تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 23 الأولىالأولى ... 4567891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 450

الموضوع: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (256)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الاية70 إلى الاية 83



    ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ( 70 ) )

    ( والله خلقكم ثم يتوفاكم ) صبيانا أو شبانا أو كهولا ( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) أردئه ، قال مقاتل : يعني الهرم .

    قال قتادة : أرذل العمر تسعون سنة .

    روي عن علي قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وقيل : ثمانون سنة .

    ( لكي لا يعلم بعد علم شيئا ) لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئا ، ( إن الله عليم قدير )

    أنبأنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، [ حدثنا موسى بن إسماعيل ] حدثنا هارون بن موسى ، حدثنا أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " أعوذ بك من البخل ، والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " .
    [ ص: 31 ] ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ( 71 ) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ( 72 ) )

    ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ) بسط عن واحد ، وضيق على الآخر ، وقلل وكثر .

    ( فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ) من العبيد ، ( فهم فيه سواء ) أي : حتى يستووا هم وعبيدهم في ذلك . يقول الله تعالى : لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقهم الله سواء ، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم به الحجة على المشركين .

    قال قتادة : هذا مثل ضربه الله عز وجل ، فهل منكم أحد يشركه مملوكه في زوجته وفراشه وماله؟ أفتعدلون بالله خلقه وعباده؟

    ( أفبنعمة الله يجحدون ) بالإشراك به ، وقرأ أبو بكر بالتاء لقوله " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " ، والآخرون بالياء لقوله : " فهم فيه سواء " . قوله تعالى : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) يعني : النساء ، خلق من آدم زوجته حواء . وقيل : " من أنفسكم " أي : من جنسكم أزواجا .

    ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) قال ابن مسعود ، والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته .

    وعن ابن مسعود أيضا : أنهم الأصهار ، فيكون معنى الآية على هذا القول : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات ، تزوجونهم فيحصل بسببهم الأختان والأصهار .

    وقال عكرمة ، والحسن ، والضحاك : هم الخدم .

    قال مجاهد : هم الأعوان ، من أعانك فقد حفدك .

    وقال عطاء : هم ولد ولد الرجل ، الذين يعينونه ويخدمونه .

    وقال قتادة : مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم .

    قال الكلبي ومقاتل : " البنين " : الصغار ، و " الحفدة " : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله .

    وروى مجاهد ، وسعيد بن جبير عن ابن عباس : أنهم ولد الولد . [ ص: 32 ]

    وروى العوفي عنه : أنهم بنو امرأة الرجل ليسوا منه .

    ( ورزقكم من الطيبات ) من النعم والحلال ، ( أفبالباطل ) يعني الأصنام ، ( يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) ؟ يعني التوحيد والإسلام .

    وقيل : " الباطل " : الشيطان ، أمرهم بتحريم البحيرة ، والسائبة ، و " بنعمة الله " أي : بما أحل الله لهم " يكفرون " : يجحدون تحليله .
    ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ( 73 ) فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ( 74 ) )

    ( ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات ) يعني المطر ، ( والأرض ) يعني النبات ، ( شيئا ) قال الأخفش : هو بدل من الرزق ، معناه : أنهم لا يملكون من أمر الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا .

    وقال الفراء : نصب " شيئا " بوقوع الرزق عليه ، أي : لا يرزق شيئا ، ( ولا يستطيعون ) ولا يقدرون على شيء ، يذكر عجز الأصنام عن إيصال نفع أو دفع ضر . ( فلا تضربوا لله الأمثال ) يعني الأشباه . فتشبهونه بخلقه ، وتجعلون له شريكا ، فإنه واحد لا مثل له ، ( إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) خطأ ما تضربون من الأمثال .
    ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 75 ) وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ( 76 ) )

    ثم ضرب مثلا [ للكافرين والمؤمنين ] فقال جل ذكره : [ ص: 33 ] ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) هذا مثل الكافر ، رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا ، ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا ) هذا مثل المؤمن ، أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله ، وأنفقه في رضاء الله ، سرا وجهرا ، فأثابه الله عليه الجنة . ( هل يستوون ) ولم يقل يستويان لمكان " من " وهو اسم يصلح للواحد والاثنين والجمع ، وكذلك قوله " لا يستطيعون " بالجمع لأجل ما .

    معناه : هل يستوي هذا الفقير البخيل والغني السخي؟ كذلك لا يستوي الكافر العاصي والمؤمن المطيع . وروى ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى : ( عبدا مملوكا ) أي : أبو جهل بن هشام ( ومن رزقناه منا رزقا حسنا ) أبو بكر الصديق رضي الله عنه . ثم قال :

    ( الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) يقول ليس الأمر كما تقولون ، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتحمد عليه ، إنما الحمد الكامل لله عز وجل ، لأنه المنعم والخالق والرازق ، ولكن أكثر الكفار لا يعلمون . ثم ضرب مثلا للأصنام فقال : ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ) كل : ثقل ووبال " على مولاه " ابن عمه ، وأهل ولايته ، ( أينما يوجهه ) يرسله ، ( لا يأت بخير ) لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا يفهم عنه ، هذا مثل الأصنام ، لا تسمع ، ولا تنطق ، ولا تعقل ، ( وهو كل على مولاه ) عابده ، يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويخدمه .

    ( هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ) يعني : الله تعالى قادر ، متكلم ، يأمر بالتوحيد ، ( وهو على صراط مستقيم ) [ قال الكلبي : يعني يدلكم على صراط مستقيم . [ ص: 34 ]

    وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .

    وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطية عن ابن عباس .

    وقال عطاء : الأبكم : أبي بن خلف ، ومن يأمر بالعدل : حمزة ، وعثمان بن عفان ، وعثمان بن مظعون

    وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقيل : نزلت في عثمان بن عفان ومولاه ، كان عثمان ينفق عليه ، وكان مولاه يكره الإسلام .
    ( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير ( 77 ) والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( 78 ) )

    ( ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة ) في قرب كونها ، ( إلا كلمح البصر ) إذا قال له : " كن " فيكون ، ( أو هو أقرب ) بل هو أقرب ، ( إن الله على كل شيء قدير ) نزلت في الكفار الذين يستعجلون القيامة استهزاء . قوله عز وجل : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم ) قرأ الكسائي " بطون إمهاتكم " بكسر الهمزة ، وقرأ حمزة بكسر الميم والهمزة ، والباقون بضم الهمزة وفتح الميم ، ( لا تعلمون شيئا ) تم الكلام ، ثم ابتدأ فقال جل وعلا ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) لأن الله تعالى جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمهات ، وإنما أعطاهم العلم بعد الخروج ، ( لعلكم تشكرون ) نعمة الله .
    [ ص: 35 ] ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( 79 ) ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ( 80 ) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ( 81 ) )

    ( ألم يروا ) قرأ ابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب : بالتاء ، والباقون بالياء لقوله : " ويعبدون " . ( إلى الطير مسخرات ) مذللات ، ( في جو السماء ) وهو الهواء بين السماء والأرض . عن كعب الأحبار أن الطير ترتفع اثني عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجو السكاك ، وفوق السكاك السماء ( ما يمسكهن ) في الهواء ( إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ( والله جعل لكم من بيوتكم ) [ التي هي من الحجر والمدر ] ( سكنا ) أي : مسكنا تسكنونه ، ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ) يعني الخيام ، والقباب ، والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ( تستخفونها ) أي : يخف عليكم حملها ، ( يوم ظعنكم ) رحلتكم في سفركم ، قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، ساكنة العين ، والآخرون بفتحها ، وهو أجزل اللغتين ، ( ويوم إقامتكم ) في بلدكم لا تثقل عليكم في الحالين .

    ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ) يعني : أصواف الضأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، ( أثاثا ) قال ابن عباس : مالا . قال مجاهد : متاعا .

    قال القتيبي : " الأثاث " : المال أجمع ، من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع .

    وقال غيره : هو متاع البيت من الفرش والأكسية .

    ( ومتاعا ) بلاغا ينتفعون بها ، ( إلى حين ) يعني الموت . وقيل : إلى حين تبلى . ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا ) تستظلون بها من شدة الحر ، وهي ظلال الأبنية والأشجار ، [ ص: 36 ] ( وجعل لكم من الجبال أكنانا ) يعني : الأسراب ، والغيران ، واحدها كن ( وجعل لكم سرابيل ) قمصا من الكتان والقز ، والقطن ، والصوف ، ( تقيكم ) تمنعكم ، ( الحر ) قال أهل المعاني : أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه . ( وسرابيل تقيكم بأسكم ) يعني : الدروع ، والبأس : الحرب ، يعني : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم .

    ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) تخلصون له الطاعة .

    قال عطاء الخراساني : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ، فقال : وجعل لكم من الجبال أكنانا ، وما جعل [ لهم ] من السهول أكثر وأعظم ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال : " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها " لأنهم كانوا أصحاب وبر ، وشعر ، وكما قال : " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " ( النور - 43 ) وما أنزل من الثلج أكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج . وقال : " تقيكم الحر " وما تقي من البرد أكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر .
    ( فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ( 82 ) يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ( 83 ) )

    ( فإن تولوا ) فإن أعرضوا فلا يلحقك في ذلك عتب ولا سمة تقصير ، ( فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمة الله ) قال السدي يعني : محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( ثم ينكرونها ) يكذبون به .

    وقال قوم : هي الإسلام .


    وقال مجاهد ، وقتادة : يعني ما عد لهم من النعم في هذه السورة ، يقرون أنها من الله ، ثم إذا قيل لهم : تصدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ، ينكرونها فيقولون : ورثناها من آبائنا .

    وقال الكلبي : هو أنه لما ذكر لهم هذه النعم قالوا : نعم ، هذه كلها من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا .

    وقال عوف بن عبد الله : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ، ولولا فلان لما كان كذا . ( وأكثرهم الكافرون ) الجاحدون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (257)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الاية84 إلى الاية 101



    ( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ( 84 ) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ( 85 ) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( 86 ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ( 87 ) ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ( 88 ) )

    قوله عز وجل : ( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ) يعني رسولا ( ثم لا يؤذن للذين كفروا ) في الاعتذار ، وقيل : في الكلام أصلا ( ولا هم يستعتبون ) يسترضون ، يعني : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ، لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون . وحقيقة المعنى في الاستعتاب : أنه التعرض لطلب الرضا ، وهذا الباب منسد في الآخرة على الكفار . ( وإذا رأى الذين ظلموا ) كفروا ، ( العذاب ) يعني جهنم ، ( فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا ) يوم القيامة ، ( شركاءهم ) أوثانهم ، ( قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ) أربابا ونعبدهم ، ( فألقوا ) يعني الأوثان ، ( إليهم القول ) أي : قالوا لهم ، ( إنكم لكاذبون ) في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا . ( وألقوا ) يعني المشركين ( إلى الله يومئذ السلم ) استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا ، ( وضل ) وزال ، ( عنهم ما كانوا يفترون ) من أنها تشفع لهم . ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) منعوا الناس عن طريق الحق ( زدناهم عذابا فوق العذاب ) قال عبد الله : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال .

    وقال سعيد بن جبير : حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا .

    وقال ابن عباس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش ، يعذبون بها : ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار . [ ص: 38 ]

    وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير ، فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها .

    وقيل : يضاعف لهم العذاب . ( بما كانوا يفسدون ) في الدنيا بالكفر وصد الناس عن الإيمان .

    ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ( 89 ) إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ( 90 ) )

    ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ) يعني : نبيها من أنفسهم ، لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم منها .

    ( وجئنا بك ) يا محمد ، ( شهيدا على هؤلاء ) الذين بعثت إليهم .

    ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ) بيانا ، ( لكل شيء ) يحتاج إليه من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، ( وهدى ) من الضلالة ، ( ورحمة وبشرى ) بشارة ( للمسلمين ) قوله عز وجل : ( إن الله يأمر بالعدل ) بالإنصاف ، ( والإحسان ) إلى الناس .

    وعن ابن عباس : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : أداء الفرائض .

    وعنه : " الإحسان " : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " .

    وقال مقاتل : " العدل " : التوحيد ، و " الإحسان " : العفو عن الناس .

    ( وإيتاء ذي القربى ) صلة الرحم .

    ( وينهى عن الفحشاء ) ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، ( والمنكر ) ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، ( والبغي ) الكبر والظلم . [ ص: 39 ]

    وقال ابن عيينة : العدل استواء السر والعلانية ، و " الإحسان " أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و " الفحشاء والمنكر " أن تكون علانيته أحسن من سريرته .

    ( يعظكم لعلكم تذكرون ) تتعظون .

    قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية .

    وقال أيوب عن عكرمة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : ( إن الله يأمر بالعدل ) إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .

    ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 ) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ( 92 ) )

    قوله تعالى : ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) والعهد هاهنا هو : اليمين .

    قال الشعبي : العهد يمين وكفارته كفارة يمين ، ( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ) تشديدها ، فتحنثوا فيها ، ( وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ) شهيدا بالوفاء .

    ( إن الله يعلم ما تفعلون ) واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما؟ .

    قيل : نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم الله بالوفاء بها .

    وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حلف أهل الجاهلية . ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة ) أي : من بعد غزله وإحكامه .

    قال الكلبي ، ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها " ريطة بنت عمرو بن سعد [ ص: 40 ] بن كعب بن زيد مناة بن تميم " وتلقب بجعر ، وكانت بها وسوسة ، وكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة ، على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف والشعر والوبر ، وتأمر جواريها بذلك ، فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها .

    ومعناه : أنها لم تكف عن العمل ، ولا حين عملت كفت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد ، لا كففتم عن العهد ، ولا حين عاهدتم وفيتم به .

    ( أنكاثا ) يعني أنقاضا واحدتها " نكث " وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلا كان أو حبلا .

    ( تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ) أي : دخلا وخيانة وخديعة ، و " الدخل " ما يدخل في الشيء للفساد .

    وقيل : " الدخل " و " الدغل " : أن يظهر الوفاء ويبطن النقض .

    ( أن تكون ) أي : لأن تكون ، ( أمة هي أربى ) أي : أكثر وأعلى ، ( من أمة ) قال مجاهد : وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر ، فمعناه : طلبتم العز بنقض العهد ، بأن كانت أمة أكثر من أمة . فنهاهم الله عن ذلك .

    ( إنما يبلوكم الله به ) يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، ( وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) في الدنيا .

    ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون ( 93 ) ) ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ( 94 ) )

    ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) على ملة واحدة ، وهي الإسلام ، ( ولكن يضل من يشاء ) بخذلانه إياهم ، عدلا منه ، ( ويهدي من يشاء ) بتوفيقه إياهم ، فضلا منه ، ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) يوم القيامة . ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا ) خديعة وفسادا ، ( بينكم ) فتغرون بها الناس ، فيسكنون إلى أيمانكم ، ويأمنون ، ثم تنقضونها ، ( فتزل قدم بعد ثبوتها ) فتهلكوا بعدما كنتم آمنين والعرب تقول [ ص: 41 ] لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت قدمه ، ( وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ) قيل : معناه : سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد ، ( ولكم عذاب عظيم )

    ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ( 95 ) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 96 ) من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ( 97 ) )

    ( ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) يعني لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا قليلا من الدنيا ، ولكن أوفوا بها . ( إنما عند الله هو ) من الثواب لكم على الوفاء ، ( خير لكم إن كنتم تعلمون ) [ فضل ما بين العوضين ، ثم بين ذلك ] . فقال : ( ما عندكم ينفد ) أي : الدنيا وما فيها يفنى ، ( وما عند الله باق )

    ( ولنجزين ) [ قرأ أبو جعفر وابن كثير وعاصم بالنون والباقون بالياء ] ( الذين صبروا ) على الوفاء في السراء والضراء ، ( أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )

    أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن أبي موسى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى " . قوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) قال سعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال . [ ص: 42 ]

    قال الحسن : هي القناعة .

    وقال مقاتل بن حيان : يعني العيش في الطاعة .

    قال أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .

    وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة . ورواه عوف عن الحسن . وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة .

    ( ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )

    ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( 98 ) )

    قوله سبحانه وتعالى : ( فإذا قرأت القرآن ) أي : أردت قراءة القرآن ( فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) كقوله تعالى : " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " ( المائدة - 6 ) .

    والاستعاذة سنة عند قراءة القرآن .

    وأكثر العلماء على أن الاستعاذة قبل القراءة .

    وقال أبو هريرة : بعدها . [ ص: 43 ]

    ولفظه : أن يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة ، سمعت عاصما عن ابن جبير بن مطعم ، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، قال : فكبر ، فقال : الله أكبر كبيرا ، ثلاث مرات ، [ والحمد لله كثيرا ، ثلاث مرات ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاث مرات ] اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ، ونفثه .

    قال عمرو : ونفخه : الكبر ، ونفثه : الشعر ، وهمزه : الموتة ، والموتة الجنون ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به .

    ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 99 ) إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ( 100 ) وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون

    ( 101 ( إنه ليس له سلطان ) حجة وولاية ، ( على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) قال سفيان : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر . ( إنما سلطانه على الذين يتولونه ) يطيعونه ويدخلون في ولايته ، ( والذين هم به مشركون ) أي : بالله مشركون . وقيل : الكناية راجعة إلى الشيطان ، ومجازه الذين هم من أجله مشركون بالله . ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر ، ( والله أعلم بما ينزل ) أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما يغير ويبدل من أحكامه ، ( قالوا إنما أنت ) يا محمد ، ( مفتر ) مختلق ، وذلك أن المشركين قالوا : إن محمدا يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وينهاهم عنه غدا ، ما هو إلا مفتر ، يتقوله من تلقاء نفسه .

    قال الله تعالى ( بل أكثرهم لا يعلمون ) حقيقة القرآن ، وبيان الناسخ من المنسوخ .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (258)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ النَّحْلِ
    الاية102 إلى الاية 114




    ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ( 102 ) ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( 103 ) )

    ( قل نزله ) يعني القرآن ، ( روح القدس ) جبريل ، ( من ربك بالحق ) بالصدق ، ( ليثبت الذين آمنوا ) أي : ليثبت قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويقينا ، ( وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ) آدمي ، وما هو من عند الله ، واختلفوا في هذا البشر : قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة ، اسمه " بلعام " ، وكان نصرانيا ، أعجمي اللسان ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون إنما يعلمه " بلعام " .

    وقال عكرمة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبني المغيرة يقال له " يعيش " وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه " يعيش " .

    وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجم اللسان .

    وقال ابن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، عبد لبعض بني الحضرمي ، يقال له " جبر " ، وكان يقرأ الكتب .

    وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار ، ويكنى " أبا فكيهة " ، ويقال للآخر " جبر " وكانا يصنعان السيوف بمكة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وهما يقرآن ، فيقف ويستمع .

    قال الضحاك : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما ويستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد منهما ، فنزلت هذه الآية . [ ص: 45 ]

    قال الله تعالى تكذيبا لهم : ( لسان الذي يلحدون إليه ) أي يميلون ويشيرون إليه ، ( أعجمي ) " الأعجمي " الذي لا يفصح وإن كان ينزل بالبادية ، والعجمي منسوب إلى العجم ، وإن كان فصيحا ، والأعرابي البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب ، وإن لم يكن فصيحا ، ( وهذا لسان عربي مبين ) فصيح وأراد باللسان القرآن ، والعرب تقول : اللغة لسان ، وروي أن الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه .

    ( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ( 104 ) إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ( 105 ) من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( 106 ) )

    ( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ) لا يرشدهم الله ، ( ولهم عذاب أليم ) ثم أخبر الله تعالى أن الكفار هم المفترون . فقال : ( إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) لا محمد صلى الله عليه وسلم .

    فإن قيل : قد قال : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون " ، فما معنى قوله " وأولئك هم الكاذبون " ؟ قيل : " إنما يفتري الكذب " : إخبار عن فعلهم ، " هم الكاذبون " نعت لازم لهم ، كقول الرجل لغيره : كذبت وأنت كاذب ، أي : كذبت في هذا القول ، ومن عادتك الكذب .

    أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد الجوهري ، أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن عمر بن حفص ، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق ، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يعلى بن الأشدق ، عن عبد الله بن جراد قال قلت : يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال : قد يكون ذلك ، قال قلت : المؤمن يسرق؟ قال : قد يكون ذلك ، قلت المؤمن يكذب؟ قال : لا " . قال الله : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " . ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره )

    قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار ، وذلك أن المشركين أخذوه ، وأباه ياسرا ، وأمه سمية ، وصهيبا ، وبلالا وخبابا ، وسالما ، فعذبوهم ، فأما سمية : فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها [ ص: 46 ] بحربة فقتلت ، وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار : فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها .

    قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر ميمون ، وقالوا له : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك ، وقلبه كاره ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارا كفر فقال : كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما وراءك؟ قال : شر يا رسول الله ، نلت منك وذكرت آلهتهم قال : كيف وجدت قلبك ، قال مطمئنا بالإيمان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، فنزلت هذه الآية .

    قال مجاهد : نزلت في ناس من أهل مكة ، آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش في الطريق فكفروا كارهين .

    وقال مقاتل : نزلت في جبر ، مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها . ( وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده ، ( ولكن من شرح بالكفر صدرا ) أي : فتح صدره للكفر بالقبول واختاره ، ( فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )

    وأجمع العلماء على : أن من أكره على كلمة الكفر ، يجوز له أن يقول بلسانه ، وإذا قال بلسانه غير معتقد لا يكون كفرا ، وإن أبى أن يقول حتى يقتل كان أفضل .

    واختلف أهل العلم في طلاق المكره . فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع .

    [ ص: 47 ] ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ( 107 ) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ( 108 ) لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ( 109 ) ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 110 ) )

    ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) لا يرشدهم . ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) عما يراد بهم . ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ) أي المغبونون . ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ) عذبوا ومنعوا من الإسلام ، فتنهم المشركون ، ( ثم جاهدوا وصبروا ) على الإيمان والهجرة والجهاد ، ( إن ربك من بعدها ) من بعد تلك الفتنة والغفلة ( لغفور رحيم )

    نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، أخي أبي جهل من الرضاعة ، وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي ، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا .

    وقال الحسن وعكرمة : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان ، فلحق بالكفار ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة ، فاستجاره له عثمان ، وكان أخاه لأمه من الرضاعة ، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه ، فأنزل الله هذه الآية . [ ص: 48 ]

    وقرأ ابن عامر " فتنوا " بفتح الفاء والتاء ، ورده إلى من أسلم من المشركين فتنوا المسلمين .

    ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون ( 111 ) وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ( 112 ) )

    ( ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون ( 113 ) فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ( 114 ) إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ( 115 ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 116 ) )

    ( يوم تأتي كل نفس تجادل ) تخاصم وتحتج ، ( عن نفسها ) بما أسلفت من خير وشر ، مشتغلا بها لا تتفرغ إلى غيرها ، ( وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون )

    روي أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار : خوفنا ، قال : يا أمير المؤمنين ، والذي نفسي بيده ، لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك ساعات وأنت لا تهمك إلا نفسك ، وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل منتخب ، إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتى إبراهيم خليل الرحمن ، يقول : يا رب لا أسألك إلا نفسي ، وإن تصديق ذلك : الذي أنزل الله عليكم " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " .

    وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الروح الجسد ، فتقول الروح : يا رب ، لم يكن لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها . ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ليست لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور ، فبه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي . فيضرب الله لهما مثلا أعمى ومقعد ، دخلا حائطا فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثمر ، والمقعد لا يناله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب . قوله تعالى ( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة ) يعني : مكة ، كانت آمنة ، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، ( مطمئنة ) قارة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب ، ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) يحمل إليها من البر والبحر نظيره : " يجبى إليه ثمرات كل شيء " [ ص: 49 ] ( القصص - 57 ( فكفرت بأنعم الله ) جمع النعمة ، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس ، ( فأذاقها الله لباس الجوع ) ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميتة ، والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : هذا عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . وذكر اللباس لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير ظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم ( والخوف ) يعني : بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم . ( بما كانوا يصنعون )

    ( ولقد جاءهم رسول منهم ) محمد صلى الله عليه وسلم ، ( فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون ) . ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ) . قوله تعالى ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) أي : لا تقولوا لوصف ألسنتكم ، أو [ ص: 50 ] لأجل وصفكم الكذب ، أي : أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره ، ( هذا حلال وهذا حرام ) يعني البحيرة والسائبة ، ( لتفتروا على الله الكذب ) فتقولون إن الله أمرنا بهذا ، ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) لا ينجون من عذاب الله .

    ( متاع قليل ولهم عذاب أليم ( 117 ) وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 118 ) ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( 119 ) إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ( 120 ) )

    ( متاع قليل ) يعني : الذي هم فيه متاع قليل ، أو لهم متاع قليل في الدنيا . ( ولهم عذاب أليم ) في الآخرة . ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل ) يعني في سورة الأنعام ، وهو قوله تعالى :

    " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر " ( الأنعام - 146 ) الآية .

    ( وما ظلمناهم ) بتحريم ذلك عليهم ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) فحرمنا عليهم ببغيهم . ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ) معنى الإصلاح : الاستقامة على التوبة ، ( إن ربك من بعدها ) أي : من بعد الجهالة ، ( لغفور رحيم ) قوله تعالى " ( إن إبراهيم كان أمة ) قال ابن مسعود : الأمة ، معلم الخير ، أي : كان معلما للخير ، يأتم به أهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة .

    قال مجاهد : كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار .

    قال قتادة : ليس من أهل دين إلا يتولونه ويرضونه .

    ( قانتا لله ) مطيعا له ، وقيل : قائما بأوامر الله تعالى ، ( حنيفا ) مسلما مستقيما على دين الإسلام . وقيل : مخلصا . ( ولم يك من المشركين )

    [ ص: 51 ] ( شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ( 121 ) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ( 122 ) ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( 123 ) إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ( 124 ) )

    ( شاكرا لأنعمه اجتباه ) اختاره ، ( وهداه إلى صراط مستقيم ) أي : إلى دين الحق . ( وآتيناه في الدنيا حسنة ) يعني الرسالة والخلة وقيل : لسان الصدق والثناء الحسن .

    وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات ، في قول هذه الأمة : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم .

    وقيل : أولادا أبرارا على الكبر .

    وقيل : القبول العام في جميع الأمم .

    ( وإنه في الآخرة لمن الصالحين ) مع آبائه الصالحين في الجنة . وفي الآية تقديم وتأخير ، مجازه : وآتيناه في الدنيا والآخرة حسنة ، وإنه لمن الصالحين . ( ثم أوحينا إليك ) يا محمد ، ( أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) حاجا مسلما ، ( وما كان من المشركين )

    وقال أهل الأصول : كان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بشريعة إبراهيم إلا ما نسخ في شريعته ، وما لم ينسخ صار شرعا له . قوله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قيل : معناه إنما جعل السبت لعنة على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه .

    وقيل : معناه ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه إلا على الذين اختلفوا فيه أي : خالفوا فيه فقال قوم : هو أعظم الأيام ، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت .

    وقال قوم : بل أعظم الأيام يوم الأحد ، لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الأشياء ، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم ، وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة . [ ص: 52 ]

    قال الكلبي : أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة ، فقال : تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوما فاعبدوه يوم الجمعة ، ولا تعملوا فيه لصنعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة ، فقالوا لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا - يعنون اليهود - فاتخذوا الأحد فأعطى الله الجمعة هذه الأمة ، فقبلوها وبورك لهم فيها .

    أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليهود غدا ، والنصارى بعد غد " .

    قال الله تعالى : ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) قال قتادة : الذين اختلفوا فيه هم اليهود ، استحله بعضهم ، وحرمه بعضهم .

    ( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (259)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية1 إلى الاية 2



    ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( 125 ) )

    ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) بالقرآن ، ( والموعظة الحسنة ) يعني مواعظ القرآن .

    وقيل : الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب .

    وقيل : هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف .

    ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن ، أي : أعرض عن أذاهم ، ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق ، نسختها آية القتال . [ ص: 53 ]

    ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )

    ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( 126 ) )

    ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظلة بن الراهب فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ، ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا ، حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة ، ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلا للخيرات ، وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك " ، فأنزل الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا ) الآية . ( ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه . [ ص: 54 ]

    قال ابن عباس والضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ، وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .

    وقال النخعي ، والثوري ، ومجاهد ، وابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :

    ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( 127 ) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ( 128 ) )

    ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) أي : بمعونة الله وتوفيقه ، ( ولا تحزن عليهم ) في إعراضهم عنك ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) أي : فيما فعلوا من الأفاعيل .

    قرأ ابن كثير هاهنا وفي النمل ( ضيق ) بكسر الضاد وقرأ الآخرون بفتح الضاد ، قال أهل الكوفة : هما لغتان مثل رطل ورطل .

    وقال أبو عمرو : " الضيق " بالفتح : الغم ، وبالكسر : الشدة .

    وقال أبو عبيدة : " الضيق " بالكسر في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح .

    وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ، ولين ولين ، فعلى هذا هو صفة ، كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق من مكرهم . ( إن الله مع الذين اتقوا ) المناهي ، ( والذين هم محسنون ) بالعون والنصرة .

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ

    مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 1 ) )

    ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ( سُبْحَانَ اللَّهِ : تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ ، وَوَصْفُهُ بِالْبَرَاءَةِ مَنْ كُلِّ نَقْصٍ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ ، وَيَكُونُ " سُبْحَانَ " بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ ، " أَسْرَى بِعَبْدِهِ " أَيْ : سَيَّرَهُ ، وَكَذَلِكَ سَرَى بِهِ ، وَالْعَبْدُ هُوَ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

    ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( قِيلَ : كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ ، رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ " فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ .

    وَقَالَ قَوْمٌ : عُرِجَ بِهِ مِنْ دَارِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( [ ص: 58 ] أَيْ : مِنَ الْحَرَمِ .

    قَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ ، وَيُقَالُ : كَانَ فِي رَجَبٍ . وَقِيلَ : كَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .

    ( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ( يَعْنِي : بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَسُمِّيَ أَقْصَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ . وَقِيلَ : لِبُعْدِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .

    ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( بِالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَمَّاهُ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ ، وَمِنْهُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

    ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ( مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِنَا ، وَقَدْ رَأَى هُنَاكَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْآيَاتِ الْكُبْرَى .

    ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( ذَكَرَ " السَّمِيعَ " لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْمُجِيبُ لِدُعَائِهِ ، وَذَكَرَ " الْبَصِيرَ " لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْحَافِظُ لَهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .

    وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : مَا فُقِدَ جَسَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ .

    وَالْأَكْثَرُون َ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ ، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ . [ ص: 59 ]

    أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ( حَ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ الْعُصْفُرِيُّ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَهِشَامٌ . قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ ( حَ ) عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ ، ( حَ ) قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( حَ ) ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [ الْفَارِسِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ ] بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجٍ ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ - دَخْلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالَ أَبُو ذَرٍّ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فُرِّجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي ، وَأَنَا بِمَكَّةَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَّرَجَ صَدْرِي ، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ " .

    وَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ : إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ : " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ ، [ ص: 60 ] وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ " ، وَذَكَرَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ " فَأُوتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ وَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ " .

    وَقَالَ سَعِيدٌ وَهِشَامٌ : ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً ، ثُمَّ أُوتِيتُ بِالْبُرَاقِ ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ ، فَرَكِبْتُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ ، قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ . قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ ، فَقَالَ لِي : هَذَا أَبُوكَ آدَمُ ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ السَّلَامَ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ .

    وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ . قُلْتُ لِجِبْرِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : هَذَا آدَمُ ، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى .

    ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا [ ص: 61 ] بِيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ ، قَالَ : هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا ، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا ، ثُمَّ قَالَا : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .

    ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ . قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ . قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ، قَالَ : هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .

    ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ ، فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ ، قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .

    ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ ، قَالَ : هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .

    ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى ، قَالَ : هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ : مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ : أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي .

    ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ ، قِيلَ : وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ ، قِيلَ : وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ : مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ : هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ، ثُمَّ قَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ ، فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، فَسَأَلَتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ : هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ
    . [ ص: 62 ]

    وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ : فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ ، قَالَ : فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى تَغَيَّرَتْ ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا ، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ : نَهْرَانِ بَاطِنَانِ ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ، فَقُلْتُ : مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ : أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ .

    وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى ، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى ، فَقَالَ : مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ : خَمْسِينَ صَلَاةً ، قَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ : يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ : حَطَّ عَنِّي خَمْسًا ، قَالَ : إِنْ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ .

    قَالَ : فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ : يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا ، وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً .

    قَالَ : فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ . فَقُلْتُ : سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ ، قَالَ : فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي . ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ
    .

    قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ ، كَانَا يَقُولَانِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى فِيهِ صَرِيفُ الْأَقْلَامِ .

    قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً . [ ص: 63 ]

    وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : أَبِمُحْمِدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ ، فَارْفَضَّ عَرَقًا .

    وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ فَخَرَقَ بِهَا الْحَجَرَ وَشَدَّ بِهَا الْبُرَاقَ .

    أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى ، قَالَ : فَنَعَتَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ - رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ " . قَالَ : لَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ ، قَالَ : وَأُوتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ ، فَقِيلَ لِي : خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ ، فَقِيلَ لِي : هُدِيتَ الْفِطْرَةَ [ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ] أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ " .

    أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : " وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ " ، قَالَ : هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . قَالَ : وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ : هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ .

    أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْتُ [ ص: 64 ] أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ : أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ : هُوَ خَيْرُهُمْ ، فَقَالَ آخِرُهُمْ : خُذُوا خَيْرَهُمْ ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَتِّهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ . وَسَاقَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ بِقِصَّتِهِ . فَقَالَ : فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ ، قَالَ : هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا وَاحِدٌ ، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرْبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ ، قَالَ : مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ : هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ . وَسَاقَ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَقَالَ : قَالَ مُوسَى : رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا ، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَقَالَ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَجْسَادًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ ، كُلُّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتَيْ ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ الْجَبَّارُ : يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ فَقَالَ مُوسَى : ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ " ، قَالَ : فَاهْبِطْ بِسْمِ اللَّهِ ، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .

    وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْإِيلِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ .

    قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا ، وَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ . [ ص: 65 ]

    وَفِيهِ أَيْضًا : " أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى " . وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ : قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ " ( الْفَتْحِ - 27 ) .

    وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ : يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي ، قَالَ : يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِ ئِ : هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ : نَعَمْ ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ : أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا ، قَالَ : فَانْفَضَّتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا ، قَالَ : فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ ، قَالُوا : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالُوا : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا ، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ : أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا : وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ . [ ص: 66 ]

    قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، فَقَالُوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ [ بَعْضُ النَّعْتِ ] قَالَ : فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ : أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ثُمَّ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا هِيَ أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ : نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَهِيَ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثُمَّ وَضَعْتُهُ كَمَا كَانَ فَسَلُوهُمْ هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِ؟ قَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ قَالَ : وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَسَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا نَحْنُ؟ قَالَ : مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ قَالُوا : فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ فِيهَا؟ قَالَ : نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُونَه ُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ وَقَالَ آخَرُ : وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا " وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
    " .

    أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَجَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ : فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ " .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (260)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية3 إلى الاية 4



    قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا ، وَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ . [ ص: 65 ]

    وَفِيهِ أَيْضًا : " أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى " . وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .

    قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ ، أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ : قَالَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ " ( الْفَتْحِ - 27 ) .

    وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ : يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي ، قَالَ : يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصَّدِيقُ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِ ئِ : هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ قَالَ : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا قَالَ : نَعَمْ ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ قَالَ : أَتُحَدِّثُ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمُّوا ، قَالَ : فَانْفَضَّتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ فَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا ، قَالَ : فَحَدِّثْ قَوْمَكَ مَا حَدَّثْتَنِي قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ ، قَالُوا : إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ : إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالُوا : ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا ، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ : أَوَقَدْ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ قَالُوا : وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ : نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ . [ ص: 66 ]

    قَالَ : وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى ، فَقَالُوا : هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ [ بَعْضُ النَّعْتِ ] قَالَ : فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ الْقَوْمُ : أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ ثُمَّ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا هِيَ أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ : نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَهِيَ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثُمَّ وَضَعْتُهُ كَمَا كَانَ فَسَلُوهُمْ هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِ؟ قَالُوا : هَذِهِ آيَةٌ قَالَ : وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ ، وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فَسَلُوهُمَا عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا نَحْنُ؟ قَالَ : مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ قَالُوا : فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ فِيهَا؟ قَالَ : نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَتَانِ تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالُوا : وَهَذِهِ آيَةٌ ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُونَه ُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ وَقَالَ آخَرُ : وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا " وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
    " .

    أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَجَرُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ : فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ : يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ " .


    ( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا ( 2 ) ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ( 3 ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) )

    قوله عز وجل ( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا ( بأن لا ( تتخذوا من دوني ‎وكيلا ( ربا وكفيلا .

    قرأ أبو عمرو " لا يتخذوا " بالياء لأنه خبر عنهم والآخرون : بالتاء يعني : قلنا لهم لا تتخذوا . ( ذرية من حملنا ( قال مجاهد : هذا نداء يعني : يا ذرية من حملنا ، ( مع نوح ( في السفينة فأنجيناهم من الطوفان ، ( إنه كان عبدا شكورا ( كان نوح عليه السلام إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال : الحمد لله فسمي عبدا شكورا أي كثير الشكر . قوله عز وجل : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( الآيات .

    روى سفيان بن سعيد الثوري عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم ملك فارس [ ص: 68 ] " بختنصر " ، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا عليه السلام سبعين ألفا ثم سبى أهلها [ والأبناء ] وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلي ، قلت : يا رسول الله كان بيت المقدس عظيما؟ قال : أجل بناه سليمان بن داود من ذهب وفضة وياقوت وزبرجد ، وكان عمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بها بختنصر حتى نزل بابل فأقام بنو إسرائيل في يده مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فيهم الأنبياء ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له " كورش " وكان مؤمنا أن يسير إليهم ليستنقذ بقايا بني إسرائيل فسار كورش لبني إسرائيل وأخذ حلي بيت المقدس حتى ردها إليه فأقام بنو إسرائيل بها مطيعين لله تعالى مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا يقال له " أنطانيوس " فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم ثانيا [ بالسبي ] فعادوا فسلط الله عليهم ملك رومية يقال له " فاقس بن أستيانوس " ، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبى حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف وسبعمائة سفينة يرمي بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين " . [ ص: 69 ]

    قال محمد بن إسحاق : كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى " صديقة " وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها .

    فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه " شعياء بن أصفيا " وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام و " شعياء " هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام ، فقال : أبشري أورشليم ، الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعياء معه بعث الله عليهم " سنجاريب " ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء النبي شعياء وقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنجاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا فكبر ذلك على الملك فقال يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده؟

    فقال : لم يأتني وحي . فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته ويستخلف - على ملكه من يشاء من أهل بيته - فأتى شعياء ملك بني إسرائيل " صديقة " فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة فصلى ودعا وبكى فقال وهو يبكي وتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك وأنت الرحمن . فاستجاب له وكان عبدا صالحا فأوحى الله تعالى إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر له أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره بذلك فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي تعطي الملك لمن تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين وأنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي . [ ص: 70 ]

    فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى يصبح وقد برأ ففعل وشفي .

    وقال الملك لشعياء : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا .

    قال الله لشعياء : قل له : إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنجاريب وخمسة نفر من كتابه .

    فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج فإن سنجاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنجاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم إلى ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنجاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب له : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا [ ذلة في الدنيا وعذاب في الآخرة ] فلو سمعت أو عقلت ما غزوتكم .

    فقال صديقة : الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء وإن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلكم ، ولدمك ولدم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت .

    ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم فقال سنجاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء عليه السلام : أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعياء الملك ذلك ففعل [ الملك صديقة ] ما أمر به فخرج سنجاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم . وكان أمر سنجاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة .

    ثم لبث سنجاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر [ ص: 71 ] بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعياء معهم ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء قم في قومك أوحي على لسانك فلما قام النبي شعياء أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الخير أن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأري الذي شبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خرابا مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصورا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا؟

    قالوا بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض قيمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها قال الله : قل لهم : فإن الجدار ديني وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيم نبيي وإن الغراس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وإنه مثل ضربته لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ويزوقون إلي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها؟ وأي حاجة لي إلى تزويق المساجد ولست أدخلها؟ إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها .

    يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا [ وصلينا فلم تنور صلاتنا ] وتصدقنا فلم يزك صدقتنا ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا .

    قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب [ ص: 72 ] المجيبين وأرحم الراحمين؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ويتقوون عليه بطعمة الحرام؟ أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكى عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم؟ إنما آجر عليها أهلها المغصوبين؟ أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للداعي اللين وإنما أسمع قول المستعفف المسكين وإن من علامة رضاي رضا المساكين .

    يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي : إنها أقاويل منقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه؟ أو في أي زمان يكون؟ وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليقولوا مثل الحكمة التي بها أدبر أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والعلم في الجهالة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون فإني باعث لذلك نبيا أميا أمينا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته [ والحق شريعته ] والهدى [ والقرآن ] إمامه ، والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا وإخلاصا لي يصلون قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومناقبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رءوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف يعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم . [ ص: 73 ]

    فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبيا وكان من سبط هارون بن عمران .

    وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء .

    فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى الله إلى أرمياء أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمتي وعرفهم بأحداثهم فقال أرمياء : يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي أقلبها كيف شئت إني معك ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال في آخرها عن الله تعالى : وإني حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم ثم أوحى الله إلى أرمياء : إني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل - على ما ذكرنا في سورة البقرة - فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملأوه ثم أمرهم أن يجمعوا من في بلدان بيت المقدس كلهم فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فثلثا أقر بالشام وثلثا سبى وثلثا قتل وذهب بناشئة بيت المقدس وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله تعالى : " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد " يعني : بختنصر وأصحابه . [ ص: 74 ]

    ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا أعجبته إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الله الذي رأى فدعا دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل وكانوا من ذراري الأنبياء وسألهم عنها قالوا أخبرنا بها نخبرك بتأويلها قال : ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم بالذي سألهم عنه ، فجاءوه وقالوا : رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد قال : صدقتم قالوا : فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله تعالى صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال : صدقتم قال : فما تأويلها؟ قالوا : تأويلها أنك رأيت ملك الملوك فبعضهم كان ألين ملكا وبعضهم كان أحسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا الفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما كان قبله والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء فدقته نبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه .

    ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر : أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا لقد رأينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم قال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل .

    فلما قربوهم للقتل بكوا إلى الله تعالى وقالوا : يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعد الله أن يجيبهم ، فقتلوا إلا من استبقى بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزازيا وميشائيل .

    ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل : أرأيتم هذا البيت الذي خربته والناس الذين قتلت منهم؟ وما هذا البيت؟ قالوا : هذا بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلق كلهم يكرمهم ويعزهم فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل . قال : فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا فأقتل من فيها وأتخذها ملكا لي فإني قد فرغت من الأرض ، قالوا : ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال : لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم ، فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخره حتى عضت بأم دماغه فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يديه فردوهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه . [ ص: 75 ]

    ويزعمون أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ، ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله تعالى وكانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع إلى الشام يبكي عليها ليله ونهاره وقد خرج من الناس فهو كذلك إذ أقبل إليه رجل فقال يا عزير ما يبكيك؟ قال أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره قال : أفتحب أن يرد إليك؟ ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة فأحبوه حتى لم يحبوا حبه شيئا قط ثم قبضه الله وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود فمات زكريا وقيل قتل زكريا فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رءوس جنوده يدعى بيور زاذان صاحب القتل فقال : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أني لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى بلغ ذلك منهم بيورزاذان ودخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم فوجد فيها دما يغلي فسألهم فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟ أخبروني خبره قالوا : هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فيقبل منا إلا هذا فقال : ما صدقتموني فقالوا : لو كان كأول زماننا لتقبل منا ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح منهم بيورزاذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين زوجا من رءوسهم فلم يهدأ فأمر فأتي بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد فلما رأى بيورزاذان الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طال ما ملكتم في الأرض تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا : إن هذا الدم دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أنا أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان : ما كان اسمه؟ قالوا : يحيى بن زكريا قال الآن صدقتموني لمثل هذا انتقم ربكم منكم فلما رأى بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش وخلا في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن [ ص: 76 ] زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدأ بإذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا فهدأ الدم بإذن الله ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وأيقنت أنه لا رب غيره وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره وإني لست أستطيع [ أن أعصيه ] قالوا له : افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (261)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية5 إلى الاية 20



    ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد [ أن يفنيهم ] وهي الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل وذلك قوله : ( لتفسدن في الأرض مرتين ( فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده [ والأخرى خردوش وجنوده ] وكانت أعظم الوقعتين فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونانية إلا أن بقايا من بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططيوس بن إسبيانوس الرومي فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة فليسوا في أمة إلا وعليهم الصغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره .

    وقال قتادة : بعث الله عليهم جالوت في الأولى فسبى وقتل وخرب ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ( يعني في زمان داود ، فإذا جاء وعد الآخرة بعث الله عليهم بختنصر فسبى وخرب ، ثم قال : ( عسى ربكم أن يرحمكم ( فعاد الله عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما بحضرتهم فبعث الله عليهم ما شاء من نقمته وعقوبته ، ثم بعث الله عليهم العرب كما قال : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( فهم في العذاب إلى يوم القيامة .

    وذكر السدي بإسناده : أن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بختنصر وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم فأقبل ليسأل عنه حتى نزل على أمه وهو يحتطب فجاء وعلى رأسه حزمة حطب فألقاها ثم قعد فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال : اشتر بهذا طعاما وشرابا فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا فأكلوا وشربوا وفعل في اليوم الثاني كذلك وفي اليوم الثالث كذلك ، ثم قال : إني أحب [ ص: 77 ] أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر [ فقال : تسخر مني؟ فقال : إني لا أسخر منك ، ولكن ما عليك أن تتخذ بها عندي يدا فكتب له أمانا وقال : أرأيت ] إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ، قال : ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك فكتب له وأعطاه ثم إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ويدني مجلسه وأنه هوي ابنة امرأته وقال ابن عباس : ابنة أخته فسأل يحيى بن زكريا عن تزويجها فنهاه عن نكاحها فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى بن زكريا وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه ، فإن أرادها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها سألت رأس يحيى بن زكريا أن يؤتى به في طست ففعلت ، فلما أرادها قالت لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال : ما تسأليني؟ قالت : رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست ، فقال : ويحك سليني غير هذا ، فقالت : ما أريد إلا هذا فلما أبت عليه بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم ويقول : لا تحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يعني صعد الدم يغلي ويلقي عليه من التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلي ، فبعث صخابين ملك بابل جيشا إليهم وأمر عليهم بختنصر فسار بختنصر وأصحابه حتى بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه في مدائنهم فلما اشتد عليهم المقام أراد الرجوع فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل فقالت : تريد أن ترجع قبل المدينة؟ قال : نعم قد طال مقامي وجاع أصحابي قالت : أرأيت إن فتحت لك المدينة تعطيني ما أسألك فتقتل من أمرتك بقتله وتكف إذا أمرتك أن تكف؟ قال : نعم ، قالت : إذا أصبحت تقسم جندك أربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تتساقط ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها ، فقالت : كف يدك وانطلقت به إلى دم يحيى بن زكريا وقالت : اقتل على هذا الدم حتى يسكن فقتل عليه سبعين ألفا حتى سكن ، فلما سكن قالت : كف يدك فإن الله لم يرض إذا قتل نبي حتى يقتل من قتله ومن رضي بقتله وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه وعن أهل بيته فخرب بيت المقدس وطرح فيه الجيف وأعانه على خرابه الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وذهب معه بوجوه بني إسرائيل وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت فلما قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عنده دانيال وأصحابه فحسدهم المجوس ووشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك فسألهم فقالوا : أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من [ ص: 78 ] ذبيحتكم ، فأمر الملك بخد فخد لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم بسبع ضار ليأكلهم فذهبوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش منهم أحدا ووجدوا معهم رجلا سابعا فقال : ما هذا السابع إنما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكا فلطمه لطمة فصار في الوحوش ومسخه الله سبع سنين .

    وذكر وهب : أن الله مسخ بختنصر نسرا في الطير ثم مسخه ثورا في الدواب ثم مسخه أسدا في الوحوش فكان مسخه سبع سنين وقلبه في ذلك قلب إنسان ثم رد الله إليه ملكه فآمن فسئل وهب أكان مؤمنا؟ فقال وجدت أهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مؤمنا ومنهم من قال أحرق بيت المقدس وكتبه وقتل الأنبياء فغضب الله عليه فلم يقبل توبته .

    وقال السدي : ثم إن بختنصر لما رجع إلى صورته بعد المسخ ورد الله إليه ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس وقالوا لبختنصر : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وقال للبواب : انظر أول من يخرج ليبول فاضربه بالطبرزين فإن قال أنا بختنصر فقل كذبت بختنصر أمرني فكان أول من قام للبول بختنصر فلما رآه البواب شد عليه فقال : ويحك أنا بختنصر فقال : كذبت بختنصر أمرني فضربه فقتله هذا ما ذكره في المبتدأ إلا أن رواية من روى أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا غلط عند أهل السير بل هم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شعياء في عهد أرمياء ومن وقت أرمياء وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم كانوا يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس إلى حين عمارته في عهد كيرش بن أخشورش بن أصيهيد ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار [ سبعين سنة ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمان وثمانون سنة ثم من بعد مملكته ] إلى مولد يحيى بن زكريا ثلاثمائة وستون سنة .

    والصحيح من ذلك ما ذكر محمد بن إسحاق .

    قوله عز وجل : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( أي : أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتب أنهم سيفسدون .

    والقضاء على وجوه : يكون أمرا ، كقوله : " وقضى ربك " ( الإسراء - 23 ) .

    ويكون حكما ، كقوله : " إن ربك يقضي بينهم " ( يونس - 93 ، والنحل - 78 ) .

    ويكون خلقا كقوله : " فقضاهن سبع سماوات " ( فصلت - 2 ) . [ ص: 79 ]

    وقال ابن عباس وقتادة : يعني وقضينا عليهم ، و " إلى " بمعنى " على " والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ .

    ( لتفسدن ( لام القسم مجازه : والله لتفسدن ( في الأرض مرتين ( بالمعاصي والمراد بالأرض : أرض الشام وبيت المقدس ، ( ولتعلن ( ولتستكبرن ولتظلمن الناس ( علوا كبيرا (
    ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( 6 ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ( 7 ) )

    ( فإذا جاء وعد أولاهما ( يعني : أولى المرتين .

    قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة ، وركبوا المحارم .

    وقال ابن إسحاق : إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي .

    ( بعثنا عليكم عبادا لنا ( قال قتادة : يعني جالوت الجزري وجنوده وهو الذي قتله داود .

    وقال سعيد بن جبير : يعني سنجاريب من أهل نينوى .

    وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه . وهو الأظهر .

    ( أولي بأس ( ذوي بطش ، ( شديد ( في الحرب ، ( فجاسوا ( أي فطافوا وداروا ( خلال الديار ( وسطها يطلبونكم ويقتلونكم والجوس طلب الشيء بالاستقصاء . قال الفراء : جاسوا : قتلوكم بين بيوتكم .

    ( وكان وعدا مفعولا ( قضاء كائنا لا خلف فيه . ( ثم رددنا لكم الكرة ( يعني : الرجعة والدولة ، ( عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( عددا ، أي من ينفر معهم وعاد البلد أحسن مما كان . ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ( أي : لها ثوابها ، ( وإن أسأتم فلها ( أي : فعليها كقوله تعالى : " فسلام لك " ( الواقعة - 91 ) أي : عليك وقيل : فلها الجزاء والعقاب . [ ص: 80 ]

    ( فإذا جاء وعد الآخرة ( أي : المرة الأخيرة من إفسادكم ، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط الله عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ، فذلك قوله تعالى ( ليسوءوا وجوهكم ( أي : تحزن وجوهكم وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن .

    قرأ الكسائي [ ويعقوب ] . " لنسوء " بالنون وفتح الهمزة على التعظيم كقوله : " وقضينا " و " بعثنا " وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بالياء [ وفتح ] الهمزة [ على التوحيد ] أي : ليسوء الله وجوهكم وقيل : ليسوء الوعد وجوهكم .

    وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع أي ليسوء العباد أولوا البأس الشديد وجوهكم . ( وليدخلوا المسجد ( يعني : بيت المقدس ونواحيه ( كما دخلوه أول مرة وليتبروا ( وليهلكوا ( ما علوا ( أي : ما غلبوا عليه من بلادكم ( تتبيرا (
    ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( 8 ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ( 9 ) وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( 10 ) )

    ( عسى ربكم ( يا بني إسرائيل ( أن يرحمكم ( بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم ( وإن عدتم عدنا ( أي : إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة . قال قتادة : فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .

    ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ( سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس .

    قال الحسن : حصيرا أي : فراشا . وذهب إلى الحصير الذي يبسط ويفرش . ( ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) أي : إلى الطريقة التي هي أصوب . وقيل : الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، ( ويبشر ( يعني : القرآن ( المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم ( بأن لهم ( أجرا كبيرا ( وهو الجنة . ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ( وهو النار .
    [ ص: 81 ] ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا ( 11 ) وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ( 12 ) )

    وقوله تعالى : ( ويدع الإنسان ( حذف الواو لفظا لاستقبال اللام الساكنة كقوله : " سندع الزبانية " ( العلق - 18 ) وحذف في الخط أيضا وهي غير محذوفة في المعنى . ومعناه : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه ، ( بالشر ( فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما ، ( دعاءه بالخير ( أي : كدعائه ربه [ بالخير ] أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ولكن الله لا يستجيب بفضله ( وكان الإنسان عجولا ( بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه . قال جماعة من أهل التفسير وقال ابن عباس : ضجرا لا صبر له على السراء والضراء . قوله عز وجل ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ( أي : علامتين دالتين على وجودنا ووحدانيتنا وقدرتنا ( فمحونا آية الليل ( قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس .

    وحكى أن الله تعالى أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور .

    وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر؟ قال : هو أثر المحو .

    ( وجعلنا آية النهار مبصرة ( منيرة مضيئة يعني يبصر بها . قال الكسائي : تقول العرب أبصر النهار إذا أضاء بحيث يبصر بها ( لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ( أي : لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر وقت الحج ولا وقت حلول الآجال ولا وقت السكون والراحة . ( وكل شيء فصلناه تفصيلا (
    [ ص: 82 ] ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ( 13 ) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( 14 ) من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 15 ) )

    قوله عز وجل ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان .

    وقال الكلبي ومقاتل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به .

    وقال الحسن : يمنه وشؤمه .

    وعن مجاهد : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد .

    وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي " طائرا " على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها . وقال أبو عبيدة والقتيبي : أراد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم : طار سهم فلان بكذا وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق .

    ( ونخرج له ( يقول الله تعالى : ونحن نخرج ( يوم القيامة كتابا ( وقرأ الحسن ومجاهد ويعقوب : " ويخرج له " بفتح الياء وضم الراء معناه : ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا . وقرأ أبو جعفر " يخرج " بالياء وضمها وفتح الراء .

    ( يلقاه ( قرأ ابن عامر وأبو جعفر " يلقاه " بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعني : يلقى الإنسان ذلك الكتاب أي : يؤتاه وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي يراه ( منشورا ( وفي الآثار : إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة . ( اقرأ كتابك ( أي : يقال له : اقرأ كتابك . قوله تعالى : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( محاسبا . قال الحسن : لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك . قال قتادة : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا . ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ( لها ثوابه ( ومن ضل فإنما يضل عليها ( لأن عليها عقابه .

    ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ( أي : لا تحمل حاملة حمل أخرى من الآثام أي : لا يؤخذ أحد بذنب أحد . ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( إقامة للحجة وقطعا للعذر ، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل .
    [ ص: 83 ] ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ( 16 ) )

    ( ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ) قرأ مجاهد : " أمرنا " بالتشديد أي : سلطنا شرارها فعصوا وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب " آمرنا " بالمد أي : أكثرنا .

    وقرأ الباقون مقصورا مخففا أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ويحتمل أن تكون بمعنى أكثرنا يقال : أمرهم الله أي كثرهم الله . وفي الحديث : " خير المال مهرة مأمورة " أي كثيرة النسل . ويقال منه : أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا وليس من الأمر بمعنى الفعل فإن الله لا يأمر بالفحشاء .

    واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة .

    ( مترفيها ( منعميها وأغنياءها ( ففسقوا فيها فحق عليها القول ( وجب عليها العذاب ( فدمرناها تدميرا ( أي : خربناها وأهلكنا من فيها .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يحيى بن بكر حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول : " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها " قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " .
    [ ص: 84 ] ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( 17 ) ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ( 18 ) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( 19 ) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ( 20 ) )

    قوله : ( وكم أهلكنا من القرون ( أي : المكذبة ( من بعد نوح ( يخوف كفار مكة ( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ( قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن مائة وعشرون سنة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن وكان في آخره يزيد بن معاوية .

    وقيل : مائة سنة . وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال : " سيعيش هذا الغلام قرنا " قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى تم له مائة سنة ثم مات .

    قال الكلبي : ثمانون سنة . وقيل : أربعون سنة . ( من كان يريد العاجلة ( يعني الدنيا أي : الدار العاجلة ، ( عجلنا له فيها ما نشاء ( من البسط والتقتير ( لمن نريد ( أن نفعل به ذلك أو إهلاكه ( ثم جعلنا له ( في الآخرة ( جهنم يصلاها ( يدخل نارها ( مذموما مدحورا ( مطرودا مبعدا . ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ( عمل عملها ، ( وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ( مقبولا . ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء ( أي : نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة ( من عطاء ربك ( أي : يرزقهما جميعا ثم يختلف بهما الحال في المآل ( وما كان عطاء ربك ( رزق ربك ( محظورا ( ممنوعا عن عباده فالمراد من العطاء : العطاء في الدنيا وإلا فلا حظ للكفار في الآخرة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (262)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية21 إلى الاية 36




    ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ( 21 ) لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ( 22 ) وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ( 23 ) )

    ( انظر ( يا محمد ( كيف فضلنا بعضهم على بعض ( في الرزق والعمل [ الصالح ] يعني : طالب العاجلة وطالب الآخرة ، ( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا لا تجعل مع الله إلها آخر ) الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره .

    وقيل : معناه لا تجعل أيها الإنسان [ مع الله إلها آخر ] ( فتقعد مذموما مخذولا ( مذموما من غير حمد مخذولا من غير نصر . قوله عز وجل ( وقضى ربك ( وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن .

    قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك .

    قال مجاهد : وأوصى ربك .

    وحكي عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا .

    ( ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( أي : وأمر بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما .

    ( إما يبلغن عندك الكبر ( قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : ( أحدهما أو كلاهما ( كلام مستأنف كقوله تعالى : " ثم عموا وصموا كثير منهم " ( المائدة - 71 ) وقوله : " وأسروا النجوى الذين ظلموا " ( الأنبياء - 3 ) وقوله : " الذين ظلموا " ابتداء وقرأ الباقون " يبلغن " على التوحيد . [ ص: 86 ]

    ( فلا تقل لهما أف ( فيه ثلاث لغات قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب : بفتح الفاء وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ومعناها واحد وهي كلمة كراهية .

    قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها .

    وقيل : " الأف " : ما يكون في المغابن من الوسخ و " التف " : ما يكون في الأصابع .

    وقيل : " الأف " : وسخ الأذن و " التف " وسخ الأظافر .

    وقيل : " الأف " : وسخ الظفر و " التف " : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير .

    ( ولا تنهرهما ( ولا تزجرهما .

    ( وقل لهما قولا كريما ( حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ .

    وقال مجاهد : لا تسميهما ولا تكنهما وقل : يا أبتاه [ يا أماه ] .

    وقال مجاهد في هذه الآية أيضا : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا .
    ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 ) )

    ( واخفض لهما جناح الذل ( أي : ألن جانبك لهما واخضع . قال عروة بن الزبير : لن لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه ( من الرحمة ( من الشفقة ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( أراد : إذا كانا مسلمين .

    قال ابن عباس : هذا منسوخ بقوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " ( التوبة - 13 ) .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن يزيد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن - يعني السلمي - عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع " . [ ص: 87 ]

    أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسين الماليني أخبرنا حسن بن سفيان حدثنا يحيى بن حبيب بن عدي حدثنا خالد بن الحارث عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد " .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمتام الضبي حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر " .

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن بامويه الأصفهاني أخبرنا أبو سعيد أحمد بن زياد البصري أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا ربعي بن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة " .
    [ ص: 88 ] ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ( 25 ) )

    ( ربكم أعلم بما في نفوسكم ( من بر الوالدين وعقوقهما ( إن تكونوا صالحين ( أبرارا مطيعين بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين وغير ذلك ( فإنه كان للأوابين ( بعد المعصية ( غفورا (

    قال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل يكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به .

    قال سعيد بن المسيب : " الأواب " : الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب .

    قال سعيد بن جبير : الرجاع إلى الخير .

    وعن ابن عباس قال : هو الرجاع إلى الله فيما يحزبه وينوبه .

    وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هم المسبحون ، دليله قوله : " يا جبال أوبي معه " ( سبأ - 10 ) .

    قال قتادة : هم المصلون .

    قال عوف العقيلي : هم الذين يصلون صلاة الضحى .

    أخبرنا أبو الحسن طاهر بن الحسين الروقي الطوسي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام صاحب الدستوائي عن قتادة عن القاسم بن عوف عن زيد بن أرقم قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون صلاة الضحى فقال : " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى " .

    وقال محمد بن المنكدر : " الأواب " : الذي يصلي بين المغرب والعشاء .

    وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين .
    [ ص: 89 ] ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( 26 ) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ( 27 ) ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ( 28 ) )

    قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ( يعني صلة الرحم وأراد به : قرابة الإنسان وعليه الأكثرون .

    عن علي بن الحسين : أراد به قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم .

    ( والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ( أي : لا تنفق مالك في المعصية .

    وقال مجاهد : لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيرا ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا .

    وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق المال في غير حقه .

    قال شعبة : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة فأتى على باب دار بني بجص وآجر فقال : هذا التبذير .

    وفي قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه . ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ( أي : أولياؤهم والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم ( وكان الشيطان لربه كفورا ( جحودا لنعمه . ( وإما تعرضن عنهم ( نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزل ( وإما تعرضن عنهم ( وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم ( ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ( انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك ( فقل لهم قولا ميسورا ( لينا وهي العدة أي : عدهم وعدا جميلا وقيل : القول الميسور أن تقول : يرزقنا الله وإياك .
    [ ص: 90 ] ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ( 29 ) إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( 30 ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( 31 ) )

    ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( قال جابر : أتى صبي فقال : يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر فعد وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره فنزع قميصه فأعطاه إياه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله تعالى : " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " يعني : ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق كالمغلولة يده لا يقدر على مدها . ( ولا تبسطها ( بالعطاء ( كل البسط ( فتعطي جميع ما عندك ( فتقعد ملوما ( يلومك [ سائلوك ] بالإمساك إذا لم تعطهم و " الملوم " : الذي أتى بما يلوم نفسه أو يلومه غيره ( محسورا ( منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه يقال : حسرته بالمسألة إذا ألحفت عليه ودابة حسيرة إذا كانت كالة رازحة .

    قال قتادة : " محسورا " نادما على ما فرط منك . ( إن ربك يبسط ( يوسع ( الرزق لمن يشاء ويقدر ( أي : يقتر ويضيق ( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ( فقر ( نحن نرزقهم وإياكم ( وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة فنهوا عنه وأخبروا أن رزقهم ورزق أولادهم على الله تعالى ( إن قتلهم كان خطئا كبيرا ( قرأ ابن عامر وأبو جعفر " خطأ " بفتح الخاء والطاء مقصورا . وقرأ ابن كثير بكسر الخاء ممدودا وقرأ الآخرون بكسر الخاء وجزم الطاء ومعنى الكل واحد أي : إثما كبيرا .
    [ ص: 91 ] ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ( 32 ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( 33 ) )

    ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس فيقتل بها " .

    ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ( أي : قوة وولاية على القاتل بالقتل قاله مجاهد وقال الضحاك : سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا .

    ( فلا يسرف في القتل ( قرأ حمزة والكسائي : " فلا تسرف " بالتاء يخاطب ولي القتيل وقرأ الآخرون بالياء على الغائب أي : لا يسرف الولي في القتل .

    واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه فقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه .

    وقال سعيد بن جبير : إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل [ وحده ] حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه .

    وقال قتادة : معناه لا يمثل بالقاتل .

    ( إنه كان منصورا ( فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله : ( ومن قتل مظلوما ( يعني : إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله هذا قول مجاهد .

    وقال قتادة : الهاء راجعة إلى ولي المقتول معناه : أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية . [ ص: 92 ]

    وقيل في قوله : ( فلا يسرف في القتل ( إنه أراد به القاتل المعتدي يقول : لا يتعدى بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه .
    ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 34 ) وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( 35 ) ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( 36 ) )

    ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد ( بالإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه . وقيل : أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه .

    ( إن العهد كان مسئولا ( قال السدي : كان مطلوبا وقيل : العهد يسأل عن صاحب العهد فيقال : فيما نقضت كالمؤودة تسأل فيم قتلت؟ ( وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس ( قرأ حمزة والكسائي وحفص " بالقسطاس " بكسر القاف والباقون بضمه وهما لغتان وهو الميزان صغر أو كبر أي : بميزان العدل وقال الحسن : هو القبان قال مجاهد : هو رومي وقال غيره : هو عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي : زنوا بالعدل ( المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ( أي : عاقبة . ( ولا تقف ما ليس لك به علم ( قال قتادة : لا تقل : رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه .

    وقال مجاهد : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم .

    قال القتيبي : لا تتبعه بالحدس والظن . وهو في اللغة اتباع الأثر يقال : قفوت فلانا أقفوه وقفيته وأقفيته إذا اتبعت أثره وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار .

    قال القتيبي : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور أي : يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها .

    وحقيقة المعنى : لا تتكلم [ أيها الإنسان ] بالحدس والظن .

    ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( قيل : معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده . [ ص: 93 ]

    وقيل : يسأل السمع والبصر والفؤاد عما فعله المرء .

    وقوله : ( كل أولئك ( أي : كل هذه الجوارح والأعضاء وعلى القول الأول يرجع " أولئك " [ إلى ] أربابها .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفاء حدثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز أخبرنا الفضل بن دكين حدثنا سعد بن أوس العبسي حدثني بلال بن يحيى العبسي أن شتير بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال : " قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي " قال : فحفظتها قال سعد المني ماؤه .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله


    الحلقة (263)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية37 إلى الاية 57


    ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ( 37 ) )

    ( ولا تمش في الأرض مرحا ( أي بطرا وكبرا وخيلاء وهو تفسير المشي فلذلك أخرجه على المصدر ، ( إنك لن تخرق الأرض ( أي لن تقطعها بكبرك حتى تبلغ آخرها ( ولن تبلغ الجبال طولا ( أي لا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها بكبرك . معناه : أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء .

    وقيل : ذكر ذلك لأن من مشى مختالا يمشي مرة على عقبيه ومرة على صدور قدميه فقيل له : إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك .

    أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن المسعودي عن عثمان بن مسلم بن هرمز عن نافع بن جبير بن مطعم عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مشى يتكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب " . [ ص: 94 ]

    أخبرنا أبو محمد الجرجاني أخبرنا أبو القاسم الخزاعي أخبرنا الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث " .
    ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( 38 ) ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( 39 ) )

    ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ( قرأ ابن عامر وأهل الكوفة : برفع الهمزة وضم الهاء على الإضافة ومعناه : كل الذي ذكرنا من قوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( كان سيئه ) أي : سيئ ما عددنا عليك عند ربك مكروها; لأنه قد عد أمورا حسنة كقوله : ( وآت ذا القربى حقه ( واخفض لهما جناح الذل ( وغير ذلك .

    وقرأ الآخرون : " سيئة " منصوبة منونة يعني : كل الذي ذكرنا من قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم ( إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه إذ الكل يرجع إلى المنهي عنه دون غيره ولم يقل مكروهة لأن فيه تقديما وتأخيرا وتقديره : كل ذلك كان مكروها سيئة . [ وقوله ( مكروها ( على التكرير لا على الصفة مجازه : كل ذلك كان سيئة وكان مكروها ] أو رجع إلى المعنى دون اللفظ لأن السيئة الذنب وهو مذكر . ( ذلك ( الذي ذكرنا ( مما أوحى إليك ربك من الحكمة ( وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو حكمة .

    ( ( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات والمراد منه الأمة ( فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( مطرودا مبعدا من كل خير .
    [ ص: 95 ] ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ( 40 ) ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا ( 41 ) قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( 42 ) سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ( 43 ) تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ( 44 ) )

    قوله عز وجل : ( أفأصفاكم ربكم ( أي : اختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة يعني : اختاركم ( بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ( لأنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله ( إنكم لتقولون قولا عظيما ( يخاطب مشركي مكة . قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا في هذا القرآن ( يعني : [ ما ذكر من ] العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد للتكثير والتكرير ( ليذكروا ( أي : ليتذكروا ويتعظوا وقرأ حمزة والكسائي بإسكان الذال وضم الكاف وكذلك في الفرقان . ( وما يزيدهم ( تصريفنا وتذكيرنا ( إلا نفورا ( ذهابا وتباعدا عن الحق . ( قل ( يا محمد لهؤلاء المشركين ( لو كان معه آلهة كما يقولون ( قرأ حفص وابن كثير " يقولون " بالياء وقرأ الآخرون بالتاء ( إذا لابتغوا ( لطلبوا يعني الآلهة ( إلى ذي العرش سبيلا ( بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض .

    وقيل : معناه لطلبوا إلى ذي العرش سبيلا بالتقرب إليه .

    قال قتادة : لعرفوا الله وفضله وابتغوا ما يقربهم إليه .

    والأول أصح . ثم نزه نفسه فقال عز من قائل : ( سبحانه وتعالى عما يقولون ( قرأ حمزة والكسائي " تقولون " بالتاء والآخرون بالياء ( علوا كبيرا ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ( قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب : " تسبح " بالتاء وقرأ الآخرون بالياء للحائل بين الفعل والتأنيث . [ ص: 96 ]

    ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ( روي عن ابن عباس أنه قال : وإن من شيء حي إلا يسبح بحمده .

    وقال قتادة : يعني الحيوانات والناميات .

    وقال عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح .

    وعن المقدام بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت التسبيح وإن الورقة لتسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح وإن الثوب ليسبح ما دام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت فإذا سكنت تركت التسبيح .

    وقال إبراهيم النخعي : وإن من شيء جماد إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف .

    وقال مجاهد : كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو ميتا أو جمادا ، وتسبيحها سبحان الله وبحمده .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو أحمد الزبير أخبرنا إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : " اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " .

    وقال بعض أهل المعاني : تسبح السموات والأرض والجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ما دلت بلطيف تركيبها وعجيب هيئتها على خالقها فيصير ذلك بمنزلة التسبيح منها .

    والأول هو المنقول عن السلف .

    واعلم أن لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه .

    ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( أي لا تعلمون تسبيح ما عدا من يسبح بلغاتكم وألسنتكم ( إنه كان حليما غفورا (
    [ ص: 97 ] ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( 45 ) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ( 46 ) نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( 47 ) )

    قوله عز وجل : ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ( يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به .

    قال قتادة : هو الأكنة والمستور بمعنى الساتر كقوله : " إنه كان وعده مأتيا " ( مريم - 61 ) مفعول بمعنى فاعل .

    وقيل مستور عن أعين الناس فلا يرونه .

    وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة ، كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت : " تبت يدا أبي لهب " جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني؟ فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله؟ قال : لا لم يزل ملك بيني وبينها يسترني . ( ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ) أغطية ( أن يفقهوه ( كراهية أن يفقهوه . وقيل : لئلا يفقهوه ، ( وفي آذانهم وقرا ( ثقلا لئلا يسمعوه ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ( يعني إذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه ( ولوا على أدبارهم نفورا ( جمع " نافر " مثل : قاعد وقعود وجالس وجلوس أي نافرين . ( نحن أعلم بما يستمعون به ( قيل : " به " صلة أي : يطلبون سماعه ، ( إذ يستمعون إليك ( وأنت تقرأ القرآن ( وإذ هم نجوى ( يتناجون في أمرك وقيل : ذوو نجوى فبعضهم يقول : هذا مجنون وبعضهم يقول كاهن وبعضهم يقول : ساحر وبعضهم يقول : شاعر ( إذ يقول الظالمون ( يعني : الوليد بن المغيرة وأصحابه ، ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( مطبوبا [ وقال مجاهد ] [ ص: 98 ] مخدوعا . وقيل : مصروفا عن الحق . يقال : ما سحرك عن كذا أي ما صرفك؟

    وقال أبو عبيدة : أي رجلا له سحر ، والسحر : الرئة أي إنه بشر مثلكم معلل بالطعام والشراب يأكل ويشرب قال الشاعر :
    أرانا موضعين لحتم غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
    أي نغذى ونعلل .
    ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ( 48 ) وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( 49 ) ( قل كونوا حجارة أو حديدا ( 50 ) أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ( 51 ) )

    ( انظر ( يا محمد ( كيف ضربوا لك الأمثال ( الأشباه ، قالوا : شاعر وساحر وكاهن ومجنون ( فضلوا ( فحاروا وحادوا ( فلا يستطيعون سبيلا ( أي : وصولا إلى طريق الحق . ( وقالوا أئذا كنا عظاما ( بعد الموت ، ( ورفاتا ( قال مجاهد : ترابا وقيل : حطاما . و " الرفات " : كل ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات والحطام . ( أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ) ( قل ) لهم يا محمد : ( كونوا حجارة أو حديدا ( في الشدة والقوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيز أي : استشعروا في قلوبكم أنكم حجارة أو حديد في القوة . ( أو خلقا مما يكبر في صدوركم ( قيل : السماء والأرض [ والجبال ] .

    وقال مجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين : إنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم .

    ( فسيقولون من يعيدنا ( من يبعثنا بعد الموت؟ ( قل الذي فطركم ( خلقكم ( أول مرة ( ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ( فسينغضون إليك رءوسهم ( أي : يحركونها [ ص: 99 ] إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها ( ويقولون متى هو ( أي : البعث والقيامة ( قل عسى أن يكون قريبا ( أي : هو قريب لأن عسى من الله واجب ، نظيره قوله تعالى : " وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا " ( الأحزاب - 63 ) .
    ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ( 52 ) وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( 53 ) ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا ( 54 ) )

    ( يوم يدعوكم ( من قبوركم إلى موقف القيامة ( فتستجيبون بحمده ( قال ابن عباس : بأمره وقال قتادة : بطاعته وقيل : مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد وقيل : هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين . ( وتظنون إن لبثتم ( في الدنيا وفي القبور ( إلا قليلا ( لأن الإنسان لو مكث ألوفا من السنين في الدنيا وفي القبر عد ذلك قليلا في مدة القيامة والخلود قال قتادة : يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة . قوله تعالى : ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ( قال الكلبي : كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنزل الله تعالى : ( وقل لعبادي ( المؤمنين ( يقولوا ( للكافرين ( التي هي أحسن ( ولا يكافئوهم بسفههم . قال الحسن : يقول له : يهديك الله وكان هذا قبل الإذن في الجهاد والقتال .

    وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله بالعفو .

    وقيل : أمر الله المؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا التي هي أحسن أي : الخلة التي هي أحسن .

    وقيل : " الأحسن " كلمة الإخلاص لا إله إلا الله .

    ( إن الشيطان ينزغ بينهم ( أي : يفسد ويلقي العداوة بينهم ( إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ( ظاهر العداوة . ( ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ( يوفقكم فتؤمنوا ( أو إن يشأ يعذبكم ( يميتكم على الشرك فتعذبوا قاله ابن جريج . [ ص: 100 ]

    وقال الكلبي : إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة ، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم . ( وما أرسلناك عليهم وكيلا ( حفيظا وكفيلا قيل : نسختها آية القتال .
    ( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ( 55 ) قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ( 56 ) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( 57 ) )

    ( وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ( أي : ربك العالم بمن في السموات والأرض فجعلهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم ومللهم .

    ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ( قيل جعل أهل السموات والأرض مختلفين كما فضل بعض النبيين على بعض .

    قال قتادة في هذه الآية : اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وقال لعيسى : كن فيكون وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا كما قال : ( وآتينا داود زبورا ( والزبور : كتاب علمه الله داود يشتمل على مائة وخمسين سورة كلها دعاء وتمجيد وثناء على الله عز وجل وليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود .

    معناه : إنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن؟ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم السلام من أهل الكتاب وغيرهم . قوله عز وجل : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ( وذلك أن المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم قال الله تعالى : ( قل ( للمشركين ( ادعوا الذين زعمتم من دونه ( أنها آلهة ( فلا يملكون كشف الضر ( القحط والجوع ( عنكم ولا تحويلا ( إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر . ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ( يعني الذين يدعونهم المشركون آلهة يعبدونهم . [ ص: 101 ]

    قال ابن عباس ومجاهد : وهم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم " يبتغون " أي يطلبون إلى ربهم " الوسيلة " أي القربة . وقيل : الوسيلة الدرجة العليا أي : يتضرعون إلى الله في طلب الدرجة العليا .

    وقيل : الوسيلة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى .

    وقوله : ( أيهم أقرب ( معناه : ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به وقال الزجاج : أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرب إليه بالعمل الصالح ( ويرجون رحمته ( جنته ( ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ( أي يطلب منه الحذر .

    وقال عبد الله بن مسعود : نزلت الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون ولم يعلم الإنس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية .

    وقرأ ابن مسعود " أولئك الذين تدعون " بالتاء .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (264)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية58 إلى الاية 71

    ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ( 58 ) )

    ( وإن من قرية ( وما من قرية ( إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة ( أي : مخربوها ومهلكوا أهلها ( أو معذبوها عذابا شديدا ( بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا وقال مقاتل وغيره : مهلكوها في حق المؤمنين بالإماتة ومعذبوها في حق الكفار بأنواع العذاب .

    قال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها .

    ( كان ذلك في الكتاب ( في اللوح المحفوظ ( مسطورا ( مكتوبا .

    قال عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال ما أكتب؟ قال القدر وما كان وما هو كائن إلى الأبد " . [ ص: 102 ]

    قوله عز وجل : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ( قال ابن عباس : سأل أهل مكة [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم [ من الأمم ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا بل تستأني بهم " فأنزل الله عز وجل
    ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( 59 ) وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ( 60 ) )

    ( وما منعنا أن نرسل بالآيات ( التي سألها كفار قريش ( إلا أن كذب بها الأولون ( فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكتهم لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإهلاك هذه الأمة بالعذاب فقال جل ذكره : " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " ( القمر - 46 ) ثم قال :

    ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ( مضيئة بينة ( فظلموا بها ( أي : جحدوا بها أنها من عند الله كما قال : " بما كانوا بآياتنا يظلمون " ( الأعراف - 9 ) أي : يجحدون وقيل : ظلموا أنفسهم بتكذيبها يريد فعاجلناهم بالعقوبة .

    ( وما نرسل بالآيات ( أي : العبر والدلالات ( إلا تخويفا ( للعباد ليؤمنوا

    قال قتادة إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون . قوله عز وجل : ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ( أي : هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته فهو حافظك ومانعك منهم فلا تهبهم وامض إلى ما أمرك به من تبليغ الرسالة [ ص: 103 ] كما قال : " والله يعصمك من الناس " ( المائدة - 67 )

    ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( فالأكثرون على أن المراد منه ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم [ ليلة المعراج من العجائب والآيات .

    قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ] وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج والأكثرين والعرب تقول : رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكان فتنة للناس .

    وقال قوم : [ أسري بروحه دون بدنه .

    وقال بعضهم : كان له معراجان : معراج رؤية بالعين ومعراج رؤيا بالقلب .

    وقال قوم ] . أراد بهذه الرؤيا ما رأى صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل السير إلى مكة قبل الأجل فصده المشركون فرجع إلى المدينة وكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم حتى دخلها في العام المقبل فأنزل الله تعالى : " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " ( الفتح - 27 ) .

    ( والشجرة الملعونة في القرآن ( يعني شجرة الزقوم ، مجازه : والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن والعرب تقول لكل طعام كريه : طعام ملعون . وقيل : [ معناه الملعون ] آكلها ونصب الشجرة عطفا على الرؤيا أي : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة إلا فتنة للناس فكانت الفتنة في الرؤيا ما ذكرنا .

    والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين ، أحدهما : أن أبا جهل قال : إن ابن أبي كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنه ينبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجرة .

    والثاني أن عبد الله بن الزبعرى قال : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر وقال أبو جهل : يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بالتمر والزبد فقال : يا قوم [ تزقموا ] فإن هذا ما يخوفكم به محمد فوصفها الله تعالى في الصافات . [ ص: 104 ]

    وقيل : الشجرة الملعونة هي : التي تلتوي على الشجر فتجففه يعني الكشوث .

    ( ونخوفهم فما يزيدهم ( التخويف ( إلا طغيانا كبيرا ( أي : تمردا وعتوا عظيما .
    ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( 61 ) قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( 62 ) قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( 63 ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 64 ) )

    ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا ( أي : خلقته من طين أنا جئت به وذلك ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن الله تعالى بعث إبليس حتى أخذ كفا من تراب الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من العذب فهو سعيد وإن كان ابن كافرين ومن خلقه من الملح فهو شقي وإن كان ابن نبيين . ( قال ( يعني إبليس ( أرأيتك ( أي : أخبرني والكاف لتأكيد المخاطبة ( هذا الذي كرمت علي ( أي : فضلته علي ( لئن أخرتن ( أمهلتني ( إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ( أي : لأستأصلنهم بالإضلال يقال : احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله وقيل هو من قول العرب حنك الدابة يحنكها : إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها أي : لأقودنهم كيف شئت وقيل لأستولين عليهم بالإغواء ( إلا قليلا ( يعني المعصومين الذين استثناهم الله عز وجل في قوله : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " ( الحجر - 42 ) . ( قال ( الله : ( اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ( أي : جزاؤك وجزاء أتباعك ( جزاء موفورا ( وافرا مكملا يقال : وفرته أوفره وفرا . وقوله : ( واستفزز ( واستخفف واستجهد ( من استطعت منهم ( أي : من ذرية آدم [ ص: 105 ] ( بصوتك ( قال ابن عباس وقتادة : بدعائك إلى معصية الله . وكل داع إلى معصية الله [ فهو من جند إبليس .

    قال الأزهري : معناه ادعهم دعاء تستفزهم به إلى جانبك أي : تستخفهم ] .

    وقال مجاهد : بالغناء والمزامير .

    ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ( قيل : اجمع عليهم مكايدك وخيلك ، ويقال : " أجلبوا " و " جلبوا " إذا صاحوا يقول : صح بخيلك ورجلك وحثهم عليه بالإغواء .

    قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم والخيل : الركبان والرجل : المشاة .

    قال أهل التفسير : كل راكب وماش في معاصي الله فهو من جند إبليس .

    وقال مجاهد وقتادة : إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس ، وهو كل من يقاتل في المعصية والرجل والرجالة والراجلة واحد يقال : راجل ورجل مثل : تاجر وتجر وراكب وركب وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان .

    ( ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) فالمشاركة في الأموال : كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام هذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير .

    وقال عطاء : هو الربا وقال قتادة هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام .

    وقال الضحاك : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم .

    وأما الشركة في الأولاد : روي عن ابن عباس : أنها الموءودة .

    وقال مجاهد والضحاك : هم أولاد الزنا .

    وقال الحسن ، وقتادة : هو أنهم هودوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم .

    وعن ابن عباس رواية أخرى : هو تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها [ ص: 106 ]

    وروي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل : " بسم الله " أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل .

    وروي في بعض الأخبار : إن فيكم مغربين قيل : وما المغربون؟ قال : الذين يشارك فيهم الجن .

    وروي أن رجلا قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار؟ قال : ذلك من وطء الجن .

    وفي الآثار : أن إبليس لما أخرج إلى الأرض قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال : أنت مسلط فقال : لا أستطيعه إلا بك فزدني قال : واستفزز من استطعت منهم بصوتك الآية فقال آدم : يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه قال : زدني قال : الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال : زدني قال : التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد فقال : زدني قال : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " الآية ( الزمر - 53 ) .

    وفي الخبر : أن إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا فما قراءتي؟ قال : الشعر قال : فما كتابي؟ قال : الوشم قال : ومن رسلي؟ قال : الكهنة قال : وأين مسكني؟ قال الحمامات قال : وأين مجلسي؟ قال : الأسواق قال : أي شيء مطعمي؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي قال : ما شرابه؟ قال : كل مسكر قال : وما حبالي؟ قال النساء قال : وما أذاني؟ قال : المزامير .

    قوله عز وجل ( وعدهم ( أي : منهم الجميل في طاعتك . وقيل : قل لهم : لا جنة ولا نار ولا بعث .

    ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق .

    فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء وهو يقول : " إن الله لا يأمر بالفحشاء " ( الأعراف - 28 ) ؟

    قيل : هذا على طريق التهديد كقوله تعالى : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) وكقول القائل : افعل ما شئت فسترى .

    [ ص: 107 ] ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( 65 ) ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ( 66 ) ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ( 67 ) أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( 68 ) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( 69 ) )

    قوله ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( أي حافظا من يوكل الأمر إليه . قوله عز وجل ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك ( أي : يسوق ويجري لكم الفلك ( في البحر لتبتغوا من فضله ( لتطلبوا من رزقه ( إنه كان بكم رحيما ( وإذا مسكم الضر ( الشدة وخوف الغرق ( في البحر ضل ( أي : بطل وسقط ( من تدعون ( من الآلهة ( إلا إياه ( إلا الله فلم تجدوا مغيثا غيره وسواه ( فلما نجاكم ( أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وأخرجكم ( إلى البر أعرضتم ( عن الإيمان والإخلاص والطاعة كفرا منكم لنعمه ( وكان الإنسان كفورا ) ( أفأمنتم ) بعد ذلك ( أن يخسف بكم ) يغور بكم ( جانب البر ) ناحية البر وهي الأرض ( أو يرسل عليكم حاصبا ( أي : يمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطر على قوم لوط وقال أبو عبيدة والقتيبي : الحاصب : الريح التي ترمي بالحصباء وهي الحصا الصغار ( ثم لا تجدوا لكم وكيلا ( قال قتادة : مانعا . ( أم أمنتم أن يعيدكم فيه ( يعني في البحر ( تارة ( مرة ( أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح ( قال ابن عباس : أي : عاصفا وهي الريح الشديدة .

    وقال أبو عبيدة : هي الريح التي تقصف كل شيء أي تدقه وتحطمه .

    وقال القتيبي : هي التي تقصف الشجر أي تكسره . [ ص: 108 ]

    ( فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ( ناصرا ولا ثائرا و " تبيع " بمعنى تابع أي تابعا مطالبا بالثأر . وقيل : من يتبعنا بالإنكار .

    قرأ ابن كثير وأبو عمرو " أن نخسف ونرسل ونعيدكم فنرسل فنغرقكم " بالنون فيهن لقوله " علينا " وقرأ الآخرون بالياء لقوله " " إلا إياه " وقرأ أبو جعفر ويعقوب : " فتغرقكم " بالتاء يعني الريح .

    ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( 70 ) )

    قوله عز وجل ( ولقد كرمنا بني آدم ( روي عن ابن عباس أنه قال : هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وروي عنه أنه قال : بالعقل .

    وقال الضحاك : بالنطق وقال عطاء : بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكبة على وجوهها وقيل : بحسن الصورة وقيل : الرجال باللحى والنساء بالذوائب وقيل : بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل : بأن منهم خير أمة أخرجت للناس .

    ( وحملناهم في البر والبحر ( أي : حملناهم في البر على الدواب وفي البحر على السفن .

    ( ورزقناهم من الطيبات ( يعني : لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل : السمن والزبد والتمر والحلوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى .

    ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( وظاهر الآية أنه فضلهم على كثير ممن خلقهم لا على الكل .

    وقال قوم : فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة .

    وقال الكلبي : فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم .

    وفي تفضيل الملائكة على البشر اختلاف فقال قوم : فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال تعالى : " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " إلى قوله تعالى : " وأكثرهم كاذبون " ( الشعراء - 221 - 222 ) أي : كلهم . [ ص: 109 ]

    وفي الحديث عن جابر يرفعه قال : " لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة : يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له : كن فكان " .

    والأولى أن يقال : عوام المؤمنين أفضل من عوام الملائكة وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة قال الله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " ( البينة - 7 ) .

    وروي عن أبي هريرة أنه قال : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده " .
    ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( 71 ) )

    قوله عز وجل ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) قال مجاهد وقتادة : بنبيهم وقال أبو صالح والضحاك : بكتابهم الذي أنزل عليهم .

    وقال الحسن وأبو العالية : بأعمالهم .

    وقال قتادة أيضا : بكتابهم الذي فيه أعمالهم بدليل سياق الآية .

    ( فمن أوتي كتابه بيمينه ( ويسمى الكتاب إماما كما قال عز وجل : " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ( يس - 12 ) .

    وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى قال الله تعالى : " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا " ( الأنبياء - 73 ) وقال : " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار " ( القصص - 41 ) . [ ص: 110 ]

    وقيل : بمعبودهم وعن سعيد بن المسيب قال : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر .

    وقال محمد بن كعب : ( بإمامهم ( قيل : يعني بأمهاتهم وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها : لأجل عيسى عليه السلام والثاني : لشرف الحسن والحسين والثالث : لئلا يفتضح أولاد الزنا .

    ( فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ( أي لا ينقص من حقهم قدر فتيل .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (265)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية72 إلى الاية 79

    ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( 72 ) )

    ( ومن كان في هذه أعمى ( اختلفوا في هذه الإشارة فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله تعالى في هذه الآيات من قوله : ( ربكم الذي يزجي لكم الفلك ( إلى قوله ( تفضيلا ( يقول : من كان منكم في هذه النعم التي قد عاين أعمى ( فهو في ( أمر ( الآخرة ( التي لم يعاين ولم ير ( أعمى وأضل سبيلا ( يروى هذا عن ابن عباس .

    وقال الآخرون : هي راجعة إلى الدنيا يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي : أشد عمى وأضل سبيلا أي : أخطأ طريقا .

    وقيل : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .

    وقال الحسن : من كان في هذه الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته . [ ص: 111 ]

    وأمال بعض القراء هذين الحرفين وفتحهما بعضهم وكان أبو عمرو يكسر الأول ويفتح الثاني فهو في الآخرة أشد عمى لقوله " وأضل سبيلا " .
    ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ( 73 ) )

    قوله عز وجل : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) الآية اختلفوا في سبب نزولها :

    قال سعيد بن جبير : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا : [ لا تلم ] حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه : ما علي أن أفعل ذلك والله تعالى يعلم أني لها كاره بعد أن يدعوني حتى أستلم الحجر الأسود .

    وقيل : طلبوا منه أن يمس آلهتهم حتى يسلموا ويتبعوه فحدث نفسه بذلك فأنزل الله هذه الآية .

    قال ابن عباس : قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هن؟ قالوا : أن لا ننحني - أي في الصلاة - ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذاك لكم وأما الطاغية - يعني اللات والعزى - فإني غير ممتعكم بها " فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل : الله أمرني بذلك؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله عز وجل هذه الآية . ( وإن كادوا ليفتنونك ( ليصرفونك ( عن الذي أوحينا إليك ) ( لتفتري ) لتختلق ( علينا غيره وإذا ) لو فعلت ما دعوك إليه ( لاتخذوك خليلا ) أي : والوك وصافوك .
    [ ص: 112 ] ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ( 74 ) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ( 75 ) ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 ) )

    ( ولولا أن ثبتناك ) على الحق بعصمتنا ( لقد كدت تركن ) أي : تميل ( إليهم شيئا قليلا ) أي : قريبا من الفعل .

    فإن قيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه وما طلبوه كفر؟

    قيل : كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد غفر الله عز وجل عن حديث النفس .

    قال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " .

    والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) وقد ثبته الله ولم يركن وهذا مثل قوله تعالى : " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " ( النساء - 83 ) [ وقد تفضل فلم يتبعوا ] . ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) أي : لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني : أضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة .

    وقيل : " الضعف " : هو العذاب سمي ضعفا لتضاعف الألم فيه .

    ( ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) أي : ناصرا يمنعك من عذابنا . قوله تعالى : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) اختلفوا في معنى الآية فقال بعضهم : هذه الآية مدنية قال الكلبي : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة حسدا منهم فأتوه وقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء فإن أرض الأنبياء الشام [ وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام ] وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله [ ص: 113 ] فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية : إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج فأنزل الله هذه الآية و " الأرض " هاهنا هي المدينة .

    وقال مجاهد وقتادة : " الأرض " أرض مكة والآية مكية هم المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية .

    وقيل : هم الكفار كلهم أرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا والاستفزاز هو الإزعاج بسرعة .

    ( وإذا لا يلبثون خلافك ) أي بعدك وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص ويعقوب ( خلافك ) اعتبارا بقوله تعالى : " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله " ( التوبة - 81 ) ومعناهما واحد . ( إلا قليلا ) أي : لا يلبثون بعدك إلا قليلا حتى يهلكوا فعلى هذا القول الأول : مدة حياتهم وعلى الثاني : ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى أن قتلوا ببدر .
    ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ( 77 ) )

    قوله عز وجل : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ) أي : كسنتنا فانتصب بحذف الكاف وسنة الله في الرسل إذا كذبتهم الأمم أن لا يعذبهم ما دام نبيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبهم .

    ( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) أي تبديلا .
    [ ص: 114 ] ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( 78 ) )

    قوله : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اختلفوا في الدلوك : روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الدلوك هو الغروب وهو قول إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والضحاك والسدي .

    وقال ابن عباس : وابن عمر وجابر : هو زوال الشمس وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين .

    ومعنى اللفظ يجمعهما لأن أصل الدلوك الميل والشمس تميل إذا زالت وغربت .

    والحمل على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به ولأنا إذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها " فدلوك الشمس " : يتناول صلاة الظهر والعصر و " إلى غسق الليل " : يتناول المغرب والعشاء و " قرآن الفجر " : هو صلاة الصبح .

    قوله عز وجل : ( إلى غسق الليل ) أي : ظهور ظلمته وقال ابن عباس : بدو الليل وقال قتادة : وقت صلاة المغرب وقال مجاهد : غروب الشمس .

    ( وقرآن الفجر ) يعني : صلاة الفجر سمى صلاة الفجر قرآنا لأنها لا تجوز إلا بقرآن وانتصاب القرآن من وجهين : أحدهما : أنه عطف على الصلاة أي : وأقم قرآن الفجر قاله الفراء وقال أهل البصرة : على الإغراء أي وعليك قرآن الفجر .

    ( ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي : يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تفضل صلاة الجميع على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) .
    [ ص: 115 ] ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ( 79 ) )

    قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به ) أي : قم بعد نومك والتهجد لا يكون إلا بعد النوم يقال : تهجد إذا قام بعدما نام وهجد إذا نام .

    والمراد من الآية : قيام الليل للصلاة .

    وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء وعلى الأمة لقوله تعالى : " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " ( المزمل - 1 ) ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس وبقي الاستحباب قال الله تعالى : " فاقرءوا ما تيسر منه " ( المزمل - 20 ) وبقي الوجوب في حق النبي صلى الله عليه وسلم .

    وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث هن علي فريضة وهن سنة لكم : الوتر [ والسواك ] وقيام الليل " .

    قوله عز وجل : ( نافلة لك ) أي : زيادة لك يريد : فضيلة زائدة على سائر الفرائض فرضها الله عليك .

    وذهب قوم إلى أن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة فصارت نافلة وهو قول مجاهد وقتادة لأن الله تعالى قال : " نافلة لك " ولم يقل عليك .

    فإن قيل : فما معنى التخصيص وهي زيادة في حق كافة المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم؟

    قيل : التخصيص من حيث إن نوافل العباد كفارة لذنوبهم والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت نوافله لا تعمل في كفارة الذنوب فتبقى له زيادة في رفع الدرجات . [ ص: 116 ]

    أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة وبشر بن معاذ قالا حدثنا أبو عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له : أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .

    أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه عن عبد الله بن قيس بن مخرمة أنه أخبره عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : " لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما [ ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ] ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة .

    أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قال : فقالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا . قالت عائشة فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال : " يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " .

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق أخبرنا يونس بن هارون بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس وابن أبي ذئب وعمر بن الحارث أن ابن شهاب أخبرهم عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى [ ص: 117 ] عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة فيسجد السجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج " وبعضهم يزيد على بعض .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا عبد الرحمن بن منيب أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه وقال : كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا .

    قوله عز وجل : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) عسى من الله تعالى واجب لأنه لا يدع أن يعطي عباده أو يفعل بهم ما أطمعهم فيه .

    والمقام المحمود هو : مقام الشفاعة لأمته لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون : أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه أخبرنا عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا حياة عن كعب عن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا علي بن عباس حدثنا سعيد بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة " . [ ص: 118 ]

    أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا عبد الرحيم بن منيب أخبرنا يعلى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم - إن شاء الله - من مات لا يشرك بالله شيئا " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل قال : وقال حجاج بن منهال حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهتموا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب وأكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض .

    فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب ، سؤاله ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن قال فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا .

    قال : فيأتون موسى فيقول إني لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بقتل النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته .

    فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

    قال : فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأخرجهم فأدخلهم الجنة
    . [ ص: 119 ]

    قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة [ ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة " ] .

    قال قتادة : وقد سمعته أيضا يقول : " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن " - أي وجب عليه الخلود - قال : ثم تلا هذه الآية : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ قال : " وهذا المقام المحمود ] الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم " .

    وبهذا الإسناد قال : حدثنا [ محمد بن إسماعيل حدثنا ] سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال الغزي قال : ذهبنا إلى أنس بن مالك فذكر حديث الشفاعة بمعناه وقال : " فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع [ وسل تعطه ] واشفع تشفع فأقول : يا رب أمتي أمتي فيقول : انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله فيقال : " انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من الإيمان فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا وذكر مثله ثم يقال : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأنطلق فأفعل . فلما خرجنا من عند أنس مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال : هيه فقلنا : لم يزدنا على هذا فقال : لقد حدثني وهو [ يومئذ جميع ] منذ عشرين سنة كما حدثكم ثم قال : ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول يا ربي أتأذن في من قال لا إله إلا الله؟ فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله " . [ ص: 120 ]

    وروي عن عبد الله بن عمر قال : " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم [ فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .

    وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد ] بن مامويه حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان حدثنا محمد بن حمويه حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا منصور بن أبي الأسود حدثنا الليث عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولهم خروجا [ إذا بعثوا ] وأنا قائدهم إذا وفدوا وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا [ وأنا مبشرهم إذا أيسوا ] الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي ولواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني الحكم بن موسى حدثنا معقل بن زياد عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع "

    والأخبار في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو بن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة . [ ص: 121 ]

    وروي عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج وكنت رجلا شابا فخرجنا في عصابة نريد أن نحج فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الجهنميين فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي يحدثون والله عز وجل يقول : " إنك من تدخل النار فقد أخزيته " ( آل عمران - 192 ) و " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " ( السجدة - 20 ) ؟ فقال لي : يا فتى تقرأ القرآن؟ قلت : نعم قال : هل سمعت بمقام محمد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار [ ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ] وأن قوما يخرجون من النار بعدما يكونون فيها قال : فرجعنا وقلنا أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .

    وروي عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم حبيب الله وأكرم الخلق على الله " ثم قرأ : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [ قال : يقعد على العرش ] .

    [ وعن مجاهد في قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : يجلسه على العرش ] .

    وعن عبد الله بن سلام قال : يقعده على الكرسي .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (266)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية80 إلى الاية 89

    ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ( 80 ) )

    قوله عز وجل : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) والمراد من [ ص: 122 ] المدخل والمخرج : الإدخال والإخراج واختلف أهل التفسير فيه :

    فقال ابن عباس والحسن وقتادة : " أدخلني مدخل صدق " : المدينة . " وأخرجني مخرج صدق " : مكة ، نزلت حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة .

    وقال الضحاك : " وأخرجني مخرج صدق " : من مكة آمنا من المشركين " وأدخلني مدخل صدق " : مكة ظاهرا عليها بالفتح .

    وقال مجاهد : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق الجنة وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب علي من حقها مخرج صدق .

    وعن الحسن أنه قال : " أدخلني مدخل صدق " : الجنة " وأخرجني مخرج صدق " : من مكة .

    وقيل : أدخلني في طاعتك وأخرجني من المناهي وقيل : معناه أدخلني حيث ما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق ، أي : لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا ووجيها عند الله .

    ووصف الإدخال والإخراج بالصدق لما يئول إليه الخروج والدخول من النصر والعز ودولة الدين كما وصف القدم بالصدق فقال : " أن لهم قدم صدق عند ربهم " ( يونس - 2 ) .

    ( واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال مجاهد : حجة بينة وقال الحسن : ملكا قويا تنصرني به على من ناوأني وعزا ظاهرا أقيم به دينك . فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له .

    قال قتادة : علم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان [ نصير ] فسأل سلطانا نصيرا : كتاب الله وحدوده وإقامة دينه .
    ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( 81 ) )

    قوله عز وجل : ( وقل جاء الحق ) يعني القرآن ( وزهق الباطل ) أي : الشيطان قال قتادة وقال السدي : " الحق " : الإسلام و " الباطل " : الشرك وقيل : " الحق " : عبادة الله و " الباطل " : عبادة الأصنام .

    ( إن الباطل كان زهوقا ) ذاهبا يقال : زهقت نفسه أي خرجت .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا [ ص: 123 ] محمد بن إسماعيل حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود [ في يده ] ويقول : " جاء الحق وزهق الباطل " " جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " .
    ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ( 82 ) وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا ( 83 ) )

    قوله عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) قيل : " من " ليس للتبعيض ومعناه : وننزل من القرآن ما كله شفاء أي : بيان من الضلالة والجهالة يتبين به المختلف ويتضح به المشكل ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة فهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها ورحمة للمؤمنين .

    ( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) لأن الظالم لا ينتفع به والمؤمن من ينتفع به فيكون رحمة له .

    وقيل : زيادة الخسارة للظالم من حيث أن كل آية تنزل يتجدد منهم تكذيب ويزداد لهم خسارة .

    قال قتادة : لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضى الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . قوله تعالى : ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ) عن ذكرنا ودعائنا ( ونأى بجانبه ) أي تباعد عنا بنفسه أي ترك التقرب إلى الله بالدعاء وقال عطاء : تعظم وتكبر . ويكسر النون والهمزة حمزة والكسائي ويفتح النون ويكسر الهمزة أبو بكر وقرأ ابن عامر وأبو جعفر " وناء " مثل جاء قيل : هو بمعنى نأى وقيل : ناء من النوء وهو النهوض والقيام .

    ( وإذا مسه الشر ) الشدة والضرر ( كان يئوسا ) أي آيسا قنوطا . وقيل : معناه أنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة فإذا تأخرت الإجابة يئس ولا ينبغي للمؤمن أن ييأس من الإجابة وإن تأخرت فيدع الدعاء .
    [ ص: 124 ] ( ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ( 84 ) ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( 85 ) )

    قوله عز وجل : ( قل كل يعمل على شاكلته ) قال ابن عباس : على ناحيته .

    قال الحسن وقتادة على نيته .

    وقال مقاتل : على خليقته .

    قال الفراء على طريقته التي جبل عليها .

    وقال القتيبي : على طبيعته وجبلته .

    وقيل : على السبيل الذي اختاره لنفسه وهو من الشكل يقال : لست على شكلي ولا شاكلتي وكلها متقاربة تقول العرب : طريق ذو شواكل إذا تشعبت منه الطرق . ومجاز الآية : كل يعمل على ما يشبهه كما يقال في المثل : كل امرئ يشبهه فعله .

    ( فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) أوضح طريقا . قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) الآية .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا قيس بن حفص حدثنا عبد الواحد - يعني ابن زياد - حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح وقال بعضهم : لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه فقال بعضهم لنسألنه فقام رجل منهم فقال : يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت : إنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه الوحي قال : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قال الأعمش : هكذا في قراءتنا . [ ص: 125 ]

    وروي عن ابن عباس أنه قال : إن قريشا قد اجتمعوا وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحدة فهو نبي فسلوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خبره وعن الروح؟ فسألوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي - قال مجاهد : اثني عشرة ليلة وقيل : خمسة عشر يوما وقال عكرمة : أربعين يوما - وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل بقوله : " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " ونزل في قصة الفتية " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب " ويسألونك عن ذي القرنين " ونزل في الروح " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " .

    واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه فروي عن ابن عباس : أنه جبريل وهو قول الحسن وقتادة .

    وروي عن علي أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها .

    وقال مجاهد : خلق على صور بني آدم لهم أيد وأرجل ورءوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام .

    وقال سعيد بن جبير : لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة خلقه على صورة خلق الملائكة وصورة وجهه على صورة الآدميين يقوم يوم القيامة عن يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل اليوم عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره .

    وقيل : الروح هو القرآن . [ ص: 126 ]

    وقيل : المراد منه عيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته ومعناه : أنه ليس كما يقول اليهود ولا كما يقوله النصارى .

    وقال قوم : هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان وهو الأصح .

    وتكلم فيه قوم فقال بعضهم : هو الدم ألا ترى أن الحيوان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم؟

    وقال قوم : هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس .

    وقال قوم : هو عرض .

    وقال قوم : هو جسم لطيف .

    وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات فإذا خرج ذهب الكل ؟

    وأولى الأقاويل : أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة . قال عبد الله بن بريدة : إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا .

    وقوله عز وجل : ( قل الروح من أمر ربي ) قيل من علم ربي .

    ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أي : في جنب علم الله قيل هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .

    وقيل : خطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير .

    وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به أحدا لأن ترك إخباره به كان علما لنبوته .

    والأول أصح لأن الله عز وجل استأثر بعلمه .
    ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( 86 ) )

    قوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) يعني القرآن . معناه : إنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك يعني القرآن ( ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ) أي : من يتوكل برد القرآن إليك . [ ص: 127 ] ( إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ( 87 ) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( 88 ) )

    ( إلا رحمة من ربك ) هذا استثناء منقطع معناه : ولكن لا نشاء ذلك رحمة من ربك .

    ( إن فضله كان عليك كبيرا ) فإن قيل : كيف يذهب القرآن وهو كلام الله عز وجل؟

    قيل : المراد منه : محوه من المصاحف وإذهاب ما في الصدور .

    وقال عبد الله بن مسعود : اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع . قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس؟ قال يسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر .

    وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب ما لك وهو أعلم؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي . قوله جل وعلا ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) لا يقدرون على ذلك ( ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) عونا ومظاهرا .

    نزلت حين قال الكفار : لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله تعالى

    فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله
    [ ص: 128 ] ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( 89 ) وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ( 90 ) )

    قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ) من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) جحودا . قوله عز وجل : ( وقالوا لن نؤمن لك ) لن نصدقك ( حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) قرأ أهل الكوفة ويعقوب " تفجر " بفتح التاء وضم الجيم مخففا لأن الينبوع واحد وقرأ الباقون بالتشديد من التفجير واتفقوا على تشديد قوله : ( فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) لأن الأنهار جمع والتشديد يدل على التكثير ولقوله " تفجيرا " من بعد .

    وروى عكرمة عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تطلب الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن : الرئي .

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . [ ص: 129 ]

    فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادا ولا أشد منا عيشا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال فقد ضيقت علينا ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك صدقناك .

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه أصبر لأمر الله .

    قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك ، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه .

    فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا .

    قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل .

    فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم فعله .

    وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا .

    فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا عليك فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى فيها وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض )
    يعني : أرض مكة ( ينبوعا ) أي : عيونا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (267)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
    الاية91 إلى الاية 110

    ( أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ( 91 ) )

    ( أو تكون لك جنة ) بستان ( من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ) تشقيقا . [ ص: 130 ] ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ( 92 ) أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ( 93 ) )

    ( أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح السين أي : قطعا وهي جمع " كسفة " وهي : القطعة والجانب مثل : كسرة وكسر . وقرأ الآخرون بسكون السين على التوحيد وجمعه أكساف وكسوف أي : تسقطها طبقا [ واحدا ] وقيل : أراد جانبها علينا وقيل : معناه أيضا القطع وهي جمع التكسير مثل سدرة وسدر في ( الشعراء وسبأ ) ( كسفا ) بالفتح حفص وفي الروم ساكنة أبو جعفر وابن عامر .

    ( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) قال ابن عباس : كفيلا أي : يكفلون بما تقول وقال الضحاك : ضامنا وقال مجاهد : هو جمع القبيلة أي : بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة [ وقال قتادة : عيانا أي : تراهم القابلة ] أي معاينة [ وقال الفراء : هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا ، وقبيلا أي : معاينة ] . ( أو يكون لك بيت من زخرف ) أي : من ذهب وأصله الزينة ( أو ترقى ) تصعد ( في السماء ) هذا قول عبد الله بن أبي أمية ( ولن نؤمن لرقيك ) لصعودك ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) أمرنا فيه باتباعك ( قل سبحان ربي ) وقرأ ابن كثير وابن عامر " قال " يعني محمدا وقرأ الآخرون على الأمر أي : قل يا محمد ( هل كنت إلا بشرا رسولا ) أمره بتنزيهه وتمجيده على معنى أنه لو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل ولكن الله لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر وما أنا إلا بشر وليس ما سألتم في طوق البشر .

    واعلم أن الله تعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل : القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبهها والقوم عامتهم كانوا متعنتين لم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله عليهم سؤالهم .
    [ ص: 131 ] ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ( 94 ) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ( 95 ) قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ( 96 ) ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( 97 ) )

    قوله عز وجل : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا ) جهلا منهم ( أبعث الله بشرا رسولا ) أراد : أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا؟ فأجابهم الله تعالى : ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ( قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ) مستوطنين مقيمين ( لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) من جنسهم لأن القلب إلى الجنس أميل منه إلى غير الجنس . ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) أني رسول الله إليكم ( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) قوله عز وجل : ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ) يهدونهم ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم )

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا الحسن بن شجاع الصوفي المعروف بابن الموصلي أنبأنا أبو بكر بن الهيثم حدثنا جعفر بن محمد الصائغ حدثنا حسين بن محمد حدثنا سفيان عن قتادة عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه " .

    وجاء في الحديث : " إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك " . ( عميا وبكما وصما ) [ ص: 132 ]

    فإن قيل : كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال : " ورأى المجرمون النار " ( الكهف - 53 ) وقال : " دعوا هنالك ثبورا " ( الفرقان - 13 ) وقال : " سمعوا لها تغيظا وزفيرا " ( الفرقان - 12 ) أثبت الرؤية والكلام والسمع؟

    قيل : يحشرون على ما وصفهم الله ثم تعاد إليهم هذه الأشياء .

    وجواب آخر قال ابن عباس : عميا لا يرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون شيئا يسرهم .

    وقال الحسن : هذا حين يساقون إلى الموقف إلى أن يدخلوا النار .

    وقال مقاتل : هذا حين يقال لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " ( المؤمنون - 108 ) فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ( مأواهم جهنم كلما خبت ) قال ابن عباس : كلما سكنت . أي سكن لهيبها وقال مجاهد : طفئت وقال قتادة : ضعفت وقيل : هو الهدو من غير أن يوجد نقصان في ألم الكفار لأن الله تعالى قال : " لا يفتر عنهم " ( الزخرف - 75 ) وقيل " كلما خبت " أي : أرادت أن تخبو ( زدناهم سعيرا ) أي : وقودا .

    وقيل : المراد من قوله : ( كلما خبت ) أي : نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا فيها إلى ما كانوا عليه وزيد في تسعير النار لتحرقهم .
    ( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ( 98 ) أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا ( 99 ) )

    ( ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ) فأجابهم الله تعالى فقال : ( أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ( أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ) في عظمتها وشدتها ( قادر على أن يخلق مثلهم ) في صغرهم وضعفهم نظيره قوله تعالى : " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " ( غافر - 57 ) .

    ( وجعل لهم أجلا ) أي : وقتا لعذابهم ( لا ريب فيه ) أنه يأتيهم قيل : هو الموت وقيل : هو يوم القيامة ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) أي : جحودا وعنادا .
    [ ص: 133 ] ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ( 100 ) ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ( 101 ) )

    ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ) أي : نعمة ربي وقيل : رزق ربي ( إذا لأمسكتم ) لبخلتم وحبستم ( خشية الإنفاق ) أي : خشية الفاقة قاله قتادة .

    وقيل : خشية النفاد يقال : أنفق الرجل أي أملق وذهب ماله ونفق الشيء أي : ذهب .

    وقيل : لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفقر .

    ( وكان الإنسان قتورا ) أي : بخيلا ممسكا عن الإنفاق . قوله عز وجل : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) أي : دلالات واضحات فهي الآيات التسع .

    قال ابن عباس والضحاك : هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم .

    وقال عكرمة وقتادة ومجاهد وعطاء : هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص الثمرات .

    وذكر محمد بن كعب القرظي : الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات قال : فكان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صار حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجرا .

    وقال بعضهم : هن آيات الكتاب .

    أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسن بن محمد الثقفي أخبرنا هارون بن محمد بن هارون العطار أنبأنا يوسف بن عبد الله بن ماهان حدثنا الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن مسلمة عن صفوان بن عسال المرادي أن يهوديا قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر : لا تقل نبي فإنه لو سمع صارت أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) فقال لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا [ ص: 134 ] المحصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا : نشهد أنك نبي قال : فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قالا : إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود .

    ( فاسأل ) يا محمد ( بني إسرائيل إذ جاءهم ) موسى يجوز أن يكون الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم . ( فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ) أي : مطبوبا سحروك . قاله الكلبي .

    وقال ابن عباس : مخدوعا .

    وقيل مصروفا عن الحق .

    وقال الفراء وأبو عبيدة : ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل .

    وقال محمد بن جرير : معطى علم السحر فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك .
    ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ( 102 ) )

    ( قال ) موسى ( لقد علمت ) قرأ العامة بفتح التاء خطابا لفرعون وقرأ الكسائي بضم التاء ويروى ذلك عن علي وقال : لم يعلم الخبيث أن موسى على الحق ولو علم لآمن ولكن موسى هو الذي علم قال ابن عباس : علمه فرعون ولكنه عاند قال الله تعالى : " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " ( النمل - 14 ) .

    وهذه القراءة وهي نصب التاء أصح في المعنى وعليه أكثر القراء لأن موسى لا يحتج عليه بعلم نفسه ولا يثبت عن علي رفع التاء لأنه روي عن رجل من مراد عن علي وذلك أن الرجل مجهول ولم يتمسك بها أحد من القراء غير الكسائي . [ ص: 135 ]

    ( ما أنزل هؤلاء ) هذه الآيات التسع ( إلا رب السماوات والأرض بصائر ) جمع بصيرة أي يبصر بها .

    ( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) قال ابن عباس : ملعونا . وقال مجاهد : هالكا وقال قتادة : مهلكا . وقال الفراء : أي مصروفا ممنوعا عن الخير . يقال : ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما منعك وصرفك عنه .
    ( فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا ( 103 ) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ( 104 ) ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ( 105 ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( 106 ) )

    ( فأراد أن يستفزهم ) أي : أراد فرعون أن يستفز موسى وبني إسرائيل أي : يخرجهم ( من الأرض ) يعني أرض مصر ( فأغرقناه ومن معه جميعا ) ونجينا موسى وقومه . ( وقلنا من بعده ) أي من بعد هلاك فرعون ( لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ) يعني أرض مصر والشام ( فإذا جاء وعد الآخرة ) يعني يوم القيامة ( جئنا بكم لفيفا ) أي : جميعا إلى موقف القيامة واللفيف : الجمع الكثير إذا كانوا مختلطين من كل نوع . يقال : لفت الجيوش إذا اختلطوا وجمع القيامة كذلك فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر .

    وقال الكلبي : " فإذا جاء وعد الآخرة " : يعني مجيء عيسى من السماء " جئنا بكم لفيفا " أي : النزاع من كل قوم من هاهنا ومن هاهنا لفوا جميعا . قوله عز وجل : ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ) يعني القرآن ( وما أرسلناك إلا مبشرا ) للمطيعين ( ونذيرا ) للعاصين . ( وقرآنا فرقناه ) قيل : معناه : أنزلناه نجوما لم ينزل مرة واحدة بدليل قراءة ابن عباس : ( وقرآنا فرقناه ) بالتشديد . وقراءة العامة بالتخفيف أي : فصلناه وقيل : بيناه وقال الحسن : معناه فرقنا به بين الحق والباطل ( لتقرأه على الناس على مكث ) أي : على تؤدة وترتيل وترسل في [ ص: 136 ] ثلاث وعشرين سنة ( ونزلناه تنزيلا )
    ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ( 107 ) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ( 108 ) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ( 109 ) )

    ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ) هذا على طريق الوعيد والتهديد ( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب وهم الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمر بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم .

    ( إذا يتلى عليهم ) يعني القرآن ( يخرون للأذقان ) أي : يسقطون على الأذقان قال ابن عباس : أراد بها الوجوه ( سجدا ) ( ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) أي : كائنا واقعا . ( ويخرون للأذقان يبكون ) أي : يقعون على الوجوه يبكون ، البكاء مستحب عند قراءة القرآن ( ويزيدهم ) نزول القرآن ( خشوعا ) خضوعا لربهم . نظيره قوله تعالى : " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا " ( مريم - 58 ) .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو عمرو بن بكر بن محمد المزني حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد حدثنا الحسن بن الفضل البجلي أخبرنا عاصم عن علي بن عاصم حدثنا المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود [ ص: 137 ] اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا " .

    أخبرنا أبو القاسم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن أخبرنا أحمد بن بكر بن محمد بن حمدان حدثنا محمد بن يونس الكديمي أنبأنا عبد الله بن محمد الباهلي حدثنا أبو حبيب الغنوي حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرمت النار على ثلاث أعين : عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله " .
    ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( 110 ) )

    قوله عز وجل ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) قال ابن عباس : سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يبكي ويقول في سجوده : يا ألله يا رحمن . فقال أبو جهل : إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين! فأنزل الله تعالى هذه الآية . ومعناه : أنهما اسمان لواحد .

    ( أيا ما تدعوا ) " ما " صلة معناه : أيا ما تدعوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه ( فله الأسماء الحسنى )

    ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أخبرنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم : [ ص: 138 ] ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) .

    وبهذا الإسناد عن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا مسدد عن هشيم عن أبي بشر بإسناده مثله وزاد ( وابتغ بين ذلك سبيلا ) أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن .

    وقال قوم : الآية في الدعاء وهو قول عائشة رضي الله عنها والنخعي ومجاهد ومكحول : أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا طلق بن غنام حدثنا زائدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها في قوله : " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قالت : أنزل ذلك في الدعاء .

    وقال عبد الله بن شداد : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : " اللهم ارزقنا مالا وولدا فيجهرون بذلك فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تجهر بصلاتك ) أي : لا ترفع صوتك بقراءتك أو بدعائك ولا تخافت بها .

    والمخافتة : خفض الصوت والسكوت " وابتغ بين ذلك سبيلا " أي : بين الجهر والإخفاء .

    أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الخزاعي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الله بن أبي رباح الأنصاري عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : " مررت بك وأنت تقرأ وأنت تخفض من صوتك فقال : إني أسمعت من ناجيت فقال : ارفع قليلا وقال لعمر : مررت بك وأنت تقرأ وأنت ترفع صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال : اخفض قليلا " .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (268)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية1 إلى الاية 10

    [ ص: 139 ] ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ( 111 ) )

    ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته ومعنى الحمد لله هو : الثناء عليه بما هو أهله .

    قال الحسين بن الفضل : يعني : الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا .

    ( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) قال مجاهد : لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به .

    ( وكبره تكبيرا ) أي : وعظمه عن أن يكون له شريك أو ولي .

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أخبرنا الإمام أبو الطيب سهل [ بن محمد بن سليمان حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا نضر بن حماد أبو الحارث الوراق حدثنا شعبة ] عن حبيب بن أبي ثابت قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء " .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو الحسن بن بشران أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي أنبأنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة أن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده " .

    أخبرنا أبو الفضل بن زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري [ ص: 140 ] أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا يحيى بن خالد بن أيوب المخزومي حدثنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشر الخزامي الأنصاري عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله " .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا علي بن الجعد حدثنا زهير حدثنا منصور عن هلال بن بشار عن الربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحب الكلام إلى الله تعالى أربع : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت "
    سُورَةُ الْكَهْفِ

    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


    ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ( 1 ) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( 2 ) )

    ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) أَثْنَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَخَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ كَانَ نِعْمَةً عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) ( قَيِّمًا ) فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ : أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا " قَيِّمًا " أَيْ : مُسْتَقِيمًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : عَدْلًا . وَقَالَ الْفَرَّاءُ : قَيِّمًا عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا أَيْ : مُصَدِّقًا لَهَا نَاسِخًا لِشَرَائِعِهَا .

    وَقَالَ قَتَادَةُ : لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَلْ مَعْنَاهُ : أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَلَكِنْ جَعَلَهُ قَيِّمًا وَلَمْ يَكُنْ مُخْتَلِفًا عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا " ( النِّسَاءُ - 82 ) .

    وَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : " قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ " ( الزُّمُرُ - 28 ) أَيْ : غَيْرَ مَخْلُوقٍ .

    ( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) أَيْ : لِيُنْذِرَ بِبَأْسٍ شَدِيدٍ ( مِنْ لَدُنْهُ ) أَيْ : مِنْ عِنْدِهِ ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) أَيِ : الْجَنَّةَ .
    [ ص: 144 ] ( ماكثين فيه أبدا ( 3 ) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ( ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( 6 ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( 7 ) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ( 8 ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ( 9 ) )

    ( ماكثين فيه أبدا ) أي : مقيمين فيه . ( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ) . ( ما لهم به من علم ولا لآبائهم ) أي : قالوه عن جهل لا عن علم ( كبرت ) أي : عظمت ( كلمة ) نصب على التمييز يقال تقديره : كبرت الكلمة كلمة وقيل : من كلمة فحذف " من " فانتصب ( تخرج من أفواههم ) أي : تظهر من أفواههم ( إن يقولون ) ما يقولون ( إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم ) من بعدهم ( إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ) أي : القرآن ( أسفا ) أي حزنا وقيل غضبا . ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) فإن قيل : أي زينة في الحيات والعقارب والشياطين؟

    قيل : فيها زينة على معنى أنها تدل على وحدانية الله تعالى .

    وقال مجاهد : أراد به الرجال خاصة وهم زينة الأرض . وقيل : أراد بهم العلماء والصلحاء وقيل : الزينة بالنبات والأشجار والأنهار كما قال : " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت " ( يونس - 24 ) .

    ( لنبلوهم ) لنختبرهم ( أيهم أحسن عملا ) أي : أصلح عملا . وقيل : أيهم أترك للدنيا . ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) فالصعيد وجه الأرض . وقيل : هو التراب " جرزا " يابسا أملس لا ينبت شيئا . يقال : جرزت الأرض إذا أكل نباتها . قوله تعالى : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يعني : أظننت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي : هم عجب من آياتنا .

    وقيل : معناه إنهم ليسوا بأعجب من آياتنا فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم . [ ص: 145 ]

    و " الكهف " : هو الغار في الجبل واختلفوا في " الرقيم " : قال سعيد بن جبير : هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصصهم - وهذا أظهر الأقاويل - ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل : من حجارة فعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم أي : المكتوب والرقم : الكتابة .

    وحكي عن ابن عباس أنه اسم للوادي الذي فيه أصحاب الكهف وعلى هذا هو من رقمة الوادي وهو جانبه .

    وقال كعب الأحبار : هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف .

    وقيل : اسم للجبل الذي فيه الكهف .
    ( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ( 10 ) )

    ثم ذكر الله قصة أصحاب الكهف فقال : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي صاروا إليه واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف [ ص: 146 ]

    فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له " دقيانوس " عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم ولا يترك في قرية نزلها أحدا إلا فتنه حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت أو قتله حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي " أفسوس " فلما نزلها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه وكان " دقيانوس " حين قدمها أمر أن يتبع أهل الإيمان فيجمعوا له واتخذ شرطا من الكفار من أهلها يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم فيخرجونهم إلى " دقيانوس " فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء وكانوا من أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا إن عبدنا غيره ، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك . فبينما هم على مثل ذلك وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى " دقيانوس " فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك ، وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزئون بك ويعصون أمرك! فلما سمع بذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم أسوة للسادات من أهل مدينتكم؟ اختاروا : إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا وهو أكبرهم : إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمة لن ندعو من دونه إلها أبدا له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبدا فاصنع بنا ما بدا لك . وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال [ ص: 147 ] مكسلمينا فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوسا كان عليهم من لبوس عظمائهم ثم قال : سأفرغ لكم فأنجز لكم ما أوعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبانا حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكرون فيه وتراجعون عقولكم ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده .

    وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريبا منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم [ وأن يعذبهم ] فائتمروا بينهم أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بخلوس فيمكثون فيه ويعبدون الله حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقة فتصدق منها ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه .

    قال كعب الأحبار : مروا بكلب فتبعهم فطردوه ففعل ذلك مرارا فقال لهم الكلب : يا قوم ما تريدون مني؟ لا تخشون جانبي أنا أحب أحباب الله فناموا حتى أحرسكم .

    وقال ابن عباس : هربوا ليلا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد .

    قال ابن إسحاق : فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له : تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا وكان من أحملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم يأخذ ورقه فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله ويتضرعون إليه ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم : يا إخوتاه ارفعوا رءوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رءوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا وذلك غروب الشمس ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم النوم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رءوسهم . [ ص: 148 ]

    فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعضهم : لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد كانوا ظنوا أن بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي فقال عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة قد كنت أجلت لهم أجلا ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني [ ووعدهم بالقتل ] فقالوا له : أما نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا فأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا وارتقوا إلى جبل يدعى بخلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيهم ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال .

    ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما " يندروس " واسم الآخر " روناس " ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب [ خبرهم ] ففعلا وبنيا عليه فبقي " دقيانوس " ما بقي ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك .

    وقال عبيد بن عمير كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه فقالوا في أنفسهم نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج الآخر فاجتمعوا في مكان فقال بعضهم لبعض : ما جمعكم؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافة على نفسه ثم قالوا : ليخرج كل فتى فيخلو [ ص: 149 ] بصاحبه ثم يفشي واحد سره إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعا على الإيمان وإذا كهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض : فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وفقدهم قومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح : فلان وفلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان ابن فلان ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك وجاء قرن بعد قرن .

    وقال وهب بن منبه : جاء حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها فأتى حماما قريبا من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا وصدقوه وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعيره الحواري وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا وذهب فرجع مرة أخرى فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى ذلك حتى دخلا معا فماتا في الحمام وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب فقال : من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه وقالوا : [ نلبث هاهنا إلى الليل ] ثم نصبح إن شاء الله تعالى فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم فدخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم دخوله أرعب فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل منهم : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف [ واتركهم فيه يموتون جوعا وعطشا ففعل .

    قال وهب : فعبر زمان بعد زمان ] بعدما سد عليهم باب الكهف ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه من المطر لكان حسنا فلم يزل يعالجه حتى فتح ورد الله عليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا . [ ص: 150 ]

    وقال محمد بن إسحاق : ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له : " بيدروس " فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وستين سنة فتحزب الناس في ملكه فكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فجعل " بيدروس " يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنهم أئمة في الخلق فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا أن يحولوا الناس عن الحق وملة الحواريين فلما رأى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا فجلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله تعالى ويبكي ويقول : أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث إليهم آية تبين لهم [ بطلان ما هم عليه ] ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ويستجيب لعبده الصالح بيدروس ويتم نعمته عليه وأن يجمع من كان تبدد من المؤمنين فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي فيه الكهف وكان اسم ذلك الرجل " أوليانوس " أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن الناس بالرعب فلما فتحا باب الكهف أذن الله ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض فكأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا ألوانهم شيء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون أن دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا ليمليخا صاحب نفقاتهم : أنبئنا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبار؟ وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد خيل إليهم أنهم قد ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم يمليخا : التمستم في المدينة فلم توجدوا وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله .

    ثم قالوا ليمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال علينا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرن بك أحدا وابتع لنا طعاما [ ص: 151 ] فائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئنا به فقد أصبحنا جياعا ففعل يمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي يتنكر فيها وأخذ ورقا [ من نفقتهم التي كانت معهم والتي ضربت بطابع دقيانوس فكانت كخفاف الربع فانطلق يمليخا خارجا ] فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مر ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا فصد عن الطريق تخوفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة فلما أتى يمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان الإيمان ظاهرا فيها فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا وجعل ينظر يمينا وشمالا ثم ترك ذلك الباب فتحول إلى باب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول : يا ليت شعري ما هذا؟ أما عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي نائم؟ ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم فزاده فرقا ورأى أنه حيران فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة يقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا أما عشية أمس فليس على ظهر الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل وأما الغداة فأسمعهم وكل إنسان يذكر اسم عيسى ولا يخاف أحدا ثم قال في نفسه : لعل هذه ليست بالمدينة التي أعرف والله ما أعرف مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له : ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال اسمها " أفسوس " فقال في نفسه : لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شر فأهلك ثم إنه أفاق فقال : والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أيسر بي .

    فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم فقال : بعني بهذه الورق طعاما فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منه ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل يتعجبون منها ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض : إن هذا أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم يمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم قد فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس وجعل [ ص: 152 ] أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه [ فلا يعرفونه ] فقال لهم وهو شديد الفرق منهم : افضلوا علي قد أخذتم ورقي فأمسكوها وأما طعامكم فلا حاجة لي به فقالوا له : من أنت يا فتى وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه عنا فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك إلى السلطان فنسلمك إليه فيقتلك فلما سمع قولهم قال في نفسه قد وقعت في كل شيء كنت أحذر منه فقالوا : يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم وفرق حتى ما [ وجد ما ] يخبر إليهم شيئا فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة [ صغيرهم وكبيرهم ] حتى سمع به من فيها [ فسألوه : ما الخبر؟ ] فقيل : هذا رجل عنده كنز فاجتمع إليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه فيها قط وما نعرفه قط فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق فسكت فلم يتكلم وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة وأن حسبه ونسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما " أريوس " واسم الآخر " طنطيوس " فلما انطلق به إليهما ظن يمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل يمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء فقال في نفسه اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم علي صبرا وأولج معي روحا منك تؤيدني به عند هذا الجبار وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو أنهم يعلمون فيأتوني فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار فإنا كنا تواثقنا لنكونن معا ولا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ، فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا وكنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا يحدث به نفسه يمليخا فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم حتى انتهى إلى الرجلين الصالحين " أريوس " و " طنطيوس " .

    فلما رأى يمليخا أنه لا يذهب به إلى دقيانوس [ ص: 153 ] أفاق وذهب عنه البكاء فأخذ أريوس [ وطنطيوس ] الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال له أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال يمليخا : ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما : فمن أنت؟ فقال يمليخا : أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة ، فقالوا : ومن أبوك ومن يعرفك فيها فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه فقال له أحدهما : أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحق ، فلم يدر يمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس رأسه [ وأطرق بصره ] إلى الأرض فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون ، وقال بعضهم : ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذا الورق وضربها أكثر من ثلاثمائة سنة وإنما أنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذابا شديدا ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته .

    فلما قال ذلك قال لهم يمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، قالوا : سل لا نكتمك شيئا قال لهم : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالوا : لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملك هلك منذ زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة فقال يمليخا : إني إذا لحيران وما يصدقني أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية [ على دين واحد وهو الإسلام ] وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري لهم طعاما وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا قال : يا قوم لعل هذه آية من آيات الله جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه .

    فانطلق معه أريوس وأسطيوس وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذ سمعوا الأصوات وجلب الخيل مصعدة نحوهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضا قالوا انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار ينتظر متى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك [ ص: 154 ] وهم جلوس بين ظهري الكهف لم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف .

    وسبقهم يمليخا فدخل عليهم وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم وقص عليهم النبأ كله فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله بأمر الله وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها .

    ثم دخل على أثر يمليخا أريوس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجلا من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيهما : أن مكسلمينا ومخشلمينا ويمليخا ومرطونس وكشطونس ويبرونس وديموس وبطيوس وحالوش كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرأوه وعجبوا حمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية إلى الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيهم مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخر أريوس وأصحابه سجودا وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس [ من إكراههم على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت وإخفاء إيمانهم عنه وهربهم إلى الكهف ] ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح بيدروس أن عجل إلينا لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله في ملكك وجعلها آية للعالمين لتكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث فاعجل إلى فتية بعثهم الله عز وجل وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة فلما أتى الملك الخبر رجع إليه عقله وذهب همه فقال : أحمدك الله رب السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي للعبد الصالح أسطنطينوس الملك .

    فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف فلما رأى الفتية بيدروس فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم وقام بيدروس فاعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه ثم قال الفتية لبيدروس : نستودعك الله [ إيمانك وخواتيم أعمالك ] والسلام عليك ورحمة الله حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجن فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله تعالى أنفسهم وقام الملك إليهم فجعل ثيابهم عليهم وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام فقالوا له : [ ص: 155 ] إننا لم نخلق من ذهب ولا من فضة ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم فأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما وأمر أن يؤتى كل سنة .

    وقيل : إن يمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك : من أنت قال : أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية فقدوا في الزمن الأول وأن أسماءهم مكتوبة على اللوح بالخزانة فدعا باللوح وقد نظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم وذكر أسماء الآخرين فقال يمليخا هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال يمليخا : دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم أثرهم فلم يهتدوا إليهم وذلك قوله عز وجل :

    ( إذ أوى الفتية إلى الكهف ) أي : صاروا إلى الكهف ، يقال : أوى فلان إلى موضع كذا أي : اتخذه منزلا إلى الكهف وهو غار في جبل بنجلوس واسم الكهف : " خيرم " .

    ( فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ) ومعنى الرحمة : الهداية في الدين . وقيل : الرزق ( وهيئ لنا ) يسر لنا ( من أمرنا رشدا ) أي : ما يلتمس من رضاك وما فيه رشدنا وقال ابن عباس : رشدا أي مخرجا من الغار في سلامة .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (269)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية11 إلى الاية 22


    ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( 11 ) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ( 12 ) )

    ( ( فضربنا على آذانهم ) أي : أنمناهم وألقينا عليهم النوم . وقيل : معناه منعنا نفوذ الأصوات إلى مسامعهم فإن النائم إذا سمع الصوت ينتبه ( في الكهف سنين عددا ) أي : أنمناهم سنين معدودة وذكر العدد على سبيل التأكيد وقيل : ذكره يدل على الكثرة فإن القليل لا يعد في العادة . ( ثم بعثناهم ) يعني من نومهم ( لنعلم ) أي : علم المشاهدة ( أي الحزبين ) أي الطائفتين ( أحصى لما لبثوا أمدا ) وذلك أن أهل القرية تنازعوا في مدة لبثهم في الكهف . واختلفوا في قوله : " أحصى لما لبثوا " أحفظ لما مكثوا في كهفهم نياما أمدا أي : غاية وقال مجاهد : عددا ونصبه على التفسير .
    [ ص: 156 ] ( نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ( 13 ) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ( 14 ) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ( 15 ) ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ( 16 ) )

    ( نحن نقص عليك ) [ نقرأ عليك ] ( نبأهم ) خبر أصحاب الكهف ( بالحق ) بالصدق ( إنهم فتية ) شبان ( آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) إيمانا وبصيرة . ( وربطنا ) شددنا ( على قلوبهم ) بالصبر والتثبيت وقويناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من العز وخصب العيش وفروا بدينهم إلى الكهف ( إذ قاموا ) بين يدي دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم ( فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) قالوا ذلك لأن قومهم كانوا يعبدون الأوثان ( لقد قلنا إذا شططا ) يعني : إن دعونا غير الله لقد قلنا إذا شططا ، قال ابن عباس : جورا . وقال قتادة : كذبا . وأصل الشطط والإشطاط مجاوزة القدر والإفراط . ( هؤلاء قومنا ) يعني : أهل بلدهم ( اتخذوا من دونه ) أي من دون الله ( آلهة ) يعني : الأصنام يعبدونها ( لولا ) أي : هلا ( يأتون عليهم ) أي : على عبادتهم ( بسلطان بين ) بحجة واضحة تبين وتوضح أن الأصنام لا تستحق العبادة من دون الله ] ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) وزعم أن له شريكا وولدا . ثم قال بعضهم لبعض : ( وإذ اعتزلتموهم ) يعني قومهم ( وما يعبدون إلا الله ) قرأ ابن مسعود " وما يعبدون من دون الله " وأما القراءة المعروفة فمعناها أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون [ ص: 157 ] معه الأوثان يقولون : وإذ : اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته ( فأووا إلى الكهف ) فالجأوا إليه ( ينشر لكم ) يبسط لكم ( ربكم من رحمته ويهيئ لكم ) يسهل لكم ( من أمركم مرفقا ) أي : ما يعود إليه يسركم ورفقكم قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر " مرفقا " بفتح الميم وكسر الفاء وقرأ الآخرون بكسر الميم وفتح الفاء ومعناهما واحد ، وهو ما يرتفق به الإنسان .
    ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ( 17 ) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ( 18 ) )

    قوله تعالى : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " تزور " بسكون الزاي وتشديد الراء على وزن تحمر وقرأ أهل الكوفة : بفتح الزاي خفيفة وألف بعدها وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وكلها بمعنى واحد أي : تميل وتعدل ( عن كهفهم ذات اليمين ) أي : جانب اليمين ( وإذا غربت تقرضهم ) أي : تتركهم وتعدل عنهم ( ذات الشمال ) أصل القرض القطع ( وهم في فجوة منه ) أي : متسع من الكهف وجمعها فجوات قال ابن قتيبة : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تقع فيه الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ولا فيما بين ذلك قال : اختار الله لهم مضطجعا في مقناة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم وهم في متسع ينالهم برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمومه .

    وقال بعضهم : هذا القول خطأ ، وهو أن الكهف كان مستقبل بنات نعش فكانت الشمس لا تقع عليهم ولكن الله صرف الشمس عنهم بقدرته وحال بينها وبينهم ، ألا ترى أنه قال :

    ( ذلك من آيات الله ) من عجائب صنع الله ودلالات قدرته التي يعتبر بها ( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل ) أي : من يضلله الله ولم يرشده ( فلن تجد له وليا ) معينا ( مرشدا ) قوله تعالى : ( وتحسبهم أيقاظا ) أي : منتبهين جمع يقظ ويقظ ( وهم رقود ) نيام جمع [ ص: 158 ] راقد مثل قاعد وقعود وإنما اشتبه حالهم لأنهم كانوا مفتحي الأعين يتنفسون ولا يتكلمون .

    ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر . قال ابن عباس : كانوا يقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم . وقيل كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم . وقال أبو هريرة : كان لهم في كل سنة تقلبان .

    ( ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) أكثر أهل التفسير على أنه كان من جنس الكلاب .

    وروي عن ابن جريج : أنه كان أسدا وسمي الأسد كلبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " فافترسه أسد .

    والأول أصح .

    قال ابن عباس : كان كلبا أغر . ويروى عنه : فوق القلطي ودون الكردي [ والقلطي : كلب صيني ] .

    وقال مقاتل : كان أصفر . وقال القرظي : كان شدة صفرته تضرب إلى الحمرة . وقال الكلبي : لونه كالخلنج وقيل : لون الحجر .

    قال ابن عباس : كان اسمه قطمير وعن علي : اسمه ريان . وقال الأوزاعي : بتور . وقال السدي : تور وقال كعب : صهيلة .

    قال خالد بن معدان : ليس في الجنة شيء من الدواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعام .

    قوله ( بالوصيد ) قال مجاهد والضحاك : " والوصيد " : فناء الكهف وقال عطاء : " الوصيد " عتبة الباب . وقال السدي : " الوصيد " الباب وهو رواية عكرمة عن ابن عباس .

    فإن قيل : لم يكن للكهف باب ولا عتبة؟

    قيل : معناه موضع الباب والعتبة كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهم .

    قال السدي : كان أصحاب الكهف إذا انقلبوا انقلب الكلب معهم وإذا انقلبوا إلى اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها وإذا انقلبوا إلى الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها . [ ص: 159 ]

    ( لو اطلعت عليهم ) يا محمد ( لوليت منهم فرارا ) لما ألبسهم الله من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم ( ولملئت منهم رعبا ) خوفا قرأ أهل الحجاز بتشديد اللام والآخرون بتخفيفها .

    واختلفوا في أن الرعب كان لماذا قيل من وحشة المكان .

    وقال الكلبي : لأن أعينهم كانت مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام .

    وقيل : لكثرة شعورهم وطول أظفارهم ولتقلبهم من غير حس ولا إشعار .

    وقيل : إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلا يراهم أحد .

    وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم . فقال ابن عباس رضي الله عنهم : لقد منع ذلك من هو خير منك ، فقال : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " فبعث معاوية ناسا فقال : اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم .
    ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا ( 19 ) )

    قوله تعالى : ( وكذلك بعثناهم ) أي : كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت ( ليتساءلوا بينهم ) ليسأل بعضهم بعضا واللام فيه لام العاقبة لأنهم لم يبعثوا للسؤال .

    ( قال قائل منهم ) وهو رئيسهم مكسلمينا ( كم لبثتم ) في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا طول نومهم ويقال : إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك .

    ( قالوا لبثنا يوما ) وذلك أنهم دخلوا الكهف غدوة فقالوا فانتبهوا [ حين انتبهوا ] عشية [ ص: 160 ] فقالوا : لبثنا يوما ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية فقالوا : ( أو بعض يوم ) فلما نظروا إلى طول شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم .

    ( قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) وقيل : إن رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف بينهم قال : دعوا الاختلاف ربكم أعلم بما لبثتم ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه ) يعني يمليخا .

    قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : بورقكم ساكنة الراء والباقون بكسرها ومعناهما واحد وهي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة .

    ( إلى المدينة ) قيل : هي طرسوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها في الإسلام طرسوس .

    ( فلينظر أيها أزكى طعاما ) أي : أحل طعاما حتى لا يكون من غصب أو سبب حرام وقيل : أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم وقال الضحاك : أطيب طعاما وقال مقاتل بن حيان : أجود طعاما وقال عكرمة : أكثر وأصل الزكاة الزيادة وقيل : أرخص طعاما .

    ( فليأتكم برزق منه ) أي : قوت وطعام تأكلونه ( وليتلطف ) وليترفق في الطريق وفي المدينة وليكن في ستر وكتمان ( ولا يشعرن ) ولا يعلمن ( بكم أحدا ) من الناس .
    ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ( 20 ) ( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ( 21 ) )

    ( إنهم إن يظهروا عليكم ) أي : يعلموا بمكانكم ( يرجموكم ) قال ابن جريج : يشتمونكم ويؤذونكم بالقول وقيل : يقتلوكم وقيل : كان من عاداتهم القتل بالحجارة وهو أخبث القتل وقيل : يضربوكم ( أو يعيدوكم في ملتهم ) أي إلى الكفر ( ولن تفلحوا إذا أبدا ) إن عدتم إليه . قوله عز وجل : ( وكذلك أعثرنا ) أي : أطلعنا ( عليهم ) يقال : عثرت على الشيء : إذا اطلعت عليه وأعثرت غيري أي : أطلعته ( ليعلموا أن وعد الله حق ) يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث ( وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) قال ابن عباس : [ ص: 161 ] يتنازعون في البنيان فقال المسلمون : نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون : نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل نسبنا .

    وقال عكرمة : تنازعوا في البعث ، فقال المسلمون : البعث للأجساد والأرواح معا ، وقال قوم : للأرواح دون الأجساد فبعثهم الله تعالى وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح .

    وقيل : تنازعوا في مدة لبثهم . وقيل : في عددهم .

    ( ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم ) بيدروس الملك وأصحابه ( لنتخذن عليهم مسجدا )
    ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ( 22 ) )

    ( ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد - وكان يعقوبيا - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال العاقب - وكان نسطوريا - : كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون : كانوا سبعة ثامنهم كلبهم فحقق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى فقال : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ) أي : ظنا وحدسا من غير يقين ولم يقل هذا في حق السبعة فقال : ( ويقولون ) يعني : المسلمين ( سبعة وثامنهم كلبهم )

    اختلفوا في الواو في قوله : ( وثامنهم ) قيل : تركها وذكرها سواء .

    وقيل : هي واو الحكم والتحقيق كأنه حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله ويقولون سبعة ثم حقق هذا القول بقوله ( وثامنهم كلبهم ) والثامن لا يكون إلا بعد السابع .

    وقيل : هذه واو الثمانية وذلك أن العرب تعد فتقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة نظيره قوله تعالى " التائبون العابدون الحامدون " [ ص: 162 ] إلى قوله : " والناهون عن المنكر " ( التوبة - 112 ) وقال في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا " ( التحريم - 5 ) .

    ( قل ربي أعلم بعدتهم ) أي : بعددهم ( ما يعلمهم إلا قليل ) أي : إلا قليل من الناس . قال ابن عباس : أنا من القليل كانوا سبعة .

    وقال محمد بن إسحاق : كانوا ثمانية قرأ : ( وثامنهم كلبهم ) أي : حافظهم والصحيح هو الأول .

    وروي عن ابن عباس أنه قال : هم مكسلمينا ويمليخا ومرطونس وبينونس وسارينونس وذو نوانس وكشفيططنونس وهو الراعي والكلب قطمير .

    ( فلا تمار فيهم ) أي : لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم ( إلا مراء ظاهرا ) إلا بظاهر ما قصصنا عليك يقول : حسبك ما قصصت عليك فلا تزد عليه وقف عنده ( ولا تستفت فيهم منهم ) من أهل الكتاب ( أحدا ) أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (270)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية23 إلى الاية 32

    ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( 23 ) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ( 24 ) )

    ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) يعني : إذا عزمت على أن تفعل غدا شيئا فلا تقل : أفعل غدا حتى تقول إن شاء الله وذلك أن أهل مكة سألوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال : أخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية . ( واذكر ربك إذا نسيت ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن .

    وجوز ابن عباس الاستثناء المنقطع وإن كان إلى سنة وجوزه الحسن ما دام في المجلس وجوزه بعضهم إذا قرب الزمان فإن بعد فلا يصح . ولم [ يجوز باستثناء ] جماعة حتى يكون متصلا بالكلام

    [ ص: 163 ] وقال عكرمة : معنى الآية : واذكر ربك إذا غضبت .

    وقال وهب : مكتوب في الإنجيل : ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب .

    وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا الحسن بن أحمد المخلدي حدثنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " . [ ص: 164 ]

    ( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) أي : يثبتني على طريق هو أقرب إليه وأرشد .

    وقيل : أمر الله نبيه أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يهديه لما هو خير له من ذكر ما نسيه .

    ويقال : هو أن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله عز وجل أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل لهم من قصة أصحاب الكهف وقد فعل حيث أتاه من علم الغيب المرسلين ما كان أوضح لهم في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف .

    وقال بعضهم : هذا شيء أمر أن يقوله مع قوله " إن شاء الله " إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان وإذا نسي الإنسان " إن شاء الله " فتوبته من ذلك أن يقول : " عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " .
    ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( 25 ) )

    قوله عز وجل ( ولبثوا في كهفهم ) يعني أصحاب الكهف . قال بعضهم : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك . ولو كان خبرا من الله عز وجل عن قدر لبثهم لم يكن لقوله " قل الله أعلم بما لبثوا " وجه وهذا قول قتادة . ويدل عليه قراءة ابن مسعود : " وقالوا لبثوا في كهفهم " ثم رد الله تعالى عليهم فقال : " قل الله أعلم بما لبثوا " .

    وقال الآخرون : هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف وهو الأصح .

    [ وأما قوله : " قل الله أعلم بما لبثوا " فمعناه : أن الأمر من مدة لبثهم ] كما ذكرنا فإن نازعوك فيها فأجبهم وقل : الله أعلم بما لبثوا أي : هو أعلم منكم وقد أخبرنا بمدة لبثهم . [ ص: 165 ]

    وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إن هذه المدة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين فرد الله عليهم وقال : " قل الله أعلم بما لبثوا " يعني : بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله

    قوله تعالى : ( ثلاث مائة سنين ) قرأ حمزة والكسائي " ثلاث مائة " بلا تنوين وقرأ الآخرون بالتنوين .

    فإن قيل : لم قال : ثلاث مائة سنين [ ولم يقل سنة؟ ] .

    قيل : نزل قوله : " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة " فقالوا : أياما أو شهورا أو سنين؟ فنزلت " سنين " .

    قال الفراء : ومن العرب من يضع سنين في موضع سنة .

    وقيل : معناه ولبثوا في كهفهم سنين ثلاث مائة .

    ( وازدادوا تسعا ) قال الكلبي قالت نصارى نجران أما " ثلاث مائة " فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت .
    ( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ( 26 ) )

    ( قل الله أعلم بما لبثوا ) روي عن علي أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاث مائة شمسية والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في " ثلاث مائة " تسع سنين فلذلك قال : " وازدادوا تسعا " .

    ( له غيب السماوات والأرض ) فالغيب ما يغيب عن إدراك والله عز وجل لا يغيب عن إدراكه شيء .

    ( أبصر به وأسمع ) أي : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه لكل مسموع . أي : لا يغيب عن سمعه وبصره شيء .

    ( ما لهم ) أي : ما لأهل السموات والأرض ( من دونه ) أي من دون الله ( من ولي ) ناصر ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " ولا تشرك " بالتاء على المخاطبة والنهي وقرأ الآخرون بالياء أي : لا يشرك الله في حكمه أحدا . وقيل : " الحكم " هنا علم الغيب أي : لا يشرك في علم غيبه أحدا .
    [ ص: 166 ] ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ( 27 ) ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( 28 ) )

    قوله عز وجل : ( واتل ) واقرأ يا محمد ( ما أوحي إليك من كتاب ربك ) يعني القرآن واتبع ما فيه ( لا مبدل لكلماته ) قال الكلبي : لا مغير للقرآن . وقيل : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه . ( ولن تجد ) أنت ( من دونه ) إن لم تتبع القرآن ( ملتحدا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : حرزا . وقال الحسن : مدخلا . وقال مجاهد : ملجأ . وقيل : معدلا . وقيل : مهربا . وأصله من الميل . قوله عز وجل : ( واصبر نفسك ) الآية . نزلت في عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم : أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك ) أي احبس يا محمد نفسك ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) طرفي النهار ( يريدون وجهه ) أي : يريدون الله لا يريدون به عرضا من الدنيا .

    قال قتادة : نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع يصلون صلاة وينتظرون أخرى فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " .

    ( ولا تعد ) أي : لا تصرف ولا تتجاوز ( عيناك عنهم ) إلى غيرهم ( تريد زينة الحياة الدنيا ) أي : طلب مجالسة الأغنياء والأشراف وصحبة أهل الدنيا .

    ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) أي : جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا يعني : عيينة بن [ ص: 167 ] حصن . وقيل : أمية بن خلف ( واتبع هواه ) أي مراده في طلب الشهوات ( وكان أمره فرطا ) قال قتادة ومجاهد : ضياعا وقيل : معناه ضيع أمره وعطل أيامه وقيل : ندما . وقال مقاتل بن حيان : سرفا . وقال الفراء : متروكا . وقيل باطلا . وقيل : مخالفا للحق . وقال الأخفش : مجاوزا للحد . قيل : معنى التجاوز في الحد هو قول عيينة : إن أسلمنا أسلم الناس وهذا إفراط عظيم .
    ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ( 29 ) )

    ( وقل الحق من ربكم ) أي ما ذكر من الإيمان والقرآن معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس [ قد جاءكم من ربكم الحق ] وإليه التوفيق والخذلان وبيده الهدى والضلال ليس إلي من ذلك شيء .

    ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : " اعملوا ما شئتم " ( فصلت - 40 ) .

    وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ولست بطارد المؤمنين لهواكم فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم نارا أحاط بكم سرادقها وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته .

    وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " ( الإنسان - 30 ) .

    ( إنا أعتدنا ) أعددنا وهيأنا من الإعداد وهو العدة ( للظالمين ) للكافرين ( نارا أحاط بهم سرادقها ) " السرادق " : الحجرة التي تطيف بالفساطيط . [ ص: 168 ]

    أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنبأنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " .

    قال ابن عباس : هو حائط من نار .

    وقال الكلبي : هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة .

    وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى : " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " ( المرسلات - 30 ) .

    ( وإن يستغيثوا ) من شدة العطش ( يغاثوا بماء كالمهل )

    أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمود أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثنا عمرو بن الحارث عن دراج بن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ( بماء كالمهل ) قال كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " .

    وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت .

    وقال مجاهد : هو القيح والدم .

    وسئل ابن مسعود عن : " المهل " فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل .

    ( يشوي الوجوه ) ينضج الوجوه من حره .

    ( بئس الشراب وساءت ) النار ( مرتفقا ) قال ابن عباس : منزلا وقال مجاهد : مجتمعا وقال عطاء : مقرا . وقال القتيبي : مجلسا . وأصل " المرتفق " : المتكأ .
    [ ص: 169 ] ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( 30 ) أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ( 31 ) واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ( 32 ) )

    قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) فإن قيل : أين جواب قوله : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ؟

    قيل : جوابه قوله : ( أولئك لهم جنات عدن تجري ) وأما قوله : ( إنا لا نضيع ) فكلام معترض .

    وقيل : فيه إضمار ، معناه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجرهم بل نجازيهم ثم ذكر الجزاء فقال . ( أولئك لهم جنات عدن ) أي إقامة . يقال : عدن فلان بالمكان إذا أقام به سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها ( تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ) قال سعيد بن جبير : يحلى كل واحد منهم ثلاث أساور : واحد من ذهب وواحد من فضة وواحد من لؤلؤ ويواقيت ( ويلبسون ثيابا خضرا من سندس ) وهو ما رق من الديباج ( وإستبرق ) وهو ما غلظ منه ومعنى الغلظ في ثياب الجنة : إحكامه وعن أبي عمران الجوني قال : السندس هو الديباج المنسوج بالذهب ( متكئين فيها ) في الجنان ( على الأرائك ) وهي السرر في الحجال واحدتها أريكة ( نعم الثواب ) أي نعم الجزاء ( وحسنت ) الجنان ( مرتفقا ) أي مجلسا ومقرا . ( واضرب لهم مثلا رجلين ) الآية قيل : نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل [ وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 170 ] والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل ] .

    وقيل : هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس وقال مقاتل : يمليخا والآخر كافر واسمه قطروس وقال وهب : قطفير وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة " والصافات " وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل : كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار فإني أشتري منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بذلك ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا المؤمن : اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى صاحبه خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا : اللهم إني أشتري منك متاعا وخدما في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال : فلان؟ قال : نعم فقال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتصيبني بخير فقال : ما فعل مالك وقد اقتسمنا مالا واحدا وأخذت شطره؟ فقص عليه قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا ؟ اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده فقضي لهما أن توفيا فنزل فيهما : " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين " ( الصافات - 50 ، 51 ) .

    وروي أنه لما أتاه أخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما .

    ( واضرب لهم مثلا رجلين ) اذكر لهم خبر رجلين ( جعلنا لأحدهما جنتين ) بستانين ( من أعناب وحففناهما بنخل ) أي : أطفناهما من جوانبهما بنخل والحفاف : الجانب وجمعه أحفة ، يقال : حف به القوم أي : طافوا بجوانبه ( وجعلنا بينهما زرعا ) أي : جعلنا حول الأعناب النخيل ووسط الأعناب الزرع . [ ص: 171 ]

    وقيل : " بينهما " أي بين الجنتين زرعا يعني : لم يكن بين الجنتين موضع خراب .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (271)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية33 إلى الاية 51



    ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ( 37 ) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ( 38 ) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ( 39 ) فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ( 40 ) )

    ( قال له صاحبه ) المسلم ( وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ) أي خلق أصلك من تراب ( ثم ) خلقك ( من نطفة ثم سواك رجلا ) أي : عدلك بشرا سويا ذكرا . ( لكنا هو الله ربي ) قرأ ابن عامر ويعقوب : " لكنا " بالألف في الوصل وقرأ الباقون بلا ألف واتفقوا على إثبات الألف في الوقف وأصله : " لكن أنا " فحذفت الهمزة طلبا للتخفيف لكثرة استعمالها ثم أدغمت إحدى النونين في الأخرى قال الكسائي فيه تقديم وتأخير مجازه : لكن الله هو ربي ( ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك ) أي : هلا إذ دخلت جنتك ( قلت ما شاء الله ) أي الأمر ما شاء الله . وقيل : جوابه مضمر أي : ما شاء الله كان ، وقوله : ( لا قوة إلا بالله ) أي : لا أقدر على حفظ مالي أو دفع شيء عنه إلا [ بإذن الله ] .

    وروي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء الله لا قوة إلا بالله .

    ثم قال : ( إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ) و " أنا " عماد ولذلك نصب " أقل " معناه : إن ترني أقل منك مالا وولدا فتكبرت وتعظمت علي . ( فعسى ربي ) فلعل ربي ( أن يؤتين ) يعطيني في الآخرة ( خيرا من جنتك ويرسل عليها ) [ ص: 173 ] أي : على جنتك ( حسبانا ) قال قتادة : عذابا وقال ابن عباس رضي الله عنه : نارا . وقال القتيبي : مرامي ( من السماء ) وهي مثل صاعقة أو شيء يهلكها واحدتها : " حسبانة " ( فتصبح صعيدا زلقا ) أي أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها وقيل : تزلق فيها الأقدام وقال مجاهد : رملا هائلا .

    ( أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ( 41 ) وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ( 42 ) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ( 43 ) هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ( 44 ) )

    ( أو يصبح ماؤها غورا ) أي : غائرا منقطعا ذاهبا لا تناله الأيدي ولا الدلاء و " الغور " : مصدر وضع موضع الاسم مثل : زور وعدل ( فلن تستطيع له طلبا ) يعني : إن طلبته لم تجده . ( وأحيط بثمره ) أي : أحاط العذاب بثمر جنته وذلك أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأهلكتها وغار ماؤها ( فأصبح ) صاحبها الكافر ( يقلب كفيه ) أي يصفق بيده على الأخرى ويقلب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا ( على ما أنفق فيها وهي خاوية ) أي ساقطة ( على عروشها ) سقوفها ( ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) قال الله تعالى ( ولم تكن له فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) يمنعونه من عذاب الله ( وما كان منتصرا ) ممتنعا منتقما أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه وقيل : لا يقدر على رد ما ذهب عنه . ( ( هنالك الولاية لله الحق ) يعني : في القيامة قرأ حمزة والكسائي " الولاية " بكسر الواو يعني السلطان وقرأ الآخرون بفتح الواو من الموالاة والنصر كقوله تعالى : " الله ولي الذين آمنوا " ( البقرة - 257 ) قال القتيبي : يريد أنهم يولونه يومئذ ويتبرءون مما كانوا يعبدون .

    وقيل : بالفتح : الربوبية وبالكسر : الإمارة .

    ( الحق ) برفع القاف : أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية وتصديقه قراءة أبي : ( هنالك الولاية لله الحق ) وقرأ الآخرون بالجر على صفة الله كقوله تعالى : " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق " ( الأنعام - 62 ) . [ ص: 174 ]

    ( هو خير ثوابا ) أفضل جزاء لأهل طاعته لو كان غيره يثيب ( وخير عقبا ) أي : عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره فهو خير إثابة . و " عاقبة " : طاعة قرأ حمزة وعاصم " عقبا " ساكنة القاف وقرأ الآخرون بضمها .

    ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ( 45 ) ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( 46 ) )

    قوله تعالى : ( واضرب لهم ) يا محمد أي : لقومك ( مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ) يعني المطر ( فاختلط به نبات الأرض ) خرج منه كل لون وزهرة ( فأصبح ) عن قريب ( هشيما ) يابسا قال ابن عباس وقال الضحاك : كسيرا والهشيم : ما يبس وتفتت من النباتات فأصبح هشيما ( تذروه الرياح ) قال ابن عباس : تثيره الرياح وقال أبو عبيدة : تفرقه . وقال القتيبي : تنسفه ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) قادرا . ( المال والبنون ) التي يفتخر بها عتبة وأصحابه الأغنياء ( زينة الحياة الدنيا ) ليست من زاد الآخرة .

    قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة وقد يجمعها الله لأقوام .

    ( والباقيات الصالحات ) اختلفوا فيها فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : هي قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الكلام أربع كلمات : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " .

    أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنفي أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسن الحيري أخبرنا أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي أنبأنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا أبو معاوية عن [ ص: 175 ] الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار أنبأنا حميد بن زنجويه حدثنا عثمان عن أبي صالح حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل : وما هن يا رسول الله؟ [ قال : " الملة " قيل : وما هي يا رسول الله ] قال : " التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .

    وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم : " والباقيات الصالحات " هي : الصلوات الخمس . ويروى هذا عن ابن عباس .

    وعنه رواية أخرى : أنها الأعمال الصالحة وهو قول قتادة .

    قوله تعالى ( خير عند ربك ثوابا ) أي جزاء . المراد : ( وخير أملا ) أي ما يأمله الإنسان .

    ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ( 47 ) )

    قوله عز وجل : ( ويوم نسير الجبال ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : " تسير " بالتاء وفتح الياء ( الجبال ) رفع دليله : قوله تعالى : " وإذا الجبال سيرت " ( التكوير - 3 ) .

    وقرأ الآخرون بالنون وكسر الياء " الجبال " نصب وتسيير الجبال : نقلها من مكان إلى مكان .

    ( وترى الأرض بارزة ) أي : ظاهرة ليس عليها شجر ولا جبل ولا نبات كما قال : " فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " ( طه - 107 ) . [ ص: 176 ]

    قال عطاء : هو بروز ما في باطنها من الموتى وغيرهم فترى باطن الأرض ظاهرا .

    ( وحشرناهم ) جميعا إلى الموقف والحساب ( فلم نغادر منهم ) أي : نترك منهم ( أحدا )

    ( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ( 48 ) )

    ( وعرضوا على ربك صفا ) أي صفا صفا فوجا فوجا لا أنهم صف واحد وقيل : قياما ثم يقال لهم يعني الكفار ( ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) يعني أحياء وقيل : فرادى كما ذكر في سورة الأنعام وقيل : غرلا .

    ( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) يوم القيامة يقوله لمنكري البعث .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهب عن ابن طاوس عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا " .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان بن المغيرة بن النعمان حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا " ثم قرأ " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ( الأنبياء - 104 ) وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي فيقول : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح : " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم " إلى قوله : " العزيز الحكيم " ( المائدة 117 - 118 ) .

    أخبرنا أبو الحسن السرخسي [ أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي ] أخبرنا أبو القاسم جعفر [ ص: 177 ] بن محمد بن المغلس ببغداد حدثنا هارون بن إسحاق الهمذاني أنبأنا أبو خالد الأحمر عن حاتم بن أبي صغير عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة؟ قال : " عراة حفاة " قالت : قلت والنساء؟ قال : " والنساء " قالت : قلت يا رسول الله نستحي قال : " يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض " .

    ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ( 49 ) )

    قوله عز وجل : ( ووضع الكتاب ) يعني : كتب [ أعمال العباد ] توضع في أيدي الناس في أيمانهم وشمائلهم وقيل : معناه توضع بين يدي الله تعالى ( فترى المجرمين مشفقين ) خائفين ( مما فيه ) من الأعمال السيئة ( ويقولون ) إذا رأوها ( يا ويلتنا ) يا هلاكنا و " الويل " و " الويلة " : الهلكة وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ومعنى النداء تنبيه المخاطبين ( ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ) من ذنوبنا . قال ابن عباس : " الصغيرة " : التبسم و " الكبيرة " : القهقهة وقال سعيد بن جبير : " الصغيرة " : اللمم واللمس والقبلة و " الكبيرة " : الزنا . ( إلا أحصاها ) عدها قال السدي : كتبها وأثبتها قال مقاتل بن حيان حفظها .

    أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام أنبأنا أبو الحسن أحمد بن يسار القرشي حدثنا يوسف بن عدي المصري حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض عن أبي حازم قال : لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات . [ ص: 178 ]

    قوله تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) مكتوبا مثبتا في كتابهم ( ولا يظلم ربك أحدا ) أي لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا .

    وقال الضحاك : لا يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله .

    وقال عبد الله بن قيس : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما العرضتان : فجدال ومعاذير وأما العرضة الثالثة : فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " ورفعه بعضهم عن أبي موسى .

    ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( 50 ) )

    قوله عز وجل : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) يقول : واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) قال ابن عباس : كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم . وقال الحسن : كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس ( ففسق ) أي خرج ( عن أمر ربه ) عن طاعة ربه ( أفتتخذونه ) يعني يا بني آدم ( وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) أي أعداء . [ ص: 179 ]

    روى مجالد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوما إذ أقبل رجل فقال : أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت : إن ذلك عرس ما شهدته ، ثم ذكرت قوله تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) فعلمت أنه لا تكون الذرية إلا من الزوجة ، فقلت : نعم .

    وقال قتادة : يتوالدون كما يتوالد بنو آدم .

    وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين .

    قال مجاهد : من ذرية إبليس : " لاقيس " و " ولهان " وهما صاحبا الطهارة والصلاة ، و " الهفاف " و " مرة " وبه يكنى و " زلنبور " وهو صاحب [ الأسواق ، يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع ، و " ثبر " وهو صاحب المصائب ] يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب و " الأعور " وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة و " مطوس " وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلا و " داسم " وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحتبس موضعه وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه قال الأعمش : ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم ثم أذكر اسم الله فأقول داسم داسم .

    وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء " . [ ص: 180 ]

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنبأنا مسلم بن الحجاج حدثنا يحيى بن خلف الباهلي أنبأنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء; أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .

    وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنبأنا مسلم بن الحجاج حدثنا أبو كريب محمد بن علاء أنبأنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئا ، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم أنت " . قال الأعمش أراه قال : فيلتزمه .

    قوله تعالى ( بئس للظالمين بدلا ) قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس وذريته بعبادة ربهم .

    ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( 51 ) )

    ( ما أشهدتهم ) ما أحضرتهم وقرأ أبو جعفر " ما أشهدناهم " بالنون والألف على التعظيم أي : أحضرناهم يعني إبليس وذريته . وقيل : الكفار . وقال الكلبي : يعني الملائكة ( خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) يقول : ما أشهدتهم خلقا فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها ، ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) أي الشياطين الذين يضلون الناس عضدا ، أي : أنصارا وأعوانا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (272)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية52 إلى الاية 72





    ( ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ( 52 ) ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( 53 ) ( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( 54 ) )

    قوله عز وجل : ( ويوم يقول ) قرأ حمزة بالنون والآخرون بالياء أي يقول الله لهم يوم القيامة : ( نادوا شركائي ) يعني الأوثان ( الذين زعمتم ) أنهم شركائي ( فدعوهم ) فاستغاثوا بهم ( فلم يستجيبوا لهم ) أي : لم يجيبوهم ولم ينصروهم ( وجعلنا بينهم ) يعني : بين الأوثان وعبدتها . وقيل : بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، ( موبقا ) مهلكا قاله عطاء والضحاك . وقال ابن عباس : هو واد في النار . وقال مجاهد : واد في جهنم .

    وقال عكرمة : هو نهر في النار يسيل نارا على حافته حيات مثل البغال الدهم .

    قال ابن الأعرابي : وكل حاجز بين شيئين فهو موبق وأصله الهلاك يقال : أوبقه أي : أهلكه .

    قال الفراء : وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة ، والبين على هذا القول التواصل كقوله تعالى : " لقد تقطع بينكم " الأنعام - 94 . على قراءة من قرأ بالرفع . ( ( ورأى المجرمون النار ) أي المشركون ( فظنوا ) أيقنوا ( أنهم مواقعوها ) داخلوها وواقعون فيها ( ولم يجدوا عنها مصرفا ) معدلا لأنها أحاطت بهم من كل جانب . قوله عز وجل : ( ولقد صرفنا ) بينا ( في هذا القرآن للناس من كل مثل ) أي ليتذكروا ويتعظوا ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) خصومة في الباطل .

    قال ابن عباس : أراد النضر بن الحارث وجداله في القرآن .

    قال الكلبي : أراد به أبي بن خلف الجمحي .

    وقيل : المراد من الآية الكفار ، لقوله تعالى : " ويجادل الذين كفروا بالباطل " ( الكهف - 56 ) .

    وقيل : هي على العموم ، وهذا أصح .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف أنبأنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أنبأنا علي بن الحسين أن [ ص: 182 ] الحسين بن علي أخبره أن عليا أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : " ألا تصليان؟ قلت : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) .

    ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ( 55 ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( 56 ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( 57 ) )

    قوله عز وجل : ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ) القرآن والإسلام والبيان من الله عز وجل وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم . ( ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين ) يعني سنتنا في إهلاكهم إن لم يؤمنوا .

    وقيل : إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين من معاينة العذاب كما قالوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ( الأنفال - 32 ) .

    ( أو يأتيهم العذاب قبلا ) قال ابن عباس : أي : عيانا من المقابلة . وقال مجاهد : فجأة ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : ( قبلا ) بضم القاف والباء ، جمع قبيل أي : أصناف العذاب نوعا نوعا . ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ) ومجادلتهم قولهم : " أبعث الله بشرا رسولا " ( الإسراء - 94 ) . " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ( الزخرف - 31 ) وما أشبهه ( ليدحضوا ) ليبطلوا ( به الحق ) وأصل الدحض الزلق يريد ليزيلوا به الحق ( واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) فيه إضمار يعني وما أنذروا به وهو القرآن هزوا أي استهزاء . ( ومن أظلم ممن ذكر ) وعظ ( بآيات ربه فأعرض عنها ) تولى عنها وتركها ولم يؤمن [ ص: 183 ] بها ( ونسي ما قدمت يداه ) أي : ما عمل من المعاصي من قبل ( إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ) أغطية ( أن يفقهوه ) أي : يفهموه يريد لئلا يفهموه ( وفي آذانهم وقرا ) أي صمما وثقلا ( وإن تدعهم ) يا محمد ( إلى الهدى ) إلى الدين ( فلن يهتدوا إذا أبدا ) وهذا في أقوام علم الله منهم أنهم لا يؤمنون .

    ( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ( 58 ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( 59 ) وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ( 60 ) )

    ( وربك الغفور ذو الرحمة ) ذو النعمة ( لو يؤاخذهم ) يعاقب الكفار ( بما كسبوا ) من الذنوب ( لعجل لهم العذاب ) في الدنيا ( بل لهم موعد ) يعني البعث والحساب ( لن يجدوا من دونه موئلا ) ملجأ . ( وتلك القرى أهلكناهم ) يعني : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ( لما ظلموا ) كفروا ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) أي : أجلا قرأ أبو بكر " لمهلكهم " بفتح الميم واللام ، [ وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام ، وكذلك في النمل " مهلك " أي لوقت هلاكهم ] وقرأ الآخرون بضم الميم وفتح اللام أي : لإهلاكهم . قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) عامة أهل العلم قالوا : إنه موسى بن عمران . وقال بعضهم : هو موسى بن ميشا من أولاد يوسف والأول أصح .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل فقال ابن عباس : كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 184 ] " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم . فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به وقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا وقال موسى : ذلك ما كنا نبغ قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر عليه السلام : وأنى بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى ، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه فقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يضح إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا! قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا [ والوسطى شرطا والثالثة عمدا " ] قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر : ما [ نقص ] علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر [ ص: 185 ] غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال : وهذه أشد من الأولى قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال : كان مائلا فقال الخضر بيده فأقامه ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال : " هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما " .

    قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " ، وكان يقرأ : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " .

    وعن سعيد بن جبير في رواية أخرى عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ قام موسى ] رسول الله فذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال : لا - فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله - قيل : بلى [ عبدنا الخضر ] قال : يا رب وأين؟ قال : بمجمع البحرين [ قال : رب اجعل لي علما أعلم ذلك به ] قال : فخذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح وفي رواية قيل له : تزود حوتا مالحا فإنه حيث تفقد الحوت فأخذ حوتا فجعله في مكتل " .

    رجعنا إلى التفسير; قوله عز وجل : ( وإذ قال موسى لفتاه ) يوشع بن نون ( لا أبرح ) أي لا أزال أسير ( حتى أبلغ مجمع البحرين ) قال قتادة : بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب طنجة . وقال أبي بن كعب : إفريقية . [ ص: 186 ]

    ( أو أمضي حقبا ) وإن كان حقبا أي دهرا طويلا وزمانا ، وجمعه أحقاب ، والحقب : جمع الحقب . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة فحملا خبزا وسمكة مالحة حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا وعندها عين تسمى ماء الحياة لا يصيب ذلك الماء شيئا إلا حي فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر .

    ( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ( 61 ) ( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ( 62 ) )

    فذلك قوله تعالى : ( فلما بلغا ) يعني موسى وفتاه ( مجمع بينهما ) أي : بين الفريقين ( نسيا ) تركا ( حوتهما ) وإنما كان الحوت مع يوشع وهو الذي نسيه وأضاف النسيان إليهما لأنهما جميعا تزوداه لسفرهما كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا وحملوا من الزاد كذا وإنما حمله واحد منهم .

    ( فاتخذ ) أي الحوت ( سبيله في البحر سربا ) أي مسلكا . [ وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انجاب الماء عن مسلك ] الحوت فصار كوة لم يلتئم فدخل موسى الكوة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر " .

    قال ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى صار صخرة .

    وقال الكلبي : توضأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش ثم وثب في ذلك الماء فجعل يضرب بذنبه فلا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس .

    وقد روينا أنهما لما انتهيا إلى الصخرة وضعا رءوسهما فناما واضطرب الحوت فخرج وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره فانطلقا حتى إذا كان من الغد . قوله تعالى : ( فلما جاوزا ) يعني ذلك الموضع وهو مجمع البحرين ( قال ) موسى ( لفتاه آتنا غداءنا ) أي طعامنا والغداء ما يعد للأكل غدوة والعشاء ما يعد للأكل عشية [ ص: 187 ] ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) أي : تعبا وشدة وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد مجاوزة الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع إلى مطلبه .

    ( قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ( 63 ) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ( 64 ) )

    ( قال ) له فتاه وتذكر ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ) وهي صخرة كانت بالموضع الموعود قال معقل بن زياد : هي الصخرة التي دون نهر الزيت ( فإني نسيت الحوت ) أي تركته وفقدته وذلك أن يوشع حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد .

    قيل في الآية إضمار معناه : نسيت أن أذكر لك أمر الحوت ثم قال :

    ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) أي : وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان وقرأ حفص : ( أنسانيه ) وفي الفتح : ( عليه الله ) بضم الهاء .

    وقيل معناه أنسانيه لئلا أذكره .

    ( واتخذ سبيله في البحر عجبا ) قيل : هذا من قول يوشع ، ويقول : طفر الحوت إلى البحر فاتخذ فيه مسلكا فعجبت من ذلك عجبا .

    وروينا في الخبر : كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا .

    وقيل : هذا من قول موسى لما قال له يوشع واتخذ سبيله في البحر قال له موسى : عجبا كأنه قال : أعجب عجبا .

    قال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه جهرا ثم صار حيا بعدما أكل بعضه؟ . ( قال ) موسى ( ذلك ما كنا نبغ ) أي نطلب ( فارتدا على آثارهما قصصا ) أي : رجعا يقصان الأثر الذي جاء منه أي : يتبعانه فوجدا عبدا من عبادنا قيل : كان ملكا من الملائكة ، [ ص: 188 ] والصحيح الذي جاء في التواريخ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان قيل : كان من نسل بني إسرائيل . وقيل : كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا في الدنيا والخضر لقب له سمي بذلك لما :

    أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان حدثنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " .

    قال مجاهد : سمي خضرا لأنه إذا صلى اخضر ما حوله .

    وروينا : أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا .

    وفي رواية أخرى لقيه مسجى بثوب مستلقيا على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه . وفي رواية لقيه وهو يصلي . ويروى لقيه على طنفسة خضراء على كبد البحر فذلك قوله تعالى :

    ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ( 65 ) )

    ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة ) أي نعمة ( من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) أي : علم الباطن إلهاما ولم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم .

    [ ص: 189 ] ( ( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ( 66 ) قال إنك لن تستطيع معي صبرا ( 67 ) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( 68 ) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ( 69 ) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( 70 ) فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ( 71 ) )

    فلما ( قال له موسى هل أتبعك ) يقول : جئتك لأتبعك وأصحبك ( على أن تعلمني مما علمت رشدا ) قرأ أبو عمرو ويعقوب : " رشدا " بفتح الراء والشين وقرأ الآخرون بضم الراء وسكون الشين أي صوابا وقيل : علما ترشدني به .

    وفي بعض الأخبار أنه لما قال له موسى هذا قال له الخضر : كفى بالتوراة علما وببني إسرائيل شغلا فقال له موسى : إن الله أمرني بهذا فحينئذ : ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) ( قال ) له الخضر ( إنك لن تستطيع معي صبرا ) وإنما قال ذلك لأنه علم أنه يرى أمورا منكرة ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات . ثم بين عذره في ترك الصبر فقال : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) أي علما . ( قال ) موسى ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) إنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر ( ولا أعصي لك أمرا ) أي : لا أخالفك فيما تأمر . ( قال فإن اتبعتني ) فإن صحبتني ولم يقل : اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطا فقال : ( فلا تسألني ) قرأأبو جعفر ونافع وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والآخرون بسكون اللام وتخفيف النون ( عن شيء ) أعمله مما تنكره ولا تعترض عليه ( حتى أحدث لك منه ذكرا ) حتى أبتدئ لك بذكره فأبين لك شأنه . ( فانطلقا ) يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها فوجدا سفينة فركباها فقال أهل السفينة : هؤلاء لصوص وأمروهما بالخروج فقال صاحب السفينة : ما هم بلصوص ولكني أرى وجوه الأنبياء .

    وروينا عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا [ ص: 190 ] الخضر فحملوهم بغير نول فلما لججوا البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من السفينة " فذلك قوله تعالى :

    ( حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال ) له موسى ( أخرقتها لتغرق أهلها ) قرأ حمزة والكسائي : " ليغرق " بالياء وفتحها وفتح الراء " أهلها " بالرفع على اللزوم وقرأ الآخرون : بالتاء ورفعها وكسر الراء ( أهلها ) بالنصب على أن الفعل للخضر .

    ( لقد جئت شيئا إمرا ) أي : منكرا والإمر في كلام العرب الداهية وأصله : كل شيء شديد كثير يقال : أمر القوم : إذا كثروا واشتد أمرهم .

    وقال القتيبي ( إمرا ) أي : عجبا .

    وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء . وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق . وروي أن الخضر أخذ قدحا من الزجاج ورقع به خرق السفينة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (273)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية52 إلى الاية 84





    ( قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ( 72 ) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ( 73 ) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ( 74 ) )

    ( قال ) العالم وهو الخضر ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ) ( قال ) موسى ( لا تؤاخذني بما نسيت ) قال ابن عباس : إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئا آخر وقيل : معناه بما تركت من عهدك والنسيان : الترك . وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا " . ( ولا ترهقني ) ولا تغشني ( من أمري عسرا ) وقيل : لا تكلفني مشقة يقال : أرهقته عسرا أي : كلفته ذلك يقول : لا تضيق علي أمري وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر . ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله ) في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان فمرا بغلمان يلعبون فأخذ الخضر غلاما ظريفا وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين .

    قال السدي : كان أحسنهم وجها وكان وجهه يتوقد حسنا . [ ص: 191 ]

    وروينا أنه أخذ برأسه فاقتلعه بيده وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع برأسه .

    وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة .

    وقيل : ضرب رأسه بالجدار فقتله .

    قال ابن عباس : كان غلاما لم يبلغ الحنث وهو قول الأكثرين قال ابن عباس : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفسا زكية إلا وهو صبي لم يبلغ .

    وقال الحسن : كان رجلا وقال شعيب الجبائي : كان اسمه حيسور .

    وقال الكلبي : كان فتى يقطع ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه .

    وقال الضحاك : كان غلاما يعمل بالفساد وتأذى منه أبواه .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أخبرنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج أنبأنا عبد الله بن مسلمة بن معتب حدثنا معمر بن سليمان عن أبيه عن رقية بن مصقلة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " .

    ( قال ) موسى ( أقتلت نفسا زكية ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو جعفر وأبو عمرو : " " زاكية " بالألف وقرأ الآخرون : " زكية " قال الكسائي والفراء : معناهما واحد مثل : القاسية والقسية وقال أبو عمرو بن العلاء : " الزاكية " : التي لم تذنب قط و " الزكية " : التي أذنبت ثم تابت .

    ( بغير نفس ) أي : لم تقتل نفسا [ بشيء ] وجب به عليها القتل .

    ( لقد جئت شيئا نكرا ) أي : منكرا قال قتادة : النكر أعظم من الإمر لأنه حقيقة الهلاك وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك .

    وقيل : الإمر أعظم لأنه كان فيه تغريق جمع كثير . [ ص: 192 ]

    قرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر هاهنا : ( نكرا ) وفي سورة الطلاق بضم الكاف والآخرون بسكونها .

    ( قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ( 75 ) قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ( 76 ) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا ( 77 ) )

    ( قال ) يعني الخضر : ( ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ) قيل : زاد " لك " لأنه نقض العهد مرتين وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى : يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه . ( قال ) موسى ( إن سألتك عن شيء بعدها ) بعد هذه المرة ( فلا تصاحبني ) وفارقني وقرأ يعقوب : " فلا تصحبني " بغير ألف من الصحبة .

    ( قد بلغت من لدني عذرا ) قرأ أبو جعفر ونافع وأبو بكر " من لدني " خفيفة النون وقرأ الآخرون بتشديدها قال ابن عباس : أي قد أعذرت فيما بيني وبينك .

    وقيل : حذرتني أني لا أستطيع معك صبرا . وقيل : اتضح لك العذر في مفارقتي .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنبأنا محمد بن عيسى حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن عبد الله القيسي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن رقية عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحمة الله علينا وعلى موسى " وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه " لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة قال : ( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) فلو صبر لرأى العجب " . قوله عز وجل : ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ) قال ابن عباس : يعني : " أنطاكية " وقال ابن سيرين : هي " الأبلة " وهي أبعد الأرض من السماء وقيل : " برقة " . وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس ( استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ) [ ص: 193 ]

    قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجالس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما " .

    وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافوهم فلم يضيفوهما .

    قال قتادة : شر القرى التي لا تضيف الضيف .

    وروي عن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم .

    قوله تعالى : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) أي يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه : قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها .

    ( فأقامه ) أي سواه وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الخضر بيده فأقامه .

    وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام وروي عن ابن عباس : هدمه ثم قعد يبنيه وقال السدي : بل طينا وجعل يبني الحائط .

    ( قال ) موسى ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : " لتخذت " بتخفيف التاء وكسر الخاء وقرأ الآخرون : " لتخذت " بتشديد التاء وفتح الخاء وهما لغتان مثل اتبع وتبع ( عليه ) يعني على إصلاح الجدار ( أجرا ) يعني جعلا معناه : إنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرا .

    ( ( قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ( 78 ) )

    ( قال ) الخضر : ( هذا فراق بيني وبينك ) يعني هذا وقت فراق بيني وبينك وقيل : هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا . وقال الزجاج : معناه هذا فراق بيننا أي فراق اتصالنا وكرر " بين " تأكيدا .

    ( سأنبئك ) أي سوف أخبرك ( بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وفي بعض التفاسير أن موسى أخذ بثوبه فقال : أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر )

    [ ص: 194 ] ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( 79 ) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ( 80 ) )

    ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ) قال كعب : كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر وفيه دليل على أن المسكين وإن كان يملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا لم يقم ما يملك بكفايته ( يعملون في البحر ) أي : يؤاجرون ويكتسبون بها ( فأردت أن أعيبها ) أجعلها ذات عيب .

    ( وكان وراءهم ) أي أمامهم ( ملك ) كقوله : " من ورائه جهنم " ( إبراهيم - 16 ) .

    وقيل : " وراءهم " خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح يدل عليه قراءة ابن عباس " وكان أمامهم ملك " .

    ( يأخذ كل سفينة غصبا ) أي : كل سفينة صالحة غصبا وكان ابن عباس يقرأ كذلك فخرقها وعيبها الخضر حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه الجلندي وكان كافرا .

    قال محمد بن إسحاق : اسمه " متوله بن جلندي الأزدي " .

    وقال شعيب الجبائي : اسمه " هدد بن بدد " .

    وروي أن الخضر اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره وقال : أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها فإذا جاوزوه أصلحوها فانتفعوا بها قيل : سدوها بقارورة وقيل : بالقار . قوله عز وجل : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا ) أي فعلمنا [ وفي قراءة ابن عباس : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين فخشينا " أي : فعلمنا ] ( أن يرهقهما ) يغشيهما وقال الكلبي : يكلفهما ( طغيانا وكفرا ) قال سعيد بن جبير : فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه .

    [ ص: 195 ] ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ( 81 ) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ( 82 ) )

    ( فأردنا أن يبدلهما ) قرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : بالتشديد هاهنا وفي سورة " التحريم " و " القلم " وقرأ الآخرون بالتخفيف وهما لغتان وفرق بعضهم فقال : " التبديل " : تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم و " الإبدال " : رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه ( ربهما خيرا منه زكاة ) أي صلاحا وتقوى ( وأقرب رحما ) قرأ ابن عامر وأبو جعفر ويعقوب : بضم الحاء والباقون بجزمها أي : عطفا من الرحمة . وقيل : هو من الرحم والقرابة قال قتادة : أي أوصل للرحم وأبر بوالديه .

    قال الكلبي : أبدلهما الله جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه أمة من الأمم .

    وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : أبدلهما الله جارية ولدت سبعين نبيا .

    وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام .

    قال مطرف : فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل . ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب . قوله عز وجل : ( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ) وكان اسمهما أصرم وصريم ( وكان تحته كنز لهما ) اختلفوا في ذلك الكنز . روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان ذهبا وفضة " . [ ص: 196 ]

    وقال عكرمة : كان مالا .

    وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفا فيها علم .

    وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه : " عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح! عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب! عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب! عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها! لا إله إلا الله محمد رسول الله " . وفي الجانب الآخر مكتوب : " أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه " وهذا قول أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا .

    قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعا لهما .

    ( وكان أبوهما صالحا ) قيل : كان اسمه " كاسح " وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما .

    وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء .

    قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده [ وولد ولده ] وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم .

    قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي .

    قوله عز وجل : ( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ) أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثماني عشرة سنة .

    ( ويستخرجا ) حينئذ ( كنزهما رحمة ) نعمة ( من ربك ) [ ص: 197 ]

    ( وما فعلته عن أمري ) أي باختياري ورأيي بل فعلته بأمر الله وإلهامه ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) أي لم تطق عليه صبرا و " استطاع " و " اسطاع " بمعنى واحد .

    روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به .

    واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكرا لله عز وجل وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد .

    وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " ( الأنبياء - 34 ) .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : " أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد " . ولو كان الخضر حيا لكان لا يعيش بعده " .

    ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ( 83 ) )

    قوله عز وجل : ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا ) خبرا واختلفوا في نبوته : فقال بعضهم : كان نبيا .

    [ وقال أبو الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبيا ] أم ملكا؟ قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله وأحبه الله ، ناصح الله فناصحه الله . [ ص: 198 ]

    وروي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لآخر : يا ذا القرنين فقال : تسميتم بأسماء النبيين فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة .

    والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا .

    واختلفوا في سبب تسميته ب " ذي القرنين " قال الزهري : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها .

    وقيل : لأنه ملك الروم وفارس .

    وقيل : لأنه دخل النور والظلمة .

    وقيل : لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشمس .

    وقيل : لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان .

    وقيل : لأنه كان له قرنان تواريهما العمامة .

    وروى أبو الطفيل عن علي أنه [ قال سمي " ذا القرنين " لأنه ] أمر قومه بتقوى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله ، ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات ، فأحياه الله .

    واختلفوا في اسمه قيل : اسمه " مرزبان بن مرزبة اليوناني " من ولد يونان بن يافث بن نوح . وقيل : اسمه " الإسكندر بن فيلفوس بن ياملوس الرومي " .

    ( إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ( 84 ) )

    قوله عز وجل ( إنا مكنا له في الأرض ) أوطأنا ، والتمكين : تمهيد الأسباب . قال علي : سخر له السحاب فحمله عليها ، ومد له في الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها .

    ( وآتيناه من كل شيء ) أي : أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق . [ ص: 199 ]

    وقيل : من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء .

    ( سببا ) أي : علما يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض ، والسبب : ما يوصل الشيء إلى الشيء .

    وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد . وقيل : قربنا إليه أقطار الأرض .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (274)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةُ الْكَهْفِ
    مِائَةٌ وَعَشْرُ آيَاتٍ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ

    الاية85 إلى الاية 102





    ( فأتبع سببا ( 85 ) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( 86 ) )

    ( فأتبع سببا ) أي : سلك وسار ، قرأ أهل الحجاز ، والبصرة : " فاتبع " و " ثم اتبع " موصولا مشددا ، وقرأ الآخرون بقطع الألف وجزم التاء ، وقيل : معناهما واحد .

    والصحيح : الفرق بينهما ، فمن قطع الألف فمعناه : أدرك ولحق ، ومن قرأ بالتشديد فمعناه : سار ، يقال : ما زلت أتبعه حتى أتبعته ، أي : ما زلت أسير خلفه حتى لحقته .

    وقوله : " سببا " أي : طريقا . وقال ابن عباس : منزلا . ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ) قرأ أبو جعفر وأبو عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : " حامية " بالألف غير مهموزة ، أي : حارة ، وقرأ الآخرون : ( حمئة ) مهموزا بغير الألف ، أي : ذات حمأة ، وهي الطينة السوداء .

    وسأل معاوية كعبا : كيف تجد في التوراة أن تغرب الشمس؟ قال : نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين .

    قال القتيبي : يجوز أن يكون معنى قوله : ( في عين حمئة ) أي : عندها عين حمئة ، أو في رأي العين .

    ( ووجد عندها قوما ) أي : عند العين أمة ، قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب .

    ( قلنا يا ذا القرنين ) يستدل بهذا من زعم أنه كان نبيا فإن الله تعالى خاطبه والأصح أنه لم يكن نبيا ، والمراد منه : الإلهام . [ ص: 200 ]

    ( إما أن تعذب ) يعني : إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام ( وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) يعني : تعفو وتصفح وقيل : تأسرهم فتعلمهم الهدى . خيره الله بين الأمرين .

    ( ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ( 87 ) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ( 88 ) ثم أتبع سببا ( 89 ) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ( 90 ) )

    ( قال أما من ظلم ) أي : كفر ( فسوف نعذبه ) أي : نقتله ( ثم يرد إلى ربه ) في الآخرة ( فيعذبه عذابا نكرا ) أي : منكرا يعني بالنار ، والنار أنكر من القتل . ( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) قرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب : ( جزاء ) منصوبا منونا أي : فله الحسنى " جزاء " نصب على المصدر [ وهو مصدر وقع موقع الحال ، أي : فله الحسنى مجزيا بها ] .

    وقرأ الآخرون : بالرفع على الإضافة ، فالحسنى : الجنة أضاف الجزاء إليها كما قال : " ولدار الآخرة خير " ( يوسف - 9 ) والدار هي الآخرة .

    وقيل : المراد ب " الحسنى " على هذه القراءة : الأعمال الصالحة . أي له جزاء الأعمال الصالحة .

    ( وسنقول له من أمرنا يسرا ) أي : نلين له القول ونعامله باليسر من أمرنا . وقال مجاهد : " يسرا " أي : معروفا . ( ثم أتبع سببا ) أي : سلك طرقا ومنازل . ( حتى إذا بلغ مطلع الشمس ) أي موضع طلوعها ( وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) قال قتادة والحسن : لم يكن بينهم وبين الشمس ستر ، وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء فكانوا يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا إلى معايشهم وحروثهم .

    [ ص: 201 ]

    وقال الحسن : كانوا إذا طلعت الشمس يدخلون الماء فإذا ارتفعت عنهم خرجوا يتراعون كالبهائم .

    وقال الكلبي : هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ، ويلتحف بالأخرى .

    ( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ( 91 ) ثم أتبع سببا ( 92 ) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ( 93 ) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ( 94 ) )

    قوله عز وجل : ( كذلك ) قيل : معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها والصحيح أن معناه : كما حكم في القوم الذين هم عند مغرب الشمس كذلك حكم في الذين هم عند مطلع الشمس ( وقد أحطنا بما لديه خبرا ) يعني : بما عنده ومعه من الجند والعدة والآلات " خبرا " أي : علما . ( ثم أتبع سببا ) . ( حتى إذا بلغ بين السدين ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص : ( السدين ) و " سدا " هاهنا بفتح السين وافق حمزة والكسائي في " سدا " وقرأ الآخرون : بضم السين وفي يس " سدا " بالفتح حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون بالضم ، منهم من قال : هما لغتان معناهما واحد . وقال عكرمة : ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بالفتح ، وما كان من صنع الله فهو سد بالضم ، وقاله أبو عمرو . وقيل : " السد : بالفتح مصدر وبالضم اسم وهما هاهنا : جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم . ( وجد من دونهما قوما ) يعني : أمام السدين . ( لا يكادون يفقهون قولا ) قرأ حمزة والكسائي : " يفقهون " بضم الياء ، وكسر القاف على معنى لا يفقهون غيرهم قولا ، وقرأ الآخرون : بفتح الياء والقاف أي لا يفقهون كلام غيرهم قال ابن عباس : لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم . ( قالوا يا ذا القرنين ) فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون؟ [ ص: 202 ]

    قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولا قال الذين من دونهم يا ذا القرنين .

    ( إن يأجوج ومأجوج ) قرأهما عاصم بهمزتين [ وكذلك في الأنبياء ، " فتحت يأجوج ومأجوج " ] والآخرون بغير همز [ في السورتين ] وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم .

    وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار وبترك الهمز اسمان أعجميان مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح .

    قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين .

    قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء ، وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعا : إن يأجوج أمة ومأجوج أمة ، كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف ، صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية .

    وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول . [ ص: 203 ]

    وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم .

    وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبدا صالحا . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض : إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم؟ وبأي جمع أكاثرهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ قال الله عز وجل : إني سأطوفك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك ، فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة ، فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك .

    فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته؛ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم سيملئون الأرض ويظهرون علينا ويفسدون فيها ، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ قال : ما مكني فيه ربي خير قال : أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم .

    فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هدب من الشعر في [ ص: 204 ] أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس؛ يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .

    قوله تعالى : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم ، فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ، ولا شيئا يابسا إلا احتملوا وأدخلوه أرضهم وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا .

    وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس .

    وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم .

    ( فهل نجعل لك خرجا ) قرأ حمزة والكسائي " خراجا " بالألف وقرأ الآخرون ( خرجا ) بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا من أموالنا .

    وقال أبو عمرو : " الخرج " : ما تبرعت به و " الخراج " : ما لزمك أداؤه . وقيل : " الخراج " : على الأرض و " الخرج " : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك .

    ( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) أي حاجزا فلا يصلون إلينا .

    ( قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ( 95 ) )

    ( قال ) لهم ذو القرنين : ( ما مكني فيه ) قرأ ابن كثير " مكنني " بنونين ظاهرين ، وقرأ الآخرون بنون واحدة مشددة على الإدغام ، أي : ما قواني عليه ( ربي خير ) من جعلكم ( فأعينوني بقوة ) معناه : إني لا أريد المال بل أعينوني بأبدانكم وقوتكم ( أجعل بينكم وبينهم ردما ) أي : سدا ، قالوا وما تلك القوة؟ قال : فعلة وصناع يحسنون البناء والعمل ، والآلة ، قالوا : وما تلك الآلة؟ قال :

    [ ص: 205 ] ( آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ( 96 ) فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ( 97 ) ( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ( 98 ) )

    ( آتوني ) أعطوني وقرأ أبو بكر : " ائتوني " أي جيئوني ( زبر الحديد ) أي قطع الحديد واحدتها زبرة ، فآتوه بها وبالحطب وجعل بعضها على بعض ، فلم يزل يجعل الحديد على الحطب والحطب على الحديد ( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب : بضم الصاد والدال وجزم أبو بكر الدال وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما الجبلان ساوى : أي سوى بين طرفي الجبلين .

    ( قال انفخوا ) وفي القصة : أنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد ، ثم قال : انفخوا ، يعني : في النار .

    ( حتى إذا جعله نارا ) أي صار الحديد نارا ، ( قال آتوني ) قرأ حمزة وأبو بكر وصلا وقرأ الآخرون بقطع الألف . ( أفرغ عليه قطرا ) أي : [ آتوني قطرا أفرغ عليه ، و " الإفراغ " : الصب ، و " القطر " : هو النحاس المذاب فجعلت النار تأكل الحطب ويصير النحاس ] مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس .

    قال قتادة : هو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء . وفي القصة : أن عرضه كان خمسين ذراعا وارتفاعه مائتي ذراع ، وطوله فرسخ . ( فما اسطاعوا أن يظهروه ) أن يعلوه من فوقه لطوله وملاسته ( وما استطاعوا له نقبا ) من أسفله لشدته ولصلابته وقرأ حمزة : ( فما استطاعوا ) بتشديد الطاء أدغم تاء الافتعال في الطاء . ( قال ) يعني ذا القرنين ( هذا ) أي السد ( رحمة ) أي : نعمة ( من ربي فإذا جاء وعد ربي ) قيل : يوم القيامة وقيل : وقت خروجهم ( جعله دكاء ) قرأ أهل الكوفة ( دكاء ) بالمد والهمز ، أي : أرضا ملساء ، وقرأ الآخرون بلا مد ، أي : جعله مدكوكا مستويا مع وجه الأرض ( وكان وعد ربي حقا ) وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه : " أن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا [ ص: 206 ] فيعيده الله كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه فيخرجون على الناس ، فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم ، فيهلكون ، وإن دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكرا " .

    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : " ما شأنكم؟ " قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال ذات غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم؟ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط عينه اليمنى طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله ! فاثبتوا " قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال : " أربعون يوما يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : لا اقدروا له [ ص: 207 ] قدره قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال : " كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنوا به ويستجيبوا له فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، قال : فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي باب دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي ، لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقول : لقد كان بهذه مرة ماء . ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت [ ص: 208 ] فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ، ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس . فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " .

    وبهذا الإسناد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا علي بن حجر السعدي حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر والوليد بن مسلم بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بهذا الإسناد نحو ما ذكرنا ، وزاد بعد قوله : - لقد كان بهذه مرة ماء - ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما " .

    وقال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الخشب والشجر ، ومن ظفروا به من الناس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا أحمد أنبأنا أبي أنبأنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " .

    وفي القصة : أن ذا القرنين دخل الظلمة ، فلما رجع توفي بشهرزور وذكر بعضهم : أن عمره كان نيفا وثلاثين سنة .
    [ ص: 209 ] ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ( 99 ) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ( 100 ) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ( 101 ) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ( 102 ) )

    قوله عز وجل ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قيل : هذا عند فتح السد ، يقول : تركنا يأجوج ومأجوج يموج ، أي : يدخل بعضهم على بعض كموج الماء ، ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم .

    وقيل : هذا عند قيام الساعة ، يدخل الخلق بعضهم في بعض ، ويختلط إنسيهم بجنيهم حيارى . ( ونفخ في الصور ) لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب الساعة ( فجمعناهم جمعا ) في صعيد واحد . ( وعرضنا ) أبرزنا ( جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) حتى يشاهدوها عيانا . ( الذين كانت أعينهم في غطاء ) أي : غشاء ، و " الغطاء " : ما يغطى به الشيء ويستره ( عن ذكري ) يعني : عن الإيمان والقرآن ، وعن الهدى والبيان . وقيل : عن رؤية الدلائل .

    ( وكانوا لا يستطيعون سمعا ) أي : سمع القبول والإيمان ، لغلبة الشقاوة عليهم .

    وقيل : لا يعقلون . وقيل : كانوا لا يستطيعون أي : لا يقدرون أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتلوه عليهم لشدة عداوتهم له ، كقول الرجل : لا أستطيع أن أسمع من فلان شيئا لعداوته . قوله عز وجل : ( أفحسب ) أفظن ( الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ) أربابا يريد بالعباد : عيسى والملائكة ، كلا بل هم لهم أعداء ويتبرءون منهم .

    قال ابن عباس : يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله . وقال مقاتل : الأصنام سموا عبادا ، كما قال : " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " ( الأعراف - 194 ) وجواب هذا الاستفهام محذوف .

    قال ابن عباس : يريد إني لأغضب لنفسي ، يقول : أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء ، وأني لا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم . [ ص: 210 ]

    وقيل : أفظنوا أنهم ينفعهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء .

    ( إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) أي : منزلا . قال ابن عباس : هي مثواهم . وقيل : النزل : ما يهيأ للضيف . يريد هي معدة لهم عندنا ، كالنزل للضيف .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,964

    افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

    الحلقة (275)
    - تفسير البغوى
    الجزء الخامس

    سُورَةِ مَرْيَمَ
    مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً


    الاية1 إلى الاية 10




    ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( 103 ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 104 ) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ( 105 ) )

    ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) يعني : الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلا ونوالا ، فنالوا هلاكا وبوارا ، كمن يشتري سلعة يرجو عليها ربحا فخسر وخاب سعيه .

    واختلفوا فيهم : قال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص : هم اليهود والنصارى . وقيل : هم الرهبان ( الذين ) حبسوا أنفسهم في الصوامع . وقال علي بن أبي طالب : هم أهل حروراء ( ضل سعيهم ) بطل عملهم واجتهادهم ( في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) أي عملا . ( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت ) بطلت ( أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي لا نجعل لهم خطرا وقدرا ، تقول العرب : " ما لفلان عندي وزن " أي : قدر لخسته .

    أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا أحمد عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا سعيد بن مريم أنبأنا المغيرة عن أبي الزناد [ ص: 211 ] عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " ، وقال اقرءوا إن شئتم : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .

    قال أبو سعيد الخدري : يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئا ، فذلك قوله تعالى ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )

    ( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ( 106 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ( 107 ) )

    ( ذلك ) الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وخسة أقدارهم . ثم ابتدأ فقال : ( جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ) يعني القرآن ( ورسلي هزوا ) أي سخرية ومهزوءا بهم . قوله تعالى ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس ) روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .

    قال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس ، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر .

    وقال قتادة : " الفردوس " : ربوة الجنة ، وأوسطها وأفضلها وأرفعها .

    قال كعب : " الفردوس " : هو البستان الذي فيه الأعناب .

    وقال مجاهد : هو البستان بالرومية .

    وقال عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش .

    قال الزجاج : هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية .

    وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار .

    وقيل : هي الروضة المستحسنة . [ ص: 212 ]

    وقيل : هي التي تنبت ضروبا من النبات ، وجمعه فراديس .

    ( نزلا ) قيل أي : منزلا . وقيل : ما يهيأ للنازل ، على معنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس ونعيمها نزلا ، ومعنى " كانت لهم " أي : في علم الله قبل أن يخلقوا .

    ( خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ( 108 ) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( 109 ) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( 110 ) )

    ( خالدين فيها لا يبغون ) لا يطلبون ( عنها حولا ) أي : تحولا إلى غيرها . قال ابن عباس : لا يريدون أن يتحولوا عنها ، كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى . قوله عز وجل : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) قال ابن عباس : قالت اليهود [ يا محمد ] تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ثم تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فأنزل الله هذه الآية .

    وقيل : لما نزلت : " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ، قالت اليهود : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء . فأنزل الله تعالى ( قل لو كان البحر مدادا ) سمي المداد مدادا لإمداد الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء .

    قال مجاهد : لو كان البحر مدادا للقلم ، والقلم يكتب ( لنفد البحر ) أي : ماؤه ( قبل أن تنفد ) قرأ حمزة والكسائي " ينفد " بالياء لتقدم الفعل ، والباقون بالتاء ( كلمات ربي ) أي : علمه وحكمه ( ولو جئنا بمثله مددا ) معناه : لو كان الخلائق يكتبون والبحر يمدهم لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مددا أو زيادة . [ و " مددا " منصوب على التمييز ] نظيره قوله تعالى : " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " ( لقمان - 27 ) . قوله عز وجل : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) قال ابن عباس : [ ص: 213 ] علم الله رسوله التواضع؛ لئلا يزهو على خلقه ، فأمره أن يقر فيقول : إني آدمي مثلكم ، إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به ، يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد لا شريك له ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) أي : يخاف المصير إليه . وقيل : يأمل رؤية ربه . فالرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعا ، قال الشاعر :
    ولا كل ما ترجو من الخير كائن ولا كل ما ترجو من الشر واقع
    فجمع بين المعنيين .

    ( فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) أي : لا يرائي بعمله .

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنبأنا أبو نعيم أخبرنا سفيان عن سلمة هو ابن كهيل قال : سمعت جندبا يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من سمع ، سمع الله به . ومن يرائي يرائي الله به " .

    وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " ، قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال : " الرياء " .

    أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبي حدثنا شعيب قال : حدثنا الليث عن أبي الهاد عن عمرو عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى يقول : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء ، هو للذي عمله " . [ ص: 214 ]

    أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا حفص بن عمر حدثنا همام عن قتادة حدثنا سالم بن أبي الجعد الغطفاني عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .

    وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أبو منصور السمعاني حدثنا أبو جعفر الرياني حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن زياد عن سهل هو ابن معاذ عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدميه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء " .

    [ سُورَةِ مَرْيَمَ ]

    مَكِّيَّةٌ ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ آيَةً


    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( كهيعص ( 1 ) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ( 2 ) )

    قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ( كهيعص ) قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ ، وَضِدُّهُ ابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَبِكَسْرِهِمَا : الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا .

    وَيُظْهِرُ الدَّالَ عِنْدَ الذَّالِ مِنْ " صَادْ ذِكْرُ " ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَافِعٌ ، وَعَاصِمٌ [ وَيَعْقُوبُ ] وَالْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ .

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى .

    وَقَالَ قَتَادَةُ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ .

    وَقِيلَ : اسْمٌ لِلسُّورَةِ . وَقِيلَ : هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ .

    وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ( كهيعص ) قَالَ : الْكَافُ مِنْ كِرِيمٍ وَكَبِيرٍ ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ ، وَالْيَاءُ مِنْ رَحِيمٍ ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَعَظِيمٍ ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ . [ ص: 218 ] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : مَعْنَاهُ : كَافٍ لِخَلْقِهِ ، هَادٍ لِعِبَادِهِ ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، عَالِمٌ بِبَرِّيَّتِهِ ، صَادَقٌ فِي وَعْدِهِ ( ذِكْرُ ) رُفِعَ بِالْمُضْمَرِ ، أَيْ : هَذَا الَّذِي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذِكْرُ ( رَحْمَةِ رَبِّكَ ) [ وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ] مَعْنَاهُ : ذِكْرُ رَبِّكَ ( عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ) بِرَحْمَتِهِ .

    ( إذ نادى ربه نداء خفيا ( 3 ) قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ( 4 ) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ( 5 ) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ( 6 ) )

    ( إذ نادى ) دعا ( ربه ) في محرابه ( نداء خفيا ) دعا سرا من قومه في جوف الليل . ( قال رب إني وهن ) ضعف ورق ( العظم مني ) من الكبر . قال قتادة : اشتكى سقوط الأضراس ( واشتعل الرأس ) أي : ابيض شعر الرأس ( شيبا ) شمطا ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) يقول : عودتني الإجابة فيما مضى ولم تخيبني .

    وقيل : معناه لما دعوتني إلى الإيمان آمنت ولم أشق بترك الإيمان . ( وإني خفت الموالي ) و " الموالي " : بنو العم . قال مجاهد : العصبة . وقال أبو صالح : الكلالة . وقال الكلبي : الورثة ( من ورائي ) أي : من بعد موتي .

    قرأ ابن كثير : " من ورائي " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .

    ( وكانت امرأتي عاقرا ) لا تلد ( فهب لي من لدنك ) أعطني من عندك ( وليا ) ابنا . ( يرثني ويرث من آل يعقوب ) قرأ أبو عمرو والكسائي : بجزم الثاء فيهما ، على جواب الدعاء ، وقرأ الآخرون بالرفع على الحال والصفة ، أي : وليا وارثا .

    واختلفوا في هذا الإرث; قال الحسن : معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة . [ ص: 219 ]

    وقيل : أراد ميراث النبوة والعلم .

    وقيل : أراد إرث الحبورة ، لأن زكريا كان رأس الأحبار .

    قال الزجاج : والأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لأنه يبعد أن يشفق زكريا وهو نبي من الأنبياء أن يرثه بنو عمه ماله .

    والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمه دين الله وتغيير أحكامه على ما كان شاهده من بني إسرائيل ، من تبديل الدين وقتل الأنبياء ، فسأل ربه وليا صالحا يأمنه على أمته ويرث نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين . وهذا معنى قول عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .

    ( واجعله رب رضيا ) أي برا تقيا مرضيا .

    ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ( 7 ) )

    قوله عز وجل : ( يا زكريا إنا نبشرك ) وفيه اختصار ، معناه : فاستجاب الله دعاءه فقال : يا زكريا إنا نبشرك ، ( بغلام ) بولد ذكر ( اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) قال قتادة والكلبي : لم يسم أحد قبله يحيى . [ ص: 220 ]

    وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبها ومثلا كما قال الله تعالى : " هل تعلم له سميا " أي مثلا .

    والمعنى : أنه لم يكن له مثل ، لأنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط .

    وقيل : لم يكن له مثل في أمر النساء؛ لأنه كان سيدا وحصورا .

    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي لم تلد العواقر مثله ولدا .

    وقيل : لم يرد الله به اجتماع الفضائل كلها ليحيى ، إنما أراد بعضها ، لأن الخليل والكليم كانا قبله ، وهما أفضل منه .

    ( قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ( 8 ) قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ( 9 ) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ( 10 ) )

    ( قال رب أنى ) من أين ( يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا ) أي : وامرأتي عاقر . ( وقد بلغت من الكبر عتيا ) أي : يبسا ، قال قتادة : يريد نحول العظم ، يقال : عتا الشيخ يعتو عتيا وعسيا : إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عات وعاس : إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف .

    وقرأ حمزة والكسائي : عتيا وبكيا وصليا وجثيا بكسر أوائلهن ، والباقون برفعها ، وهما لغتان . ( قال كذلك قال ربك هو علي هين ) يسير ( وقد خلقتك ) قرأ حمزة والكسائي " خلقناك " بالنون والألف على التعظيم ، ( من قبل ) أي : من قبل يحيى ( ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية ) دلالة على حمل امرأتي ( قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) أي : صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس .

    قال مجاهد : أي : لا يمنعك من الكلام مرض . [ ص: 221 ]

    وقيل : ثلاث ليال سويا أي : متتابعات ، والأول أصح .

    وفي القصة : أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله تعالى انطلق لسانه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •