشر بالمطر ( وليذيقكم من رحمته ) نعمة المطر وهي الخصب ( ولتجري الفلك بأمره ) بهذه الرياح ( بأمره ولتبتغوا من فضله ) لتطلبوا من رزقه بالتجارة في البحر ( ولعلكم تشكرون ) رب هذه النعم . قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات ) بالدلالات الواضحات على صدقهم ( فانتقمنا من الذين أجرموا ) عذبنا الذين كذبوهم ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) وإنجاؤهم من العذاب ، ففي هذا تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالظفر في العاقبة والنصر على الأعداء . قال الحسن : أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم . [ ص: 276 ]

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا أحمد بن زنجويه ، أخبرنا أبو شيخ الحراني ، أخبرنا أبو موسى بن أعين ، عن ليث بن أبي سليم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة " ، ثم تلا هذه الآية " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #336
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (331)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ لُقْمَانَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 12


    ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ( 48 ) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ( 49 ) )

    ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) أي : ينشره ( فيبسطه في السماء كيف يشاء ) مسيرة يوم أو يومين وأكثر على من يشاء ( ويجعله كسفا ) قطعا متفرقة ( فترى الودق ) المطر ( يخرج من خلاله ) وسطه ( فإذا أصاب به من يشاء ) أي : بالودق ( من عباده إذا هم يستبشرون ) يفرحون بالمطر . ) ( وإن كانوا ) وقد كانوا ( من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ) أي آيسين ، وقيل : " وإن كانوا " ، أي : وما كانوا إلا مبلسين ، وأعاد قوله : " من قبله " تأكيدا . وقيل : الأولى ترجع إلى إنزال المطر ، والثانية إلى إنشاء السحاب . وفي حرف عبد الله بن مسعود : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم لمبلسين ، غير مكرر . [ ص: 277 ]
    ( فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ( 50 ) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ( 51 ) فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ( 52 ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ( 53 ) الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ( 54 ) )

    ( فانظر إلى آثار رحمة الله ) هكذا قرأ أهل الحجاز ، والبصرة ، وأبو بكر . وقرأ الآخرون : ( إلى آثار رحمة الله ) على الجمع ، أراد برحمة الله : المطر ، أي : انظر إلى حسن تأثيره في الأرض ، وقال مقاتل : أثر رحمة الله أي : نعمته وهو النبت ( كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى ) يعني : إن ذلك الذي يحيي الأرض لمحيي الموتى ( وهو على كل شيء قدير ولئن أرسلنا ريحا ) باردة مضرة فأفسدت الزرع ( فرأوه مصفرا ) أي : رأوا النبت والزرع مصفرا بعد الخضرة ) ( لظلوا ) لصاروا ) ( من بعده ) أي : من بعد اصفرار الزرع ) ( يكفرون ) يجحدون ما سلف من النعمة ، يعني : أنهم يفرحون عند الخصب ، ولو أرسلت عذابا على زرعهم جحدوا سالف نعمتي . ( فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . ( الله الذي خلقكم من ضعف ) قرئ بضم الضاد وفتحها ، فالضم لغة قريش ، والفتح لغة تميم ، ومعنى " من ضعف " ، أي : من نطفة ، يريد من ذي ضعف ، أي : من ماء ذي ضعف كما قال [ ص: 278 ] تعالى : " ألم نخلقكم من ماء مهين " ( المرسلات - 20 ) ( ثم جعل من بعد ضعف قوة ) بعد ضعف الطفولية شبابا ، وهو وقت القوة ( ثم جعل من بعد قوة ضعفا ) هرما ( وشيبة يخلق ما يشاء ) الضعف والقوة والشباب والشيبة ) ( وهو العليم ) بتدبير خلقه ) ( القدير ) على ما يشاء .
    ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ( 55 ) وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ( 56 ) )

    ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ) يحلف المشركون ( ما لبثوا ) في الدنيا ( غير ساعة ) إلا ساعة ، استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا الآخرة . وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال : " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " ( الأحقاف - 35 ) . ( كذلك كانوا يؤفكون ) يصرفون عن الحق في الدنيا ، قال الكلبي ومقاتل : كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث . والمعنى أن الله أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه ، وكان ذلك بقضاء الله وبقدره بدليل قوله : " يؤفكون " ، أي : يصرفون عن الحق . ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم كذبهم فقال : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله ) أي : فيما كتب الله لكم في سابق علمه من اللبث في القبور . وقيل : " في كتاب الله " أي : في حكم الله ، وقال قتادة ومقاتل : فيه تقديم وتأخير معناه . وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان : لقد لبثتم إلى يوم البعث ، يعني الذين يعلمون كتاب الله ، وقرأوا قوله تعالى : " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " ( المؤمنون - 100 ) ، أي : قالوا للمنكرين : لقد لبثتم ( إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ) الذي كنتم تنكرونه في الدنيا ( ولكنكم كنتم لا تعلمون ) وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن بدليل قوله تعالى : [ ص: 279 ] ( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم )

    ( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ( 57 ) ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ( 58 ) كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ( 59 ) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ( 60 ) )

    ( فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ) يعني عذرهم ( ولا هم يستعتبون ) لا يطلب منهم العتبى والرجوع في الآخرة ، قرأ أهل الكوفة : ) ( لا ينفع ) بالياء هاهنا وفي " حم " المؤمن ووافق نافع في " حم " المؤمن ، وقرأ الباقون بالتاء فيهما . ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ) ما أنتم إلا على باطل . ( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) توحيد الله . ( فاصبر إن وعد الله حق ) في نصرتك وإظهارك على عدوك ( ولا يستخفنك ) لا يستجهلنك ، معناه : لا يحملنك الذين لا يوقنون على الجهل واتباعهم في الغي . وقيل : لا يستخفن رأيك وحلمك ( الذين لا يوقنون ) بالبعث والحساب .

    سُورَةُ لُقْمَانَ

    مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    ( الم ( 1 ) تلك آيات الكتاب الحكيم ( 2 ) هدى ورحمة للمحسنين ( 3 ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ( 4 ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( 5 ) ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ( 6 ) )

    ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة ) قرأ حمزة : " ورحمة " بالرفع على الابتداء ، أي : هو هدى ورحمة ، وقرأ الآخرون بالنصب على الحال ) ( للمحسنين ) ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ) ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) الآية . قال الكلبي ، ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر فيأتي الحيرة ويشتري أخبار العجم ويحدث بها قريشا ، ويقول : إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون [ ص: 284 ] حديثه ويتركون استماع القرآن ، فأنزل الله هذه الآية . وقال مجاهد : يعني شراء القيان والمغنيين ، ووجه الكلام على هذا التأويل : من يشتري ذات لهو أو ذا لهو الحديث . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكي ، حدثنا جدي محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا مشمعل بن ملحان الطائي ، عن مطرح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد العزيز ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام " ، وفي مثل هذا أنزلت هذه الآية : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله " ، وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت .

    أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد القفال ، أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي ، أخبرنا محمد بن غالب بن تمام ، أخبرنا خالد بن أبي يزيد ، عن هشام هو ابن حسان ، عن محمد هو ابن سيرين ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة " . قال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه ، إن الله يقول : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث " الآية . وعن عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير قالوا : " لهو الحديث " هو الغناء ، والآية نزلت فيه . ومعنى قوله : ( يشتري لهو الحديث ) أي : يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، قال أبو الصباء البكري سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال : هو الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات . [ ص: 285 ]

    وقال إبراهيم النخعي : الغناء ينبت النفاق في القلب ، وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف . وقيل : الغناء رقية الزنا . وقال ابن جريج : هو الطبل وعن الضحاك قال : هو الشرك . وقال قتادة : هو كل لهو ولعب . ( ليضل عن سبيل الله بغير علم ) أي : يفعله عن جهل . قال قتادة : بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق .

    قوله تعالى : ( ويتخذها هزوا ) أي : يتخذ آيات الله هزوا . قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، ويعقوب : ) ( ويتخذها ) بنصب الذال عطفا على قوله : " ليضل " ، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله : " يشتري " . ( أولئك لهم عذاب مهين )
    ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم ( 7 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ( 8 ) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم ( 9 ) خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 10 ) )

    ( وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم ) حسن .
    [ ص: 286 ] ) ( هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين ( 11 ) )

    ( هذا ) يعني الذي ذكرت مما تعاينون ( خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) من آلهتكم التي تعبدونها ( بل الظالمون في ضلال مبين )
    ( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ( 12 ) قوله تعالى : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) يعني : العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور . قال محمد بن إسحاق : وهو لقمان بن ناعور بن ناحور بن تارخ وهو آزر . وقال وهب : كان ابن أخت أيوب ، وقال مقاتل : ذكر أنه كان ابن خالة أيوب . قال الواقدي : كان قاضيا في بني إسرائيل .

    واتفق العلماء على أنه كان حكيما ، ولم يكن نبيا ، إلا عكرمة فإنه قال : كان لقمان نبيا . وتفرد بهذا القول . وقال بعضهم : خير لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وروي أنه كان نائما نصف النهار فنودي : يا لقمان ، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض لتحكم بين الناس بالحق ؟ فأجاب الصوت فقال : إن خيرني ربي قبلت العافية ، ولم أقبل البلاء ، وإن عزم علي فسمعا وطاعة ، فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لم يا لقمان ؟ قال : لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها ، يغشاها الظلم من كل مكان أن يعدل فبالحري أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون [ ص: 287 ] شريفا ، ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة . فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فأعطي الحكمة ، فانتبه وهو يتكلم بها ، ثم نودي داود بعده فقبلها ولم يشترط ما اشترط لقمان ، فهوى في الخطيئة غير مرة ، كل ذلك يعفو الله عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته . وعن خالد الربعي قال : كان لقمان عبدا حبشيا نجارا . وقال سعيد بن المسيب : كان خياطا . وقيل : كان راعي غنم . فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال : ألست فلانا الراعي فبم بلغت ما بلغت ؟ قال : بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني . وقال مجاهد : كان عبدا أسود عظيم الشفتين ومشقق القدمين . قوله - عز وجل - : ( أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #337
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (332)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ لُقْمَانَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية13 إلى الاية 32


    ( وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ( 13 ) ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ( 14 ) )

    ( وإذ قال لقمان لابنه ) واسمه أنعم ، ويقال : مشكم ، ( وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) قرأ ابن كثير : " يا بني لا تشرك بالله " بإسكان الياء ، وفتحها حفص ، والباقون بالكسر ، " يا بني إنها " بفتح الياء حفص ، والباقون بالكسر ، " يا بني أقم الصلاة " ، بفتح الياء البزي عن ابن كثير وحفص ، وبإسكانها القواس ، والباقون بكسرها . ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ) قال ابن عباس : شدة بعد شدة . وقال الضحاك : ضعفا على ضعف . قال مجاهد : مشقة على مشقة . وقال الزجاج : المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة . ويقال : الحمل ضعف ، والطلق ضعف ، والوضع ضعف . ) ( وفصاله ) أي : فطامه ( في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) المرجع ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين .
    [ ص: 288 ] ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ( 15 ) يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ( 16 ) )

    ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) أي : بالمعروف ، وهو البر والصلة والعشرة الجميلة ( واتبع سبيل من أناب إلي ) أي : دين من أقبل إلى طاعتي ، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أبا بكر ، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، فقالوا له : قد صدقت هذا الرجل وآمنت به ؟ قال : نعم ، هو صادق ، فآمنوا به ، ثم حملهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أسلموا ، فهؤلاء لهم سابقة الإسلام . أسلموا بإرشاد أبي بكر . قال الله تعالى : ( واتبع سبيل من أناب إلي ) يعني أبا بكر ، ( ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) وقيل : نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقاص وأمه ، وقد مضت القصة وقيل : الآية عامة في حق كافة الناس . ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) الكناية في قوله : " إنها " راجعة إلى الخطيئة ، وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة ) قال قتادة : تكن في جبل . وقال ابن عباس : في صخرة تحت الأرضين السبع ، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار ، وخضرة السماء منها . قال السدي : خلق الله الأرض على حوت - وهو النون الذي ذكر الله - عز وجل - في القرآن " ن والقلم " - والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، [ ص: 289 ] وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الريح ( أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف ) باستخراجها ) ( خبير ) عالم بمكانها ، قال الحسن : معنى الآية هو الإحاطة بالأشياء ، صغيرها وكبيرها ، وفي بعض الكتب إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها فمات .
    ( يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ( 17 ) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ( 18 ) واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ( 19 ) )

    ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ) يعني من الأذى ( إن ذلك من عزم الأمور ) يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على الأذى فيهما ، من الأمور الواجبة التي أمر الله بها ، أو من الأمور التي يعزم عليها لوجوبها . ( ولا تصعر خدك للناس ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : " ولا تصعر " بتشديد العين من غير ألف ، وقرأ الآخرون : " تصاعر " بالألف ، يقال : صعر وجهه وصاعر : إذا مال وأعرض تكبرا ، ورجل أصعر : أي : مائل العنق . قال ابن عباس : يقول : لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك . وقال مجاهد : هو الرجل يكون بينك وبينه إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه . وقال عكرمة : هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبرا . وقال الربيع بن أنس وقتادة : ولا تحتقر الفقراء ليكن الفقير والغني عندك سواء ( ولا تمش في الأرض مرحا ) خيلاء ( إن الله لا يحب كل مختال ) في مشيه ) ( فخور ) على الناس . ( واقصد في مشيك ) أي : ليكن مشيك قصدا لا تخيلا ولا إسراعا . وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة ، كقوله : " يمشون على الأرض هونا " ( الفرقان - 63 ) ( واغضض من صوتك ) انقص من صوتك ، وقال مقاتل : اخفض صوتك ( إن أنكر الأصوات ) أقبح الأصوات ( لصوت الحمير ) أوله زفير وآخره شهيق ، وهما صوت أهل النار . [ ص: 290 ]

    وقال موسى بن أعين : سمعت سفيان الثوري يقول في قوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) قال : صياح كل شيء تسبيح لله إلا الحمار . وقال جعفر الصادق في قوله : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) قال : هي العطسة القبيحة المنكرة . قال وهب : تكلم لقمان باثنى عشر ألف باب من الحكمة ، أدخلها الناس في كلامهم وقضاياهم وحكمهم : قال خالد الربعي : كان لقمان عبدا حبشيا فدفع مولاه إليه شاة وقال : اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها ، فأتاه باللسان والقلب ، ثم دفع إليه شاة أخرى ، وقال : اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه باللسان والقلب ، فسأله مولاه ، فقال : ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا .
    ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( 20 ) )

    قوله تعالى : ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم ) أتم وأكمل ) ( نعمه ) قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو ، وحفص : " نعمه " بفتح العين وضم الهاء على الجمع ، وقرأ الآخرون منونة على الواحد ، ومعناها الجمع أيضا كقوله : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ( إبراهيم - 14 ) ( ظاهرة وباطنة ) قال عكرمة عن ابن عباس : النعمة الظاهرة : الإسلام والقرآن ، والباطنة : ما ستر عليك من الذنوب ولم يعجل عليك بالنقمة وقال الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة وتسوية الأعضاء ، والباطنة : المعرفة . وقال مقاتل : الظاهرة : تسوية الخلق ، والرزق ، والإسلام . والباطنة : ما ستر من الذنوب . وقال الربيع : الظاهرة بالجوارح ، والباطنة : بالقلب . وقيل : الظاهرة : الإقرار باللسان ، والباطنة : الاعتقاد بالقلب . وقيل : الظاهرة : تمام الرزق والباطنة : حسن الخلق . وقال عطاء : الظاهرة : تخفيف الشرائع ، والباطنة : الشفاعة . [ ص: 291 ]

    وقال مجاهد : الظاهرة : ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ، والباطنة : الإمداد بالملائكة . وقيل : الظاهرة : الإمداد بالملائكة ، والباطنة : إلقاء الرعب في قلوب الكفار . وقال سهل بن عبد الله : الظاهرة : اتباع الرسول ، والباطنة : محبته . ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) نزلت في النضر بن الحارث ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ، وأشباههم كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته بغير علم ( ولا هدى ولا كتاب منير )
    ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ( 21 ) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور ( 22 ) ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ( 23 ) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ( 24 ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 25 ) )

    ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) قال الله - عز وجل - : ( أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ) وجواب " لو " محذوف ، ومجازه : يدعوهم فيتبعونه ، يعني : يتبعون الشيطان وإن كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير . ( ومن يسلم وجهه إلى الله ) يعني : لله ، أي : يخلص دينه لله ، ويفوض أمره إلى الله ( وهو محسن ) في عمله ( فقد استمسك بالعروة الوثقى ) أي : اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه ( وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ) أي : نمهلهم ليتمتعوا بنعيم الدنيا قليلا إلى انقضاء آجالهم ( ثم نضطرهم ) ثم نلجئهم ونردهم في الآخرة ( إلى عذاب غليظ ، ) وهو عذاب النار . ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )
    [ ص: 292 ] ( لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ( 26 ) ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( 27 ) )

    ( لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد ) قوله - عز وجل - : ) ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) الآية . قال المفسرون : نزلت بمكة ، قوله سبحانه وتعالى : " ويسئلونك عن الروح " ، إلى قوله : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ( الإسراء - 85 ) ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا : يا محمد ، بلغنا عنك أنك تقول : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " أفعنيتنا أم قومك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : كلا قد عنيت ، قالوا : ألست تتلوا فيما جاءك أنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم " ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول : " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " ( البقرة - 269 ) ، فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير ؟ فأنزل الله هذه الآية .

    قال قتادة : إن المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع ، فنزلت : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) ، أي : بريت أقلاما ( والبحر يمده ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " والبحر " بالنصب عطفا على " ما " ، والباقون بالرفع على الاستئناف ) ( يمده ) أي : يزيده ، وينصب فيه ) ( من بعده ) خلفه ( سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) وفي الآية اختصار تقديره : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله . ( إن الله عزيز حكيم ) وهذه الآية على قول عطاء بن يسار مدنية ، وعلى قول غيره مكية ، وقالوا : إنما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة ، والله أعلم .
    [ ص: 293 ] ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير ( 28 ) ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ( 29 ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( 30 ) ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( 31 ) وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ( 32 ) )

    ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) يعني كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء ( إن الله سميع بصير ( ذلك بأن الله هو الحق ) أي : ذلك الذي ذكرت لتعلموا أن الله هو الحق ( وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ) يريد أن ذلك من نعمة الله عليكم ( ليريكم من آياته ) عجائبه ( إن في ذلك لآيات لكل صبار ) على أمر الله ) ( شكور ) لنعمه . ( وإذا غشيهم موج كالظلل ) قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب . والظلل جمع الظلة شبه بها الموج في كثرتها وارتفاعها ، وجعل الموج ، وهو واحد ، كالظلل وهي جمع ، لأن الموج يأتي منه شيء بعد شيء ( دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) أي : عدل موف في البر بما عاهد الله عليه في البحر من التوحيد له ، يعني : ثبت على إيمانه . [ ص: 294 ]

    نزلت في عكرمة بن أبي جهل هرب عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف ، فقال عكرمة : لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولأضعن يدي في يده ، فسكنت الريح ، فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه وقال مجاهد : فمنهم مقتصد في القول مضمر للكفر . وقال الكلبي : مقتصد في القول ، أي : من الكفار ، لأن بعضهم كان أشد قولا وأغلى في الافتراء من بعض ( وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) والختر أسوأ الغدر .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #338
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (333)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ السَّجْدَةِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 16

    ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ( 33 ) إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( 34 ) )

    ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي ) لا يقضي ولا يغني ( والد عن ولده ولا مولود هو جاز ) مغن ( عن والده شيئا ) قال ابن عباس : كل امرئ يهمه نفسه ، ( إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) يعني الشيطان . قال سعيد بن جبير : هو أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة . ( إن الله عنده علم الساعة ) الآية نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة ، بن محارب ، ابن حفصة ، من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إن أرضنا أجدبت فمتى [ ص: 295 ] ينزل الغيث ؟ وتركت ، امرأتي حبلى ، فمتى تلد ؟ وقد علمت أين ولدت فبأي أرض أموت ؟ فأنزل الله هذه الآية ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ) وقرأ أبي بن كعب : " بأية أرض " ، والمشهور : " بأي أرض " لأن الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء .

    وقيل : أراد بالأرض المكان : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله ، أخبرنا إبراهيم بن ساعدة عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مفاتيح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت " . ( إن الله عليم خبير )
    سُورَةُ السَّجْدَةِ

    مَكِّيَّةٌ



    مكية ، قال عطاء : إلا ثلاث آيات من قوله " أفمن كان مؤمنا " إلى آخر ثلاث آيات بسم الله الرحمن الرحيم

    ) ( الم ( 1 ) تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ( 2 ) أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ( 3 ) الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ( 4 ) )

    ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ) قال مقاتل : لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين . ) ( أم يقولون ) بل يقولون ) ( افتراه ) وقيل الميم صلة ، أي : أيقولون افتراه ؟ استفهام توبيخ . وقيل : " أم " بمعنى الواو ، أي : ويقولون افتراه . وقيل : فيه إضمار ، مجازه فهل يؤمنون ، أم يقولون افتراه ، ثم قال : ) ( بل هو ) يعني القرآن ( الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم ) أي : لم يأتهم ( من نذير من قبلك ) قال قتادة : كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عباس ، ومقاتل : ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما ) ( لعلهم يهتدون ) ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون )
    [ ص: 300 ] ) ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( 5 ) )

    ( يدبر الأمر ) أي : يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر ( من السماء إلى الأرض ) وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ) ( ثم يعرج ) يصعد ) ( إليه ) جبريل بالأمر ( في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) أي : في يوم واحد من أيام الدنيا وقدر مسيرة ألف سنة ، خمسمائة نزوله ، وخمسمائة صعوده ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، يقول : لو سار فيه أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعون في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله : " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " ( المعارج - 4 ) ، أراد مدة المسافة بين الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك وقوله : " إليه " أي : إلى الله . وقيل : على هذا التأويل ، أي : إلى مكان الملك الذي أمره الله - عز وجل - أن يعرج إليه .

    وقال بعضهم : ألف سنة وخمسون ألف سنة كلها في القيامة ، يكون على بعضهم أطول وعلى بعضهم أقصر ، معناه : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ، ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا ، وانقطاع أمر الأمراء وحكم الحكام في يوم كان مقداره ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وأما قوله : " خمسين ألف سنة " فإنه أراد على الكافر يجعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث : " أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا " . وقال إبراهيم التيمي : لا يكون على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر . [ ص: 301 ]

    ويجوز أن يكون هذا إخبارا عن شدته وهوله ومشقته . وقال ابن أبي مليكة : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن قوله خمسين ألف سنة ؟ فقال له ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
    ( ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم ( 6 ) الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ( 7 ) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ( 8 ) ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 9 ) وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون ( 10 ) )

    ( ذلك عالم الغيب والشهادة ) يعني : ذلك الذي صنع ما ذكره من خلق السماوات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر ) ( العزيز الرحيم ) ( الذي أحسن كل شيء خلقه ) قرأ نافع وأهل الكوفة : " خلقه " بفتح اللام على الفعل وقرأ الآخرون بسكونها ، أي : أحسن خلق كل شيء ، قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه . قال قتادة : حسنه . وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء ، من قولك : فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه . وقيل : خلق كل حيوان على صورته لم يخلق البعض على صورة البعض ، فكل حيوان كامل في خلقه حسن ، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح به معاشه . ( وبدأ خلق الإنسان من طين ) يعني آدم . ( ثم جعل نسله ) يعني ذريته ) ( من سلالة ) نطفة ، سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان ) ( من ماء مهين ) أي : ضعيف وهو نطفة الرجل . ( ثم سواه ) ثم سوى خلقه ( ونفخ فيه من روحه ) ثم عاد إلى ذريته ، فقال : ( وجعل لكم ) بعد أن كنتم نطفا ( السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) يعني : لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه . ) ( وقالوا ) يعني منكري البعث ( أئذا ضللنا ) هلكنا ) ( في الأرض ) وصرنا ترابا ، وأصله [ ص: 302 ] من قولهم : ضل الماء في اللبن إذا ذهب ( أئنا لفي خلق جديد ) استفهام إنكار . قال الله - عز وجل - : ( بل هم بلقاء ربهم كافرون ) أي : بالبعث بعد الموت .
    ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ( 11 ) ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ( 12 ) )

    ( قل يتوفاكم ) يقبض أرواحكم ( ملك الموت الذي وكل بكم ) أي : وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيل ، والتوفي استيفاء العدد ، معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كتب عليه الموت . وروي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها ما أحب من غير مشقة ، فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وقال ابن عباس : إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب . وقال مجاهد : جعلت له الأرض مثل طست يتناول منها حيث يشاء . وفي بعض الأخبار : أن ملك الموت على معراج بين السماء والأرض فينزع أعوانه روح الإنسان فإذا بلغ ثغره نحره قبضه ملك الموت .

    وروى خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال : إن لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين ، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة ، وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات . قوله : ( ثم إلى ربكم ترجعون ) أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم . ( ولو ترى إذ المجرمون ) المشركون ( ناكسو رءوسهم ) مطأطؤ رءوسهم ( عند ربهم ) حياء وندما ) ( ربنا ) أي : يقولون ربنا ) ( أبصرنا ) ما كنا به مكذبين ) ( وسمعنا ) منك تصديق ما أتتنا به رسلك . وقيل : أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا ) ( فارجعنا ) فأرددنا إلى الدنيا ( نعمل صالحا إنا موقنون ) وجواب لو مضمر مجازه لرأيت العجب .
    [ ص: 303 ] ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 13 ) فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ( 14 ) إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ( 15 ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ( 16 ) )

    ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) رشدها وتوفيقها للإيمان ( ولكن حق ) وجب ( القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) وهو قوله لإبليس : " لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " ( ص - 85 ) . ثم يقال لأهل النار - وقال مقاتل : إذا دخلوا النار قالت لهم الخزنة - : ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) أي : تركتم الإيمان به في الدنيا ( إنا نسيناكم ) تركناكم ( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون ) من الكفر والتكذيب . قوله - عز وجل - : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها ) وعظوا بها ( خروا سجدا ) سقطوا على وجوههم ساجدين ( وسبحوا بحمد ربهم ) قيل : صلوا بأمر ربهم . وقيل : قالوا سبحان الله وبحمده ( وهم لا يستكبرون ) عن الإيمان والسجود له . ) ( تتجافى ) ترتفع وتنبو ( جنوبهم عن المضاجع ) جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع عليه ، يعني الفرش ، وهم المتهجدون بالليل ، اللذين يقومون للصلاة .

    واختلفوا في المراد بهذه الآية; قال أنس : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

    وعن أنس أيضا قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر ، وقالا هي صلاة الأوابين .

    وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوابين . [ ص: 304 ]

    وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة .

    وعن أبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم : هم الذين يصلون العشاء الآخرة والفجر في جماعة .

    وروينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن ابن صالح السمان ، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا " .

    وأشهر الأقاويل أن المراد منه : صلاة الليل ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي وجماعة .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرازق ، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرنا فأصبحت يوما قريبا منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : " قد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت " ، ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل " ، ثم قرأ : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع " حتى بلغ " جزاء بما كانوا يعملون " ، ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، قال : فأخذ بلسانه فقال : اكفف عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب [ ص: 305 ] الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم " .

    حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة لكم إلى ربكم ، ومكفرة للسيئات ، ومنهاة عن الإثم " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا روح بن أسلم ، أخبرنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حيه وأهله إلى صلاته " ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم معه أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع فقاتل حتى أهريق دمه ، فيقول الله لملائكته : " انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي حتى أهريق دمه " ] . [ ص: 306 ]

    أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أخبرنا أبو محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن معانق ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أصبغ ، أخبرني عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرنا الهيثم بن أبي سنان ، أخبرني أنه سمع أبا هريرة في قصصه يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول : " إن أخا لكم لا يقول الرفث " يعني بذلك عبد الله بن رواحة ، قال :


    وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
    به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه
    إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

    قوله - عز وجل - : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) قال ابن عباس : خوفا من النار وطمعا في الجنة ( ومما رزقناهم ينفقون ) قيل : أراد به الصدقة المفروضة . وقيل : عام في الواجب والتطوع .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #339
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (334)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 4

    ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( 17 ) )

    ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم ) قرأ حمزة ويعقوب : " أخفي لهم " ساكنة الياء ، أي : أنا أخفي لهم ومن حجته قراءة ابن مسعود " نخفي " بالنون . وقرأ الآخرون بفتحها . ( من قرة أعين ) مما تقر به أعينهم ( جزاء بما كانوا يعملون ) [ ص: 307 ]

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا أبو أسامة عن الأعمش ، أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يقول الله تبارك وتعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتم عليه " ، ثم قرأ : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )

    قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هذا مما لا تفسير له . وعن بعضهم قال : أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم .
    ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ( 18 ) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون ( 19 ) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ( 20 ) )

    قوله - عز وجل - : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه ، وذلك أنه كان بينهما تنازع وكلام في شيء ، فقال الوليد بن عقبة لعلي اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة . فقال له علي : اسكت فإنك فاسق ، فأنزل الله تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) ولم يقل : لا يستويان ، لأنه لم يرد مؤمنا واحدا وفاسقا واحدا ، بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين . (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى ) التي يأوي إليها المؤمنون ( نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون )
    [ ص: 308 ] ) ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ( 21 ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ( 22 ) ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ( 23 ) )

    ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ) أي : سوى العذاب الأكبر ( لعلهم يرجعون ) قال أبي بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وإبراهيم : " العذاب الأدنى " مصائب الدنيا وأسقامها ، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - . وقال عكرمة عنه : هو الحدود . وقال مقاتل : الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب . وقال ابن مسعود : هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي ( دون العذاب الأكبر ) يعني : عذاب الآخرة ( لعلهم يرجعون ) إلى الإيمان ، يعني : من بقي منهم بعد بدر وبعد القحط . قوله - عز وجل - : ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين ) يعني : المشركين ) ( منتقمون ) ( ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه ) يعني : فلا تكن في شك من لقاء موسى ليلة المعراج ، قاله ابن عباس وغيره .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا غندر ، عن شعبة ، عن قتادة رحمه الله قال : وقال لي خليفة ، أخبرنا يزيد بن زريع ، أخبرنا سعيد عن قتادة ، عن أبي العالية قال : أخبرنا ابن عم نبيكم - يعني ابن عباس - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلا مربوعا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط [ ص: 309 ] الرأس ، ورأيت مالكا خازن النار ، والدجال في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه " .

    أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا عبد الله المحاملي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البزاز ، أخبرنا محمد بن يونس ، أخبرنا عمر بن حبيب القاضي ، أخبرنا سليمان التيمي ، عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلي في قبره " .

    وروينا في المعراج أنه رآه في السماء السادسة ومراجعته في أمر الصلاة .

    قال السدي : " فلا تكن في مرية من لقائه " ، أي : من تلقي موسى كتاب الله بالرضا والقبول .

    ) ( وجعلناه ) يعني : الكتاب وهو التوراة ، وقال قتادة : موسى ( هدى لبني إسرائيل )
    ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ( 24 ) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 25 ) أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( 26 ) أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( 27 ) )

    ( وجعلنا منهم ) يعني : من بني إسرائيل ) ( أئمة ) قادة في الخير يقتدى بهم ، يعني : الأنبياء الذين كانوا فيهم . وقال قتادة : أتباع الأنبياء ) ( يهدون ) يدعون ( بأمرنا لما صبروا ) قرأ حمزة والكسائي ، بكسر اللام وتخفيف الميم ، أي : لصبرهم ، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم ، أي : حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر ( وكانوا بآياتنا يوقنون إن ربك هو يفصل ) يقضي ( بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون أولم يهد ) لم يتبين ( لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ) آيات الله وعظاته فيتعظون بها . ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ) أي : اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها ، قال ابن عباس : هي أرض باليمن . وقال مجاهد : هي أرض بابين ( فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم ) [ ص: 310 ] من العشب والتبن ) ( وأنفسهم ) من الحبوب والأقوات ) ( أفلا يبصرون )
    ( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( 28 ) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ( 29 ) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ( 30 ) )

    ( ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ) قيل : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العباد ، قال قتادة : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار : إن لنا يوما نتنعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم ، فقالوا استهزاء : متى هذا الفتح ؟ أي : القضاء والحكم ، وقال الكلبي : يعني فتح مكة . وقال السدي : يوم بدر لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون لهم : إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم ، فيقولون متى هذا الفتح . ( قل يوم الفتح ) يوم القيامة ( لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ) ومن حمل الفتح على فتح مكة أو القتل يوم بدر قال : معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا ( ولا هم ينظرون ) لا يمهلون ليتوبوا ويعتذروا . ( فأعرض عنهم ) قال ابن عباس : نسختها آية السيف ( وانتظر إنهم منتظرون ) قيل : انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان . وقيل : انتظر عذابنا فيهم فإنهم منتظرون ذلك .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن هرمز ، عن أبي هريرة أنه قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة ( آلم تنزيل ) و ( هل أتى على الإنسان ) . [ ص: 311 ]

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينام حتى يقرأ : " تبارك " و " آلم تنزيل " .
    سُورَةُ الْأَحْزَابِ

    مَدَنِيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    ) ( يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما ( 1 ) )

    ( يا أيها النبي اتق الله ) نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور وعمرو بن سفيان السلمي ، وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين بعد قتال أحد ، وقد أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وطعمة بن أبيرق ، فقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا ، اللات والعزى ومناة ، وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها ، وندعك وربك ، فشق على النبي - صلى الله عليه وسلم - قولهم ، فقال عمر : يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم ، فقال : إني قد أعطيتهم الأمان ، فقال عمر : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله تعالى :

    ( يا أيها النبي اتق الله ) أي : دم على التقوى ، كالرجل يقول لغيره وهو قائم : قم هاهنا ، أي : اثبت قائما .

    وقيل الخطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به الأمة . وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم . [ ص: 316 ]

    ( ولا تطع الكافرين ) من أهل مكة ، يعني : أبا سفيان ، وعكرمة ، وأبا الأعور ) ( والمنافقين ) من أهل المدينة ، عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن سعد ، وطعمة ( إن الله كان عليما ) بخلقه ، قبل أن يخلقهم ) ( حكيما ) فيما دبره لهم .
    ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ( 2 ) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ( 3 ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ( 4 ) )

    ( واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قرأ أبو عمرو : " يعملون خبيرا " و " يعملون بصيرا " بالياء فيهما ، وقرأ غيره بالتاء . ( وتوكل على الله ) ثق بالله ( وكفى بالله وكيلا ) حافظا لك ، وقيل : كفيلا برزقك . قوله - عز وجل - : ) ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) نزلت في أبي معمر ، جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان ، وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد ، فلما هزم الله المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم ، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده ، والأخرى في رجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال انهزموا ، قال : فما لك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ فقال أبو معمر : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده .

    وقال الزهري ومقاتل هذا مثل ضربه الله - عز وجل - للمظاهر من امرأته وللمتبني ولد غيره ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون أمان ، ولا يكون له ولد واحد ابن رجلين . [ ص: 317 ]

    ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) قرأ أهل الشام والكوفة : " اللائي " هاهنا وفي سورة الطلاق بياء بعد الهمزة ، وقرأ قالون عن نافع ويعقوب بغير ياء بعد الهمزة ، وقرأ الآخرون بتليين الهمزة ، وكلها لغات معروفة ، " تظاهرون " قرأ عاصم بالألف وضم التاء وكسر الهاء مخففا ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء والهاء مخففا وقرأ ابن عامر بفتحها وتشديد الظاء ، وقرأ الآخرون بفتحها وتشديد الظاء والهاء من غير ألف بينهما .

    وصورة الظهار : أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . يقول الله تعالى : ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن هذا في التحريم كأمهاتكم ، ولكنه منكر وزور ، وفيه كفارة نذكرها إن شاء الله تعالى في سورة المجادلة .

    ( وما جعل أدعياءكم ) يعني : من تبنيتموه ) ( أبناءكم ) فيه نسخ التبني ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يتبنى الرجل فيجعله كالابن المولود له ، يدعوه الناس إليه ، ويرث ميراثه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي ، وتبناه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، فلما تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة ، قال المنافقون تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ونسخ التبني ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) لا حقيقة له يعني قولهم زيد بن محمد - صلى الله عليه وسلم - وادعاء نسب لا حقيقة له ( والله يقول الحق ) أي : قوله الحق ( وهو يهدي السبيل ) أي : يرشد إلى سبيل الحق .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #340
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    42,077

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (335)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْأَحْزَابِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية5 إلى الاية 19


    ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( 5 ) )

    ( ادعوهم لآبائهم ) الذين ولدوهم ( هو أقسط ) أعدل ( عند الله ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا معلى بن أسد ، أخبرنا عبد العزيز بن المختار ، أخبرنا موسى بن عقبة ، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن . [ ص: 318 ]

    ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم ) أي : فهم إخوانكم ( في الدين ومواليكم ) إن كانوا محررين وليسوا ببنيكم ، أي : سموهم بأسماء إخوانكم في الدين . وقيل : " مواليكم " أي : أولياءكم في الدين ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه ( ولكن ما تعمدت قلوبكم ) من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النهي .

    وقال قتادة : " فيما أخطأتم به " أن تدعوه لغير أبيه ، وهو يظن أنه كذلك . ومحل " ما " في قوله تعالى : " ما تعمدت " خفض ردا على " ما " التي في قوله " فيما أخطأتم به " مجازه : ولكن فيما تعمدت قلوبكم .

    ( وكان الله غفورا رحيما ) أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا غندر ، أخبرنا شعبة عن عاصم ، قال : سمعت أبا عثمان قال : سمعت سعدا ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وأبا بكرة وكان قد تسور حصن الطائف في أناس ، فجاءا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا سمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " .
    ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 6 ) )

    قوله - عز وجل - : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم . وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . [ ص: 319 ] وقيل : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا أبو عامر ، أخبرنا فليح ، عن هلال بن علي بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة " ، اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته ، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " .

    قوله - عز وجل - : ( وأزواجه أمهاتهم ) وفي حرف أبي : ( وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم ) وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " ( الأحزاب - 53 ) ، ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لأخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم .

    قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين .

    واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا .

    وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : قالت يا أمه! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم فبان بهذا معنى هذه الأمومة وهو تحريم نكاحهن .

    قوله - عز وجل - : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) في حكم الله ) ( من المؤمنين ) الذين آخى رسول الله [ ص: 320 ] - صلى الله عليه وسلم - بينهم ) ( والمهاجرين ) يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة .

    قوله : ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه .

    وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة .

    وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، أي : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة .

    ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطورا مكتوبا . وقال القرظي : في التوراة .
    ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ( 7 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ) على الوفاء بما حملوا وأن يصدق بعضهم بعضا ويبشر بعضهم ببعض . قال مقاتل : أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله ويدعوا إلى عبادة الله ويصدق بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم ( ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) خص هؤلاء الخمسة بالذكر من بين النبيين لأنهم أصحاب الكتب والشرائع وأولوا العزم من الرسل ، وقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر لما : [ ص: 321 ]

    أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الحديثي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ، أخبرنا محمد بن محمد بن سليمان الساعدي ، أخبرنا هارون بن محمد بن بكار بن بلال ، أخبرنا أبي ، أخبرنا سعيد - يعني ابن بشير - عن قتادة عن الحسن ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث " .

    قال قتادة : وذلك قول الله - عز وجل - : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) فبدأ به - صلى الله عليه وسلم - قبلهم .

    ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا .
    ( ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما ( 8 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ( 9 ) )

    ( ليسأل الصادقين عن صدقهم ) يقول : أخذنا ميثاقهم لكي نسأل الصادقين عن صدقهم ، يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة . والحكمة في سؤالهم ، مع علمه أنهم صادقون ، تبكيت من أرسلوا إليهم .

    وقيل : ليسأل الصادقين عن عملهم لله - عز وجل - . وقيل : ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم في قلوبهم . ( وأعد للكافرين عذابا أليما ) قوله - عز وجل - : ) ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ) وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الخندق ( إذ جاءتكم جنود ) يعني الأحزاب ، وهم قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة ، والنضير ( فأرسلنا عليهم ريحا ) وهي الصبا ، قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل ، وكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا [ ص: 322 ]

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا آدم ، أخبرنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور " .

    قوله تعالى : ( وجنودا لم تروها ) وهم الملائكة ، ولم تقاتل الملائكة يومئذ ، فبعث الله عليهم تلك الليلة ريحا باردة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول : يا بني فلان هلم إلي ، فإذا اجتمعوا عنده قال : النجاء النجاء ، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال .

    ( وكان الله بما تعملون بصيرا ) قال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ومن لا أتهم ، عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الله بن أبي بكرة بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل حديث بعضهم في بعض : أن نفرا من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وهودة بن قيس وأبي عمار الوائلي ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منهم ، قال : فهم الذين أنزل الله فيهم : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " ، إلى قوله : " وكفى بجهنم سعيرا " ( النساء 51 - 55 ) .

    فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ، فأجمعوا لذلك ، ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس غيلان ، فدعوهم إلى ذلك وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك ، فأجابوهم .

    فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في فزارة ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ، ومسعود بن [ ص: 323 ] رخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع

    فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة .

    وكان الذي أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق سلمان الفارسي ، وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذ حر ، فقال : يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا عليها ، فعمل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون حتى أحكموه .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني ، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري ، حدثنا حماد بن الحسن ، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، حدثنا كثير بن عبد الله ، عن عمرو بن عوف ، حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، قال : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا ، فقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سلمان منا أهل البيت " .

    قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المازني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا تحت ذي ناب أخرج الله في بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره خبر هذه الصخرة ، فإما أن يعدل عنها فإن المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه ، قال : فرقي سلمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ضارب عليه قبة تركية ، فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحيك فيها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك ، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك ، فهبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سلمان الخندق والتسعة على شق الخندق ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثانية وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح وكبر المسلمون ، ثم ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح ، وكبر المسلمون ، فأخذ بيد سلمان ورقي ، فقال [ ص: 324 ] سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط ، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القوم فقال : " أرأيتم ما يقول سلمان " ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : " ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها ، فأبشروا " ، فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعد صدق ، وعدنا النصر بعد الحصر ، فقال المنافقون : ألا تعجبون من محمد يعدكم ويمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ؟ قال فنزل القرآن : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) وأنزل الله هذه القصة : " قل اللهم مالك الملك " الآية ( آل عمران - 26 ) .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن محمد ، أخبرنا معاوية بن عمرو ، أخبرنا أبو إسحاق ، عن حميد قال : سمعت أنسا يقول : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك عنهم ، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع ، قال : " اللهم إن العيش عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة " ، فقالوا مجيبين له :


    نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
    وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، أخبرنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه - أو اغبر - وهو يقول : والله لولا ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
    فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
    إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا


    ويرفع بها صوته : أبينا أبينا . [ ص: 325 ]

    رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، قال : فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم . وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام .

    وخرج عدو الله حيي بن أخطب من بني النضير حتى أتى كعب بن أسد القرظي ، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قومه وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه حصنه ، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : يا كعب افتح لي ، فقال : ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا . قال : ويحك افتح لي أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إن أغلقت دوني إلا على جشيشتك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه . قال له كعب بن أسد : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه برعد وبرق ، وليس فيه شيء ، فدعني ومحمدا وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء ، فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له ، على أن أعطاه من الله عهدا وميثاقا . لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وتبرأ مما كان عليه فيما كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ ، أحد بني عبد الأشهل ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة أحد بني ساعدة ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو بني الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير ، أخو بني عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان [ ص: 326 ] حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به جهرا للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم منهم ، ونالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلموا عليه وقالوا : عضل والقارة ، لغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أصحاب الرجيع : خبيب بن عدي وأصحابه; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين .

    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •