عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 16 من 23 الأولىالأولى ... 67891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 301 إلى 320 من 450

الموضوع: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

  1. #301
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (296)
    الجزء الخامس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْحَجِّ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية35 إلى الاية 51

    ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 35 ) والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ( 36 ) )

    ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ) من البلاء والمصائب ( والمقيمي الصلاة ) أي : المقيمين للصلاة في أوقاتها ، ( ومما رزقناهم ينفقون ) يتصدقون . قوله عز وجل : ( والبدن ) جمع بدنة سميت بدنة لعظمها وضخامتها ، يريد : الإبل العظام الصحاح الأجسام ، يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم ، فأما إذا أسن واسترخى يقال بدن تبدينا . قال عطاء والسدي : البدن : الإبل والبقر أما الغنم فلا تسمى بدنة . ( جعلناها لكم من شعائر الله ) من أعلام دينه ، سميت شعائر لأنها تشعر ، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي ، ( لكم فيها خير ) النفع في الدنيا والأجر في العقبى ، ( فاذكروا اسم الله عليها ) عند نحرها ، ( صواف ) أي : قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ، ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، أخبرنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن زياد بن جبير قال : رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها ، قال : ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم .

    وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث قوائم .

    وقرأ ابن مسعود : " صوافن " وهي أن تعقل منها يد وتنحر على ثلاث ، وهو مثل صواف . وقرأ أبي والحسن ومجاهد : " صوافي " بالياء أي : صافية خالصة لله لا شريك له فيها .

    ( فإذا وجبت جنوبها ) أي : سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض . وأصل الوجوب : [ ص: 387 ] الوقوع . يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، ( فكلوا منها ) أمر إباحة ، ( وأطعموا القانع والمعتر ) اختلفوا في معناهما : .

    فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة : " القانع " الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل ، و " المعتر " الذي يسأل .

    وروى العوفي عن ابن عباس : " القانع " الذي لا يعترض ولا يسأل ، و " المعتر " الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل ، فعلى هذين التأويلين يكون " القانع " : من القناعة ، يقال : قنع قناعة إذا رضي بما قسم له .

    وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي : " القانع " : الذي يسأل ، " والمعتر " : الذي يتعرض ولا يسأل ، فيكون " القانع " من قنع يقنع قنوعا إذا سأل .

    وقرأ الحسن : " والمعتري " وهو مثل المعتر ، يقال : عره واعتره وعراه واعتراه إذا أتاه يطلب معروفه ، إما سؤالا أو تعرضا .

    وقال ابن زيد : " القانع " : المسكين ، " والمعتر " : الذي ليس بمسكين ، ولا يكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم .

    ( كذلك ) أي : مثل ما وصفنا من نحرها قياما ، ( سخرناها لكم ) نعمة منا لتتمكنوا من نحرها ، ( لعلكم تشكرون ) لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
    ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ( 37 ) )

    ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة [ ص: 388 ] بدمائها قربة إلى الله ، فأنزل الله هذه الآية : " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " قرأ يعقوب " تنال وتناله " بالتاء فيهما ، وقرأ العامة بالياء . قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها ، ( ولكن يناله التقوى منكم ) ولكن ترفع إليه منكم الأعمال الصالحة والتقوى ، والإخلاص ما أريد به وجه الله ، ( كذلك سخرها لكم ) يعني : البدن ، ( لتكبروا الله على ما هداكم ) أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه ، وهو أن يقول : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا ، ( وبشر المحسنين ) قال ابن عباس : الموحدين .
    ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ( 38 ) ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ( 39 ) )

    قوله تعالى : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة : " يدفع " ، وقرأ الآخرون : " يدافع " بالألف ، يريد : يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عن المؤمنين . ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) أي : خوان في أمانة الله كفور لنعمته ، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسما غير الله فهو خوان كفور . قوله عز وجل : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم : " أذن " بضم الألف والباقون بفتحها ، أي : أذن الله ، " للذين يقاتلون " ، قرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص " يقاتلون " بفتح التاء يعني المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون ، وقرأ الآخرون بكسر التاء يعني الذين أذن لهم بالجهاد " يقاتلون " المشركين .

    قال المفسرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون محزونين من بين مضروب ومشجوج ، ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول لهم : اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال ، فنزلت هذه الآية بالمدينة .

    وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فكانوا [ ص: 389 ] يمنعون فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة ( بأنهم ظلموا ) أي : بسبب ما ظلموا ، واعتدي عليهم بالإيذاء ، ( وإن الله على نصرهم لقدير )
    ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ( 40 ) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( 41 ) )

    ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) بدل " عن الذين " الأولى ( إلا أن يقولوا ربنا الله ) أي : لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله وحده .

    ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) بالجهاد وإقامة الحدود ، ( لهدمت ) قرأ أهل الحجاز بتخفيف الدال ، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير ، فالتخفيف يكون للقليل ، والتكثير والتشديد يختص بالتكثير ، ( صوامع ) قال مجاهد والضحاك : يعني : صوامع الرهبان . وقال قتادة : صوامع الصابئين ، ( وبيع ) بيع النصارى جمع " بيعة " وهي كنيسة النصارى ، ( وصلوات ) يعني كنائس اليهود ، ويسمونها بالعبرانية صلوتا ، ( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) يعني مساجد المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

    ومعنى الآية : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلاتهم ، لهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى البيع والصوامع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد .

    وقال ابن زيد : أراد بالصلوات صلوات أهل الإسلام ، فإنها تنقطع إذا دخل العدو عليهم .

    ( ولينصرن الله من ينصره ) أي : ينصر دينه ونبيه ، ( إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) قال الزجاج : هذا من صفة ناصريه ، ومعنى " مكناهم في الأرض " : نصرناهم على عدوهم حتى [ ص: 390 ] يتمكنوا في البلاد . قال قتادة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : هم هذه الأمة ( ولله عاقبة الأمور ) أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، يعني : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع .
    ( وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ( 42 ) وقوم إبراهيم وقوم لوط ( 43 ) وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير ( 44 ) فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ( 45 ) )

    قوله عز وجل : ( وإن يكذبوك ) يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، ( فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط ) . ( وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ) أي : أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، ( ثم أخذتهم ) [ عاقبتهم ] ( فكيف كان نكير ) أي : إنكاري ، أي : كيف أنكرت عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك ، يخوف به من يخالف النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبه . ( فكأين ) فكم ( من قرية أهلكناها ) بالتاء هكذا قرأ أهل البصرة ويعقوب ، وقرأ الآخرون : " أهلكناها " بالنون والألف على التعظيم ، ( وهي ظالمة ) أي : وأهلها ظالمون ، ( فهي خاوية ) ساقطة ( على عروشها ) على سقوفها ، ( وبئر معطلة ) [ أي : وكم من بئر معطلة ] متروكة مخلاة عن أهلها ( وقصر مشيد ) قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل ، من قولهم شاد بناءه إذا رفعه . وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء : مجصص ، من الشيد ، وهو الجص . وقيل : إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن ، أما القصر فعلى قلة جبل ، والبئر في سفحه ، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله ، وبقي البئر والقصر خاليين .

    وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء ، وذلك [ ص: 391 ] أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح ، نجوا من العذاب ، أتوا حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح ، فسمي حضرموت ، لأن صالحا لما حضر مات فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلا فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى كثروا ، ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا فأرسل الله إليهم نبيا يقال له حنظلة بن صفوان ، كان حمالا فيهم ، فقتلوه في السوق فأهلكهم الله ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم .
    ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( 46 ) ( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ( 47 ) )

    ( أفلم يسيروا في الأرض ) يعني : كفار مكة ، فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ، ( فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) يعني : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها ، ( فإنها ) الهاء عماد ، ( لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ذكر " التي في الصدور " تأكيدا كقوله : ( يطير بجناحيه ) ( الأنعام : 38 ) معناه أن العمى الضار هو عمى القلب ، فأما عمى البصر فليس بضار في أمر الدين ، قال قتادة : البصر الظاهر : بلغة ومتعة ، وبصر القلب : هو البصر النافع . ( ويستعجلونك بالعذاب ) نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( ولن يخلف الله وعده ) فأنجز ذلك يوم بدر . ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : " يعدون " بالياء هاهنا لقوله : ( ويستعجلونك ) وقرأ الباقون : بالتاء لأنه أعم ، لأنه خطاب للمستعجلين والمؤمنين ، واتفقوا في تنزيل " السجدة " أنه بالتاء .

    قال ابن عباس : يعني يوما من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض .

    وقال مجاهد وعكرمة : يوما من أيام الآخرة ، والدليل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري [ ص: 392 ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم ، وذلك مقدار خمسمائة سنة " .

    قال ابن زيد : " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " هذه أيام الآخرة . وقوله : " كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون " يوم القيامة . والمعنى على هذا : أنهم يستعجلون بالعذاب ، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة .

    وقيل : معناه وإن يوما من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كألف سنة مما تعدون ، فكيف تستعجلونه؟ هذا كما يقال : أيام الهموم طوال ، وأيام السرور قصار .

    وقيل : معناه إن يوما عنده وألف سنة في الإمهال سواء ، لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير ، فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخره ، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء .
    ( وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ( 48 ) قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ( 49 ) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ( 50 ) والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ( 51 ) )

    ( وكأين من قرية أمليت لها ) أي أمهلتها ، ( وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) . ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) . ( فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم ) الرزق الكريم الذي لا ينقطع أبدا . وقيل : هو الجنة . ( والذين سعوا في آياتنا ) أي عملوا في إبطال آياتنا ، ( معاجزين ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : " معجزين " بالتشديد هاهنا وفي سورة سبإ أي : مثبطين الناس عن الإيمان ، وقرأ الآخرون : " معاجزين " بالألف أي : معاندين مشاقين . وقال قتادة : معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار ، ومعنى يعجزوننا ، أي : يفوتوننا فلا نقدر عليهم . وهذا كقوله تعالى : ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ) ( العنكبوت : 4 ) ، ( أولئك أصحاب الجحيم ) وقيل : " معاجزين " مغالبين ، يريد كل واحد أن يظهر عجز صاحبه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #302
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (297)
    الجزء الخامس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْحَجِّ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية52 إلى الاية 75

    ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( 52 ) )

    قوله عز وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم ، فكان يوما في مجلس قريش فأنزل الله تعالى سورة " النجم " فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) ألقى الشيطان على لسانه بما كان يحدث به نفسه ويتمناه : " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته ، فقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص ، فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها ، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود . وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها نصيبا فنحن معه ، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فأنزل الله هذه الآية يعزيه ، وكان به رحيما ، وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل : أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم ، وقالوا : هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد إلا بجوار أو مستخفيا ، فلما نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك . وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرا إلى ما كانوا عليه ، وشدة على من أسلم .

    قال الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ) وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا ، ( ولا نبي ) وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما ، وكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ( إلا إذا تمنى ) قال بعضهم : أي : أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه ما لم يؤمر به . ( ألقى الشيطان في أمنيته ) أي : مراده .

    وعن ابن عباس قال : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلا وما من نبي إلا تمنى [ ص: 394 ] أن يؤمن به قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى به قومه ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان .

    وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : ( تمنى ) أي : تلا وقرأ كتاب الله تعالى . " ألقى الشيطان في أمنيته " أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
    تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر


    واختلفوا في أنه كان يقرأ في الصلاة أو في غير الصلاة؟ فقال قوم : كان يقرأ في الصلاة . وقال قوم : كان يقرأ في غير الصلاة . فإن قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلم وكان معصوما من الغلط في أصل الدين ، وقال جل ذكره في القرآن : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ( فصلت : 42 ) يعني إبليس؟

    قيل : قد اختلف الناس في الجواب عنه ، فقال بعضهم : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ، ولكن الشيطان ذكر ذلك بين قراءته ، فظن المشركون أن الرسول قرأه .

    وقال قتادة : أغفى النبي صلى الله عليه وسلم إغفاءة فجرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان ولم يكن له خبر .

    والأكثرون قالوا : جرى ذلك على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان ولم يلبث أن نبهه الله عليه .

    وقيل : إن شيطانا يقال له أبيض عمل هذا العمل ، وكان ذلك فتنة ومحنة من الله تعالى يمتحن عباده بما يشاء .
    [ ص: 395 ] ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( 54 ) )

    ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) أي : يبطله ويذهبه ، ( ثم يحكم الله آياته ) فيثبتها ، ( والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) أي : محنة وبلية ، شك ونفاق ، ( والقاسية ) يعني الجافية ، ( قلوبهم ) عن قبول الحق وهم المشركون ، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك ، ثم نسخ ورفع فازدادوا عتوا ، وظنوا أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه ثم يندم فيبطل ، ( وإن الظالمين ) المشركين ( لفي شقاق بعيد ) أي : في خلاف شديد . ( وليعلم الذين أوتوا العلم ) التوحيد والقرآن . وقال السدي : التصديق بنسخ الله تعالى ، ( أنه ) يعني : أن الذي أحكم الله من آيات القرآن هو ( الحق من ربك فيؤمنوا به ) أي : يعتقدوا [ ص: 396 ] أنه من الله ، ( فتخبت له قلوبهم ) أي : فتسكن إليه قلوبهم ، ( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي : طريق قويم هو الإسلام .
    ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ( 55 ) ( الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ( 56 ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ( 57 ) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ( 58 ) )

    ( ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) أي : في شك مما ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها . وقال ابن جريج : " منه " أي : من القرآن . وقيل : من الدين ، وهو الصراط المستقيم . ( حتى تأتيهم الساعة بغتة ) يعني : القيامة . وقيل : الموت ، ( أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ) قال الضحاك وعكرمة : عذاب يوم لا ليلة له ، وهو يوم القيامة .

    والأكثرون على أن اليوم العقيم يوم بدر ، لأنه ذكر الساعة من قبل وهو يوم القيامة . وسمي يوم بدر عقيما لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير ، كالريح العقيم التي لا تأتي بخير ، سحاب ولا مطر ، [ والعقم في اللغة : المنع ، يقال : رجل عقيم إذا منع من الولد ] . وقيل : لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وقال ابن جريج : لأنهم لم ينظروا فيه إلى الليل حتى قتلوا قبل المساء . ( الملك يومئذ ) يعني يوم القيامة ، ( لله ) وحده من غير منازع ، ( يحكم بينهم ) ثم بين الحكم ، فقال تعالى : ( فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ) . ( والذين هاجروا في سبيل الله ) فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه ، ( ثم قتلوا أو ماتوا ) وهم كذلك ، قرأ ابن عامر " قتلوا " بالتشديد ( ليرزقنهم الله رزقا حسنا ) والرزق الحسن الذي لا ينقطع أبدا هو رزق الجنة ، ( وإن الله لهو خير الرازقين ) قيل : هو قوله : ( بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ( آل عمران : 169 )
    [ ص: 397 ] ( ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم ( 59 ) ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور ( 60 ) ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ( 61 ) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( 62 ) ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ( 63 ) )

    ( ليدخلنهم مدخلا يرضونه ) لأن لهم فيه ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ( وإن الله لعليم ) بنياتهم ، ( حليم ) عنهم . ( ذلك ) أي : الأمر ذلك الذي قصصنا عليكم ، ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به ) جازى الظالم بمثل ظلمه . قال الحسن : يعني قاتل المشركين كما قاتلوه ، ( ثم بغي عليه ) أي : ظلم بإخراجه من منزله يعني : ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم ، نزلت في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم ، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم قال الله تعالى : ( لينصرنه الله ) والعقاب الأول بمعنى الجزاء ، ( إن الله لعفو غفور ) عفا عن مساوئ المؤمنين وغفر لهم ذنوبهم . ( ذلك ) أي : ذلك النصر ( بأن الله ) القادر على ما يشاء ، فمن قدرته أنه : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون ) قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي وحفص : بالياء ، وقرأ الآخرون : بالتاء ، يعني المشركين ، ( من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي ) العالي على كل شيء ، ( الكبير ) العظيم الذي كل شيء دونه . ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) بالنبات ، ( إن الله لطيف ) بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض ، ( خبير ) بما في قلوب العباد واستخراج النبات من الأرض ، إذا تأخر المطر عنهم .
    [ ص: 398 ] ( له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ( 64 ) ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ( 65 ) وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ( 66 ) لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم ( 67 ) )

    ( له ما في السماوات وما في الأرض ) عبيدا وملكا ، ( وإن الله لهو الغني ) عن عباده ، ( الحميد ) في أفعاله . ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك ) أي : وسخر لكم الفلك ، ( تجري في البحر بأمره ) وقيل : " ما في الأرض " : الدواب تركب في البر ، و " الفلك " تركب في البحر ، ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض ) يعني : لكيلا تسقط على الأرض ، ( إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ) أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئا ، ( ثم يميتكم ) عند انقضاء آجالكم ، ( ثم يحييكم ) يوم البعث للثواب والعقاب ، ( إن الإنسان لكفور ) لنعم الله . قوله عز وجل : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ) قال ابن عباس : يعني شريعة هم عاملون بها . وروي عنه أنه قال : عيدا قال قتادة ومجاهد : موضع قربان يذبحون فيه . وقيل : موضع عبادة . وقيل : مألفا يألفونه .

    والمنسك في كلام العرب : الموضع المعتاد لعمل خير أو شر ، ومنه " مناسك الحج " لتردد الناس إلى أماكن أعمال الحج .

    ( فلا ينازعنك في الأمر ) يعني في أمر الذبائح . نزلت في بديل بن ورقاء ، وبشر بن سفيان ، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله .

    قال الزجاج : معنى قوله ( فلا ينازعنك ) أي : لا تنازعهم أنت ، كما يقال : لا يخاصمك فلان ، [ ص: 399 ] أي : لا تخاصمه ، وهذا جائز فيما يكون بين الاثنين ، ولا يجوز : لا يضربنك فلان ، وأنت تريد : لا تضربه ، وذلك أن المنازعة والمخاصمة لا تتم إلا باثنين ، فإذا ترك أحدهما فلا مخاصمة هناك .

    ( وادع إلى ربك ) إلى الإيمان بربك ، ( إنك لعلى هدى مستقيم ) .
    ( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ( 68 ) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ( 69 ) ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ( 70 ) ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير ( 71 ) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ( 72 ) )

    ( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ) . ( الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ) فتعرفون حينئذ الحق من الباطل . والاختلاف : ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر . ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك ) كله ، ( في كتاب ) يعني اللوح المحفوظ ، ( إن ذلك ) يعني : علمه لجميع ذلك ، ( على الله يسير ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ) حجة ، ( وما ليس لهم به علم ) يعني أنهم فعلوا ما فعلوا عن جهل لا عن علم ، ( وما للظالمين ) للمشركين ، ( من نصير ) مانع يمنعهم من عذاب الله . ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ) يعني : القرآن ، ( تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر ) يعني الإنكار يتبين ذلك في وجوههم من الكراهية والعبوس ، ( يكادون يسطون ) أي : يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء . وقيل : يبطشون ، ( بالذين يتلون عليهم آياتنا ) أي : بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ . يقال : سطا عليه وسطا به ، إذا تناوله بالبطش والعنف ، وأصل السطو : القهر .

    ( قل ) يا محمد ، ( أفأنبئكم بشر من ذلكم ) أي : بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن [ ص: 400 ] الذي تستمعون ، ( النار ) أي : هي النار ، ( وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير )
    ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( 73 ) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ( 74 ) الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير ( 75 ) )

    ( يا أيها الناس ضرب مثل ) معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمة ، أي : جعل ذلك عليهم . ومعنى الآية : جعل لي شبه ، وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى ( فاستمعوا له ) أي : فاستمعوا حالها وصفتها . ثم بين ذلك فقال :

    ( إن الذين تدعون من دون الله ) يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء ( لن يخلقوا ذبابا ) واحدا في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه . والذباب : واحد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذبان ، مثل غراب وأغربة ، وغربان ، ( ولو اجتمعوا له ) أي : لخلقه ، ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه .

    وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه .

    وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فذلك قوله : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا ) أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) قال ابن عباس : " الطالب " : الذباب يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم ، و " المطلوب " : الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : على العكس : " الطالب " : الصنم و " المطلوب " : الذباب . وقال الضحاك : " الطالب " : العابد و " المطلوب " : المعبود . ( ما قدروا الله حق قدره ) ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ، ولا وصفوه حق صفته إن أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه ، ( إن الله لقوي عزيز ( الله يصطفي ) يعني يختار ( من الملائكة رسلا ) وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم ، ( ومن الناس ) أي : يختار من الناس رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 401 ] وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام ، نزلت حين قال المشركون : " أأنزل عليه الذكر من بيننا " فأخبر أن الاختيار إليه ، يختار من يشاء من خلقه .

    ( إن الله سميع بصير ) أي : سميع لقولهم ، بصير بمن يختاره لرسالته .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #303
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (298)
    الجزء الخامس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 16

    ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ( 76 ) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ( 77 ) )

    ( يعلم ما بين أيديهم ) قال ابن عباس : ما قدموا ، ( وما خلفهم ) ما خلفوا ، وقال الحسن : " ما بين أيديهم " : ما عملوا " وما خلفهم " ما هم عاملون من بعد ، وقيل : " ما بين أيديهم : ملائكته وكتبه ورسله قبل أن خلقهم ، " وما خلفهم " أي : يعلم ما هو كائن بعد فنائهم . ( وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) أي : صلوا ، لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود ، ( واعبدوا ربكم ) وحده ، ( وافعلوا الخير ) قال ابن عباس صلة الرحم ومكارم الأخلاق ، ( لعلكم تفلحون ) لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة . واختلف أهل العلم في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية .

    فذهب قوم إلى أنه يسجد عندها ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وبه قال ابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . واحتجوا بما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا قتيبة ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال " نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما " . [ ص: 402 ]

    وذهب قوم إلى أنه لا يسجد هاهنا ، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي .

    وعدة سجود القرآن أربعة عشر عند أكثر أهل العلم ، منها ثلاث في المفصل .

    وذهب قوم إلى أنه ليس في المفصل سجود . روي ذلك عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، وبه قال مالك . وقد صح عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : في " اقرأ " و " إذا السماء انشقت " وأبو هريرة من متأخري الإسلام .

    واختلفوا في سجود " صاد " ، فذهب الشافعي : إلى أنه سجود شكر ليس من عزائم السجود ، ويروى ذلك عن ابن عباس وذهب قوم إلى أنه يسجد فيها ، روي ذلك عن عمر ، وبه قال سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق ، فعند ابن المبارك ، وإسحاق ، وأحمد ، وجماعة : سجود القرآن خمسة عشرة سجدة ، فعدوا سجدتي الحج وسجدة ص ، وروي عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن .
    ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ( 78 ) )

    قوله عز وجل : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) قيل : جاهدوا في سبيل الله أعداء الله " حق جهاده " هو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس : وعنه أيضا أنه قال : لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد ، كما قال تعالى : ( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ( المائدة : 54 ) .

    قال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته .

    وقال مقاتل بن سليمان : نسخها قوله ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن : 16 ) ، وقال أكثر المفسرين : " حق الجهاد " : أن تكون نيته خالصة صادقة لله عز وجل . وقال السدي : هو أن يطاع فلا يعصى .

    وقال عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، وهو حق الجهاد . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد [ ص: 403 ] الأكبر " وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار ، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس .

    ( هو اجتباكم ) أي : اختاركم لدينه ، ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ضيق ، معناه : أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجا ، بعضها بالتوبة ، وبعضها برد المظالم والقصاص ، وبعضها بأنواع الكفارات ، فليس في دين الإسلام ذنب لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه .

    وقيل : من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم ، وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا .

    وقال مقاتل : يعني الرخص عند الضرورات ، كقصر الصلاة في السفر ، والتيمم ، وأكل الميتة عند الضرورة ، والإفطار بالسفر والمرض ، والصلاة قاعدا عند العجز . وهو قول الكلبي .

    وروي عن ابن عباس أنه قال : الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصال التي كانت عليهم ، وضعها الله عن هذه الأمة .

    ( ملة أبيكم إبراهيم ) أي : كلمة أبيكم ، نصب بنزع حرف الصفة . وقيل : نصب على الإغراء ، أي : اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ، [ وإنما أمرنا باتباع ملة إبراهيم ] لأنها داخلة في ملة محمد صلى الله عليه وسلم .

    فإن قيل : فما وجه قوله : ( ملة أبيكم ) وليس كل المسلمين يرجع نسبهم إلى إبراهيم؟ .

    قيل : خاطب به العرب وهم كانوا من نسل إبراهيم . وقيل : خاطب به جميع المسلمين ، وإبراهيم أب لهم ، على معنى وجوب احترامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب ، وهو كقوله تعالى : ( وأزواجه أمهاتهم ) ( الأحزاب : 6 ) [ ص: 404 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم مثل الوالد [ لوالده ] " .

    ( هو سماكم ) يعني أن الله تعالى سماكم ( المسلمين من قبل ) يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة . ( وفي هذا ) أي : في الكتاب ، هذا قول أكثر المفسرين . وقال ابن زيد : " هو " يرجع إلى إبراهيم أي أن إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه ، من قبل هذا الوقت ، وفي هذا الوقت ، وهو قوله : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ( البقرة : 127 ) ، ( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) يوم القيامة أن قد بلغكم ، ( وتكونوا ) أنتم ، ( شهداء على الناس ) أن رسلهم قد بلغتهم ، ( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) أي : ثقوا بالله وتوكلوا عليه . قال الحسن : تمسكوا بدين الله . وروي عن ابن عباس قال : سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره . وقيل : معناه ادعوه ليثبتكم على دينه . وقيل : الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة ، ( هو مولاكم ) [ وليكم ] وناصركم وحافظكم ، ( فنعم المولى ونعم النصير ) الناصر لكم .
    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

    مَكِّيَّةٌ
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1 ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( 2 ) )

    أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ صَاحِبُ أَيْلَةَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِئِ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَمَكَثْنَا سَاعَةً - وَفِي رِوَايَةٍ : فَنَزَلَ عَلَيْنَا يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً - فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : " اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا ، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا ، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا ، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا ، وَارْضَ عَنَّا ، ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ، ثُمَّ قَرَأَ ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) إِلَى عَشْرِ آيَاتٍ .

    وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَقَالُوا : " وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا " .

    قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) " قَدْ " حَرْفُ تَأْكِيدٍ ، وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : " قَدْ " تُقَرِّبُ الْمَاضِيَ مِنَ [ ص: 408 ] الْحَالِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَلَاحَ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَجْرِيدِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ، " وَالْفَلَاحُ " النَّجَاةُ وَالْبَقَاءُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَدْ سَعِدَ الْمُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَبَقُوا فِي الْجَنَّةِ . ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْخُشُوعِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مُخْبِتُونَ أَذِلَّاءُ . وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : خَائِفُونَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : مُتَوَاضِعُونَ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ .

    وَالْخُشُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُضُوعِ إِلَّا أَنَّ الْخُضُوعَ فِي الْبَدَنِ ، وَالْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالْبَصَرِ وَالصَّوْتِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ " ( طه - 108 ) .

    وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُوَ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : هُوَ أَنْ لَا يَعْرِفَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا مَنْ عَلَى يَسَارِهِ ، وَلَا يَلْتَفِتَ مِنَ الْخُشُوعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَلِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : " هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ " .

    وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَاسِمُ بْنُ بَكْرٍ الطَّيَالِسِيُّ بِبَغْدَادَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَرْسُوسِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ مَا كَانَ فِي صِلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا الْتَفَتَ أَعْرَضَ عَنْهُ " .

    وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : هُوَ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ . وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ : هُوَ أَنْ لَا تَرْفَعَ بَصَرَكَ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِكَ .

    وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا نَزَلَ : ( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) رَمَوْا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ . [ ص: 409 ]

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُرُوبَةَ ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ " ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : " لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ " .

    وَقَالَ عَطَاءٌ : هُوَ أَنْ لَا تَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِكَ فِي الصَّلَاةِ . وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ : " لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ " .

    أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الْحَصَى فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ " .

    وَقِيلَ : الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا ، وَالتَّدَبُّرُ فِيمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ .
    ( والذين هم عن اللغو معرضون ( 3 ) والذين هم للزكاة فاعلون ( 4 ) )

    قوله عز وجل : ( والذين هم عن اللغو معرضون ) قال عطاء عن ابن عباس : عن الشرك ، وقال الحسن : عن المعاصي . وقال الزجاج : عن كل باطل ولهو وما لا يحل من القول والفعل . وقيل : هو معارضة الكفار بالشتم والسب : قال الله تعالى : " وإذا مروا باللغو مروا كراما " ( الفرقان - 72 ) ، أي : إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه . ( والذين هم للزكاة فاعلون ) أي : للزكاة الواجبة مؤدون ، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها فعل . وقيل : الزكاة هاهنا هو العمل الصالح ، أي : والذين هم للعمل الصالح فاعلون .
    [ ص: 410 ] ( والذين هم لفروجهم حافظون ( 5 ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( 6 ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( 7 ) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( 8 ) والذين هم على صلواتهم يحافظون ( 9 ) أولئك هم الوارثون ( 10 ) )

    ( والذين هم لفروجهم حافظون ) الفرج : اسم يجمع سوأة الرجل والمرأة ، وحفظ الفرج : التعفف عن الحرام . ( إلا على أزواجهم ) أي : من أزواجهم ، و " على " بمعنى " من " . ( أو ما ملكت أيمانكم ) ( ما ) في محل الخفض ، يعني أو ما ملكت أيمانهم ، والآية في الرجال خاصة بدليل قوله : " أو ما ملكت أيمانهم " والمرأة لا يجوز أن تستمتع بفرج مملوكها . ( فإنهم غير ملومين ) يعني يحفظ فرجه إلا من امرأته أو أمته فإنه لا يلام على ذلك ، وإنما لا يلام فيهما إذا كان على وجه أذن فيه الشرع دون الإتيان في غير المأتى ، وفي حال الحيض والنفاس ، فإنه محظور وهو على فعله ملوم . ( فمن ابتغى وراء ذلك ) أي : التمس وطلب سوى الأزواج والولائد المملوكة ، ( فأولئك هم العادون ) الظالمون المتجاوزون من الحلال إلى الحرام وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام ، وهو قول أكثر العلماء . قال ابن جريج : سألت عطاء عنه فقال : مكروه ، سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء . وعن سعيد بن جبير قال : عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم . ( والذين هم لأماناتهم ) قرأ ابن كثير " لأمانتهم " على التوحيد هاهنا وفي سورة المعارج ، لقوله تعالى : " وعهدهم " والباقون بالجمع ، كقوله عز وجل : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( النساء - 57 ) ، ( وعهدهم راعون ) حافظون ، أي : يحفظون ما ائتمنوا عليه ، والعقود التي عاقدوا الناس عليها ، يقومون بالوفاء بها ، والأمانات تختلف فتكون بين الله تعالى وبين العبد كالصلاة والصيام والعبادات التي أوجبها الله عليه ، وتكون بين العبيد كالودائع والصنائع فعلى العبد الوفاء بجميعها . ( والذين هم على صلواتهم ) قرأ حمزة والكسائي " صلاتهم " على التوحيد ، والآخرون صلواتهم على الجمع . ( يحافظون ) أي : يداومون على حفظها ويراعون أوقاتها ، كرر ذكر الصلاة ليبين أن المحافظة عليها واجبة كما أن الخشوع فيها واجب . ( أولئك ) أهل هذه الصفة ، ( هم الوارثون ) يرثون منازل أهل النار من الجنة . [ ص: 411 ]

    وروي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " وذلك قوله تعالى : ( أولئك هم الوارثون )

    وقال مجاهد : لكل واحد منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيبني منزله الذي له في الجنة ويهدم منزله الذي له في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ويبني منزله الذي في النار .

    وقال بعضهم : معنى الوراثة هو أنه يئول أمرهم إلى الجنة وينالونها ، كما يئول أمر الميراث إلى الوارث .
    ( الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( 11 ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( 12 ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 ) )

    قوله تعالى : ( الذين يرثون الفردوس ) وهو أعلى الجنة قد ذكرناه في سورة الكهف ( هم فيها خالدون ) لا يموتون ولا يخرجون ، وجاء في الحديث : " أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ، ولا ديوث " . قوله عز وجل : ( ولقد خلقنا الإنسان ) يعني : ولد آدم ، و " الإنسان " اسم الجنس ، يقع على الواحد والجمع ، ( من سلالة ) روي عن ابن عباس أنه قال : السلالة صفوة الماء . وقال مجاهد : من بني آدم . وقال عكرمة : هو يسيل من الظهر ، والعرب تسمي النطفة سلالة ، والولد سليلا وسلالة ، لأنهما مسلولان منه .

    قوله : ( من طين ) يعني : طين آدم . والسلالة تولدت من طين خلق آدم منه . قال الكلبي : من نطفة سلت من طين ، والطين آدم عليه السلام ، وقيل المراد من الإنسان هو آدم . وقوله : " من سلالة : أي : سل من كل تربة . ( ثم جعلناه نطفة ) يعني الذي هو الإنسان جعلناه نطفة ، ( في قرار مكين ) حريز ، وهو الرحم ، ومكن . [ أي : قد هيئ ] لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها .
    [ ص: 412 ] ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( 14 ) ثم إنكم بعد ذلك لميتون ( 15 ) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( 16 ) )

    ( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " عظما " ، ( فكسونا العظام ) على التوحيد فيهما ، وقرأ الآخرون بالجمع لأن الإنسان ذو عظام كثيرة . وقيل : بين كل خلقين أربعون يوما . ( فكسونا العظام لحما ) أي ألبسنا ، ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) اختلف المفسرون فيه ، فقال ابن عباس : ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو العالية : هو نفخ الروح فيه . وقال قتادة : نبات الأسنان والشعر . وروى ابن جريج عن مجاهد : أنه استواء الشباب . وعن الحسن قال : ذكرا أو أنثى . وروى العوفي عن ابن عباس : أن ذلك تصريف أحواله بعد الولادة من الاستهلال إلى الارتضاع ، إلى القعود إلى القيام ، إلى المشي إلى الفطام ، إلى أن يأكل ويشرب ، إلى أن يبلغ الحلم ، ويتقلب في البلاد إلى ما بعدها .

    ( فتبارك الله ) أي : استحق التعظيم والثناء بأنه لم يزل ولا يزال . ( أحسن الخالقين ) المصورين والمقدرين . و " الخلق " في اللغة : التقدير . وقال مجاهد : يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين ، يقال : رجل خالق أي : صانع .

    وقال ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأن عيسى كان يخلق كما قال : " إني أخلق لكم من الطين " ( آل عمران - 49 ) فأخبر الله عن نفسه بأنه أحسن الخالقين . ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون ) والميت - بالتشديد - والمائت الذي لم يمت بعد وسيموت ، والميت - بالتخفيف - : من مات ، ولذلك لم يجز التخفيف هاهنا ، كقوله : " إنك ميت وإنهم ميتون " ( الزمر - 30 ) . ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #304
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (299)
    الجزء الخامس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية17 إلى الاية 50

    ( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ( 17 ) ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ( 18 ) )

    ( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق ) أي : سبع سموات ، سميت طرائق لتطارقها ، وهو أن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت النعل إذا جعلت بعضه فوق بعض . وقيل : سميت طرائق لأنها طرائق الملائكة . ( وما كنا عن الخلق غافلين ) أي كنا لهم حافظين من أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم كما قال الله تعالى : " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " ( الحج - 65 ) .

    وقيل : ما تركناهم سدى بغير أمر ونهي .

    وقيل : وما كنا عن الخلق غافلين أي : بنينا فوقهم سماء أطلعنا فيها الشمس والقمر والكواكب . ( وأنزلنا من السماء ماء بقدر ) يعلمه الله . قال مقاتل : بقدر ما يكفيهم للمعيشة ، ( فأسكناه في الأرض ) يريد ما يبقى في الغدران والمستنقعات ، ينتفع به الناس في الصيف عند انقطاع المطر . وقيل : فأسكناه في الأرض ثم أخرجنا منها ينابيع ، فماء الأرض كله من السماء ، ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) حتى تهلكوا عطشا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم وفي الخبر : " أن الله عز وجل أنزل أربعة أنهار من الجنة : سيحان ، وجيحان ، ودجلة ، والفرات " .

    وروى مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل أنزل من الجنة خمسة أنهار : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ، والفرات ، والنيل ، أنزلها الله عز وجل من عين واحدة من عيون الجنة ، من أسفل درجة من درجاتها ، على جناحي جبريل ، استودعها الله الجبال ، وأجراها في الأرض ، وجعل فيها منافع للناس ، فذلك قوله عز وجل : " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض " ، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن ، والعلم كله والحجر الأسود من ركن البيت ، ومقام إبراهيم وتابوت موسى بما فيه ، وهذه الأنهار الخمسة ، فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : ( وإنا على ذهاب به لقادرون ) فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدين والدنيا " .

    وروى هذا الحديث الإمام الحسن بن يوسف ، عن عثمان بن سعيد بالإجازة ، عن سعيد بن سابق الإسكندراني ، عن مسلمة بن علي ، عن مقاتل بن حيان .
    [ ص: 414 ] ( فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( 19 ) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ( 20 ) )

    قوله تعالى : ( فأنشأنا لكم به ) أي : بالماء ، ( جنات من نخيل وأعناب لكم فيها ) في الجنات ، ( فواكه كثيرة ومنها تأكلون ) شتاء وصيفا ، وخص النخيل والأعناب بالذكر لأنها أكثر فواكه العرب . ( وشجرة ) أي : وأنشأنا لكم شجرة ( تخرج من طور سيناء ) وهي الزيتون ، قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " سيناء " بكسر السين . وقرأ الآخرون بفتحها واختلفوا في معناه وفي " سينين " في قوله تعالى : " وطور سينين " ( التين - 2 ) قال مجاهد : معناه البركة ، أي : من جبل مبارك . وقال قتادة : معناه الحسن ، أي : من الجبل الحسن . وقال الضحاك : هو بالنبطية ، ومعناه الحسن . وقال عكرمة : هو بالحبشية . وقال الكلبي : معناه الشجر ، أي : جبل ذو شجر . وقيل : هو بالسريانية الملتفة بالأشجار . وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سينا ، وسينين بلغة النبط . وقيل : هو فيعال من السناء وهو الارتفاع . قال ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى بين مصر وأيلة . وقال مجاهد : سينا اسم حجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده . وقال عكرمة : هو اسم المكان الذي فيه هذا الجبل .

    ( تنبت بالدهن ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة ويعقوب " تنبت " بضم التاء وكسر الباء ، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الباء ، فمن قرأ بفتح التاء فمعناه تنبت تثمر الدهن وهو الزيتون . وقيل : تنبت ومعها الدهن ، ومن قرأ بضم التاء ، اختلفوا فيه فمنهم من قال : الباء زائدة ، معناه : تنبت الدهن ، كما يقال : أخذت ثوبه وأخذت بثوبه ، ومنهم من قال : نبت وأنبت لغتان بمعنى واحد ، كما قال زهير :
    رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل


    أي : نبت ، ( وصبغ للآكلين ) الصبغ والصباغ : الإدام الذي يلون الخبز إذا غمس فيه وينصبغ ، والإدام كل ما يؤكل مع الخبز ، سواء ينصبغ به الخبز أو لا ينصبغ . قال مقاتل : جعل [ ص: 415 ] الله في هذه الشجرة أدما ودهنا ، فالأدم : الزيتون ، والدهن : الزيت ، وقال : خص الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها . ويقال : أن الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان .
    ( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ( 21 ) وعليها وعلى الفلك تحملون ( 22 ) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( 23 ) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( 24 ) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ( 25 ) قال رب انصرني بما كذبون ( 26 ) )

    قوله عز وجل : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) أي : آية تعتبرون بها ، ( نسقيكم ) قرأ نافع بالنون [ وفتحها ] وقرأ أبو جعفر هاهنا بالتاء وفتحها ، ( مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون ) أي : على الإبل في البر ، وعلى الفلك في البحر . قوله عز وجل : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ) وحدوه ، ( ما لكم من إله غيره ) معبود سواه ، ( أفلا تتقون ) أفلا تخافون عقوبته إذا عبدتم غيره . ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ) أي : يتشرف بأن يكون له الفضل عليكم فيصير متبوعا وأنتم له تبع ، ( ولو شاء الله ) أن لا يعبد سواه ، ( لأنزل ملائكة ) يعني بإبلاغ الوحي . ( ما سمعنا بهذا ) الذي يدعونا إليه نوح ( في آبائنا الأولين ) وقيل : " ما سمعنا بهذا " أي : بإرسال بشر رسولا . ( إن هو إلا رجل به جنة ) أي : جنون ، ( فتربصوا به حتى حين ) أي : إلى أن يموت فتستريحوا منه . ( قال رب انصرني بما كذبون ) أي : أعني بإهلاكهم لتكذيبهم إياي .
    [ ص: 416 ] ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ( 27 ) ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ( 28 ) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ( 29 ) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ( 30 ) ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ( 31 ) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ( 32 ) )

    ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها ) أدخل فيها ، يقال سلكته في كذا وأسلكته فيه ، ( من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ) أي : من سبق عليه الحكم بالهلاك .

    ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فإذا استويت ) اعتدلت ( أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين ) أي : الكافرين . ( وقل رب أنزلني منزلا مباركا ) قرأ أبو بكر عن عاصم " منزلا " بفتح الميم وكسر الزاي ، أي يريد موضع النزول ، قيل : هو السفينة بعد الركوب ، وقيل : هو الأرض بعد النزول ، ويحتمل أنه أراد في السفينة ، ويحتمل بعد الخروج ، وقرأ الباقون " منزلا " بضم الميم وفتح الزاي ، أي : إنزالا فالبركة في السفينة النجاة ، وفي النزول بعد الخروج كثرة النسل من أولاده الثلاثة ، ( وأنت خير المنزلين إن في ذلك ) أي : الذي ذكرت من أمر نوح والسفينة وإهلاك أعداء الله ، ( لآيات ) لدلالات على قدرته ، ( وإن كنا لمبتلين ) وقد كنا . وقيل : وما كنا إلا مبتلين أي : مختبرين إياهم بإرسال نوح ووعظه وتذكيره لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم . ( ثم أنشأنا من بعدهم ) من بعد إهلاكهم ، ( قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم ) يعني : هودا وقومه . وقيل : صالحا وقومه . والأول أظهر ، ( أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون )
    [ ص: 417 ] ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ( 33 ) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ( 34 ) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ( 35 ) هيهات هيهات لما توعدون ( 36 ) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ( 37 ) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ( 38 ) قال رب انصرني بما كذبون ( 39 ) )

    ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ) أي : المصير إلى الآخرة ، ( وأترفناهم ) نعمناهم ووسعنا عليهم ، ( في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) أي : مما تشربون منه . ( ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) لمغبونون . ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون ) من قبوركم أحياء وأعاد " أنكم " لما طال الكلام ، ومعنى الكلام : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما مخرجون ؟ وكذلك هو في قراءة عبد الله ، نظيره في القرآن : " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها " ( التوبة - 63 ) . ( هيهات هيهات لما توعدون ) قال ابن عباس : هي كلمة بعد ، أي : بعيد ما توعدون ، قرأ أبو جعفر " هيهات هيهات " بكسر التاء ، وقرأ نصر بن عاصم بالضم ، وكلها لغات صحيحة فمن نصب جعله مثل أين وكيف ، ومن رفع جعله مثل منذ وقط وحيث ، ومن كسر جعله مثل أمس وهؤلاء ، ووقف عليها أكثر القراء بالتاء ، ويروى عن الكسائي الوقف عليها بالهاء . ( إن هي ) يعنون الدنيا ، ( إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ) قيل فيه تقديم وتأخير ، أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت . وقيل : يموت الآباء ويحيا الأبناء . وقيل : يموت قوم ويحيا قوم . ( وما نحن بمبعوثين ) بمنشرين بعد الموت . ( إن هو ) يعني الرسول ، ( إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ) بمصدقين بالبعث بعد الموت . ( قال رب انصرني بما كذبون ) .
    ( قال عما قليل ليصبحن نادمين ( 40 ) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين ( 41 ) ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ( 42 ) ( ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ( 43 ) ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( 44 ) )

    ( قال عما قليل ) أي : عن قليل ، و " ما " صلة ، [ ص: 418 ] ( ليصبحن ) ليصيرن ، ( نادمين ) على كفرهم وتكذيبهم . ( فأخذتهم الصيحة ) يعني صيحة العذاب ، ( بالحق ) قيل : أراد بالصيحة الهلاك . وقيل : صاح بهم جبريل صيحة فتصدعت قلوبهم ، ( فجعلناهم غثاء ) وهو ما يحمله السيل من حشيش وعيدان شجر ، معناه : صيرناهم هلكى فيبسوا يبس الغثاء من نبات الأرض ، ( فبعدا للقوم الظالمين ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ) أي : أقواما آخرين . ( ما تسبق من أمة أجلها ) أي : ما تسبق أمة أجلها أي : وقت هلاكها ، ( وما يستأخرون ) وما يتأخرون عن وقت هلاكهم . ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) أي : مترادفين يتبع بعضهم بعضا غير متواصلين ، لأن بين كل نبيين زمانا طويلا وهي فعلى من المواترة ، قال الأصمعي : يقال واترت الخبر أي أتبعت بعضه بعضا ، وبين الخبرين [ هنيهة ] .

    واختلف القراء فيه ، فقرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بالتنوين ، ويقفون بالألف ، ولا يميله أبو عمرو ، وفي الوقف فيها كالألف في قولهم : رأيت زيدا ، وقرأ الباقون بلا تنوين ، والوقف عندهم يكون بالياء ، ويميله حمزة والكسائي ، وهو مثل قولهم : غضبى وسكرى ، وهو اسم جمع مثل شتى ، وعلى القراءتين التاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : " وترى " من المواترة والتواتر ، فجعلت الواو تاء ، مثل : التقوى والتكلان .

    ( كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا ) بالهلاك ، أي : أهلكنا بعضهم في إثر بعض ، ( وجعلناهم أحاديث ) أي : سمرا وقصصا ، يتحدث من بعدهم بأمرهم وشأنهم ، وهي [ ص: 419 ] جمع أحدوثة . وقيل : جمع حديث . قال الأخفش : إنما هو في الشر ، وأما في الخير فلا يقال جعلتهم أحاديث وأحدوثة ، إنما يقال صار فلان حديثا ، ( فبعدا لقوم لا يؤمنون )
    ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ( 45 ) إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين ( 46 ) فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ( 47 ) فكذبوهما فكانوا من المهلكين ( 48 ) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون ( 49 ) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( 50 ) )

    ( ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين ) أي بحجة بينة من اليد والعصا . وغيرهما . ( إلى فرعون وملئه فاستكبروا ) تعظموا عن الإيمان ، ( وكانوا قوما عالين ) متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم . ( فقالوا ) يعني فرعون وقومه ، ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) يعني : موسى وهارون ، ( وقومهما لنا عابدون ) مطيعون متذللون ، والعرب تسمي كل من دان للملك : عابدا له . ( فكذبوهما فكانوا من المهلكين ) بالغرق . ( ولقد آتينا موسى الكتاب ) التوراة ، ( لعلهم يهتدون ) أي لكي يهتدي به قومه . ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) دلالة على قدرتنا ، ولم يقل آيتين ، قيل : معناه شأنهما آية . وقيل : معناه جعلنا كل واحد منهما آية ، كقوله تعالى : " كلتا الجنتين آتت أكلها " ( الكهف - 33 ) . ( وآويناهما إلى ربوة ) الربوة المكان المرتفع من الأرض ، واختلفت الأقوال فيها ، فقال عبد الله بن سلام : هي دمشق ، وهو قول سعيد بن المسيب ومقاتل ، وقال الضحاك : غوطة دمشق . وقال أبو هريرة : هي الرملة . وقال عطاء عن ابن عباس : هي بيت المقدس ، وهو قول قتادة وكعب . وقال كعب : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا . وقال ابن زيد : هي مصر . وقال السدي : أرض فلسطين . ( ذات قرار ) أي : مستوية منبسطة واسعة يستقر عليها ساكنوها . ( ومعين ) فالمعين الماء الجاري الظاهر الذي تراه العيون ، مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #305
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (300)
    الجزء الخامس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية51 إلى الاية 96

    ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( 51 ) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( 52 ) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ( 53 ) فذرهم في غمرتهم حتى حين ( 54 ) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( 55 ) )

    قوله عز وجل : ( يا أيها الرسل ) قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي وجماعة : أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم وحده على مذهب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجماعة . وقال بعضهم : أراد به عيسى . وقيل : أراد به جميع الرسل عليهم السلام ، ( كلوا من الطيبات ) أي : الحلالات ، ( واعملوا صالحا ) الصلاح هو الاستقامة على ما توجبه الشريعة ، ( إني بما تعملون عليم ) ( وإن هذه ) قرأ أهل الكوفة : " وإن " بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ الباقون بفتح الألف ، وخفف ابن عامر النون وجعل " إن " صلة ، مجازه : وهذه ( أمتكم ) وقرأ الباقون بتشديد النون على معنى وبأن هذا ، تقديره : بأن هذه أمتكم ، أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها ، ( أمة واحدة ) أي : ملة واحدة وهي الإسلام ، ( وأنا ربكم فاتقون ) أي : اتقوني لهذا .

    وقيل : معناه أمرتكم بما أمرت به المرسلين من قبلكم ، فأمركم واحد ، ( وأنا ربكم فاتقون ) فاحذرون . وقيل : هو نصب بإضمار فعل ، أي : اعلموا أن هذه أمتكم ، أي : ملتكم ، أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . ( فتقطعوا أمرهم ) دينهم ، ( بينهم ) أي : تفرقوا فصاروا فرقا ، يهودا ونصارى ومجوسا ، ( زبرا ) أي : فرقا وقطعا مختلفة ، واحدها زبور وهو الفرقة والطائفة ، ومثله الزبرة وجمعها زبر ، ومنه : " زبر الحديد " ( الكهف - 96 ) . أي : صاروا فرقا كزبر الحديد . وقرأ بعض أهل الشام " زبرا " بفتح الباء ، قال قتادة ومجاهد " زبرا " أي : كتبا ، يعني دان كل فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخرون . وقيل : جعلوا كتبهم قطعا مختلفة ، آمنوا بالبعض ، وكفروا بالبعض ، وحرفوا البعض ، ( كل حزب بما لديهم ) بما عندهم من الدين ، ( فرحون ) معجبون ومسرورون . ( فذرهم في غمرتهم ) قال ابن عباس : في كفرهم وضلالتهم ، وقيل : عمايتهم ، وقيل : غفلتهم ( حتى حين ) إلى أن يموتوا . ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ) ما نعطيهم ونجعله مددا لهم من المال والبنين في الدنيا .
    [ ص: 421 ] ( نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ( 56 ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( 57 ) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ( 58 ) والذين هم بربهم لا يشركون ( 59 ) ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ( 60 ) )

    ( نسارع لهم في الخيرات ) أي : نعجل لهم في الخيرات ، ونقدمها ثوابا لأعمالهم لمرضاتنا عنهم ، ( بل لا يشعرون ) أن ذلك استدراج لهم . ثم ذكر المسارعين في الخيرات فقال : ( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ) أي : خائفون ، والإشفاق : الخوف ، والمعنى أن المؤمنين بما هم عليه من خشية الله خائفون من عقابه ، قال الحسن البصري : المؤمن من جمع إحسانا وخشية ، والمنافق من جمع إساءة وأمنا . ( والذين هم بآيات ربهم يؤمنون ) يصدقون . ( والذين هم بربهم لا يشركون ) . ( والذين يؤتون ما آتوا ) أي : يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات ، وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ " والذين يأتون ما أتوا " أي : يعملون ما عملوا من أعمال البر ، ( وقلوبهم وجلة ) أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله وأن أعمالهم لا تقبل منهم ، ( أنهم إلى ربهم راجعون ) لأنهم يوقنون أنهم يرجعون إلى الله عز وجل . قال الحسن : عملوا لله بالطاعات [ واجتهدوا فيها ] وخافوا أن ترد عليهم .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا محمد بن حامد ، حدثنا محمد بن الجهم ، أخبرنا عبد الله بن عمرو ، أخبرنا وكيع عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه " .
    [ ص: 422 ] ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( 61 ) ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ( 62 ) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ( 63 ) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون ( 64 ) )

    قوله عز وجل : ( أولئك يسارعون في الخيرات ) يبادرون إلى الأعمال الصالحات ، ( وهم لها سابقون ) أي : إليها سابقون ، كقوله تعالى : " لما نهوا " أي : إلى ما نهوا ، ولما قالوا ونحوها ، وقال ابن عباس في معنى هذه الآية : سبقت لهم من الله السعادة . وقال الكلبي : سبقوا الأمم إلى الخيرات . قوله : ( ولا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي : طاقتها ، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا ، ومن لم يستطع الصوم فليفطر ، ( ولدينا كتاب ينطق بالحق ) وهو اللوح المحفوظ ، " ينطق بالحق " يبين بالصدق ، ومعنى الآية : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلا ما أطاقت من العمل ، وقد أثبتنا عمله في اللوح المحفوظ ، فهو ينطق به ويبينه . وقيل : هو كتب أعمال العباد التي تكتبها الحفظة ، ( وهم لا يظلمون ) ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم . ثم ذكر الكفار ، فقال : ( بل قلوبهم في غمرة ) أي : في غفلة وجهالة ، ( من هذا ) أي : من القرآن ، ( ولهم أعمال من دون ذلك ) أي : للكفار أعمال خبيثة من المعاصي والخطايا محكومة عليهم من دون ذلك ، يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله تعالى في قوله " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " ، ( هم لها عاملون ) لا بد لهم من أن يعملوها ، فيدخلوا بها النار ، لما سبق لهم من الشقاوة . هذا قول أكثر المفسرين . وقال قتادة : هذا ينصرف إلى المسلمين ، وأن لهم أعمالا سوى ما عملوا من الخيرات هم لها عاملون ، والأول أظهر . ( حتى إذا أخذنا مترفيهم ) أي : أخذنا أغنياءهم ورؤساءهم ، ( بالعذاب ) قال ابن عباس : هو السيف يوم بدر . وقال الضحاك : يعني الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فابتلاهم الله عز وجل بالقحط حتى أكلوا الكلاب والجيف . ( إذا هم يجأرون ) يضجون ويجزعون ويستغيثون ، وأصل الجأر : رفع الصوت بالتضرع .
    [ ص: 423 ] ( لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ( 65 ) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ( 66 ) مستكبرين به سامرا تهجرون ( 67 ) أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( 68 ) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ( 69 ) )

    ( لا تجأروا اليوم ) أي لا تضجوا ، ( إنكم منا لا تنصرون ) لا تمنعون منا ولا ينفعكم تضرعكم . ( قد كانت آياتي تتلى عليكم ) يعني القرآن ، ( فكنتم على أعقابكم تنكصون ) ترجعون القهقرى تتأخرون عن الإيمان . ( مستكبرين به ) اختلفوا في هذه الكناية ، فأظهر الأقاويل أنها تعود إلى البيت الحرام كناية عن غير مذكور ، أي : مستكبرين متعظمين بالبيت الحرام ، وتعظمهم به أنهم كانوا يقولون نحن أهل حرم الله وجيران بيته ، فلا يظهر علينا أحد ، ولا نخاف أحدا ، فيأمنون فيه وسائر الناس في الخوف ، هذا قول ابن عباس ومجاهد ، وجماعة ، وقيل : " مستكبرين به " أي : بالقرآن فلم يؤمنوا به . والأول أظهر ، المراد منه الحرم ، ( سامرا ) نصب على الحال ، أي أنهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت ، ووحد سامرا وهو بمعنى السمار لأنه وضع موضع الوقت ، أراد تهجرون ليلا . وقيل : وحد سامرا ، ومعناه الجمع كقوله : " ثم نخرجكم طفلا " ( الحج - 5 ) ، ( تهجرون ) قرأ نافع " تهجرون " بضم التاء وكسر الجيم من الإهجار وهو الإفحاش في القول ، أي : تفحشون وتقولون الخنا ، وذكر أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقرأ الآخرون : " تهجرون " بفتح التاء وضم الجيم ، أي : تعرضون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان والقرآن ، وترفضونها : وقيل : هو من الهجر وهو القول القبيح ، يقال هجر يهجر هجرا إذا قال غير الحق . وقيل تهزئون وتقولون ما لا تعلمون ، من قولهم : هجر الرجل في منامه إذا هذى . ( أفلم يدبروا ) أي : يتدبروا ، ( القول ) يعني : ما جاءهم من القول وهو القرآن ، فيعرفوا ما فيه من الدلالات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، ( أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) فأنكروا ، يريد إنا قد بعثنا من قبلهم رسلا إلى قومهم كذلك بعثنا محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم . وقيل : " أم " بمعنى بل ، يعني : جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروا . ( أم لم يعرفوا رسولهم ) محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( فهم له منكرون ) قال ابن عباس : أليس قد عرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا ، وعرفوا نسبه وصدقه وأمانته ووفاءه بالعهود . وهذا على سبيل التوبيخ [ ص: 424 ] لهم على الإعراض عنه بعدما عرفوه بالصدق والأمانة .
    ( أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ( 70 ) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ( 71 ) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين ( 72 ) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( 73 ) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ( 74 ) )

    ( أم يقولون به جنة ) جنون ، وليس كذلك ، ( بل جاءهم بالحق ) يعني بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل ، ( وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم ) قال ابن جريج ومقاتل والسدي وجماعة : " الحق " هو الله ، أي : لو اتبع الله مرادهم فيما يفعل ، وقيل : لو اتبع مرادهم ، فسمى لنفسه شريكا وولدا كما يقولون : ( لفسدت السماوات والأرض ) وقال الفراء والزجاج : والمراد بالحق القرآن أي : لو نزل القرآن بما يحبون من جعل الشريك والولد على ما يعتقدونه ( لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) وهو كقوله تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ( الأنبياء - 22 ) .

    ( بل أتيناهم بذكرهم ) بما يذكرهم ، قال ابن عباس : أي : بما فيه فخرهم وشرفهم ، يعني القرآن ، فهو كقوله تعالى : " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " ( الأنبياء - 10 ) ، أي : شرفكم ، " وإنه لذكر لك ولقومك " ( الزخرف - 44 ) ، أي : شرف لك ولقومك . ( فهم عن ذكرهم ) يعني عن شرفهم ، ( معرضون ) ( أم تسألهم ) على ما جئتهم به ، ( خرجا ) أجرا وجعلا ( فخراج ربك خير ) أي : ما يعطيك الله من رزقه وثوابه خير ، ( وهو خير الرازقين ) قرأ حمزة والكسائي : " خراجا " " فخراج " كلاهما بالألف ، وقرأ ابن عامر كلاهما بغير ألف ، وقرأ الآخرون : " خرجا " بغير ألف " فخراج " بالألف . ( وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ) وهو الإسلام . ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط ) أي : عن دين الحق ، ( لناكبون ) لعادلون مائلون .
    [ ص: 425 ] ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ( 75 ) ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ( 76 ) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون ( 77 ) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ( 78 ) وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ( 79 ) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ( 80 ) )

    ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر ) قحط وجدوبة ( للجوا ) تمادوا ، ( في طغيانهم يعمهون ) ولم ينزعوا عنه . ( ولقد أخذناهم بالعذاب ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن يجعل عليهم سنين كسني يوسف ، فأصابهم القحط ، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنشدك الله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فادع الله أن يكشف عنا هذا القحط ، فدعا فكشف عنهم ، فأنزل الله هذه الآية ( فما استكانوا لربهم ) أي : ما خضعوا وما ذلوا لربهم ، وأصله طلب السكون ، ( وما يتضرعون ) أي : لم يتضرعوا إلى ربهم بل مضوا على تمردهم . ( حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد ) قال ابن عباس : يعني القتل يوم بدر . وهو قول مجاهد ، وقيل : هو الموت . وقيل : هو قيام الساعة ، ( إذا هم فيه مبلسون ) آيسون من كل خير . ( وهو الذي أنشأ لكم السمع ) أي : أنشأ لكم الأسماع ( والأبصار والأفئدة ) لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا ، ( قليلا ما تشكرون ) أي : لم تشكروا هذه النعم . ( وهو الذي ذرأكم ) خلقكم ، ( في الأرض وإليه تحشرون ) تبعثون . ( وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار ) أي : تدبير الليل والنهار في الزيادة والنقصان ، قال الفراء : جعلهما مختلفين ، يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض ، ( أفلا تعقلون ) ما ترون من صنعة فتعتبرون .
    [ ص: 426 ] ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ( 81 ) قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( 82 ) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين ( 83 ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ( 84 ) سيقولون لله قل أفلا تذكرون ( 85 ) قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ( 86 ) سيقولون لله قل أفلا تتقون ( 87 ) قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون ( 88 ) )

    ( بل قالوا مثل ما قال الأولون ) أي : كذبوا كما كذب الأولون . ( قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) لمحشورون ، قالوا ذلك على طريق الإنكار والتعجب . ( لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ) الوعد ، ( من قبل ) أي : وعد آباءنا قوم ذكروا أنهم رسل الله فلم نر له حقيقة ، ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) أكاذيب الأولين . ( قل ) يا محمد مجيبا لهم ، يعني أهل مكة ، ( لمن الأرض ومن فيها ) من الخلق ، ( إن كنتم تعلمون ) خالقها ومالكها . ( سيقولون لله ) ولا بد لهم من ذلك لأنهم يقرون أنها مخلوقة . ( قل ) لهم إذا أقروا بذلك : ( أفلا تذكرون ) فتعلمون أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء يقدر على إحيائهم بعد الموت . ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ) . ( سيقولون لله ) قرأ العامة " لله " ومثله ما بعده ، فجعلوا الجواب على المعنى ، كقول القائل للرجل : من مولاك؟ فيقول : لفلان ، أي أنا لفلان وهو مولاي . وقرأ أهل البصرة فيهما " الله " وكذلك هو في مصحف أهل البصرة ، وفي سائر المصاحف ، مكتوب بالألف كالأول ، ( قل أفلا تتقون ) تحذرون . ( قل من بيده ملكوت كل شيء ) الملكوت الملك ، والتاء فيه للمبالغة ، ( وهو يجير ) أي : يؤمن من يشاء ( ولا يجار عليه ) أي : لا يؤمن من أخافه الله ، أو يمنع هو من السوء من يشاء ، ولا يمنع منه من أراده بسوء ، ( إن كنتم تعلمون ) قيل : معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون .
    [ ص: 427 ] ( سيقولون لله قل فأنى تسحرون ( 89 ) ( بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ( 90 ) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ( 91 ) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ( 92 ) قل رب إما تريني ما يوعدون ( 93 ) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ( 94 ) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون ( 95 ) ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون ( 96 ) )

    ( سيقولون لله قل فأنى تسحرون ) أي : تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته ، والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلا؟ ( بل أتيناهم بالحق ) بالصدق ( وإنهم لكاذبون ) فيما يدعون من الشريك ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ) أي : من شريك ، ( إذا لذهب كل إله بما خلق ) أي : تفرد بما خلقه فلم يرض أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره ، ومنع الإله الآخر من الاستيلاء على ما خلق . ( ولعلا بعضهم على بعض ) أي : طلب بعضهم مغالبة بعض كفعل ملوك الدنيا فيما بينهم ، ثم نزه نفسه فقال : ( سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة ) قرأ أهل المدينة والكوفة غير حفص : " عالم " برفع الميم على الابتداء ، وقرأ الآخرون بجرها على نعت الله في سبحان الله ، ( فتعالى عما يشركون ) أي : تعظم عما يشركون ، ومعناه أنه أعظم من أن يوصف بهذا الوصف . قوله : ( قل رب إما تريني ) أي : إن أريتني ، ( ما يوعدون ) أي : ما أوعدتهم من العذاب . ( رب ) أي : يا رب ، ( فلا تجعلني في القوم الظالمين ) أي : لا تهلكني بهلاكهم . ( وإنا على أن نريك ما نعدهم ) من العذاب لهم ، ( لقادرون ) ( ادفع بالتي هي أحسن ) أي : ادفع بالخلة التي هي أحسن ، هي الصفح والإعراض والصبر ، ( السيئة ) يعني أذاهم ، أمرهم بالصبر على أذى المشركين والكف عن المقاتلة ، نسختها آية السيف ( نحن أعلم بما يصفون ) يكذبون ويقولون من الشرك .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #306
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (301)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية97 إلى الاية /



    ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ( 97 ) وأعوذ بك رب أن يحضرون ( 98 ) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ( 99 ) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( 100 ) فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( 101 ) )

    ( وقل رب أعوذ بك ) أي : أمتنع وأعتصم بك ، ( من همزات الشياطين ) قال ابن عباس : نزعاتهم . وقال الحسن : وساوسهم . وقال مجاهد : نفخهم ونفثهم . وقال أهل المعاني : دفعهم بالإغواء إلى المعاصي ، وأصل الهمز شدة الدفع . ( وأعوذ بك رب أن يحضرون ) في شيء من أموري ، وإنما ذكر الحضور لأن الشيطان إذا حضره يوسوسه . ثم أخبر أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت ، فقال : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ) ولم يقل ارجعني ، وهو يسأل الله وحده الرجعة ، على عادة العرب فإنهم يخاطبون الواحد بلفظ الجمع على وجه التعظيم ، كما أخبر الله تعالى عن نفسه فقال : " ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر - 9 ) ، ومثله كثير في القرآن . وقيل : هذا الخطاب مع الملائكة الذين يقبضون روحه ابتداء بخطاب الله لأنهم استغاثوا بالله أولا ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا . قوله تعالى : ( لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) أي : ضيعت ، أن أقول لا إله إلا الله . وقيل : أعمل بطاعة الله . قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب ، ( كلا ) كلمة ردع وزجر ، أي : لا يرجع إليها ، ( إنها ) يعني : سؤاله الرجعة ، ( كلمة هو قائلها ) [ ولا ينالها ] ( ومن ورائهم برزخ ) أي : أمامهم وبين أيديهم حاجز ، ( إلى يوم يبعثون ) والبرزخ الحاجز بين الشيئين ، واختلفوا في معناه هاهنا ، فقال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا . وقال قتادة : بقية الدنيا . وقال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث . وقيل : هو القبر ، وهم فيه إلى يوم يبعثون . ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ) اختلفوا في هذه النفخة ، فروى سعيد بن جبير [ ص: 429 ] عن ابن عباس : أنها النفخة الأولى " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض " ( الزمر - 68 ) ، ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " ( الزمر - 68 ) ، " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ( الصافات - 27 ) .

    وعن ابن مسعود : أنها النفخة الثانية ، قال : يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : هذا فلان ابن فلان ، فمن كان له قبله حق فليأت إلى حقه ، فيفرح المرء أن [ يكون له ] الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه ، ثم قرأ ابن مسعود فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .

    وفي رواية عطاء عن ابن عباس : أنها الثانية فلا أنساب بينهم أي : لا يتفاخرون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتفاخرون في الدنيا ، ولا يتساءلون سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا : من أنت ومن أي قبيلة أنت؟ ولم يرد أن الأنساب تنقطع .

    فإن قيل : أليس قد جاء في الحديث : " كل سبب ونسب ينقطع إلا نسبي وسببي " .

    قيل : معناه لا يبقى يوم القيامة سبب ولا نسب إلا نسبه وسببه ، وهو الإيمان والقرآن .

    فإن قيل : قد قال هاهنا ( ولا يتساءلون ) وقال في موضع آخر : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ( الصافات - 27 ) .

    الجواب : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن للقيامة أحوالا ومواطن ، ففي موطن يشتد عليهم الخوف ، فيشغلهم عظم الأمر عن التساؤل فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون إفاقة فيتساءلون .
    ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ( 102 ) )

    ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ) [ ص: 430 ] ( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ( 103 ) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( 104 ) ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ( 105 ) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ( 106 ) ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ( 107 ) قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ( 108 ) )

    ( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ) . ( تلفح وجوههم النار ) أي : تسفع ، وقيل : تحرق ، ( وهم فيها كالحون ) عابسون .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وهم فيها كالحون ، قال : تشويه النار ، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته " وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن حاجب بن عمر عن الحكم بن الأعرج قال : قال : أبو هريرة : " يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ، فيصير ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم ، سود زرق خسر مقبوحون " قوله عز وجل : ( ألم تكن آياتي تتلى عليكم ) يعني القرآن ، تخوفون بها ، ( فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا ) قرأ حمزة والكسائي : " شقاوتنا " بالألف وفتح الشين ، وهما لغتان أي : غلبت علينا شقوتنا التي كتبت علينا فلم نهتد . ( وكنا قوما ضالين ) عن الهدى . ( ربنا أخرجنا منها ) أي : من النار ، ( فإن عدنا ) لما تكره ( فإنا ظالمون قال اخسئوا ) أبعدوا ، ( فيها ) كما يقال للكلب إذا طرد : اخسأ ، ( ولا تكلمون ) في رفع العذاب ، فإني لا أرفعه عنكم ، فعند ذلك أيس المساكين من الفرج ، قال الحسن : هو آخر [ ص: 431 ] كلام يتكلم به أهل النار ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير ، ويصير لهم عواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون ، روي عن عبد الله بن عمرو : أن أهل جهنم يدعون مالكا خازن النار أربعين عاما : " يا مالك ليقض علينا ربك " ( الزخرف - 77 ) فلا يجيبهم ، ثم يقول : " إنكم ماكثون " ( الزخرف - 77 ) ، ثم ينادون ربهم : ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) فيدعهم مثل عمر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم : ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ) فلا ينبس القوم بعد ذلك بكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق .

    وقال القرطبي : إذا قيل لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " انقطع رجاؤهم ، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض ، وأطبقت عليهم .
    ( إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ( 109 ) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ( 110 ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ( 111 ) )

    ( إنه ) الهاء في " إنه " عماد وتسمى أيضا المجهولة ، ( كان فريق من عبادي ) وهم المؤمنون ( يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا ) قرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي : " سخريا " بضم السين هاهنا وفي سورة ص ، وقرأ الباقون بكسرهما ، واتفقوا على الضم في سورة الزخرف . قال الخليل : هما لغتان مثل قولهم : بحر لجي ، ولجي بضم اللام وكسرها ، مثل كوكب دري ودري ، قال الفراء والكسائي : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، واتفقوا في سورة الزخرف بأنه بمعنى التسخير ، ( حتى أنسوكم ) أي : أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ، ( ذكري وكنتم منهم تضحكون ) نظيره : " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ( المطففين - 29 ) قال مقاتل : نزلت في بلال وعمار وخباب وصهيب وسلمان والفقراء من الصحابة ، كان كفار قريش يستهزئون بهم . ( إني جزيتهم اليوم بما صبروا ) على أذاكم واستهزائكم في الدنيا ، ( أنهم هم الفائزون ) قرأ حمزة والكسائي " أنهم " بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فيكون في موضع المفعول الثاني إني جزيتهم اليوم بصبرهم الفوز بالجنة .
    [ ص: 432 ] ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ( 112 ) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ( 113 ) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون ( 114 ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( 115 ) )

    ( قال كم لبثتم ) قرأ حمزة والكسائي : " قل كم لبثتم " على الأمر . ومعنى الآية : قولوا أيها الكافرون ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة ، إذ كان معناه مفهوما ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي قل يا أيها الكافرون ، وقرأ ابن كثير : قل كم ، على الأمر ، وقال " أن " على الخبر ، لأن الثانية جواب ، وقرأ الآخرون : " قال " فيهما جميعا ، أي : قال الله عز وجل للكفار يوم البعث : كم لبثتم؟ ( في الأرض ) أي : في الدنيا وفي القبور ( عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ) نسوا مدة لبثهم في الدنيا لعظم ما هم بصدده من العذاب ، ( فاسأل العادين ) الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم . ( قال إن لبثتم ) أي : ما لبثتم في الدنيا ، ( إلا قليلا ) سماه قليلا لأن الواحد وإن طال مكثه في الدنيا فإنه يكون قليلا في جنب ما يلبث في الآخرة ، لأن لبثه في الدنيا وفي القبر متناه ، ( لو أنكم كنتم تعلمون ) قدر لبثكم في الدنيا . قوله عز وجل : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) لعبا وباطلا لا لحكمة ، وهو نصب على الحال ، أي : عابثين . وقيل : للعبث ، أي : لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وهو مثل قوله : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " ( القيامة - 36 ) ، وإنما خلقتم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل ، و ( وأنكم إلينا لا ترجعون ) أي : أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون في الآخرة للجزاء ، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب لا " ترجعون " بفتح التاء وكسر الجيم .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا بشر بن عمر ، أخبرنا عبد الله بن لهيعة ، أخبرنا عبد الله بن هبيرة ، عن حنش ، أن رجلا مصابا مر به على ابن مسعود فرقاه في أذنيه : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) حتى ختم السورة فبرأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بماذا رقيت في أذنه " ؟ فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال " .
    [ ص: 433 ] ( فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ( 116 ) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( 117 ) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ( 118 ) )

    ثم نزه الله نفسه عما يصفه به المشركون ، فقال جل ذكره : ( فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) يعني السرير الحسن . وقيل : المرتفع . ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) أي : لا حجة له به ولا بينة ، لأنه لا حجة في دعوى الشرك ، ( فإنما حسابه ) جزاؤه ، ( عند ربه ) يجازيه بعمله ، كما قال تعالى : " ثم إن علينا حسابهم " ( الغاشية - 26 ) ، ( إنه لا يفلح الكافرون ) لا يسعد من جحد وكذب . ( وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) .
    سُورَةُ النُّورِ

    مَدَنِيَّةٌ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1 ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) )

    ( سُورَةٌ ) أَيْ : هَذِهِ سُورَةٌ ، ( أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَبُو عَمْرٍو : " وَفَرَّضْنَاهَا " بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ ، أَيْ : أَوْجَبْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَأَلْزَمْنَاكُ مُ الْعَمَلَ بِهَا . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ . وَالْفَرْضُ : التَّقْدِيرُ . قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( الْبَقَرَةِ - 237 ) أَيْ : قَدَّرْتُمْ ، وَدَلِيلُ التَّخْفِيفِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ " ( الْقَصَصِ - 85 ) وَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَمَعْنَاهُ : وَفَصَّلْنَاهُ وَبَيَّنَّاهُ . وَقِيلَ : هُوَ بِمَعْنَى الْفَرْضِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ أَيْضًا . وَالتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ لِكَثْرَةٍ مَا فِيهَا مِنَ الْفَرَائِضِ ، أَيْ : أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَكُمْ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ . ( وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) وَاضِحَاتٍ ، ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) تَتَّعِظُونَ . قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) أَرَادَ إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ بِكْرَيْنِ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ " فَاجْلِدُوا " : فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جِلْدَةٍ ، يُقَالُ جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ ، كَمَا يُقَالُ رَأَسَهُ وَبَطَنَهُ ، إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ وَبَطْنَهُ ، وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَلْدِ لِئَلَّا يُبَرَّحَ . وَلَا يُضْرَبُ [ ص: 8 ] بِحَيْثُ يَبْلُغُ اللَّحْمَ ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُغَرَّبُ عَامًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ ، ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

    ( وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ) رَحْمَةٌ وَرِقَّةٌ ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ " رَأَفَةٌ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ أَنَّهَا سَاكِنَةٌ لِمُجَاوِرَةِ قَوْلِهِ : " وَرَحْمَةً " وَالرَّأْفَةُ مَعْنًى فِي الْقَلْبِ ، لَا يُنْهَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ .

    رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَلَدَ جَارِيَةً لَهُ زَنَتْ ، فَقَالَ لِلْجَلَّادِ : اضْرِبْ ظَهْرَهَا وَرِجْلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ : لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، فَقَالَ يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَمْ يَأْمُرْنِي بِقَتْلِهَا وَقَدْ ضَرَبْتُ فَأَوْجَعْتُ .

    وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ . فَقَالَ قَوْمٌ : لَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلَا تُقِيمُوهَا ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ . وَقَالَ جَمَاعَةٌ : مَعْنَاهَا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فَتُخَفِّفُوا الضَّرْبَ وَلَكِنْ أَوَجِعُوهُمَا ضَرْبًا ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالْفِرْيَةِ وَيُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ . وَقَالَ قَتَادَةُ : يُجْتَهَدُ فِي حَدِّ الزِّنَا وَيُخَفَّفُ فِي الشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ .

    ( فِي دِينِ اللَّهِ ) أَيْ : فِي حُكْمِ اللَّهِ ، ( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَأْخُذُهُ الرَّأْفَةُ إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى .

    ( وَلْيَشْهَدْ ) وَلْيَحْضُرْ ( عَذَابَهُمَا ) حَدَّهُمَا إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمَا ( طَائِفَةٌ ) نَفَرٌ ، ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) قَالَ مُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ : أَقَلُّهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ : رَجُلَانِ فَصَاعِدًا . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ : ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا . وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ زَيْدٍ : أَرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنَا .
    ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( 3 ) )

    قوله - عز وجل - : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ) اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها . فقال قوم : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء لا مال لهم ولا عشائر ، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن ، وهن يومئذ أخصب [ ص: 9 ] أهل المدينة ، فرغب أناس من فقراء المسلمين في نكاحهن لينفقن عليهم ، فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية ( وحرم ذلك على المؤمنين ) أن يتزوجوا تلك البغايا ؛ لأنهن كن مشركات . وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والشعبي ، ورواية العوفي عن ابن عباس .

    وقال عكرمة : نزلت في نساء بمكة والمدينة ، منهن تسع لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها . منهن أم مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكلة ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، فاستأذن رجل من المسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح أم مهزول واشترطت له أن تنفق عليه ، فأنزل الله هذه الآية .

    وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، وكانت بمكة بغي يقال لها : عناق ، وكانت صديقة له في الجاهلية ، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها ، فقال مرثد : إن الله حرم الزنا . قالت : فانكحني ، فقال : حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد شيئا ، فنزلت : ( والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) فدعاني فقرأها علي وقال لي : لا تنكحها . فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصا في حق أولئك دون سائر الناس .

    وقال قوم : المراد من النكاح هو الجماع ، ومعناه : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا تزني إلا بزان أو مشرك . وهو قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم . ورواية الوالبي عن ابن عباس . قال يزيد بن هارون : إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك ، وإن جامعها وهو محرم فهو زان ، وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان أبدا . وقال الحسن : الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة ، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود . قال سعيد بن المسيب وجماعة : إن حكم الآية منسوخ ، فكان نكاح الزانية حراما بهذه الآية فنسخها قوله تعالى : " وأنكحوا الأيامى منكم " فدخلت الزانية في أيامى المسلمين . [ ص: 10 ]

    واحتج من جوز نكاح الزانية بما أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أخبرنا الحسن بن فرج ، أخبرنا عمرو بن خالد الحراني ، أخبرنا عبيد الله عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس ؟ قال : طلقها ، قال : فإني أحبها وهي جميلة ، قال : استمتع بها . وفي رواية غيره " فأمسكها إذا " .

    وروي أن عمر بن الخطاب ضرب رجلا وامرأة في زنى وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #307
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (302)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية4 إلى الاية 11





    ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( 4 ) )

    قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أراد بالرمي القذف بالزنا . وكل من رمى محصنا أو محصنة بالزنا فقال له : زنيت أو يا زاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة ، إن كان حرا ، وإن كان عبدا فيجلد أربعين ، وإن كان المقذوف غير محصن ، فعلى القاذف التعزير .

    وشرائط الإحصان خمسة : الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنى ، حتى أن من زنى مرة في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف فلا حد عليه . فإن أقر المقذوف على نفسه بالزنا أو أقام القاذف أربعة من الشهود على زناه سقط الحد عن القاذف ؛ لأن الحد الذي وجب عليه حد الفرية وقد ثبت صدقه .

    وقوله : ( والذين يرمون المحصنات ) أي : يقذفون بالزنا المحصنات ، يعني المسلمات الحرائر العفائف ( ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) يشهدون على زناهن ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أي : اضربوهم ثمانين جلدة . ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )
    [ ص: 11 ] ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( 5 ) والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( 6 ) )

    ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) اختلف العلماء في قبول شهادة القاذف بعد التوبة ، وفي حكم هذا الاستثناء . فذهب قوم إلى أن القاذف ترد شهادته بنفس القذف ، وإذا تاب وندم على ما قال وحسنت حالته قبلت شهادته ، سواء تاب بعد إقامة الحد عليه أو قبله ؛ لقوله تعالى : " إلا الذين تابوا " . وقالوا : الاستثناء يرجع إلى الشهادة وإلى الفسق ، فبعد التوبة تقبل شهادته ، ويزول عنه اسم الفسق . يروى ذلك عن ابن عباس وعمر . وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة وعمر بن عبد العزيز 55 والزهري وبه قال مالك والشافعي .

    وذهب قوم إلى أن شهادة المحدود في القذف لا تقبل أبدا وإن تاب ، وقالوا : الاستثناء يرجع إلى قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) وهو قول النخعي وشريح وأصحاب الرأي ، وقالوا : بنفس القذف لا ترد شهادته ما لم يحد .

    قال الشافعي : وهو قبل أن يحد شر منه حين يحد ؛ لأن الحدود كفارات ، فكيف يردونها في أحسن حاليه ويقبلونها في شر حاليه . وذهب الشعبي إلى أن حد القذف يسقط بالتوبة ، وقال : الاستثناء يرجع إلى الكل .

    وعامة العلماء على أنه لا يسقط بالتوبة إلا أن يعفو عنه المقذوف فيسقط ، كالقصاص يسقط بالعفو ، ولا يسقط بالتوبة .

    فإن قيل : إذا قبلتم شهادته بعد التوبة فما معنى قوله ( أبدا ) ؟ .

    قيل : معناه لا تقبل شهادته أبدا ما دام مصرا على قذفه ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله . كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبدا : يراد ما دام كافرا . قوله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) أي : يقذفون نساءهم ، ( ولم يكن لهم شهداء ) يشهدون على صحة ما قالوا ، ( إلا أنفسهم ) أي : غير أنفسهم ، ( فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ) قرأ حمزة والكسائي وحفص : " أربع شهادات " برفع العين على خبر الابتداء ، أي : فشهادة أحدهم التي تدرأ الحد أربع شهادات . وقرأ الآخرون بالنصب أي : فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
    [ ص: 12 ] ( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ( 7 ) )

    ( والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) قرأ نافع ويعقوب " أن " خفيفة وكذلك الثانية " لعنة الله " رفع ، ثم يعقوب قرأ " غضب " برفع ، وقرأ نافع " غضب " بكسر الضاد وفتح الباء على الماضي " الله " رفع . وقرأ الآخرون " أن " بالتشديد فيهما " لعنة " نصب ، " وغضب " بفتح الضاد على الاسم ، " الله " جر . وقرأ حفص عن عاصم " والخامسة " الثانية نصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة . وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره في " أن " كالأولى .

    وسبب نزول هذه الآية ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عاصم لعويمر ، لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر ، والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فجاء عويمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس ، فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها " . فقال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال مالك قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين .

    وقال محمد بن إسماعيل أخبرنا إسحاق ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا الأوزاعي ، أخبرنا الزهري بهذا الإسناد بمثل معناه . وزاد : ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمرا إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه [ وجوه ] فلا أحسب عويمرا إلا قد كذب عليها " فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله [ ص: 13 ] - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر فكان بعد ينسب إلى أمه .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أحمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن بشار ، أخبرنا ابن أبي عدي ، عن هشام بن حسان ، أخبرنا عكرمة ، عن ابن عباس ، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " البينة أو حد في ظهرك " فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : ( والذين يرمون أزواجهم ) فقرأ حتى بلغ ( إن كان من الصادقين ) فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها : موجبة . قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الإليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " .

    وروى عكرمة عن ابن عباس : قال لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية . قال سعد بن عبادة : لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما قال سيدكم " ؟ قالوا : لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها . فقال سعد : يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإن الله يأبى إلا ذلك " فقال صدق الله ورسوله . قال : فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له ، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع أصحابه ، فقال : [ ص: 14 ] يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أتاه به ، وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقا ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا ، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه . فقال : واجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد ، يجلد هلال وتبطل شهادته ، وإنهم لكذلك ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يأمر بضربه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل عليه ، حتى فرغ ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) إلى آخر الآيات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجا " فقال : لقد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلوا إليها ، فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لها فكذبت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فقال هلال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قد صدقت وما قلت إلا حقا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاعنوا بينهما ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهد الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قال للمرأة : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقال لها عند الخامسة ووقفها : اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه " ، فجاءت به غلاما كأنه جمل أورق ، على الشبه المكروه ، وكان بعد أميرا على مصر ، لا يدري من أبوه .

    وقال ابن عباس في سائر الروايات ، ومقاتل : لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ) الآية ، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين جلدة ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أبدا ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومر ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر ، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن ، [ ص: 15 ] فأتى عويمر عاصما وقال : لقد رأيت شريك بن السمحاء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم ، وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة الأخرى ، فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي ، فأخبره وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعا ، وقال لعويمر : " اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها بالبهتان " فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمرأة : " اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت " فقالت : يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور ، وإنه رآني وشريكا يطيل السمر ونتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشريك : " ما تقول " ؟ فقال : ما تقوله المرأة كذب ، فأنزل الله - عز وجل - : ( والذين يرمون أزواجهم ) الآية ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نودي الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم ، فقام فقال : أشهد بالله بأن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية أشهد أني رأيت شريكا على بطنها ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم أمره بالقعود ، وقال لخولة : قومي فقامت ، فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثانية أشهد بالله أنه ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الرابعة أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة - تعني نفسها - إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ، ثم قال : " تحينوا بها الولادة فإن جاءت به [ أصيهب ] [ أثيبج ] يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به " . قال ابن عباس فجاءت بأشبه خلق الله بشريك .

    والكلام في حكم الآية : أن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبي في وجوب الحد عليه إن كانت محصنة ، أو التعزير إن لم تكن محصنة ، غير أن المخرج منهما مختلف; فإذا قذف [ ص: 16 ] أجنبيا يقام الحد عليه ، إلا أن يقيم أربعة من الشهود على زناه ، أو يقر به المقذوف فيسقط عنه حد القذف ، وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن يسقط عنه الحد ، فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة ، لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلا ربما لا يمكنه إقامة البينة عليه ولا يمكنه الصبر على العار ، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه ، فقال تعالى : " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ، وإذا أقام الزوج البينة على زناها أو اعترفت بالزنا سقط عنه الحد واللعان ، إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه .

    وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما يبدأ فيقيم الرجل ويلقنه كلمات اللعان ، فيقول : قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بالزنا ، وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه بعينه باللعان ، وإن رماها بجماعة سماهم ، ويقول الزوج كما يلقنه الإمام ، وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول : وإن هذا الولد أو الحمل لمن الزنا ما هو مني ، ويقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة ، وإذا أتى بكلمة منها من غير تلقين الحاكم لا تكون محسوبة ، فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأبيد ، وانتفى عنه النسب وسقط عنه حد القذف ، ووجب على المرأة حد الزنا ، إن كانت محصنة ترجم ، وإن كانت غير محصنة تجلد وتغرب ، فهذه خمسة أحكام تتعلق كلها بلعان الزوج .
    ( ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( 8 ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( 9 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ويدرأ ) يدفع ، ( عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ) وأراد بالعذاب الحد ، كما قال في أول السورة : " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي : حدهما ، ومعنى الآية : أن الزوج إذا لاعن وجب على المرأة حد الزنا ، وإذا وجب عليها حد الزنا بلعانه فأرادت إسقاطه عن نفسها فإنها تلاعن ، فتقوم وتشهد بعد تلقين الحاكم أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة علي غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به .

    ولا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها ، ولو أقام الزوج بينة على زناها فلا يسقط الحد عنها باللعان . وعند أصحاب الرأي : لا حد على من قذف زوجته ، بل موجبه اللعان ، فإن لم يلاعن يحبس حتى يلاعن ، فإذا لاعن الزوج وامتنعت المرأة عن اللعان حبست حتى تلاعن . [ ص: 17 ]

    وعند الآخرين اللعان حجة على صدقه ، والقاذف إذا قعد عن إقامة الحجة على صدقه لا يحبس بل يحد كقاذف الأجنبي إذا قعد عن إقامة البينة .

    وعند أبي حنيفة موجب اللعان وقوع الفرقة ونفي النسب ، وهما لا يحصلان إلا بلعان الزوجين جميعا ، وقضاء القاضي .

    وفرقة اللعان فرقة فسخ عند كثير من أهل العلم وبه قال الشافعي ، وتلك الفرقة متأبدة حتى لو كذب الزوج نفسه يقبل ذلك فيما عليه دون ما له ، فيلزمه الحد ويلحقه الولد ولكن لا يرتفع تأبيد التحريم .

    وعند أبي حنيفة فرقة اللعان فرقة طلاق فإذا كذب الزوج نفسه جاز له أن ينكحها . وإذا أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم . وعند أبي حنيفة إذا أتى بأكثر كلمات اللعان قام مقام الكل في تعلق الحكم به .

    وكل من صح يمينه صح لعانه حرا أو عبدا ، مسلما أو ذميا ، وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن ، وبه قال ربيعة ومالك والثوري والشافعي وأكثر أهل العلم . وقال الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي : لا يجري اللعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما .

    وظاهر القرآن حجة لمن قال يجري اللعان بينهما ، لأن الله تعالى قال : ( والذين يرمون أزواجهم ) ولم يفصل بين الحر والعبد والمحدود وغيره كما قال : " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " ( المجادلة - 2 ) ، ثم يستوي الحر والعبد هنا في الظهار ، ولا يصح اللعان إلا عند الحاكم أو خليفته .

    ويغلظ اللعان بأربعة أشياء : بعدد الألفاظ ، والمكان ، والزمان ، وأن يكون بمحضر جماعة من الناس . أما الألفاظ المستحقة فلا يجوز الإخلال بها ، وأما المكان فهو أن يلاعن في أشرف الأماكن ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وفي سائر البلاد ففي المسجد الجامع عند المنبر ، والزمان هو أن يكون بعد صلاة العصر ، وأما الجمع فأقلهم أربعة ، والتغليظ بالجمع مستحب ، حتى لو لاعن الحاكم بينهما وحده [ جاز ] ، وهل التغليظ بالمكان والزمان واجب أو مستحب فيه قولان .
    ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ( 10 ) )

    قوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) جواب لولا محذوف ، يعني لعاجلكم بالعقوبة ، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان ، وإن الله تواب يعود على من يرجع عن المعاصي بالرحمة ، حكيم فيما فرض من الحدود . [ ص: 18 ] ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( 11 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ) الآيات سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله أخبرنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال : حدثني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهل الإفك ما قالوا وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا .

    قالوا : قالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - معه قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، [ ص: 19 ] فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول .

    قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول ،
    قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .

    وقال عروة أيضا : لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى ( والذي تولى كبره ) قال : عبد الله بن أبي ابن سلول

    قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول : إنه الذي قال :
    فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء


    قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهرا ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .

    قالت : فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت فقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ فقالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أولقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت [ ص: 20 ] تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل [ بنوم ] ، ثم أصبحت أبكي .

    قالت : ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا قط أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .

    قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ من يومه ] فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت .

    قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم [ قالت وأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ] ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي .

    قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه . [ ص: 21 ]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #308
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (303)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية12 إلى الاية 26





    قالت : فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته فاض دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قال ، فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " ( يوسف - 18 ) ثم تحولت واضطجعت على فراشي وأنا أعلم والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم " العشر الآيات ، فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ) إلى قوله ( غفور رحيم ) قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .

    قالت عائشة : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، قالت عائشة وهي التي تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .

    قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : [ ص: 22 ] ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .

    ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

    ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ولقد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا لهابه ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك فقال لي أبواي : قومي إليه فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمد أحدا ولكن أحمد الله الذي برأني لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه .

    أما تفسير قوله : ( إن الذين جاءوا بالإفك ) بالكذب ، والإفك : أسوأ الكذب ، سمي إفكا لكونه مصروفا عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، ( عصبة منكم ) أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، ( لا تحسبوه شرا لكم ) يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شرا لكم ، ( بل هو خير لكم ) لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم .

    ( لكل امرئ منهم ) يعني من العصبة الكاذبة ( ما اكتسب من الإثم ) أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، ( والذي تولى كبره ) أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب " كبره " بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول . [ ص: 23 ]

    وروى الزهري عن عروة عن عائشة ( والذي تولى كبره منهم ) قالت : عبد الله بن أبي ابن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة .

    وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضا حسان ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره .

    وقال قوم : هو حسان بن ثابت . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا بشر بن خالد ، أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي الضحى عن مسروق قال : دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعرا يشبب بأبيات له ، وقال :
    حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل


    فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ) قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين .
    ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( 12 ) )

    قوله - عز وجل - : ( لولا ) هلا ( إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ) بإخوانهم ( خيرا ) قال الحسن : بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ، نظيره قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ( النساء - 29 ) [ ص: 24 ] فسلموا على أنفسكم ( النور - 61 ) . ( وقالوا هذا إفك مبين ) أي كذب بين .
    ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( 13 ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ( 14 ) )

    ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) أي : على ما زعموا ، ( فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ) فإن قيل : كيف يصيرون عند الله كاذبين إذ لم يأتوا بالشهداء ومن كذب فهو عند الله كاذب سواء أتى بالشهداء أو لم يأت ؟ قيل : " عند الله " أي : في حكم الله وقيل : معناه كذبوهم بأمر الله وقيل : هذا في حق عائشة ، ومعناه : أولئك هم الكاذبون في غيبي وعلمي . ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم ) خضتم ( فيه ) من الإفك ( عذاب عظيم ) قال ابن عباس أي : عذاب لا انقطاع له ، يعني : في الآخرة ، لأنه ذكر عذاب الدنيا من قبل ، فقال تعالى : " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ، وقد أصابه ، فإنه جلد وحد . وروت عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية حد أربعة نفر : عبد الله بن أبي ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .
    [ ص: 25 ] ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( 15 ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( 16 ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( 17 ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( 18 ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 19 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إذ تلقونه ) تقولونه ، ( بألسنتكم ) قال مجاهد ومقاتل : يرويه بعضكم عن بعض . وقال الكلبي : وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقيا ، وقال الزجاج : يلقيه بعضكم إلى بعض ، وقرأت عائشة " تلقونه " بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق وهو الكذب ، ( وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا ) تظنون أنه سهل لا إثم فيه ، ( وهو عند الله عظيم ) في الوزر . ( ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك ) هذا اللفظ هاهنا معناه التعجب ( هذا بهتان عظيم ) أي : كذب عظيم يبهت ويتحير من عظمته . وفي بعض الأخبار أن أم أيوب قالت لأبي أيوب الأنصاري : أما بلغك ما يقول الناس في عائشة ؟ فقال أبو أيوب : سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت الآية على وفق قوله . ( يعظكم الله ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يحرم الله عليكم وقال مجاهد : ينهاكم الله . ( أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات ) في الأمر والنهي ، ( والله عليم ) بأمر عائشة وصفوان ، ( حكيم ) حكم ببراءتهما . قوله - عز وجل - : ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) يعني : تظهر ، ويذيع الزنا ، ( في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) يعني عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين ، والعذاب في الدنيا الحد ، وفي الآخرة النار ، ( والله يعلم ) كذبهم وبراءة عائشة وما خاضوا فيه من سخط الله ( وأنتم لا تعلمون )
    [ ص: 26 ] ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ( 20 ) ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( 21 ) ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( 22 ) )

    ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ) جواب " لولا " محذوف ، أي : لعاجلكم بالعقوبة ، قال ابن عباس : يريد مسطحا ، وحسان ، وحمنة . قوله - عز وجل - : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء ) أي : بالقبائح من الأفعال ، ( والمنكر ) ما يكرهه الله - عز وجل - ، ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا ) قال مقاتل : ما صلح . وقال ابن قتيبة : ما طهر ، ( منكم من أحد ) والآية على العموم عند بعض المفسرين ، قالوا : أخبر الله أنه لولا فضله ورحمته بالعصمة ما صلح منكم أحد . وقال قوم : هذا الخطاب للذين خاضوا في الإفك ، ومعناه : ما طهر من هذا الذنب ولا صلح أمره بعد الذي فعل ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ، قال : ما قبل توبة أحد منكم ، ( أبدا ولكن الله يزكي ) يطهر ، ( من يشاء ) من الذنب بالرحمة والمغفرة ، ( والله سميع عليم ) قوله - عز وجل - ( ولا يأتل ) أي : ولا يحلف ، وهو يفتعل من الألية وهي القسم ، وقرأ أبو جعفر : " يتأل " بتقديم التاء وتأخير الهمزة ، وهو يتفعل من الألية . ( أولو الفضل منكم والسعة ) يعني أبا بكر الصديق ( أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) يعني مسطحا ، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر ، حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، ( وليعفوا وليصفحوا ) عنهم خوضهم في أمر عائشة ، ( ألا تحبون ) يخاطب أبا بكر ، ( أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) فلما قرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر قال : بلى أنا أحب أن يغفر الله لي ، ورجع [ ص: 27 ] إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا .

    وقال ابن عباس والضحاك : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم ، فأنزل الله هذه الآية .
    ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( 23 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إن الذين يرمون المحصنات ) العفائف ، ( الغافلات ) عن الفواحش ، ( المؤمنات ) والغافلة عن الفاحشة أي : لا يقع في قلبها فعل الفاحشة وكانت عائشة كذلك ، قوله تعالى : ( لعنوا في الدنيا والآخرة ) عذبوا بالحدود وفي الآخرة بالنار ، ( ولهم عذاب عظيم ) قال مقاتل : هذا في عبد الله بن أبي المنافق . روي عن خصيف قال : قلت لسعيد بن جبير : من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة ؟ فقال ذلك لعائشة خاصة .

    وقال قوم : هي لعائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون سائر المؤمنات . روي عن العوام بن حوشب عن شيخ من بني كاهل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هذه في شأن عائشة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ليس فيها توبة ، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة ثم قرأ : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( إلا الذين تابوا ) فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لأولئك توبة .

    وقال الآخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان [ ذلك ] حين نزلت الآية التي في أول السورة ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) إلى قوله : ( فإن الله غفور رحيم ) فأنزل الله الجلد والتوبة .
    [ ص: 28 ] ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( 24 ) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( 25 ) الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ( 26 ) )

    ( يوم تشهد ) قرأ حمزة والكسائي بالياء لتقديم الفعل ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( عليهم ألسنتهم ) وهذا قبل أن يختم على أفواههم ، ( وأيديهم وأرجلهم ) يروى أنه ( تختم ) الأفواه فتتكلم الأيدي والأرجل بما عملت في الدنيا . وقيل : معناه تشهد ألسنة بعضهم على بعض وأيديهم وأرجلهم ، ( بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ) جزاءهم الواجب . وقيل : حسابهم العدل . ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) يبين لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا . قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : وذلك أن عبد الله بن أبي كان يشك في الدين فيعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين . قوله - عز وجل - : ( الخبيثات للخبيثين ) قال أكثر المفسرين : الخبيثات من القول والكلام للخبيثين من الناس . ( والخبيثون ) من الناس ، ( للخبيثات ) من القول ، [ والكلام ] ، ( والطيبات ) من القول ، ( للطيبين ) من الناس ، ( والطيبون ) من الناس ، ( للطيبات ) من القول ، والمعنى : أن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس والطيب لا يليق إلا بالطيب من الناس ، فعائشة لا يليق بها الخبيثات من القول لأنها طيبة رضي الله عنها فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن [ وما يليق بها ] .

    وقال الزجاج : معناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء ، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة ، ومدح للذين برؤوها بالطهارة .

    وقال ابن زيد : معناه الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء [ أمثال عبد الله بن أبي والشاكين في الدين ] ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء . يريد عائشة طيبها الله لرسوله الطيب - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 29 ]

    ( أولئك مبرءون ) يعني : عائشة وصفوان ذكرهما بلفظ الجمع كقوله تعالى : " فإن كان له إخوة " ( النساء - 11 ) أي : إخوان . وقيل : " أولئك مبرؤون " يعني الطيبين والطيبات منزهون ، ( مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ) فالمغفرة هي العفو عن الذنوب ، والرزق الكريم : الجنة .

    وروي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء أعطيتها لم تعطها امرأة غيرها ، منها أن جبريل أتى بصورتها في سرقة من حرير ، وقال هذه زوجتك . وروي أنه أتى بصورتها في راحته وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج بكرا غيرها ، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه في حجرها ، ودفن في بيتها ، وكان ينزل عليه الوحي وهو معها في لحافه ، ونزلت براءتها من السماء ، وأنها ابنة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصديقه ، وخلقت طيبة ، ووعدت مغفرة ورزقا كريما .

    وكان مسروق إذا روى عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبرأة من السماء .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #309
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (304)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية27 إلى الاية 32




    ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ( 27 ) )

    قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ) قيل : معنى قوله : ( حتى تستأنسوا ) أي : حتى تستأذنوا [ وكان ابن عباس يقرأ حتى تستأذنوا ] ويقول : تستأنسوا خطأ من الكاتب . وكذلك كان يقرأ أبي ابن كعب ، والقراءة المعروفة تستأنسوا وهو بمعنى الاستئذان . وقيل : الاستئناس طلب الأنس ، وهو أن ينظر هل في البيت إنسان فيؤذنهم إني داخل . وقال الخليل : الاستئناس الاستبصار من قوله : آنست نارا ، أي : أبصرت . وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو يتنحنح ، يؤذن أهل البيت .

    وجملة حكم الآية : أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان . واختلفوا في أنه يقدم الاستئذان أم السلام ؟ فقال قوم : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام [ ص: 30 ] عليكم ، لقوله تعالى : ( حتى تستأنسوا ) أي : تستأذنوا ، ( وتسلموا على أهلها ) والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم أأدخل . وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها : حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا . وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود . وروي عن كلدة بن حنبل قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل .

    وروي عن ابن عمر أن رجلا استأذن عليه فقال : أأدخل ؟ فقال ابن عمر : لا فأمر بعضهم الرجل أن يسلم فسلم فأذن له .

    وقال بعضهم : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، ثم سلم ، وقال أبو موسى الأشعري وحذيفة : يستأذن على ذوات المحارم ، ومثله عن الحسن ، وإن كانوا في دار واحدة يتنحنح ويتحرك أدنى حركة .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد عبد الله بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن سعيد الجريري ، عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فأرسل عمر في أثره فقال : لم رجعت ؟ قال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع " . قال عمر : لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا غير أنه قد أوعده ، قال : فجاء أبو موسى الأشعري ممتقعا لونه وأنا في حلقة جالس ، فقلنا : ما شأنك ؟ فقال : سلمت على عمر ، فأخبرنا خبره ، فهل سمع أحد منكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالوا : نعم كلنا قد سمعه ، قال فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك .

    ورواه بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري ، وفيه : قال أبو موسى الأشعري : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " . قال الحسن : الأول إعلام والثاني مؤامرة ، والثالث استئذان بالرجوع .
    [ ص: 31 ] ( فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ( 28 ) )

    قوله - عز وجل - : ( فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها ) أي : إن لم تجدوا في البيوت أحدا يأذن لكم في دخولها فلا تدخلوها ، ( حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا ) يعني : إذا كان في البيت قوم فقالوا : ارجع فليرجع ولا يقف على الباب ملازما ، ( هو أزكى لكم ) يعني : الرجوع أطهر وأصلح لكم ، قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب فإن للناس حاجات ، وإذا حضر ولم يستأذن وقعد على الباب منتظرا جاز .

    وكان ابن عباس يأتي باب الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج ، ولا يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني ، فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردودا : أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أخبرنا أحمد بن منصور ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن سهل بن سعد الساعدي أن رجلا اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى ، فقال : " لو علمت أن هذا ينظرني حتى آتيه لطعنت بالمدرى في عينيه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر " .

    أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح " .

    قوله تعالى : ( والله بما تعملون عليم ) من الدخول بالإذن وغير الإذن . ولما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام وعلى ظهر الطريق ، [ ص: 32 ] ليس فيها ساكن ؟ فأنزل الله - عز وجل - :
    ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( 29 ) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ( 30 ) )

    ( ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة ) ، أي : بغير استئذان ، ( فيها متاع لكم ) يعني منفعة لكم . واختلفوا في هذه البيوت ، فقال قتادة : هي الخانات والبيوت والمنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويئووا أمتعتهم إليها ، جاز دخولها بغير استئذان ، والمنفعة فيها بالنزول وإيواء المتاع والاتقاء من الحر والبرد .

    وقال ابن زيد : هي بيوت التجار وحوانيتهم التي بالأسواق يدخلونها للبيع والشراء وهو المنفعة . وقال إبراهيم النخعي : ليس على حوانيت السوق إذن . وكان ابن سيرين إذا جاء إلى حانوت السوق يقول : السلام عليكم أأدخل ؟ ثم يلج . وقال عطاء : هي البيوت الخربة ، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من البول والغائط . وقيل : هي جميع البيوت التي لا ساكن لها لأن الاستئذان إنما جاء لئلا يطلع على عورة فإن لم يخف ذلك فله الدخول بغير استئذان ، ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) قوله - عز وجل - : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) أي : عن النظر إلى ما لا يحل النظر إليه . وقيل : " من " صلة أي : يغضوا أبصارهم . وقيل : هو ثابت لأن المؤمنين غير مأمورين بغض البصر أصلا لأنه لا يجب الغض عما يحل النظر إليه ، وإنما أمروا بأن يغضوا عما لا يحل النظر إليه ، ( ويحفظوا فروجهم ) عما لا يحل ، قال أبو العالية : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا والحرام ، إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه ، ( ذلك ) أي : غض البصر وحفظ الفرج ، ( أزكى لهم ) أي : خير لهم وأطهر ، ( إن الله خبير بما يصنعون ) عليم بما يفعلون ، روي عن بريدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " . [ ص: 33 ]

    وروي عن جرير بن عبد الله قال : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجأة فقال : " اصرف بصرك " . أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أخبرنا زيد بن الحباب ، عن الضحاك بن عثمان قال : أخبرني زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد " .
    ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( 31 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) عما لا يحل ، ( ويحفظن فروجهن ) عمن لا يحل . وقيل أيضا : " يحفظن فروجهن " يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " ؟ [ ص: 34 ]

    قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) أي لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان ؛ خفية ، وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة .

    قوله تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : " خذوا زينتكم عند كل مسجد " ( الأعراف - 31 ) ، وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف .

    فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئا منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره .

    قوله - عز وجل - : ( وليضربن بخمرهن ) أي : ليلقين بمقانعهن ، ( على جيوبهن ) وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله - عز وجل - : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها .

    ( ولا يبدين زينتهن ) يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين ( إلا لبعولتهن ) قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، ( أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن ) فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . [ ص: 35 ] قوله تعالى : ( أو نسائهن ) أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : " أو نسائهن " والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، فكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات

    قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانهن ) اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروى ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمة لها .

    قوله - عز وجل - : ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر " غير " بنصب الراء على القطع لأن " التابعين " معرفة و " غير " نكرة . وقيل : بمعنى " إلا " فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت " التابعين " والإربة والأرب : الحاجة . والمراد ب " التابعين غير أولي الإربة " هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه . [ ص: 36 ]

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن هذا " فحجبوه ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحدا وجمعا ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة .

    ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك .

    ( وتوبوا إلى الله جميعا ) من التقصير الواقع في أمره ونهيه ، وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، ( أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) قرأ ابن عامر : " أيه المؤمنون " و " يا أيه الساحر " و " أيه الثقلان " بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة " .

    أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن حزيم الشاشي ، أخبرنا أبو محمد عبد بن حميد الكشي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إن كنا لنعد ، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس يقول : " رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم " مائة مرة . [ ص: 37 ]

    وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للناظر أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال أجرى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .

    وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة ، لما أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش****** ، قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : " يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الفخذ عورة "

    قال محمد بن إسماعيل : " وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط " . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة [ ص: 38 ] إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .
    ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ( 32 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) " الأيامى " : جمع أيم ، وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة ، يقال : رجل أيم وامرأة أيمة ، وأيم ، ومعنى الآية : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ، ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهذا الأمر أمر ندب واستحباب .

    يستحب لمن تاقت نفسه إلى النكاح ووجد أهبة النكاح أن يتزوج ، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته بالصوم ، لما أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسين الطوسي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن مسعود ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أيوب البجلي ، أخبرنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .

    وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط " [ ص: 39 ]

    وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، ومن سنتي النكاح " . أما من لا تتوق نفسه إلى النكاح وهو قادر عليه فالتخلي للعبادة له أفضل من النكاح عند الشافعي رحمه الله ، وعند أصحاب الرأي النكاح أفضل .

    قال الشافعي : وقد ذكر الله تعالى عبدا كرمه فقال : " وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " ( آل عمران - 39 ) ، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه ، وذكر القواعد من النساء ولم يندبهن إلى النكاح . وفي الآية دليل على أن تزويج النساء الأيامى إلى الأولياء ; لأن الله تعالى خاطبهم به ، كما أن تزويج العبيد والإماء إلى السادات ، لقوله - عز وجل - : ( والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ، روي ذلك عن عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وبه قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، وشريح ، وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق . وجوز أصحاب الرأي للمرأة الحرة تزويج نفسها .

    وقال مالك : إن كانت المرأة دنيئة يجوز لها تزويج نفسها ، وإن كانت شريفة فلا . والدليل على أن الولي شرط من جهة الأخبار : ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نكاح إلا بولي " [ ص: 40 ]

    أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، ثلاثا ، فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له "

    قوله - عز وجل - : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ) قيل : الغنى هاهنا : القناعة . وقيل : اجتماع الرزقين ، رزق الزوج ورزق الزوجة . وقال عمر : عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح ، والله - عز وجل - يقول : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) وروي عن بعضهم : أن الله تعالى وعد الغني بالنكاح وبالتفرق فقال تعالى : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) ، وقال تعالى : " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته " ( النساء - 130 ) .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #310
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (305)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية33 إلى الاية 38






    ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( 33 ) )

    ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ) أي : ليطلب العفة عن الحرام والزنا الذين لا يجدون ما لا ينكحون به للصداق والنفقة ، ( حتى يغنيهم الله من فضله ) أي : يوسع عليهم من رزقه . [ ص: 41 ]

    قوله تعالى : ( والذين يبتغون الكتاب ) أي : يطلبون المكاتبة ، ( مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ) سبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه ، فأنزل الله هذه الآية فكاتبه حويطب على مائة دينار ، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ، وقتل يوم حنين في الحرب

    والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه : كاتبتك على كذا من المال ، ويسمي مالا معلوما ، يؤدى ذلك في نجمين أو نجوم معلومة في كل نجم كذا ، فإذا أديت فأنت حر ، والعبد يقبل ذلك ، فإذا أدى المال عتق ، ويصير العبد أحق بمكاسبه بعد الكتابة ، وإذا أعتق بعد أداء المال فما فضل في يده من المال ، يكون له ، ويتبعه أولاده الذين حصلوا في حال الكتابة في العتق ، وإذا عجز عن أداء المال كان لمولاه أن يفسخ كتابته ويرده إلى الرق ، وما في يده من المال يكون لمولاه ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن نافع ، أخبرنا عبد الله بن عمر كان يقول : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء " . ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا : " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " .

    وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى : ( فكاتبوهم ) أمر إيجاب ، يجب على المولى أن يكاتب عبده الذي علم فيه خيرا إذا سأل العبد ذلك ، على قيمته أو أكثر ، وإن سأل على أقل من قيمته فلا يجب ، وهو قول عطاء وعمرو بن دينار ، ولما روي أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عنه فشكا إلى عمر ، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة فكاتبه . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ندب واستحباب . ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي; لأنه عقد جوز إرفاقا بالعبد ، ومن تتمة الإرفاق أن يكون ذلك المال عليه إلى أجل حتى يؤديه على مهل ، فيحصل المقصود ، كالدية في قتل [ ص: 42 ] الخطأ ، وجبت على العاقلة على سبيل المواساة فكانت عليهم مؤجلة منجمة ، وجوز أبو حنيفة الكتابة على نجم واحد وحالة .

    قوله تعالى : ( إن علمتم فيهم خيرا ) اختلفوا في معنى الخير ، فقال ابن عمر : قوة على الكسب . وهو قول مالك والثوري ، وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالا كقوله تعالى : " إن ترك خيرا " ( البقرة - 180 ) أي : مالا وروي أن عبدا لسلمان الفارسي قال له : كاتبني ، قال : ألك مال ؟ قال : لا . قال : تريد أن تطعمني من أوساخ الناس ، ولم يكاتبه . قال الزجاج : لو أراد به المال لقال : إن علمتم لهم خيرا . وقال إبراهيم وابن زيد وعبيدة : صدقا وأمانة وقال طاوس ، وعمرو بن دينار : مالا وأمانة وقال الشافعي : وأظهر معاني الخير في العبد : الاكتساب مع الأمانة ، فأحب أن لا يمنع من كتابته إذا كان هكذا .

    أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو الحسن بن علي بن شريك الشافعي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم ، أخبرنا أبو بكر الجوربذي ، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث عن محمد بن عجلان ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح يريد العفاف ، والمجاهد في سبيل الله " . وحكى محمد بن سيرين عن عبيدة : " إن علمتم فيهم خيرا " أي : أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون العبد بالغا عاقلا فأما الصبي والمجنون فلا تصح كتابتهما لأن الابتغاء منهما لا يصح . وجوز أبو حنيفة كتابة الصبي المراهق .

    قوله - عز وجل - : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هذا خطاب للموالي ، يجب على المولى أن يحط عن مكاتبه من مال كتابته شيئا ، وهو قول عثمان وعلي والزبير وجماعة ، وبه قال الشافعي . [ ص: 43 ] ثم اختلفوا في قدره ، فقال قوم : يحط عنه ربع مال الكتابة ، وهو قول علي ، ورواه بعضهم عن علي مرفوعا ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحط عنه الثلث . وقال الآخرون : ليس له حد بل عليه أن يحط عنه ما شاء وهو قول الشافعي .

    قال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاما له على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع عنه من آخر كتابته خمسة آلاف درهم . وقال سعيد بن جبير : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ووضع من آخر كتابته ما أحب . وقال بعضهم : هو أمر استحباب . والوجوب أظهر . وقال قوم : أراد بقوله : " وآتوهم من مال الله " أي سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات ، بقوله تعالى : " وفي الرقاب " ( التوبة - 60 ) وهو قول الحسن وزيد بن أسلم . وقال إبراهيم : هو حث لجميع الناس على معونتهم

    ولو مات المكاتب قبل أداء النجوم ، اختلف أهل العلم فيه : فذهب كثير منهم إلى أنه يموت رقيقا ، وترتفع الكتابة سواء ترك مالا أو لم يترك ، كما لو تلف المبيع قبل القبض يرتفع البيع . وهو قول عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد . وقال قوم : إن ترك وفاء بما بقي عليه من الكتابة كان حرا وإن كان فيه فضل ، فالزيادة لأولاده الأحرار ، وهو قول عطاء ، وطاوس ، والنخعي ، والحسن ، وبه قال مالك ، والثوري ، وأصحاب الرأي . ولو كاتب عبده كتابة فاسدة يعتق بأداء المال لأن عتقه معلق بالأداء ، وقد وجد وتبعه الأولاد والاكتساب كما في الكتابة الصحيحة ، ويفترقان في بعض الأحكام : وهي أن الكتابة الصحيحة لا يملك المولى فسخها ما لم يعجز المكاتب عن أداء النجوم ، ولا تبطل بموت المولى ، ويعتق بالإبراء [ ص: 44 ] عن النجوم ، والكتابة الفاسدة يملك المولى فسخها قبل أداء المال ، حتى لو أدى المال بعد الفسخ لا يعتق ويبطل بموت المولى ، ولا يعتق بالإبراء عن النجوم ، وإذا عتق المكاتب بأداء المال لا يثبت التراجع في الكتابة الصحيحة ، ويثبت في الكتابة الفاسدة ، فيرجع المولى عليه بقيمة رقبته ، وهو يرجع على المولى بما دفع إليه إن كان مالا .

    قوله - عز وجل - : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) الآية نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق ، كانت له جاريتان : معاذة ومسيكة ، وكان يكرههما على الزنا بالضريبة يأخذها منهما ، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤجرون إماءهم ، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين ، فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه ، وإن يك شرا فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله هذه الآية . وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوما ببرد وجاءت الأخرى بدينار ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، قالتا : والله لا نفعل ، قد جاء الإسلام وحرم الزنا ، فأتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكتا إليه ، فأنزل هذه الآية

    ( ولا تكرهوا فتياتكم ) إماءكم ( على البغاء ) أي : الزنا ( إن أردن تحصنا ) أي : إذا أردن ، وليس معناه الشرط ، لأنه لا يجوز إكراههن على الزنا وإن لم يردن تحصنا ، كقوله تعالى : " وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ( آل عمران - 139 ) ، أي : إذا كنتم مؤمنين وقيل : شرط إرادة التحصن لأن الإكراه إنما يكون عند إرادة التحصن ، فإذا لم ترد التحصن بغت طوعا ، والتحصن : التعفف . وقال الحسن بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصنا ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء .

    ( لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) أي : لتطلبوا من أموال الدنيا ، يريد من كسبهن وبيع أولادهن ، ( ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) يعني للمكرهات ، والوزر على المكره . وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهن والله لهن والله .
    [ ص: 45 ] ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( 34 ) الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ( 35 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) من الحلال والحرام ، ( ومثلا من الذين خلوا من قبلكم ) أي : شبها من حالكم بحالهم أيها المكذبون ، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق من قبلهم من المكذبين ، ( وموعظة للمتقين ) للمؤمنين الذين يتقون الشرك والكبائر . قوله - عز وجل - : ( الله نور السماوات والأرض ) قال ابن عباس : هادي أهل السماوات والأرض ، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من الضلالة ينجون . وقال الضحاك : منور السماوات والأرض ، يقال : نور السماء بالملائكة ونور الأرض بالأنبياء . وقال مجاهد : مدبر الأمور في السماوات والأرض وقال أبي بن كعب والحسن وأبو العالية : مزين السماوات والأرض ، زين السماء بالشمس والقمر والنجوم ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين . ويقال : بالنبات والأشجار . وقيل : معناه الأنوار كلها منه ، كما يقال : فلان رحمة أي منه الرحمة . وقد يذكر مثل هذا اللفظ على طريق المدح كما قال القائل :
    إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نورها وجمالها


    قوله تعالى : ( مثل نوره ) أي : مثل نور الله تعالى في قلب المؤمن ، وهو النور الذي يهتدي به ، كما قال " فهو على نور من ربه " ( الزمر - 22 ) ، وكان ابن مسعود يقرأ : " مثل نوره في قلب المؤمن " . وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مثل نوره الذي أعطى المؤمن . وقال بعضهم : الكناية عائدة إلى المؤمن ، أي : مثل نور قلب المؤمن ، وكان أبي يقرأ : " مثل نور من آمن به " وهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره . وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن . وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : أراد بالنور الطاعة ، سمى طاعة الله نورا وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا [ ص: 46 ] ( كمشكاة ) وهي الكوة التي لا منفذ لها فإن كان لها منفذ فهي كوة . وقيل : المشكاة حبشية . قال مجاهد : هي القنديل ( فيها مصباح ) أي : سراج ، أصله من الضوء ، ومنه الصبح ، ومعناه : كمصباح في مشكاة ، ( المصباح في زجاجة ) يعني القنديل ، قال الزجاج : إنما ذكر الزجاجة لأن النور وضوء النار فيها أبين من كل شيء ، وضوءه يزيد في الزجاج ، ثم وصف الزجاجة ، فقال : ( الزجاجة كأنها كوكب دري ) قرأ أبو عمرو والكسائي : " دريء " بكسر الدال والهمزة ، وقرأ حمزة وأبو بكر بضم الدال والهمزة ، فمن كسر الدال فهو فعيل من الدرء ، وهو الدفع ، لأن الكوكب يدفع الشياطين من السماء ، وشبهه بحالة الدفع لأنه يكون في تلك الحالة أضوأ وأنور ويقال : هو من درأ الكوكب إذا اندفع منقبضا فيتضاعف ضوءه في ذلك الوقت . وقيل : " دري " أي : طالع ، يقال : درأ النجم إذا طلع وارتفع . ويقال : درأ علينا فلان أي طلع وظهر ، فأما رفع الدال مع الهمزة كما قرأ حمزة ، قال أكثر النحاة : هو لحن ، لأنه ليس في كلام العرب فعيل بضم الفاء وكسر العين .

    قال أبو عبيدة : وأنا أرى لها وجها وذلك أنها دروء على وزن فعول من درات ، مثل سبوح وقدوس ، وقد استثقلوا كثرة الضمات فردوا بعضها إلى الكسر ، كما قالوا : عتيا وهو فعول من عتوت ، وقرأ الآخرون ( دري ) بضم الدال وتشديد الياء بلا همز ، أي : شديد الإنارة ، نسب إلى الدر في صفائه وحسنه ، وإن كان الكوكب أكثر ضوءا من الدر لكنه يفضل الكواكب بضيائه ، كما يفضل الدر ، سائر الحب . وقيل : الكوكب الدري واحد من الكواكب الخمسة العظام ، وهي زحل والمريخ ، والمشتري ، والزهرة ، وعطارد . وقيل : شبهه بالكوكب ، ولم يشبهه بالشمس والقمر ، لأن الشمس والقمر يلحقهما الخسوف ، والكواكب لا يلحقها الخسوف .

    ( يوقد ) قرأ أبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب : " توقد " بالتاء وفتحها وفتح الواو والدال وتشديد القاف على الماضي ، يعني المصباح ، أي : اتقد ، يقال توقدت النار أي : اتقدت . وقرأ [ ص: 47 ] أهل الكوفة غير حفص " توقد " بالتاء وضمها وفتح القاف خفيفا ، يعني الزجاجة أي : نار الزجاجة لأن الزجاجة لا توقد ، وقرأ الآخرون بالياء وضمها خفيفا يعني المصباح ، ( من شجرة مباركة زيتونة ) أي : من زيت شجرة مباركة ، فحذف المضاف بدليل قوله تعالى ( يكاد زيتها يضيء ) وأراد بالشجرة المباركة : الزيتونة وهي كثيرة البركة ، وفيها منافع كثيرة ، لأن الزيت يسرج به ، وهو أضوأ وأصفى الأدهان ، وهو إدام وفاكهة ، ولا يحتاج في استخراجه إلى إعصار بل كل أحد يستخرجه ، وجاء في الحديث : " أنه مصحة من الباسور " ، وهي شجرة تورق من أعلاها إلى أسفلها .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو الحسن القاسم بن بكر الطيالسي ، أخبرنا أبو أمية الطوسي ، أخبرنا قبيصة بن عقبة ، أخبرنا سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الذي كان بالشام ، وليس بابن أبي رباح ، عن أسد بن ثابت وأبي أسلم الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " .

    قوله تعالى : ( لا شرقية ولا غربية ) أي : ليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت ، بل هي ضاحية الشمس طول النهار ، تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها ، فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين ، فيكون زيتها أضوأ ، وهذا كما يقال : فلان ليس بأسود ولا بأبيض ، يريد ليس بأسود خالص ولا بأبيض خالص ، بل اجتمع فيه كل واحد منهما ، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض ، أي اجتمعت فيه الحلاوة والحموضة ، هذا قول ابن عباس في رواية عكرمة والكلبي ، والأكثرين . وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست في مقناة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لا يصيبها الظل ، فهي لا تضرها شمس ولا ظل . [ ص: 48 ]

    وقيل : معناه أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر ، ولا في غرب يضرها البرد . وقيل : معناه هي شامية لأن الشام لا شرقي ولا غربي . وقال الحسن : ليست هذه من أشجار الدنيا ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية وإنما هو مثل ضربه الله لنوره .

    ( يكاد زيتها ) دهنها ، ( يضيء ) من صفائه ( ولو لم تمسسه نار ) أي : قبل أن تصيبه النار ، ( نور على نور ) يعني : نور المصباح على نور الزجاجة . واختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل ، فقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى : ( مثل نوره كمشكاة ) فقال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فالمشكاة صدره ، والزجاجة قلبه ، والمصباح فيه النبوة ، توقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة ، يكاد نور محمد وأمره يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار . وروى سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال : المشكاة : جوف محمد ، والزجاجة : قلبه ، والمصباح : النور الذي جعله الله فيه ، لا شرقية ولا غربية : ولا يهوديا ولا نصرانيا ، توقد من شجرة مباركة : إبراهيم ، نور على نور ، قلب إبراهيم ، ونور : قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - .

    وقال محمد بن كعب القرظي : " المشكاة " إبراهيم ، و " الزجاجة " : إسماعيل و " المصباح " : محمد صلوات الله عليهم أجمعين سماه الله مصباحا كما سماه سراجا فقال تعالى : " وسراجا منيرا " ( الأحزاب - 46 ) ، " توقد من شجرة مباركة " وهي إبراهيم ، سماه مباركة لأن أكثر الأنبياء من صلبه ، " لا شرقية ولا غربية " يعني : إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، تكاد محاسن محمد - صلى الله عليه وسلم - تظهر للناس قبل أن يوحى إليه " نور على نور " : نبي من نسل نبي ، نور محمد على نور إبراهيم .

    وقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن . روى أبو العالية عن أبي بن كعب قال : هذا مثل المؤمن ، فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره ، والمصباح ما جعل الله فيه من الإيمان ، والقرآن [ ص: 49 ] في قلبه يوقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده ، فمثله كمثل الشجرة التي التف بها الشجر خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت فكذلك المؤمن ، قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، يكاد زيتها يضيء أي : يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له لموافقته إياه نور على نور . قال أبي فهو يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة

    قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه ، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور قال الكلبي : قوله ( نور على نور ) يعني إيمان المؤمن وعمله . وقال السدي : نور الإيمان ونور القرآن . وقال الحسن وابن زيد هذا مثل القرآن ، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن ، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي ، " يكاد زيتها يضيء " تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ ، نور على نور : يعني : القرآن نور من الله - عز وجل - لخلقه مع ما أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن ، فازداد بذلك نورا على نور

    قوله - عز وجل - : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : لدين الإسلام ، وهو نور البصيرة ، وقيل : القرآن ( ويضرب الله الأمثال للناس ) يبين الله الأشياء للناس تقريبا للأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك ، ( والله بكل شيء عليم )
    ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ( 36 ) )

    قوله : ( في بيوت أذن الله ) أي : ذلك المصباح في بيوت . وقيل : يوقد في بيوت ، والبيوت : هي المساجد ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " المساجد بيوت الله في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض " . [ ص: 50 ]

    وروى صالح بن حيان عن ابن بريدة في قوله تعالى " " في بيوت أذن الله " ، قال : إنما هي أربعة مساجد لم يبنها إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة ، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد قباء أسس على التقوى بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

    قوله : ( أن ترفع ) قال مجاهد : أن تبنى ، نظيره قوله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " ( البقرة - 127 ) ، قال الحسن : أي تعظم أي لا يذكر فيه الخنا من القول . ( ويذكر فيها اسمه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يتلى فيها كتابه ، ( يسبح ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " يسبح " بفتح الباء على غير تسمية الفاعل ، والوقف على هذه القراءة عند قوله " " والآصال " ، وقرأ الآخرون بكسر الباء ، جعلوا التسبيح فعلا للرجال ، ( يسبح له ) أي : يصلي ، ( له فيها بالغدو والآصال ) أي بالغداة والعشي . قال أهل التفسير : أراد به الصلوات المفروضات . فالتي تؤدى بالغداة صلاة الصبح ، والتي تؤدى بالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الأصيل يجمعهما . وقيل : أراد به صلاة الصبح والعصر .

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن معقل الميداني ، حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عبد الله بن رجاء ، أخبرنا همام بن أبي حمزة ، أن أبا بكر بن عبد الله بن قيس حدثه عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى البردين دخل الجنة " . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : التسبيح بالغدو صلاة الضحى . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن السمعان ، أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا الهيثم بن حميد ، أخبرني يحيى بن الحارث ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من مشى إلى صلاة مكتوبة وهو متطهر فأجره كأجر الحاج المحرم ، ومن مشى إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر ، وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين "
    [ ص: 51 ] ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ( 37 ) ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ( 38 ) )

    ( رجال ) قيل : خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد ، ( لا تلهيهم ) لا تشغلهم ، ( تجارة ) قيل خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات ، وأراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعا لأنه ذكر البيع بعد هذا ، كقوله : " وإذا رأوا تجارة " ( الجمعة - 11 ) يعني : الشراء ، وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب والبيع ما باعه الرجل على يديه . قوله : ( ولا بيع عن ذكر الله ) عن حضور المساجد لإقامة الصلاة ، ( وإقام ) أي : لإقامة ، ( الصلاة ) حذف الهاء وأراد أداءها في وقتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة ، وأعاد ذكر إقامة الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه أراد بإقام الصلاة حفظ المواقيت . روى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) المفروضة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها . وقيل : هي الأعمال الصالحة . ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) قيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر ، وتنفتح الأبصار من الأغطية ، وقيل : تتقلب القلوب بين الخوف والرجاء تخشى الهلاك وتطمع في النجاة ، وتقلب الأبصار من هوله أي : ناحية يؤخذ بهم ذات اليمين أم ذات الشمال ، ومن أين يؤتون الكتب من قبل الأيمان أم من قبل الشمائل ، وذلك يوم القيامة . وقيل : تتقلب القلوب في الجوف فترتفع إلى الحنجرة فلا تنزل ولا تخرج ، وتقلب البصر شخوصه من هول الأمر وشدته . ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) يريد : أنهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، أي بأحسن ما عملوا ، يريد : يجزيهم بحسناتهم ، وما كان من مساوئ أعمالهم لا يجزيهم بها ، ( ويزيدهم من فضله ) ما لم يستحقوه بأعمالهم ، ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) ثم ضرب لأعمال الكفار مثلا فقال تعالى :

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #311
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (306)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية39 إلى الاية 57






    [ ص: 52 ] ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( 39 ) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ( 40 ) )

    ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) " السراب " الشعاع الذي يرى نصف النهار عند شدة الحر في البراري ، يشبه الماء الجاري على الأرض يظنه من رآه ماء ، فإذا قرب منه انفش فلم ير شيئا و " الآل " ما ارتفع من الأرض ، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة يرفع فيه الشخوص يرى فيه الصغير كبيرا والقصير طويلا و " الرقراق " يكون بالعشايا ، وهو ما ترقرق من السراب ، أي جاء وذهب . و " القيعة " : جمع القاع وهو المنبسط الواسع من الأرض ، وفيه يكون السراب ، ( يحسبه الظمآن ) أي : يتوهمه العطشان ، ( ماء حتى إذا جاءه ) أي : جاء ما قد رأى أنه ماء . وقيل : جاء موضع السراب ، ( لم يجده شيئا ) على ما قدره وحسبه كذلك الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا أتاه ملك الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى منه شيئا ولا نفعه . ( ووجد الله عنده ) أي : عند عمله ، أي : وجد الله بالمرصاد . وقيل : قدم على الله ، ( فوفاه حسابه ) أي جزاء عمله ، ( والله سريع الحساب أو كظلمات ) وهذا مثل آخر ضربه الله لأعمال الكفار ، يقول : مثل أعمالهم من فسادها وجهالتهم فيها كظلمات ، ( في بحر لجي ) وهو العميق الكثير الماء ، ولجة البحر : معظمه ، ( يغشاه ) يعلوه ، ( موج من فوقه موج ) متراكم ، ( من فوقه سحاب ) ، ، قرأ ابن كثير برواية القواس : " سحاب " بالرفع والتنوين ، ( ظلمات ) بالجر على البدل من قوله " أو كظلمات " . وروى أبو الحسن البري عنه : " سحاب ظلمات " بالإضافة ، وقرأ الآخرون " سحاب ظلمات " ، كلاهما بالرفع والتنوين ، فيكون تمام الكلام عند قوله " سحاب " ثم ابتدأ فقال : ( ظلمات بعضها فوق بعض ) ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر بعضها فوق بعض ، أي : ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج فوق الموج ، وظلمة السحاب على ظلمة الموج ، وأراد بالظلمات أعمال الكافر وبالبحر اللجي قلبه ، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الختم والطبع على قلبه . [ ص: 53 ] قال أبي بن كعب : في هذه الآية الكافر يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .

    ( إذا أخرج ) يعني الناظر ، ( يده لم يكد يراها ) يعني لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمة . وقال الفراء : " يكد " صلة ، أي : لم يرها ، قال المبرد : يعني لم يرها إلا بعد الجهد ، كما يقول القائل : ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ، ولكن بعد يأس وشدة . وقيل : معناه قرب من رؤيتها ولم يرها ، كما يقال : كاد النعام يطير . ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) قال ابن عباس : من لم يجعل الله له دينا وإيمانا فلا دين له . وقيل : من لم يهده الله فلا إيمان له ولا يهديه أحد . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يلتمس الدين في الجاهلية ويلبس المسوح فلما جاء الإسلام كفر . والأكثرون على أنه عام في جميع الكفار .
    ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ( 41 ) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ( 42 ) ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ( 43 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات ) باسطات أجنحتهن بالهواء . قيل خص الطير بالذكر من جملة الحيوان لأنها تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من في السماء والأرض ، ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) قال مجاهد : الصلاة لبني آدم ، والتسبيح لسائر الخلق . وقيل : إن ضرب الأجنحة صلاة الطير وصوته تسبيحه . قوله : ( كل قد علم ) أي : كل مصل ومسبح علم الله صلاته وتسبيحه . وقيل : معناه كل مصل ومسبح منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه ، ( والله عليم بما يفعلون ) . ( ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) . ( ألم تر أن الله يزجي ) يعني : يسوق بأمره ، ( سحابا ) إلى حيث يريد ، ( ثم يؤلف بينه ) أي : يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ، ( ثم يجعله ركاما ) متراكما بعضه فوق [ ص: 54 ] بعض ، ( فترى الودق ) يعني المطر ، ( يخرج من خلاله ) وسطه وهو جمع الخلل ، كالجبال جمع الجبل . ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) يعني : ينزل البرد ، و " من " صلة ، وقيل : معناه وينزل من السماء من جبال ، أي : مقدار جبال في الكثرة من البرد ، و " من " في قوله " من جبال " صلة ، أي : وينزل من السماء جبالا من برد . وقيل : معناه وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبر الله - عز وجل - أن في السماء جبالا من برد ، ومفعول الإنزال محذوف تقديره : وينزل من السماء من جبال فيها برد ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه . قال أهل النحو ذكر الله تعالى " من " ثلاث مرات في هذه الآية فقوله " من السماء " لابتداء الغاية ، لأن ابتداء الإنزال من السماء ، وقوله تعالى " من جبال " للتبعيض لأن ما ينزله الله تعالى بعض تلك الجبال التي في السماء ، وقوله تعالى : " من برد " للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد . ( فيصيب به ) يعني بالبرد ( من يشاء ) فيهلك زروعه وأمواله ، ( ويصرفه عن من يشاء ) فلا يضره ، ( يكاد سنا برقه ) يعني ضوء برق السحاب ، ( يذهب بالأبصار ) شدة ضوئه وبريقه ، وقرأ أبو جعفر : " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء .
    ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( 44 ) )

    ( يقلب الله الليل والنهار ) يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما يأتي بالليل ويذهب بالنهار ، ويأتي بالنهار ويذهب بالليل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله تعالى : " يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار " قوله تعالى : ( إن في ذلك ) يعني في ذلك الذي ذكرت من هذه الأشياء ، ( لعبرة لأولي الأبصار ) يعني : دلالة لأهل العقول والبصائر على قدرة الله تعالى وتوحيده .
    [ ص: 55 ] ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ( 45 ) لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ( 46 ) ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ( 47 ) )

    قوله - عز وجل - : ( والله خلق كل دابة ) قرأ حمزة والكسائي ، " خالق كل " بالإضافة ، وقرأ الآخرون " خلق كل " على الفعل ، ( من ماء ) يعني : من نطفة ، وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ، ولا يدخل فيه الملائكة ولا الجن ، لأنا لا نشاهدهم . وقيل : أصل جميع الخلق من الماء ، وذلك أن الله تعالى خلق ماء ثم جعل بعضه ريحا فخلق منها الملائكة ، وبعضه نارا فخلق منها الجن ، وبعضها طينا فخلق منها آدم ، ( فمنهم من يمشي على بطنه ) كالحيات والحيتان والديدان ، ( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثل بني آدم والطير ، ( ومنهم من يمشي على أربع ) كالبهائم والسباع ، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض ، لأنها في الصورة كالتي يمشي على الأربع ، وإنما قال : " من يمشي " و " من " إنما تستعمل فيمن يعقل دون من لا يعقل من الحيات والبهائم ، لأنه ذكر كل دابة ، فدخل فيه الناس وغيرهم ، وإذا جمع اللفظ من يعقل ومن لا يعقل تجعل الغلبة لمن يعقل . ( يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ) ( لقد أنزلنا ) إليك ، ( آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ) يعني : المنافقين يقولونه ، ( ثم يتولى ) يعرض عن طاعة الله ورسوله ، ( فريق منهم من بعد ذلك ) ، ، أي : من بعد قولهم : آمنا ويدعو إلى غير حكم الله . قال الله - عز وجل - : ( وما أولئك بالمؤمنين ) نزلت هذه الآية في بشر المنافق ، كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض ، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف ، فإن محمدا يحيف علينا ، فأنزل الله هذه الآية
    [ ص: 56 ] ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ( 48 ) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ( 49 ) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ( 50 ) إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ( 51 ) ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( 52 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ( 53 ) )

    وقال : ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ) الرسول بحكم الله ، ( إذا فريق منهم معرضون ) أي عن الحكم . وقيل : عن الإجابة . ( وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ) مطيعين منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لثقتهم بأنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضا بالحق . ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ) أي : شكوا ، هذا استفهام ذم وتوبيخ ، أي : هم كذلك ، ( أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ) أي : بظلم ، ( بل أولئك هم الظالمون ) لأنفسهم بإعراضهم عن الحق . ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ) إلى كتاب الله ورسوله ، ( ليحكم بينهم ) هذا ليس على طريق الخبر لكنه تعليم أدب الشرع على معنى أن المؤمنين كذا ينبغي أن يكونوا ، ونصب القول على الخبر واسمه في قوله تعالى : ( أن يقولوا سمعنا وأطعنا ) أي : سمعنا الدعاء وأطعنا بالإجابة . ( وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : فيما ساءه وسره ( ويخش الله ) على ما عمل من الذنوب . ( ويتقه ) فيما بعده ، ( فأولئك هم الفائزون ) الناجون ، قرأ أبو عمرو وأبو بكر " يتقه " ساكنة الهاء ، ويختلسها أبو جعفر ويعقوب وقالون ، كما في نظائرها ويشبعها الباقون كسرا ، وقرأ حفص " يتقه " بسكون القاف واختلاس الهاء ، وهذه اللغة إذا سقطت الياء للجزم يسكنون ما قبلها ، يقولون : لم أشتر طعاما بسكون الراء . قوله - عز وجل - : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) جهد اليمين أن يحلف بالله ، ولا حلف فوق [ ص: 57 ] الحلف بالله ، ( لئن أمرتهم ليخرجن ) وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فقال تعالى : ( قل ) لهم ( لا تقسموا ) لا تحلفوا ، وقد تم الكلام ، ثم قال : ( طاعة معروفة ) أي : هذه طاعة بالقول وباللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، هذا معنى قول مجاهد رضي الله عنه . وقيل : معناه طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن منكم طاعة معروفة . ( إن الله خبير بما تعملون )
    ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ( 54 ) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( 55 ) )

    ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا ) أي : تولوا عن طاعة الله ورسوله ، ( فإنما عليه ما حمل ) يعني : على الرسول ما كلف وأمر به من تبليغ الرسالة ، ( وعليكم ما حملتم ) من الإجابة والطاعة ، ( وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) أي : التبليغ البين . قوله - عز وجل - : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) قال أبو العالية في هذه الآية : مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد الوحي عشر سنين مع أصحابه ، وأمروا بالصبر على أذى الكفار ، وكانوا يصبحون ويمسون خائفين ، ثم أمروا بالهجرة إلى المدينة ، وأمروا بالقتال وهم على خوفهم لا يفارق أحد منهم سلاحه ، فقال رجل منهم : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فأنزل الله هذه الآية ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم ) [ ص: 58 ] أدخل اللام لجواب اليمين المضمرة ، يعني : والله ليستخلفنهم ، أي : ليورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها ، ( كما استخلف الذين من قبلهم ) قرأ أبو بكر عن عاصم : " كما استخلف " بضم التاء وكسر اللام على ما لم يسم فاعله ، وقرأ الآخرون بفتح التاء واللام لقوله تعالى : " وعد الله " . قال قتادة : ) ( كما استخلف ) داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء . وقيل : " كما استخلف الذين من قبلهم " أي : بني إسرائيل حيث أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ، ( وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) أي : اختار ، قال ابن عباس : يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان ، ) ( وليبدلنهم ) قرأ ابن كثير وأبو بكر ويعقوب بالتخفيف من الإبدال ، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبديل ، وهما لغتان ، وقال بعضهم : التبديل تغيير حال إلى حال ، والإبدال رفع الشيء وجعل غيره مكانه ، ( من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ) آمنين ، ( لا يشركون بي شيئا ) فأنجز الله وعده ، وأظهر دينه ، ونصر أولياءه ، وأبدلهم بعد الخوف أمنا وبسطا في الأرض .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن الحكم ، أخبرنا النضر ، أخبرنا إسرائيل ، أخبرنا سعيد الطاهري ، أخبرنا محمد بن خليفة ، عن عدي بن حاتم قال : بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل ، فقال : " يا عدي هل رأيت الحيرة ؟ قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها " ، قال : " فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله " ، قلت فيما بيني وبين نفسي : فأين دعار طيء الذين قد سعروا البلاد ؟ ، " ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى " قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : " كسرى بن هرمز ، لئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب وفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ، وليلقين الله أحدكم يوم القيامة وليس بينه وبينه ترجمان يترجم فليقولن له : ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك ؟ فيقول : بلى ، فيقول : ألم أعطك مالا وأفضل عليك ؟ فيقول : بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم " ، قال عدي : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة " ، قال عدي : فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله ، وكنت ممن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - يخرج ملء كفه [ ص: 59 ]

    وفي الآية دلالة على خلافة الصديق وإمامة الخلفاء الراشدين . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرني حماد هو ابن مسلمة بن دينار ، عن سعيد بن جمهان ، عن سفينة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ، ملكا " . ثم قال : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشرا ، وعثمان اثنتا عشر ، وعلي ستة . قال علي : قلت لحماد : سفينة ، القائل ، لسعيد أمسك ؟ قال : نعم . قوله - عز وجل - : ( ومن كفر بعد ذلك ) أراد به كفران النعمة ، ولم يرد الكفر بالله ، ( فأولئك هم الفاسقون ) العاصون لله . قال أهل التفسير : أول من كفر بهذه النعمة وجحد حقها الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه ، فلما قتلوه غير الله ما بهم وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا .

    أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بابن أبي نصر ، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة المعروف بالطرابلسي ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن حميد بن هلال قال : قال عبد الله بن سلام في عثمان : إن الملائكة لم تزل محيطة بمدينتكم هذه منذ قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اليوم ، فوالله لئن قتلتموه ليذهبون ثم لا يعودون أبدا ، فوالله لا يقتله رجل منكم إلا لقي الله أجذم لا يد له ، وإن سيف الله لم يزل مغمودا عنكم ، والله لئن قتلتموه ليسلنه الله ثم لا يغمده عنكم ، إما قال : أبدا ، وإما قال : إلى يوم القيامة ، فما قتل نبي قط إلا قتل به سبعون ألفا ، ولا خليفة إلا قتل به خمسة وثلاثون ألفا
    ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ( 56 ) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ( 57 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) أي : افعلوها على رجاء الرحمة . ( لا تحسبن الذين كفروا ) قرأ عامر وحمزة " لا يحسبن " بالياء ، أي : [ ص: 60 ] لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ( معجزين في الأرض ) وقرأ الآخرون بالتاء ، يقول : لا تحسبن يا محمد الذين كفروا معجزين فائتين عنا ، ( ومأواهم النار ولبئس المصير )

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #312
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (307)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ النُّورِ
    مَدَنِيَّةٌ

    الاية58 إلى الاية 64






    ( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( 58 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) الآية : قال ابن عباس رضي الله عنهما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك ، فأنزل الله هذه الآية وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى " ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم اللام لام الأمر . ( الذين ملكت أيمانكم ) يعني : العبيد والإماء ، ( والذين لم يبلغوا الحلم منكم ) من الأحرار ، ليس المراد منهم الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء ، بل الذين عرفوا أمر النساء ولكن لم يبلغوا .

    ) ( ثلاث مرات ) أي : ليستأذنوا في ثلاث أوقات ، ( من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ) يريد المقيل ، ( ومن بعد صلاة العشاء ) وإنما خص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب ، فربما يبدو من الإنسان ما لا يحب أن يراه أحد ، أمر العبيد والصبيان بالاستئذان في هذه الأوقات ، وأما غيرهم فليستأذنوا في جميع الأوقات ( ثلاث عورات لكم ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : " ثلاث " بنصب الثاء بدلا عن قوله : " ثلاث مرات " ، وقرأ الآخرون [ ص: 61 ] بالرفع ، أي : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم ، سميت هذه الأوقات عورات لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فتبدو عورته ، ) ( ليس عليكم ) جناح ، ) ( ولا عليهم ) يعني : على العبيد والخدم والصبيان ، ) ( جناح ) في الدخول عليكم من غير استئذان ، ) ( بعدهن ) أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة ، ) ( طوافون عليكم ) أي : العبيد والخدم يطوفون عليكم فيترددون ويدخلون ويخرجون في أشغالهم بغير إذن ، ( بعضكم على بعض ) أي : يطوف ، ( بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) واختلف العلماء في حكم هذه الآية : فقال قوم : منسوخ .

    قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن للقوم ستور ولا حجاب ، فكان الخدم والولائد يدخلون فربما يرون منهم ما لا يحبون ، فأمروا بالاستئذان ، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور فرأى أن ذلك أغنى عن الاستئذان وذهب قوم إلى أنها غير منسوخة ، روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قالت : سألت الشعبي عن هذه الآية : " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله ، قلت : إن الناس لا يعملون بها ، قال : الله المستعان وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : إن ناسا يقولون نسخت ، والله ما نسخت ، ولكنها مما تهاون به الناس .
    ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ( 59 ) )

    قوله تعالى : ( وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم ) أي : الاحتلام ، يريد الأحرار الذين بلغوا ، ) ( فليستأذنوا ) أي : يستأذنون في جميع الأوقات في الدخول عليكم ، ( كما استأذن الذين من قبلهم ) من الأحرار والكبار . [ ص: 62 ] وقيل : يعني الذين كانوا مع إبراهيم وموسى وعيسى . ( كذلك يبين الله لكم آياته ) دلالاته . وقيل : أحكامه ، ) ( والله عليم ) بأمور خلقه ، ) ( حكيم ) بما دبر لهم . قال سعيد بن المسيب : يستأذن الرجل على أمه ، فإنما أنزلت هذه الآية في ذلك . وسئل حذيفة : أيستأذن الرجل على والدته ؟ قال : نعم ، إن لم يفعل رأى منها ما يكره .
    ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ( 60 ) ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ( 61 ) )

    قوله تعالى : ( والقواعد من النساء ) يعني اللاتي قعدن عن الولد والحيض من الكبر ، لا يلدن ولا يحضن ، واحدتها " قاعد " بلا هاء . وقيل : قعدن عن الأزواج ، وهذا معنى قوله : ( اللاتي لا يرجون نكاحا ) أي : لا يردن الرجال لكبرهن ، قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعدا إذا كبرت ، لأنها تكثر القعود . وقال ربيعة الرأي : هن العجز ، اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية ، ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأبي بن كعب : " أن يضعن من ثيابهن " ، ( غير متبرجات بزينة ) أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب ، والرداء إظهار زينتهن ، والتبرج هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تتنزه عنه . ) ( وأن يستعففن ) فلا يلقين الجلباب والرداء ، ( خير لهن والله سميع عليم ) قوله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ) الآية ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أنزل الله - عز وجل - قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، تحرج المسلمون عن مؤاكلة [ ص: 63 ] المرضى والزمنى والعمي والعرج ، وقالوا الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله عن أكل المال بالباطل . والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس ، ولا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض يضعف عن التناول فلا يستوفي الطعام ، فأنزل الله هذه الآية وعلى هذا التأويل يكون " على " بمعنى " في " أي : ليس في الأعمى ، يعني : ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض .

    وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ، لأن الناس يتقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، ويقول الأعمى : ربما أكل أكثر ، ويقول الأعرج : ربما أخذ مكان الاثنين ، فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصا لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية ، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة يتحرجون من ذلك الطعام ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ؟ فأنزل الله هذه الآية وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا خلفوا زمناهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها [ ص: 64 ] وهم غيب ، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم قال الحسن : نزلت هذه الآية رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد . قال : تم الكلام عند قوله : " ولا على المريض حرج " ، وقوله تعالى : ) ( ولا على أنفسكم ) كلام منقطع عما قبله

    وقيل : لما نزل قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( النساء - 29 ) ، قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله - عز وجل - ( ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ) أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم . قيل : أراد من أموال عيالكم وأزواجكم وبيت المرأة كبيت الزوج . وقال ابن قتيبة : أراد من بيوت أولادكم ، نسب بيوت الأولاد إلى الآباء كما جاء في الحديث : " أنت ومالك لأبيك " ، ( أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ، ويشرب من لبن ماشيته ، ولا يحمل ولا يدخر . وقال الضحاك : يعني في بيوت عبيدكم ومماليككم ، وذلك أن السيد يملك منزل عبده ، والمفاتيح الخزائن ، لقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب ( الأنعام - 59 ) ويجوز أن يكون الذي يفتح به . قال عكرمة : إذا ملك الرجل [ ص: 65 ] المفتاح فهو خازن ، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير . وقال السدي : الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه وقال قوم : " ما ملكتم مفاتحه " ما خزنتموه عندكم قال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما أحرزتم وملكتم .

    ) ( أو صديقكم ) الصديق الذي صدقك في المودة . قال ابن عباس : نزلت في الحارث بن عمرو رضي الله عنه ، خرج غازيا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف مالك بن زيد على أهله ، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله ، فقال : تحرجت أن آكل طعامك بغير إذنك فأنزل الله هذه الآية . وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرم بطعامه من غير استئذان منه في الأكل بهذه الآية . والمعنى : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا ) من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ، من غير أن تتزودوا وتحملوا .

    قوله : ( ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ) نزلت في بني ليث بن عمرو ، وهم حي من بني كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فربما قعد الرجل والطعام ، بين يديه من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، هذا قول قتادة والضحاك وابن جريج وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح ، أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا ، جميعا أو أشتاتا متفرقين . [ ص: 66 ]

    ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) أي : يسلم بعضكم على بعض ، هذا في دخول الرجل بيت نفسه يسلم على أهله ومن في بيته ، وهو قول جابر وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار . وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهو أحق من سلمت عليه ، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين . حدثنا أن الملائكة ترد عليه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله . وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ( فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ) قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( تحية من عند الله ) نصب على المصدر ، أي : تحيون أنفسكم تحية ، ) ( مباركة طيبة ) وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حسنة جميلة . وقيل : ذكر البركة والطيبة هاهنا لما فيه من الثواب والأجر ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون )
    ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور ( 62 ) )

    قوله - عز وجل - : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه ) أي : مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ( على أمر جامع ) يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة أو جمعة أو عيد أو جماعة [ ص: 67 ] أو تشاور في أمر نزل ، ) ( لم يذهبوا ) يتفرقوا عنه ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، ) ( حتى يستأذنوه ) قال المفسرون : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد ، لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام يستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم . قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده .

    قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وإذا استأذن فللإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن ، وهذا إذا لم يكن له سبب يمنعه من المقام ، فإن حدث سبب يمنعه من المقام بأن يكون في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض ، فلا يحتاج إلى الاستئذان . ( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم ) أي : أمرهم ، ( فأذن لمن شئت منهم ) في الانصراف ، معناه إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، ( واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم )
    ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( 63 ) )

    ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يقول احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإن دعاءه موجب لنزول البلاء بكم ليس كدعاء غيره وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا : يا محمد ، يا عبد الله ، ولكن فخموه وشرفوه ، فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع .

    ( قد يعلم الله الذين يتسللون ) أي : يخرجون ) ( منكم لواذا ) أي : يستر بعضهم بعضا ويروغ في خيفة ، فيذهب " واللواذ " مصدر لاوذ يلاوذ ، ملاوذة ، ولواذا . [ ص: 68 ]

    قيل : كان هذا في حفر الخندق ، فكان المنافقون ينصرفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " لواذا " أي : يلوذ بعضهم ببعض ، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة واستماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار . ومعنى قوله : ) ( قد يعلم الله ) للتهديد بالمجازاة . ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) أي : أمره و " عن " صلة . وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه . ( أن تصيبهم فتنة ) أي لئلا تصيبهم فتنة ، قال مجاهد : بلاء في الدنيا ، ( أو يصيبهم عذاب أليم ) وجيع في الآخرة . وقيل : عذاب أليم عاجل في الدنيا . ثم عظم نفسه فقال :
    ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ( 64 ) )

    ( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ) ملكا وعبيدا ، ( قد يعلم ما أنتم عليه ) من الإيمان والنفاق أي : يعلم ، و " قد " صلة ( ويوم يرجعون إليه ) يعني : يوم البعث ، ( فينبئهم بما عملوا ) من الخير والشر ، ( والله بكل شيء عليم ) أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيبة ، حدثنا محمد بن إبراهيم الكرابيسي ، حدثنا سليمان بن توبة ، حدثنا أبو داود الأنصاري ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الشامي ، حدثنا شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن الكتابة ، وعلموهن الغزل ، وسورة النور " .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #313
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (308)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    مَكِّيَّةٌ


    الاية1 إلى الاية 20



    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    مَكِّيَّةٌ



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ( 1 ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( 2 ) )

    ( تَبَارَكَ ) تَفَاعَلَ ، مِنَ الْبَرَكَةِ . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ : جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ ، دَلِيلُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ : مَجِيءُ الْبَرَكَةِ مِنْ قِبَلِهِ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : تَعَظَّمَ ، ( الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ) أَيْ : الْقُرْآنَ ، ) ( عَلَى عَبْدِهِ ) مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ( لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) أَيْ : لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ . قِيلَ : النَّذِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ . وَقِيلَ : مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ) ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ ، ) ( فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) فَسَوَّاهُ وَهَيَّأَهُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ ، لَا خَلَلَ فِيهِ وَلَا تَفَاوُتَ ، وَقِيلَ : قَدَّرَ لِكُلِّ شَيْءٍ تَقْدِيرًا مِنَ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ ، فَجَرَتِ الْمَقَادِيرُ عَلَى مَا خَلَقَ . [ ص: 72 ]
    ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ( 3 ) وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا ( 4 ) وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( 5 ) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( 6 ) )

    قوله - عز وجل - : ) ( واتخذوا ) يعني عبدة الأوثان ، ) ( من دونه آلهة ) يعني : الأصنام ، ) ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ) أي : دفع ضر ولا جلب نفع ، ( ولا يملكون موتا ولا حياة ) أي : إماتة وإحياء ، ( ولا نشورا ) أي : بعثا بعد الموت . ( وقال الذين كفروا ) يعني : المشركين ، يعني : النضر بن الحارث وأصحابه ، ) ( إن هذا ) ما هذا القرآن ، ( إلا إفك ) كذب ، ) ( افتراه ) اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( وأعانه عليه قوم آخرون ) قال مجاهد : يعني اليهود . وقال الحسن : هو عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن . وقيل : جبر ، ويسار ، وعداس بن عبيد ، كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يأخذ منهم ، قال الله تعالى : ) فقد جاءوا ) يعني قائلي هذه المقالة ، ( ظلما وزورا ) أي : بظلم وزور . فلما حذف الباء انتصب ، يعني جاؤوا شركا وكذبا بنسبتهم كلام الله تعالى إلى الإفك والافتراء . ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها ) يعني النضر بن الحارث كان يقول : إن هذا القرآن ليس من الله وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار " اكتتبها " : انتسخها محمد من جبر ، ويسار ، وعداس ، ومعنى " اكتتب " يعني طلب أن يكتب له ، لأنه كان لا يكتب ، ( فهي تملى عليه ) يعني تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، ( بكرة وأصيلا ) غدوة وعشيا . قال الله - عز وجل - ردا عليهم : ( قل أنزله ) يعني القرآن ، ( الذي يعلم السر ) يعني الغيب ، ( في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما )
    [ ص: 73 ] ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ( 7 ) أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 8 ) انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 9 ) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ( 10 ) )

    ( وقالوا مال هذا الرسول ) يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ) ( يأكل الطعام ) كما نأكل نحن ، ( ويمشي في الأسواق ) يلتمس المعاش كما نمشي ، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة ، وكانوا يقولون له : لست أنت بملك ولا بملك ، لأنك تأكل والملك لا يأكل ، ولست بملك لأن الملك لا يتسوق ، وأنت تتسوق وتتبذل . وما قالوه فاسد; لأن أكله الطعام لكونه آدميا ، ومشيه في الأسواق لتواضعه ، وكان ذلك صفة له ، وشيء من ذلك لا ينافي النبوة . ( لولا أنزل إليه ملك ) فيصدقه ، ( فيكون معه نذيرا ) داعيا . ( أو يلقى إليه كنز ) أي : ينزل عليه كنز من السماء ينفقه ، فلا يحتاج إلى التردد والتصرف في طلب المعاش ، ( أو تكون له جنة ) بستان ، ) ( يأكل منها ) قرأ حمزة والكسائي : " نأكل " بالنون أي : نأكل نحن منها ، ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) مخدوعا . وقيل : مصروفا عن الحق . ) ( انظر ) يا محمد ، ( كيف ضربوا لك الأمثال ) يعني الأشباه ، فقالوا : مسحور ، محتاج ، وغيره ، ) ( فضلوا ) عن الحق ، ( فلا يستطيعون سبيلا ) إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة . ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) الذي قالوا ، أو أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش . ثم بين ذلك الخير فقال : ( جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) بيوتا مشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصرا ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم برواية أبي بكر : " ويجعل " برفع اللام ، وقرأ الآخرون بجزمها على محل الجزاء في قوله : " إن شاء جعل لك " . [ ص: 74 ]

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن أيوب ، حدثني عبد الله بن زخر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما ، وقال ثلاثا أو نحو هذا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " .

    حدثنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ ، أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا أبو معشر عن سعيد يعني المقبري ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن شئت نبيا عبدا ، وإن شئت نبيا ملكا ، فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك ، فقلت : نبيا عبدا " قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : " آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " .
    ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ( 11 ) ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ( 12 ) )

    قوله - عز وجل - : ( بل كذبوا بالساعة ) بالقيامة ، ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ) نارا مستعرة . ( إذا رأتهم من مكان بعيد ) قال الكلبي والسدي : من مسيرة عام . وقيل : من مسيرة مائة سنة . وقيل : خمسمائة سنة . وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا " . قالوا : وهل لها من عينين ؟ قال : نعم ألم تستمعوا قول الله تعالى : ( إذا رأتهم من مكان بعيد ) [ ص: 75 ] وقيل إذا رأتهم زبانيتها . ( سمعوا لها تغيظا ) غليانا ، كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب . ) ( وزفيرا ) صوتا . فإن قيل : كيف يسمع التغيظ ؟ قيل : معناه رأوا وعلموا أن لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا ، كما قال الشاعر :
    ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا


    أي وحاملا رمحا . وقيل : سمعوا لها تغيظا ، أي : صوت التغيظ من التلهب والتوقد ، قال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه .
    ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ( 13 ) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ( 14 ) قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا ( 15 ) )

    ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا ) قال ابن عباس : تضيق عليهم كما يضيق الزج . في الرمح ، ) ( مقرنين ) مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . وقيل : مقرنين مع الشياطين في السلاسل ، ( دعوا هنالك ثبورا ) قال ابن عباس : ويلا . وقال الضحاك : هلاكا ، وفي الحديث : " إن أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه ، وذريته من خلفه ، وهو يقول : يا ثبوراه ، وهم ينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار فينادون : يا ثبوراه ، وينادي : يا ثبورهم ، فيقال لهم ( لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ) قيل : أي هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة ، فادعوا أدعية كثيرة . قوله - عز وجل - : ) ( قل أذلك ) يعني الذي ذكرته من صفة النار وأهلها ، ( خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ) ثوابا ، ) ( ومصيرا ) مرجعا .
    [ ص: 76 ] ( لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ( 16 ) ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ( 17 ) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ( 18 ) فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ( 19 ) )

    ( لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ) مطلوبا ، وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ( آل عمران - 194 ) ، يقول : كان أعطى الله المؤمنين جنة خلد وعدا ، وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك . قال محمد بن كعب القرظي : الطلب من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ( غافر - 8 ) . ) ( ويوم يحشرهم ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وحفص : " يحشرهم " بالياء ، وقرأ الباقون بالنون ، ( وما يعبدون من دون الله ) قال مجاهد : من الملائكة والجن والإنس وعيسى وعزير . وقال عكرمة والضحاك والكلبي : يعني الأصنام ، ثم يخاطبهم ) ( فيقول ) قرأ ابن عامر بالنون والآخرون بالياء ، ( أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ) أخطأوا الطريق . ) ( قالوا سبحانك ) نزهوا الله من أن يكون معه إله ، ( ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ) يعني : ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك ، بل أنت ولينا من دونهم . وقيل : ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك . وقرأ أبو جعفر " أن نتخذ " بضم النون وفتح الخاء ، فتكون " من " الثاني صلة . ( ولكن متعتهم وآباءهم ) في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة ، ) ( حتى نسوا الذكر ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن . وقيل : تركوا ذكرك وغفلوا عنه ، ( وكانوا قوما بورا ) يعني هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان ، رجل يقال له بائر ، وقوم بور ، وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ، ومنه بوار السلعة وهو كسادها . وقيل هو اسم مصدر كالزور ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . ( فقد كذبوكم ) هذا خطاب مع المشركين ، أي : كذبكم المعبودون ، ( بما تقولون ) إنهم آلهة ، ( فما تستطيعون ) قرأ حفص بالتاء يعني العابدين ، وقرأ الآخرون بالياء يعني : الآلهة . [ ص: 77 ] ( صرفا ) يعني : صرفا من العذاب عن أنفسهم ، ( ولا نصرا ) يعني : ولا نصر أنفسهم . وقيل : ولا نصركم أيها العابدون من عذاب الله بدفع العذاب عنكم . وقيل : " الصرف " : الحيلة ، ومنه قول العرب : إنه ليصرف ، أي : يحتال ، ) ( ومن يظلم ) يشرك ، ( منكم نذقه عذابا كبيرا )
    ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ( 20 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين ) يا محمد ، ( إلا إنهم ليأكلون الطعام ) روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله - عز وجل - هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول وما كنت بدعا من الرسل ، وهم كانوا بشرا يأكلون الطعام ، ( ويمشون في الأسواق ) وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ( فصلت - 43 ) .

    ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) أي بلية ، فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى . وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع; وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال : أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل ؟ ! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عقبة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث; وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر ، وابن مسعود ، وعمارا ، وبلالا وصهيبا ، وعامر بن فهيرة ، وذويهم ، قالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ . وقال : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء [ ص: 78 ] الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : ( أتصبرون ) يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى .

    ( وكان ربك بصيرا ) بمن صبر وبمن جزع . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #314
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (309)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية21 إلى الاية 38





    ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ( 21 ) يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا ( 22 ) )

    قوله - عز وجل - : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا ) أي : لا يخافون البعث ، قال الفراء : " الرجاء " بمعنى الخوف ، لغة تهامة ، ومنه قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا ( نوح - 13 ) ، أي : لا تخافون لله عظمة . ( لولا أنزل علينا الملائكة ) فتخبرنا أن محمدا صادق ، ( أو نرى ربنا ) فيخبرنا بذلك . ( لقد استكبروا ) أي : تعظموا . ) ( في أنفسهم ) بهذه المقالة ، ( وعتوا عتوا كبيرا ) قال مجاهد : " عتوا " طغوا في القول و " العتو " : أشد الكفر وأفحش الظلم ، وعتوهم طلبهم رؤية الله حتى يؤمنوا به . ( يوم يرون الملائكة ) عند الموت . وقيل : في القيامة . ( لا بشرى يومئذ للمجرمين ) للكافرين ، وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين يوم القيامة ، ويقولون للكفار : لا بشرى لكم ، هكذا قال عطية ، وقال بعضهم : معناه أنه لا بشرى يوم القيامة للمجرمين ، أي : لا بشارة لهم بالجنة ، كما يبشر المؤمنون . ( ويقولون حجرا محجورا ) قال عطاء عن ابن عباس : تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة ، إلا من قال لا إله إلا الله . وقال مقاتل : إذا خرج الكفار من قبورهم قالت لهم الملائكة حراما محرما عليكم أن يكون لكم البشرى . وقال بعضهم : هذا قول الكفار للملائكة . قال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شدة رأوا ما يكرهون ، قالوا حجرا محجورا ، فهم يقولونه إذا عاينوا الملائكة . [ ص: 79 ] قال مجاهد : يعني عوذا معاذا ، يستعيذون به من الملائكة .
    ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ( 23 ) أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ( 24 ) )

    ( وقدمنا ) وعمدنا ، ( إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) أي : باطلا لا ثواب له ، فهم لم يعملوه لله - عز وجل - . واختلفوا في " الهباء " ، قال علي " هو ما يرى في الكوة إذا وقع ضوء الشمس فيها كالغبار ، ولا يمس بالأيدي ، ولا يرى في الظل ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد ، و " المنثور " : المتفرق . وقال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر . وقال مقاتل : هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير . وقيل : " الهباء المنثور " : ما يرى في الكوة ، و " الهباء المنبث " : هو ما تطيره الرياح من سنابك الخيل . قوله - عز وجل - : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) أي : من هؤلاء المشركين المتكبرين ، ) ( وأحسن مقيلا ) موضع قائلة ، يعني : أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة . قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، وقرأ " ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم " هكذا كان يقرأ . وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب ذلك اليوم في أوله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة . [ ص: 80 ] قال الأزهري : " القيلولة " و " المقيل " : الاستراحة نصف النهار ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، لأن الله تعالى قال : " وأحسن مقيلا " ، والجنة لا نوم فيها . ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس .
    ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ( 25 ) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ( 26 ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ( 27 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ويوم تشقق السماء بالغمام ) أي : عن الغمام ، الباء وعن يتعاقبان ، كما يقال : رميت عن القوس وبالقوس ، وتشقق بمعنى تتشقق ، أدغموا إحدى التاءين ، وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا ، وفي سورة " ق " بحذف إحدى التاءين ، وقرأ الآخرون بالتشديد ، أي : تتشق بالغمام ، وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم . ( ونزل الملائكة تنزيلا ) قرأ ابن كثير : و " ننزل " بنونين خفيف ورفع اللام ، " الملائكة " نصب ، قال ابن عباس : تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ، ومن الجن والإنس ، ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ، ثم ينزل الكروبيون ثم حملة العرش . ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) أي : [ الملك ] الذي هو الملك الحق حقا ملك الرحمن يوم القيامة . قال ابن عباس : يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضى غيره . ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) شديدا ، فهذا الخطاب يدل على أنه لا يكون على المؤمن عسيرا ، وجاء في الحديث : " أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا " ( ويوم يعض الظالم على يديه ) أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط ، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم ذات [ ص: 81 ] يوم من سفر فصنع طعاما فدعا الناس ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طعامه ، وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف ، فلما أخبر أبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه السلام : " لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف " فقتل عقبة يوم بدر صبرا . وأما أبي بن خلف فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بيده

    وقال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد بزاقه في وجهه فاحترق خداه ، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت . وقال الشعبي كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية بن خلف فأسلم عقبة ، فقال أمية : وجهي من وجهك حرام أن بايعت محمدا ، فكفر وارتد ، فأنزل الله - عز وجل - : " ويوم يعض الظالم " يعني : عقبة بن أبي معيط بن عبد شمس بن مناف " على يديه " ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله ، وأوبق نفسه بالمعصية والكفر بالله بطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه . قال عطاء : يأكل يديه حتى تبلغ مرفقيه ثم تنبتان ، ثم يأكل هكذا ، كلما نبتت يده أكلها تحسرا على ما فعل . ( يقول ياليتني اتخذت ) في الدنيا ، ( مع الرسول سبيلا ) ليتني اتبعت محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، واتخذت معه سبيلا إلى الهدى . قرأ أبو عمرو : " يا ليتني اتخذت " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
    ( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ( 28 ) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( 29 ) )

    ( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) يعني : أبي بن خلف . ( لقد أضلني عن الذكر ) عن الإيمان والقرآن ، ) ( بعد إذ جاءني ) يعني : الذكر مع الرسول ، ) ( وكان الشيطان ) وهو كل متمرد عات من الإنس والجن ، وكل من صد عن سبيل الله فهو شيطان . ) ( للإنسان خذولا ) أي : تاركا يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب ، وحكم هذه الآية عام في حق كل متحابين اجتمعا على معصية الله . [ ص: 82 ] أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن العلاء ، أخبرنا أبو أسامة ، عن يزيد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل الجليس الصالح والسوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة " .

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن حياة بن شريح ، أخبرني سالم بن غيلان أن الوليد بن قيس التجيبي أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري - قال سالم : أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن كساب النيسابوري ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا حميد بن عياش الرملي ، أخبرنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا زهير بن محمد الخراساني ، حدثنا موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " .
    ( وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ( 30 ) )

    ( وقال الرسول ) يعني : ويقول الرسول في ذلك اليوم : ( يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) أي : متروكا فأعرضوا عنه ، ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه . وقيل : جعلوه بمنزلة الهجر وهو الهذيان ، والقوي السيء ، فزعموا أنه شعر وسحر ، وهو قول النخعي ومجاهد . [ ص: 83 ] وقيل : قال الرسول يعني : محمدا - صلى الله عليه وسلم - يشكوا قومه إلى الله يا رب : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا فعزاه الله تعالى فقال : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين )
    ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ( 31 ) وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ( 32 ) ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( 33 ) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ( 34 ) )

    ( وكذلك جعلنا ) يعني : كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك كذلك جعلنا ، ( لكل نبي عدوا من المجرمين ) يعني : المشركين . قال مقاتل : يقول لا يكبرن عليك ، فإن الأنبياء قبلك قد لقيت هذا من قومهم ، فاصبر لأمري كما صبروا ، فإني ناصرك وهاديك ، ( وكفى بربك هاديا ونصيرا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود . قال الله تعالى : ) ( كذلك ) فعلت ، ( لنثبت به فؤادك ) أي : أنزلناه متفرقا ليقوى به قلبك فتعيه وتحفظه ، فإن الكتب أنزلت على الأنبياء يكتبون ويقرءون ، وأنزل الله القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، ففرقناه ليكون أوعى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيسر على العامل به . ( ورتلناه ترتيلا ) قال ابن عباس : بيناه بيانا ، والترتيل : التبيين في ترسل وتثبت . وقال السدي : فصلناه تفصيلا . وقال مجاهد : بعضه في إثر بعض . وقال النخعي والحسن وقتادة : فرقناه تفريقا ، آية بعد آية . ( ولا يأتونك ) يا محمد يعني : هؤلاء المشركين ، ) ( بمثل ) يضربونه في إبطال أمرك ( إلا جئناك بالحق ) يعني بما ترد به ما جاءوا به من المثل وتبطله ، فسمي ما يوردون من الشبه مثلا وسمي ما يدفع به الشبه حقا ، ) ( وأحسن تفسيرا ) أي : بيانا وتفصيلا و " التفسير " : تفعيل ، من الفسر ، وهو كشف ما قد غطي . ثم ذكر مآل هؤلاء المشركين فقال : ) ( الذين ) [ أي : هم الذين ] ( يحشرون على وجوههم ) فيساقون ويجرون ، ( إلى جهنم أولئك شر مكانا ) أي : مكانة ومنزلة ، ويقال : منزلا ومصيرا ، ) ( وأضل سبيلا ) أخطأ طريقا .
    [ ص: 84 ] ( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ( 35 ) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ( 36 ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ( 37 ) وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ( 38 ) )

    ( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ) معينا وظهيرا . ( فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ) يعني القبط ، ( فدمرناهم ) فيه إضمار ، أي : فكذبوهما فدمرناهم ، ( تدميرا ) أهلكناهم إهلاكا . ( وقوم نوح لما كذبوا الرسل ) أي : الرسول ، ومن كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل ، فلذلك ذكر بلفظ الجمع . ( أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ) يعني : لمن بعدهم عبرة ، ( وأعتدنا للظالمين ) في الآخرة ، ) ( عذابا أليما ) سوى ما حل به من عاجل العذاب . ( وعادا وثمود ) أي : وأهلكنا عادا وثمود ، ) ( وأصحاب الرس ) اختلفوا فيهم ، قال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعودا عليها ، وأصحاب مواشي ، يعبدون الأصنام ، فوجه الله إليهم شعيبا يدعوهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم ، وفي أذى شعيب عليه السلام ، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر ، فخسف بهم وبديارهم ورباعهم ، فهلكوا جميعا . و " الرس " : البئر ، وكل ركية لم تطو بالحجارة والآجر فهو رس . وقال قتادة والكلبي : " الرس " بئر بفلج اليمامة ، قتلوا نبيهم فأهلكهم الله - عز وجل - . وقال بعضهم : هم بقية ثمود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكر الله تعالى في قوله : " وبئر معطلة وقصر مشيد " ( الحج - 45 ) . وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم الله تعالى . وقال كعب ومقاتل والسدي : " الرس " : بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار ، وهم الذين ذكرهم الله في سورة يس . وقيل : هم أصحاب الأخدود ، [ والرس هو الأخدود ] الذي حفروه . وقال عكرمة : هم قوم رسوا نبيهم في بئر . وقيل : الرس المعدن ، وجمعه رساس . [ ص: 85 ] ( وقرونا بين ذلك كثيرا ) أي : وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد وأصحاب الرس .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #315
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (310)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية39 إلى الاية 62





    ( وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ( 39 ) ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ( 40 ) وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ( 41 ) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ( 42 ) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ( 43 ) )

    ( وكلا ضربنا له الأمثال ) أي : الأشباه في إقامة الحجة عليهم ، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار ) ( وكلا تبرنا تتبيرا ) أي : أهلكنا إهلاكا . وقال الأخفش : كسرنا تكسيرا . قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته . ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ) يعني الحجارة ، وهي قريات قوم لوط ، وكانت خمس قرى ، فأهلك الله أربعا منها ، ونجت واحدة ، وهي أصغرها ، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث ، ( أفلم يكونوا يرونها ) إذ مروا بهم في أسفارهم فيعتبروا ويتذكروا ، لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم عند ممرهم إلى الشام ، ( بل كانوا لا يرجون ) لا يخافون ، ) ( نشورا ) بعثا . قوله - عز وجل - : ( وإذا رأوك إن يتخذونك ) يعني : ما يتخذونك ، ) ( إلا هزوا ) أي : مهزوءا به ، نزلت في أبي جهل ، كان إذ مر بأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مستهزئا : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) ؟ ! ) ( إن كاد ليضلنا ) أي : قد قارب أن يضلنا ، ( عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) أي : لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها ، ( وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) من أخطأ طريقا . ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه ) وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر فإذا رأى حجرا أحسن منه طرح الأول وأخذ الآخر فعبده . وقال ابن عباس : أرأيت من ترك عبادة الله وخالقه ثم هوي حجرا فعبده ما حاله عندي ؟ ( أفأنت تكون عليه وكيلا ) أي : حافظا ، يقول : أفأنت [ ص: 86 ] عليه كفيل تحفظه من اتباع هواه وعبادة من يهوى من دون الله ؟ أي : لست كذلك . قال الكلبي : نسختها آية القتال .
    ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ( 44 ) ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ( 45 ) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ( 46 ) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ( 47 ) )

    ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ) ما تقول سماع طالب الإفهام ، ) ( أو يعقلون ) ما يعاينون من الحجج والإعلام ، ) ( إن هم ) ما هم ، ( إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعهدونها ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ، ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم ، ولأن الأنعام تسجد وتسبح لله وهؤلاء الكفار لا يفعلون . قوله - عز وجل - : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) معناه ألم تر إلى مد ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، جعله ممدودا لأنه ظل لا شمس معه ، كما قال : " في ظل الجنة " ، " وظل ممدود " ( الواقعة - 30 ) إذ لم يكن معه شمس . ( ولو شاء لجعله ساكنا ) دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس . قال أبو عبيدة : " الظل " : ما نسخته الشمس ، وهو بالغداة ، و " الفيء " : ما نسخ الشمس ، وهو بعد الزوال ، سمي فيئا لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ، ( ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ) أي : على الظل . ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بأضدادها . ( ثم قبضناه ) يعني الظل ، ( إلينا قبضا يسيرا ) بالشمس التي تأتي عليه ، و " القبض " : جمع المنبسط من الشيء ، معناه : أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قبض الله الظل جزءا فجزءا " قبضا يسيرا " ، أي : خفيا . ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا ) أي : سترا تستترون به ، يريد أن ظلمته تغشى كل شيء ، كاللباس الذي يشتمل على لابسه ، ) ( والنوم سباتا ) راحة لأبدانكم وقطعا لعملكم ، وأصل " السبت " : القطع ، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته . ( وجعل النهار نشورا ) أي : يقظة وزمانا ، تنتشرون فيه لابتغاء الرزق ، وتنتشرون لأشغالكم .
    [ ص: 87 ] ( وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا ( 48 ) )

    ( وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) يعني المطر ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، فهو اسم لما يتطهر به ، كالسحور اسم لما يتسحر به ، والفطور اسم لما يفطر به ، والدليل عليه ما روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وأراد به المطهر ، فالماء مطهر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة ، كما قال في آية أخرى : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ( الأنفال - 11 ) ، فثبت به أن التطهير يختص بالماء .

    وذهب أصحاب الرأي إلى أن " الطهور " هو الطاهر ، حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة ، مثل الخل وماء الورد والمرق ونحوها . ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها . وذهب بعضهم إلى أن " الطهور " ما يتكرر منه التطهير ، كالصبور اسم لمن يتكرر منه الصبر ، والشكور اسم لمن يتكرر منه الشكر ، وهو قول مالك ، حتى جوز الوضوء بالماء الذي توضأ منه مرة . وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته ؟ نظر : إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه ، كالطين والتراب وأوراق الأشجار ، لا تزول ، فيجوز الطهارة به كما لو تغير لطول المكث في قراره ، وكذلك لو وقع فيه ما لا يخالطه ، كالدهن يصب فيه فيتروح الماء [ ص: 88 ] برائحته يجوز الطهارة به ، لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة . وإن كان شيئا يمكن صون الماء منه ويخالطه كالخل والزعفران ونحوهما تزول [ طهوريته فلا يجوز الوضوء به . وإن لم يتغير أحد أوصافه ، ينظر : إن كان الواقع فيه شيئا طاهرا لا تزول ] طهوريته ، فتجوز الطهارة به ، سواء كان الماء قليلا أو كثيرا ، وإن كان الواقع فيه شيئا نجسا ، ينظر : فإن كان الماء قليلا أقل من القلتين ينجس الماء ، وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به . والقلتان خمس قرب ، ووزنه خمسمائة رطل ، والدليل عليه ما : أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي ، حدثنا عبد الرحيم بن المنيب ، أخبرنا جرير عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة وما يرده من الدواب والسباع ؟ فقال : " إذا كان الماء قلتين ليس يحمل الخبث " وهذا قول الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وجماعة من أهل الحديث : أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه .

    وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري . واحتجوا بما : أخبرنا أبو القاسم بن عبد الله بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم ، حدثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه ، حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج ، عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيه الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " .
    [ ص: 89 ] ( لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ( 49 ) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( 50 ) )

    قوله - عز وجل - : ) ( لنحيي به ) أي : بالمطر ، ( بلدة ميتا ) ولم يقل : " ميتة " لأنه رجع به إلى الموضع والمكان ، ( ونسقيه مما خلقنا أنعاما ) أي : نسقي من ذلك الماء أنعاما ، ( وأناسي كثيرا ) أي : بشرا كثيرا ، والأناسي : [ جمع أنسي ، وقيل ] جمع إنسان ، وأصله : " أناسين " مثل : بستان وبساتين ، فجعل الياء عوضا عن النون . ( ولقد صرفناه بينهم ) يعني : المطر ، مرة ببلدة ومرة ببلد آخر . قال ابن عباس : ما من عام بأمطر من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ، وقرأ هذه الآية . وهذا كما روي مرفوعا : " ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا السماء تمطر فيها يصرفه الله حيث يشاء " .

    وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود يرفعه قال : " ليس من سنة بأمطر من أخرى ، ولكن الله قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في السماء الدنيا ، في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار " . وقيل : المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطلا ورذاذا ونحوها . وقيل : التصريف راجع إلى الريح .

    ) ( ليذكروا ) أي : ليتذكروا ويتفكروا في قدرة الله تعالى ، ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) جحودا ، وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن أنس ، عن صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء [ ص: 90 ] كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي ، وكافر بالكواكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب "
    ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ( 51 ) فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ( 52 ) وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ( 53 ) وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ( 54 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) رسولا ينذرهم ، ولكن بعثناك إلى القرى كلها ، وحملناك ثقل النذارة جميعها ، لتستوجب بصبرك عليه ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة . ( فلا تطع الكافرين ) فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم . ( وجاهدهم به ) أي : بالقرآن ، ( جهادا كبيرا ) شديدا . ( وهو الذي مرج البحرين ) خلطهما وأفاض أحدهما في الآخر ، وقيل : أرسلهما في مجاريهما وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج ، وأصل " المرج " : الخلط والإرسال ، يقال : مرجت الدابة وأمرجتها إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث تشاء ، ( هذا عذب فرات ) شديد العذوبة ، و " الفرات " : أعذب المياه ، ( وهذا ملح أجاج ) شديد الملوحة . وقيل : أجاج أي : مر ( وجعل بينهما برزخا ) أي : حاجزا بقدرته لئلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ، ) ( وحجرا محجورا ) أي : سترا ممنوعا فلا يبغيان ، ولا يفسد الملح العذب . ( وهو الذي خلق من الماء ) من النطفة ، ( بشرا فجعله نسبا وصهرا ) أي : جعله ذا نسب وصهر ، قيل : " النسب " ما لا يحل نكاحه ، و " الصهر " : ما يحل نكاحه ، فالنسب ما يوجب الحرمة ، والصهر ما لا يوجبها ، وقيل : - وهو الصحيح - : النسب : من القرابة ، والصهر : الخلطة التي تشبه القرابة ، وهو السبب المحرم للنكاح ، وقد ذكرنا أن الله تعالى حرم بالنسب سبعا وبالسبب سبعا ، في قوله " حرمت عليكم أمهاتكم " ( النساء - 23 ) ، ( وكان ربك قديرا )
    [ ص: 91 ] ( ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ( 55 ) ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( 56 ) قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ( 57 ) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ( 58 ) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ( 59 ) )

    ( ويعبدون من دون الله ) يعني : هؤلاء المشركين ، ) ( ما لا ينفعهم ) إن عبدوه ، ) ( ولا يضرهم ) إن تركوه ، ( وكان الكافر على ربه ظهيرا ) أي : معينا للشيطان على ربه بالمعاصي . قال الزجاج : أي : يعاون الشيطان على معصية الله لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان . وقيل : معناه وكان الكافر على ربه ظهيرا ، أي : هينا ذليلا كما يقال الرجل : جعلني بظهير ، أي : جعلني هينا . ويقال : ظهرت به ، إذا جعله خلف ظهره فلم يلتفت إليه . ( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) أي : منذرا . ( قل ما أسألكم عليه ) على تبليغ الوحي ، ) ( من أجر ) فتقولوا إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتبعه ، ( إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) هذا من الاستثناء المنقطع ، مجازه : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإنفاق من ماله في سبيله فعل ذلك ، والمعنى : لا أسألكم لنفسي أجرا ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله واتخاذ السبيل إلى جنته . ( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ) أي : صل له شكرا على نعمه . وقيل : قل : سبحان الله ، والحمد لله . ( وكفى به بذنوب عباده خبيرا ) عالما فيجازيهم بها . ( الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ) بالرحمن . قال الكلبي : يقول فاسأل الخبير [ بذلك ، يعني : بما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش . وقيل : ] الخطاب للرسول والمراد منه غيره لأنه كان مصدقا به ، والمعنى : أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم بهذا إلى غيري . وقيل : الباء بمعنى " عن " ، أي : فاسأل عنه خبيرا وهو الله - عز وجل - . وقيل : جبريل عليه السلام .
    ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ( 60 ) تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ( 61 ) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( 62 ) )

    [ ص: 92 ] ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، كانوا يسمونه رحمن اليمامة . ) ( أنسجد لما تأمرنا ) قرأ حمزة والكسائي " يأمرنا " بالياء ، أي : لما يأمرنا محمد بالسجود له ، وقرأ الآخرون بالتاء ، أي : لما تأمرنا أنت يا محمد ، ) ( وزادهم ) يعني : زادهم قول القائل لهم : " اسجدوا للرحمن " ( نفورا ) عن الدين والإيمان . قوله - عز وجل - ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) قال الحسن ومجاهد وقتادة : " البروج " : هي النجوم الكبار ، سميت بروجا لظهورها ، وقال عطية العوفي : " بروجا " أي : قصورا فيها الحرس كما قال : " ولو كنتم في بروج مشيدة " ( النساء - 78 ) . وقال عطاء عن ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة ، وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشترى ، والجدي والدلو بيتا زحل ، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية .

    ) ( وجعل فيها سراجا ) يعني الشمس ، كما قال : " وجعل الشمس سراجا " ( نوح - 16 ) ، وقرأ حمزة والكسائي : " سرجا " بالجمع ، يعني النجوم . ) ( وقمرا منيرا ) والقمر قد دخل في " السرج " على قراءة من قرأ بالجمع ، غير أنه خصه بالذكر لنوع فضيلة ، كما قال : " فيهما فاكهة ونخل ورمان " ( الرحمن - 68 ) ، خص النخل والرمان بالذكر مع دخولهما في الفاكهة . ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) اختلفوا فيها ، قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني خلفا وعوضا ، يقوم أحدهما مقام صاحبه ، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر . [ ص: 93 ] قال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ، قال فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله - عز وجل - جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر . [ قال مجاهد : يعني جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض . وقال ابن زيد وغيره ] يعني يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر فهما يتعاقبان في الضياء والظلمة والزيادة والنقصان . ) ( لمن أراد أن يذكر ) قرأ حمزة بتخفيف الذال والكاف وضمها من الذكر ، وقرأ الآخرون بتشديدهما أي : يتذكر ويتعظ ) ( أو أراد شكورا ) قالمجاهد : أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #316
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (311)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الْفُرْقَانِ
    مَكِّيَّةٌ

    الاية63 إلى الاية 74



    ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 ) )

    قوله - عز وجل - : ) ( وعباد الرحمن ) أي : أفاضل العباد . وقيل : هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل ، وإلا فالخلق كلهم عباد الله . ( الذين يمشون على الأرض هونا ) أي : بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ولا مرحين ، ولا متكبرين . وقال الحسن : علماء وحكماء . وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون ، وإن سفه عليهم حلموا ، و " الهون " في اللغة : الرفق واللين . ( وإذا خاطبهم الجاهلون ) يعني السفهاء بما يكرهون ، ) ( قالوا سلاما ) قال مجاهد : سدادا من القول . وقال مقاتل بن حيان : قولا يسلمون فيه من الإثم . وقال الحسن : إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا ، وليس المراد منه السلام المعروف . وروي عن الحسن : معناه سلموا عليهم ، دليله قوله - عز وجل - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( القصص - 55 ) . قال الكلبي وأبو العالية : هذا قبل أن يؤمر بالقتال ، ثم نسختها آية القتال . وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قرأ ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) قال : هذا وصف ليلهم .
    [ ص: 94 ] ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( 64 ) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( 65 ) إنها ساءت مستقرا ومقاما ( 66 ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ( 67 ) )

    قوله تعالى : ( والذين يبيتون لربهم ) يقال لمن أدرك الليل : بات ، نام أو لم ينم ، يقال : بات فلان قلقا ، والمعنى : يبيتون لربهم بالليل في الصلاة ، ) ( سجدا ) على وجوههم ، ) ( وقياما ) على أقدامهم . قال ابن عباس : من صلى بعد العشاء الآخرة ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا وقائما . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم عن سفيان ، عن عثمان بن حكيم ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله " قوله - عز وجل - : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ) أي : ملحا دائما ، لازما غير مفارق من عذب به من الكفار ، ومنه سمي الغريم لطلبه حقه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إياه . قال محمد بن كعب القرظي : سأل الله الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوا فأغرمهم فيه ، فبقوا في النار . قال الحسن : كل غريم يفارق غريمه إلا جهنم . و " الغرام " : الشر اللازم ، وقيل : " غراما " هلاكا . ( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) أي : بئس موضع قرار وإقامة . ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) قرأ ابن كثير وأهل البصرة " يقتروا " بفتح الياء وكسر التاء ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم التاء ، وكلها لغات صحيحة . يقال : أقتر وقتر بالتشديد ، وقتر يقتر . واختلفوا في معنى الإسراف والإقتار ، فقال بعضهم : " الإسراف " : النفقة في معصية الله وإن قلت ، و " الإقتار " : منع حق الله تعالى . وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج . وقال الحسن في هذه الآية لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله . [ ص: 95 ] وقال قوم : " الإسراف " : مجاوزة الحد في الإنفاق ، حتى يدخل في حد التبذير ، و " الإقتار " : التقصير عما لا بد منه ، وهذا معنى قول إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف . ) ( وكان بين ذلك قواما ) قصدا وسطا بين الإسراف والإقتار ، حسنة بين السيئتين . قال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنهم من الحر والقر . قال عمر بن الخطاب : كفى سرفا أن لا يشتهي الرجل شيئا إلا اشتراه فأكله
    ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ( 68 ) )

    قوله - عز وجل - : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآية . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف بن جريج أخبرهم قال : قال يعلى وهو يعلى بن مسلم ، أن سعيد بن جبير ، أخبره عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة ، فنزلت : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ( ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ونزل : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( الزمر - 53 ) . [ ص: 96 ]

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : " أن تدعو لله ندا وهو خلقك " قال " ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " ، قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ، فأنزل الله تصديقها : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما قوله - عز وجل - : ( ومن يفعل ذلك ) أي : شيئا من هذه الأفعال ) ( يلق أثاما ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما يريد جزاء الإثم . وقال أبو عبيدة : " الآثام " : العقوبة . وقال مجاهد : " الآثام " : واد في جهنم ، يروى ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ويروى في الحديث : " الغي والآثام بئران يسيل فيهما صديد أهل النار " .
    ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ( 69 ) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ( 70 ) )

    ( يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) قرأ ابن عامر وأبو بكر " يضاعف " و " يخلد " برفع الفاء والدال على الابتداء ، وشدد ابن عامر : " يضعف " ، وقرأ الآخرون بجزم الفاء والدال على جواب الشرط . ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ) قال قتادة : إلا من تاب من ذنبه ، وآمن بربه ، وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله ، حدثنا موسى بن محمد ، حدثنا موسى بن هارون الحمال ، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي ، حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر ، عن علي بن يزيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قرأناها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنتين : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) الآية ، ثم نزلت : ) ( إلا من تاب ) فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرح بشيء قط كفرحه بها وفرحه ب : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ( الفتح 1 - 2 ) [ ص: 97 ]

    ) ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ) فذهب جماعة إلى أن هذا التبديل في الدنيا; قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والسدي ، والضحاك : يبدلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصانا . وقال قوم : يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة وهو قول سعيد بن المسيب ، ومكحول ، يدل عليه ما : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي أحمد الخزاعي ، أخبرنا الهيثم بن كليب ، أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا أبو عمار الحسين بن خريت ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبأ عنه كبارها ، فيقال له عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من كبارها ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، فيقول : رب إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا ، قال أبو ذر : لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه . وقال بعضهم : إن الله - عز وجل - يمحو بالندم جميع السيئات ، ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة .
    ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ( 71 ) )

    قوله - عز وجل - : ( ومن تاب وعمل صالحا ) قال بعض أهل العلم : هذا في التوبة عن غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ، يعني : من تاب من الشرك وعمل صالحا ، أي : أدى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن ، ) ( فإنه يتوب إلى الله ) أي : يعود إليه بعد الموت ، ) ( متابا ) حسنا يفضل به على غيره ممن قتل وزنى ، فالتوبة الأولى وهو قوله : " ومن تاب " رجوع عن الشرك ، والثاني رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة . [ ص: 98 ] وقال بعضهم : هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات . ومعناه : ومن أراد التوبة وعزم عليها فليتب لوجه الله . وقوله : ( يتوب إلى الله ) خبر بمعنى الأمر ، أي : ليتب إلى الله . وقيل : معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى الله .
    ( والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما ( 72 ) )

    ( والذين لا يشهدون الزور ) قال الضحاك وأكثر المفسرين : يعني الشرك . وقال علي بن طلحة : يعني شهادة الزور . وكان عمر بن الخطاب : يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويطوف به في السوق . وقال ابن جريج : يعني الكذب وقال مجاهد : يعني أعياد المشركين . وقيل : النوح قال قتادة : لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم . وقال محمد بن الحنفية : لا يشهدون اللهو والغناء . قال ابن مسعود : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع " . وأصل " الزور " تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته ، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق [ ص: 99 ]

    ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نظيره قوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ( القصص - 55 ) ، قال السدي : وهي منسوخة بآية القتال قال الحسن والكلبي : " اللغو " : المعاصي كلها ، يعني إذا مروا بمجلس اللهو والباطل مروا كراما مسرعين معرضين . يقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه .
    ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ( 73 ) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( 74 ) )

    ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا ) لم يقعوا ولم يسقطوا ، ( عليها صما وعميانا ) كأنهم صم عمي ، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه . قال القتيبي لم يتغافلوا عنها ، كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يروها . ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا ) قرأ بغير ألف : أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر . وقرأ الباقون بالألف على الجمع ، ) ( قرة أعين ) أي : أولادا أبرارا أتقياء ، يقولون اجعلهم صالحين فتقر أعيننا بذلك . قال القرظي : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله - عز وجل - . وقاله الحسن ، ووحد القرة لأنها مصدر ، وأصلها من البرد ، لأن العرب تتأذى من الحر وتستروح إلى البرد ، وتذكر قرة العين عند السرور ، وسخنة العين عند الحزن ، ويقال : دمع العين عند السرور بارد ، وعند الحزن حار . وقال الأزهري : معنى قرة الأعين : أن يصادف قلبه من يرضاه ، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره . ( واجعلنا للمتقين إماما ) أي : أئمة يقتدون في الخير بنا ، ولم يقل : أئمة ، كقوله تعالى : " إنا رسول رب العالمين " ( الشعراء - 16 ) ، وقيل : أراد أئمة كقوله : " فإنهم عدو لي " ( الشعراء - 77 ) ، أي : أعداء ، ويقال : أميرنا هؤلاء ، أي : أمراؤنا . وقيل : لأنه مصدر كالصيام والقيام ، يقال : أم إماما ، كما يقال : قام قياما ، وصام صياما . قال الحسن : نقتدي بالمتقين ويقتدي بنا المتقون . وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداة ، كما قال : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ( السجدة - 24 ) ، ولا تجعلنا أئمة ضلالة كما قال : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( القصص - 41 ) ، وقيل : هذا من المقلوب ، يعني : واجعل المتقين لنا إماما ، واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم ، وهو قول مجاهد .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #317
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (312)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ

    الاية1 إلى الاية 30



    ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ( 75 ) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ( 76 ) قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ( 77 ) )

    ( أولئك يجزون ) أي : يثابون ، ) ( الغرفة ) أي : الدرجة الرفيعة في الجنة ، و " الغرفة " : كل بناء مرتفع عال . وقال عطاء : يريد غرف الدر والزبرجد والياقوت في الجنة ، ) ( بما صبروا ) على أمر الله تعالى وطاعته . وقيل : على أذى المشركين . وقيل : عن الشهوات ) ( ويلقون فيها ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : بفتح الياء وتخفيف القاف ، كما قال : " فسوف يلقون غيا " ( مريم - 59 ) ، وقرأ الآخرون بضم الياء وتشديد القاف كما قال : " ولقاهم نضرة وسرورا " ( الإنسان - 11 ) ، وقوله : ( تحية ) أي ملكا ، وقيل : بقاء دائما ) ( وسلاما ) أي : يسلم بعضهم على بعض . وقال الكلبي : يحيي بعضهم بعضا بالسلام ، ويرسل الرب إليهم بالسلام . وقيل : " سلاما " أي : سلامة من الآفات . ( خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) أي : موضع قرار وإقامة . ( قل ما يعبأ بكم ربي ) قال مجاهد وابن زيد : أي : ما يصنع وما يفعل بكم . قال أبو عبيدة يقال : ما عبأت به شيئا أي : لم أعده ، فوجوده وعدمه سواء ، مجازه : أي وزن وأي مقدار لكم عنده ، ) ( لولا دعاؤكم ) إياه ، وقيل : لولا إيمانكم ، وقيل : لولا عبادتكم ، وقيل : لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام ، فإذا آمنتم ظهر لكم قدر . وقال قوم : معناها : قل ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاعتكم إياه يعني إنه خلقكم لعبادته ، كما قال : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( الذاريات - 56 ) وهذا قول ابن عباس ومجاهد . وقال قوم : " قل ما يعبأ " ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم ، كما قال الله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ( النساء - 147 ) . وقيل : ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه في الشدائد ، كما قال : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ( العنكبوت - 65 ) ، وقال : فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( الأنعام - 42 ) . وقيل : " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " يقول : ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم .

    ) ( فقد كذبتم ) أيها الكافرون ، يخاطب أهل مكة ، يعني : إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته فقد كذبتم الرسول ولم تجيبوه . ( فسوف يكون لزاما ) هذا تهديده لهم ، أي : يكون تكذيبكم لزاما ، قال ابن عباس : موتا . وقال أبو عبيدة : هلاكا وقال ابن زيد : قتالا . والمعنى : يكون [ ص: 101 ] التكذيب لازما لمن كذب ، فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله . وقال ابن جرير عذابا دائما لازما وهلاكا مقيما يلحق بعضكم ببعض . واختلفوا فيه ، فقال قوم : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون . وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومجاهد ومقاتل ، يعني : أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عمر بن حفص بن غياث ، أخبرنا أبي ، أخبرنا الأعمش ، حدثنا مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، والقمر ، والروم ، والبطشة ، واللزام " ( فسوف يكون لزاما ) وقيل : اللزام هو عذاب الآخرة .

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ

    مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ مِنْ آخَرِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ ( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ) وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ [ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ] "

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) )

    ( طسم ) قَرَأَ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ : طسم ، وَ طس ، وَ حم ، وَ يس بِكَسْرِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَالْحَاءِ ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى التَّفْخِيمِ ، وَأَظْهَرَ النُّونَ فِي يس عِنْدَ الْمِيمِ فِي " طسم " : أَبُو جَعْفَرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَأَخْفَاهَا الْآخَرُونَ . وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " طسم " عَجَزَتِ الْعُلَمَاءُ عَنْ تَفْسِيرِهَا . وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَسَمٌ ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ قَتَادَةُ : اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْمٌ لِلسُّورَةِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ : أَقْسَمَ اللَّهُ بِطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ . [ ص: 106 ] ) ( تِلْكَ ) أَيْ : هَذِهِ الْآيَاتُ ، ( آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ )
    ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( 3 ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( 4 ) )

    ( لعلك باخع نفسك ) قاتل نفسك ، ( ألا يكونوا مؤمنين ) أي : إن لم يؤمنوا ، وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك ، وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل الله هذه الآية . ) ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) قال قتادة : لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله . وقال ابن جريج : معناه : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره ، لا يعمل أحد منهم بعده معصية .

    وقوله - عز وجل - : ( خاضعين ) ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ، وفيه أقاويل : أحدها : أراد أصحاب الأعناق ، فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم ، لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعل الفعل أولا للأعناق ، ثم جعل خاضعين للرجال . وقال الأخفش : رد الخضوع على المضمر الذي أضاف الأعناق إليه . وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر ، وهو قوله " هم " على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنث . وقيل : أراد فظلوا خاضعين فعبر بالعنق عن جميع البدن ، كقوله : ذلك بما قدمت يداك ( الحج - 10 ) و ألزمناه طائره في عنقه " ( الإسراء - 13 ) . وقال مجاهد : أراد بالأعناق الرؤساء والكبراء ، أي : فظلت كبراؤهم خاضعين . وقيل : أراد بالأعناق الجماعات ، يقال : جاء القوم عنقا عنقا ، أي : جماعات وطوائف . وقيل : إنما قال خاضعين على وفاق رءوس الآي ليكون على نسق واحد .
    [ ص: 107 ] ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ( 5 ) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ( 6 ) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 9 ) وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ( 10 ) )

    ( وما يأتيهم من ذكر ) وعظ وتذكير ، ( من الرحمن محدث ) أي : محدث إنزاله ، فهو محدث في التنزيل . قال الكلبي : كلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول ، ( إلا كانوا عنه معرضين ) أي : عن الإيمان به . ) ( فقد كذبوا فسيأتيهم ) أي : فسوف يأتيهم ، ) ( أنباء ) أخبار وعواقب ، ) ( ما كانوا به يستهزئون ) ( أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج ) صنف وضرب ، ) ( كريم ) حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام ، يقال : نخلة كريمة إذا طاب حملها ، وناقة كريمة إذا كثر لبنها . قال الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم ) ( إن في ذلك ) الذي ذكرت ، ) ( لآية ) دلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي ، ( وما كان أكثرهم مؤمنين ) مصدقين ، أي : سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون . وقال سيبويه : " كان " هاهنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين . ( وإن ربك لهو العزيز ) العزيز بالنقمة من أعدائه ، ) ( الرحيم ) ذو الرحمة بأوليائه . قوله - عز وجل - : ) ( وإذ نادى ربك موسى ) واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى حين رأى الشجرة والنار ، ( أن ائت القوم الظالمين ) يعني : الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب .
    [ ص: 108 ] ( قوم فرعون ألا يتقون ( 11 ) قال رب إني أخاف أن يكذبون ( 12 ) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ( 13 ) ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ( 14 ) قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ( 15 ) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ( 16 ) أن أرسل معنا بني إسرائيل ( 17 ) )

    ( قوم فرعون ألا يتقون ) ألا يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته . ) ( قال ) يعني موسى ، ( رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ) من تكذيبهم إياي ، ) ( ولا ينطلق لساني ) قال هذا للعقدة التي كانت على لسانه ، قرأ يعقوب " ويضيق " ، " ولا ينطلق " بنصب القافين على معنى وأن يضيق ، وقرأ العامة برفعهما ردا على قوله : " إني أخاف " ، ( فأرسل إلى هارون ) ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة .

    ) ( ولهم علي ذنب ) أي : دعوى ذنب ، وهو قتله القبطي ، ( فأخاف أن يقتلون ) أي : يقتلونني به . ) ( قال ) الله تعالى ، ) ( كلا ) أي : لن يقتلوك ، ( فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون ) سامعون ما يقولون ، ذكر " معكم " بلفظ الجمع ، وهما اثنان ، أجراهما مجرى الجماعة . وقيل : أراد معكما ومع بني إسرائيل نسمع ما يجيبكم فرعون . ( فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين ) ولم يقل : رسولا رب العالمين ، لأنه أراد الرسالة ، أي : أنا ذو رسالة رب العالمين ، كما قال كثير :
    لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول


    أي : بالرسالة ، وقال أبو عبيدة : يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي وهذان وهؤلاء رسولي ووكيلي ، كما قال الله تعالى : " وهم لكم عدو " ( الكهف - 50 ) ، وقيل : معناه كل واحد منا رسول رب العالمين ) ( أن أرسل ) أي : بأن أرسل ( معنا بني إسرائيل ) إلى فلسطين ، ولا تستعبدهم ، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفا ، فانطلق موسى إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك . [ ص: 109 ]

    وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصا ، والمكتل معلق في رأس العصا ، وفيه زاده ، فدخل دار نفسه وأخبر هارون بأن الله أرسلني إلى فرعون وأرسلني إليك حين تدعو فرعون إلى الله ، فخرجت أمهما وصاحت وقالت : إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع موسى لقولها ، وذهبا إلى باب فرعون ليلا ودقا الباب ، ففزع البوابون وقالوا : من بالباب ؟ وروي أنه اطلع البواب عليهما فقال : من أنتما ؟ فقال موسى : أنا رسول رب العالمين ، فذهب البواب إلى فرعون وقال : إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين ، فترك حتى أصبح ، ثم دعاهما . وروي أنهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البواب فقال لفرعون : هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين ، فقال فرعون : ائذن له لعلنا نضحك منه ، فدخلا عليه وأديا رسالة الله - عز وجل - ، فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته .
    ( قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ( 18 ) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين ( 19 ) ( قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ( 20 ) )

    ( قال ألم نربك فينا وليدا ) صبيا ( ولبثت فينا من عمرك سنين ) وهو ثلاثون سنة . ( وفعلت فعلتك التي فعلت ) يعني : قتل القبطي ( وأنت من الكافرين ) قال الحسن والسدي : يعني وأنت من الكافرين بإلهك وكنت على ديننا هذا الذي تعيبه . وقال أكثر المفسرين : معنى قوله : " وأنت من الكافرين " ، أي : من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي ، يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسا ، وكفرت بنعمتنا . وهذا رواية العوفي عن ابن عباس ، وقال : إن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية . ) ( قال ) موسى ، ) ( فعلتها إذا ) أي : فعلت ما فعلت حينئذ ، ) ( وأنا من الضالين ) أي : من الجاهلين ، أي لم يأتني من الله شيء . وقيل : من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله . وقيل : من الضالين عن طريق الصواب من غير تعمد . وقيل : من المخطئين .
    [ ص: 110 ] ( ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين ( 21 ) وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ( 22 ) )

    ( ففررت منكم لما خفتكم ) إلى مدين ، ( فوهب لي ربي حكما ) يعني النبوة ، وقال مقاتل : يعني العلم والفهم ، ( وجعلني من المرسلين ) ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) اختلفوا في تأويلها : فحملها بعضهم على الإقرار وبعضهم على الإنكار . فمن قال هو إقرار ، قال عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه ، ولم يقتله كما قتل سائر غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل مجازه : بلى وتلك نعمة علي أن عبدت بني إسرائيل ، وتركتني فلم تستعبدني . ومن قال : هو إنكار قال : قوله : وتلك نعمة هو على طريق الاستفهام ، أي : أوتلك نعمة ؟ حذف ألف الاستفهام ، كقوله : " أفهم الخالدون " ( الأنبياء - 34 ) ؟ قال الشاعر
    تروح من الحي أو تبتكر وماذا يضرك لو تنتظر ؟


    [ ص: 111 ] ( قال فرعون وما رب العالمين ( 23 ) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( 24 ) قال لمن حوله ألا تستمعون ( 25 ) قال ربكم ورب آبائكم الأولين ( 26 ) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( 27 ) قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ( 28 ) قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ( 29 ) قال أولو جئتك بشيء مبين ( 30 ) )

    ( قال فرعون وما رب العالمين ) يقول : أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله إلي ؟ يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه ب " ما " ، وهو سؤال عن جنس الشيء ، والله منزه عن الجنسية ، فأجابه موسى عليه السلام بذكر أفعاله التي يعجز عن الإتيان بمثلها . ( قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ) إنه خالقهما . قال أهل المعاني : أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها فأيقنوا أن إله الخلق هو الله - عز وجل - ، فلما قال موسى ذلك تحير فرعون في جواب موسى . ) ( قال لمن حوله ) من أشراف قومه . قال ابن عباس : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة ، قال لهم فرعون استبعادا لقول موسى : ) ( ألا تستمعون ) وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم ملوكهم . فزادهم موسى في البيان . ( قال ربكم ورب آبائكم الأولين ) ( قال ) يعني : فرعون : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) يتكلم بكلام لا نعقله ولا نعرف صحته ، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل ، فزاد موسى في البيان : ( قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ) ( قال ) فرعون - حين لزمته الحجة وانقطع عن الجواب - تكبرا عن الحق : ( لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) من المحبوسين ، قال الكلبي : كان سجنه أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا ، يهوي به في الأرض . ) ( قال ) له موسى حين توعده بالسجن : ) ( أولو جئتك ) أي : وإن جئتك ، ) ( بشيء مبين ) بآية مبينة ، ومعنى الآية : أتفعل ذلك وإن أتيتك بحجة بينة ؟ وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #318
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (313)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ

    الاية31 إلى الاية 85

    ( قال فأت به إن كنت من الصادقين ( 31 ) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ( 32 ) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( 33 ) قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ( 34 ) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ( 35 ) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين ( 36 ) يأتوك بكل سحار عليم ( 37 ) فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ( 38 ) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ( 39 ) ( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ( 40 ) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( 41 ) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ( 42 ) قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ( 43 ) )

    ( قال ) له فرعون ، ) ( فأت به ) فإنا لن نسجنك حينئذ ، ( إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ) فقال : وهل غيرها ؟ . ) ( ونزع ) موسى ، ( يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) ( قال ) فرعون ( للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ) ؟ ( قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين ) . ( يأتوك بكل سحار عليم ) . ( فجمع السحرة لميقات يوم معلوم ) وهو يوم الزينة . وروي عن ابن عباس قال : وافق ذلك اليوم يوم السبت ، في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز . ( وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ) لتنظروا إلى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة ؟ ) ( لعلنا ) لكي ، ( نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) لموسى ، وقيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء ، وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما . ) ( فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ) . ( قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين ) . ( قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون ) .
    [ ص: 113 ] ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ( 44 ) فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ( 45 ) فألقي السحرة ساجدين ( 46 ) قالوا آمنا برب العالمين ( 47 ) رب موسى وهارون ( 48 ) قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ( 49 ) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون ( 50 ) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ( 51 ) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ( 52 ) )

    ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) . ( فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ) . ( فألقي السحرة ساجدين ) . ( قالوا آمنا برب العالمين ) . ( رب موسى وهارون ) . ( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين ) . ( قالوا لا ضير ) لا ضرر ، ( إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ) من أهل زماننا . ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ) يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر .

    وروي عن ابن جريج قال : أوحى الله تعالى إلى موسى : أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على أبوابكم ، فإني سآمر الملائكة فلا يدخلوا بيتا على بابه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم ، ثم اخبزوا خبزا فطيرا فإنه أسرع لكم ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر ، فيأتيك أمري ، ففعل ذلك ، فلما أصبحوا قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه ، قتلوا أبكارنا من أنفسنا ، وأخذوا أموالنا . فأرسل في أثره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف ، وخرج فرعون في الكرسي العظيم .
    [ ص: 114 ] ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( 53 ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( 54 ) وإنهم لنا لغائظون ( 55 ) وإنا لجميع حاذرون ( 56 ) فأخرجناهم من جنات وعيون ( 57 ) وكنوز ومقام كريم ( 58 ) )

    ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ) يحشرون الناس يعني : الشرط ليجمعوا السحرة . وقيل : حتى يجمعوا له الجيش ، وذكر بعضهم : أنه كان له ألف مدينة واثنا عشرة ألف قرية . وقال لهم : ( إن هؤلاء لشرذمة ) عصابة ) ( قليلون ) والشرذمة القطعة من الناس غير الكثير ، وجمعها شراذم . قال أهل التفسير : كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف . وعن ابن مسعود قال : كانوا ستمائة وسبعين ألفا ولا يحصى عدد أصحاب فرعون . ( وإنهم لنا لغائظون ) يقال : غاظه وأغاظه وغيظه إذا أغضبه ، والغيظ والغضب واحد ، يقول : أغضبونا بمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها ، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا . ( وإنا لجميع حاذرون ) قرأ أهل الحجاز والبصرة : " حذرون " و " فرهين " بغير ألف ، وقرأ الآخرون " حاذرون " و " فارهين " بالألف فيهما ، وهما لغتان . وقال أهل التفسير : حاذرون ، أي : مؤدون ومقوون ، أي : ذوو أداة وقوة مستعدون شاكون في السلاح ومعنى " حاذرون " أي : خائفون شرهم . وقال الزجاج : " الحاذر " : المستعد ، و " الحذر " : المتيقظ . وقال الفراء : " الحاذر " : الذي يحذرك الآن ، و " الحذر " : المخوف . وكذلك لا تلقاه إلا حذرا ، والحذر : اجتناب الشيء خوفا منه . ( فأخرجناهم من جنات ) وفي القصة : البساتين كانت ممتدة على حافتي النيل ، ( وعيون ) أنهار جارية . ( وكنوز ) يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزا لأنه لم يعط حق الله منها ، وما لم يعط حق الله منه فهو كنز وإن كان ظاهرا ، قيل : كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام ، كل غلام على فرس عتيق ، في عنق كل فرس طوق من ذهب ، ) ( ومقام كريم ) أي : مجلس حسن ، قال المفسرون : أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت تحفها الأتباع . وقال مجاهد ، وسعيد [ ص: 115 ] بن جبير : هي المنابر . وذكر بعضهم : أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب .
    ( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ( 59 ) فأتبعوهم مشرقين ( 60 ) ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( 61 ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( 62 ) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ( 63 )

    ( كذلك ) كما وصفنا ، ( وأورثناها ) بهلاكهم ، ( بني إسرائيل ) وذلك أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن . ( فأتبعوهم مشرقين ) أي : لحقوهم في وقت إشراق الشمس ، وهو إضاءتها ، أي : أدرك قوم فرعون موسى وأصحابه وقت شروق الشمس . ( فلما تراءى الجمعان ) أي : تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه ، وكسر حمزة الراء من " تراءى " وفتحها الآخرون . ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) أي : سيدركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم . ) ( قال ) موسى ثقة بوعد الله إياه : ) ( كلا ) لن يدركونا ، ( إن معي ربي سيهدين ) يدلني على طريق النجاة . ( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) أي : فضربه " فانفلق " فانشق ، ) ( فكان كل فرق ) قطعة من الماء ، ( كالطود العظيم ) كالجبل الضخم ، قال ابن جريج وغيره : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمي بموج مثل الجبال ، فقال يوشع : يا مكلم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا ؟ قال موسى : هاهنا ، فخاض يوشع الماء وجاز البحر ، ما يواري حافر دابته الماء . وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلم الله أين أمرت ؟ قال : هاهنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم أقحمه البحر ، فارتسب في الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع ، فأوحى الله إليه : أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده .
    [ ص: 116 ] ( وأزلفنا ثم الآخرين ( 64 ) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ( 65 ) ثم أغرقنا الآخرين ( 66 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 67 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 68 ) واتل عليهم نبأ إبراهيم ( 69 ) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ( 70 ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ( 71 ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون ( 72 ) أو ينفعونكم أو يضرون ( 73 )

    ( وأزلفنا ) يعني : وقربنا ( ثم الآخرين ) يعني : قوم فرعون ، يقول : قدمناهم إلى البحر ، وقربناهم إلى الهلاك ، وقال أبو عبيدة : " وأزلفنا " : جمعنا ، ومنه ليلة المزدلفة أي : ليلة الجمع . وفي القصة أن جبريل كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ، ويقولون : ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل ، وكان يزع قوم فرعون ، وكانوا يقولون : ما رأينا أحسن زعة من هذا . ( وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ) . ( ثم أغرقنا الآخرين ) فرعون وقومه . وقال سعيد بن جبير : كان البحر ساكنا قبل ذلك ، فلما ضربه موسى بالعصا اضطرب فجعل يمد ويجزر . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ) أي : من أهل مصر ، قيل : لم يكن آمن من أهل مصر إلا آسية امرأة فرعون وحزبيل المؤمن ، ومريم بنت ناقوسا التي دلت على عظام يوسف عليه السلام . ( وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) العزيز في الانتقام من أعدائه ، الرحيم بالمؤمنين حين أنجاهم . قوله : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم ) . قوله : ( إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ) أي شيء تعبدون ؟ . ( قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ) أي : نقيم على عبادتها . قال بعض أهل العلم : إنما قال : ) ( فنظل ) لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار ، دون الليل ، يقال : ظل يفعل كذا إذا فعل بالنهار . ) ( قال هل يسمعونكم ) أي : هل يسمعون دعاءكم ) ( إذ تدعون ) قال ابن عباس يسمعون لكم . ) ( أو ينفعونكم ) قيل بالرزق ، ) ( أو يضرون ) إن تركتم عبادتها .
    [ ص: 117 ] ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ( 74 ) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ( 75 ) أنتم وآباؤكم الأقدمون ( 76 ) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( 77 ) الذي خلقني فهو يهدين ( 78 ) والذي هو يطعمني ويسقين ( 79 ) )

    ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) معناه : إنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعا ، ولا تدفع ضرا ، لكن اقتدينا بآبائنا . فيه إبطال التقليد في الدين . ) ( قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ) الأولون . ( فإنهم عدو لي ) أي : أعداء لي ، ووحده على معنى أن كل معبود لكم عدو لي . فإن قيل : كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات ؟ قيل : معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة كما قال تعالى : " سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " ( مريم - 82 ) . وقال الفراء هو من المقلوب ، أراد : فإني عدو لهم ، لأن من عاديته فقد عاداك . وقيل : " فإنهم عدو لي " على معنى إني لا أتولاهم ولا أطلب من جهتهم نفعا ، كما لا يتولى العدو ، ولا يطلب من جهته النفع .

    قوله : ( إلا رب العالمين ) اختلفوا في هذا الاستثناء ، قيل : هو استثناء منقطع ، كأنه قال : فإنهم عدو لي لكن رب العالمين وليي . وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله ، فقال إبراهيم : كل من تعبدون أعدائي إلا رب العالمين . وقيل : إنهم غير معبود لي إلا رب العالمين ، فإني أعبده . وقال الحسين بن الفضل : معناه إلا من عبد رب العالمين . ثم وصف معبوده فقال : ( الذي خلقني فهو يهدين ) أي : يرشدني إلى طريق النجاة . ( والذي هو يطعمني ويسقين ) أي : يرزقني ويغذوني بالطعام والشراب ، فهو رازقي ومن عنده رزقي .
    [ ص: 118 ] ( وإذا مرضت فهو يشفين ( 80 ) والذي يميتني ثم يحيين ( 81 ) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( 82 ) رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ( 83 ) ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ( 84 ) واجعلني من ورثة جنة النعيم ( 85 ) )

    ( وإذا مرضت ) أضاف المرض إلى نفسه وإن كان المرض والشفاء كله من الله ، استعمالا لحسن الأدب كما قال الخضر : " فأردت أن أعيبها " ( الكهف - 79 ) ، وقال : " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما " ( الكهف - 82 ) . ) ( فهو يشفين ) أي : يبرئني من المرض . ( والذي يميتني ثم يحيين ) أدخل " ثم " هاهنا للتراخي ، أي : يميتني في الدنيا ويحييني في الآخرة . ) ( والذي أطمع ) أي : أرجو ، ( أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) أي : خطاياي يوم الحساب . قال مجاهد : هو قوله : " إني سقيم " ، وقوله : " بل فعله كبيرهم هذا " ، وقوله لسارة : " هذه أختي " ، وزاد الحسن وقوله للكواكب : " هذا ربي " . وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قال : قلت يا رسول الله : ابن جدعان ، كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المساكين ، فهل ذاك نافعه ؟ قال : " لا ينفعه إنه لم يقل يوما ، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه ، وإخبار أنه لا يصلح للإلهية من لا يفعل هذه الأفعال . ( رب هب لي حكما ) قال ابن عباس : معرفة حدود الله وأحكامه . وقال مقاتل : الفهم والعلم . وقال الكلبي : النبوة ( وألحقني بالصالحين ) بمن قبلي من النبيين في المنزلة والدرجة . ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) أي : ثناء حسنا ، وذكرا جميلا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي ، فأعطاه الله ذلك ، فجعل كل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه . قال القتيبي : وضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكون به . ( واجعلني من ورثة جنة النعيم ) أي : ممن تعطيه جنة النعيم .
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #319
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (314)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ

    الاية86 إلى الاية 155


    ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ( 86 ) ولا تخزني يوم يبعثون ( 87 ) يوم لا ينفع مال ولا بنون ( 88 ) إلا من أتى الله بقلب سليم ( 89 ) وأزلفت الجنة للمتقين ( 90 ) وبرزت الجحيم للغاوين ( 91 ) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون ( 92 ) من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ( 93 ) فكبكبوا فيها هم والغاوون ( 94 ) وجنود إبليس أجمعون ( 95 ) قالوا وهم فيها يختصمون ( 96 ) )

    ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) وقال هذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله ، كما سبق ذكره في سورة التوبة . ) ( ولا تخزني ) لا تفضحني ( يوم يبعثون ) ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) أي : خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد ، هذا قول أكثر المفسرين . قال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض . قال الله تعالى : " في قلوبهم مرض " ( البقرة - 10 ) ، قال ابن عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة المطمئن على السنة . ) ( وأزلفت ) قربت ) ( الجنة للمتقين ) ( وبرزت ) أظهرت ، ) ( الجحيم للغاوين ) للكافرين . ) ( وقيل لهم ) يوم القيامة ، ) ( أين ما كنتم تعبدون ) ( من دون الله هل ينصرونكم ) يمنعونكم من العذاب ، ) ( أو ينتصرون ) لأنفسهم . ) ( فكبكبوا فيها ) قال ابن عباس : جمعوا . وقال مجاهد : دهوروا . وقال مقاتل : قذفوا . وقال الزجاج : طرح بعضهم على بعض . وقال القتيبي : ألقوا على رءوسهم . ) ( هم والغاوون ) يعني : الشياطين ، قال قتادة ، ومقاتل . وقال الكلبي : كفرة الجن . ( وجنود إبليس أجمعون ) وهم أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس . ويقال : ذريته . ) ( قالوا ) أي : قال الغاوون للشياطين والمعبودين ، ( وهم فيها يختصمون ) مع المعبودين ويجادل بعضهم بعضا .
    [ ص: 120 ] ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين ( 97 ) إذ نسويكم برب العالمين ( 98 ) وما أضلنا إلا المجرمون ( 99 ) فما لنا من شافعين ( 100 ) ولا صديق حميم ( 101 ) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ( 102 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 103 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 104 ) كذبت قوم نوح المرسلين ( 105 ) )

    ( تالله إن كنا لفي ضلال مبين ) .( إذ نسويكم ) نعدلكم ، ( برب العالمين ) فنعبدكم . ( وما أضلنا ) أي : ما دعانا إلى الضلال ، ) ( إلا المجرمون ) قال مقاتل : يعني الشياطين . وقال الكلبي : إلا أولونا الذين اقتدينا بهم . وقال أبو العالية وعكرمة : يعني : إبليس ، وابن آدم الأول ، وهو قابيل ، لأنه أول من سن القتل ، وأنواع المعاصي . ( فما لنا من شافعين ) أي : من يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين . ( ولا صديق حميم ) أي : قريب يشفع لنا ، يقوله الكفار حين تشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، والصديق هو الصادق في المودة بشرط الدين . أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا محمد بن الحسين اليقطيني ، أخبرنا أحمد بن عبد الله يزيد العقيلي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا من سمع أبا الزبير يقول : أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان ، وصديقه في الجحيم ، فيقول الله تعالى : أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " قال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة . ( فلو أن لنا كرة ) أي : رجعة إلى الدنيا ، ( فنكون من المؤمنين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) العزيز الذي لا يغالب ، فالله عزيز ، وهو في وصف عزته رحيم . قوله - عز وجل - : ( كذبت قوم نوح المرسلين ) قيل للحسن البصري : يا أبا سعيد أرأيت قوله : ( كذبت قوم نوح المرسلين ) و ( كذبت عاد المرسلين ) و ( كذبت ثمود المرسلين ) وإنما [ ص: 121 ] أرسل إليهم رسول واحد ؟ قال : إن الآخر جاء بما جاء الأول ، فإذا كذبوا واحدا فقد كذبوا الرسل أجمعين .
    ( إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون ( 106 ) إني لكم رسول أمين ( 107 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 108 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 109 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 110 ) قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ( 111 ) ( قال وما علمي بما كانوا يعملون ( 112 ) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون ( 113 ) وما أنا بطارد المؤمنين ( 114 ) إن أنا إلا نذير مبين ( 115 ) قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ( 116 )

    ( إذ قال لهم أخوهم ) في النسب لا في الدين . ( نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين ) على الوحي . ( فاتقوا الله ) بطاعته وعبادته ، ) ( وأطيعون ) فيما آمركم به من الإيمان والتوحيد . ( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري ) ثوابي ، ( إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون ) . ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) قرأ يعقوب : " وأتباعك الأرذلون " السفلة . وعن ابن عباس قال : الصاغة . وقال عكرمة الحاكة والأساكفة . ) ( قال ) نوح ، ( وما علمي بما كانوا يعملون ) أي : ما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى الله ، ولي منهم ظاهر أمرهم . ( إن حسابهم ) ما حسابهم ، ( إلا على ربي لو تشعرون ) لو تعلمون ذلك ما عبتموهم بصنائعهم . قال الزجاج : الصناعات لا تضر في الديانات . وقيل : معناه : أي : لم أعلم أن الله يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم . ) ( وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين ) . ( قالوا لئن لم تنته يا نوح ) عما تقول ، ( لتكونن من المرجومين ) قال مقاتل والكلبي : من المقتولين بالحجارة . وقال الضحاك : من المشتومين .
    [ ص: 122 ] ( قال رب إن قومي كذبون ( 117 ) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين ( 118 ) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ( 119 ) ثم أغرقنا بعد الباقين ( 120 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 121 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 122 ) كذبت عاد المرسلين ( 123 ) إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ( 124 ) إني لكم رسول أمين ( 125 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 126 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 127 ) أتبنون بكل ريع آية تعبثون ( 128 )

    ( قال رب إن قومي كذبون فافتح ) فاحكم ، ( بيني وبينهم فتحا ) حكما ، ( ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ) الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان كلها . ( ثم أغرقنا بعد الباقين ) أي : أغرقنا بعد إنجاء نوح وأهله : من بقي من قومه . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ( كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ) يعني في النسب لا في الدين ، ( ألا تتقون ) ( إني لكم رسول أمين ) على الرسالة ، قال الكلبي : أمين فيكم قبل الرسالة ، فكيف تتهمونني اليوم ؟ . ( فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) ( أتبنون بكل ريع ) قال الوالبي عن ابن عباس : أي : بكل شرف . وقال الضحاك ومقاتل والكلبي : بكل طريق ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس ، وعن مجاهد قال : هو الفج بين الجبلين . وعنه أيضا : إنه المنظرة . ( آية ) أي : علامة ، ( تعبثون ) بمن مر بالطريق ، والمعنى : أنهم كانوا يبنون المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم . وعن سعيد بن جبير ومجاهد : هذا في بروج الحمام أنكر عليهم هود اتخاذها ، بدليل قوله : ( تعبثون ) أي : تلعبون ، وهم كانوا [ ص: 123 ] يلعبون بالحمام . وقال أبو عبيدة : الريع : المكان المرتفع .
    ( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ( 129 ) وإذا بطشتم بطشتم جبارين ( 130 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 131 ) واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ( 132 ) أمدكم بأنعام وبنين ( 133 ) وجنات وعيون ( 134 ) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( 135 ) قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ( 136 ) ( إن هذا إلا خلق الأولين ( 137 )

    ( وتتخذون مصانع ) قال ابن عباس : أبنية . وقال مجاهد : قصورا مشيدة . وعن الكلبي : أنها الحصون . وقال قتادة : مآخذ الماء ، يعني الحياض ، واحدتها مصنعة ) ( لعلكم تخلدون ) أي : كأنكم تبقون فيها خالدين . والمعنى : أنهم كانوا يستوثقون المصانع كأنهم لا يموتون . ( وإذا بطشتم ) أخذتم وسطوتم ، ( بطشتم جبارين ) قتلا بالسيف وضربا بالسوط ، " والجبار " : الذي يقتل ويضرب على الغضب . ( فاتقوا الله وأطيعون ) . ( واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ) أي : أعطاكم من الخير ما تعلمون ، ثم ذكر ما أعطاهم فقال : ( أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون ) أي : بساتين وأنهار . ( إني أخاف عليكم ) قال ابن عباس : إن عصيتموني ، ( عذاب يوم عظيم قالوا سواء علينا ) أي : مستو عندنا ، ( أوعظت أم لم تكن من الواعظين ) الوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد . قال الكلبي : نهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا . ) ( إن هذا ) ما هذا ( إلا خلق الأولين ) قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، والكسائي ، ويعقوب : " خلق " بفتح الخاء وسكون اللام ، أي : اختلاق الأولين وكذبهم دليل هذه القراءة قوله [ ص: 124 ] تعالى : " وتخلقون إفكا " ( العنكبوت - 17 ) ، وقرأ الآخرون " خلق " بضم الخاء واللام ، أي : عادة الأولين من قبلنا ، وأمرهم أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب .
    ( وما نحن بمعذبين ( 138 ) فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 139 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 140 ) كذبت ثمود المرسلين ( 141 ) إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون ( 142 ) إني لكم رسول أمين ( 143 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 144 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 145 ) أتتركون في ما هاهنا آمنين ( 146 ) في جنات وعيون ( 147 ) وزروع ونخل طلعها هضيم ( 148 )

    ( وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ( كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتتركون في ما هاهنا ) أي : في الدنيا ( آمنين ) من العذاب . ( في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها ) ثمرها ، يريد ما يطلع منها من الثمر ، ( هضيم ) قال ابن عباس : لطيف ، ومنه : هضيم الكشح ، إذا كان لطيفا . وروى عطية عنه : يانع نضيج . وقال عكرمة : هو اللين . وقال الحسن : هو الرخو . وقال مجاهد : متهشم متفتت إذا مس ، وذلك أنه ما دام رطبا فهو هضيم ، فإذا يبس فهو هشيم . وقال الضحاك ومقاتل : قد ركب بعضه بعضا [ حتى هضم بعضه بعضا ] أي : كسره . وقال أهل اللغة : هو المنضم بعضه إلى بعض في وعائه قبل أن يظهر . وقال الأزهري : الهضيم هو الداخل بعضه في بعض من النضج والنعومة . وقيل : هضيم أي : هاضم يهضم الطعام . وكل هذا للطافته .
    [ ص: 125 ] ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ( 149 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 150 ) ولا تطيعوا أمر المسرفين ( 151 ) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ( 152 ) قالوا إنما أنت من المسحرين ( 153 ) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ( 154 ) قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ( 155 ) )

    ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) وقرئ : " فرهين " قيل : معناهما واحد . وقيل : فارهين أي : حاذقين بنحتها ، من قولهم فره الرجل فراهة فهو فاره ، ومن قرأ " فرهين " قال ابن عباس : أشرين بطرين . وقال عكرمة : ناعمين . وقال مجاهد : شرهين . قال قتادة : معجبين بصنيعكم ، قال السدي : متجبرين . وقال أبو عبيدة : مرحين . وقال الأخفش فرحين . والعرب تعاقب بين الهاء والحاء مثل : مدحته ومدهته . قال الضحاك : كيسين . ( فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين ) قال ابن عباس : المشركين . وقال مقاتل : هم التسعة الذين عقروا الناقة . ( الذين يفسدون في الأرض ) بالمعاصي ، ( ولا يصلحون ) لا يطيعون الله فيما أمرهم به . ( قالوا إنما أنت من المسحرين ) قال مجاهد وقتادة : من المسحورين المخدوعين ، أي : ممن سحر مرة بعد مرة . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أي : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ، يقال : سحره ، أي : علله بالطعام والشراب ، يريد : إنك تأكل الطعام والشراب ولست بملك ، بل : ( ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية ) على صحة ما تقول ، ( إن كنت من الصادقين ) أنك رسول الله إلينا . ( قال هذه ناقة لها شرب ) حظ ونصيب من الماء ، ( ولكم شرب يوم معلوم )
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #320
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (315)
    الجزء السادس
    - تفسير البغوى

    سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
    مَكِّيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعَ آيَاتٍ

    الاية156 إلى الاية 215

    [ ص: 126 ] ( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم ( 156 ) فعقروها فأصبحوا نادمين ( 157 ) فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 158 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 159 ) ) ( كذبت قوم لوط المرسلين ( 160 ) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون ( 161 ) إني لكم رسول أمين ( 162 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 163 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 164 ) أتأتون الذكران من العالمين ( 165 ) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ( 166 ) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ( 167 ) قال إني لعملكم من القالين ( 168 ) رب نجني وأهلي مما يعملون ( 169 ) فنجيناه وأهله أجمعين ( 170 ) إلا عجوزا في الغابرين ( 171 ) )

    ( ولا تمسوها بسوء ) بعقر ، ( فيأخذكم عذاب يوم عظيم فعقروها فأصبحوا نادمين ) على عقرها حين رأوا العذاب . ( فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله تعالى : ( كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أتأتون الذكران ) قال مقاتل : يعني جماع الرجال . ( من العالمين ) يعني من بني آدم . ( وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم ) قال مجاهد : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال ، ( بل أنتم قوم عادون ) معتدون ، مجاوزون الحلال إلى الحرام . ( قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ) من قريتنا . ( قال إني لعملكم من القالين ) المبغضين ، ثم دعا فقال : ( رب نجني وأهلي مما يعملون ) من العمل الخبيث . قال الله تعالى : ( فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ) وهي امرأة لوط ، بقيت في العذاب والهلاك .
    [ ص: 127 ] ( ثم دمرنا الآخرين ( 172 ) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ( 173 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 174 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 175 ) كذب أصحاب الأيكة المرسلين ( 176 ) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون ( 177 ) إني لكم رسول أمين ( 178 ) فاتقوا الله وأطيعون ( 179 ) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ( 180 ) أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ( 181 ) وزنوا بالقسطاس المستقيم ( 182 ) ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ( 183 ) )

    ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ( 184 ) )

    ( ثم دمرنا الآخرين ) أي : أهلكناكم . ( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ) قال وهب بن منبه : الكبريت والنار . ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ) ( كذب أصحاب الأيكة المرسلين ) وهم قوم شعيب عليه السلام ، قرأ العراقيون : " الآيكة " هاهنا وفي " ص " بالهمزة وسكون اللام وكسر التاء ، وقرأ الآخرون : " ليكة " بفتح اللام والتاء غير مهموز ، جعلوها اسم البلد ، وهو لا ينصرف ، ولم يختلفوا في سورة " الحجر " و " ق " أنهما مهموزان مكسوران ، والأيكة : الغيضة من الشجر الملتف . ( إذ قال لهم شعيب ) ولم يقل أخوهم; لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم ، وكان الله تعالى بعثه إلى قومه أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة . ) ( ألا تتقون ) ( إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) وإنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء كلهم فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على الدعوة وتبليغ الرسالة . ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ) الناقصين لحقوق الناس بالكيل والوزن . [ ص: 128 ] ) ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة ) الخليقة ، ) ( الأولين ) يعني : الأمم المتقدمين ، والجبلة : الخلق ، يقال : جبل أي : خلق .
    ( قالوا إنما أنت من المسحرين ( 185 ) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين ( 186 ) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ( 187 ) قال ربي أعلم بما تعملون ( 188 ) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ( 189 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 190 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 191 ) وإنه لتنزيل رب العالمين ( 192 ) نزل به الروح الأمين ( 193 ) على قلبك لتكون من المنذرين ( 194 ) بلسان عربي مبين ( 195 ) )

    ( قالوا إنما أنت من المسحرين ( 185 ) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين ( 186 ) فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ( 187 ) قال ربي أعلم بما تعملون ( 188 ) ) أي : من نقصان الكيل والوزن ، وهو مجازيكم بأعمالكم ، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة . ) ( فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة ) وذلك أنه أخذهم حر شديد ، فكانوا يدخلون الأسراب فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا فخرجوا ، فأظلتهم سحابة ، وهي الظلة ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا ، ذكرناه في سورة هود . ( إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) قوله - عز وجل - : ) ( وإنه ) يعني القرآن . ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ) قرأ أهل الحجاز ، وأبو عمرو ، وحفص : " نزل " خفيف ، " الروح الأمين " برفع الحاء والنون ، أي " نزل جبريل بالقرآن . وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وفتح الحاء والنون أي : نزل الله به جبريل ، لقوله - عز وجل - : " وإنه لتنزيل رب العالمين " . ) ( على قلبك ) يا محمد حتى وعيته ، ( لتكون من المنذرين ) المخوفين . ( بلسان عربي مبين ) [ قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه ] .
    [ ص: 129 ] ( وإنه لفي زبر الأولين ( 196 ) أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ( 197 ) ولو نزلناه على بعض الأعجمين ( 198 ) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ( 199 ) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ( 200 ) )

    ( وإنه ) أي : ذكر إنزال القرآن ، قاله أكثر المفسرين . وقال مقاتل : ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعته ، ( لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية ) [ قرأ ابن عامر : " تكن " بالتاء " آية " بالرفع ، جعل الآية اسما وخبره : ) ( أن يعلمه ) وقرأ الآخرون بالياء ، " آية " نصب ، جعلوا الآية خبر يكن ، معناه : أولم يكن لهؤلاء المنكرين علم بني إسرائيل آية ، أي : علامة ودلالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لأن العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل ، كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم ، وهم : عبد الله بن سلام وأصحابه . قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : إن هذا لزمانه ، وإنا نجد في التوراة نعته وصفته ، فكان ذلك آية على صدقه .

    قوله تعالى : ) ( أن يعلمه ) يعني : يعلم محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ( علماء بني إسرائيل ) قال عطية : كانوا خمسة : عبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة ، وأسد ، وأسيد . ) ( ولو نزلناه ) يعني القرآن ، ) ( على بعض الأعجمين ) جمع الأعجمي ، وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان عربيا في النسب ، والعجمي : منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا . ومعنى الآية : ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان . ) ( فقرأه عليهم ) بغير لغة العرب ، ( ما كانوا به مؤمنين ) وقالوا : ما نفقه قولك ، نظيره قوله - عز وجل - : " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " ( فصلت - 44 ) ، وقيل : معناه ولو نزلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتباعه . ( كذلك سلكناه ) قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد : أدخلنا الشرك والتكذيب ( في قلوب المجرمين )
    [ ص: 130 ] ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ( 201 ) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون ( 202 ) فيقولوا هل نحن منظرون ( 203 ) أفبعذابنا يستعجلون ( 204 ) أفرأيت إن متعناهم سنين ( 205 ) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ( 206 ) ( ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ( 207 ) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ( 208 ) ذكرى وما كنا ظالمين ( 209 ) وما تنزلت به الشياطين ( 210 ) وما ينبغي لهم وما يستطيعون ( 211 ) إنهم عن السمع لمعزولون ( 212 ) فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ( 213 )

    ( لا يؤمنون به ) أي : بالقرآن ( حتى يروا العذاب الأليم ) يعني : عند الموت . ) ( فيأتيهم ) يعني : العذاب ) ( بغتة ) فجأة ) ( وهم لا يشعرون ) به في الدنيا . ( فيقولوا هل نحن منظرون ) أي : لنؤمن ونصدق ، يتمنون الرجعة والنظرة . قال مقاتل : لما أوعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب ، قالوا : إلى متى توعدنا بالعذاب ؟ متى هذا العذاب ؟ قال الله تعالى : ( أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ) كثيرة في الدنيا ، يعني : كفار مكة ، ولم نهلكهم . ( ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ) يعني : بالعذاب . ( ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) به في تلك السنين . والمعنى : أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئا ، ويكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط . ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) رسل ينذرونهم . ) ( ذكرى ) محلها نصب ، أي : ينذرونهم ، تذكرة ، وقيل : رفع أي : تلك ذكرى ( وما كنا ظالمين ) في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم . ( وما تنزلت به الشياطين ) وذلك أن المشركين كانوا يقولون إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال جل ذكره : " وما تنزلت به " ، أي : بالقرآن ، الشياطين . ) ( وما ينبغي لهم ) أن ينزلوا بالقرآن ) ( وما يستطيعون ) ذلك . ) ( إنهم عن السمع ) أي : عن استراق السمع من السماء ) ( لمعزولون ) أي : محجوبون بالشهب مرجومون . ( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يحذر [ ص: 131 ] به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق علي ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك .
    ( وأنذر عشيرتك الأقربين ( 214 ) )

    ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) روى محمد بن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، عن عبد الله بن عباس ، عن علي بن أبي طالب . قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا علي إن الله يأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمت عليها جاءني جبريل ، فقال لي : يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك ، فاصنع لنا صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به " . قال علي رضي الله عنه : ففعلت ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به ، فلما وضعته تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جذبة من اللحم ، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : " خذوا باسم الله " فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ، ثم قال : " اسق القوم " فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا جميعا ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم ، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال الغد : " يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القوم فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم " ، ففعلت ثم جمعتهم فدعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة . وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فأحجم القوم عنها جميعا ، فقلت - وأنا أحدثهم سنا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . قال : فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا " ، فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع . [ ص: 132 ]

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش ، حدثنا عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) " ورهطك منهم المخلصين " خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا ، فهتف يا صاحباه ، فقالوا : من هذا ؟ فاجتمعوا إليه فقال : " أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من صفح هذا الجبل أكنتم مصدقي " ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب : تبا لك ما جمعتنا إلا لهذا ، ثم قام : فنزلت " تبت يدا أبي لهب وقد تب " هكذا قرأ الأعمش يومئذ .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزلت ) ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) صعد النبي على الصفا فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا ، قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب
    [ ص: 133 ] ) ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( 215 )

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن أبا هريرة قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) فقال : " يا معشر قريش ، أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا " .

    أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرني جدي أبو سهل بن عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أخبرنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - عز وجل - أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، وإنه قال : إن كل مال نحلته عبادي فهو لهم حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإن الله تعالى أمرني أن أخوف قريشا ، فقلت : يا رب إنهم إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة ، فقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وقد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه في المنام واليقظة ، فاغزهم نغزك ، وأنفق ننفق عليك ، وابعث جيشا نمددك بخمسة أمثالهم ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، ثم قال : أهل الجنة ثلاثة : إمام مقسط ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له ، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون بذلك أهلا ولا مالا ورجل إن أصبح أصبح يخادعك عن أهلك ومالك ، ورجل لا يخفى له طمع - وإن دق - إلا ذهب به ، والشنظير الفاحش . قال : وذكر البخل والكذب " . قوله - عز وجل - : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •