تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 15 من 18 الأولىالأولى ... 56789101112131415161718 الأخيرةالأخيرة
النتائج 281 إلى 300 من 345

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #281
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 279)

    من صــ 386 الى صـ 400





    فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت، فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن، وهو روح القدس، فيكون أقنومين، لا أقنوما واحدا، وقد تقدم تناقضهم في هذا.
    والمقصود هنا، أنهم إذا قالوا: إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم، فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها، وذلك هو معنى النكاح والازدواج.
    وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت، وهي أم اللاهوت، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله.
    واللاهوت الذي ولدته مريم هو - عندهم - رب العالمين، واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم، من حين خلق الناسوت في بطن مريم، لم يحدث بعد الولادة.
    فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه، فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى، وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة.
    فإن جاز أن يكون للاهوت أم والأم أصل، فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير - أقرب وأولى، فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء، وهو المتفرع المتولد عنه، أنقص بالنسبة إليه من نظيره.
    فإذا قالوا: إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر، وقالوا: إن الناسوت أم هذا المسيح الذي
    هو الله وهو ابن الله، وقالوا: إن الناسوت مريم، ولد اللاهوت، كما ولد الناسوت، ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه، فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها، وولدت اللاهوت - صاحبة وزوجة للأب، أولى وأحرى، وإلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته؟
    وهم يقولون: نحن سمينا علمه مولودا عنه ; لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل، وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا.
    وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا.
    فإنهم يقولون: هؤلاء أبناء بالوضع، والمسيح ابن بالطبع ; أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته ; لأنه اصطفاهم، والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح، هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا قالوا: مولود غير مصنوع، فإن القديم الأزلي - مع كونه قائما بذاته - لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء، ولا القائلين بقدم العالم.
    فإذا كانت الكلمة اتحدت بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به، فإذا قيل - مع ذلك -: إن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره، كان أيسر من هذا كله.
    والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم، غير الولادة القديمة التي للكلمة، فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة، بل نكحت نكاحا

    حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة، قال تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101] ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد.
    فمن قال: إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره، كما يحل الماء في اللبن، كان أهون ممن يقول: إنه اتحد به والتحم به.
    فإذا قيل: إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته، كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها.
    ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته، أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث، ومصيره إياه، إما جوهرا واحدا، وإما شخصا واحدا، وإما مشيئة واحدة.
    ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية.
    فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى، فإنما مس الذكر للأنثى، لم تصر الأنثى متولدة عنه. فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به، وهو محدث مخلوق، فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرى.
    وإذا قالوا: إن المسيح إنما كان ابنا ; لأن الكلمة القديمة التي هي ابن، اتحدت به قبل، فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم، باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا، فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله، صاحبة لله وزوجة، باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي؟
    الوجه الخامس عشر: أن يقال: لفظ الابن وروح القدس، قد جاء في حق غير المسيح - عندكم - حتى الحواريين عندكم يقولون: إن المسيح قال لهم: (إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم)، ويقولون: إن روح القدس تحل فيهم.
    وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى: (اذهب إلى فرعون، فقل له: يقول لك الرب: إسرائيل ابني بكري، أرسله يعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني بكري، قتلت ابنك بكرك. فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله، قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير، إلى الأول من أولاد الآدميين، إلى ولد الحيوان إليهم.)
    فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره، وتسمي
    أبناء أهل مصر أبناء فرعون، فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان.
    وفي مزامير داود يقول: (أنت ابني، سلني أعطك). وفي الإنجيل يقول عن المسيح: (أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، وقال: (إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء، قدوس اسمك، افعل بنا كذا وكذا).

    ويقولون عن القديسين: إن روح القدس يحل فيهم، وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء، بل عندهم: إن الله يحل في الصديقين كلهم.
    فإن كان الابن وروح القدس، يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت، وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا، وكذلك الأنبياء، فيكون النبي لاهوتا وناسوتا ; لأنه قد سمي عندكم ابن الله، ونطقت فيه روح القدس، لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة: إنه روح ممجد مسجود له، ناطق في الأنبياء.
    فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده، لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء، بل والحواريين، بل وأبناء إسرائيل - لاهوتا وناسوتا، إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به، أو سكن فيه، أو احتجب به، أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح، كلفظ الابن وروح القدس - موجود عندكم في غير حق المسيح.
    والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح، قد وجدت لغير المسيح.
    ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح - عليه السلام - أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم، وأفضل من الحواريين.
    لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة، كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد - صلوات الله عليهم وسلامه -، وذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل، كما قال تعالى: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} [المائدة: 75] وقال تعالى: {وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم - أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة} [المائدة: 72 - 75].
    وجماع هذا الجواب: أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله، وكون الله حل فيه، أو ظهر أو سكن، وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه، وكونه مسيحا - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح.
    فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ، وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة، وكونه تجسد من روح القدس، وهذا هو الذي خصه به القرآن، فإن الله قال:
    {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء: 171].
    وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) " فهذا الذي خصه به القرآن، هو الذي خصته الكتب المتقدمة، إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

    وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا، فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا، ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول، مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن، فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد، فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره، كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ " الأقانيم " ولا لفظ " التثليث " ولا " اللاهوت " و " الناسوت " ولا تسمية الله جوهرا، بل هذا كله مما ابتدعوه، كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس، فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء، أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم، وحملوا مرادهم عليها.
    والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة - عندهم - في حق غير المسيح.
    فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله، وتلك الألفاظ قد عرف - باتفاقهم واتفاق المسلمين -، أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم.
    ومن قال من ضلال المسلمين: (إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء، وإن هذا من السر الذي لا يباح به، فقوله من جنس قول النصارى في المسيح، وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد، فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد، ومنهم من يقول: إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ويقول الأول:
    ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
    توحيد من ينطق عن نعته
    عارية أبطلها الواحد ... توحيده إياه توحيده
    ونعت من ينعته لاحد
    ومن هؤلاء من يقول: إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره، وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون، فلا يبوحون بها إلا لخواصهم.
    ومنهم من يقول: إنما قتل الحلاج ; لأنه باح بهذا السر وينشدون:
    من باح بالسر كان القتل شيمته ... بين الرجال ولم يؤخذ له ثار
    وأمثال ذلك.
    وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح، شر من النصارى.
    فإن المسيح - صلوات الله عليه - أفضل من كل من ليس بنبي، بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين.
    فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا، فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه؟
    وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان، أو متحد بكل شيء.
    وغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون: إنه عين الوجود، والوجود واحد.
    فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب، هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن.
    وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي، وصاحبه الصدر القونوي، وصاحبه العفيف التلمساني، وابن سبعين، وصاحبه الششتري، وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء.
    وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيح.
    وحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله، كما قال فرعون: {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] وقال: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]
    فإن فرعون ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، لكن ينكر أن له صانعا مباينا له خلقه، وهؤلاء موافقون لفرعون في ذلك.
    لكن فرعون أظهر الجحود والإنكار، فلم يقل " الوجود المخلوق هو الخالق ".
    وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق، وأن الوجود المخلوق هو الخالق، وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب.
    وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم، كابن الفارض في قصيدته المسماة " بنظم السلوك " حيث يقول:
    لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
    كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
    وما كان لي صلى سواي ولم تكن
    صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
    إلى أن قال:
    وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

    وقوله:
    إلي رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت
    فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت
    وقد رفعت ياء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
    إلى أمثال هذه الأبيات.
    وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله:
    وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق
    والتلمساني الملقب بالعفيف، كان من أفجر الناس، وكان أحذق هؤلاء الملاحدة.
    ولما قرئ عليه كتاب " فصوص الحكم " لابن عربي قيل له: هذا الكلام يخالف القرآن، قال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا.
    فقيل له: إذا كان الوجود واحدا، فلماذا تحرم علي أمي وتباح لي امرأتي؟
    فقال: الجميع عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
    وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا.
    فإن قوله: (هؤلاء المحجوبون) وقوله: (قلنا حرام عليكم)، يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين، وبين المخاطب والمخاطب، وهذا يناقض وحدة الوجود.
    وإذا قالوا: (هذه مظاهر للحق ومجال) فإن كان الظاهر غير المظهر، والمجلى غير المتجلي، فقد ثبت التعدد، وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا، وإن جعلوهما واحدا، فقد بطل جوابهم.
    (ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (67)
    [فصل البرهان الثاني " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي: " البرهان الثاني: قوله تعالى: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [سورة المائدة: 67]، اتفقوا في نزولها في علي. وروى أبو نعيم الحافظ - من الجمهور - بإسناده عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في علي بن أبي طالب. ومن تفسير
    الثعلبي قال: معناه: بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي، فلما نزلت هذه الآيه «أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه». والنبي - صلى الله عليه وسلم - مولى أبي بكر وعمر وباقي الصحابة بالإجماع، فيكون علي مولاهم، فيكون هو الإمام.
    ومن تفسير الثعلبي: «لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه " فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته، حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في ملأ من الصحابة، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ; فقبلنا منك.





  2. #282
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 280)

    من صــ 401 الى صـ 415





    وَأَمَرَتْنَا أَنْ نَحُجَّ الْبَيْتَ فَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ. ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه. وهذا منك أم من الله؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله الذي لا إله إلا هو هو من أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع}. {للكافرين ليس له دافع من الله}» [سورة المعارج: 1 - 3]. وقد روى هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره ".
    والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا أعظم كذبا وفرية من الأول، كما سنبينه - إن شاء الله تعالى -. وقوله: " اتفقوا على نزولها في علي " أعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه. فلم يقل لا هذا ولا ذاك أحد من العلماء، الذين يدرون ما يقولون.
    وأما ما يرويه أبو نعيم في " الحلية " أو في " فضائل الخلفاء " والنقاش والثعلبي والواحدي ونحوهم في التفسير، فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع، واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع، وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع، وليس [الثعلبي] من أهل العلم * بالحديث.
    ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب *، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يعرفون به،
    والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدرا، وأعظمهم صدقا، وأعلاهم منزلة، وأكثر دينا.

    وهم من أعظم الناس صدقا وأمانة، وعلما وخبرة، فيما يذكرونه عن الجرح والتعديل، مثل مالك، وشعبة، وسفيان، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن المبارك، ووكيع، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والعجلي، وأبي أحمد بن عدي، وأبي حاتم البستي، والدارقطني، وأمثال هؤلاء: خلق كثير لا يحصى عددهم، من أهل العلم بالرجال والجرح والتعديل، وإن كان بعضهم أعلم بذلك من بعض، وبعضهم أعدل من بعض في وزن كلامه، كما أن الناس في سائر العلوم كذلك.

    وقد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار: كبارا وصغارا، مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخي البخاري، والكتب المنقولة عن أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهما. وقبلها عن يحيى بن سعيد القطان وغيره، وكتاب يعقوب بن سفيان، وابن أبي خيثمة، وابن أبي حاتم، وكتاب ابن عدي، وكتب أبي حازم وأمثال ذلك.
    وصنفت كتب الحديث تارة على المساند، فتذكر ما أسنده الصاحب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كمسند أحمد، وإسحاق، وأبي داود الطيالسي، وأبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أبي عمر، والعدني، وأحمد بن منيع، وأبي يعلى الموصلي، وأبي بكر البزار البصري، وغيرهم.
    وتارة على الأبواب، فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وأبي حاتم وغيرهم. وكذلك من خرج على الصحيحين، كالإسماعيلي والبرقاني وأبي نعيم وغيرهم. ومنهم من خرج أحاديث السنن، كأبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. ومنهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل وغيرها، كالترمذي وغيره.
    وهذا علم عظيم من أعظم علوم الإسلام. ولا ريب أن الرافضة أقل معرفة بهذا الباب، وليس في أهل الأهواء والبدع أجهل منهم به، فإن سائر أهل الأهواء - كالمعتزلة والخوارج - * مقصرون في معرفة هذا، ولكن المعتزلة، أعلم بكثير من الخوارج، والخوارج أعلم بكثير من الرافضة، والخوارج * أصدق من الرافضة وأدين وأورع، بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب، بل هم [من] أصدق الناس.
    والمعتزلة - مثل سائر الطوائف - فيهم من يكذب وفيهم من يصدق، لكن ليس لهم من العناية بالحديث ومعرفته ما لأهل الحديث والسنة، فإن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق.

    وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها، ولا يذكرون الحديث، بل ولا القرآن، في أصولهم [إلا] للاعتضاد لا للاعتماد.
    والرافضة أقل معرفة وعناية بهذا، إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد ولا في سائر الأدلة الشرعية والعقلية: هل توافق ذلك أو تخالفه؟ ولهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط، بل كل إسناد متصل لهم، فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط.
    وهم في ذلك شبيه باليهود والنصارى، فإنه ليس لهم إسناد. والإسناد من خصائص هذه الأمة، وهو من خصائص الإسلام، ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة. والرافضة من أقل الناس عناية ; إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم، وعلامة كذبه أنه يخالف هواهم ; ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم.

    ثم إن أولهم كانوا كثيري الكذب، فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم، فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع، والاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد.
    فيقال: ما يرويه مثل أبي نعيم والثعلبي والنقاش وغيرهم: أتقبلونه مطلقا؟ أم تردونه مطلقا؟ أم تقبلونه إذا كان لكم [لا عليكم]، وتردونه إذا كان عليكم؟ فإن تقبلوه مطلقا، ففي ذلك أحاديث كثيره في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان تناقض قولكم. وقد روى أبو نعيم في أول " الحلية " في فضائل الصحابة، وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفة، بل منكرة. وكان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله، لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب، لا يعرف أنه روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير، والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، والمصنف الذي يذكر حجج الناس، ليذكر ما ذكروه، وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته، بل يعتقد ضعفه ; لأنه يقول: أنا نقلت ما ذكر غيري، فالعهدة على القائل لا على الناقل.
    وهكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات، وفضائل الأوقات، وغير ذلك: يذكرون أحاديث كثيرة وهي ضعيفة، بل موضوعة، باتفاق أهل العلم، كما يذكرون [أحاديث] في فضل صوم رجب كلها ضعيفة، بل موضوعة، عند أهل العلم. ويذكرون صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة منه، وألفية نصف شعبان، وكما يذكرون في فضائل عاشوراء ما ورد من التوسعة على العيال، وفضائل المصافحة والحناء والخضاب والاغتسال ونحو ذلك، ويذكرون فيها صلاة.
    وكل هذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه. قال حرب الكرماني: قلت لأحمد بن حنبل: الحديث الذي يروى: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته»؟ فقال: لا أصل له.
    وقد صنف في فضائل الصحابة - علي وغيره - غير واحد، مثل خيثمة بن سليمان الأطرابلسي وغيره. وهذا قبل أبي نعيم. يروي عنه إجازة. وهذا وأمثاله جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب: أنه يروي ما سمعه في هذا الباب.

    وهكذا المصنفون في التواريخ، مثل " تاريخ دمشق " لابن عساكر وغيره، إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة، أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب، فيذكر لعلي ومعاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب، ولكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين وغيرهما، ومعاوية ليس له بخصوصه فضيلة في الصحيح، لكن قد شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينا والطائف وتبوك، وحج معه حجة الوداع، وكان يكتب الوحي، فهو ممن ائتمنه النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتابة الوحي، كما ائتمن غيره من الصحابة.

    فإذا كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء وأمثالهم في كتبهم، فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم. وإن كان يرد الجميع، بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث [بدون المذهب] إليهم. وإن قال: أقبل ما يوافق مذهبي وأرد ما يخالفه، أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا، [وكلاهما] باطل، لا يجوز أن يحتج على * صحة مذهب بمثل هذا، فإنه يقال: إن كنت إنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب، فاذكر ما يدل على * صحته، وإن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب، امتنع تصحيح الحديث بالمذهب ; لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث، وصحة الحديث موقوفة على صحة المذهب، فيلزم الدور الممتنع.
    وأيضا فالمذهب: إن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق، لم يلزم صحة هذا الطريق. فإن الإنسان قد يكذب على غيره قولا، وإن كان ذلك القول حقا، فكثير من الناس يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا هو حق في نفسه، لكن لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، وإن كنت إنما عرفت صحته بهذا الطريق، امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته ; لإفضائه إلى الدور.
    فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب، سواء كان المذهب معلوم الصحة، أو غير معلوم الصحة.
    وأيضا فكل من له أدنى علم وإنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق وكذب، وأن الناس كذبوا في المثالب والمناقب، كما كذبوا في غير ذلك، وكذبوا فيما يوافقه ويخالفه.
    ونحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبى بكر وعمر وعثمان، كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل علي، وليس في أهل الأهواء أكثر كذبا من الرافضة، بخلاف غيرهم، فإن الخوارج لا يكادون يكذبون، بل هم من أصدق الناس مع بدعتهم وضلالهم.
    وأما أهل العلم والدين فلا يصدقون بالنقل ويكذبون [به] بمجرد موافقة ما يعتقدون، بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته وأصحابه، فيردونها لعلمهم بأنها كذب، ويقبلون أحاديث كثيرة لصحتها، وإن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه: إما لاعتقادهم أنها منسوخة، أو لها تفسير لا يخالفونه، ونحو ذلك.
    فالأصل في النقل أن يرجع فيه إلى أئمة النقل وعلمائه، ومن يشركهم في علمهم علم ما يعلمون، وأن يستدل على الصحة والضعف بدليل منفصل عن الرواية، فلا بد من هذا وهذا. وإلا فمجرد قول القائل: " رواه فلان " لا يحتج به: لا أهل السنة ولا الشيعة، وليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف، فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته.

    ومجرد عزوه إلى رواية الثعلبي ونحوه ليس دليلا على صحته باتفاق أهل العلم بالنقل. ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي ترجع الناس إليها في الحديث، لا [في] الصحاح ولا في السنن ولا المسانيد وغير ذلك ; لأن كذب مثل هذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث.
    وإنما هذا عند أهل العلم بمنزلة ظن من يظن من العامة - وبعض من يدخل في غمار الفقهاء - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على أحد المذاهب الأربعة، وأن أبا حنيفة ونحوه كانوا من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كما يظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة وينقلونها بينهم، والعلماء متفقون على أنه لم يشهد إلا بدرا وأحدا وقتل يوم أحد، ومثل ما يظن كثير من الناس أن في مقابر دمشق من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة وغيرها، ومن أصحابه أبي بن كعب، وأويس القرني وغيرهما.
    وأهل العلم يعلمون أن أحدا من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدم دمشق، ولكن كان في الشام أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري، وكان أهل الشام يسمونها أم سلمة، فظن الجهال أنها أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبي بن كعب مات بالمدينة. وأويس تابعي لم يقدم الشام.
    ومثل من يظن من الجهال أن قبر علي بباطن النجف. وأهل العلم - بالكوفة وغيرها - يعلمون بطلان هذا، ويعلمون أن عليا ومعاوية وعمرو بن العاص كل منهم دفن في قصر الإمارة ببلده، خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوه، فإنهم كانوا تحالفوا على قتل الثلاثة، فقتلوا عليا وجرحوا معاوية.
    وكان عمرو بن العاص قد استخلف رجلا يقال له خارجة، فضربه القاتل يظنه عمرا فقتله، فتبين أنه خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، فصار مثلا.
    ومثل هذا كثير مما يظنه كثير من الجهال. وأهل العلم بالمنقولات يعلمون خلاف ذلك.
    الوجه الثاني: أن نقول: في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة ; فإن فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيدي علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وأن هذا قد شاع وطار بالبلاد، وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، وأنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته وهو في الأبطح وأتى وهو في ملأ من الصحابة، فذكر أنهم امتثلوا أمره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم قال: " ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا " وقلت: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؟ وهذا منك أم من الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو من أمر الله، فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله: {سأل سائل بعذاب واقع - للكافرين} [سورة المعارج: 1، 2] الآية.

    فيقال لهؤلاء الكذابين: أجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع. والشيعة تسلم هذا، وتجعل ذلك اليوم عيدا وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرجع إلى مكة بعد ذلك، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة، وعاش تمام ذي الحجة والمحرم وصفر، وتوفي في أول ربيع الأول.
    وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد، جاءه الحارث وهو بالأبطح، والأبطح بمكة، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم.
    وأيضا فإن هذه السورة - سورة سأل سائل - مكية باتفاق أهل العلم، نزلت بمكة قبل الهجرة، فهذه نزلت قبل غدير خم بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف [تكون] نزلت بعده؟.





  3. #283
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 281)

    من صــ 416 الى صـ 430





    وأيضا قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [سورة الأنفال: 32] في سورة الأنفال، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} أي اذكر قولهم، كقوله: {وإذ قال ربك للملائكة} [سورة البقرة: 30]، {وإذ غدوت من أهلك} [سورة آل عمران: 121]، ونحو ذلك: يأمره بأن يذكر كل ما تقدم. فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة.
    وأيضا فإنهم لما استفتحوا بين الله أنه لا ينزل عليهم العذاب ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ; فقال:{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [سورة الأنفال: 32] ثم قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [سورة الأنفال: 33] واتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل، ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
    ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم، فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم: لا المسند، ولا الصحيح، ولا الفضائل، ولا التفسير، ولا السير ونحوها، إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر - علم أنه كذب وباطل.
    وأيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس، وعلى هذا فقد كان مسلما فإنه قال: " فقبلناه منك. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبه هذا.

    وأيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة. وقد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث، حتى في الأحاديث الضعيفة، مثل كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر، وكتاب ابن منده، وأبي نعيم الأصبهاني، والحافظ أبي موسى، ونحو ذلك. ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل، فعلم أنه ليس له ذكر في شيء من الروايات، فإن هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم، لا يذكرون أحاديث الطرقية، مثل " تنقلات الأنوار " للبكري الكذاب وغيره.

    الوجه الثالث: أن يقال: أنتم ادعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا ; فإنه قال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [سورة المائدة: 67]. وهذا اللفظ عام في جميع ما أنزل إليه من ربه، لا يدل على شيء معين.
    فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن، فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقرآن. فمن ادعى أن القرآن يدل على [أن] إمامة علي مما أمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا.
    الوجه الرابع: أن يقال: هذه الآية، مع ما علم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزلها عليه، ولم يأمره بها، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه، لبلغه ; فإنه لا يعصي الله في ذلك.
    ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: " من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [سورة المائدة: 67].

    لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ شيئا من إمامة علي، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم.
    منها: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنقل، كما نقل أمثاله من حديثه، لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي، من الكذب الذي لا أصل له، فكيف لا ينقل الحق [الصدق] الذي قد بلغ للناس؟!.
    ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
    ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأنكر ذلك عليه، وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة في [مواطن] متفرقة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في: " أن «الإمامة في قريش» "
    ولم يرو واحد منهم: لا في ذلك المجلس ولا غيره، ما يدل على إمامة علي.
    وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف - من بني أمية وبني هاشم وغيرهم - لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص. وهكذا أجري الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضا لما صارت له ولاية، ولم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك.
    وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون عليا ويحبونه، ويقولون: إنه كان الخليفة بعد عثمان، كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم، وقالوا: كان زمانه زمان فتنة واختلاف بين الأمة، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره.
    وقال طوائف من الناس كالكرامية: بل هو كان إماما ومعاوية إماما، وجوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة. وهكذا قالوا في زمن ابن الزبير ويزيد، حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام.
    وأحمد بن حنبل، مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث، احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن: " «تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا» ".
    وبعض الناس ضعف هذا الحديث، لكن أحمد وغيره يثبتونه، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به.
    فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص، هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا قديما ولا حديثا.
    ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة.
    وقد جرى تحكيم الحكمين، ومعه أكثر الناس، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص، مع كثرة شيعته، ولا فيهم من احتج به، في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص.

    ومعلوم أنه لو كان النص معروفا عند شيعة علي - فضلا عن غيرهم - ; لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم: هذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، فيجب تقديمه على معاوية.
    وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين، لو علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليه لم يستحل عزله، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول: كيف تعزل من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته؟.
    وقد احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " «تقتل عمارا الفئة الباغية» " وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم، وليس هذا متواترا. والنص عند القائلين به متواتر، فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث، ولم يحتج أحد منهم بالنص؟.
    (فصل في حديث الغدير)
    قال الرافضي: الثاني الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) «خطب الناس في غدير خم، وقال للجمع كله: يا أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»، فقال عمر: بخ بخ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أولى منكم بأنفسكم؟
    والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم، وبينا أن هذا كذب، وأن قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل قبل حجة (الوداع) بمدة طويلة.
    ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث، ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (سورة المائدة: 3)، وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.

    وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (سورة المائدة: 42)، وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء، ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.

    والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر، وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.
    فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم.
    وأيضا، فإن الله تعالى قال في كتابه: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67) فضمن له سبحانه أنه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ; ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك.
    وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ، وفي حجة الوداع تم التبليغ.
    «وقال في حجة الوداع: " ألا هل بلغت ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: " اللهم اشهد "، وقال لهم: " أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إلى الأرض، ويقول: " اللهم اشهد، اللهم اشهد» "، وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة.
    وقال: " «ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» ".
    فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدم، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع ; لأنه قد بلغ قبل ذلك، ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه، بل بعد حجة الوداع كان أهل مكة والمدينة، وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم كافر، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق، ليس فيهم من يحاربه، ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67).

    وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه، كالذي بلغه في حجة الوداع، فإن كثيرا من الذين حجوا معه - أو أكثرهم - لم يرجعوا معه إلى المدينة، بل رجع أهل مكة إلى مكة، وأهل الطائف إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم، وإنما رجع (معه). أهل المدينة ومن كان قريبا منها.
    فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج، لبلغه في حجة الوداع كما بلغ غيره، فلما لم يذكر في حجة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر إمامة علي، بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام - علم أن إمامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة، وحديث الثقلين، ونحو ذلك مما يذكر في إمامته.

    والذي رواه مسلم أنه. بغدير خم قال: " «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله» " فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: «وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله (في أهل بيتي») ثلاثا، وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: " «وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ".
    وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقال: إنها ليست من الحديث. والذين اعتقدوا صحتها قالوا: إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة، وهذا قاله طائفة من أهل السنة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره.
    والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتباع العترة، ولكن قال: " «أذكركم الله في أهل بيتي» "، وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم، والامتناع من ظلمهم، وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم.
    فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حق علي ولا غيره لا إمامته، ولا غيرها.
    لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي، وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» "، وأما الزيادة وهي قوله: " «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه». . . " إلخ فلا ريب أنه كذب.
    ونقل الأثرم في " سننه " عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، وأنه حدث بحديثين: أحدهما: قوله «لعلي: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ، والآخر: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب.
    وكذلك قوله: «أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة»، كذب أيضا.

    وأما قوله: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» " فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري، وإبراهيم الحربي، وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي، وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه.
    وقال ابن حزم: الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» "، وقوله: " «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» " وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل، وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليا " «لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق» "، وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم " «لا يبغضهم من يؤمن بالله، واليوم الآخر» ".





  4. #284
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 282)

    من صــ 431 الى صـ 445



    قال: " وأما " «من كنت مولاه فعلي مولاه» فلا يصح من طريق الثقات أصلا، وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها ".
    فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: «أنت مني، وأنا منك» "، وحديث المباهلة، والكساء.
    قيل: مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» "، «وقال لزيد: " أنت أخونا ومولانا» "، وحديث المباهلة، والكساء فيهما ذكر علي، وفاطمة، وحسن، وحسين - رضي الله عنهم - فلا يرد هذا على ابن حزم.
    ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده ; إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا.
    وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} (سورة المائدة: 55)، وقال: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (سورة التحريم: 4) * فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا، كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم، وأن * المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
    فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفار لا يحبون الله ورسوله، ويحادون الله ورسوله ويعادونه.
    وقد قال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (سورة الممتحنة: 1)، وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (سورة البقرة: 279).
    وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.

    والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
    وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطنا وظاهرا، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: * " «إن أسلم، وغفارا، ومزينة، وجهينة، وقريشا، والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله» "، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم * كما جعل صالح المؤمنين مواليه، والله ورسوله مولاهم.

    وفي الجملة فرق بين الولي، والمولى ونحو ذلك، وبين الوالي فباب الولاية التي هي ضد العداوة - شيء، وباب الولاية - التي هي الإمارة - شيء.
    والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعلي واليه، وإنما اللفظ: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» ".
    وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.
    وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قدر أنه نص على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعا ; لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة علي - لو قدر وجودها - لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد (به) الخلافة.
    وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة ; فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعلم أن هذا ليس هذا.

    وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا بعد موته، وصار له خليفة بنص، أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته.
    وأما كون علي، وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات علي، فعلي اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متوليا على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وأمواتا.

    (قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)
    [فصل: مواصلة الرد على النصارى بما قاله الحسن بن أيوب ثم بكلام ابن البطريق]
    قال الحسن بن أيوب: ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له: (أيها الخير، فقال: ليس الخير إلا الله وحده، قلت: وبعضهم يترجمه أيها الصالح، فقال: ليس الصالح إلا الله وحده). قال: ومثله قوله في الإنجيل: (إني لم آت لأعمل بمشيئتي، لكن بمشيئة من أرسلني). قال: ولو كانت له مشيئة لاهوتية، كما يقولون، لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك.
    قال: ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله، ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه، وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله: (إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم، ويتولى الحكم بينهم، وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة، فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين، والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية، فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه، وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه، وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية، وهي الكلمة، وقد عادت إلى الله كما بدت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها.
    قال: ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها، هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت، ما هو؟ ومن أين أخذتموه؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ أو أي قول للمسيح تدعونه فيه؟ وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول " متى " التلميذ على المسيح
    عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم: (اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
    قال: وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل، وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم: صلاة فلان القديس تكون معك. ومعنى الصلاة: الدعاء. واسم فلان النبي يعينك على أمورك.
    وكما قال الله تبارك وتعالى:
    {ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]
    يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين، أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة؟
    قال: وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه، أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به، فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه

    الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة، وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد، وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح؟
    وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته، فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته، كما يقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه، فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وروحه روح القدس، وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير.
    وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه، فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه
    أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له، وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله، فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله، وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية.

    قال: وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم، أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة، لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها، وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة، وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس، وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين، وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا

    عنه مفروزا عنه؟ فكيف يصح على هذا القول قياس، أو يصح به عقد دين؟ تقولون مرة مجتمع، ومرة منفصل، وما شبهتموه به من الشمس، فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه، وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به.
    على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث: إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن " متى " التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه: (سيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس). وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا، ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا، لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي، والحي ينقسم لناطق ولا ناطق.
    وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق، فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية.
    فنقول لكم في ذلك: إذا كان الحي له حياة ونطق، فأخبرونا عنه: أتقولون أنه قادر عزيز، أم عاجز ذليل؟
    فإن قلتم: لا بل هو قادر عزيز، قلنا: فأثبتوا له قدرة وعزة، كما أثبتم له حياة وحكمة.
    فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك، لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه، قلنا لكم: وكذلك فقولوا: إنه حي بنفسه وناطق بنفسه، ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث، أو إثبات التخميس، وإلا فما الفرق؟ وهيهات من فرق.
    وقال الحسن بن أيوب أيضا: إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها، وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم، ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما يثبت لكم به حجة، ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم، ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال " متى " التلميذ: (إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال: ماذا يقول الناس في أني ابن البشر؟ فقالوا: منهم من يقول: إنك يوحنا المعمداني، وآخرون يقولون: إنك أرميا، أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: فأنتم ماذا تقولون؟ فأجابه سمعان الصفا، وهو رئيسهم، فقال: أنت المسيح ابن الله الحق. فأجابه المسيح وقال: طوبى لك يا سمعان ابن يونان، إنه لم يطلعك على
    هذا لحم ولا دم، ولكن أبي الذي في السماء).

    وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال: (إن سمعان أجابه فقال: أنت مسيح الله)، ولم يقل ابن الله، فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال.
    وقوله: إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله، ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين، وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا: (إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم)، فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى
    النبوة ونجعله مثل من سمي في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره، بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل: (أنت ابني بكري).

    وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب، وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه؟
    ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به، قوله في علم الساعة: (أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون، ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده)، ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له: (أيها العالم الصالح، أي الأعمال خير لي، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين؟ فقال له: لم تقول لي صالحا؟ ليس الصالح إلا الله وحده)، فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك.
    وقوله للمرأة التي جاءته فقالت: (أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟
    فقال لها المسيح: صدقت طوبى لك)، ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل، فقال: (أمرنا أن لا نجرب الرب)، ثم سامه أن يسجد له فقال: (أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده، ولا نعبد سواه)، ثم صلاته في غير وقت لله، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها، فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد؟
    ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم، وهي مدينة بيت المقدس على الأتان، لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به: (هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة)؟ ثم قوله في بعض الإنجيل: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته). وفي موضع آخر أنه قال: (لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه).
    وقوله في بعض خطبه: (إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه

    لا يعطى إلا آية يونس، كما كان يونس لأهل " نينوى ": كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل، رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم، لأنهم تابوا على قول يونس النبي، وإن هاهنا أفضل من يونس).
    ثم قول داود في نبوته عليه: (من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته
    دون الملائكة قليلا). ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة.






  5. #285
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 283)

    من صــ 446 الى صـ 460





    ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم: (امضوا فإني ألحق بكم، فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا: ما هذا الحال ويح، ومن الغرق صاحوا. فقال لهم يسوع: اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو، فأجابه شمعون الصفا وقال له: يا رب إن كنت أنت هو فأذن لي آتيك على الماء. فقال له: تعال، فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه، فلم يستطع وجعل يغرق، فصاح وقال: يا رب أغثني، فبسط يده يسوع فأخذه وقال له: لم تشككت يا قليل الأمانة؟). قال: فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا، ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان، وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه، وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها.
    وقال في الإنجيل، وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة، أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم، فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا
    من الجموع، لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي.
    وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا، وكانت من تلامذته مع ابنيها، فقال لها: (ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل، لأنه ليس لي أن أعطيه، ولكن من وعد له من أبي).
    قال الحسن بن أيوب: فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم، ما رضيتم بقوله في نفسه، ولا بقول تلامذته فيه، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله،
    وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي، فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا، واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم، ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم.
    فبينوا لنا حجتكم في ذلك، وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه.
    قال: ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا 55: (فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي) فبين أن الله - عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته، وهذا ما لا شك لكم فيه، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه، وفي الأكل والشرب
    والنعيم هناك، ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه: (أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر، ولكن: كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون)، ولم يقل: إني قادر أن أدفعهم عن نفسي، ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني، كما يقول من له القدرة والأمر.

    قال: ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام: إنه مولود من أبيه أزلي، ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها، لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به، ولا تجترئ النفوس على ركوب الشبهات فيه، والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له، فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله، إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي ; لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر.
    ومعنى المولود: أنه حادث مفعول، وكل مفعول فله أول، فكيف

    ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة.
    قال: ونسألكم أيضا عن واحدة، لم سميتم الأب أبا والابن ابنا؟ فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه، فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه، إذ كان قديما مثله، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها: إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده، وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا، فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول: ولد من أبيه، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا؟.
    ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح، أن " متى " التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم، فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل: إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله كما يقولون: فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية، فقد نسق " متى " على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا؟.
    ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها: إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.

    قال: ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان: أن يسوع المسيح بكر الخلائق، فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز، وهو محقق لقولنا في عبوديته، وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد، وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق.
    كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما، وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة، ولأن من المحال أن يقول قائل: بكر ولد آدم ملك من الملائكة، وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر المخلوقات ليس بمخلوق.

    وقد قال الله تعالى في التوراةيا ابني بكري) أي إسرائيل، وقال في موضع آخر: (إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن). فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول؟
    قال: وقلتم: إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع، فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود، فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا، وإن كان غير موجود وإنما هو حادث، لم يكن، فهو مخلوق كما قلنا.
    قال: ومما يبين قولنا في خلق المسيح: أن هذا الاسم إنما وقع له، لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى، وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه: (من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك) فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله، وأن ماسحه الله إلهه، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه، وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله: (من
    أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك. عهد الرب لداود بالحق، ولا يرجع عنه) يعني بمسيحه نفسه، لأن الله مسحه للنبوة والملك، وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره، فسمى نفسه مسيح الله.
    قال: وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى، وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح، وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات، ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته، فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل، لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل، ويستدل على ما غاب بما حضر، وعلى ما أشكل بما ظهر، فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في

    كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه، وأنه ليس كما تأولوه.
    ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال: (أنا بأبي)، وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه. قال " يوحنا " في إنجيله: (إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، وكما أنك أرسلتني إلى العالم، وكذلك أرسلهم أنا أيضا. ثم قال بعد هذا أيضا: إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فأنا بهم وأنت بي)

    قال: هو معنى ذلك أنه قال: أنت معي وأنت لي، كما أنا مع تلاميذي ولهم.
    قلت: أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم
    وأعلمهم. والباء للسببية، فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم، والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم، وقوله: ليكونوا شيئا واحدا: أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم، وهذا مفسر، وقد قال: ليكونوا هم شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه.
    وهذا يبين أن قوله: كما أنا شيء واحد، أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك، لم يرد بذلك اتحاد ذاته به، كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض، فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه.
    قال: أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم، كما أن أباه به، لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه، وأن أباه به إلى مشاركته في
    اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول، فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل، وهذا ما لا يكون ولا يجترئ على القول به أحد.
    قال: ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحد يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام، وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف، فمنهم من يقول: إنه عبد، ومنهم من يقول: إنه إله، ومنهم من يقول: إنه ولد، ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول: إنه أقنومان وطبيعتان.
    وكل منهم يكفر صاحبه ويقول: إن الحق في يده، وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه، ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة، وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله له المتأولون، بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض، فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له، ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم، سبحانه أنى يكون له ولد.

    قال الحسن بن أيوب: وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم
    مما عقدتم به شريعة إيمانكم، ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا: قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها، ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.
    وهذا أيضا من سوء الاختيار، وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها.
    فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم، ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه، إلا أهل ملل النصرانية فقط.

    وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم، ومثل اختلاف المسلمين في القدر.
    فمنهم من قال به، ومنهم من دفعه.
    وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم، وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد.
    ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيه، وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه.
    فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول، كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين.
    والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود.
    فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا، ثم عرض عليهم دين النصرانية، لوجب أن يتوقفوا عنه، إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه.
    ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله.
    فأما قولنا في باب التوحيد، واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد، فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان، وكل منهم يقر به ويرجع إليه.
    إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد. ومنهم من يدخل العلل فيه، بأن يقول: ثلاثة ترجع إلى واحد، وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه، ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها.
    وكل منهم مقر بقولنا، وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها، وأنه واحد لا شريك له.
    فقد صح عقدنا بلا شك منكم، ولا من أحد من الأمم فيه،

    ولا في شيء منه، بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه.
    والحمد لله رب العالمين على توفيقه، وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته، وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين، إنه على كل شيء قدير، وكل مستصعب عليه يسير، وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رءوف رحيم. اهـ.
    قلت: هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب، وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم، فنقله لقولهم أصح من نقل غيره.
    وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية، وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك.

    (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)
    [فصل: بيان اضطراب كلام النصارى وتفرقهم في باب طبيعة المسيح]
    وأما قولهم: وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان:
    طبيعة لاهوتية: التي هي طبيعة كلمة الله وروحه.
    وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.
    فيقال لهم: كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض، وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه، ولا قول معقول، ولا قول دل عليه كتاب، بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى، كاليعقوبية والملكانية والنسطورية، ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة، كثيرة الاختلاف.
    ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا، وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد، كما هو مذكور في أمانتهم، لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء، ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء، ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها، ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها، ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح.

    فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره، فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية، ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية، وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء، ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول، كان فيهم من يخالفهم في ذلك.
    وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا، وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها، والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه، كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري، وغيرهما: أن القديم واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقنوم، وأنهم يعنون بالأقنوم: الوجود والحياة والعلم.





  6. #286
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 284)

    من صــ 461 الى صـ 475





    ونقلوا عنهم: أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين، بل هما صفتان نفسيتان للجوهر، قالوا: ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل: إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين، فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض، قال: وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالابن المسيح والكلمة، وربما سموا العلم
    كلمة، والكلمة علما، ويعبرون عن الحياة بالروح، قال: ولا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم من صفات الفعل، ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا، بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن، قالوا: ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت، ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج، وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية، قالوا: إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن، قالوا: وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية، قالوا: فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة.

    وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما، وقالوا: وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة، والنقش في الخاتم.
    ومنهم من قال: ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين، وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول. قالوا: وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيم
    فذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم.
    ولا يقال: إنه هي، وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم، وآخرون قالوا: هو الأقانيم.
    قالوا: وافترقت النصارى من وجه آخر، فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة، وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه، وذلك أنهم قالوا: الكلمة إله والروح إله والأب إله، والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله، إله واحد.
    قالوا: وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة، فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا، كذلك اتخذ عيسى ابنا.
    قالوا: وهؤلاء يقال لهم: الأريوسية. فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين، وهذا قول لمن قاله من النصارى، وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم، مثل قوله: إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وخلاف ما تضمنته أمانتهم، إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور، وهذا صفة اللاهوت عندهم، وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم، وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم صفة فعل، وهذا قول طائفة منهم ومن
    اليهود، وكثير منهم أو أكثرهم يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من يقول إنه مخلوق.
    ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم، واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية، متفقة في الجوهرية.
    وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية، بل متغايرة، وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر، ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة، وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية، فإنهم قالوا: إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم، وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة، وهي روح القدس، والقدرة، والعلم، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم، وكان مسيحا عند الاتحاد، لاهوتا وناسوتا، حمل، وولد، ونشأ، وقتل، وصلب، ودفن.
    واختلفوا أيضا فقالت النسطورية: إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث، وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة، وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.

    وقالت اليعقوبية: لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا.
    واختلفوا هاهنا فقال بعضهم: الجوهر المحدث صار قديما، وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر.
    وقالت الملكانية: إن المسيح جوهران أقنوم واحد. وحكي عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد، وقالت الأريوسية: إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له، وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل، وأنه نبي، وحكي عن بعضهم أنه قال: المسيح ليس بابن الله، وحكى عن بعضهم أنه ابن الله على التسمية والتقريب.
    واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه. وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.
    وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع، يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.
    قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه: واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم: هي جواهر، وقال قوم: هي خواص، وقال قوم هي صفات، وقال قوم: هي أشخاص، والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم، والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح، والروح هي الحياة، واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.
    قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل: هذا قول الأكثرين منهم.
    وزعم قوم منهم أن الاتحاد: هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن.
    وقال قوم منهم: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا.
    وقال قوم منهم: الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، وكظهور الطابع في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وكما نقول: إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها. وقالت الملكانية: الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة.

    وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما، وقال أبو محمد بن حزم: النصارى فرق منهم أصحاب أريوس، وكان قسيسا بالأسكندرية، ومن قوله: التوحيد المجرد وأن عيسى عبد
    مخلوق، وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض، وكان في زمن " قسطنطين " الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم، وكان على مذهب أريوس هذا.
    قال: ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي، وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر، وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة، وكان يقول: لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس، قال: وكان منهم أصحاب مقدنيوس، كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية، وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه، وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام، وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله، وأن روح القدس والكلمة مخلوقان، خلق الله كل ذلك، قال: وكان منهم البربرانية، وهم يقولون: إن عيسى وأمه إلهان من دون الله تعالى. قال: وهذه الفرق قد بادت، وعمدتهم اليوم ثلاث فرق، وأعظمها فرق الملكانية، وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية
    والأندلس وجمهور الشام، وقولهم أن الله تعالى الله عن قولهم ثلاثة أشياء: أب، وابن، وروح القدس، كلها لم تزل، وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك، وأن مريم ولدت الإله والإنسان، وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم.
    وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وأن الله لم يلد الإنسان، وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم، وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان، وهم منسوبون إلى نسطور، وكان بطرياركا بالقسطنطينية.
    وقالت اليعقوبية: إن المسيح هو الله نفسه، وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا
    مدبر، والفلك بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، والله تعالى عاد محدثا، والمحدث عاد قديما، والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به، وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة، وملوك الأمتين المذكورتين.

    قلت: ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم، وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته: " ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى، ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه، بان لي عواره، ونفرت نفسي من قبوله، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به، وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة.
    وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين، الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا ضد ولا ند، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال، بل كيف شاء وبأن قال لها: " كوني " فكانت على ما قدر وأراد، وهو العليم القدير الرءوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء، وهو الغالب فلا يغلب، والجواد فلا يبخل، لا يفوته مطلوب، ولا تخفى عليه خافية، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19]، وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وكل مذكور أو موهوم هو منه، وكل ذلك به، وكل له قانتون، ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ; ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا نفرق بين أحد منهم، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين، ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

    قال: وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم، والتلبث على إبرام الأمر، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته، فلما لم أجد للحق مدفعا، ولا للشك فيه موضعا، ولا للأناة والتلبث وجها، خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة، وسريرة صادقة، ويقين ثابت، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق،

    وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
    قال: ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.
    قال: ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية، يقولون: إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
    وقالوا: إن مريم ولدت الله، تعالى الله عما يقولون، وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا، ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء، فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت، أو على الأرض لانشقت، أو على الجبال لانهدت، فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه، إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك، وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم.

    قال: ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا: إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس، وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود.





  7. #287
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 285)

    من صــ 476 الى صـ 490



    وقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، مات، وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته (فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.
    قال: فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله، تعالى الله عما يقول الظالمون، وقالوا: إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات، وأن الله لم يمت، فكيف يكون ميتا لم يمت، وقائما قاعدا في حال واحدة؟ وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع؟
    قال: ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته، وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها
    الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا، فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.
    وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته.

    وقال: فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله، تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون، وأنه تألم وصلب ومات، وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى، وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم، ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر، فقالوا: إن المسيح شخص واحد وطبيعتان، فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت، ثم عادوا إلى قول اليعقوبية، فقالوا: إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك، مات بالجسد وأن الله لم يمت، والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته، فكيف يكون ميت لم يمت؟ وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق؟

    وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله، وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين، للاهوت والناسوت قد مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما؟
    فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟
    قلت: ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون: إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا، ويقولون: هو شخص واحد، ثم يقولون: إن رب العالمين إله واحد، وأقنوم واحد، وجوهر واحد، وهو ثلاثة أقانيم، فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم، وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا، مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة، والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين، ومع هذا هما عندهم شخص واحد، أقنوم واحد، وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا الأقنوم بالصفة، أو الشخص، أو الذات مع الصفة، أو أي شيء قالوه.
    وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه،بل كانوا ضلالا جهالا، بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق، فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل، بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل.

    ثم قال الحسن بن أيوب: ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة، وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة، ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح، فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليهم الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين.
    وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية، إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع، ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية ; لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا، ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه، فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع، وخير وشر، وحاجة وغنى؟

    قال: وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء؟ وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط؟ وهل يصح
    هذا عند أهل النظر؟ أوليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا؟ بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح، وكذلك الحمل بهما جميعا، وأن يكون البطن قد حواهما؟
    قال: فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة، ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته، فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه، وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة " قسطنطينية " وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا، يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها، ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح، ومجيئه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية، وبقيامة أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.
    قال: فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها، وبذل المهج فيها، وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية.
    وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق، نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب.

    قال: فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة؟ فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى، فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه، ولا أن يدفع ما صرح به، فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فمريم على قولكم ولدت الله، سبحانه وتعالى عما يقولون، وإن قلتم: إنه إنسان فمريم ولدت إنسانا، وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم، فإن فيه نقض الدين.

    قال: وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم، وهي امرأة آدمية، ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية، وصحة وسقم، وخوف وأمن، وتعلم وتعليم، لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء، ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج، ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى، وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها، فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين، ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف، وصلب وقتل، فهل تقبل العقول ما يقولون من
    أن إلها نال عباده منه، مثل ما تذكرون أنه نيل منه؟
    فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم، وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به، أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به، وحلت الروح فيه، وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق، وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب، وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت، أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به، مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله، ووجدنا الكتب تنبئ بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح صلى الله عليه وسلم من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق، ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد.

    وقيل: لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم، فلم يهربوا من الموت، وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد، والاستتار وإخفاء أشخاصهم، وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا، وهم بعض الآدميين التابعين له، لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم.
    قال: ثم نقول قولا آخر: قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه، لا يقع في شيء منها شك ولا طعن، ولا زيادة ولا نقصان، وهي أصل أمر المسيح عندكم:
    فأولها البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام

    والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله.
    والثالثة: النداء المسموع من السماء.
    والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه.
    والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها: (السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. فلما رأته مريم ذعرت منه، فقال: لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك، فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا، ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم: أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك، أو قال: يحل فيك، وقوة العلي تحبلك، من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي).
    قال: فلم نر الملك قال لها: إن الذي تلدين هو خالقك، وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله الرب يعطيه كرسي أبيه داود، ويصطفيه ويكرمه، وأن داود النبي أبوه، وأنه يسمى ابن الله، وما قال أيضا: (أنه يكون ملكا على الأرض) وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط، وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون، فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله بالمحبة، وقول المسيح: (أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، في غير موضع من الإنجيل، ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا، فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار، ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود، وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة، وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها " متى " التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل: (لستم أنتم متكلمين، بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم).
    فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم، وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام: إنه يكون ملكا على آل يعقوب. فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق، ومعنى قول جبريل عليه السلام

    لمريم 74: (ربنا معك) مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء: (إني معكم) فقد قال ليوشع بن نون: (إني أكون معك، كما كنت مع موسى عبدي) فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل.
    قال: وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح، وشهادة يحيى له، فإن " متى " قال في إنجيله: (إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء، فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة، وسمع نداء من السماء: إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته).

    فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق، وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول: (إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم) وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع، ويفعل ما حد له، ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
    ثم قال: وقد وجدنا المسيح عليه السلام احتاج إلى تكميل أمره بمعمودية يحيى له، فسار إليه لذلك وسأله إياه، فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب، وقال " لوقا " التلميذ في إنجيله: (إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: أنت ذلك الذي تجيء، أو نتوقع غيرك؟) فكان جواب المسيح لرسله: (أن ارجعوا فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون، وزمن ينهضون، وصم يسمعون، فطوبى لمن لم يغتر بي، أو يذل في أمري).

    قال: فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز وجل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله، قد شك فيه، فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه، ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية، ولا قال: إني خالقك وخالق كل شيء، كما في شريعة إيمانكم، بل حذر الغلط في أمره والاغترار، ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء.
    قال: ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال: (هو أقوى مني، وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه) ولم يقل إنه
    خالقي، وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى: (إنه ما قامت النساء عن مثله).





  8. #288
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السابع
    الحلقة( 286)

    من صــ 491 الى صـ 500



    قال: فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة، لأن المسيح عليه السلام يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب، وينادي مناد من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله، وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول: المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها، ويقول: إن الله أرسله، وتقولون:
    بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم، ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان! فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: (إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من الله.

    ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس، وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك، لئلا تعثر رجلك بالحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها، وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك. قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب: اسجد للرب إلهك، ولا تعبد شيئا سواه. ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق السبيل للمسيح.

    وقال: أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة، أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه، ولما قال: (أمرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب، ولا نعبد شيئا سواه). وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته؟ قال: فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا، وكثر اختلافها، واشتد تناقضها واضطرابها.

    قال: ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودا وتغذى باللبن، ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك، لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب

    منه فقال: رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق) من صعقته استغفر ربه فتاب عليه، وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

    وقال داود: (يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك). وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: (ما لك أيها البحر هاربا، وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا، وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، ومالكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء). ثم قال كالمجيب عنهم: (من قدام الرب تزلزلت البقاع).
    قال: فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار؟ أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن
    المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه، وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

    قال: ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه، لأنه تولد من الأب وظهر منه، فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضا تخرج من الأب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن، لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما؟
    قال: ولم نفهم أيضا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان، فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال، أوما علمتم أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق
    المدبر مفعول به، فالابن إذن دون الروح وليس مثله، لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.

    قال: وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس. والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البر، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالأب والابن والروح القدس؟
    قال: ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياة هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته، أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي
    في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون. أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء.
    وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم: إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور. فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد.

    فكان معنى قولكم هذا: أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم
    وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس، بزعمكم من السماء بدعائه.

    فيفتح دعاءه ويقول: (ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين). ثم يختم صلاته بمثل ذلك، فهذا تصريح بالشرك، وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.
    قال: ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم: إن مريم ولدت الله، عز الله وجل عن ذلك، وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق، وأنه ولد من مريم، فما معنى المنافرة، وما الفرق، وما تنكرون من قولهم: إن المقتول المصلوب هو الله عز الله وجل عن ذلك؟
    وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك " بيلاطيس "
    النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث، أليس هذا إقرارا بمثل قولهم؟ فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.
    فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فإن مريم عندكم ولدت الله.
    وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا، وبطلت الشريعة، فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم، ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا، لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين، لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا، فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما، فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية، وما معنى الافتراق؟ وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.

    فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا، فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها، وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها، وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملته مريم وولدته، وقتل وصلب، فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.






  9. #289
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 287)

    من صــ 1 الى صـ 15




    قال: وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها، وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه، فأخذت بالمشكل اليسير، وجعلت له ما أحبت من التأويل، وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل.
    قال: فأما احتجاجكم بالشمس، وأنها شيء واحد له ثلاثة معان، وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها، فإن ذلك تمويه لا يصح، لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس، إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما، ويتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة، ولا يقال: إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران، ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت الشريعة في المسيح: إنه إله حق من إله حق من
    جوهر أبيه، لكان ما قلتم له مثلا تاما، والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه، والحجة منكم فيه باطلة.

    قال: ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام، فإن العجب ليطول من هذا القول، وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه، وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبئ به المشاهدة، ويدعو الناس إليها، فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها، لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه، فالذين قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين، لأن لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة.

    وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين، وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط، ويسكر ويكذب، ويركب كل ما نهي عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين، ولا مأثومين.
    فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان، وهو أن (يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي).
    وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح: (إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه). وفي بعض التسابيح (بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت، وانطفأت فتن الشيطان، ودرست آثارها). فأي خطيئة بطلت؟ وأي فتنة للشيطان انطفأت؟ أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله؟
    قال: فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان، فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع.
    وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان، فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل، وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول، حيث يقول المسيح فيه: (ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان، فأقول: اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون، فما عرفتكم قط) فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا، ووضعهم لكم ما وضعوا، ومثله قوله: (إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تأووني، ومحبوسا فلم تزوروني، ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا.
    وأقول لأهل الميمنة: فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا). فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال: إن الخطيئة قد بطلت، فقد بهت، وقد خالف قول المسيح، وكان هو من الكاذبين.

    وقال: ويا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة، حيث ينسبونه إلى الربوبية، وينحلونه اللاهوتية، ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم، بماذا ساغ ذلك لكم، وما الحجة فيه عندكم؟
    هل قالت كتب النبوات فيه ذلك؟ أو هل قاله عن نفسه؟ أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه؟ ومن كتب الإنجيل وبينه، قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد

    مثلكم ومربوب معكم، ومرسل من عند ربه وربكم، ومبدي ما أمر به فيكم، وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه.
    وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل ونبي له قوة وفضل، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت، ولو كان كما تقولون، لأفصح عن نفسه بأنه إله، كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه، ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلامذته ولا حكي عنهم، ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم، ولا قول يحيى بن زكريا.
    قال: فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء وصعد إلى السماء، وصير الماء خمرا، وكثر القليل، فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها، وإلا فما الفرق؟
    فمن ذلك أن كتاب " سفر الملوك " يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع
    أحيا ابن الإسرائيلية، وأن " حزقيال " أحيا بشرا كثيرا، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها.
    وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، ولم يكن واحد منهم بذلك إلها.

    وأما إبراء الأبرص، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع عليه السلام ليبرأه من برصه، فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أياما لا يؤذن له، فقيل لليسع: إن ببابك رجلا يقال له " نعمان " وهو أجل عظماء الروم، به برص وقد قصدك لتبرأه من مرضه، فإن أذنت له دخل إليك، فلم يأذن له، وقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل فقل له: ينغمس في الأردن سبع مرات، فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع، ففعل ذلك، فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده، فأتبعه خادم اليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا، ورجع فأخفى ذلك وستره.

    ثم دخل إلى اليسع، فلما مثل بين يديه قال له: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا، إذ فعلت الذي فعلت به، فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص ذلك الخادم على المكان.
    قال: فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا، وأبرص صحيحا، وهو أعظم
    مما فعل المسيح عليه السلام فلم يكن في فعله ذلك إلها.
    قال: وأما قولكم أنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام سار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعا ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها.
    قال: وأما قولكم أنه صير الماء خمرا، فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل.
    فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم. ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال: اتركيه ليلتك هذه. ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا، فباعوه فقضوا دينهم
    وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا، ولم يكن اليسع بذلك إلها.
    وأما قولكم: المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد، ومات الخلق ضرا وهزلا، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة، أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط.
    فقال لها: أحضريه فلا عليك. فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس، فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح، لأن إلياس كثر القليل وأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها.

    قال: فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم، ونقول لكم أيضا: كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب، إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء؟ وما الحجة في ذلك؟
    قال: وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية.

    قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح، سبيل سائر الأنبياء، قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية، فمن ذلك: أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيي رجلا يقال له العازر، فقال: (يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا). وقال بزعمكم وهو على الخشبة: (إلهي إلهي لم تركتني؟)، وقال: (يا أبي اغفر لليهود ما يعملون، فإنهم لا يدرون ما يصنعون).
    وقال في إنجيل متى: (يا أبي أحمدك). وقال: (يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك). وقال أيضا: (أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم
    مني) وقال: (لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي). وقال يعني نفسه: (لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله).
    وقال: (إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم ولم يره أحد من خلقه، ويراه أحد إلا مات).
    والمسيح قد أكل وشرب وولد، ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم، وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.
    قلت: وعامة ما ذكره هذا عن الكتب تعترف به النصارى، ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ، فنازعه هنا في قوله:
    (لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده). وقال: هذا إنما قاله المسيح للحواريين، وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ (لم يولد، ولم يأكل ولم يشرب).
    قال: وقال في إنجيل يوحنا: ": (إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي). وقال في موضع آخر: (من عند الله أرسلت معلما). وقال لأصحابه: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته) وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: (صدقت، طوبى لك). وقال لتلامذته: (كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم).
    قال: فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب ومبعوث، وقال
    لتلامذته: (إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي).

    فبين هاهنا في غير موضع أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه، وقال متى التلميذ في إنجيله، يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز وجل: (هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق). فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا، وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها، وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.

    وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: (إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني). وقال في موضع
    آخر: (إن أبي أجل وأعظم مني). وقال أيضا: (كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا، أنا الكرم وأبي هو الفلاح). وقال يوحنا: (كما للأب حياة في جوهره، فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه). قال: فالمعطي خلاف المعطى لا محالة، والفاعل خلاف المفعول.
    قال: وقال المسيح في إنجيل يوحنا: (إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي، لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي، فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني). وقال المسيح لبني
    إسرائيل: (تريدون قتلي، وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله.!
    قال: وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني). قال: فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا أو أكثر؟
    قال: وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: (أنا لست بمجنون، ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي، بل أمدح أبي، لأني أعرفه، ولو قلت: إني لا أعرفه، لكنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره).
    قال: وقال داود في مزموره المائة وعشرة: (قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك، عصا العظمة تبعث الرب من صهيون، ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي، عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكليز داق.)

    قال: فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت، وقد أبان داود في مخاطبته، أن لربه الذي ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه، ومنحه ذلك وشهد عليه، إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول: اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه، ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليز داق.
    قلت: قالوا: وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان، وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا، كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق، قال: فأما قوله: (من البدء ولدتك)، فهو يشبه قول داود: (تبنني على نفسه من البدء. ذكرتك وهديت كل أعمالك). وبعضهم يقول: لفظ النص: (إن الرب يبعث عصاه من صهيون).





  10. #290
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 288)

    من صــ 16 الى صـ 30





    قال: وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: (يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي، إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه، وأنكم أسلمتموه وقتلتموه، فأقام الله يسوع هذا من
    بين الأموات).
    قال: فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول؟ وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله، وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه، وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل.

    قال: وقال في هذا الموضع: (اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا). قال: فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت، لأنه يقول: إن الله جعله ربا ومسيحا، والمجعول مخلوق مفعول، قال أبو نصر: وإنما سمي ناصري ; لأن أمه كانت من قرية يقال لها: " ناصرة "
    في الأردن وبها سميت النصرانية.
    قال: وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا، قال داود في مزمور مائة وخمسة: (وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه، بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه، وربا على بنيه، ومسلطا على فتيانه).

    وقال لوقا في آخر إنجيله: (إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه) على قولهم فيه.
    قال: فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه. وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح: (من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا، وألبسته المجد والكرامات؟)، وقال في المزمور الثاني: (قال لي الرب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك)، فقوله: " ولدتك " دليل على أنه حديث غير قديم، وكل حادث فهو مخلوق، ثم أكد ذلك بقوله: " اليوم " فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم، ودل بقوله: " سلني فأعطيك " على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية، قال: فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته، وبطلان ما يدعونه من ربوبيته، ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى، فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب، وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول، وتنكره النفوس، وتنفر منه القلوب، الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله.
    قال: وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها، علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت.
    قال: فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله: (أبي وأبيكم، ويا أبي، وبعثني أبي). قلنا: فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا، وقد سماكم الله جميعا بنيه، وأنتم لستم في مثل حاله.
    ومن ذلك أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة: (أنت ابني بكري). وقال لداود في الزبور: (أنت ابني وحبيبي). وقال المسيح في الإنجيل للحواريين: (أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله

    ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون، فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا، فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا، وإلا فما الفرق؟
    قال: فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك.
    قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم: ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة، والمسيح ابن رحمة، وما الفرق؟

    فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن المسيح جاء إلى مقعد فقال: (قم قم، فقد غفرت لك، فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت).
    قلنا لكم: هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في
    الأردن من غير دعاء ولا تضرع، على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع، وسأل مسائل قد تقدم ذكرها.
    وقال في بعض الإنجيل: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني).
    فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: (قم فقد غفرت لك) والله هو الذي يغفر الذنوب.
    قلنا: فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم).
    فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذا إله، لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق؟
    فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن الله سماه ربا فقال: (ابن البشر رب السبت).
    قلنا: فهذه التوراة تخبر بأن لوطا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما: (يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما). وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمي في الكتب ربا من يوسف وغيره، فإن كان المسيح إلها لأنه سمي ربا، فهؤلاء إذا آلهة، لأنهم سموا بمثل ذلك.
    فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح، فقال أشعيا: (العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه " عمانويل ")، وتفسيره: " معنا إلهنا ".
    قلنا: إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس، وإن كان
    الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام: (قد جعلتك لهارون إلها، وجعلته لك نبيا).
    وقال في موضع آخر: (قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون). وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة: (كلكم آلهة ومن العلية تدعون).
    فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه.
    قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟

    فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (من رآني فقد رأى أبي، وأنا وأبي واحد).
    قلنا: إن قوله: (أنا وأبي واحد) إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد،
    ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته ويطالب له بحقوقه، وكذلك قوله: (من رآني فقد رأى أبي)، يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي.
    فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (أنا قبل إبراهيم)، فكيف يكون قبل إبراهيم، وإنما هو من ولده؟ ولكن لما قال (قبل إبراهيم) علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية.
    قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته: (أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض)، فما الفرق بينه وبين من قال: إن سليمان ابن الله، وأنه إنما قال: أنا قبل الدنيا بالإلهية، وقد قال داود أيضا في الزبور: (ذكرتك يا رب من البدء، وهديت بكل أعمالك).
    فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول، لأنهما من ولد إسرائيل، وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا.
    قلنا: وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول، لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم، فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟
    وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه، وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني " عمانويل " لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن " إلهنا معنا " يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا.
    ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به، ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به، كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح ; لأنه مخصوص بمعناه.
    فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح.
    قلنا لكم: فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا: (قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس، وهي قوة تفعل الآيات)، فأضاف القوة إلى إلياس.

    فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال: إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات؟ فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش، فإن هذا دليل على أنه إله. قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: إن اليسع إله؟ واحتج في ذلك (بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة، فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة، فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش، فاليسع إله، لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.

    فإن قلتم: أن المسيح كان من غير فحل. قلنا لكم: قد كان ذلك، وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية، لأن القدرة في
    ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق، وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى، أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر، وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب، وخلق بشر من تراب أعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل، فما الفرق؟
    قال: وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية، وإضافتكم إليه الإلهية، وقد وصفناها على حقائقها عندكم، وقبلنا فيها قولكم، وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه، وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم؟
    قال: وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: (إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن أيضا، ولكن الأب وحده يعرفه). قال: فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلا منه، وقد بين بقوله (أحد) عمومه بذلك الخلق جميعا، ثم قال: (ولا الملائكة) وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض، ثم قال: (ولا الابن) وله من القوة ما ليس لغيره، وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله، بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له، وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية، وأنه هو الله ومن جوهر أبيه، تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا، ولو كان إلها كما يقولون، لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها، إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.

    قلت: مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد، ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه، فقال: (ولا الملائكة الذين في السماء)، ثم قال: (ولا الابن يعرفه، وأن الأب وحده يعرفه)، فنفى معرفة الابن، وأثبت أن الأب وحده يعرفه، ومراده بالابن المسيح، فعرف أن المسيح لا يعرفه، وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن، ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده، إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت، فإن اللاهوت يعلم كل شيء، وقد دل ذلك على أن قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن)، المراد به الناسوت وحده، كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت، بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح، فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحملوا عليها كلام المسيح، وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها، لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.

    قلت: فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى:" {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت: 40] ".
    وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة، وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر، ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها، ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو، وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية، كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية، ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره، ولا هو قادر أن يفعل بمشيئة، ولا يقيم الناس من قبورهم، فقالوا: خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي، والإحداث الزماني.
    فالأول: هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان.
    والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، ثم قالوا: ونحن نقول: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه، كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام، لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي، وهو أن ذلك معلول له لم يزل معه.

    فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم، وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات، ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول؟ كما هو باطل في صحيح المنقول، فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول، فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم، والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام، وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة، وفي التوراة أنها شجرة العليق.





  11. #291
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 289)

    من صــ 31 الى صـ 45





    وأخبرت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية
    تسعى، ويخبر بأن الله فلق البحر، فقالت الملاحدة: إن الشيء الثابت يسمى طورا، فإنه ثابت كالجبل، والقلوب تسمى أودية، وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم، والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية، فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام، والوادي قلب موسى، والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله، وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج، والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج، والبحر الذي فلقه هو بحر العلم، والعصا كانت حجته، غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم، وعصيا يقهرون بها من يجادلونه.
    أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن، وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا، بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له، وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل، وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما، وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا، وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير.
    فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية
    التي هي علمه أو حكمته ابنا، وسموها أيضا كلمة، وسموا صفته القديمة الأزلية، التي هي حياته روح القدس، وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه، بل وسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه، ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة، ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده، كما يقال: ابن السبيل، لمن ولدته الطريق، فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده.
    ويقال لبعض الطير: ابن الماء، لأنه يجيء من جهة الماء، ويقال: كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه، أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم، كما ذكروا أن المسيح قال: (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). وفي التوراة: أن الله قال ليعقوب: (أنت ابني بكري).
    ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح، وهو المحبة له والاصطفاء له، والرحمة له، وكان المعنى مفهوما عند
    الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه، وهو من الألفاظ المتشابهة، فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل.
    وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وأن الملائكة بناته، وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون: العقول العشرة هي بنوه، والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته، فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى، فنزه الله عن أن يتخذ ولدا، كما نزهه عن أن يكون له ولد، والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة، وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به، بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله، كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته، وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته، فأما الممكن المقدور فيقول: لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها، فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة، والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة، كما نزهته عن صفات النقص، كقوله تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26].
    وقال تعالى:
    {إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
    كما قال تعالى:
    {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100]
    وقال تعالى:
    {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
    وقال تعالى عن المؤمنين:
    {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 191].
    وقال تعالى:

    {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الذي له ملك
    السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 1 - 2].
    وقال تعالى:
    {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} [المؤمنون: 91 - 92].
    وقال تعالى:
    {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151].
    وقال تعالى:{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1]
    فكما نزه نفسه عن الولادة، نزه نفسه عن اتخاذ الولد.
    وقال تعالى:
    {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 88 - 91]
    {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 92 - 95].
    وقال تعالى:
    {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172].
    وقال تعالى:
    {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80].
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: أنى يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: أني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد".
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا، وهو يرزقهم ويعافيهم".
    ولهذا كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموا النصارى، فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر. فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد، سدا للذريعة، كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية، كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها، لئلا يشبه عباد الشمس والقمر، فكانت بسدها للأبواب التي يجعل لله فيها
    الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع، كما سدت غير ذلك من الذرائع، مثل تحريمها قليل المسكر ; لأنه يجر إلى كثيره، فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها:
    {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].

    مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة، فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن، فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه، جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد.
    فإذا كان مراد المسيح عليه السلام بالابن هو الناسوت، وهو لم يسم اللاهوت ابنا، وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة، فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق، وإن قالوا: مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل،
    وكذب، وهو أيضا مناقض لقولهم.

    فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم ما يعلمه الله، وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق، ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت، كما يتأوله عليه بعض النصارى، لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت، ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به، بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت، ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت، ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم، بل نفى علم ما سوى الأب به، وهذا مناقض لقولهم من كل وجه.
    (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)

    [فصل: النصارى بدلوا دين المسيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم]
    والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه ; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك، وذكره الله في كتابه، وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم.

    وبدلوا دين المسيح وغيروه ; ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام، فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وبتكذيب الكتاب الثاني.
    وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح عليه السلام، بل تخالف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقا متعددة، وكفر فيها بعضهم بعضا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه، فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إن دينهم مبدل منسوخ، وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم متمسكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق، فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا، وكذلك لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم صار كل من لم يؤمن به كافرا.

    والمقصود في هذا المقام: بيان ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من عموم رسالته، وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنه نفسه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الكتاب، وجاهدهم وأمر بجهادهم، فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى: أنه لم يبعث إلينا، بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا، كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة.

    وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وجحد محمد صلى الله عليه وسلم، وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين المسيح عليه السلام، وإرساله لهم إلى الأمم، ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى عليه السلام بالتوراة، وجحد أنه كان يسبت ; فإن النقل عن محمد صلى الله عليه وسلم مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى عليه السلام، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد.
    والمسيح عليه السلام لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل: إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه، إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب، فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة، فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويحرم الخمر والخنزير، وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح، وموسى عليهما السلام، وقد ظهر بهذا بطلان قولهم: علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب.
    [فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل]
    قال الحاكي عنهم: فقلت: إنهم ينكرون علينا في قولنا، أب وابن، وروح قدس، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق.
    أجابوا قائلين: لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب.

    فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي عنه العدم، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجملهما، فقلنا: هو شيء حي، لننفي الموت عنه، ورأينا الحي ينقسم قسمين: حي ناطق، وحي غير ناطق، فوصفناه بأفضلهما، فقلنا: هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه.
    والثلاثة أسماء وهي إله واحد، مسمى واحد، ورب واحد، خالق واحد شيء حي ناطق، أي الذات والنطق والحياة، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل، والحياة روح القدس، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها.
    والجواب من وجوه:
    أحدها: قولهم: أما قولنا أب، وابن، وروح قدس، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا، فيقال: ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون: إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم، ثم عبروا عنها بهذه العبارات، كما ادعوه في مناظرتهم.
    ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندهم، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل.

    وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة، لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني: ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا.





  12. #292
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 290)

    من صــ 46 الى صـ 60





    قال - تعالى -:
    {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
    وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي إلهية علي، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.
    ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ، إما المعروفين بالصلاح، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى، وبعضها شر من أقوال النصارى.
    وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى، هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة، يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح النقل ويقولون: لمن أراد أن يسلك سبيلهم: دع العقل والنقل، أو اخرج من العقل والنقل.
    وينشدون فيهم:

    مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أقدامه يسجد العقل
    هم معشر حلوا النظام وحرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نقل
    وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون: الشيخ يسلم له حاله، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله،ويقول: المسيح هو ولد الله، وينطق أيضا، بلفظ الشهوة، فيقول إنهم أولاد شهوة، ويقول: إنه زوج مريم، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى.

    وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات، قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله، ولا الإيمان بكل ما يقوله.
    وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين.
    فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر، ومنهم من هو أكفر من النصارى، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل، يعنون المؤيدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول.
    ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر، وهم يعلمون أنه كذب، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم، لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس.

    ومما يبين ذلك الوجه الثاني: وهو أن النصارى - المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة.
    ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة.
    وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد حكيم قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، ويقولون: إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود، وذلك من جوده.

    وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقولون: موجود حي عالم، أو موجود عالم قادر، كما يقول بعضهم: ناطق، ومنهم من يقول موجود حي حكيم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح - عليه السلام - عبد مرسل، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه -، فوافقهم على لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد.
    كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية: فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء - عليهم السلام -، وعلم بذلك أن أصل قولهم: الأب، والابن، وروح القدس، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل.
    يوضح هذا الوجه الثالث: وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى، فيقال لهؤلاء: القول بالأب، والابن، وروح القدس، موجود عند النصارى قبل وجودكم، وقبل نظركم هذا واستدلالكم، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل، وأن المسيح - عليه السلام - قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس.
    والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه.

    الوجه الرابع: إن هذا القول: إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله، البنوة المعروفة في المخلوقات، ويقولون: إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة.
    ولهذا قال - تعالى -:
    {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].

    وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك، كما تأولوا هم الولد، ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت، ومريم أم للناسوت لا للاهوت، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت، واللاهوت زوج مريم، بلاهوته، كما أنه أب للمسيح بلاهوته، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت، وهو عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله، وناسوته من مريم، فهو من أصلين: لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار، مع أن المصاحبة قبل البنوة؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم؟
    وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح، وأقل امتناعا، وإن كان المسيح - عليه السلام - قال هذا الكلام، فقد علمنا أن المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون: إلا الحق، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح.
    ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

    ، بل نقول في الوجه الخامس: إن صحت هذه العبارة عن المسيح المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب: " إسرائيل " " أنت ابني بكري "، وقال لداود في الزبور: " أنت ابني وحبيبي "، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحا، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والابن هو المربى المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه.

    وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين.
    والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال - تعالى -:
    {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87].
    في موضعين من البقرة.
    وقال - تعالى -:
    {ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
    وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه» وقال: «اللهم أيده بروح القدس» كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا.
    وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله - تعالى - يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال - تعالى -: عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -:
    {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة: 40].
    في موضعين من سورة " براءة ".
    وقال الله - تعالى -:
    {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} [الأحزاب: 9].
    وقال - تعالى -:
    {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12].
    وقال - تعالى -:
    {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
    وقال الله - تعالى -:
    {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [النحل: 2].
    وقال - تعالى -:
    {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 15].
    وقال:
    {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]

    وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول.
    فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم، ويوافق القرآن، ويوافق العقل، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.
    وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح، وخطاب سائر الأنبياء.
    أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة الله، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى.
    وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع.
    وتمام هذا بالوجه السادس: وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح - عليه السلام - ابنا، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا، كقوله ليعقوب: أنت ابني بكري، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع، وغيره هو ابنه بالوضع، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين، وأن مريم زوجة الله.

    وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الاشتراك على خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا، أو يكون مجازا في أحدهما، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن، ولفظ روح القدس، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم، وظاهر الكتب التي بأيديهم، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية، بل هو باطل شرعا وعقلا.





  13. #293
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 291)

    من صــ 61 الى صـ 75






    ويؤيد هذا الوجه السابع: وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة، بل فهموا منها معنى باطلا، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك، مفترين على الله الكذب، وهذا مبسوط في موضع آخر.
    الوجه الثامن: أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين، بل هي لفظة ابتدعوها، ويقال: إنها رومية، وقد قيل: الأقنوم في لغتهم معناه الأصل، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، وهذا تفسير حذاقهم.
    الوجه التاسع: قولهم في المسيح - عليه السلام - إنه خالق، قول مع بطلانه في الشرع والعقل، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله - تعالى -.

    الوجه العاشر: قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين الوجه الحادي عشر: إنا نقول: لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا.

    فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، كلام قاصر من وجوه:
    أحدها: أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء؟
    الثاني: أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {قل الله خالق كل شيء} [الرعد: 16].
    فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء.
    الثالث: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث، علم فطري ضروري، ولهذا قال الله - تعالى -: في القرآن:
    {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [الطور: 35].
    «قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع»، يقول - تعالى -: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم.
    ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه.

    وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان، لو ضرب الصبي ضربة فقال: من ضربني؟ فقيل: ما ضربك أحد، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل.
    ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه.

    فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما.
    الوجه الرابع: أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها، وهي حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت، بلا محدث، لا أنفسها ولا غيرها، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل، فكذلك امتناع حدوثها، بلا محدث، وإن كان معلوما ببديهة العقل، وهو من العلوم الضرورية، فكذلك الآخر، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا، فكيف إذا كان الدليل باطلا؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية، فهم ممن قال الله فيهم:
    {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39] (39) {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].
    الوجه الثاني عشر: قولكم: فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء، لننفي عنه العدم.
    فيقال لهم: لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله - تعالى -:
    {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11].
    وقوله: {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} [مريم: 65]
    أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه، وقوله - تعالى -:
    {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4]. .
    وقد دل على ذلك العقل، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجوز عليه ما يجوز عليه، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب، ويجوز ويمتنع.
    والخالق يجب له الوجود والقدم، ويمتنع عليه العدم، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم، ويجب له سابقة العدم، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة، (بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة) على أنه خالق كل شيء، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء، ولم تذكروا حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي العدم عنه، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل؟
    ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة، وقولكم: إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة، وكذلك أخبر - تعالى - عن أهل النار بأنهم يقولون:
    {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: 10].
    [فصل: دلائل وجود الله وحياته]
    وأما قولكم: ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه.
    فيقال: لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته، التي هي آياته الفعلية، قال - تعالى -:
    {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53].

    أي القرآن حق، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله:
    {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52].
    فالله - تعالى - يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية.
    قال - تعالى -: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران: 2]
    وقال - تعالى -: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58].
    والدلائل على حياته كثيرة:
    منها: أنه قد ثبت أنه عالم، والعلم لا يقوم إلا بحي، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته، والقادر المختار لا يكون إلا حيا.
    ومنها: أنه خالق الأحياء وغيرهم، والخالق أكمل من المخلوق، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه، وكماله أكمل منه.
    والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا، ويقولون: كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى.
    ومنها: أن الحي أكمل من غير الحي، كما قال - تعالى -:
    {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 22].
    فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه.
    كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض، والعدم نفي محض لا كمال فيه، إنما الكمال في الوجود.
    ولهذا جاء كتاب الله - تعالى - على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله:
    {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255].
    فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة، كما لا يموتون.
    والقيوم: القائم المقيم لما سواه، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته، فلم يكن قائما ولا قيوما، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل، لما سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت.

    بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم، ثم قال - تعالى -:
    {له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255].
    فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه.

    ثم قال - تعالى -:
    {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255].
    فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم، فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه، كما قالت الملائكة:
    {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} [البقرة: 32] ثم قال - تعالى -:
    {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما} [البقرة: 255]
    أي لا يكرثه ولا يثقل عليه، فبين بذلك كمال قدرته، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات، كما قال - تعالى - في الآية الأخرى:
    {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38].
    بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما، واللغوب: الانقطاع والإعياء، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر.
    والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها، وإذا وصف بالسلوب، فالمقصود هو إثبات الكمال، وهؤلاء قالوا: قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت، كما قالوا: هو شيء لننفي العدم عنه، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت، فينفي عنه الموت لأنه حي، لا يثبت له الحياة لنفي الموت، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود، وذلك يستلزم نفي العدم عنه، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم، بل نفي العدم عنه لأجل وجوده، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته، وكذلك قولهم: قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود، ونفي العدم، وإثبات الحياة ونفي الموت.
    [فصل: طرق معرفة صفات الرب]
    ثم قالوا: ورأينا الحي ينقسم قسمين: حيا ناطقا، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين، فقلنا: إنه ناطق لننفي الجهل عنه.
    فيقال لهم: لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار، لكن قولهم: فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل، وهذا هو العلم، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم، ولا من جنس الإرادات، وحينئذ فيقال لكم: ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر، فكل حي فله شعور بحسبه.

    وكلما قويت الحياة قوي شعورها، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم، كما يقول الناس: علم الفهد والبازي والكلب، ويقال: كلب معلم وغير معلم وبازي معلم.
    وقال - تعالى -:
    {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله} [المائدة: 4].

    وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فقتل فكل» ولا ريب أن العلم صفة كمال، فالعالم أكمل من الجاهل، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته.
    والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها.






  14. #294
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 292)

    من صــ 76 الى صـ 90






    وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا،لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي.
    وكل واحد من الأفلاك معين، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح.
    فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي، وليس العلم هو القدرة، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف، ومن جعل كل صفة هي الأخرى، وجعل الصفات هي الموصوف، فهو قول في غاية السفسطة.
    وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس، وجاعلهم علماء، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم، فإن العلم صفة كمال، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف، وهذا يتناول معنى حجتهم.
    وأيضا فإنه حي، والحياة مستلزمة لجنس العلم، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم، لكن يقال لكم: كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، فيجب أن يوصف بأجل القسمين، وهو القدرة.
    لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل: إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة، ولا قدرة، قال - تعالى -:
    {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات: 58].
    وقال - تعالى -:
    {أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15].
    وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب»
    وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا، ويقولون: العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم.
    وكذلك يقولون: إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع، وغير سميع، وبصير، وغير بصير، وصفناه بأشرف القسمين، وهو السميع والبصير.
    وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة، ولم يرد به مجرد العلم، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم، ومبين معبر عما في نفسه، وإلى ما ليس كذلك، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني.

    ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية، فإنه أكمل الموجودات، وأجلها وأعظمها، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء.

    ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو: أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم.
    قالوا: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر.
    والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس.
    وجواب ذلك من أوجه:
    أحدها: أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال، وإما أن لا يكون.
    فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها، ولم يتصف بها، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها.
    وهؤلاء قد يقولون: في إثباتها تشبيه له بالحيوان، فيقال لهم: وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى.

    الوجه الثاني: أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا، كما قال - تعالى - في الأصنام:
    {أموات غير أحياء} [النحل: 21].
    الوجه الثالث: أنه يكفي عدم هذه الصفات، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص.

    فعلم أن نفي هذه الصفات عنه، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها، وإن لم يتصف بها.
    الوجه الرابع: أن الكمال في الوجود، والنقص في العدم، فنفس ثبوت هذه الصفات كمال، ونفس نفيها نقص، وإن لم يتصف بها لزم نقصه، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق، وهذا ممتنع في بداية العقول، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب.
    والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه، لكن اليهود، وإن كانوا أعلم منهم، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين.
    [فصل: بيان أسماء الله تعالى]
    قالوا: والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد، وخالق واحد، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا، أي الذات، والنطق، والحياة.
    فالذات عندنا: الأب الذي هو ابتداء الاثنين.
    والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل.
    والحياة: هي الروح القدس.
    والجواب عن هذا من وجوه:
    الأول أن أسماء الله تبارك و - تعالى - متعددة كثيرة، فإنه:

    {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] (22) {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون} [الحشر: 23] (23) {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحشر: 24]
    وقال - تعالى -:
    {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180].
    وقال - تعالى -:
    {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110].
    وقال - تعالى -:
    {طه} [طه: 1] (1) {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2] (2) {إلا تذكرة لمن يخشى} [طه: 3] (3) {تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا} [طه: 4] (4) {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] (5) {له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} [طه: 6] (6) {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} [طه: 7] (7) {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8].
    وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة»
    وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه - تعالى - تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه تبارك و - تعالى -: أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن».

    وإذا كانت أسماء الله كثيرة، كالعزيز والقدير وغيرها، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل، كما قد بسط في موضع آخر.
    الوجه الثاني: قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه، كولادة النطق من العقل، كلام باطل، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما.

    فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له.
    وهذا في حق الله باطل.
    وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل، فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النطق شيئا فشيئا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه و - تعالى - كاملا.
    وذلك دور ممتنع في صريح العقل، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال، حتى يكون هو متصفا بها، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه، كتولد النطق من العقل، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها.

    الوجه الثالث: أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة لله، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن، صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا.
    الوجه الرابع: أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم.
    الوجه الخامس: أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة، كان المسيح هو الأب، وكان المسيح نفسه هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر.

    وإن قالوا المتحد به هو العلم، فالعلم صفة لا تفارق العالم، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات، ودون الحياة.
    الوجه السادس: أن العلم أيضا صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر، وليس هو نفس الحياة، ولا نفس العلم والكلام.
    فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله، اغفر لي، وارحمني واهدني، كان هذا باطلا في صريح العقل، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام: اغفر لي وارحمني.
    والمسيح - عليه السلام - عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له: كن فيكون؟
    فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه، وكان في أول التوراة أنه قال: ليكن كذا ليكن كذا.
    ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل.
    الوجه السابع: أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه.
    وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها: أومن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، كنيسة واحدة جامعة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وابن جاء لقيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا.

    ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض، خالق ما يرى وما لا يرى، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره، كما قال الله - تعالى -:
    {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].





  15. #295
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 293)

    من صــ 91 الى صـ 105




    وقال - تعالى -:
    {وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
    ثم قلتم: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق، مساو الأب ابن الله الوحيد، وقلتم: هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه.
    وهذا تصريح بالإيمان بإلهين، أحدهما من الآخر، وعلم الله القائم به، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق، بل إله واحد وهذا صفة الإله، وصفة الإله ليست بإله، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة، ولأن الإله واحد، وصفاته متعددة، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها، والصفة قائمة بالموصوف، ولأنكم سميتم الإله جوهرا، وقلتم: هو القائم بنفسه، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه.
    وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب، ومولودا وهو الابن، وجعلوه مساويا له في الجوهر، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة، فقالوا: مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر، والمساوي ليس هو المساوى.

    ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي.
    وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر، وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا، وهذا جمع بين النقيضين،فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا، وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد، وبين إثباته ثلاثة جواهر، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله:
    {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] (1) {الله الصمد} [الإخلاص: 2] (2) {لم يلد ولم يولد} [الإخلاص: 3] (3) {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4].
    فنزه نفسه أن يلد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الابن، وأن يكون له كفوا أحد، كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر.

    وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات، قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر، وبين دعوى إثبات جوهر واحد، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب الحاسب الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب.
    فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات: الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى.
    ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم: (إنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما، وهذا تقر به طوائف منكم، وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول.
    وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم، فإن كان روح القدس هو حياة الله، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله.
    وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما.
    ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي، فأثبتم ربا ثالثا، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب، ونحو ذلك، يقال: بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه.
    ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له.

    ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة، يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى.
    وأما الحياة: فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي، يقال حيا يحيا حياة، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعل غير كونه حيا، كما أن التعليم غير العلم، والإقدار غير القدرة، والتكليم غير التكلم، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء - عليهم السلام -، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له.
    وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة، وإلا فهذا ممنوع.
    والمقصود هنا: بيان فساد كلامهم وقياسهم.
    وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها. كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه:
    منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.
    ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.
    ومنها: أن هذا ليس هو الشمس، ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح - عليه السلام - بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة.
    [فصل: رد دعواهم أن الله قد سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس]
    قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك؟ وعلى لسانه أيضا قائلا: وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي: روحك القدس لا تنزع مني، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن.
    وقوله: على لسان أشعيا: (ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمة الله باقية إلى الأبد، وعلى لسان أيوب الصديق، روح الله خلقني وهو يعلمني).
    وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: (اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)، وقد قال في هذا الكتاب:
    {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} [الصافات: 171].
    وقال أيضا:
    {ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
    وقال أيضا:
    {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164]
    وقال في سورة التحريم:

    {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
    وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ.
    والجواب من وجوه:
    أحدها: أن تقول: إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق، يصدق بعضه بعضا.
    وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك، وكفر ببعضه، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي.

    فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،وغير ذلك، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا.
    وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى.
    وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.

    والجواب الثاني: أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات، أما قوله على لسان موسى - عليه السلام - مخاطبا بني إسرائيل قائلا: (أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك)؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح - عليه السلام -، وهذا نظير قوله لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، وداود (ابني حبيبي)، وقول المسيح (أبي وأبيكم) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح.
    الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام.
    الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.
    الوجه الخامس: أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب، والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق.
    وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى، وتناقض أمانتهم، فهم بين أمرين:
    بين الإيمان بكلام الأنبياء (وبطلان دينهم.
    وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء)، وهذا هو المطلوب.
    [فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس]
    وأما قولهم: كل صفة منها غير الأخرى:
    فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه، وهو حقيقة قولهم. ويقولون مع ذلك: إنها متصلة به، فهو جمع بين النقيضين، وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل، وهو حجة عليهم لا لهم.
    فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان، ليس هو قائما بذات الشمس.
    والقائم بذات الشمس، ليس هو قائما بالهواء والأرض.
    فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم، كما يفيض الشعاع من الشمس.
    قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا.

    وإن أرادوا أنها قائمة به، وتسمى كل واحدة غير الأخرى، فهنا نزاع لفظي، هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا؟
    فإن من الناس من يقول: كل صفة للرب عز وجل فهي غير الأخرى، ويقول: الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.
    ومنهم من يقول ليست هي الأخرى، ولا هي هي؛ لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.
    والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره؛ أوهم أنه مباين له.
    وإذا قال: ليس غيره؛ أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله: غيره؛ أنه مباين له منفصل عنه - فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق؟
    وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال.
    فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى،، بل هي داخلة في المسمى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات، فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات.
    وأما في نفس الأمر، فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى.
    [فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم]
    وقولهم: فالإله واحد، خالق واحد، رب واحد.

    هو حق في نفسه، لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: (نؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر) فأثبتوا هنا إلهين، ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا، وقالوا إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلها واحدا، وهو تناقض ظاهر، وجمع بين النقيضين، بين الإثبات والنفي.
    ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا.





  16. #296
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 294)

    من صــ 106 الى صـ 120



    [فصل: تناقض قولهم لا يتبعض ولا يتجزأ]
    وقولهم: (لا يتبعض ولا يتجزأ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به.
    فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض ويتجزأ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين.
    يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء، وكل منهما متجزئ متبعض، وما قام بالمتبعض فهو متبعض، فإن الحال يتبع المحل، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به.
    ويقولون أيضا: إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه،، بل لما صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟

    وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد، وليس هو متصلا به، بل غايته أن يكون مماسا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر.
    وأيضا فيقال لهم: المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين، أم صفة من صفاته؟ فإن كان هو الذات، فهو الأب نفسه، ويكون المسيح هو الأب نفسه، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه؛ فإنهم يقولون: هو الله، وهو ابن الله، كما حكى الله عنهم، ولا يقولون هو الأب والابن، والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم.
    وإن قالوا: المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات.
    وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين، بل هي صفته، ولا يقول عاقل: إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله، هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله، ولم يكن هو رب العالمين، ولا خالق السماوات والأرض.
    والنصارى يقولون: إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء، وهو خالق آدم ومريم، وإن كان ابن آدم ومريم، فإنه خالق ذلك بلاهوته، وهو ابن آدم ومريم بناسوته.
    فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة الله، لأن الله كونه (بكن)؟
    وقال تعالى:
    {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} [مريم: 34] (34) {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [مريم: 35].
    وسماه روحه، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي.
    قال الله تعالى:
    {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} [آل عمران: 45] (45) {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 46] (46) {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]
    وإن قالوا: المتحد به بعض ذلك دون بعض، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة، فهم بين أمرين: إما بطلان مذهبهم، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه.
    وأيضا فقولهم: (إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ابن الله الوحيد، المولود قبل كل الدهور).

    يقال لهم: هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر، الذي هو إله حق من إله حق، هل هو صفة قائمة بغيرها؟ أو عين قائمة بنفسها؟
    فإن كان الأول، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة، ولا يقال لها: مولودة من الله، ولا إنها مساوية لله في الجوهر، ولم يسم قط أحد من الأنبياء، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا، ولا قال: إن صفة الله تولدت منه، ولا قال عاقل: إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة.
    وهم يقولون: إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور، المساوي الأب في الجوهر.
    وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها، كالجواهر القائمة بنفسها، لا نعت صفات قائمة بغيرها، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة لازمة لقولهم، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء، قال تعالى:
    {وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15] (15) {أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين} [الزخرف: 16] (16) {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم} [الزخرف: 17] (17) {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف: 18] (18) {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 19].

    وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا، ويسمونها تارة النطق، وتارة الكلمة، وتارة العلم، وتارة الحكمة، ويقولون: هذا مولود من الله، وابن الله.
    فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى.
    والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق، وهم يقولون: هو أب للمسيح بالطبع، ولغيره بالوضع، فلا يعقل جمهور العقلاء وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم.

    لكنهم لم يتبعوا الأنبياء، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه، وعوامهم، وإن كانوا لا يقولون: إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد، فيقولون: ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت، لا يعقل من الولادة غير هذا.
    وأيضا فقولهم: (ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، فقولهم: المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام.
    وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء،، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا.
    وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه:
    منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرا قائما بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر.
    ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائما بها، وحياة الرب صفة قائمة به.
    ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة: إنها منبثقة.
    والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا.
    ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين.
    [فصل: رد زعمهم أنه لا يلزمهم عبادة ثلاثة آلهة وأنه لا لوم عليهم في التثليث لما سبق لهم من شهادات الأنبياء]
    قالوا: وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة، بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي، بل إنسان واحد، ولا إذا قلنا: لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران، ولا إذا قلنا: قرص الشمس، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه، (ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل).
    والجواب من وجوه:

    أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به، بل أنتم تصرحون بذلك، كما تقدم من قولكم: نؤمن بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق، من جوهر أبيه يولد، غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب، مسجود له وممجد.
    فهذا تصريح بالثلاثة أرباب، وأن الابن إله حق من إله حق، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق، تقولون: إن ذلك إله واحد، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد.


    ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب، خالق ما يرى وما لا يرى، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم، فإنكم تقولون: المسيح هو الله، وتقولون: هو ابن الله (كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه، وكفركم بذلك، وليس هذا قول طائفة وهذا قول طائفة) كما يقوله بعض الناس، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات، والذات ليست هي الصفة، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب، والصفة ليست عين الموصوف، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام.
    والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم: وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة، وأن هذا هو الأب كما قال: إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب فهذا إله واحد، والعطف لتغاير الصفة، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا: إلهان، بل ثلاثة، وهو واحد.
    فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر، بل قالوا: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق. فصرحوا بأنه رب، وأنه إله حق من إله حق، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول.
    وقالوا مع ذلك: إنه مولود من الأب قبل كل الدهور، وإنه مولود غير مخلوق، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت، فإن الناسوت مخلوق.

    وهم يقولون: إن الكلمة هي المتولدة من الأب. والكلمة صفة المتكلم وقائمة به، والكلام ليس برب ولا بإله، بل هو كلام الرب الإله، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله، ثم قلتم: مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا، وأنه مساو الأب في الجوهر، والمساوى ليس هو المساوي.
    وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول، وهو صريح بإثبات إلهين، ويقولون مع ذلك: إنه إله واحد جوهر واحد، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات؛ فإن الجوهر هو الذات، وليس هنا جوهران، أحدهما مجرد عن العلم، والآخر متصف به، حتى يقال: إن أحدهما مساو للآخر، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم، فإن كان الأب هو الذات المجردة، فالابن أكمل من الأب، وهو الذات مع العلم، والأب بعض الابن.

    وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة، والذات المجردة بعض ذلك، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس.
    ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي -: إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق ربا حيا، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى.
    ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم.
    وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك: هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا: الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره، لوجوه:
    أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك، كما قد تبين.
    الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه، كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك.
    الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام.
    وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي.
    ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه.

    الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير؛ إذ لا دليل على انتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك.
    الخامس: أنه لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا، ونصفه ناسوتا، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر، من بعض الوجوه.








  17. #297
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 295)

    من صــ 121 الى صـ 135




    الوجه الثاني: قولهم: ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي، ولا إذا قلنا: النار وحرها وضوءها ثلاث نيران، ولا إذا قلنا: الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس.
    فيقال: هذا تمثيل باطل لوجوه:
    أحدها: أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار، ولا جوهرا من جوهر، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر، وكذلك نطق الإنسان، ليس هو إنسانا من إنسان، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه، وأنتم قلتم: إله حق من إله حق، فقلتم في الأمانة: (نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساوي الأب في الجوهر)، وقلتم في روح القدس: (إنه رب ممجد مسجود له) فأثبتم ثلاثة أرباب.

    والثاني: أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران، وهذا مباين لها ليس قائما بها، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر،فيكون النور جوهرا قائما بنفسه، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه.

    ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها، ولا جوهرا قائما بنفسه، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله، ليس هو نفس كلمة الله؟
    الوجه الثالث: أن قولهم: الشمس وشعاعها وضوءها، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها؛ إذ كلاهما يقوم بها، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين، فلا يكون التمثيل بها مطابقا، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما؛ ما يقوم بها، أو كلاهما؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ، وبعضهم يقول: الشمس وحرها وضوءها، كما يقولون مثل ذلك في النار.
    وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها، فإن هذا لم يقم عليه دليل، وكثير من العقلاء ينكره، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة، وهو قول أرسطو وأتباعه.
    وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه، فإن أرادوا بالروح حياته، فليس هذا هو مفهوم الروح، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان، وليس هذا قول أهل الملل، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، بل هو كفر عندهم، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل.
    والوجه الرابع: أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان، أو النفس القائمة بهذه الجواهر، أو بما هو مباين لذلك، كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس، وضوء منقلب، وليس صفة قائمة بالشمس والنار.
    وإذا أريد بما حل في المسيح هذا، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى:
    {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [النور: 35].
    وقال تعالى:
    {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52].
    فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء.
    وقال تعالى:
    {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].

    وقال تعالى:
    {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه} [الأعراف: 157].
    وقال تعالى:
    {ويجعل لكم نورا تمشون به} [الحديد: 28].
    وقال تعالى:
    {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور: 40].

    ، فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها، لكن ليس هو نفس صفة الله، وإن كان من الناس من يقول: بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد، فهذا القول خطأ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره، ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره، وبلغ كلام غيره يقال: هذا علم فلان وكلامه؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه، والمقصود هو علم الأول وكلامه، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني، وإن كان قد يكون مثله، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني، مثل من بلغ كلام غيره، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ.

    وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ؛ ليس هو نفس المقصود، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه.
    لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة، ويقولون: إن المسيح خالق ورازق، وهو خالق آدم ومريم، وهو ولد آدم ومريم، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته.
    ويقولون: هو ابن الله، وهو الله بلاهوته، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد، والله كفرهم بقولهم: {إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17] ونحو ذلك.
    وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله، كما أن هذه صفات لهذه المخلوقات.
    قيل لهم أولا: لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا: مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم، ولا حياة الله، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل.

    والبائن عن الله ليس صفة لله، فضلا عن أن يكون هو الخالق، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها، وجعلتموها جواهر أربابا، ثم قلتم: إله واحد، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث، وضلالا مثلثا في الاتحاد.

    وقيل لكم ثانيا: إذا جعلتم ذلك صفات لله، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها، وامتنع مع الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا، بل هو الإله الخالق، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم.
    وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق.
    ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف، وتارة بحلول النار في الحديد، وتارة بالنفس والبدن، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه، لو انخرق وعاؤه لتبدد، وهو محيط به، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش، ولا إلى غيره، أو يحيط به شيء من الموجودات؛ إذ هو الظاهر، فليس فوقه شيء.
    كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: («أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء،وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، فهو غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين، فهو مستو على عرشه، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش.
    والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط؛ لحاجته إليه، والله غني عن كل ما سواه، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.
    وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه، بل كما خاطب موسى من الشجرة، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة،ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل، كما بسط في موضعه.
    وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به، فهذا استحالة بلا حلول، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار، وكذلك إذا ألقيت في الماء، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء، وهو الذي يأكل ويشرب، وهذا من أعظم الكفر.
    ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره، فهو لازم لهم، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن، فإن النفس تتألم تألم البدن، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه، وأن يكون مستحيلا لما اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس، وأما قولهم: إذ لم نهمل ما تسلمناه، ولم نرفض ما تقلدناه، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح: إنا لا نهمل ما تسلمناه، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام.
    وجواب الطائفتين من وجهين:

    أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم، والشرع الذي شرع لكم، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام.
    والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول، وكتاب غير مبدل، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه؟ (قل ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)

    وقال شيخ الإسلام:
    فصل:
    ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك بخويصة نفسك. أنه قال: {شح مطاع وهوى متبع} فجعل هذا مطاعا وهذا متبعا وهذا - والله أعلم - لأن الهوى هوى النفس وهو محبتها للشيء وشهوتها له سواء أريد به المصدر أو المفعول. فصاحب الهوى يأمره هواه ويدعوه فيتبعه كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب ولهذا قال الله تعالى: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا} وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وهذا يعم الهوى في الدين كالنصارى وأهل البدع في المقال والقدر. كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء: من الرافضة والخوارج وهذا الهوى موجود في كثير من الفقراء والفقهاء إلا من عصمه الله.
    وقد اختلف أصحابنا هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء. على وجهين أدخلهم في التقسيم القاضي أبو يعلى وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسفراييني فيما أظن وأنكره ابن عقيل.
    وأما " الشح المطاع " فقد ذكرنا أن مفسدته عائدة إلى منع الخير وهذا في الأصل ليس هو محبوبا وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به فإنه من باب النفرة والبغض فهو يأمر صاحبه فيطيعه وليس كل مطاع متبعا وإن كان كل متبع مطاعا فإن الإنسان يطيع الطبيب والأمير وغيرهما في أمور خاصة وليس متبعا لهم أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة فإنه يذهب معه حيثما ذهب.
    وفرق ثان أن المتبع الذي يطلب في نفسه فغاية المتبع إدراكه ونيله وهذا شأن الهوى.
    وأما المطاع فغاية لغيره وهذا شأن الشح.
    (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
    فذكر " جملة شرطية " تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف " لو " التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}. فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه.
    (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها ولا نحمدهم عليها إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة لكن إذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعا لا فائدة فيه وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب؛ ولهذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نفيل: أن اليهود قالوا له: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. وقال له النصارى: حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله.





  18. #298
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 296)

    من صــ 136 الى صـ 150





    وقال الضحاك وطائفة: إن جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه الأمة والتي تليها للنصارى والتي تليها لليهود. فجعلوا اليهود تحت النصارى والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا: إنا نصارى وشدة العداوة زيادة في الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وإن كان النصارى أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادا فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاما. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح {في خطبة يوم الجمعة: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة} ولم يقل: وكل ضلالة في النار بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.
    وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: " قد فعلت " وبسط هذا له موضع آخر.
    [فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك]
    ثم قالوا: وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول:
    {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82].
    فذكر القسيسين والرهبان، لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة.
    والجواب أن يقال: تمام الكلام:

    {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} [المائدة: 83]
    فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذين قال فيهم:
    {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83].
    والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الشهداء الذين قال فيهم:
    {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [البقرة: 143].
    ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله:{فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53].
    قال مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته.
    وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون:
    {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [آل عمران: 53].
    وقال - تعالى -:
    {ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77] (77) {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} [الحج: 78].
    وأما قوله في أول الآية:
    {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82].
    فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى، والنصارى أقرب مودة لهم، وهذا معروف من أخلاق اليهود، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى.
    وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم، فكيف ببغضهم للمؤمنين.
    وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم، المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟
    وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة، وقوله - تعالى -:
    {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} [المائدة: 82].
    أي بسبب هؤلاء، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين.
    ثم قال - تعالى -:

    {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83].
    فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم، كقوله - تعالى -:{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
    وكأن جنس الناس، قالوا لهم: إن جنس الناس، قد جمعوا ويمتنع العموم، فإن القائل من الناس، والمقول له من الناس، والمقول عنه من الناس، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس: إنه قد جمع لكم جميع الناس.
    ومثل ذلك قوله - تعالى -:
    {وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30].
    أي جنس اليهود قال هذا، لم يقل هذا كل يهودي، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود، وهذا حق، وأما قولهم: ونفى عنا اسم الشرك، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين، وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول كقوله - تعالى -:
    {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1].

    وقوله - تعالى -:
    {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17].
    وقال - تعالى -:
    {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} [المائدة: 82].
    وأما وصفهم بالشرك ففي قوله:
    {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31].
    فنزه نفسه عن شركهم، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، كما قال - تعالى -:
    {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} [الزخرف: 45].
    وقال - تعالى -:
    {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [النحل: 36].
    وقال - تعالى -:
    {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].

    فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب، لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل، وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله - تعالى -، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه، ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان.

    كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك.
    وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة، فليسوا على التوحيد المحض، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة.
    وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم كقوله - تعالى -:
    {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221].
    فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء، كما كان عبد الله بن عمر، ينهى عن نكاح النصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن عيسى ربها.
    وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم.
    وأما جمهور السلف والخلف، فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله - تعالى -:
    {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} [المائدة: 5].
    وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب.
    وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله:
    {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} [المائدة: 82].
    أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود.
    وكذلك قوله:
    {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1].
    ونحو ذلك، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره، كلفظ المعروف والمنكر في قوله - تعالى -:
    {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} [الأعراف: 157].
    فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر.
    وفي قوله: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].

    فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس.
    وكذلك المنكر في قوله:
    {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45].
    قرن الفحشاء بالمنكر، وقوله:
    {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90].
    قرن الفحشاء بالمنكر والبغي.
    وكذلك لفظ البر والإيمان، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى، كقوله:{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177].
    وقال:
    {إن الأبرار لفي نعيم} [الانفطار: 13].
    وقوله:
    {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال: 2].
    وقد يقرنه بغيره كقوله:
    {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2].
    وقوله:
    {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [البقرة: 277].
    وكذلك لفظ الفقير، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر.
    وقد يجمع بينهما في قوله:
    {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60].
    فيكونان هنا صنفين، وفي تلك المواضع صنف واحد، فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله:
    {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28].
    يدخل فيه جميع الكفار، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين.
    وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان إذا أرسل أميرا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا، وقال لهم: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم».

    وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - النصارى بالشام، واليهود باليمن.
    وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن تنازعوا في الجزية: هل تؤخذ من غير أهل الكتاب؟ وهذا مبسوط في موضعه.





  19. #299
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 297)

    من صــ 151 الى صـ 165





    (ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    فصل:
    قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. ومن المشهور في التفسير: أنها نزلت بسبب جماعة من الصحابة كانوا قد عزموا على الترهب وفي الصحيحين عن أنس: {أن رجالا سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته في السر فتقالوا ذلك} وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن سعد قال: {رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا}. وعن عكرمة أن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في أصحاب لهم تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا الطيبات من الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية. وكذلك ذكر سائر المفسرين ما يشبه هذا المعنى. وقد ذم الله الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وذم الذين يتبعون الشهوات والذين يريدون أن تميلوا ميلا عظيما ويريدون ميل المؤمنين ميلا عظيما. وذم الذين اتبعوا ما أترفوا فيه والذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام.
    وأكثر الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات شربة الخمر كما قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} فجمعوا بين الشهوة المحرمة وترك ذكر الله وإضاعة الصلاة وكذلك غيرهم من أهل الشهوات. ثم نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات وعن الاعتداء في تناولها وهو مجاوزة الحد وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا.

    وقيل: لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لا بد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك. والمقصود بالزهد ترك ما يضر العبد في الآخرة وبالعبادة فعل ما ينفع في الآخرة فإذا ترك الإنسان ما ينفعه في دينه وينفعه في آخرته وفعل من العبادة ما يضر فقد اعتدى وأسرف وإن ظن ذلك زهدا نافعا وعبادة نافعة.

    قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والنخعي: {ولا تعتدوا} أي لا تجبوا أنفسكم وقال عكرمة لا تسيروا بغير سيرة المسلمين: من ترك النساء ودوام الصيام والقيام. وقال مقاتل: لا تحرموا الحلال وعن الحسن لا تأتوا ما نهى الله عنه وهذا ما أريد به لا تحرموا الحلال ولا تفعلوا الحرام؛ فيكون قد نهى عن النوعين؛ لكن سبب نزول الآية وسياقها يدل على قول الجمهور وقد يقال هذا مثل قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} وقوله في تمام الآية: {وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} الآية. وكذلك الأحاديث الصحيحة كقول أحدهم: لا أتزوج النساء وقول الآخر لا آكل اللحم. كما في حديث أنس المتقدم وهذا مما يدل على أن صوم الدهر مكروه وكذلك مداومة قيام الليل.
    فصل:
    وهذا الذي جاءت به شريعة الإسلام هو الصراط المستقيم وهو الذي يصلح به دين الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أعدل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما} وفي رواية صحيحة: " أفضل " والأفضل هو الأعدل الأقوم. وهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وهي وسط بين هذين الصنفين: أصحاب البدع وأصحاب الفجور أهل الإسراف والتقشف الزائد. ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين. قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه وكانوا يقولون: احذروا صاحب الدنيا أغوته دنياه وصاحب هوى متبع لهواه وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.

    فـ " القسم الأول " أهل الفجور وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه. و " القسم الثاني " المترهبون أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم هؤلاء استمتعوا بخلاقهم وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة ويفسد حالهم كما هو مشاهد كثيرا منهم. والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا؛ بل يلتزمون ألا يفعلوه إما بالنذر وإما باليمين كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله علي ألا آكل طعاما بالنهار أبدا ويعاهد أحدهم ألا يأكل الشهوة الملائمة ويلتزم ذلك بقصده وعزمه وإن لم يحلف ولم ينذر.

    فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء وهذا يلتزم ألا يأكل الخبز وهذا يلتزم ألا يشرب الفقاع وهذا يلتزم ألا يتكلم قط وهذا يجب نفسه وهذا يلتزم ألا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس وقهر الهوى والشهوة.
    ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها وكذلك قهر الهوى والشهوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله} لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح ويقتصد في ذلك ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق. فهذا تجده يحصل له من مجاهدات النفس وقهر الهوى ما هو أنفع له من تلك الطريق المبتدعة الوعرة القليلة المنفعة التي غالب من سلكها ارتد على حافره ونقض عهده ولم يرعها حق رعايتها. وهذا يثاب على ذلك ما لا يثاب على سلوك تلك الطريق وتزكو به نفسه وتسير به إلى ربه ويجد بذلك من المزيد في إيمانه ما لا يجده أصحاب تلك الطريق فإنهم لا بد أن تدعوهم أنفسهم إلى الشهوات المحرمة؛ فإنه ما من بني آدم إلا من أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا وقد قال تعالى:
    {وخلق الإنسان ضعيفا}. قال طاوس في أمر النساء وقلة صبره عنهن كما تقدم فميل النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كما هو المذكور عنهم؛ فيبتلى بالميل إلى المردان وإن لم يفعل الفاحشة الكبرى ابتلي بما هو دون ذلك من المباشرة والمشاهدة ولا يكاد أن يسلم أحدهم من الفاحشة إما في سره وإما بينه وبين الأمرد ويحصل للنفس من ذلك ما هو معروف عند الناس. وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في الله وهو مأمور بهذا الجهاد ليس أمرا أوجبه وحرمه هو على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه؛ فيصير بالمجاهدة في طاعة الله ورسوله. وفي حديث رواه أبو يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا: {من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات فهو شهيد} وأبو يحيى في حديثه نظر؛ لكن المعنى الذي ذكره دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن الله أمر بالتقوى والصبر فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرمه الله من نظر بعين ومن لفظ بلسان ومن حركة بيد ورجل ومن الصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله عز وجل.

    فإن هذا هو الصبر الجميل. وأما الكتمان فيراد به شيئان: " أحدهما " أن يكتم بثه وألمه فلا يشكو إلى غير الله فمتى شكا إلى غير الله نقص صبره وهذا أعلى الكتمانين؛ لكن هذا لا يقدر عليه كل أحد؛ بل كثير من الناس يشكو ما به وهذا على وجهين: فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب الأديان ومضرات النفوس ومنافعها؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهذا بمنزلة المستفتي وهذا حسن. وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام وإن شكا إلى غيره لما في الشكوى من الراحة كما يشكو المصاب مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه ولا الاستعانة على مصيبته فهذا ينقص صبره؛ ولكن لا يأثم مطلقا إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذي يتسخط.

    و " الثاني " أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفاحشة فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعيا له إلى الفعل والتشبه به والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث ملن إلى الباءة والمجامعة والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء ورأى ذلك أو تخيله في نفسه دعاه ذلك إلى الفعل وإذا ذكر للإنسان طعام اشتهاه ومال إليه وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غيره مالت نفسه إليه والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حن إليه وكل ما في نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب؛ إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته وكلاهما يحصل به تخيل في النفس وقد يحصل التخيل بالسماع أو الرؤية أو الفكر في بعض الأمور المتعلقة به فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى ما تخيلته فتحركت داعية المحبة سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة.
    ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز أو كان أوان الحج أو رأى من يذهب إلى الحج من أهله وأقاربه أو أصحابه أو غيرهم ولو لم يسمع ذلك ويراه لما تحرك ولا حدث منه داعية قوته إلى ذلك فتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعلي ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى محبوبه فصار ذكرها يذكره بالمحبوب.
    وكذلك أصحاب المتاجر والأموال إذا سمع أحدهم بالمكاسب تحركت داعيته إلى ذلك وكذلك أهل الفرج والتنزه إذا رأوا من يقصد ذلك تحركوا إليه وهذه الدواعي كلها مركوزة في نفوس بني آدم والإنسان ظلوم جهول. وكذلك ذكر آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر به وتحرك محبته فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذكر ما به لغيره تحركت نفس ذلك الغير إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة فإذا تصورت جنسا تحرك إليها المحبوب. ولهذا نهى الله تعالى عن إشاعة الفاحشة.

    وكذلك أمر بستر الفواحش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله} وقال: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله فيصبح يتحدث به} فما دام الذنب مستورا فعقوبته على صاحبه خاصة وإذا ظهر ولم ينكر كان ضرره عاما فكيف إذا كان في ظهوره تحريك لغيره إليه. ولهذا كره الإمام أحمد وغيره إنشاد الأشعار: الغزل الرقيق؛ لأنه يحرك النفوس إلى الفواحش؛ فلهذا أمر من يبتلى بالعشق أن يعف ويكتم ويصبر فيكون حينئذ ممن قال الله فيه: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.

    والمقصود أنه يثاب على هذه المجاهدة والمجاهد من جاهد نفسه في الله. وأما المبتدعون في الزهد والعبادة السالكون طريق الرهبان فإنهم قد يزهدون في النكاح وفضول الطعام والمال ونحو ذلك. وهذا محمود؛ لكن عامة هؤلاء لا بد أن يقعوا في ذنوب من هذا الجنس كما نجد كثيرا منهم يبتلى بصحبة الأحداث وإرفاق النساء؛ فيبتلون بالميل إلى الصور المحرمة من النساء والصبيان ما لا يبتلى به أهل السنة المتبعون للشريعة المحمدية. وحكاياتهم في هذا أكثر من أن يحكى بسطها في كتاب وعندهم من الفواحش الباطنة والظاهرة ما لا يوجد عند غيرهم وخيار من فيهم يميل إلى الأحداث والغناء والسماع؛ لما يجدون في ذلك من راحة النفوس ولو اتبعوا السنة لاستراحوا من ذلك. قال أبو سعيد الخراز لما قال له الشيطان في المنام: لي فيكم لطيفتان السماع وصحبة الأحداث قال أبو سعيد: قل من ينجو منهما من أصحابنا حتى إنهم لقوة محبة نفوسهم له صار ذلك ممتزجا بطريقهم إلى الله فإن أحدهم يجد في نفسه عند مشاهدة الشاهد من الرغبة فيما اعتاده من العبادة والزهادة ما لا يجدها بدون ذلك وعنده في نفسه عند سماع القصائد من الشوق والرغبة والنشاط ما لا يجده عند سماع القرآن فصاروا في شبهة وشهوة لم يكتف الشيطان منهم بوقوعهم في الأمور المحرمة التي تفتنهم حتى جعلهم يعتبرون ذلك عبادة كالذين قال الله فيهم: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} الآية.
    وهؤلاء هم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وإذا وقعوا في السماع وقعوا فيه بشوق ورغبة قوية ومحبة تامة وبذلوا فيه أنفسهم وأموالهم. فقد يبذلون فيه نساءهم وأبناءهم ويدخلون في الدياثة لأغراضهم فيأتي أحدهم بولده فيهبه للشيخ يفعل ما أراد هو ومن يلوذ به ويسمونه حوارا وإن كان حسن الصورة استأثر به الشيخ دونهم ويعد أهله ذلك بركة حصلت له من الشيخ ويرتفع الحياء بين أم الصبي وأبيه وبين الفقراء. وإذا صلوا صلوا صلاة المنافقين يقومون إليها وهم كسالى {يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}.

    فقد أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ومع هذا فهم قد يزهدون في بعض الطيبات التي أحلها الله لهم ويجتهدون في عبادات وأذكار لكن مع بدعة وأفعال لا تجوز مما تقدم ذكره فتلك البدعة هي التي أوقعتهم في اتباع الشهوات وإضاعة الصلوات؛ لأن الشريعة مثالها مثال سفينة نوح؛ من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وهؤلاء تخلفوا عنها فغرقوا بحبهم ويتوب الله على من تاب. والسالكون للشريعة المحمدية إذا ابتلوا بالذنوب لم تكن التوبة عليهم من الآصار والأغلال؛ بل من الحنيفية السمحة وأما أهل البدع فقد تكون التوبة عليهم آصارا وأغلالا كما كانت على من قبلنا من الرهبان فإنهم إذا وقع أحدهم في الذنب لم يخلص من شره إلا ببلاء شديد من أجل خروجه عن السنة.

    وهؤلاء قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه السلوك إلى الله تعالى إلا ببدعة. وكذلك أهل الفجور المترفين قد يظن أحدهم أنه لا يمكنه فعل الواجبات إلا بما يفعله من الذنوب ولا يمكنه ترك المحرمات إلا بذلك وهذا يقع لبشر كثير من الناس. منهم من يقول: إنه لا يمكن أداء الصلوات واجتناب الكلام المحرم - من الغيبة وغيرها - إلا بأكل الحشيشة. ويقول الآخر: إن أكلها يعينه على استنباط العلوم وتصفية الذهن حتى يسميها بعضهم معدن الفكر والذكر ومحركة العزم الساكن وكل هذا من خدع النفس ومكر الشيطان بهؤلاء وغيرهم وإنها لعمى الذهن ويصير آكلها أبكم مجنونا لا يعي ما يقول. وكذلك في هؤلاء من يقول: إن محبته لله ورغبته في العبادة وحركته ووجده وشوقه وغير ذلك لا يتم إلا بسماع القصائد ومعاشرة الشاهد من الصبيان وغيرهم وسماع الأصوات والنغمات ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات ورؤية الصور المحركات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ما لا تتحرك بدون ذلك وأنهم بدون ذلك قد يتركون الصلوات ويفعلون المحرمات الكبار كقطع الطريق وقتل النفوس ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم والكبائر وتحملها على الصلاة والصوم والحج. وهذا مستند كثير من الشيوخ الذين يدعون الناس إلى طريقهم بالسماع المبتدع على اختلاف ألوانه وأنواعه. منهم من يدعو إليه بالدف والرقص ومنهم من يضيف إلى ذلك الشبابات ومنهم من يعمله بالنساء والصبيان ومنهم من يعمله بالدف والكف ومنهم من يعمله بأذكار واجتماع وتسبيحات وقيام وإنشاد أشعار وغير ذلك من سائر أنواعه وألوانه. وربما ضموا إليه من معاشرة النساء والمردان ونحو ذلك. ويقولون هؤلاء الذين توبناهم وقد كانوا لا يصلون ولا يحجون ولا يصومون بل كانوا يقطعون الطريق ويقتلون النفس ويزنون؛ فتوبناهم عن ذلك بهذا السماع. وما أمكن أحدهم استتابتهم بغير هذا. وقد يعترفون أن ما فعلوه بدعة منهي عنها أو محرمة؛ ولكن يقولون ما أمكننا إلا هذا وإن لم نفعل هذا القليل من المحرم حصل الوقوع فيما هو أشد منه تحريما وفي ترك الواجبات ما يزيد إثمه على إثم هذا المحرم القليل في جنب ما كانوا فيه من المحرم الكثير.

    ويقولون: إن الإنسان يجد في نفسه نشاطا وقوة في كثير من الطاعات إذا حصل له ما يحبه وإن كان مكروها حراما. وأما بدون ذلك فلا يجد شيئا ولا يفعله. وهو أيضا يمتنع عن المحرمات إذا عوض بما يحبه وإن كان مكروها وإلا لم يمتنع وهذه الشبهة واقعة لكثير من الناس وجوابها مبني على ثلاث مقامات: " أحدها " أن المحرمات قسمان: " أحدهما " ما يقطع بأن الشرع لم يبح منه شيئا لا لضرورة ولا لغير ضرورة: كالشرك والفواحش والقول على الله بغير علم. والظلم المحض وهي الأربعة المذكورة في قوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. فهذه الأشياء محرمة في جميع الشرائع وبتحريمها بعث الله جميع الرسل ولم يبح منها شيئا قط ولا في حال من الأحوال ولهذا أنزلت في هذه السورة المكية ونفي التحريم عما سواها؛ فإنما حرمه بعدها كالدم والميتة ولحم الخنزير حرمه في حال دون حال وليس تحريمه مطلقا.





  20. #300
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ المائدة
    المجلد الثامن
    الحلقة( 298)

    من صــ 166 الى صـ 180



    وكذلك " الخمر " يباح لدفع الغصة بالاتفاق ويباح لدفع العطش في أحد قولي العلماء ومن لم يبحها قال: إنها لا تدفع العطش وهذا مأخذ أحمد. فحينئذ فالأمر موقوف على دفع العطش بها فإن علم أنها تدفعه أبيحت بلا ريب كما يباح لحم الخنزير لدفع المجاعة وضرورة العطش الذي يرى أنه يهلكه أعظم من ضرورة الجوع؛ ولهذا يباح شرب النجاسات عند العطش بلا نزاع فإن اندفع العطش وإلا فلا إباحة في شيء من ذلك. وكذلك " الميسر " فإن الشارع أباح السبق فيه بمعنى الميسر للحاجة في مصلحة الجهاد. وقد قيل إنه ليس منه وهو قول من لم يبح العوض من الجانبين مطلقا إلا المحلل ولا ريب أن الميسر أخف من أمر الخمر وإذا أبيحت الخمر للحاجة فالميسر أولى. والميسر لم يحرم لذاته إلا لأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء. فإذا كان فيه تعاون على الرمي الذي هو من جنس الصلاة وعلى الجهاد الذي فيه تعاون وتتألف به القلوب على الجهاد زالت هذه المفسدة. وكذلك بيع الغرر هو من جنس الميسر ويباح منه أنواع عند الحاجة ورجحان المصلحة.
    وكذلك " الربا " حرم لما فيه من الظلم وأوجب ألا يباع الشيء إلا بمثله ثم أبيح بيعه بجنسه خرصا عند الحاجة بخلاف غيرها من المحرمات فإنها تحرم في حال دون حال. ولهذا - والله أعلم - نفى التحريم عما سواها وهو التحريم المطلق العام فإن المنفي من جنس المثبت فلما أثبت فيها التحريم العام المطلق نفاه عما سواها. و " المقام الثاني " أن يفرق بين ما يفعل في الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه لم ينه عنه ولم يبحه أيضا. ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف؛ لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه. بخلاف ما أمر الله به الأنبياء وأتباعهم من دعوة الخلق؛ فإن دعوتهم يحصل بها مصلحة راجحة على مفسدتها كدعوة موسى لفرعون ونوح لقومه فإنه حصل لموسى من الجهاد وطاعة الله وحصل لقومه من الصبر والاستعانة بالله ما كانت عاقبتهم به حميدة وحصل أيضا من تغريق فرعون وقومه ما كانت مصلحته عظيمة.
    وكذلك نوح حصل له ما أوجب أن يكون ذريته هم الباقين وأهلك الله قومه أجمعين فكان هلاكهم مصلحة. فالمنهي عنه إذا زاد شره بالنهي وكان النهي مصلحة راجحة كان حسنا وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع مثل أن يكون الآمر لا صبر له فيؤذى فيجزع جزعا شديدا يصير به مذنبا وينتقص به إيمانه ودينه. فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك؛ بخلاف ما إذا صبر واتقى الله وجاهد ولم يتعد حدود الله بل استعمل التقوى والصبر؛ فإن هذا تكون عاقبته حميدة.

    وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة كما قال تعالى: {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}
    وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله فإن هذا لا يكون إلا مفسدة أو مفسدته راجحة على مصلحته وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب وتكون مصلحته أنه يتوب منه ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة وإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها فإن الإنسان قد يحصل له بعدم الذنوب كبر وعجب وقسوة فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه ولين قلبه بما يحصل له من التوبة.

    ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلي بالذنوب من الأنبياء والصالحين وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة فليس للإنسان أن يعتقد حل ما يعلم أن الله حرمه قطعا وليس له أن يفعله قطعا فإن غلبته نفسه وشيطانه فوقع فيه تاب منه فإن تاب فصار بالتوبة خيرا مما كان قبله فهذا من رحمة الله به حين تاب عليه وإلا فلو لم يتب لفسد حاله بالذنب وليس له أن يقول أنا أفعل ثم أتوب ولا يبيح الشارع له ذلك لأنه بمنزلة من يقول أنا أطعم نفسي ما يمرضني ثم أتداوى أو آكل السم ثم أشرب الترياق.
    والشارع حكيم فإنه لا يدري هل يتمكن من التوبة أم لا؟ وهل يحصل الدواء بالترياق وغيره أم لا؟ وهل يتمكن من الشرب أم لا؟ لكن لو وقع هذا وكانت آخرته إلى التوبة النصوح كان الله قد أحسن إليه بالتوبة وبالعفو عما سلف من ذنوبه وقد يكون مثل هذا ليس صلاحه إلا في أن يذنب ويتوب ولو لم يفعل ذلك كان شرا منه لو لم يذنب ويتب؛ لكن هذا أمر يتعلق بخلق الله وقدره وحكمته لا يمكن أحد أن يأمر به الإنسان؛ لأنه لا يدري أن ذلك خير له وليس ما يفعله خلقا - لعلمه وحكمته - يجوز للرسل وللعباد أن يفعلوه ويأمروا به. وقصة الخضر مع موسى لم تكن مخالفة لشرع الله وأمره ولا فعل الخضر ما فعله لكونه مقدرا كما يظنه بعض الناس؛ بل ما فعله الخضر هو مأمور به في الشرع بشرط أن يعلم من مصلحته ما علمه الخضر؛ فإنه لم يفعل محرما مطلقا؛ ولكن خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار فإن إتلاف بعض المال لصلاح أكثره هو أمر مشروع دائما.

    وكذلك قتل الإنسان الصائل لحفظ دين غيره أمر مشروع وصبر الإنسان على الجوع مع إحسانه إلى غيره أمر مشروع. فهذه القضية تدل على أنه يكون من الأمور ما ظاهره فساد فيحرمه من لم يعرف الحكمة التي لأجلها فعل وهو مباح في الشرع باطنا وظاهرا لمن علم ما فيه من الحكمة التي توجب حسنه وإباحته. وهذا لا يجيء في الأنواع الأربعة فإن الشرك والقول على الله بلا علم والفواحش ما ظهر منها وما بطن والظلم: لا يكون فيها شيء من المصلحة وقتل النفس أبيح في حال دون حال؛ فليس من الأربعة.

    وكذلك إتلاف المال يباح في حال دون حال وكذلك الصبر على المجاعة؛ ولذلك قال: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} فإخلاص الدين له والعدل واجب مطلقا في كل حال وفي كل شرع؛ فعلى العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين ويدعوه مخلصا له لا يسقط هذا عنه بحال ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل " لا إله إلا الله ". فهذا حق الله على كل عبد من عباده كما في الصحيحين من حديث {معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا} الحديث. فلا ينجون من عذاب الله إلا من أخلص لله دينه وعبادته ودعاه مخلصا له الدين ومن لم يشرك به ولم يعبده فهو معطل عن عبادته وعبادة غيره: كفرعون وأمثاله فهو أسوأ حالا من المشرك؛ فلا بد من عبادة الله وحده وهذا واجب على كل أحد فلا يسقط عن أحد ألبتة وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره. ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه فمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا امتحن في الآخرة ولا يدخل النار إلا من اتبع الشيطان فمن لا ذنب له لا يدخل النار ولا يعذب الله بالنار أحدا إلا بعد أن يبعث إليه رسولا فمن لم تبلغه دعوة رسول إليه كالصغير والمجنون والميت في الفترة المحضة فهذا يمتحن في الآخرة كما جاءت بذلك الآثار.

    فيجب الفرق في الواجبات والمحرمات - والتمييز بينهما هو اللازم لكل أحد على كل حال وهو العدل في حق الله وحق عباده بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين ولا يظلم الناس شيئا وما هو محرم على كل أحد في كل حال لا يباح منه شيء وهو الفواحش والظلم والشرك والقول على الله بلا علم - وبين ما سوى ذلك. قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا} فهذا محرم مطلقا لا يجوز منه شيء {وبالوالدين إحسانا} فهذا فيه تقييد. فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه.

    وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء. قوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} فهذا تحريم خاص {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} هذا مطلق {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} هذا مقيد فإن يتامى المشركين أهل الحرب يجوز غنيمة أموالهم؛ لكن قد يقال: هذا أخذ وقربان بالتي هي أحسن إذا فسر الأحسن بأمر الله ورسوله {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} هذا مقيد بمن يستحق ذلك {وإذا قلتم فاعدلوا} هذا مطلق. {وبعهد الله أوفوا} فالوفاء واجب؛ لكن يميز بين عهد الله وغيره ويفرق بين ما يسكت عنه الإنسان وبين ما يلفظ به ويفعله ويأمر به ويفرق بين ما قدره الله فحصل بسببه خير وبين ما يؤمر به العبد فيحصل بسببه خير.
    (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)
    فصل:
    وأما أنواع الأيمان الثلاثة " فالأول ". أن يعقد اليمين بالله.
    و " الثاني " أن يعقدها لله.
    " والثالث " أن يعقدها بغير الله أو لغير الله.
    فأما " الأول " فهو الحلف بالله. فهذه يمين منعقدة مكفرة بالكتاب والسنة والإجماع.

    وأما " الثالث " وهو أن يعقدها بمخلوق أو لمخلوق مثل: أن يحلف بالطواغيت؛ أو بأبيه. أو الكعبة: أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه يمين غير محترمة لا تنعقد ولا كفارة بالحنث فيها باتفاق العلماء؛ لكن نفس الحلف بها منهي عنه فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى. فليقل لا إله إلا الله} وسواء في ذلك الحلف بالملائكة والأنبياء وغيرهم باتفاق العلماء؛ إلا أن في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم " قولين " في مذهب أحمد وقول الجمهور أنها يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها.
    وأما عقدها لغير الله فمثل أن ينذر للأوثان والكنائس أو يحلف بذلك فيقول: إن فعلت كذا فعلي للكنيسة كذا أو لقبر فلان كذا ونحو ذلك. فهذا إن كان نذرا فهو شرك وإن كان يمينا: فهو شرك إذا كان يقول ذلك على وجه التعظيم كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فعلي هدي وأما إذا قاله على وجه البغض لذلك كما يقول المسلم: إن فعلت كذا فأنا يهودي. أو نصراني فهذا ليس مشركا وفي لزوم الكفارة له قولان معروفان للعلماء. وما كان من نذر شرك أو يمين شرك فعليه أن يتوب إلى الله من عقدها؛ ليس فيها وفاء ولا كفارة إنما ذلك فيما كان لله أو بالله.
    وأما المعقود لله فعلى وجهين. " أحدهما " أن يكون قصده التقرب إلى الله؛ لا مجرد أن يحض أو يمنع. وهذا هو النذر فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:{كفارة النذر كفارة يمين} وثبت عنه أن قال: {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه}. فإذا كان قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة فعليه الوفاء به وإن نذر ما ليس بطاعة لم يكن عليه الوفاء به. وما كان محرما لا يجوز الوفاء به؛ لكن إذا لم يوف بالنذر لله فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف وهو قول أحمد وهو قول أبي حنيفة. قيل: مطلقا. وقيل: إذا كان في معنى اليمين.
    " والثاني " أن يكون مقصوده الحض أو المنع أو التصديق أو التكذيب فهذا هو الحلف بالنذر والطلاق والعتاق والظهار والحرام كقوله: إن فعلت كذا فعلي الحج وصوم سنة ومالي صدقة وعبيدي أحرار ونسائي طوالق. فهذا الصنف يدخل في مسائل " الأيمان " ويدخل في مسائل " الطلاق والعتاق والنذر والظهار ".
    وللعلماء فيه ثلاثة أقوال. " أحدها " أنه يلزمه ما حلف به إذا حنث؛ لأنه التزم الجزاء عند وجود الشرط وقد وجد الشرط فيلزمه: كنذر التبرر المعلق بالشرط. " والقول الثاني ": هذه يمين غير منعقدة فلا شيء فيها إذا حنث؛ لا كفارة ولا وقوع؛ لأن هذا حلف بغير الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت} وفي رواية في الصحيح {: لا تحلفوا إلا بالله} "

    والقول الثالث " أن هذه أيمان مكفرة إذا حنث فيها كغيرها من الأيمان. ومن العلماء من فرق بين ما عقده لله من الوجوب - وهو الحلف بالنذر - وما عقده لله من تحريم - وهو الحلف بالطلاق والعتاق - فقالوا في الأول: عليه كفارة يمين إذا حنث. وقالوا في الثاني: يلزمه ما علقه وهو الذي حلف به إذا حنث؛ لأن الملتزم في الأول فعل واجب فلا يبرأ إلا بفعله فيمكنه التكفير قبل ذلك والملتزم في الثاني وقوع حرمة. وهذا يحصل بالشرط فلا يرتفع بالكفارة.

    و " القول الثالث " هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وعليه تدل أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة كما قد بسط في موضعه. وذلك أن الله قال في كتابه: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} إلى قوله: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وهذا يتناول جميع أيمان المسلمين لفظا ومعنى. أما اللفظ فلقوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقوله: {ذلك كفارة أيمانكم} وهذا خطاب للمؤمنين فكل ما كان من أيمانهم فهو داخل في هذا
    والحلف بالمخلوقات شرك ليس من أيمانهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم {من حلف بغير الله فقد أشرك} رواه أهل السنن أبو داود وغيره فلا تدخل هذه في أيمان المسلمين.
    وأما ما عقده بالله أو لله فهو من أيمان المسلمين فيدخل في ذلك؛ ولهذا لو قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني ونوى دخول الطلاق والعتاق: دخل في ذلك كما ذكر ذلك الفقهاء ولا أعلم فيه نزاعا ولا يدخل في ذلك الحلف بالكعبة وغيرها من المخلوقات وإذا كانت من أيمان المسلمين تناولها الخطاب.
    وأما من جهة المعنى فهو أن الله فرض الكفارة في أيمان المسلمين؛ لئلا تكون اليمين موجبة عليهم أو محرمة عليهم لا مخرج لهم كما كانوا عليه في أول الإسلام قبل أن تشرع الكفارة؛ لم يكن للحالف مخرج إلا الوفاء باليمين فلو كان من الأيمان ما لا كفارة فيه كانت هذه المفسدة موجودة.
    وأيضا فقد قال الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} نهاهم الله أن يجعلوا الحلف بالله مانعا لهم من فعل ما أمر به؛ لئلا يمتنعوا عن طاعته باليمين التي حلفوها فلو كان في الأيمان ما ينعقد ولا كفارة فيه لكان ذلك مانعا لهم من طاعة الله إذا حلفوا به.
    وأيضا فقد قال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}، " والإيلاء " هو الحلف والقسم والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء وإما أن يطلق. والفيئة هي الوطء: خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان.
    فإن فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته. ولا تسقط الكفارة كما في قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين. وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم. فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق. فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن الفرق بين الطلاق والحلف " وإيضاح الحكم في ذلك؟
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
    الصيغ التي يتكلم بها الناس في الطلاق والعتاق والنذر والظهار والحرام " ثلاثة أنواع ".

    " النوع الأول " صيغة التنجيز مثل أن يقول: امرأتي طالق. أو: أنت طالق. أو: فلانة طالق. أو هي مطلقة. ونحو ذلك: فهذا يقع به الطلاق ولا تنفع فيه الكفارة بإجماع المسلمين. ومن قال: إن هذا فيه كفارة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وكذلك إذا قال: عبدي حر. أو علي صيام شهر. أو: عتق رقبة. أو: الحل علي حرام. أو: أنت علي كظهر أمي: فهذه كلها إيقاعات لهذه العقود بصيغ التنجيز والإطلاق.
    " والنوع الثاني " أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعل كذا. أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه الذي يرى أنه يبر قسمه - ليفعلن كذا. أو لا يفعل كذا. أو يقول: الحل علي حرام لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو يقول: علي الحج لأفعلن كذا. أو لا أفعله ونحو ذلك: فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور؛ لا موقع لها. وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال.





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •