تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 51 الى صــ 58
الحلقة (269)
احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فلما وجب فعل الغسل كانت [ ص: 51 ] النية شرطا في صحة الفعل ; لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به ; فإذا قلنا : إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى ، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما ، قصد أداء الواجب ; وصح في الحديث أن الوضوء يكفر ; فلو صح بغير نية لما كفر ، وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
الخامسة : قال ابن العربي ، قال بعض علمائنا : إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه ، وإن عزبت نيته في الطريق ، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية . قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه : فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين ، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال : يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير ; ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها! اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء ، وقد اختلف فيها قول مالك ; فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع ، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها ، وهي أصل مقصود ، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه ! هل هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه .
السادسة : قوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد ; فقال قوم : نعم ; لأن ما بعد ( إلى ) إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه ; قال سيبويه وغيره ، وقد مضى هذا في " البقرة " مبينا ، وقيل : لا يدخل المرفقان في الغسل ; والروايتان مرويتان عن مالك ; الثانية لأشهب ; والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح ; لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ، وقد قال بعضهم : إن إلى بمعنى مع ، كقولهم : الذود إلى الذود إبل ، أي : مع الذود ، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في " النساء " ; ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف ، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ ; فالمرفق داخل تحت اسم اليد ، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد ، فلما قال : إلى اقتطع من حد المرافق عن الغسل ، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر ، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى ; قال ابن العربي : وما فهم أحد [ ص: 52 ] مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال : إن قوله إلى المرافق حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما ; ولذلك تدخل المرافق في الغسل .
قلت : ولما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء . قال القاضي عياض : والناس مجمعون على خلاف هذا ، وألا يتعدى بالوضوء حدوده ; لقوله عليه السلام : فمن زاد فقد تعدى وظلم . وقال غيره : كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به ، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام : أنتم الغر المحجلون ومن قوله : تبلغ الحلية كما ذكر .
السابعة : قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم تقدم في " النساء " أن المسح لفظ مشترك ، وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه ، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح ، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ; وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ; فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس ، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري ، حيث قال : هما من الوجه يغسلان معه ، وخلافا للشعبي ، حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس ; وهو قول الحسن وإسحاق ، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي ، وسيأتي بيان حجتهما ; وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه ، ومنه رأس الجبل ; وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر :
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري
الثامنة : واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا ; ثلاثة لأبي حنيفة ، وقولان للشافعي ، وستة أقوال لعلمائنا ; والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه . وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه ; والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض : والمعنى وامسحوا رءوسكم ، وقيل : دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله : فامسحوا بوجوهكم فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع ، وهذا قاطع . وقيل : إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به ، والمسح لغة لا يقتضي [ ص: 53 ] ممسوحا به ; فلو قال : وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس ; فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء ، فكأنه قال : وامسحوا برءوسكم الماء ; وذلك فصيح في اللغة على وجهين ; إما على القلب كما أنشد سيبويه : ( وهو الشاعر الخفاف بن ندبة السلمي )
كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد
واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب ، وأما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر : ( هو الأخطل )
مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء ، وقال الشافعي : احتمل قول الله تعالى : وامسحوا برءوسكم بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ; وقال في موضع آخر : فإن قيل قد قال الله عز وجل : فامسحوا بوجوهكم في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه ؟ قيل له : مسح الوجه في التيمم بدل من غسله ; فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه ، ومسح الرأس أصل ; فهذا فرق ما بينهما . أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا : لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار ، وموضع الاستعجال والاختصار ، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار ; ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة ; أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة ; فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة ; والله أعلم .
التاسعة : وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ ، وقال الشافعي : يمسح رأسه ثلاثا ; وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء ، وكان ابن سيرين يمسح مرتين . قال أبو داود : وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ; فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ، قالوا فيها : ومسح برأسه ولم يذكروا عددا .
العاشرة : واختلفوا من أين يبدأ بمسحه ; فقال مالك : يبدأ بمقدم رأسه ، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره ، ثم يردهما إلى مقدمه ; على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم ; وبه يقول الشافعي وابن حنبل ، وكان الحسن بن حي يقول : يبدأ بمؤخر الرأس ; على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء ; وهو حديث يختلف في ألفاظه ، وهو يدور على عبد الله بن محمد بن [ ص: 54 ] عقيل وليس بالحافظ عندهم ; أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع ، وروى ابن عجلان عنه عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر ، لا يحرك الشعر عن هيئته ; ورويت هذه الصفة عن ابن عمر ، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه ، وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد ; وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس . وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك ، ومسح عمر اليافوخ فقط ، والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا ، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة ، واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس ; فالمشهور أن ذلك يجزئ ، وهو قول سفيان الثوري ; قال سفيان : إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه ، وقيل : إن ذلك لا يجزئ ; لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب ، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الإجزاء . قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع ; واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة ، وقيل : هو فرض .
الحادية عشرة : فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي : لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه ، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس بن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه ، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وقال تعالى : أم بظاهر من القول وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة . فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به ; قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل ; وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .
الثانية عشرة : وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم ، ثم اختلفوا في تجديد الماء ; فقال مالك وأحمد : يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس ، على ما فعل ابن عمر ; وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء ، وقال : هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس ; لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج ; وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يمسحان مع الرأس بماء واحد ; وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة [ ص: 55 ] والتابعين ، وقال داود : إن مسح أذنيه فحسن ، وإلا فلا شيء عليه ; إذ ليستا مذكورتين في القرآن . قيل له : اسم الرأس تضمنهما كما بيناه ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصابعه في صماخيه ، وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين ، وثبتت سنة مسحهما بالسنة ، وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال : إن ترك مسح أذنيه لم يجزه ، وقال أحمد : إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد ، وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد ; وهذا عند الفقهاء ضعيف ، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره ; والله أعلم . احتج من قال : هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه ، وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان : فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة ، ثم غسل رجليه ثم قال : أين السائلون عن الوضوء ؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ . احتج من قال : يغسل ظاهرهما مع الوجه ، وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس ; فما واجهك من الأذنين وجب غسله ; لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس ، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم . احتج من قال : هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي : ( فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ) الحديث أخرجه مالك .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : " وأرجلكم " قرأ نافع وابن عامر والكسائي " وأرجلكم " بالنصب ; وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ " وأرجلكم " بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان ; وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة " وأرجلكم " بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون ; فمن قرأ بالنصب جعل العام " اغسلوا " وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح ، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء ، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واللازم من قوله في غير ما حديث ، وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم [ ص: 56 ] تلوح فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء . ثم إن الله حدهما فقال : إلى الكعبين كما قال في اليدين إلى المرافق فدل على وجوب غسلهما ; والله أعلم .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء ، قال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم ، وتعلق الطبري بقراءة الخفض .
قلت : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج ; قال الله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم . قال : وكان إذا مسح رجليه بلهما ، وروي عن أنس أيضا أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل ، وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح ، وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ; ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحا ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين ; قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعا ، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين . قال ابن عطية : وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل .
قلت : وهو الصحيح ; فإن لفظ المسح مشترك ، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل ; قال الهروي : أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال : المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا ، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه : قد تمسح ; ويقال : مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب ، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال : إن المراد بقراءة الخفض الغسل ; بقراءة النصب التي لا احتمال فيها ، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل ، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة ; ثم [ ص: 57 ] إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين ، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم ; فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير ، وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - علي ( وأرجلكم ) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : ( وأرجلكم ) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام ، وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين ، وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ ( وأرجلكم ) بالنصب ، وقد قيل : إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان ، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان ، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه ، وهذا حسن . فإن قيل : إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ( المائدة ) - وقد قاله ابن عباس ، ورد المسح أبو هريرة وعائشة ، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي ، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم ، وقد قال الحسن : حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين ; وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ; قال إبراهيم النخعي : وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، قال إبراهيم النخعي : كان يعجبهم هذا الحديث ; لأن إسلام جرير كان بعد نزول ( المائدة ) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان ، وأن ( المائدة ) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات ، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ; وإنما نزل منها يوم عرفة اليوم أكملت لكم دينكم على ما تقدم ; قال أحمد بن حنبل : أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين ; لأن إسلامه كان بعد نزول ( المائدة ) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح ، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم ; ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت : سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; الحديث ، وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح ، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال : إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما يجب عليه ، وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن [ ص: 58 ] وهب عنه أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر . قال أحمد : كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال : حبب إلي الوضوء ; ونحوه عن أبي أيوب ، وقال أحمد رضي الله عنه : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه ، وصلينا خلفه ولم نعبه ، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع ، فلا يصلى خلفه ، والله أعلم ، وقد قيل : إن قوله ( وأرجلكم ) معطوف على اللفظ دون المعنى ، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب ; وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس بالجر لأن النحاس الدخان ، وقال : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ بالجر . قال امرؤ القيس :
كأن أبانا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
فخفض مزمل بالجوار ، وإن المزمل الرجل وإعرابه الرفع ; قال زهير :
لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
قال أبو حاتم : كان الوجه ( القطر ) بالرفع ولكنه جره على جوار المور ; كما قالت العرب : هذا جحر ضب خرب ; فجروه وإنما هو رفع ، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال : هذا القول غلط عظيم ; لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه ، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء .
قلت : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل ، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب ، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما ، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح ، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح ، ودليل آخر من جهة الإجماع ; وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه ،