تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 25 الأولىالأولى ... 456789101112131415161718192021222324 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 500

الموضوع: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (261)
    صــ421 إلى صــ 427



    قوله تعالى: وهم صاغرون الصاغر: الذليل الحقير .

    وفي ما يكلفونه من الفعل الذي يوجب صغارهم خمسة أقوال .

    أحدها: أن يمشوا بها ملببين ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: أن لا يحمدوا على إعطائهم ، قاله سلمان الفارسي . والثالث: أن يكونوا قياما والآخذ جالسا ، قاله عكرمة . والرابع: أن دفع الجزية هو الصغار . والخامس: أن إجراء أحكام الإسلام عليهم هو الصغار .

    فصل

    واختلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار ، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس ، وبه قال الشافعي . ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سبي من أهل الأديان من العرب والعجم ، فالعرب إن أسلموا ، وإلا السيف ، وأولئك إن أسلموا ، وإلا الجزية; فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل ، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط ، وهو قول أبي حنيفة ، ومالك .

    فصل

    فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية ، فهم أهل القتال . فأما الزمن ، والأعمى ، والمفلوج ، والشيخ الفاني ، والنساء ، والصبيان ، والراهب الذي لا يخالط ، الناس فلا تؤخذ منهم .

    [ ص: 422 ] فصل

    فأما مقدارها ، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهما ، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون ، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر ، وهو قول أبي حنيفة . وقول مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعون درهما ، وسواء في ذلك الغني والفقير . وقال الشافعي: على الغني والفقير دينار . وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ؟ منهم نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقص على قدر طاقتهم ، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه . ونقل يعقوب بن بختان: أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك ، وله أن يزيد .

    فصل

    ووقت وجوب الجزية: آخر الحول ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول . فأما إذا دخلت سنة ، في سنة فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط . وقال أبو حنيفة: تسقط . فأما إذا أسلم ، فإنها تسقط بالإسلام . فأما إن مات; فكان ابن حامد يقول: لا تسقط . وقال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن تسقط .
    وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

    423 [ ص: 423 ] قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة: "عزير ابن الله" بغير تنوين . وقرأ عاصم ، والكسائي ، ويعقوب ، وعبد الوارث عن أبي عمرو: منونا . قال مكي بن أبي طالب: من نون عزيرا رفعه على الابتداء ، "وابن" خبره . ولا يحسن حذف التنوين على هذا من "عزير" لالتقاء الساكنين . ولا تحذف ألف "ابن" من الخط ، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين . ومن لم ينون "عزيرا" جعله أيضا مبتدأ ، و"ابن" صفة له; فيحذف التنوين على هذا استخفافا لالتقاء الساكنين ، ولأن الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد ، وتحذف ألف "ابن" من الخط ، والخبر مضمر تقديره: عزير ابن الله نبينا وصاحبنا . وسبب نزولها أن سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزير ابن الله؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال ابن عمر ، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص . فأما العزير ، فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب ، وإن وافق لفظ العربية ، فهو عبراني; كذا قرأته عليه . وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله: يعزروه . وقال ابن عباس : إنما قالوا ذلك ، لأنهم لما علموا بغير الحق ، أنساهم الله التوراة ، ونسخها من صدورهم ، فدعا عزير الله تعالى; فعاد إليه الذي نسخ من صدورهم ، ونزل نور من السماء فدخل جوفه ، فأذن في قومه فقال: قد آتاني الله التوراة; فقالوا: ما أوتيها إلا لأنه ابن الله . وفي رواية عن ابن عباس: أن بختنصر [ ص: 424 ] لما ظهر على بني إسرائيل ، وهدم بيت المقدس ، وقتل من قرأ التوراة ، كان عزير غلاما ، فتركه . فلما توفي عزير ببابل ، ومكث مائة عام ، ثم بعثه الله تعالى إلى بني إسرائيل ، فقال: أنا عزير; فكذبوه وقالوا: قد حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات ببابل ، فإن كنت عزيرا فأملل علينا التوراة; فكتبها لهم; فقالوا: هذا ابن الله .

    وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم جميع بني إسرائيل ، روي عن ابن عباس . والثاني: طائفة من سلفهم ، قاله الماوردي . والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم قولان .

    أحدهما: فنحاص وحده ، وقد ذكرناه عن ابن عمر ، وابن جريج .

    والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس .

    فإن قيل: إن كان قول بعضهم ، فلم أضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة ، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال ، وإن كان لم يركب إلا بغلا واحدا .

    والثاني: أن من لم يقله ، لم ينكره .

    قوله تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله في سبب قولهم هذا قولان .

    أحدهما: لكونه ولد من غير ذكر .

    والثاني: لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الكمه والبرص; وقد شرحنا هذا المعنى في (المائدة:110) .

    قوله تعالى: ذلك قولهم بأفواههم إن قال قائل: هذا معلوم ، فما فائدته؟ فالجواب: أن المعنى: أنه قول بالفم ، لا بيان فيه ، ولا برهان ، ولا تحته معنى صحيح ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: " يضاهون " قرأ الجمهور: من غير همز . وقرأ عاصم: [ ص: 425 ] "يضاهئون" . قال ثعلب: لم يتابع عاصما أحد على الهمز . قال الفراء: وهي لغة . قال الزجاج : "يضاهون" يشابهون قول من تقدمهم من كفرتهم ، فإنما قالوه اتباعا لمتقدميهم . وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة; والأكثر ترك الهمز; واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء ، وهي التي لا ينبت لها ثدي . وقيل: هي التي لا تحيض ، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال . قال ابن الأنباري: يقال: ضاهيت ، وضاهأت: إذا شبهت . وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم عبدة الأوثان ، والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات الله ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنهم اليهود ، فالمعنى أن النصارى في قولهم: المسيح ابن الله ، شابهوا اليهود في قولهم: عزير ابن الله ، قاله قتادة ، والسدي .

    والثالث: أنهم أسلافهم ، تابعوهم في أقوالهم تقليدا ، قاله الزجاج ، وابن قتيبة .

    وفي قوله: قاتلهم الله ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن معناه: لعنهم الله ، قاله ابن عباس . والثاني: قتلهم الله ، قاله أبو عبيدة . والثالث: عاداهم الله ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى: أنى يؤفكون أي: من أين يصرفون عن الحق .

    قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم قد سبق في (المائدة:44) معنى الأحبار والرهبان . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية ، فقال "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" . فعلى هذا المعنى: أنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أرباب . [ ص: 426 ] قوله تعالى: والمسيح ابن مريم قال ابن عباس : اتخذوه ربا .
    يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

    قوله تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله قال ابن عباس : يخمدوا دين الله بتكذيبهم ، يعني: أنهم يكذبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك . وقال الحسن وقتادة: نور الله: القرآن والإسلام . فأما تخصيص ذلك بالأفواه ، فلما ذكرناه في الآية قبلها . وقيل: إن الله تعالى لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور .

    قوله تعالى: ويأبى الله إلا أن يتم نوره قال الفراء: إنما دخلت "إلا" هاهنا ، لأن في الإباء طرفا من الجحد ، ألا ترى أن "أبيت" كقولك: "لم أفعل" ، "ولا أفعل" ، فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد ، قال الشاعر:


    فهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما


    وقال الزجاج : المعنى: ويأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره . قال مقاتل: "يتم نوره" أي: يظهر دينه .
    [ ص: 427 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون

    قوله تعالى: هو الذي أرسل رسوله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم (بالهدى) وفيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه التوحيد . والثاني: القرآن . والثالث: تبيان الفرائض . فأما دين الحق ، فهو الإسلام . وفي قوله: (ليظهره) قولان .

    أحدهما: أن الهاء عائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى: ليعلمه شرائع الدين كلها ، فلا يخفى عليه منها شيء ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنها راجعة إلى الدين . ثم في معنى الكلام قولان .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (262)
    صــ428 إلى صــ 434



    أحدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل . ومتى يكون ذلك؟ [ ص: 428 ] فيه قولان . أحدهما: عند نزول عيسى عليه السلام ، فإنه يتبعه أهل كل دين ، وتصير الملل واحدة ، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدوا الجزية ، قاله أبو هريرة ، والضحاك . والثاني: أنه عند خروج المهدي ، قاله السدي .

    والقول الثاني: أن إظهار الدين إنما هو بالحجج الواضحة ، وإن لم يدخل الناس فيه .
    يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم

    قوله تعالى: إن كثيرا من الأحبار الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى . وفي الباطل أربعة أقوال .

    أحدها: أنه الظلم ، قاله ابن عباس . والثاني: الرشا في الحكم ، قاله الحسن . والثالث: الكذب ، قاله أبو سليمان . والرابع: أخذه من الجهة المحظورة ، قاله القاضي أبو يعلى . والمراد: أخذ الأموال ، وإنما ذكر الأكل ، لأنه معظم المقصود من المال . وفي المراد بسبيل الله هاهنا قولان .

    أحدهما: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، والسدي .

    والثاني: أنه الحق والحكم .

    قوله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت عامة في أهل الكتاب والمسلمين ، قاله أبو ذر ، والضحاك .

    [ ص: 429 ] والثاني أنها خاصة في أهل الكتاب ، قاله معاوية بن أبي سفيان .

    والثالث: أنها في المسلمين ، قاله ابن عباس ، والسدي .

    وفي الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه ما لم تؤد زكاته . قال ابن عمر: كل مال أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز ، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض وإلى هذا المعنى ذهب الجمهور . فعلى هذا ، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة .

    والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف ، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: أربعة آلاف نفقة ، وما فوقها كنز .

    والثالث: ما فضل عن الحاجة ، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزكاة .

    فإن قيل كيف قال: "ينفقونها" وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال .

    والثاني: أنه يرجع إلى الفضة ، وحذف الذهب ، لأنه داخل في الفضة ، قال الشاعر:


    نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف


    يريد: نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض ، ذكر القولين الزجاج .

    [ ص: 430 ] وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين ، كقوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا [النساء:112] ، وقوله: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وأنشد:


    إني ضمنت لمن أتاني ما جنى وأبى وكان وكنت غير غدور


    ولم يقل: غدورين ، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى . قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا ، فخبروا عن أحدهما استغناء بذلك ، وتحقيقا; لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه ، ودخل معه في ذلك الخبر ، وأنشد:


    فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب


    والنصب في "قيار" أجود ، وقد يكون الرفع . وقال حسان بن ثابت:

    إن
    شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا


    ولم يقل يعاصيا
    يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون

    قوله تعالى: يوم يحمى عليها في نار جهنم أي: على الأموال . قال ابن [ ص: 431 ] مسعود: والله ما من رجل يكوى بكنز ، فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته .

    وقال ابن عباس : هي حية تنطوي على جنبيه وجبهته ، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به .

    قوله تعالى: هذا ما كنزتم فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون أي: عذاب ذلك .

    فإن قيل: لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟

    فالجواب: أن هذه المواضع مجوفة ، فيصل الحر إلى أجوافها ، بخلاف اليد والرجل . وكان أبو ذر يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور ، حتى يلتقي الحر في أجوافهم . وجواب آخر: وهو أن الغني إذا رأى الفقير ، انقبض; وإذا ضمه وإياه مجلس ، ازور عنه وولاه ظهره ، قاله أبو بكر الوراق .
    [ ص: 432 ] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين

    قوله تعالى: إن عدة الشهور عند الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله ، فربما وقع حجهم في رمضان ، وربما وقع في شوال ، إلى غير ذلك; وكانوا يستحلون المحرم عاما ، ويحرمون مكانه صفر ، وتارة يحرمون المحرم ويستحلون صفر . قال الزجاج : أعلم الله عز وجل أن عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهرا على منازل القمر; فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد ، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء ، وتارة في الصيف ، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب ، فإنهم يعملون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم . وجمهور القراء على فتح "عين اثنا عشر" . وقرأ أبو جعفر: اثنا عشر ، وأحد عشر ، وتسعة عشر ، بسكون العين فيهن .

    قوله تعالى: في كتاب الله أي: في اللوح المحفوظ . قال ابن عباس : في الإمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم وفيها قولان .

    أحدهما: أنها رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، قاله الأكثرون وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حرما لمعنيين .

    أحدهما: تحريم القتال فيها ، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضا . والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشد من تعظيمه في غيرها ، وكذلك تعظيم الطاعات فيها .

    [ ص: 433 ] والثاني: أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها للسياحة ذكره ابن قتيبة .

    قوله تعالى: ذلك الدين القيم فيه قولان .

    أحدهما: ذلك القضاء المستقيم ، قاله ابن عباس .

    والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي ، قاله ابن قتيبة .

    قوله تعالى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم اختلفوا في كناية "فيهن" على قولين .

    أحدهما: أنها تعود على الاثنى عشر ، شهرا قاله ابن عباس . فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كفعل أهل النسيء .

    والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم ، وهو قول قتادة ، والفراء; واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خلون ، وأيام خلون; فإذا جزت العشرة قالوا: خلت ومضت; ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هن ، وهؤلاء ، فإذا جزت العشرة ، قالوا: هي ، وهذه; إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير . وقال ابن الأنباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد ، والهاء والألف على الكثير منه; والقلة: ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والكثرة: ما جاوز العشرة . يقولون: وجهت إليك أكبشا فاذبحهن ، وكباشا فاذبحها; فلهذا قال: منها أربعة حرم وقال فلا تظلموا فيهن لأنه يعني بقوله "فيهن" الأربعة .

    ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله: "فيهن" الاثني عشر ، فإنه ممكن; لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير ، وعلامة الكثير للقليل . وعلى قول من قال: ترجع "فيهن" إلى الأربعة; يخرج في معنى الظلم فيهن أربعة أقوال .

    [ ص: 434 ] أحدها: أنه المعاصي; فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر ، أن شأن المعاصي يعظم فيها أشد من تعظيمه في غيرها ، وذلك لفضلها على ما سواها ، كقوله: وجبريل وميكال [البقرة:98] وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة ، وقوله: فاكهة ونخل ورمان [الرحمن:68] وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة ، وقوله: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [البقرة:197] وإن كان منهيا عنه في غير الحج ، وكما أمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على غيرها ، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أن المراد بالظلم فيهن فعل النسيء ، وهو تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال ، قاله ابن إسحاق .

    والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن; فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تبدؤوا بالقتال قاله مقاتل .

    والرابع: أنه ترك القتال فيهن; فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوكم ، قاله ابن بحر ، وهو عكس قول مقاتل . والسر في أن الله تعالى عظم بعض الشهور على بعض ، ليكون الكف عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجا للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (263)
    صــ435 إلى صــ 441



    إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين

    قوله تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر الجمهور على همز النسيء ومده وكسر سينه .

    وروى شبل عن ابن كثير: "النسء" على وزن النسع . وفي [ ص: 435 ] رواية أخرى عن شبل: "النسي" مشددة الياء من غير همز ، وهي قراءة أبي جعفر; والمراد بالكلمة التأخير . قال اللغويون: النسيء: تأخير الشيء . وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة ، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم; فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده; ثم تتدافع الشهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها ، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه ، فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم ، لأنهم أحلوا الحرام ، وحرموا الحلال (ليواطؤوا) أي: ليوافقوا (عدة ما حرم الله) فلا يخرجون من تحريم أربعة ، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم ، ولا يبالون بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال . وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم ، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منى ، قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء; فيقولون: أنسئنا شهرا; يريدون: أخر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ، فيفعل ذلك . وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها ، وإنما كان معاشهم من الإغارة ، فتستدير الشهور كما بينا . وقيل: إنما كانوا يستحلون المحرم عاما ، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه . قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إلي ، لأن هذا القول ليس فيه استدارة .

    وقال مجاهد: كان أول من أظهر النسيء جنادة بن عوف الكناني ، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة ، فذلك حين قال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات [ ص: 436 ] والأرض" . وقال الكلبي: أول من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة .

    قوله تعالى: يضل به الذين كفروا وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم: "يضل" بفتح الياء وكسر الضاد ، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم: "يضل" بضم الياء وفتح الضاد ، على ما لم يسم فاعله . وقرأ الحسن البصري ، ويعقوب إلا الوليد: "يضل" بضم الياء وكسر الضاد; وفيه ثلاثة أوجه .

    أحدها: يضل الله به . والثاني: يضل الشيطان به ، ذكرهما ابن القاسم . والثالث: يضل به الذين كفروا الناس ، لأنهم الذين سنوه لهم .

    قال أبو علي: التقدير: يضل به الذين كفروا تابعيهم . وقال ابن القاسم: الهاء في "به" راجعة إلى النسيء ، وأصل النسيء: المنسوء ، أي: المؤخر ، فينصرف عن "مفعول" إلى "فعيل" كما قيل: مطبوخ وطبيخ ، ومقدور وقدير ، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم ، لأن النسيء كشف تأويل الظلم ، فجرى مجرى المظهر; والأول اختيارنا .
    يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل

    قوله تعالى: ما لكم إذا قيل لكم انفروا قال المفسرون: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزوة تبوك ، وكان في زمن عسرة وجدب وحر شديد ، وقد طابت الثمار ، [ ص: 437 ] عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام ، فنزلت هذه الآية .

    وقوله: "ما لكم" استفهام معناه التوبيخ . وقوله: (انفروا) معناه: اخرجوا . وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك . وقوله: اثاقلتم قال ابن قتيبة: أراد: تثاقلتم ، فأدغم التاء في الثاء ، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها ، وأراد: قعدتم . وفي قراءة ابن مسعود ، والأعمش: "تثاقلتم" .

    وفي معنى (إلى الأرض) ثلاثة أقوال .

    أحدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا ، حين أخرجت الأرض ثمرها ، قاله مجاهد .

    والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا ، قاله الضحاك .

    والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم ، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: أرضيتم بالحياة الدنيا أي: بنعيمها من نعيم الآخرة ، فما يتمتع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يتمتع به الأولياء في الجنة .
    إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير

    قوله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثهم [ ص: 438 ] على غزو الروم تثاقلوا ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس . وقال قوم: هذه خاصة في من استنفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر . قال ابن عباس استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم .

    وفي قوله: ويستبدل قوما غيركم وعيد شديد في التخلف عن الجهاد ، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوما غير متثاقلين . ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه ، كما لم يضرره ذلك إذ كان بمكة . وفي هاء "تضروه" قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى الله ، والمعنى: لا تضروا الله بترك النفير ، قاله الحسن .

    والثاني: أنها ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى: لا تضروه بترك نصره ، قاله الزجاج .

    فصل

    وقد روي عن ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، قالوا: نسخ قوله: إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة:122] ، وقال أبو سليمان الدمشقي: ليس هذا من المنسوخ ، إذ لا تنافي بين الآيتين ، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها . وذكر القاضي أبو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو ، ففرض على الناس النفير إليهم ، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم ، عذر القاعدون عنهم . وقال قوم هذا في غزوة تبوك ، ففرض على الناس النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    [ ص: 439 ] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم

    قوله تعالى: إلا تنصروه أي: بالنفير معه فقد نصره الله إعانة على أعدائه; إذ أخرجه الذين كفروا حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال:30] فأعلمهم أن نصره ليس بهم .

    قوله تعالى: ثاني اثنين العرب تقول: هو ثاني اثنين ، أي: أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، أي: أحد الثلاثة ، قال الزجاج : وقوله: ثاني اثنين منصوب على الحال; المعنى: قد نصره الله أحد اثنين ، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر .

    وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر .

    وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين ، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر . فأما الغار ، فهو ثقب في الجبل ، وقال ابن فارس: الغار: الكهف ، والغار: نبت طيب الريح ، والغار: الجماعة من الناس ، والغاران: البطن والفرج ، وهما الأجوفان ، يقال: إنما هو عبد غاريه . قال الشاعر:


    ألم تر أن الدهر يوم وليلة وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا


    قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور . قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثا . وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب "الحدائق" .

    قال أنس بن مالك: [ ص: 440 ] أمر الله عز وجل شجرة فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه ، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار ، فلما دنوا من الغار ، عجل بعضهم لينظر ، فرأى حمامتين ، فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار ، فعلمت أنه ليس فيه أحد . وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة ، والأخرى لا أعرفها ، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام . وصاحبه في هذه الآية أبو بكر ، وكان أبو بكر قد بكى لما مر المشركون على باب الغار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"؟

    وفي السكينة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الرحمة ، قاله ابن عباس . والثاني: الوقار ، قاله قتادة . والثالث: السكون والطمأنينة ، قاله ابن قتيبة ، وهو أصح .

    وفي هاء "عليه" ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها ترجع إلى أبي بكر ، وهو قول علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وحبيب بن أبي ثابت . واحتج من نصر هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مطمئنا .

    والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . [ ص: 441 ] والثالث: أن الهاء هاهنا في معنى تثنية ، والتقدير: فأنزل الله سكينته عليهما ، فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما ، كقوله: والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة:62] ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى: وأيده أي: قواه ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف . بجنود لم تروها وهم الملائكة . ومتى كان ذلك؟ فيه قولان .

    أحدهما: يوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، قاله ابن عباس .

    والثاني: لما كان في الغار ، صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته ، قاله الزجاج .

    فإن قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في "أيده" ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف تفارقها هاء "عليه" وهما متفقتان في نظم الكلام؟

    فالجواب: أن كل حرف يرد إلى الأليق به ، والسكينة إنما يحتاج إليها المنزعج ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم منزعجا . فأما التأييد بالملائكة ، فلم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ونظير هذا قوله: لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [الفتح:8] يعني النبي صلى الله عليه وسلم (وتسبحوه) يعني الله عز وجل .

    قوله تعالى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى فيها قولان .

    أحدهما: أن كلمة الكافرين الشرك ، جعلها الله السفلى لأنها مقهورة ، وكلمة الله وهي التوحيد ، هي العليا ، لأنها ظهرت ، هذا قول الأكثرين .

    والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله أنه ناصره ، رواه عطاء عن ابن عباس . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، ويعقوب: "وكلمة الله" بالنصب .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (264)
    صــ442 إلى صــ 448


    قوله تعالى: والله عزيز أي: في انتقامه من الكافرين (حكيم) في تدبيره .
    انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون

    قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا سبب نزولها أن المقداد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عظيما سمينا ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له ، فنزلت هذه الآية قاله السدي . وفي معنى "خفافا وثقالا" أحد عشر قولا .

    أحدها: شيوخا وشبابا ، رواه أنس عن أبي طلحة ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو صالح ، وشمر بن عطية ، وابن زيد في آخرين .

    والثاني: رجالة وركبانا ، رواه عطاء عن ابن عباس ، وبه قال الأوزاعي .

    والثالث: نشاطا وغير نشاط ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، ومقاتل .

    والرابع: أغنياء وفقراء ، روي عن ابن عباس . ثم في معنى هذا الوجه قولان . أحدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلة العيال ، والثقال: ذوو العيال والميسرة ، قاله الفراء . والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة ، والثقال: أهل العسرة ، حكي عن الزجاج .

    والخامس: ذوي عيال ، وغير عيال . قاله زيد بن أسلم .

    والسادس: ذوي ضياع ، وغير ذوي ضياع ، قاله ابن زيد .

    والسابع: ذوي أشغال ، وغير ذوي أشغال ، قاله الحكم .

    [ ص: 443 ] والثامن: أصحاء ، ومرضى ، قاله مرة الهمداني ، وجويبر .

    والتاسع: عزابا ومتأهلين ، قاله يمان بن رياب .

    والعاشر: خفافا إلى الطاعة ، وثقالا عن المخالفة ، ذكره الماوردي .

    والحادي عشر: خفافا من السلاح ، وثقالا بالاستكثار منه ، ذكره الثعلبي .

    فصل

    روى عطاء الخراساني عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة:122] . وقال السدي: نسخت بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى [التوبة:91] .

    قوله تعالى: وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعا ، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال ، فعليه الجهاد بماله ، بأن يعطيه غيره فيغزو به ، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويا . وإن كان له مال وقوة ، فعليه الجهاد بالنفس والمال . ومن كان معدما عاجزا ، فعليه الجهاد بالنصح لله ورسوله ، لقوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله [التوبة:91] .

    [ ص: 444 ] قوله تعالى: ذلكم خير لكم فيه قولان .

    أحدهما: ذلكم خير لكم من تركه والتثاقل عنه .

    والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إن كنتم تعلمون ما لكم من الثواب .
    لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون

    قوله تعالى: لو كان عرضا قريبا قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك . ومعنى الآية: لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا . والعرض: كل ما عرض لك من منافع الدنيا ، فالمعنى: لو كانت غنيمة ، قريبة ، أو كان سفرا قاصدا ، أي: سهلا قريبا لاتبعوك طمعا في المال ولكن بعدت عليهم الشقة قال ابن قتيبة الشقة: السفر; وقال الزجاج : الشقة: الغاية التي تقصد; وقال ابن فارس: الشقة: مصير إلى أرض بعيدة ، تقول: شقة شاقة .

    قوله تعالى: وسيحلفون بالله يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم (لو استطعنا) وقرأ زائدة عن الأعمش ، والأصمعي عن نافع: "لو استطعنا" بضم الواو ، وكذا أين وقع ، مثل لو اطلعت عليهم [الكهف:18] ، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو ، حركت بالضم لأنها أخت الواو ، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سعة في المال . (يهلكون أنفسهم) بالكذب والنفاق والله يعلم إنهم لكاذبون لأنهم كانوا أغنياء ولم يخرجوا .
    عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .

    قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم كان صلى الله عليه وسلم قد أذن لقوم من [ ص: 445 ] المنافقين في التخلف لما خرج إلى تبوك ، قال ابن عباس : ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين . قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى; فعاتبه الله كما تسمعون . قال مورق: عاتبه ربه بهذا . وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف ، بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب وقال ابن الأنباري: لم يخاطب بهذا لجرم أجرمه ، لكن الله وقره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله: عفا الله عنك كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريما عليه: عفا الله عنك ، ما صنعت في حاجتي؟ ورضى الله عنك ، هلا زرتني .

    قوله تعالى: حتى يتبين لك الذين صدقوا فيه قولان .

    أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له .

    والثاني: لو لم تأذن لهم ، لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم . قال قتادة: ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله: فأذن لمن شئت منهم [النور:62] .
    لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون

    قوله تعالى: لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله قال ابن عباس : هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود . قال الزجاج : أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان .

    [ ص: 446 ] فصل

    وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله: لم يذهبوا حتى يستأذنوه . . . إلى آخر الآية[النور:62] . قال أبو سليمان الدمشقي: وليس للنسخ هاهنا مدخل لإمكان العمل بالآيتين ، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة ، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة ، ذهبوا من غير استئذانه .
    ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين

    قوله تعالى: ولو أرادوا الخروج يعني المستأذنين له في القعود .

    وفي المراد بالعدة قولان .

    أحدهما: النية ، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثاني: السلاح ، والمركوب ، وما يصلح للخروج ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والانبعاث: الانطلاق . والتثبط: ردك الإنسان عن الشيء يفعله .

    قوله تعالى: وقيل اقعدوا في القائل لهم ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم ألهموا ذلك خذلانا لهم ، قاله مقاتل . والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله غضبا عليهم . والثالث: أنه قول بعضهم لبعض ، ذكرهما الماوردي .

    [ ص: 447 ] وفي المراد بالقاعدين قولان .

    أحدهما: أنهم القاعدون بغير عذر ، قاله ابن السائب .

    والثاني: أنهم القاعدون بعذر ، كالنساء والصبيان ، ذكره علي بن عيسى .

    وقال الزجاج : ثم أعلم الله عز وجل لم كره خروجهم ، فقال: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا والخبال: الفساد وذهاب الشيء . وقال ابن قتيبة: الخبال: الشر .

    فإن قيل: كأن الصحابة كان فيها خبال حتى قيل: (ما زادوكم إلا خبالا)؟ فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع ، والمعنى: ما زادوكم قوة ، لكن أوقعوا بينكم خبالا . وقيل: سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج ، ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وخرج عبد الله بن أبي ، فضرب عسكره على أسفل من ذلك; فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تخلف ابن أبي فيمن تخلف من المنافقين ، فنزلت هذه الآية .

    قوله تعالى: ولأوضعوا خلالكم قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم . وقال أبو عبيدة: لأسرعوا بينكم ، وأصله من التخلل . قال الزجاج : يقال: أوضعت في السير: أسرعت .

    قوله تعالى: يبغونكم الفتنة قال الفراء: يبغونها لكم . وفي الفتنة قولان .

    أحدهما: الكفر ، قاله الضحاك ، ومقاتل ، وابن قتيبة .

    [ ص: 448 ] والثاني: تفريق الجماعة ، وشتات الكلمة . قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم .

    قوله تعالى: وفيكم سماعون لهم فيه قولان .

    أحدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم ، قاله مجاهد ، وابن زيد .

    والثاني: من يسمع كلامهم ويطيعهم ، قاله قتادة ، وابن إسحاق .
    لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون

    قوله تعالى: لقد ابتغوا الفتنة في الفتنة قولان .

    أحدهما: الشر ، قاله ابن عباس . والثاني: الشرك ، قاله مقاتل .

    قوله تعالى: من قبل أي: من قبل غزوة تبوك .

    وفي قوله: وقلبوا لك الأمور خمسة أقوال .

    أحدها: بغوا لك الغوائل ، قاله ابن عباس . وقيل: إن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على طريقه ليلا ليفتكوا به ، فسلمه الله منهم .

    والثاني: احتالوا في تشتت أمرك وإبطال دينك ، قاله أبو سليمان الدمشقي . قال ابن جرير: وذلك كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه .

    والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم .

    والرابع أنه ميلهم إليك في الظاهر ، وممالأة المشركين في الباطن .

    والخامس: أنه حلفهم بالله (لو استطعنا لخرجنا معكم) ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي .

    قوله تعالى: حتى جاء الحق يعني النصر (وظهر أمر الله) يعني الإسلام .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (265)
    صــ449 إلى صــ 455



    ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين

    قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجد بن قيس: "يا جد ، هل لك في جلاد بني الأصفر ، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر" فقال: يا رسول الله ، ائذن لي فأقيم ، ولا تفتني ببنات الأصفر . فأعرض عنه ، وقال: "قد أذنت لك" ونزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وهذه الآية وما بعدها إلى قوله: إنما الصدقات في المنافقين .

    قوله تعالى: ومنهم يعني المنافقين (من يقول ائذن لي) أي: في القعود عن الجهاد ، وهو الجد بن قيس . وفي قوله: ولا تفتني أربعة أقوال .

    أحدها: لا تفتني بالنساء ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد .

    والثاني: لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي ، فآثم بالمخالفة ، قاله الحسن ، وقتادة ، والزجاج .

    والثالث: لا تكفرني بإلزامك إياي الخروج ، قاله الضحاك .

    والرابع: لا تصرفني عن شغلي ، قاله ابن بحر .

    قوله تعالى: ألا في الفتنة سقطوا في هذه الفتنة أربعة أقوال .

    أحدها: أنها الكفر ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: الحرج ، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: الإثم ، قاله قتادة ، والزجاج . والرابع: العذاب في جهنم ، ذكره الماوردي .
    [ ص: 450 ] إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون

    قوله تعالى: إن تصبك حسنة أي: نصر وغنيمة . والمصيبة: القتل والهزيمة . (يقولوا قد أخذنا أمرنا) أي: عملنا بالحزم فلم نخرج . (ويتولوا وهم فرحون) بمصابك وسلامتهم .

    قوله تعالى: إلا ما كتب الله لنا فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها: ما قضى علينا ، قاله ابن عباس .

    والثاني: ما بين لنا في كتبه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا ، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضا ، قاله الزجاج .

    والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وعدنا ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: هو مولانا أي: ناصرنا .
    قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون

    قوله تعالى: قل هل تربصون بنا أي: تنتظرون . والحسنيان: النصر والشهادة . ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده في هذا العذاب قولان .

    [ ص: 451 ] أحدهما: الصواعق ، قاله ابن عباس . والثاني: الموت ، قاله ابن جريج .

    قوله تعالى: أو بأيدينا يعني: القتل .
    قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين

    قوله تعالى: أنفقوا طوعا أو كرها سبب نزولها أن الجد بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم: إذا رأيت النساء افتتنت ، ولكن هذا مالي أعينك به ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن عباس . قال الزجاج : وهذا لفظ أمر ، ومعناه معنى الشرط والجزاء ، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم . ومثله في الشعر قول كثير:


    أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت


    لم يأمرها بالإساءة ، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها . قال الفراء: ومثله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [التوبة:80] .
    وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون

    قوله تعالى: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم قرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو وابن عامر: "تقبل" بالتاء . وقرأ حمزة ، والكسائي: "يقبل" [ ص: 452 ] بالياء . قال أبو علي: من أنث ، فلأن الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ; ومن قرأ بالياء ، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي ، فجاز تذكيره ; كقوله: فمن جاءه موعظة من ربه [البقرة:275] . وقرأ الجحدري: "أن يقبل" بياء مفتوحة ، "نفقاتهم" بكسر التاء . وقرأ الأعمش: "نفقتهم" بغير ألف ، مرفوعة التاء . وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء: "أن يقبل" بالياء "نفقتهم" بنصب التاء على التوحيد .

    قوله تعالى: إلا أنهم كفروا بالله قال ابن الأنباري: "أن" هاهنا مفتوحة ، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة بـ منعهم والتقدير وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم بالله .

    قوله تعالى: إلا وهم كسالى قد شرحناه في سورة (النساء:142) .

    قوله تعالى: ولا ينفقون إلا وهم كارهون لأنهم يعدون الإنفاق مغرما .
    فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون

    قوله تعالى: فلا تعجبك أموالهم أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد . وفي معنى الآية أربعة أقوال .

    أحدها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وابن قتيبة . فعلى هذا ، في الآية تقديم وتأخير ، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها .

    والثاني: أنها على نظمها ، والمعنى: ليعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، فهي لهم عذاب ، وللمؤمنين أجر ، قاله ابن زيد .

    [ ص: 453 ] والثالث: أن المعنى: ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل الله ، قاله الحسن . فعلى هذا ، ترجع الكناية إلى الأموال وحدها .

    والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم ، ذكره الماوردي . فعلى هذا تكون في المشركين .

    قوله تعالى: وتزهق أنفسهم أي: تخرج ، يقال: زهق السهم: إذا جاوز الهدف .
    ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون

    قوله تعالى: ويحلفون بالله إنهم لمنكم أي: مؤمنون ، و (يفرقون) بمعنى يخافون . فأما الملجأ ، فقال الزجاج : الملجأ واللجأ مقصور مهموز ، وهو المكان الذي يتحصن فيه . والمغارات: جمع مغارة ، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان ، أي: يستتر فيه . وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة: "أو مغارات" بضم الميم; لأنه يقال: أغرت وغرت: إذا دخلت الغور . وأصل مدخل: مدتخل ، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالا ، لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، والتاء والدال من مكان واحد ، فكان الكلام من وجه واحد أخف . وقرأ أبي ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء: "أو متدخلا" برفع الميم ، وبتاء ودال مفتوحتين ، مشددة الخاء . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران: "مندخلا" بنون بعد الميم المضمومة . وقرأ الحسن ، وابن يعمر ، ويعقوب: "مدخلا" بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها . قال الزجاج : من قال: "مدخلا" فهو من دخل يدخل مدخلا; ومن قال: "مدخلا" فهو من أدخلته مدخلا ، قال الشاعر:

    [ ص: 454 ]
    الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صبحنا ربي ومسانا


    ومعنى مدخل: أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم (لولوا) إليه ، أي: إلى أحد هذه الأشياء ( وهم يجمحون) أي: يسرعون إسراعا لا يرد فيه وجوههم شيء . يقال: جمح وطمح: إذا أسرع ولم يرد وجهه شيء; ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام .
    ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون

    قوله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات فيمن نزلت فيه قولان .

    أحدهما: أنه ذو الخويصرة التميمي ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوما: اعدل يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية . ويقال: أبو الخواصر . ويقال: ابن ذي الخويصرة .

    والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب ، كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء ، فنزلت هذه الآية . قال ابن قتيبة: "يلمزك" يعيبك ويطعن عليك . يقال: همزت فلانا ولمزته: إذا اغتبته وعبته; والأكثرون على كسر ميم "يلمزك" . وقرأ يعقوب ، ونظيف عن قنبل ، وأبان عن عاصم ، والقزاز عن عبد الوارث: "يلمزون"[التوبة:79] "ويلمزك" ولا "تلمزوا"[الحجرات:11] بضم الميم فيهن . وقرأ ابن السميفع: "يلامزك" مثل: يفاعلك . وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير . قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من أحد ، ونحو: طارقت النعل ، وعافاه الله ، لأن هذا لا يكون من النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ الأعمش: "يلمزك" بتشديد الميم من [ ص: 455 ] غير ألف ، مثل: يفعلك .

    قال الزجاج : يقال: لمزت الرجل ألمزه وألمزه ، بكسر الميم وضمها: إذا عبته ، وكذلك: همزته أهمزه ، قال الشاعر:


    إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
    ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

    قوله تعالى: ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله أي: قنعوا بما أعطوا . إنا إلى الله راغبون في الزيادة ، أي: لكان خيرا لهم . وهذا جواب "لو" وهو محذوف في اللفظ .

    ثم بين المستحق للصدقات بقوله: إنما الصدقات للفقراء والمساكين اختلفوا في صفة الفقير والمسكين على ستة أقوال .

    أحدها: أن الفقير: المتعفف عن السؤال ، والمسكين: الذي يسأل وبه رمق ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وجابر بن زيد ، والزهري ، والحكم ، وابن زيد ، ومقاتل .

    والثاني: أن الفقير: المحتاج الذي به زمانة ، والمسكين: المحتاج الذي لا زمانة به ، قاله قتادة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (266)
    صــ456 إلى صــ 462




    والثالث: الفقير: المهاجر ، والمسكين: الذي لم يهاجر ، قاله الضحاك بن مزاحم ، والنخعي .

    والرابع: الفقير: فقير المسلمين ، والمسكين: من أهل الكتاب ، قاله عكرمة .

    والخامس: أن الفقير: من له البلغة من الشيء ، والمسكين: الذي ليس له شيء ، قاله أبو حنيفة ، ويونس بن حبيب ، ويعقوب بن السكيت ، وابن قتيبة . واحتجوا بقول الراعي:


    أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد


    فسماه فقيرا ، وله حلوبة تكفيه وعياله . وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا والله ، بل مسكين; يريد: أنه أسوأ حالا من الفقير .

    والسادس: أن الفقير أمس حاجة من المسكين ، وهذا مذهب أحمد ، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفقار ، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع ، وذلك أبلغ . قال ابن الأنباري: ويروى عن الأصمعي أنه قال: المسكين أحسن حالا من الفقير . وقال أحمد بن عبيد: المسكين أحسن حالا من الفقير ، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فقره من فقر ظهره ، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر; فصره عن مفقور إلى فقير ، كما قيل: مجروح وجريح ، ومطبوخ وطبيخ ، قال الشاعر:

    [ ص: 457 ] لما رأى لبد
    النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل


    قال: ومن الحجة لهذا القول قوله: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [الكهف:79] ، فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا; قال: وهو الصحيح عندنا .

    قوله تعالى: والعاملين عليها وهم السعاة لجباية الصدقة ، يعطون منها بقدر أجور أمثالهم ، وليس ما يأخذونه بزكاة .

    قوله تعالى: والمؤلفة قلوبهم وهم قوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم على الإسلام بما يعطيهم ، وكانوا ذوي شرف ، وهم صنفان: مسلمون وكافرون . فأما المسلمون ، فصنفان; صنف كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة ، فتألفهم تقوية لنياتهم ، كعيينة بن حصن ، والأقرع; وصنف كانت نياتهم حسنة ، فأعطوا تألفا لعشائرهم من المشركين ، مثل عدي بن حاتم . وأما المشركون ، فصنفان; صنف يقصدون المسلمين بالأذى ، فتألفهم دفعا لأذاهم ، مثل عامر بن الطفيل; وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام ، تألفهم بالعطية ليؤمنوا ، كصفوان بن أمية . وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب "التلقيح" . وحكمهم باق عند أحمد في رواية ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي: حكمهم منسوخ . قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة قلوبهم .

    قوله تعالى: وفي الرقاب قد ذكرناه في سورة (البقرة:177) . [ ص: 458 ] قوله تعالى: والغارمين وهم الذين لزمهم الدين ولا يجدون القضاء . قال قتادة: هم ناس عليهم دين من غير فساد ولا إسراف ولا تبذير ، وإنما قال هذا ، لأنه لا يؤمن في حق المفسد إذا قضى دينه أن يعود إلى الاستدانة لذلك; ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه ، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية .

    قوله تعالى: وفي سبيل الله يعني: الغزاة والمرابطين . ويجوز عندنا أن نعطي الأغنياء منهم والفقراء ، وهو قول الشافعي . وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم . وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج ، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان .

    قوله تعالى: وابن السبيل هو المسافر المنقطع به ، وإن كان له مال في بلده; قاله مجاهد ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد . فأما إذا أراد أن ينشئ سفرا ، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي: يجوز ، وعن أحمد مثله; وقد ذكرنا في سورة (البقرة:177) فيه أقوالا عن المفسرين .

    قوله تعالى: فريضة من الله يعني أن الله افترض هذا .

    فصل

    وحد الغني الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكا لخمسين درهما ، أو عدلها من الذهب ، سواء كان ذلك يقوم بكفايته ، أو لا يقوم . والثاني: أن يكون له كفاية إما من صناعة ، أو أجرة عقار ، أو عروض [ ص: 459 ] للتجارة يقوم ربحها بكفايته . وقال أبو حنيفة: الاعتبار في ذلك أن يكون مالكا لنصاب تجب عليه فيه الزكاة . فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة ، فهم بنو هاشم ، وبنو المطلب . وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد هاشم ، ولا تحرم على ولد المطلب . ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها ، خلافا لأبي حنيفة . فأما موالي بني هاشم وبني المطلب فتحرم عليهم الصدقة ، خلافا لمالك . ولا يجوز أن يعطي صدقته من تلزمه نفقته; وبه قال مالك ، والثوري . وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعطي والدا وإن علا ، ولا ولدا وإن سفل ، ولا زوجه ، ويعطي من عداهم . فأما الذمي; فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه . وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلما ، أعطي الذمي . ولا يجب استيعاب الأصناف ، ولا اعتبار عدد من كل صنف; وهو قول أبي حنيفة ، ومالك; وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة .

    فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تقصر فيه الصلاة ، فلا يجوز له ذلك ، فإن نقلها لم يجزئه; وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أبو حنيفة: يكره نقلها ، وتجزئه . قال أحمد: ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما . وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم ، وإن أعطيته أجزأك . فأما الشافعي ، فاعتبر ما يدفع الحاجة من غير حد . فإن أعطي من يظنه فقيرا ، فبان أنه غني ، فهل يجزئ؟ فيه عن أحمد روايتان .
    ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم

    قوله تعالى: ومنهم الذين يؤذون النبي في سبب نزولها ثلاثة أقوال . [ ص: 460 ] أحدها: أن خذام بن خالد ، والجلاس بن سويد ، وعبيد بن هلال في آخرين ، كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا ، فإنا نخاف أن يبلغه فيقع بنا ، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا ، فإنما محمد أذن سامعة ، ثم نأتيه فيصدقنا; فنزلت هذه الآية; قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن رجلا من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث ، كان ينم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له: لا تفعل; فقال: إنما محمد أذن ، من حدثه شيئا ، صدقه; نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا ، فنزلت هذه الآية; قاله محمد بن إسحاق .

    والثالث: أن ناسا من المنافقين منهم جلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ، اجتمعوا ، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه ، فتكلموا وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حقا ، لنحن شر من الحمير ، فغضب الغلام ، وقال: والله إن ما يقوله محمد حق ، وإنكم لشر من الحمير; ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كاذب ، وحلف عامر أنهم كذبوا ، وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق ، وكذب الكاذب; فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله: يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، قاله السدي . فأما الأذى ، فهو عيبه ونقل حديثه . ومعنى (أذن) يقبل كل ما قيل [ ص: 461 ] له .

    قال ابن قتيبة: الأصل في هذا أن الأذن هي السامعة ، فقيل لكل من صدق بكل خبر يسمعه: أذن . وجمهور القراء يقرؤون (هو أذن قل أذن) بالتثقيل . وقرأ نافع "هو أذن قل أذن خير" بإسكان الذال فيهما . ومعنى "أذن خير لكم" أي: أذن خير ، لا أذن شر; يسمع الخير فيعمل به ، ولا يعمل بالشر إذا سمعه . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة "أذن" بالتنوين "خير" بالرفع . والمعنى: إن كان كما قلتم ، يسمع منكم ويصدقكم ، خير لكم من أن يكذبكم . قال أبو علي: يجوز أن تطلق الأذن على الجملة كما قال الخليل: إنما سميت الناب من الإبل ، لمكان الناب البازل ، فسميت الجملة كلها به ، فأجروا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها .

    ثم بين ممن يقبل ، فقال يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان; والمعنى: يصدق الله ويصدق المؤمنين . وقال الزجاج : يسمع ما ينزله الله عليه ، فيصدق به ، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به . ورحمة أي وهو رحمة ، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين . وقرأ حمزة "ورحمة" بالخفض . قال أبو علي: المعنى: أذن خير ورحمة . والمعنى: مستمع خير ورحمة .
    يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين قوله تعالى: يحلفون بالله لكم ليرضوكم قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم ، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم ، ويحلفون ويعتلون . وقال مقاتل: منهم عبد الله بن أبي ، حلف لا يتخلف [ ص: 462 ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليكونن معه على عدوه . وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب . وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في "ليرضوكم" بمعنى القسم ، والمعنى: يحلفون بالله لكم لنرضينكم . قال: وهذا خطأ ، لأنهم إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا باليمين ، ولم يحلفوا أنهم يرضون في المستقبل . قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج ، وقد مال إليه الأخفش .

    قوله تعالى: والله ورسوله أحق أن يرضوه فيه قولان .

    أحدهما: بالتوبة والإنابة . والثاني: بترك الطعن والعيب .

    فإن قيل: لم قال: "يرضوه" ولم يقل: يرضوهما؟ فقد شرحنا هذا عند قوله: ولا ينفقونها في سبيل الله [التوبة:34] .
    ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم

    قوله تعالى: ألم يعلموا روى أبو زيد عن المفضل "ألم تعلموا" بالتاء .

    أنه من يحادد الله فيه قولان .

    أحدهما: من يخالف الله ، قاله ابن عباس .

    والثاني: من يعادي ، الله ، كقولك: من يجانب الله ورسوله ، أي: يكون في حد ، والله ورسوله في حد .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (267)
    صــ463 إلى صــ 469


    قوله تعالى: فإن له نار جهنم قرأ الجمهور: "فأن" بفتح الهمزة . وقرأ أبو رزين ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة: بكسرها . فمن كسر ، فعلى الاستئناف بعد الفاء ، كما تقول: فله نار جهنم . ودخلت "إن" مؤكدة . ومن قال: [ ص: 463 ] "فإن له" فإنما أعاد "أن" الأولى توكيدا; لأنه لما طال الكلام ، كان إعادتها أوكد .
    يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون

    قوله تعالى: يحذر المنافقون في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم ، ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .

    والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جلدت مائة جلدة ، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ، فنزلت هذه الآية ، قاله السدي .

    والثالث: أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به ، فأخبره جبريل عليه السلام ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن كيسان .

    وفي قوله: يحذر المنافقون قولان .

    أحدهما: أنه إخبار من الله عز وجل عن حالهم ، قاله الحسن وقتادة ، واختاره ابن القاسم .

    والثاني: أنه أمر من الله عز وجل لهم بالحذر ، فتقديره: ليحذر المنافقون ، قاله الزجاج . قال ابن الأنباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر ، فيقولون: يرحم الله المؤمن ، ويعذب الكافر; يريدون: ليرحم وليعذب ، فيسقطون اللام ، ويجرونه مجرى الخبر في الرفع ، وهم لا ينوون إلا الدعاء; والدعاء مضارع للأمر .

    [ ص: 464 ] قوله تعالى: قل استهزئوا هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديدا .

    وفي قوله: إن الله مخرج ما تحذرون وجهان .

    أحدهما: مظهر ما تسرون . والثاني: ناصر من تخذلون ، ذكرهما الماوردي .
    ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين

    قوله تعالى: ولئن سألتهم في سبب نزولها ستة أقوال .

    أحدها: أن جد بن قيس ، ووديعة بن خذام ، والجهير بن خمير ، كانوا يسيرون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك ، فجعل رجلان منهم يستهزآن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثالث يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء ، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزؤون به ويضحكون; فقال لعمار بن ياسر "اذهب" فسلهم عما كانوا يضحكون منه ، وقل لهم: أحرقكم الله" فلما سألهم ، وقال: أحرقكم الله; علموا أنه قد نزل فيهم قرآن فاقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الجهير: والله ما تكلمت بشيء ، وإنما ضحكت تعجبا من قولهم; فنزل قوله: لا تعتذروا يعني جد بن قيس ، ووديعة إن نعف عن طائفة منكم يعني الجهير نعذب طائفة يعني الجد ووديعة ، هذا قول أبي صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن رجلا من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء ، ولا أرغب بطونا ، ولا أكذب ، ولا أجبن عند اللقاء; يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال له عوف بن مالك: كذبت ، لكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم; [ ص: 465 ] فذهب ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه; فجاء ذلك الرجل ، فقال: يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، هذا قول ابن عمر ، وزيد بن أسلم ، والقرظي .

    والثالث: أن قوما من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: إن كان ما يقول هذا حقا ، لنحن شر من الحمير; فأعلم الله نبيه ما قالوا ، ونزلت ولئن سألتهم قاله سعيد بن جبير .

    والرابع: أن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا; وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد .

    والخامس: أن ناسا من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات; فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "احبسوا علي الركب" فأتاهم ، "فقال قلتم كذا وكذا" فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب; فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .

    والسادس: أن عبد الله بن أبي ، ورهطا معه ، كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه ما لا ينبغي ، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال الله تعالى: قل لهم أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ، قاله الضحاك . فقوله: ولئن سألتهم أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أي: نلهو بالحديث . وقوله: قد كفرتم أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان; وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء .

    قوله تعالى: ( إن يعف عن طائفة منكم ) قرأ الأكثرون "إن يعف" [ ص: 466 ] بالياء ، "تعذب" بالتاء وقرأ عاصم غير أبان "إن نعف" ، "نعذب" .

    بالنون فيهما ونصب "طائفة" ، والمعنى: إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة ، نعذب طائفة بترك التوبة وقيل: الطائفتان هاهنا ثلاثة; فاستهزأ اثنان ، وضحك واحد . ثم أنكر عليهم بعض ما سمع . وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة ، وأن الضاحك اسمه الجهير ، وقال غيره: هو مخشي بن خمير .

    وقال ابن عباس ومجاهد: الطائفة: الواحد فما فوقه .

    وقال الزجاج : أصل الطائفة في اللغة: الجماعة; ويجوز أن يقال للواحد: طائفة ، يراد به: نفس طائفة . قال ابن الأنباري: إذا أريد بالطائفة الواحد ، كان أصلها طائفا ، على مثال: قائم وقاعد ، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف ، كما يقال: رواية ، علامة ، نسابة .

    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما فرغ من تنزيل (براءة) حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ينزل فيه شيء .
    المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيمكالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم [ ص: 467 ] رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون

    قوله تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض قاله ابن عباس: بعضهم على دين بعض . وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض ، (يأمرون بالمنكر) وهو الكفر ، وينهون عن المعروف وهو الإيمان .

    وفي قوله: ويقبضون أيديهم أربعة أقوال .

    أحدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . والثاني: عن كل خير ، قاله قتادة . والثالث: عن الجهاد في سبيل الله . والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى الله تعالى ، ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى: نسوا الله فنسيهم قال الزجاج : تركوا أمره ، فتركهم من رحمته وتوفيقه . قال: وقوله: هي حسبهم أي: هي كفاية ذنوبهم ، كما تقول: عذبتك حسب فعلك ، وحسب فلان ما نزل به ، أي: ذلك على قدر فعله . وموضع الكاف في قوله: كالذين من قبلكم نصب ، أي: وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم . وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم ، وشبههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية .

    قوله تعالى: فاستمتعوا بخلاقهم قال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . وقال الزجاج : بحظهم من الدنيا .

    قوله تعالى: وخضتم أي: في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا لأنها لم تقبل منهم ، وفي الآخرة ، لأنهم لا يثابون عليها ، وأولئك هم الخاسرون بفوت الثواب وحصول العقاب .

    [ ص: 468 ] قوله تعالى: وقوم إبراهيم قال ابن عباس : يريد نمرود بن كنعان (وأصحاب مدين) يعني قوم شعيب . (والمؤتفكات) قرى لوط . قال الزجاج : وهم جمع مؤتفكة ، ائتفكت بهم الأرض ، أي: انقلبت . قال: ويقال: إنهم جميع من أهلك ، [كما] يقال للهالك: انقلبت عليه الدنيا .

    قوله تعالى: أتتهم يعني هذه الأمم رسلهم بالبينات فكذبوا بها ، فما كان الله ليظلمهم قال ابن عباس : ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيا ينذرهم ، والمعنى أنهم أهلكوا باستحقاقهم .
    والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم

    قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض أي: بعضهم يوالي بعضا ، فهم يد واحدة ، يأمرون بالإيمان ، وينهون عن الكفر .

    قوله تعالى: في جنات عدن قال أبو عبيدة: في جنات خلد ، يقال: عدن فلان بأرض كذا ، أي: أقام; ومنه: المعدن ، وهو في معدن صدق ، أي: في أصل ثابت . قال الأعشى:


    وإن تستضيفوا إلى حلمه تضافوا إلى راجح قد عدن


    [ ص: 469 ] أي: رزين لا يستخف . قال ابن عباس : جنات عدن ، هي بطنان الجنة ، وبطنانها: وسطها ، وهي أعلى درجة في الجنة ، وهي دار الرحمن عز وجل ، وسقفها عرشه ، خلقها بيده ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محدقة بها .

    قوله تعالى: ورضوان من الله أكبر قال ابن عباس : أكبر مما يوصف . وقال الزجاج : أكبر مما هم فيه من النعيم .

    فإن قيل: لم يكن الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان .

    أحدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب ، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب . وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة ، هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبدا"

    والثاني: أن الموجب للنعيم الرضوان ، والموجب ثمرة الموجب ، فهو الأصل .
    يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير

    قوله تعالى: جاهد الكفار والمنافقين أما جهاد الكفار ، فبالسيف . وفي جهاد المنافقين قولان .

    أحدهما: أنه باللسان ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، والربيع بن أنس .

    والثاني: جهادهم بإقامة الحدود عليهم ، روي عن الحسن ، وقتادة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (268)
    صــ470 إلى صــ 476



    [ ص: 470 ] فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم ، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم؟

    فالجواب: أنه إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها ، فأما من إذا اطلع على كفره ، أنكر وحلف وقال: إني مسلم ، فإنه أمر أن يأخذه بظاهر أمره ، ولا يبحث عن سره .

    قوله تعالى: واغلظ عليهم قال ابن عباس : يريد شدة الانتهار لهم ، والنظر بالبغضة والمقت . وفي الهاء والميم من "عليهم" قولان .

    أحدهما: أنه يرجع إلى الفريقين ، قاله ابن عباس .

    والثاني: إلى المنافقين ، قاله مقاتل .
    يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير

    قوله تعالى: يحلفون بالله ما قالوا في سبب نزولها ثلاثة أقوال .

    أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم; فقال الجلاس بن سويد: إن كان ما يقول على إخواننا حقا ، لنحن شر من الحمير . فقال عامر بن قيس: والله إنه لصادق ، ولأنتم شر من الحمير; وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأتى الجلاس فقال: ما قلت شيئا ، فحلفا عند المنبر ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وذهب إلى نحوه الحسن ، ومجاهد ، وابن سيرين .

    [ ص: 471 ] والثاني: أن عبد الله بن أبي قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسمعه رجل من المسلمين ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه ، فجعل يحلف بالله ما قال ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .

    والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خلوا سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وطعنوا في الدين; فنقل حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ذلك ، فحلفوا ما قالوا شيئا ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك . فأما كلمة الكفر ، فهي سبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطعنهم في الدين . وفي سبب قوله: وهموا بما لم ينالوا أربعة أقوال .

    أحدها: أنها نزلت في ابن أبي حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال قتادة .

    والثاني: أنها نزلت فيهم حين هموا بقتل رسول الله ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، قال: والذي هم رجل يقال له: الأسود . وقال مقاتل: هم خمسة عشر رجلا ، هموا بقتله ليلة العقبة .

    والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حقا ، فنحن شر من الحمير; وقال له رجل من المؤمنين . لأنتم شر من الحمير ، هم المنافق بقتله; فذلك قوله: وهموا بما لم ينالوا هذا قول مجاهد .

    والرابع: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة ، عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا نباهي به رسول الله صلى الله عليه وسلم; فلم ينالوا ما هموا به .

    قوله تعالى: وما نقموا إلا أن أغناهم الله قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئا ، ولا يتعرفون من الله إلا الصنع ، ومثله قول الشاعر:


    ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا [ ص: 472 ] وأنهم سادة الملوك ولا
    تصلح إلا عليهم العرب


    وهذا ليس مما ينقم ، وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا ، وكقول النابغة:


    ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب


    أي: ليس فيهم عيب . قال ابن عباس : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من معاشهم ، فلما قدم عليهم ، غنموا ، وصارت لهم الأموال . فعلى هذا ، يكون الكلام عاما . وقال قتادة: هذا في عبد الله بن أبي . وقال عروة: هو الجلاس بن سويد ، قتل له مولى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته ، فاستغنى; فلما نزلت فإن يتوبوا يك خيرا لهم قال الجلاس: أنا أتوب إلى الله .

    قوله تعالى: وإن يتولوا أي: يعرضوا عن الإيمان . قال ابن عباس : كما تولى عبد الله بن أبي ، يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار .
    ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين

    قوله تعالى: ومنهم من عاهد الله في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال: "ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" قال: ثم قال مرة أخرى ، فقال: "أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده ، لو شئت أن تسير معي الجبال [ ص: 473 ] ذهبا وفضة ، لسارت" فقال: والذي بعثك بالحق ، لئن دعوت الله أن يرزقني مالا ، لأوتين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارزق ثعلبة مالا" فاتخذ غنما ، فنمت فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، ونزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت ، حتى ترك الصلوات إلى الجمعة ، ثم نمت ، فترك الجمعة . فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبر خبره ، فقال: "يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة" وأنزل الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة [التوبة:9] ، وأنزل فرائض الصدقة; فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، وكتب لهما كتابا يأخذان الصدقة ، وقال: "مرا بثعلبة ، وبفلان" رجل من بني سليم ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: ما هذا إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدري ما هذا ، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي . فانطلقا; فأخبر السلمي ، فاستقبلهما بخيار ماله ، فقالا: لا يجب هذا عليك; فقال: خذاه ، فإن نفسي بذلك طيبة; فأخذا منه . فلما فرغا من صدقتهما ، مرا بثعلبة فقال: أروني كتابكما ، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا ، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان ، فنزلت هذه الآية إلى قوله: بما كانوا يكذبون ، وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إلى ثعلبة ، فأخبره; فأتى رسول الله ، وسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال: "إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك"؟ فجعل يحثو التراب على رأسه .

    فقال: "هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني" . فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله ، ولم يقبل منه شيئا ، فلما ولي أبو بكر ، سأله أن يقبل منه ، فأبى .

    فلما ولي عمر ، سأله أن يقبل منه ، فأبى .

    فلما ولي عثمان ، سأله أن يقبلها; فقال: لم يقبلها رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر فلم يقبلها; [ ص: 474 ] وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه .
    روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي . وقال ابن عباس : مر ثعلبة على مجلس ، فأشهدهم على نفسه: لئن آتاني الله من فضله ، آتيت كل ذي حق ، حقه وفعلت كذا وكذا .

    فآتاه الله من فضله ، فأخلف ما وعد; فقص الله علينا شأنه .

    والثاني: أن رجلا من بني عمرو بن عوف ، كان له مال بالشام ، فأبطأ عنه ، فجهد له جهدا شديدا ، فحلف بالله لئن آتانا من فضله ، أي: من ذلك المال ، لأصدقن منه ، ولأصلن ، فأتاه ذلك المال ، فلم يفعل ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس . قال ابن السائب: والرجل حاطب بن أبي بلتعة .

    والثالث: أن ثعلبة ، ومعتب بن قشير ، خرجا على ملإ ، فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقن . فلما رزقهما ، بخلا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الحسن ، ومجاهد .

    والرابع: أن نبتل بن الحارث ، وجد بن قيس ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، قالوا: لئن آتانا الله من فضله لنصدقن . فلما آتاهم من فضله بخلوا به ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضحاك .

    فأما التفسير ، فقوله: ومنهم يعني المنافقين من عاهد الله أي: قال: علي عهد الله (لنصدقن) الأصل: لنتصدقن ، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها .

    [ ص: 475 ] ولنكونن من الصالحين أي: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في الخير . وقد روى كهمس عن معبد بن ثابت أنه قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ، ولم يتكلموا به; ألم تسمع إلى قوله: ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ؟
    فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون

    قوله تعالى: فلما آتاهم من فضله أي: ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما عاهدوا (وتولوا وهم معرضون) عن عهدهم .
    فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب

    قوله تعالى: فأعقبهم أي: صير عاقبة أمرهم النفاق .

    وفي الضمير في "أعقبهم" قولان .

    أحدهما: أنها ترجع إلى الله ، فالمعنى: جازاهم الله بالنفاق ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد .

    والثاني: أنها ترجع إلى البخل ، فالمعنى: أعقبهم بخلهم بما نذروا نفاقا ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: ألم يعلموا يعني المنافقين أن الله يعلم سرهم وهو ما في نفوسهم (ونجواهم) حديثهم بينهم .
    الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم .

    [ ص: 476 ] قوله تعالى: الذين يلمزون المطوعين في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة ، جاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو مسعود .

    والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب ، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام; فقال بعض المنافقين: والله ما جاء به عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع ، قاله ابن عباس .

    وفي هذا الأنصاري قولان .

    أحدهما: أنه أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك . والثاني: أنه أبو عقيل .

    وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال .

    أحدها: عبد الرحمن بن بيجان ، رواه أبو صالح عن ابن عباس; ويقال: ابن بيحان; ويقال سيحان . وقال مقاتل: هو أبو عقيل بن قيس .

    والثاني: أن اسمه الحبحاب ، قاله قتادة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (269)
    صــ477 إلى صــ 483





    والثالث: الحباب . قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف ، وجاء عاصم [ ص: 477 ] بن عدي بن العجلان بمائة وسق من تمر . (ويلمزون) بمعنى يعيبون . (والمطوعين) أي: المتطوعين ، قال الفراء: أدغمت التاء في الطاء ، فصارت طاء مشددة . والجهد لغة أهل الحجاز ، ولغة غيرهم الجهد . قال أبو عبيدة: الجهد بالفتح والضم سواء ، ومجازه: طاقتهم .

    قال ابن قتيبة: الجهد: الطاقة; والجهد: المشقة . قال المفسرون: عنى بالمطوعين عبد الرحمن ، وعاصم ، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم: أبو عقيل . وقوله: (سخر الله منهم) أي: جازاهم على فعلهم ، وقد سبق هذا المعنى .
    استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين

    قوله تعالى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم سبب نزولها: أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا ، فنزلت هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين ، لعل الله يغفر لهم"; فنزل قوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [المنافقون:6] ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وظاهر قوله: "استغفر لهم" الأمر ، وليس كذلك; إنما المعنى: إن استغفرت ، وإن لم تستغفر ، لا يغفر لهم ، فهو كقوله: أنفقوا طوعا أو كرها وقد سبق شرح هذا المعنى هناك ، هذا قول المحققين . وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين ، رجي لهم الغفران . ثم نسخت بقوله: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم

    فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لهم ، وقد أخبر بأنهم كفروا؟

    فالجواب: أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام ، ولا يجوز أن يقال: علم كفرهم ثم استغفر .

    [ ص: 478 ] فإن قيل: ما معنى حصر العدد بسبعين؟

    فالجواب: أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة ، وفي العشرات من سبعين .
    فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون

    قوله تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . والمخلف: المتروك خلف من مضى . "بمقعدهم" أي: بقعودهم . وفي قوله: خلاف رسول الله قولان .

    أحدهما: أن معناه: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو عبيدة .

    والثاني: أن معناه: مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منصوب ، لأنه مفعول له ، فالمعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج . وقرأ ابن مسعود ، وابن يعمر ، والأعمش ، وابن أبي عبلة: "خلف رسول الله" ، ومعناها: أنهم تأخروا عن الجهاد .

    وفي قوله: لا تنفروا في الحر قولان .

    أحدهما: أنه قول بعضهم لبعض ، قاله ابن إسحاق ، ومقاتل .

    والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين ، ذكره الماوردي .

    وإنما قالوا هذا ، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر . قل نار جهنم أشد حرا لمن خالف أمر الله .

    وقوله: يفقهون معناه: يعلمون . قال ابن فارس: الفقه: العلم بالشيء . تقول: فقهت الحديث أفقهه; وكل علم بشيء: فقه ثم اختص به علم الشريعة ، فقيل لكل عالم بها: فقيه .

    قال المصنف: وقال شيخنا علي بن عبيد الله: الفقه في إطلاق اللغة: الفهم ، وفي عرف الشريعة: عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال [ ص: 479 ] المكلفين ، بنحو التحليل ، والتحريم ، والإيجاب ، والإجزاء ، والصحة ، والفساد ، والغرم ، والضمان ، وغير ذلك . وبعضهم يختار أن يقال: الفقه: فهم الشيء . وبعضهم يختار أن يقال: علم الشيء .
    فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون

    قوله تعالى: فليضحكوا قليلا لفظه لفظ الأمر ، ومعناه التهديد .

    وفي قلة ضحكهم وجهان .

    أحدهما: أن الضحك في الدنيا ، لكثرة حزنها وهمومها ، قليل ، وضحكهم فيه أقل ، لما يتوجه إليهم من الوعيد .

    والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا ، وبقاؤها قليل . (وليبكوا كثيرا) في الآخرة . قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار ، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت ، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ، فلمثل ما هم فيه فليبكي .

    قوله تعالى: جزاء بما كانوا يكسبون أي: من النفاق والمعاصي .
    فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين

    قوله تعالى: فإن رجعك الله أي: ردك من غزوة تبوك إلى المدينة (إلى طائفة) من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر . وإنما قال: (إلى طائفة) لأنه ليس كل من تخلف عن تبوك كان منافقا . (فاستأذنوك للخروج) معك إلى الغزو .

    [ ص: 480 ] فقل لن تخرجوا معي أبدا إلى غزاة ، (إنكم رضيتم بالقعود) عني (أول مرة) حين لم تخرجوا إلى تبوك . وذكر الماوردي في قوله: (أول مرة) قولين .

    أحدهما: أول مرة دعيتم . والثاني: قبل استئذانكم .

    فأما الخالفون ، فقال أبو عبيدة: الخالف: الذي خلف بعد شاخص ، فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم .

    وفي المراد بالخالفين قولان .

    أحدهما: أنهم الرجال الذين تخلفوا لأعذار ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنهم النساء والصبيان ، قاله الحسن ، وقتادة .

    ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون

    قوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم سبب نزولها: أنه لما توفي عبد الله بن أبي ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه ، وصل عليه ، واستغفر له . فأعطاه قميصه; فقال: آذني أصلي عليه ، فآذنه; فلما أراد أن يصلي عليه ، جذبه عمر بن الخطاب ، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: "أنا بين خيرتين: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [التوبة:81] فصلى عليه ، فنزلت هذه الآية ، رواه نافع عن ابن عمر . قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ما يغني عنه قميصي من عذاب الله تعالى ، والله إني لأرجو أن يسلم به ألف من قومه" . قال الزجاج : فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج [ ص: 481 ] لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأراد الصلاة عليه .

    فأما قوله: "منهم" فإنه يعني المنافقين . وقوله: (ولا تقم على قبره) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا دفن الميت ، وقف على قبره ودعا له; فنهي عن ذلك في حق المنافقين . وقال ابن جرير: معناه: لا تتول دفنه; وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان; وقد تقدم تفسيره .
    ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم

    قوله تعالى: ولا تعجبك أموالهم سبق تفسيره[التوبة: 55] .

    قوله تعالى: وإذا أنزلت سورة هذا عام في كل سورة . وقال مقاتل: المراد بها سورة (براءة) .

    [ ص: 482 ] قوله تعالى: أن آمنوا أي: بأن آمنوا . وفيه ثلاثة أوجه .

    أحدها: استديموا الإيمان . والثاني: افعلوا فعل من آمن .

    والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم ، فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين .

    قوله تعالى: استأذنك أي: في التخلف (أولو الطول) يعني الغني ، وهم الذين لا عذر لهم في التخلف .

    وفي "الخوالف" قولان .

    أحدهما: أنهم النساء ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وشمر بن عطية ، وابن زيد ، والفراء . وقال أبو عبيدة: يجوز أن تكون الخوالف هاهنا النساء ، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل ، غير أنهم قد قالوا: فارس ، والجميع: فوارس ، وهالك [في قوم] هوالك .

    قال ابن الأنباري: الخوالف لا يقع إلا على النساء ، إذ العرب تجمع فاعلة: فواعل; فيقولون: ضاربة ، وضوارب ، وشاتمة ، وشواتم; ولا يجمعون فاعلا: فواعل ، إلا في حرفين: فوارس ، وهوالك; فيجوز أن يكون مع الخوالف: المتخلفات في المنازل . ويجوز أن يكون: مع المخالفات العاصيات . ويجوز أن يكون: مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن .

    والقول الثاني: أن الخوالف: خساس الناس وأدنياؤهم; يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان دونهم ، ذكره ابن قتيبة; فأما "طبع" فقال أبو عبيدة: معناه: ختم . و"الخيرات" جمع خيرة . وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنها الفاضلات من كل شيء ، قاله أبو عبيدة . والثاني: الجواري الفاضلات ، قاله المبرد . والثالث: غنائم الدنيا ومنافع الجهاد ، ذكره الماوردي .
    وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم

    قوله تعالى: وجاء المعذرون وقرأ ابن مسعود: "المعتذرون" .

    وقرأ ابن [ ص: 483 ] عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن يعمر ، ويعقوب "المعذرون" بسكون العين وتخفيف الذال . وقرأ ابن السميفع "المعاذرون" بألف . قال أبو عبيدة: المعذرون من يعذر وليس بجاد ، وإنما يعرض بما لا يفعله ، أو يظهر غير ما في نفسه . وقال ابن قتيبة: يقال عذرت في الأمر: إذا قصرت ، وأعذرت: جددت . وقال الزجاج : من قرأ "المعذرون" بتشديد الذال ، فتأويله: المعتذرون الذين يعتذرون ، كان لهم عذر ، أو لم يكن ، وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر ، وأنشدوا:


    إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر


    أي: فقد جاء بعذر . ويجوز أن يكون "المعذرون" الذين يعذرون ، يوهمون أن لهم عذرا ، ولا عذر لهم . ويجوز في النحو: المعذرون; بكسر العين ، والمعذرون; بضم العين ، غير أنه لم يقرأ بهما ، لأن اللفظ بهما يثقل . ومن قرأ "المعذرون" بتسكين العين ، فتأويله: الذين أعذروا وجاؤوا بعذر . وقال ابن الأنباري: المعذرون هاهنا: المعتذرون بالعذر الصحيح . وأصل الكلمة عند أهل النحو: المعتذرون ، فحولت فتحة التاء إلى العين ، وأبدلت الذال من التاء ، وأدغمت في الذال التي بعدها ، فصارتا ذالا مشددة . ويقال في كلام العرب: اعتذر: إذا جاء بعذر صحيح ، وإذا لم يأت بعذر . قال الله تعالى: قل لا تعتذروا فدل على فساد العذر ، وقال لبيد:


    ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (270)
    صــ484 إلى صــ 490





    أي: فقد جاء بعذر صحيح . وكان ابن عباس يقرأ "المعذرون" ويقول: لعن الله المعذرين . يريد: لعن الله المقصرين من المنافقين وغيرهم . والمعذرون: الذين يأتون بالعذر الصحيح; فبان من هذا الكلام أن لهم عذرا على قراءة من خفف . وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه قولان .

    قال المفسرون: جاء هؤلاء ليؤذن لهم في التخلف عن تبوك ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة ، جرأة على الله تعالى .
    ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون

    قوله تعالى: ليس على الضعفاء اختلفوا فيهن نزلت على قولين .

    أحدهما: أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر ، قاله قتادة .

    والثاني: في ابن مكتوم ، قاله الضحاك .

    وفي المراد بالضعفاء ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار ، قاله ابن عباس ، ومقاتل .

    والثاني: أنهم الصغار . [ ص: 485 ] والثالث: المجانين; سموا ضعافا لضعف عقولهم ، ذكر القولين الماوردي . والصحيح أنهم الذين يضعفون لزمانة أو عمى ، أو سن ، أو ضعف في الجسم . والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال ، والذين لا يجدون هم المقلون ، والحرج: الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح لله ولرسوله ، وفيه وجهان .

    أحدهما: أن المعنى إذا برئوا من النفاق .

    والثاني: إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل .

    فإن قيل بالوجه الأول ، فهو يعم جميع المذكورين . وإن قيل بالثاني ، فهو يخص المقلين . وإنما شرط النصح ، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد ، فهو مذموم; ومن النصح لله: حث المسلمين على الجهاد ، والسعي في إصلاح ذات بينهم ، وسائر ما يعود باستقامة الدين .

    قوله تعالى: ما على المحسنين من سبيل أي: من طريق بالعقوبة ، لأن المحسن قد سد بإحسانه باب العقاب .

    قوله تعالى: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم نزلت في البكائين ، واختلف في عددهم وأسمائهم; فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هم ستة: عبد الله بن مغفل ، وصخر بن سلمان ، وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن عنمة ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم ، فقال: "لا أجد ما أحملكم عليه" فانصرفوا باكين . وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان: سلمة بن صخر ، ومكان ثعلبة بن عنمة: [ ص: 486 ] عمرو بن عنمة . قال: وقيل منهم معقل بن يسار . وروى أبو إسحاق عن أشياخ له أن البكائين سبعة من الأنصار: سالم بن عمير ، وعلية بن زيد ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، وعبد الله بن مغفل . وبعض الناس يقول: بل ، عبد الله بن عمرو المزني ، وعرباض بن سارية ، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف . وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن ، وهم سبعة; وقد ذكرهم محمد بن سعد ، فقال: النعمان بن عمرو بن مقرن . وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن ، وسويد بن مقرن ، ومعقل بن مقرن ، وسنان بن مقرن ، وعقيل بن مقرن ، وعبد الرحمن بن مقرن ، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن . وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه .

    وفي الذي طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه الدواب ، قاله ابن عباس . والثاني: الزاد ، قاله أنس بن مالك . والثالث: النعال ، قاله الحسن .

    يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

    قوله تعالى: يعتذرون إليكم قال ابن عباس : نزلت في المنافقين ، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك ، فلا تعذروهم فليس لهم عذر . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون ، فقال الله تعالى: (قل لا تعتذروا) لن نصدقكم ، قد أخبرنا الله أنه ليس لكم عذر وسيرى الله عملكم ورسوله إن عملتم خيرا وتبتم من [ ص: 487 ] تخلفكم (ثم تردون) بعد الموت (إلى عالم الغيب والشهادة) فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية .
    سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون

    قوله تعالى: سيحلفون بالله لكم قال مقاتل: حلف منهم بضعة وثمانون رجلا ، منهم جد بن قيس ، ومعتب بن قشير .

    قوله تعالى: لتعرضوا عنهم فيه قولان .

    أحدهما: لتصفحوا عن ذنبهم .

    والثاني: لأجل إعراضكم وقد شرحنا في المائدة معنى الرجس

    يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين

    قوله تعالى: يحلفون لكم لترضوا عنهم قال مقاتل: حلف عبد الله بن أبي للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أتخلف عنك ، ولأكونن معك ، على عدوك; وطلب منه أن يرضى عنه ، وحلف عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطاب ، وجعلوا يترضون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلموهم" .
    الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم [ ص: 488 ] قوله تعالى: الأعراب أشد كفرا قال ابن عباس : نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة ، أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة ، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر .

    قوله تعالى: وأجدر ألا يعلموا قال الزجاج : "أن" في موضع نصب ، لأن الباء محذوفة من "أن" ، المعنى: أجدر بترك العلم . تقول: جدير أن تفعل ، وجدير بأن تفعل ، كما تقول: أنت خليق بأن تفعل ، أي: هذا الفعل ميسر فيك ، فإذا حذفت الباء لم يصلح إلا بـ "أن" وإن أتيت بالباء صلح بـ "أن" وغيرها ، فنقول: أنت جدير بأن تقوم ، وجدير بالقيام . فإذا قلت: أنت جدير القيام ، كان خطأ ، وإنما صلح مع "أن" لأن "أن" تدل على الاستقبال ، فكأنها عوض من المحذوف . فأما قوله: (حدود ما أنزل الله) فيعني به الحلال والحرام والفرائض . وقيل: المراد بالآية أن الأعم في العرب هذا .
    ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم

    قوله تعالى: ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق إذا خرج في الغزو ، وقيل: ما يدفعه من الصدقة (مغرما) لأنه لا يرجو له ثوابا . قال ابن قتيبة: المغرم: هو الغرم والخسر . وقال ابن فارس: الغرم: ما يلزم أداؤه ، والغرام: اللازم ، وسمي الغريم لإلحاحه . وقال غيره: الغرم: التزام ما لا يلزم .

    قوله تعالى: ويتربص أي: وينتظر (بكم الدوائر) أي: دوائر الزمان بالمكروه; بالموت ، أو القتل ، أو الهزيمة . وقيل: ينتظر موت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وظهور المشركين .

    قوله تعالى: عليهم دائرة السوء قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضم السين .

    [ ص: 489 ] وقرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: "السوء" بفتح السين; وكذلك قرؤوا في سورة (الفتح:6) ، والمعنى: عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء . قال الفراء: وفتح السين من السوء هو وجه الكلام . فمن فتح ، أراد المصدر من: سؤته سوءا ومساءة . ومن رفع السين ، جعله اسما ، كقولك: عليهم دائرة البلاء . والعذاب ولا يجوز ضم السين في قوله: ما كان أبوك امرأ سوء [مريم:28] ولا في قوله: وظننتم ظن السوء [الفتح:12] لأنه ضد لقولك: رجل صدق . وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء فيضم .
    ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: ومن الأعراب من يؤمن بالله قال ابن عباس : وهم من أسلم من الأعراب ، مثل جهينة ، وأسلم ، وغفار ،

    وفي قوله: ويتخذ ما ينفق قولان .

    أحدهما: في الجهاد . والثاني: في الصدقة . فأما القربات ، فجمع قربة ، وهي: ما يقرب العبد من رضى الله ومحبته: قال الزجاج : وفي القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء ، وفتحها ، وإسكانها . وفي المراد بصلوات الرسول قولان .

    أحدهما: استغفاره ، قاله ابن عباس .

    والثاني: دعاؤه ، قاله قتادة ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وأنشد الزجاج :


    عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا .


    [ ص: 490 ] قال إن شئت قلت: مثل الذي ، ومثل الذي; فالأمر أمر لها بالدعاء ، كأنه قال: ادع لي مثل الذي دعوت . والثاني بمعنى: عليك مثل هذا الدعاء .

    قوله تعالى: ألا إنها قربة لهم قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي: "قربة لهم" خفيفة . وروى ورش ، وإسماعيل بن جعفر عن نافع ، وأبان ، والمفضل عن عاصم: "قربة لهم" بضم الراء . وفي المشار إليها وجهان .

    أحدهما: أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم والثاني: إلى صلوات الرسول .

    قوله تعالى: سيدخلهم الله في رحمته قال ابن عباس : في جنته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (271)
    صــ491 إلى صــ 498



    والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم


    قوله تعالى: والسابقون الأولون فيهم ستة أقوال .

    أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، وابن سيرين ، وقتادة .

    والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، وهي الحديبية ، قاله الشعبي .

    والثالث: أنهم أهل بدر ، قاله عطاء بن أبي رباح .

    والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته .

    قال محمد بن كعب القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم في قوله: والسابقون الأولون

    والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة ، سبقوا إلى ثواب الله تعالى ، وذكره الماوردي .

    [ ص: 491 ] والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة ، ذكره القاضي أبو يعلى .

    قوله تعالى: من المهاجرين والأنصار قرأ يعقوب: "والأنصار" . برفع الراء .

    قوله تعالى: والذين اتبعوهم بإحسان من قال إن السابقين جميع الصحابة ، جعل هؤلاء تابعي الصحابة ، وهم الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين اتبعوهم بإحسان إلى أن تقوم الساعة .

    ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة ، قال: هؤلاء تبعوهم في طريقهم ، واقتدوا بهم في أفعالهم ، ففضل أولئك بالسبق ، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل . وقال عطاء: اتباعهم إياهم بإحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحمون عليهم .

    قوله تعالى: تجري تحتها الأنهار قرأ ابن كثير: "من تحتها" فزاد "من" وكسر التاء الثانية .

    قوله تعالى: رضي الله عنهم يعم الكل . قال الزجاج : رضي الله أفعالهم ، ورضوا ما جازاهم به .
    وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم

    قوله تعالى: وممن حولكم من الأعراب منافقون قال ابن عباس : مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون . قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة .

    قوله تعالى: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق قال ابن عباس : مرنوا عليه وثبتوا ، منهم عبد الله بن أبي ، وجد بن قيس ، والجلاس ، ومعتب ، [ ص: 492 ] ووحوح ، وأبو عامر الراهب . وقال أبو عبيدة: عتوا ومرنوا عليه ، وهو من قولهم: تمرد فلان ، ومنه: شيطان مريد .

    فإن قيل: كيف قال: (ومن أهل المدينة مردوا) ، وليس يجوز في الكلام: من القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة .

    أحدهن: أن تكون "من" الثانية مردودة على الأولى; والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون ، ثم استأنف "مردوا" .

    والثاني أن يكون في الكلام "من" مضمر ، تقديره: ومن أهل المدينة من مردوا; فأضمرت "من" ، لدلالة "من" عليها كقوله: وما منا إلا له مقام معلوم [الصافات:164] يريد: إلا من له مقام معلوم; وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله "منافقون"

    والثالث: أن "مردوا" متعلق بمنافقين ، تقديره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا ، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري .

    قوله تعالى: لا تعلمهم فيه وجهان .

    أحدهما: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم . والثاني: لا تعلم عواقبهم .

    قوله تعالى: سنعذبهم مرتين فيه عشرة أقوال .

    أحدها: أن العذاب الأول في الدنيا ، وهو فضيحتهم بالنفاق ، والعذاب الثاني: عذاب القبر ، قاله ابن عباس . قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا ، فقال "يا فلان" اخرج فإنك منافق ، ويا فلان اخرج" ففضحهم .

    [ ص: 493 ] والثاني: أن العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم ، والثاني: عذاب القبر; وهذا مروي عن ابن عباس أيضا .

    والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم ، والآخر: الجهاد الذي يؤمرون به ، قاله الحسن .

    والرابع: الجوع ، وعذاب القبر ، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وبه قال أبو مالك .

    والخامس: الجوع والقتل ، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .

    والسادس: القتل والسبي ، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال ابن قتيبة: القتل والأسر .

    والسابع: أنهم عذبوا بالجوع مرتين ، رواه خصيف عن مجاهد .

    والثامن: أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد ، وفي الآخرة بالنار ، قاله ابن زيد .

    والتاسع: أن الأول: عند الموت ، تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، والثاني: في القبر بمنكر ونكير ، قاله مقاتل بن سليمان .

    والعاشر: أن الأول بالسيف ، والثاني: عند الموت; قاله مقاتل بن حيان .

    قوله تعالى: ثم يردون إلى عذاب عظيم يعني عذاب جهنم .
    وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم

    قوله تعالى: وآخرون اعترفوا بذنوبهم اختلفوا فيمن نزلت على قولين .

    أحدهما: أنهم عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما [ ص: 494 ] دنا رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد .

    فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال "من هؤلاء"؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك ، فأقسموا بالله لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم ، فقال "وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين" فنزلت هذه الآية ، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم ،
    رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وروى العوفي عن ابن عباس أن الذين تخلفوا كانوا ستة ، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان معه ، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية ، أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم . وروى أبو صالح عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن خذام الأنصاري . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية . وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا سبعة .

    والثاني: أنها نزلت في أبي لبانة وحده . واختلفوا في ذنبه على قولين .

    أحدهما: أنه خان الله ورسوله بإشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح ، وهذا قول مجاهد ، وقد شرحناه في (الأنفال:27) .

    [ ص: 495 ] والثاني: أنه تخلفه عن تبوك ، قاله الزهري . فأما الاعتراف ، فهو الإقرار بالشيء عن معرفة . والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول .

    قوله تعالى: خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء ، والمعنى: بآخر سيئ ، كما تقول: خلطت الماء واللبن .

    وفي ذلك العمل قولان .

    أحدهما: أن العمل الصالح: ما سبق من جهادهم ، والسيئ: التأخر عن الجهاد ، قاله السدي .

    والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم والسيئ: تخلفهم ، ذكره الفراء . وفي قوله "عسى" قولان .

    أحدهما: أنه واجب من الله تعالى ، قاله ابن عباس .

    والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق ، وذلك يصد عن اللهو والإهمال .
    خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم

    قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة قال المفسرون: لما تاب الله عز وجل على أبي لبابة وأصحابه ، قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا ، فقال:

    [ ص: 496 ] "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا" فنزلت هذه الآية .


    "وفي هذه الصدقة" قولان .

    أحدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعا ، قاله ابن زيد ، والجمهور . والثاني: الزكاة ، ، قاله عكرمة .

    قوله تعالى: تطهرهم وقرأ الحسن "تطهرهم بها" بجزم الراء . قال الزجاج : يصلح أن يكون قوله "تطهرهم" نعتا للصدقة ، كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهرة . والأجود أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم ، المعنى: فإنك تطهرهم بها فـ تطهرهم . بالجزم ، على جواب الأمر ، المعنى: إن تأخذ من أموالهم ، تطهرهم . ولا يجوز في "تزكيهم" إلا إثبات الياء ، اتباعا للمصحف . قال ابن عباس : "تطهرهم" من الذنوب ، "وتزكيهم": تصلحهم . وفي قوله: وصل عليهم قولان .

    أحدهما: استغفر لهم ، قاله ابن عباس . والثاني: ادع لهم ، قاله السدي .

    قوله تعالى: " إن صلواتك " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم "إن صلواتك" على الجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم "إن صلاتك" على التوحيد . وفي قوله: سكن لهم خمسة أقوال .

    أحدها: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال أبو عبيدة: تثبيت وسكون . والثاني: رحمة لهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . والثالث: قربة لهم ، رواه الضحاك عن ابن عباس . والرابع: وقار لهم ، قاله قتادة . والخامس: تزكية لهم ، حكاه الثعلبي . قال الحسن ، وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا .
    [ ص: 497 ] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون

    قوله تعالى: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة قرأ الجمهور "يعلموا" بالياء وروى عبد الوارث "تعلموا" بالتاء . وقوله: يقبل التوبة عن عباده قال أبو عبيدة: أي من عبيده ، تقول: أخذته منك ، وأخذته عنك .

    قوله تعالى: ويأخذ الصدقات قال ابن قتيبة: أي: يقبلها . ومثله خذ العفو [الأعراف:199] أي: اقبله .

    قوله تعالى: وقل اعملوا قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا .
    وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم

    قوله تعالى: وآخرون مرجون وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي "مرجون" بغير همز . والآية نزلت في كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر ، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري; فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا [التوبة:118] . قال الزجاج : "وآخرون" عطف على قوله: "ومن أهل المدينة" ، فالمعنى: منهم منافقون ، ومنهم (آخرون مرجون) أي: مؤخرون; "وإما" [ ص: 498 ] لوقوع أحد الشيئين ، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم ، لكنه خاطب العباد بما يعلمون ، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء .

    قوله تعالى: والله عليم حكيم أي: عليم بما يؤول إليه حالهم ، حكيم بما يفعله بهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (272)
    صــ499 إلى صــ 506




    والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون

    قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي: "والذين" بواو ، وكذلك هي في مصاحفهم . وقرأ نافع ، وابن عامر: "الذين" بغير واو ، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام . قال أبو علي: من قرأ بالواو ، فهو معطوف على ما قبله ، نحو قوله: ومنهم من عاهد الله [التوبة:75] ، ومنهم من يلمزك [التوبة:58] ، ومنهم الذين يؤذون النبي [التوبة:61] ، والمعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا . ومن حذف الواو ، فعلى وجهين .

    أحدهما: أن يضمر - ومنهم الذين اتخذوا كقوله: أكفرتم ، المعنى: فيقال لهم: أكفرتم .

    والثاني: أن يضمر الخبر بعد ، كما أضمر في قوله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام [الحج:25] ، المعنى ينتقم منهم ويعذبون . قال أهل التفسير: لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فصلى فيه; حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، وكانوا من منافقي الأنصار فقالوا: نبني مسجدا ، ونرسل إلى رسول الله فيصلي [ ص: 499 ] فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام; وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، عاداه ، فخرج إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن أعدوا من استطعتم من قوة وسلاح ، وابنوا لي مسجدا ، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه ، فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء; وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومجمع; وكان مجمع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد الله بن حنيف، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت بما أرى"؟ فقال: والله ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب . وقال مقاتل: الذي حلف مجمع . وقيل: كانوا سبعة عشر; فلما فرغوا منه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه; فدعى بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدخشم في آخرين، وقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه"، وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف . ومات أبو عامر بالشام وحيدا غريبا .

    فأما التفسير، فقال الزجاج : "الذين" في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا . و"ضرارا" انتصب مفعولا له المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد . فلما حذفت اللام، أفضى الفعل فنصب قال المفسرون:

    [ ص: 500 ] والضرار بمعنى المضارة لمسجد قباء، (وكفرا) بالله ورسوله (وتفريقا بين المؤمنين) لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء جميعا، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار . وليحلفن إن أردنا أي: ما أردنا (إلا الحسنى) أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى; وفيها ثلاثة أوجه .

    أحدها: طاعة الله . والثاني: الجنة . والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة . وقد ذكرنا اسم الحالف .
    لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين

    قوله تعالى: لا تقم فيه أي: لا تصل فيه أبدا . لمسجد أسس على التقوى أي: بني على الطاعة، وبناه المتقون (من أول يوم) أي: منذ أول يوم . قال الزجاج : "من" في الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال . وجائز دخول "من" لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير:


    لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر


    وقيل معناه: من مر حجج ومن مر شهر . وفي هذا المسجد ثلاثة أقوال .

    أحدها: أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره . روى سهل بن سعد أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على [ ص: 501 ] التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال "هو مسجدي هذا" وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب .

    والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل .

    والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب .

    قوله تعالى: فيه رجال يحبون أن يتطهروا سبب نزولها أن رجالا من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي .

    قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما الذي أثنى الله به عليكم" فقالوا: إنا نستنجي بالماء . فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء . وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذنوب .
    أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين

    قوله تعالى: أفمن أسس بنيانه قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة [ ص: 502 ] والكسائي "أسس" بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النون فيهما . وقرأ نافع، وابن عامر "أسس: بضم الألف "بنيانه" برفع النون . والبنيان مصدر يراد به المبني . والتأسيس: إحكام أس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج : وشفا الشيء: حرفه وحده . والشفا، مقصور، يكتب بالألف، ويثنى شفوان .

    قوله تعالى: جرف قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، والكسائي "جرف" مثقلا . وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: "جرف" ساكنة الراء . قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل . قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر . والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية . والهائر: الساقط . ومنه: تهور البناء وانهار: إذا سقط . وقرأ ابن كثير، وحمزة "هار" بفتح الهاء . وأمال الهاء نافع، وأبو عمرو . وعن عاصم كالقراءتين .

    قوله تعالى: فانهار به أي: بالباني في نار جهنم قال الزجاج : وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها . وقال قتادة: ذكر لنا أنهم حفروا فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان . قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان .
    لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

    قوله تعالى: لا يزال بنيانهم يعني مسجد الضرار الذي بنوا ريبة في قلوبهم وفيها ثلاثة أقوال [ ص: 503 ] أحدها: شكا ونفاقا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد .

    والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل .

    والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم، قاله السدي، والمبرد .

    قوله تعالى: إلا أن تقطع قلوبهم قرأ الأكثرون: "إلا" وهو حرف استثناء . وقرأ يعقوب "إلى أن" فجعله حرف جر . وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: "تقطع" بضم التاء . وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: "تقطع" بفتح التاء ثم في المعنى قولان .

    أحدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين .

    والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم، ذكره الزجاج .
    إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم

    قوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم سبب نزولها أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم"، قالوا: فإذا [ ص: 504 ] فعلنا ذلك، فما لنا؟ قال: "الجنة" قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت إن الله اشترى . . . الآية، قاله محمد بن كعب القرظي . فأما اشتراء النفس فبالجهاد .

    وفي اشتراء الأموال وجهان . أحدهما: بالإنفاق في الجهاد . والثاني: بالصدقات . وذكر الشراء هاهنا مجاز، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله: من ذا الذي يقرض الله [البقرة:245] . والمراد من الكلام أن الله أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة، فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض ومعوض . وكان الحسن يقول: لا والله، إن في الدنيا مؤمن إلا وقد أخذت بيعته . وقال قتادة: ثامنهم والله فأغلى لهم .

    قوله تعالى: فيقتلون ويقتلون قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ، وابن عامر، وعاصم "فيقتلون ويقتلون" فاعل ومفعول . وقرأ حمزة، والكسائي "فيقتلون ويقتلون" مفعول وفاعل . قال أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم; فإن لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى: يقتل من بقي منهم بعد قتل، من قتل كما أن قوله: فما وهنوا لما أصابهم [آل عمران:146] ما وهن من بقي بقتل من قتل . ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قتلوا أو قتلوا . "وعدا عليه"، قال الزجاج : نصب "وعدا" بالمعنى، لأن معنى قوله بأن لهم الجنة : وعدا عليه حقا قال: وقوله: في التوراة والإنجيل يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة .

    [ ص: 505 ] قوله تعالى: ومن أوفى أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله فاستبشروا أي: فافرحوا بهذا البيع .
    التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين

    قوله تعالى: التائبون سبب نزولها: أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول الله، وإن سرق وإن زنا وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس . قال الزجاج : يصلح الرفع هاهنا على وجوه . أحدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون . ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون; فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفع بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذكر معهم لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد .

    وللمفسرين في قوله: "التائبون" قولان . أحدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي . والثاني: الراجعون إلى الله في فعل ما أمر واجتناب ما حظر .

    وفي قوله: العابدون ثلاثة أقوال . أحدها: المطيعون لله بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس .

    والثالث: الموحدون، قاله سعيد بن جبير .

    قوله تعالى: الحامدون قال قتادة: يحمدون الله على كل حال .

    وفي السائحين أربعة أقوال . [ ص: 506 ] أحدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين . قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحا تشبيها بالسائح، لأن السائح لا زاد معه; والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه: صائم وذلك أن له قوتين، غدوة وعشية، فشبه به صيام الآدمي لتسحره وإفطاره .

    والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء . والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة . والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد .

    قوله تعالى: الراكعون الساجدون يعني في الصلاة . الآمرون بالمعروف وهو طاعة الله . والناهون عن المنكر وهو معصية الله .

    فإن قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: "والناهون" فعنه جوابان .

    أحدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السبعة، كقوله: وثامنهم كلبهم [الكهف:22] وقوله في صفة الجنة: وفتحت أبوابها [الزمر:73]، ذكره جماعة من المفسرين .

    والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات .

    قوله تعالى: والحافظون لحدود الله قال الحسن: القائمون بأمر الله .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (273)
    صــ507 إلى صــ 514



    ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

    [ ص: 507 ] قوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "أي عم، قل معي: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به: أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا . الآية، ونزلت إنك لا تهدي من أحببت [القصص:56]، أخرجه البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه . وقيل: إنه لما مات أبو طالب، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية . قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" قبل أن يموت، [ ص: 508 ] وهو في السياق، فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه .

    والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم بكى، فبكى الناس لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال: "مررت بقبر أمي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فبكيت، ثم عدت فصليت ركعتين، واستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزجرت زجرا، فأبكاني"، ثم دعا براحلته فركبها; فما سار إلا هنيأة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي; فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا والآية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثالث: أن رجلا استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكر ذلك علي للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام .

    والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا [ ص: 509 ] نستغفر لهم؟ فقال: "بلى، والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه"، فنزلت هذه الآية، وبين عذر إبراهيم، قاله قتادة . ومعنى قوله: من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارا .

    قوله تعالى: إلا عن موعدة وعدها إياه فيه قولان .

    أحدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله: سأستغفر لك ربي [مريم:47]، وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره الله بذلك .

    والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن; فلما تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله تعالى: بموته على الكفر، ترك الدعاء له . فعلى الأول، تكون هاء الكناية في "إياه" عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم . وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارئ، وأبو نهيك: "وعدها أباه" بالباء

    وفي الأواه ثمانية أقوال .

    أحدها: أنه الخاشع الدعاء المتضرع، رواه عبد الله بن شداد بن الهاد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: أنه الدعاء، رواه زر عن عبد الله، وبه قال عبيد بن عمير .

    والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة .

    والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك .

    والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد وابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    [ ص: 510 ] والسادس: أنه المسبح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد بن المسيب، وابن جبير .

    والسابع: أنه المتأوه لذكر عذاب الله، قاله الشعبي . قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فعال من التأوه، ومعناه: متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه، قال المثقب:


    إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


    والثامن: أنه الفقيه رواه ابن جريج عن مجاهد . فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب .
    وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير

    قوله تعالى: وما كان الله ليضل قوما الآية، سبب نزولها: أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس . وقال قوم: المعنى أنه بين أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فإذا حرمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا . وقال ابن الأنباري: في الآية حذف، واختصار، والتأويل: حتى [ ص: 511 ] يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضلال; فحذف ما حذف لبيان معناه، كما تقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال; يريدون: فتجرت فكسبت .
    لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم

    قوله تعالى: لقد تاب الله على النبي قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف . وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين، ذكر معهم كقوله: فأن لله خمسه وللرسول [الأنفال:41] .

    قوله تعالى: الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال الزجاج : هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حر شديد، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر . وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده . فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع لنا . قال: "تحب [ ص: 512 ] ذلك"؟ قال: نعم فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر .

    قوله تعالى: من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: "كاد يزيغ" بالياء . وقرأ الباقون بالتاء . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال .

    أحدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هموا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تزغ عن الإيمان، قاله الزجاج .

    والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشدة، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى: ثم تاب عليهم كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبه ثم أعاد ذكر التوبة .
    وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم

    قوله تعالى: وعلى الثلاثة الذين خلفوا وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر: "خالفوا" بألف . وقرأ معاذ القارئ، وعكرمة، وحميد: [ ص: 513 ] "خلفوا" بفتح الخاء واللام المخففة . وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: "خلفوا" بفتح الخاء واللام مع تشديدها . وهؤلاء هم المرادون بقوله: وآخرون مرجون وقد تقدمت أسماؤهم [التوبة:106] . وفي معنى "خلفوا" قولان .

    أحدهما: خلفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد . فيكون المعنى: خلفوا عن توبة الله على أبي لبابة وأصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك .

    والثاني: خلفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة . وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك، وقد رويتها في كتاب "الحدائق"

    قوله تعالى: حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي: ضاقت مع سعتها، وذلك أن المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم، وأمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم . وضاقت عليهم أنفسهم بالهم والغم . (وظنوا) أي: أيقنوا أن لا ملجأ أي: لا معتصم من الله ومن عذابه إلا هو . ثم تاب عليهم أعاد التوبة تأكيدا، ليتوبوا قال ابن عباس : ليستقيموا . وقال غيره: وفقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها . وسئل بعضهم عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه .
    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين

    قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين في سبب نزولها قولان .

    أحدهما: أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين . [ ص: 514 ] والثاني: أنها في أهل الكتاب . والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكونوا مع الصادقين .

    وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال .

    أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر .

    والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك . وقد قرأ ابن السميفع، وأبو المتوكل، ومعاذ القارئ: "مع الصادقين" بفتح القاف وكسر النون على التثنية .

    والثالث: أنهم الثلاثة الذين خلفوا صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخرهم قاله السدي .

    والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج . قال أبو سليمان الدمشقي: وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر الأنصار، إن الله يقول في كتابه: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا إلى قوله: أولئك هم الصادقون [الحشر:8] من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم . قال: فإن الله تعالى يقول: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء .

    والخامس: أنه عام، قاله قتادة . "ومع" بمعنى "من" وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: وكونوا من الصادقين" .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الثالث
    سُورَةُ التَّوْبَةِ
    الحلقة (274)
    صــ515 إلى صــ 522




    ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا [ ص: 515 ] إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون

    قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب قال ابن عباس : يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم . وغفار، أن يتخلفوا عن رسول الله في غزوة غزاها، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله في الحر والمشقة . يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه .

    قوله تعالى: ذلك أي: ذلك النهي عن التخلف بأنهم لا يصيبهم ظمأ وهو العطش ولا نصب وهو التعب ولا مخمصة وهى المجاعة ولا ينالون من عدو نيلا أسرا أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم الله أن يجازيهم على جميع ذلك .

    قوله تعالى: ولا ينفقون نفقة صغيرة قال ابن عباس : تمرة فما فوقها . ولا يقطعون واديا مقبلين أو مدبرين إلا كتب لهم أي: أثبت لهم أجر ذلك . ليجزيهم الله أحسن أي: بأحسن ما كانوا يعملون

    فصل

    قال شيخنا علي بن عبيد الله: اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان الجهاد يلزم الكل; ثم نسخ ذلك بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة [التوبة: 122]; [ ص: 516 ] وقالت طائفة فرض الله تعالى على جميع المؤمنين في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين:

    أحدهما: أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم .

    والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدين كله، فأمروا بالتظاهر لئلا يقل العدد، وهذا الحكم باق إلى وقتنا; فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا . فعلى هذا الآية محكمة . قال أبو سليمان: لكل آية وجهها، وليس للنسخ على إحدى الآيتين طريق .
    وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون

    قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة في سبب نزولها أربعة أقوال .

    أحدها: أنه لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سرية أبدا . فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعا، وتركوا رسول الله وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم; فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها إلى المدينة من الجهد، ويظهرون الإسلام وهم كاذبون; فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .

    والثالث: أن ناسا أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم، فنزلت: [ ص: 517 ] إلا تنفروا يعذبكم [التوبة:39]، فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة .

    والرابع: أن ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به; فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا; فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد . قال الزجاج : ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين [التوبة:113]، والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض . قال الفراء: ينفر وينفر، بكسر الفاء وضمها لغتان . واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين .

    أحدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة . (ليتفقهوا في الدين) يعني الفرقة القاعدين . فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .

    والثاني: أنه النفير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية . فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه . وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم .
    يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين [ ص: 518 ] آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون قوله تعالى: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار قد أمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يبتدأ بالأقرب فالأقرب . وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال .

    أحدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر . والثاني: قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، قاله ابن عباس . والثالث: الديلم، قاله الحسن . والرابع: العرب، قاله ابن زيد . والخامس: أنه عام في قتال الأقرب فالأقرب، قاله قتادة . وقال الزجاج : في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم . قال: وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له، فأمر بقتال من يليه ليستن بذلك . وفي الغلظة ثلاث لغات: غلظة، بكسر الغين; وبها قرأ الأكثرون . وغلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم . وغلظة، بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم . ومثلها: جذوة وجذوة وجذوة، ووجنة ووجنة ووجنة، ورغوة ورغوة ورغوة، وربوة وربوة وربوة، وقسوة وقسوة وقسوة، وألوة وإلوة وألوة، في اليمين . وشاة لجبة ولجبة ولجبة: قد ولى لبنها . قال ابن عباس في قوله "غلظة": شجاعة . وقال مجاهد: شدة .

    قوله تعالى: فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاء بقول الله تعالى . فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا لأنهم [ ص: 519 ] إذا صدقوا بها وعملوا بما فيها، زادتهم إيمانا . وهم يستبشرون أي: يفرحون بنزولها . وأما الذين في قلوبهم مرض أي: شك ونفاق .

    وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال .

    أحدها: الشك، قاله ابن عباس . والثاني: الإثم، قاله مقاتل . والثالث: الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج .

    قوله تعالى: أولا يرون يعني المنافقين . وقرأ حمزة: "أولا ترون" بالتاء على الخطاب للمؤمنين . وفي معنى يفتنون ثمانية أقوال .

    أحدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يضلون بها، قاله حذيفة بن اليمان .

    والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثالث: يبتلون بالغزو في سبيل الله، قاله الحسن، وقتادة .

    والرابع: يفتنون بالسنة والجوع، قاله مجاهد .

    والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية .

    والسادس: ينقضون عهدهم مرة أو مرتين، قاله يمان .

    والسابع: يكفرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما تكلموا به إذ خلوا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان .

    والثامن: يفضحون بإظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان .

    قوله تعالى: ثم لا يتوبون أي: من نفاقهم . ولا هم يذكرون أي: يعتبرون ويتعظون .
    [ ص: 520 ] وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون

    قوله تعالى: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض قال ابن عباس : كانت إذا أنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون: ( هل يراكم من أحد) من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد . قال الزجاج : كأنهم يقولون ذلك إيماء لئلا يعلم بهم أحد، "ثم انصرفوا" عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون . وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به .

    قوله تعالى: صرف الله قلوبهم قال ابن عباس : عن الإيمان . وقال الزجاج : أضلهم مجازاة على فعلهم .
    لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم

    قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم قرأ الجمهور بضم الفاء . وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها . وفي المضمومة أربعة أقوال .

    أحدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس; وقال: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة .

    والثالث: من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصادق، [ ص: 521 ] الرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمن هو مثلكم، قاله . الزجاج وفي المفتوحة ثلاثة أقوال .

    أحدها: أفضلكم خلقا . والثاني: أشرفكم نسبا . والثالث: أكثركم طاعة لله عز وجل .

    قوله تعالى: عزيز عليه ما عنتم فيه قولان

    أحدهما: شديد عليه ما شق عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس . قال الزجاج : شديد عليه عنتكم والعنت: لقاء الشدة .

    والثاني شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس .

    قوله تعالى: حريص عليكم قال الحسن حريص عليكم أن تؤمنوا .

    قوله تعالى: بالمؤمنين رءوف رحيم قال ابن عباس : سماه باسمين من أسمائه . وقال أبو عبيدة: "رؤوف" فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة; ويقال: "رؤف"، وأنشد:


    ترى للمؤمنين عليك حقا كفعل الوالد الرؤف الرحيم


    وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين .
    فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

    قوله تعالى: فإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان فقل حسبي الله أي: يكفيني رب العرش العظيم . وقرأ ابن محيصن: "العظيم" برفع [ ص: 522 ] الميم . وإنما خص العرش بالذكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر . قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الثالث من "زاد المسير في علم التفسير" ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة [يونس]
    فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم

    قوله تعالى: فإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان فقل حسبي الله أي: يكفيني رب العرش العظيم . وقرأ ابن محيصن: "العظيم" برفع [ ص: 522 ] الميم . وإنما خص العرش بالذكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر . قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة تم - بعون الله تبارك وتعالى - الجزء الثالث من "زاد المسير في علم التفسير" ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير سورة [يونس]


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (275)
    صــ3 إلى صــ 9



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ يُونُسَ


    فَصْلٌ فِي نُزُولِهَا

    رَوَى عَطِيَّةُ ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ . وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِيهَا مِنَ الْمَدَنِيِّ قَوْلَهُ : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ [يُونُسَ 40] . وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنَ الْمَدَنِيِّ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يُونُسَ 94] إِلَى رَأْسِ ثَلَاثِ آيَاتٍ ، وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ هِيَ مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَتَيْنِ ، قَوْلُهُ : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وَالَّتِي تَلِيهَا [يُونُسَ 94 ،95] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا [يُونُسَ 58 ،59] .

    الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ

    فَأَمَّا قَوْلُهُ : (آلر) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: " آلر " بِفَتْحِ الرَّاءِ . وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ : " آلر " عَلَى الْهِجَاءِ مَكْسُورَةً . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ (الْبَقَرَةِ) مَا يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ هَذَا الْجِنْسِ . وَقَدْ خُصَّتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ [ ص: 4 ] بِسِتَّةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ مَعْنَاهَا : أَنَا اللَّهُ أَرَى ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي : أَنَا اللَّهُ الرَّحْمَنُ ، رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعْضُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ . رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " آلر " وَ " حَم " وَ " نُونْ " حُرُوفُ الرَّحْمَنِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ . وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَفِي قَوْلِهِ : " تِلْكَ " قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى " هَذِهِ " قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ . ثُمَّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ .

    أَحَدُهَا : أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَة ِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ; فَيَكُونُ الْمَعْنَى : هَذِهِ الْأَقَاصِيصُ الَّتِي تَسْمَعُونَهَا ، تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي وُصِفَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْآيَاتِ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا ، مِنَ الْقُرْآنِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ " تِلْكَ " إِشَارَةٌ إِلَى " آلر " وَأَخَوَاتِهَا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، أَيْ : تِلْكَ الْحُرُوفُ الْمُفْتَتَحَةُ بِهَا السُّورُ هِيَ (آيَاتُ الْكِتَابِ) لِأَنَّ الْكِتَابَ بِهَا يُتْلَى ، وَأَلْفَاظُهُ إِلَيْهَا تَرْجِعُ ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : (الْحَكِيمُ) بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ الْمُبَيَّنُ الْمُوَضَّحُ ; وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ فَعِيلًا فِي مَعْنَى مُفْعِلٍ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23 : 18] أَيْ : مُعَدٍّ
    أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون

    [ ص: 5 ] قوله تعالى : أكان للناس عجبا سبب نزولها : أن الله تعالى لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم أنكرت الكفار ذلك، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فنزلت هذه الآية . والمراد بالناس هاهنا : أهل مكة ، والمراد بالرجل : محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى " منهم " : يعرفون نسبه ، قاله ابن عباس ، فأما الألف فهي للتوبيخ والإنكار . قال ابن الأنباري والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إرسال محمد ، محذوف هاهنا ، وهو مبين في قوله : نحن قسمنا بينهم معيشتهم [الزخرف :32] أي : فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة ، فلا تنكروا تفضيل الله من شاء بالنبوة ; وإنما حذفه هاهنا اعتمادا على ما بينه في موضع آخر . قال : وقيل : إنما عجبوا من ذكر البعث والنشور ، لأن الإنذار والتبشير يتصلان بهما ، فكان جوابهم في مواضع كثيرة تدل على كون ذلك ، مثل قوله : وهو أهون عليه [الروم :27] ، وقوله : يحييها الذي أنشأها أول مرة [يس :79] .

    وفي المراد بقوله : " قدم صدق " سبعة أقوال :

    أحدها : أنه الثواب الحسن بما قدموا من أعمالهم ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وروى عنه أبو صالح قال: عمل صالح يقدمون عليه .

    والثاني : أنه ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . قال أبو عبيدة : سابقة صدق .

    والثالث : شفيع صدق ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم يوم القيامة ، قاله الحسن .

    والرابع : سلف صدق تقدموهم بالإيمان ، قاله مجاهد ، وقتادة .

    والخامس : مقام صدق لا زوال عنه ، قاله عطاء . [ ص: 6 ] والسادس : أن قدم الصدق : المنزلة الرفيعة ، قاله الزجاج

    والسابع : أن القدم هاهنا : مصيبة المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته ، ذكره ابن الأنباري .

    فإن قيل : لم آثر القدم هاهنا على اليد ، والعرب تستعمل اليد في موضع الإحسان ؟

    فالجواب : أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم ، لأن العادة جارية بتقدم الساعي على قدميه ، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخر ، قال ذو الرمة :


    لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر


    فإن قيل : ما وجه إضافة القدم إلى الصدق ؟

    فالجواب : أن ذلك مدح للقدم وكل شيء أضفته إلى الصدق ، فقد مدحته; ومثله : أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق [الإسراء :80] ، وقوله : في مقعد صدق [القمر :55] . وفي الكلام محذوف ، تقديره : أوحينا إلى رجل منهم ، فلما أتاهم الوحي " قال الكافرون إن هذا لسحر مبين " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : " لساحر " بألف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : " لسحر " بغير ألف . قال أبو علي : قد تقدم قوله : " أن أوحينا إلى رجل منهم " فمن قال : ساحر ، أراد الرجل ; ومن قال : سحر ، أراد الذي أوحي ، سحر ، أي : الذي تقولون أنتم فيه : إنه وحي ، سحر . قال الزجاج : [ ص: 7 ] لما أنذرهم بالبعث والنشور ، فقالوا : هذا سحر ، أخبرهم أن الذي خلق السموات والأرض قادر على بعثهم بقوله : " إن ربكم الله " وقد سبق تفسيره في (الأعراف 54) .

    قوله تعالى : يدبر الأمر قال مجاهد : يقضيه . وقال غيره يأمر به ويمضيه .

    قوله تعالى : ما من شفيع إلا من بعد إذنه فيه قولان :

    أحدهما : لا يشفع أحد إلا أن يأذن له ، قاله ابن عباس . قال الزجاج : لم يجر للشفيع ذكر قبل هذا ، ولكن الذين خوطبوا كانوا يقولون : الأصنام شفعاؤنا .

    والثاني : أن المعنى : لا ثاني معه ، مأخوذ من الشفع ، لأنه لم يكن معه أحد ، ثم خلق الأشياء . فقوله : " إلا من بعد إذنه " أي : من بعد أمره أن يكون الخلق فكان ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " فاعبدوه " قال مقاتل : وحدوه . وقال الزجاج : المعنى : فاعبدوه وحده . وقوله : " تذكرون " معناه : تتعظون .
    إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

    قوله تعالى : " إليه مرجعكم جميعا " أي : مصيركم يوم القيامة " وعد الله حقا " قال الزجاج : " وعد الله " منصوب على معنى : وعدكم الله وعدا ، لأن قوله : " إليه مرجعكم " معناه : الوعد بالرجوع ، و " حقا " منصوب على : أحق ذلك حقا .

    قوله تعالى : " إنه يبدأ الخلق " قرأه الأكثرون بكسر الألف . وقرأت [ ص: 8 ] عائشة ، وأبو رزين ، وعكرمة ، وأبو العالية ، والأعمش : بفتحها . قال الزجاج : من كسر ، فعلى الاستئناف ، ومن فتح ، فالمعنى : إليه مرجعكم ، لأنه يبدأ الخلق . قال مقاتل : يبدأ الخلق ولم يكن شيئا ثم يعيده بعد الموت . وأما القسط ، فهو العدل .

    فإن قيل : كيف خص جزاء المؤمنين بالعدل ، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضا ؟

    فالجواب : أنه لو جمع الفريقين في القسط ، لم يتبين في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم ، ففصلهم من المؤمنين ليبين ما يجزيهم به مما هو عدل أيضا ، ذكره ابن الأنباري . فأما الحميم ، فهو الماء الحار . وقال أبو عبيدة : كل حار فهو حميم .
    هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين .

    قال تعالى : " هو الذي جعل الشمس ضياء " قرأ الأكثرون : " ضياء " بهمزة [ ص: 9 ] واحدة . وقرأ ابن كثير : " ضئاء " بهمزتين في كل القرآن ، أي : ذات ضياء . " والقمر نورا " أي : ذات نور . " وقدره منازل " أي : قدر له ، فحذف الجار والمعنى : هيأ ويسر له منازل . قال الزجاج : الهاء ترجع إلى " القمر " لأنه المقدر لعلم السنين والحساب . وقد يجوز أن يعود إلى الشمس والقمر ، فحذف أحدهما اختصارا . وقال الفراء : إن شئت جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة ، لأن به تعلم الشهور ، وإن شئت جعلت التقدير لهما ، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه ، كقوله : والله ورسوله أحق أن يرضوه [التوبة :62] . قال ابن قتيبة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلا من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة ، ثم يستسر . وهذه المنازل ، هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء ، وأسماؤها عندهم كـ الشرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والزبرة ، والصرفة ، والعواء ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، والرشاء وهو الحوت .

    قوله تعالى : " ما خلق الله ذلك إلا بالحق " أي : للحق، من إظهار صنعه وقدرته والدليل على وحدانيته . " يفصل الآيات " قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : " يفصل " بالياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " نفصل الآيات " بالنون ، والمعنى : نبينها . " لقوم يعلمون " يستدلون بالأمارات على قدرته .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (276)
    صــ 10 إلى صــ 16


    قوله تعالى : " لآيات لقوم يتقون " فيه قولان : أحدهما : يتقون الشرك . [ ص: 10 ] والثاني : عقوبة الله . فيكون المعنى : إن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق .

    قوله تعالى : " لا يرجون لقاءنا " قال ابن عباس : لا يخافون البعث . " ورضوا بالحياة الدنيا " اختاروا ما فيها على الآخرة . " واطمأنوا بها " آثروها . و قال غيره : ركنوا إليها ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة . " والذين هم عن آياتنا غافلون " فيها قولان : أحدهما : أنها آيات القرآن ومحمد ، قاله ابن عباس . والثاني : ما ذكره في أول السورة من صنعه ، قاله مقاتل . فأما قوله : " غافلون " فقال ابن عباس : مكذبون . وقال غيره : معرضون ، قال ابن زيد : وهؤلاء هم الكفار .

    قوله تعالى :

    بما كانوا يكسبون

    قال مقاتل : من الكفر والتكذيب .

    قوله تعالى : " يهديهم ربهم بإيمانهم " فيه أربعة أقوال : أحدها : يهديهم إلى الجنة ثوابا بإيمانهم . والثاني : يجعل لهم نورا يمشون به بإيمانهم . والثالث : يزيدهم هدى بإيمانهم . والرابع : يثيبهم بإيمانهم . فأما الهداية ، فقد سبقت لهم .

    قوله تعالى : " تجري من تحتهم الأنهار " أي : تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو .

    قوله تعالى : " دعواهم فيها " أي : دعاؤهم . وقد شرحنا ذلك في أول (الأعراف 5) .

    وفي المراد بهذا الدعاء قولان :

    أحدهما : أنه استدعاؤهم ما يشتهون . قال ابن عباس : كلما اشتهى أهل الجنة شيئا ، قالوا : " سبحانك اللهم " فيأتيهم ما يشتهون ; فإذا طعموا ، قالوا : " الحمد لله رب العالمين " فذلك آخر دعواهم . وقال ابن جريج : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : " سبحانك اللهم " فيأتيهم الملك بما اشتهوا ، فيسلم عليهم ، [ ص: 11 ] فيردون عليه : فذلك قوله : " وتحيتهم فيها سلام " . فإذا أكلوا ، حمدوا ربهم ، فذلك قوله : " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " .

    والثاني : أنهم إذا أرادوا الرغبة إلى الله تعالى في دعاء يدعونه به ، قالوا : " سبحانك اللهم " ، قاله قتادة .

    قوله تعالى : " وتحيتهم فيها سلام " فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تحية بعضهم لبعض ، وتحية الملائكة لهم ، قاله ابن عباس . والثاني : أن الله تعالى يحييهم بالسلام . والثالث : أن التحية : الملك ، فالمعنى : ملكهم فيها سالم ذكرهما الماوردي .

    قوله تعالى : " وآخر دعواهم " أي : دعاؤهم وقولهم : " أن الحمد لله رب العالمين " قرأ أبو مجلز ، وعكرمة ، ومجاهد ، و ابن يعمر ، وقتادة ، ويعقوب : " أن الحمد لله " بتشديد النون ونصب الدال . قال الزجاج : أعلم الله أنهم يبتدؤون بتعظيم الله وتنزيهه ، ويختمون بشكره والثناء عليه . وقال ابن كيسان : يفتتحون كلامهم بالتوحيد ، ويختمونه بالتوحيد .
    ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون

    قوله تعالى : " ولو يعجل الله للناس الشر " ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [الأنفال :8] . والتعجيل : تقديم الشيء قبل وقته . وفي المراد بالآية قولان :

    أحدهما : ولو يعجل الله للناس الشر إذا دعوا على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم ، واستعجلوا به ، كما يعجل لهم الخير ، لهلكوا ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .

    [ ص: 12 ] والثاني : ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجل لهم خير الدنيا من المال والولد ، لعجل لهم قضاء آجالهم ليتعجلوا عذاب الآخرة ، حكاه الماوردي . ويقوي هذا تمام الآية وسبب نزولها . وقد قرأ الجمهور : " لقضي إليهم " بضم القاف " أجلهم " بضم اللام . وقرأ ابن عامر : " لقضى " بفتح القاف " أجلهم " بنصب اللام . وقد ذكرنا في أول (سورة البقرة :15) معنى الطغيان والعمه .
    وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون

    قوله تعالى : " وإذا مس الإنسان الضر " اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في أبي حذيفة واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي ، قاله ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : أنها نزلت في عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، قاله عطاء . و " الضر " : الجهد والشدة . واللام في قوله : " لجنبه " بمعنى " على " . وفي معنى الآية قولان : أحدهما : إذا مسه الضر دعا على جنبه ، أو دعا قاعدا ، أو دعا قائما ، قاله ابن عباس . والثاني : إذا مسه الضر في هذه الأحوال ، دعا ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " فلما كشفنا عنه ضره مر " فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : أعرض عن الدعاء ، قاله مقاتل ، والثاني : مر في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ، ولم يتعظ بما يناله ، قاله الزجاج . والثالث : مر طاغيا على ترك الشكر .

    قوله تعالى : " كأن لم يدعنا " قال الزجاج : " كأن " هذه مخففة من الثقيلة ، المعنى : كأنه لم يدعنا ، قالت الخنساء :

    [ ص: 13 ]
    كأن لم يكونوا حمى يتقى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا


    قوله تعالى : " كذلك زين للمسرفين " المعنى : كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء ، والإعراض عند الرخاء ، كذلك زين للمسرفين ، وهم المجاوزون الحد في الكفر والمعصية ، عملهم .
    ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين

    قوله تعالى : " ولقد أهلكنا القرون من قبلكم " قال مقاتل : هذا تخويف لكفار مكة . والظلم هاهنا بمعنى الشرك . وفي قوله : " وما كانوا ليؤمنوا " قولان : أحدهما : أنه عائد على أهل مكة ، قاله مقاتل . والثاني : على القرون المتقدمة ، قاله أبو سليمان . قال ابن الأنباري : ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق وإيثارهم الباطل . وقال الزجاج : جائز أن يكون جعل جزاءهم الطبع على قلوبهم ، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم .

    قوله تعالى : " كذلك نجزي " أي : نعاقب ونهلك " القوم المجرمين " يعني المشركين من قومك .
    ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون

    قوله تعالى: " ثم جعلناكم خلائف " قال ابن عباس : جعلناكم يا أمة محمد خلائف ، أي : استخلفناكم في الأرض . وقال قتادة : ما جعلنا الله خلائف إلا لينظر إلى أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار .
    [ ص: 14 ] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم

    قوله تعالى : " وإذا تتلى عليهم آياتنا " اختلفوا فيمن نزلت على قولين : أحدهما : أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس . والثاني : أنها نزلت في مشركي مكة ، قاله مجاهد ، وقتادة . والمراد بالآيات : القرآن . " ويرجون " بمعنى : يخافون . وفي علة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان : أحدهما : أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة ، وآية الرحمة بالعذاب ، قاله ابن عباس . والثاني : أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور ، لأنهم لا يؤمنون به ، وكرهوا عيب آلهتهم ، فطلبوا ما يخلو من ذلك ، قاله الزجاج . والفرق بين تبديله والإتيان بغيره ، أن تبديله لا يجوز أن يكون معه ، والإتيان بغيره قد يجوز أن يكون معه .

    قوله تعالى : " ما يكون لي " حرك هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ; وأسكنها الباقون . " من تلقاء نفسي " حركها نافع ، وأبو عمرو ; وأسكنها الباقون ، والمعنى : من عند نفسي ، فالمعنى : أن الذي أتيت به ، من عند الله ، لا من عندي فأبدله . " إني أخاف " فتح هذه الياء ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو . " إن عصيت ربي " أي : في تبديله أو تغييره " عذاب يوم عظيم " يعني في القيامة .

    فصل

    وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بينا في نظيرتها في [ ص: 15 ] (الأنعام :15) . ومقصود الآيتين تهديد المخالفين ; وأضيف ذلك إلى الرسول ليصعب الأمر فيه .
    قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون .

    قوله تعالى : " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم " يعني القرآن ; وذلك أنه كان لا ينزله علي ، فيأمرني بتلاوته عليكم . " ولا أدراكم به " أي : ولا أعلمكم الله به . قرأ ابن كثير : " ولأدراكم " بلام التوكيد من غير ألف بعدها ، يجعلها لاما دخلت على " أدراكم " . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم : " أدريكم " بالإمالة . وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة ، وشيبة بن نصاح : " ولا أدرأتكم " بتاء بين الألف والكاف . " فقد لبثت فيكم عمرا " وقرأ الحسن ، والأعمش : " عمرا " بسكون الميم . قال أبو عبيدة : وفي العمر ثلاث لغات : عمر ، وعمر ، وعمر . قال ابن عباس : أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم بشيء من القرآن " أفلا تعقلون " أنه ليس من قبلي . " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " يريد : إني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه ، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا . والمجرمون هاهنا : المشركون .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (277)
    صــ 17 إلى صــ 23



    ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ ص: 16 ] قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم " أي : لا يضرهم إن لم يعبدوه ، ولا ينفعهم إن عبدوه ، قاله مقاتل ، والزجاج .

    قوله تعالى : " ويقولون " يعني المشركين . " هؤلاء " يعنون الأصنام . قال أبو عبيدة : خرجت كنايتها على لفظ كناية الآدميين . وقد ذكرنا هذا المعنى في (الأعراف :191) عند قوله : " وهم يخلقون " وفي قوله : " شفعاؤنا عند الله " قولان : أحدهما : شفعاؤنا في الآخرة ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، ومقاتل . والثاني : شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا ، لأنهم لا يقرون بالبعث ، قاله الحسن .

    قوله تعالى: " قل أتنبئون الله بما لا يعلم " قال الضحاك : أتخبرون الله أن له شريكا ، ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض .
    وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون

    قوله تعالى : " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " قد شرحنا هذا في سورة (البقرة :213) وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحدين ، فاختلفوا وعبدوا الأصنام ، فكان أول من بعث إليهم نوح عليه السلام .

    قوله تعالى : " ولولا كلمة سبقت من ربك " فيه ثلاثة أقوال .

    أحدها : ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم ، لقضي بينهم بنزول العذاب ، فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون من الدين .

    والثاني : أن الكلمة : أن لكل أمة أجلا ، وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته . [ ص: 17 ] والثالث : أن الكلمة : أنه لا يأخذ أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه .

    وفي قوله : " لقضي بينهم " قولان : أحدهما لقضي بينهم بإقامة الساعة . والثاني : بنزول العذاب على المكذبين .
    ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين

    قوله تعالى : " ويقولون " يعني المشركين " لولا " أي : هلا " أنزل عليه آية من ربه " مثل العصا واليد وآيات الأنبياء . " فقل إنما الغيب لله " فيه قولان : أحدهما : أن سؤالكم : لم لم تنزل الآية ؟ غيب ، ولا يعلم علة امتناعها إلا الله .

    والثاني : أن نزول الآية متى يكون ؟ غيب ، ولا يعلمه إلا الله

    قوله تعالى : " فانتظروا " فيه قولان : أحدهما : انتظروا نزول الآية . والثاني : قضاء الله بيننا بإظهار المحق على المبطل .
    وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون

    قوله تعالى : " وإذا أذقنا الناس رحمة " سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين ، أتاه أبو سفيان فقال : ادع لنا بالخصب ، فإن أخصبنا صدقناك ، فدعا لهم فسقوا ، ولم يؤمنوا ، ذكره الماوردي . قال المفسرون : المراد بالناس هاهنا : الكفار . وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال :

    أحدها : أن الرحمة : العافية والسرور ، والضراء : الفقر والبلاء ، قاله ابن عباس .

    [ ص: 18 ] والثاني : الرحمة : الإسلام ، والضراء : الكفر ، وهذا في حق المنافقين ، قاله الحسن .

    والثالث : الرحمة : الخصب ، والضراء : الجدب قاله الضحاك .

    وفي المراد بالمكر هاهنا أربعة أقوال : أحدها أنه الاستهزاء والتكذيب ، قاله مجاهد ، ومقاتل .

    والثاني : أنه الجحود والرد ، قاله أبو عبيدة .

    والثالث : أنه إضافة النعم إلى غير الله ، فيقولون : سقينا بنوء كذا ، قاله مقاتل بن حيان .

    والرابع : أن المكر: النفاق ، لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " قل الله أسرع مكرا " أي : جزاء على المكر " إن رسلنا " يعني الحفظة " يكتبون ما تمكرون " أي : يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه . وقرأيعقوب إلا رويسا وأبا حاتم ، وأبان عن عاصم : " يمكرون " بالياء .
    هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ ص: 19 ] قوله تعالى : " هو الذي يسيركم " أي : الله الذي هو أسرع مكرا ، هو الذي يسيركم " في البر " على الدواب ، وفي البحر على السفن ، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر . وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر : " ينشركم " بالنون والشين من النشر ، وهو في المعنى مثل قوله : وبث منهما رجالا كثيرا [النساء :2] . والفلك : السفن . قال الفراء : الفلك تذكر وتؤنث ، وتكون واحدة وتكون جمعا ، قال تعالى هاهنا : " جاءتها " فأنث ، وقال في (يس :41) (في الفلك المشحون ) فذكر .

    قوله تعالى : " وجرين بهم " عاد بعد المخاطبة لهم إلى الإخبار عنهم . قال الزجاج : كل من أقام الغائب مقام من يخاطبه جاز أن يرده إلى الغائب ، قال الشاعر :


    شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنة مخرم


    قوله تعالى : " بريح طيبة " أي : لينة . " وفرحوا بها " للينها . " جاءتها " يعني الفلك . قال الفراء : وإن شئت جعلتها للريح ، كأنك قلت : جاءت الريح الطيبة ريح عاصف ، والعرب تقول : عاصف وعاصفة ، وقد عصفت الريح وأعصفت ، والألف لغة لبني أسد . قال ابن عباس : الريح العاصف : الشديدة . قال الزجاج : يقال عصفت الريح ، فهي عاصف وعاصفة ، وأعصفت ، فهي معصف ومعصفة . " وجاءهم الموج من كل مكان " أي : من كل أمكنة الموج .

    قوله تعالى : " وظنوا " فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى اليقين . والثاني : أنه التوهم . وفي قوله " أحيط بهم " قولان :

    أحدهما : دنوا من الهلكة . قال ابن قتيبة : وأصل هذا أن العدو إذا أحاط [ ص: 20 ] ببلد ، فقد دنا أهله من الهلكة . وقال الزجاج : يقال لكل من وقع في بلاء : قد أحيط بفلان ، أي : أحاط به البلاء .

    والثاني : أحاطت بهم الملائكة ، ذكره الزجاج .

    قوله تعالى : " دعوا الله مخلصين له الدين " دون أوثانهم . قال ابن عباس : تركوا الشرك ، وأخلصوا لله الربوبية ، وقالوا : " لئن أنجيتنا من هذه " الريح العاصف " لنكونن من الشاكرين " أي : الموحدين .

    قوله تعالى : " يبغون في الأرض " البغي : الترامي في الفساد . قال الأصمعي : يقال : بغى الجرح : إذا ترامى إلى فساد . قال ابن عباس : يبغون في الأرض بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد .

    " يا أيها الناس " يعني أهل مكة . " إنما بغيكم على أنفسكم " أي : جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم . وقال الزجاج : عملكم بالظلم عليكم يرجع .

    قوله تعالى : " متاع الحياة الدنيا " قرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وحفص ، وأبان عن عاصم : " متاع الحياة الدنيا " بنصب المتاع . قال الزجاج : من رفع المتاع ، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إنما تنتفعون به في الدنيا ، ومن نصب المتاع ، فعلى المصدر . فالمعنى : تمتعون متاع الحياة الدنيا . وقرأ أبو المتوكل ، واليزيدي في اختياره ، وهارون العتكي عن عاصم : " متاع الحياة " بكسر العين ، قال ابن عباس : " متاع الحياة الدنيا " ، أي : منفعة في الدنيا .
    إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت [ ص: 21 ] الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون

    قوله تعالى: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء " هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية ، فشبهها بمطر نزل من السماء " فاختلط به نبات الأرض " يعني التف النبات بالمطر ، وكثر " مما يأكل الناس " من الحبوب وغيرها " والأنعام " من المرعى . " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها " قال ابن قتيبة : زينتها بالنبات . وأصل الزخرف : الذهب ، ثم يقال للنقش والنور والزهر وكل شيء زين : زخرف . وقال الزجاج : الزخرف كمال حسن الشيء .

    قوله تعالى : " وازينت " قرأه الجمهور " وازينت " بالتشديد . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وأبو عبد الرحمن ، والحسن ، وابن يعمر : بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي : ، على وزن وأفعلت . قال الزجاج : من قرأ " وازينت " بالتشديد ، فالمعنى : وتزينت ، فأدغمت التاء في الزاي : ، وأسكنت الزاي : فاجتلبت لها ألف الوصل ; ومن قرأ " وأزينت " بالتخفيف على أفعلت ، فالمعنى : جاءت بالزينة . وقرأ أبي ، وابن مسعود : " وتزينت " .

    قوله تعالى : " وظن أهلها " أي : أيقن أهل الأرض " أنهم قادرون عليها " أي : على ما أنبتته ، فأخبر عن الأرض ، والمراد النبات ، لأن المعنى مفهوم . " أتاها أمرنا " أي : قضاؤنا بإهلاكها " فجعلناها حصيدا " أي : محصودا لا شيء فيها . والحصيد : المقطوع المستأصل . " كأن لم تغن بالأمس " قال الزجاج : لم تعمر . والمغاني : المنازل التي يعمرها الناس بالنزول فيها . يقال : غنينا بالمكان : إذا نزلوا به . وقرأ الحسن : " كأن لم يغن " بالياء ، يعني الحصيد . قال بعض المفسرين : [ ص: 22 ] تأويل الآية : أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب ، حتى إذا استتم ذلك عند صاحبه ، وظن أنه ممتع بذلك ، سلب عنه بموته ، أو بحادثة تهلكه ، كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته ، فإذا تزينت به الأرض ، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك ، أهلكه الله ، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن .
    والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

    قوله تعالى : " والله يدعو إلى دار السلام " يعني الجنة . وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله : " لهم دار السلام عند ربهم " [الأنعام :127] . واعلم أن الله عم بالدعوة وخص الهداية من شاء ، لأن الحكم له في خلقه .

    وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال :

    أحدها : كتاب الله ، رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : الإسلام ، رواه النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم . والثالث : الحق ، قاله مجاهد ، وقتادة . والرابع : المخرج من الضلالات والشبه ، قاله أبو العالية .

    [ ص: 23 ] قوله تعالى : " للذين أحسنوا " قال ابن عباس : قالوا : لا إله إلا الله . قال ابن الأنباري : الحسنى : كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها ، لأن العرب توقعها على الخلة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها ، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها ، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرف من جهتها ، يدل على هذا قول امرئ القيس :


    فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

    فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
    ورضت فذلت صعبة أي إذلال

    أي : إلى الأمر المحبوب . وهصرت بمعنى مددت . والغصن كناية عن المرأة . والباء مؤكدة للكلام ، كما تقول العرب : ألقى بيده إلى الهلاك ، يريدون : ألقى يده . والشماريخ كناية عن الذوائب . ورضت ، معناه : أذللت . ومن أجل هذا قال : أي إذلال ، ولم يقل : أي رياضة .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (278)
    صــ 24 إلى صــ 30




    وللمفسرين في المراد بالحسنى خمسة أقوال :

    أحدها : أنها الجنة ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبه قال الأكثرون . والثاني : أنها الواحدة من الحسنات بواحدة ، قاله ابن عباس . والثالث : النصرة قاله عبد الرحمن بن سابط . والرابع : الجزاء في الآخرة ، قاله ابن زيد . والخامس : الأمنية ، ذكره ابن الأنباري . وفي الزيادة ستة أقوال :

    أحدها : أنها النظر إلى الله عز وجل . روى مسلم في " صحيحه " من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل " . وبهذا القول قال أبو بكر الصديق ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة ، وابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، والسدي ، ومقاتل .

    والثاني : أن الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، رواه الحكم عن علي ، ولا يصح .

    [ ص: 25 ] والثالث : أن الزيادة : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، قاله ابن عباس ، والحسن .

    والرابع : أن الزيادة : مغفرة ورضوان ، قاله مجاهد .

    والخامس : أن الزيادة : أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة ، قاله ابن زيد .

    والسادس : أن الزيادة : ما يشتهونه ، ذكره الماوردي .

    قوله تعالى : " ولا يرهق " أي : لا يغشى " وجوههم قتر " وقرأ الحسن ، وقتادة ، والأعمش : " قتر " بإسكان التاء ، وفيه أربعة أقوال :

    أحدها : أنه السواد . قال ابن عباس : سواد الوجوه من الكآبة . وقال الزجاج : القتر : الغبرة التي معها سواد . والثاني : أنه دخان جهنم ، قاله عطاء . والثالث : الخزي ، قاله مجاهد . والرابع : الغبار ، قاله أبو عبيدة .

    وفي الذلة قولان :

    أحدهما : الكآبة ، قاله ابن عباس . والثاني : الهوان ، قاله أبو سليمان .
    والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

    قوله تعالى : " والذين كسبوا السيئات " قال ابن عباس : عملوا الشرك . " جزاء سيئة بمثلها " في الآية محذوف ، وفي تقديره قولان :

    أحدهما : أن فيها إضمار " لهم " ، المعنى : لهم جزاء سيئة بمثلها ، وأنشد ثعلب :


    فإن سأل الواشون عنه فقل لهم وذاك عطاء للوشاة جزيل

    [ ص: 26 ] ملم بليلى لمة ثم إنه
    لهاجر ليلى بعدها فمطيل


    أراد : هو ملم ، وهذا قول الفراء .

    والثاني : أن فيها إضمار " منهم " ، المعنى : جزاء سيئة منهم بمثلها ، تقول العرب : رأيت القوم صائم وقائم ، أي : منهم صائم وقائم ، أنشد الفراء :


    حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود


    أي : منه ملوي ، وهذا قول ابن الأنباري . وقال بعضهم : الباء زائدة هاهنا ، و " من " في قوله : " من عاصم " صلة ، والعاصم : المانع . " كأنما أغشيت وجوههم " أي : ألبست " قطعا " قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة : " قطعا " مفتوحة الطاء ، وهي جمع قطعة . وقرأ ابن كثير ، والكسائي ، ويعقوب : " قطعا " بتسكين الطاء . قال ابن قتيبة : وهو اسم ما قطع . قال ابن جرير : وإنما قال : " مظلما " ولم يقل : " مظلمة " لأن المعنى : قطعا من الليل المظلم ، ثم حذفت الألف واللام من " المظلم " فلما صار نكرة ، وهو من نعت الليل ، نصب على القطع ; وقوم يسمون ما كان كذلك حالا ، وقوم قطعا .
    ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين

    قوله تعالى : " ويوم نحشرهم جميعا " قال ابن عباس : يجمع الكفار وآلهتهم . " ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم " أي : آلهتكم . قال الزجاج : [ ص: 27 ] " مكانكم " منصوب على الأمر ، كأنهم قيل لهم : انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم ، والعرب تتوعد فتقول : مكانك ، أي : انتظر مكانك ، فهي كلمة جرت على الوعيد .

    قوله تعالى : " فزيلنا بينهم " وقرأ ابن أبي عبلة : " فزايلنا " بألف ، قال ابن عباس : فرقنا بينهم وبين آلهتهم . وقال ابن قتيبة : هو من زال يزول وأزلته . وقال ابن جرير : إنما قال " فزيلنا " ولم يقل : " فزلنا " لإرادة تكرير الفعل وتكثيره .

    فإن قيل : " كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار ، لقوله : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " [الأنبياء :98]

    فالجواب : أن الفرقة وقعت بتبري كل معبود ممن عبده ، وهو قوله : " وقال شركاؤهم " ، قال ابن عباس : آلهتهم ، ينطق الله الأوثان ، فتقول : " ما كنتم إيانا تعبدون " أي : لا نعلم بعبادتكم لنا ، لأنه ما كان فينا روح ، فيقول العابدون : بلى قد عبدناكم ، فتقول الآلهة : " فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين " لا نعلم بها . قال الزجاج : " إن كنا " معناه : ما كنا إلا غافلين .

    فإن قيل : ما وجه دخول الباء في قوله : " فكفى بالله شهيدا " ؟

    فعنه جوابان . أحدهما : أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا : أظرف بعبد الله ، وأنبل بعبد الرحمن ، وناهيك بأخينا ، وحسبك بصديقنا ، هذا قول الفراء وأصحابه . والثاني أنها دخلت توكيدا للكلام ، إذ سقوطها ممكن ، كما يقال : خذ بالخطام ، وخذ الخطام ، قاله ابن الأنباري .
    هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون

    قوله تعالى : " هنالك تبلو " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : " تبلو " بالباء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، وزيد عن يعقوب : [ ص: 28 ] " تتلو " بالتاء . قال الزجاج : " هنالك " ظرف ، والمعنى : في ذلك الوقت تبلو ، وهو منصوب بتبلو ، إلا أنه غير متمكن ، واللام زائدة ، والأصل : هناك ، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف ، والكاف للمخاطبة . " وتبلو " تختبر ، أي : تعلم ومن قرأ " تتلو " بتاءين فقد فسرها الأخفش وغيره : تتلو من التلاوة ، أي : تقرأ . وفسروه أيضا : تتبع كل نفس ما أسلفت . ومثله قول الشاعر :


    قد جعلت دلوي تستتليني ولا أريد تبع القرين


    أي : تستتبعني ، أي : من ثقلها تستدعي اتباعي إياها .

    قوله تعالى : " وردوا " أي : في الآخرة " إلى الله مولاهم الحق " الذي يملك أمرهم حقا ، لا من جعلوا معه من الشركاء . " وضل عنهم " أي : زال وبطل " ما كانوا يفترون " من الآلهة .
    قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون

    قوله تعالى : " قل من يرزقكم من السماء " المطر ، ومن الأرض النبات ، " أمن يملك السمع " أي : خلق السمع والأبصار . وقد سبق معنى إخراج الحي من الميت ، والميت من الحي . [آل عمران :27] .

    قوله تعالى : " ومن يدبر الأمر " أي : أمر الدنيا والآخرة " فسيقولون الله " لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إلا الله ، فكان في ذلك دليل توحيده .

    وفي قوله : " أفلا تتقون " قولان ; أحدهما : أفلا تتعظون ، قاله ابن عباس . والثاني : تتقون الشرك ، قاله مقاتل .
    [ ص: 29 ] فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون

    قوله تعالى : " فذلكم الله ربكم الحق " قال الخطابي : الحق هو المتحقق وجوده ، وكل شيء صح وجوده وكونه ، فهو حق .

    قوله تعالى : " فأنى تصرفون " قال ابن عباس : كيف تصرف عقولكم إلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت ؟
    كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون

    قوله تعالى : " كذلك حقت كلمت ربك " قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : " كلمة ربك " ، وفي آخر السورة كذلك . وقرأ نافع ، وابن عامر الحرفين " كلمات " على الجمع .

    قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي : مثل أفعالهم جازاهم ربك والمعنى : حق عليهم أنهم لا يؤمنون . وقوله : " أنهم لا يؤمنون " بدل من " كلمة ربك " . وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم لأنهم لا يؤمنون ، وتكون الكلمة ما وعدوا به من العقاب .

    وذكر ابن الأنباري في " كذلك " قولين :

    [ ص: 30 ] أحدهما : أنها إشارة إلى مصدر " تصرفون " ، والمعنى : مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك .

    والثاني : أنه بمعنى هكذا .

    وفي معنى " حقت " قولان : أحدهما : وجبت . والثاني : سبقت .

    وفي كلمته قولان : أحدهما : أنها بمعنى وعده . والثاني : بمعنى قضائه . ومن قرأ " كلمات " جعل كل واحدة من الكلم التي توعدوا بها كلمة . وقد شرحنا معنى الكلمة في (الأعراف :137 و158)

    قوله تعالى : " قل الله يهدي للحق " أي : إلى الحق .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد



    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (279)
    صــ 31 إلى صــ 37




    قوله تعالى : " أمن لا يهدي " قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وورش عن نافع : " يهدي " بفتح الياء والهاء وتشديد الدال . قال الزجاج : الأصل يهتدي ، فأدغمت التاء في الدال ، فطرحت فتحتها على الهاء . وقرأ نافع إلا ورشا ، وأبو عمرو : " يهدي " بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال ، غير أن أبا عمرو كان يشم الهاء شيئا من الفتح . وقرأ حمزة ، والكسائي : " يهدي " بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال . قال أبو علي : والمعنى : لا يهدي غيره إلا أن يهدى هو ، ولو هدي الصم لم يهتد ، ولكن لما جعلوها كمن يعقل ، أجريت مجراه . وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم : " يهدي " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضل وعبد الوارث ، قال الزجاج : أتبعوا الكسرة الكسرة ، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء . وروى حفص عن عاصم ، والكسائي عن أبي بكر عنه : " يهدي " بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال ، قال الزجاج : وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء ، إلا أن الهاء كسرت لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن السميفع : " يهتدي " بزيادة تاء . والمراد بقوله : " أم من لا يهدي " الصم [ ص: 31 ] " إلا أن يهدى " . وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إن هديت اهتدت وليست كذلك ، لأنها حجارة لا تهتدي ، إلا أنهم لما اتخذوها آلهة ، عبر عنها كما يعبر عمن يعقل ، ووصفت صفة من يعقل وإن لم تكن في الحقيقة كذلك ; ولهذا المعنى قال في صفتها : " أمن " لأنهم جعلوها كمن يعقل . ولما أعطاها حقها في أصل وضعها ، قال : " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع " [مريم :42] . وقال الفراء : " أمن لا يهدي " أي : أتعبدون ما لا يقدر أن ينتقل من مكانه إلا أن يحول ؟ وقد صرف بعضهم الكلام إلى الرؤساء والمضلين ، والأول أصح .

    قوله تعالى : " فما لكم " قال الزجاج : هو كلام تام ، كأنه قيل لهم : أي شيء لكم في عبادة الأوثان ؟ ثم قيل لهم : " كيف تحكمون " أي : على أي حال تحكمون ؟ وقال ابن عباس : كيف تقضون لأنفسكم ؟ وقال مقاتل : كيف تقضون بالجور ؟
    وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون

    قوله تعالى : " وما يتبع أكثرهم " أي : كلهم " إلا ظنا " أي : ما يستيقنون أنها آلهة ، بل يظنون شيئا فيتبعونه . " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " أي : ليس هو كاليقين ، ولا يقوم مقام الحق وقال مقاتل : ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئا ، وقال غيره : ظنهم أنها تشفع لهم لا يغني عنهم .
    وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين

    [ ص: 32 ] قوله تعالى : " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله " قال الزجاج : هذا جواب قولهم : ائت بقرآن غير هذا أو بدله [يونس :15] وجواب قولهم : افتراه [الفرقان :4] . قال الفراء : ومعنى الآية : ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، فجاءت " أن " على معنى ينبغي . وقال ابن الأنباري : يجوز أن تكون " أن " مع " يفترى " مصدرا ، وتقديره : وما كان هذا القرآن افتراء . ويجوز أن تكون " كان " تامة فيكون المعنى : ما نزل هذا القرآن ، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى ، وبأن يفترى ، فتنصب " أن " بفقد الخافض في قول الفراء ، وتخفض بإضمار الخافض في قول الكسائي . وقال ابن قتيبة : معنى " أن يفترى " أي : يضاف إلى غير الله ، أو يختلق .

    قوله تعالى : " ولكن تصديق الذي بين يديه " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنه تصديق الكتب المتقدمة ، قاله ابن عباس . فعلى هذا ، إنما قال : " الذي " لأنه يريد الوحي .

    والثاني : ما بين يديه من البعث والنشور ، ذكره الزجاج .

    والثالث : تصديق النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين يدي القرآن ، لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه قبل سماعهم القرآن ، ذكره ابن الأنباري .

    قوله تعالى : " وتفصيل الكتاب " أي : وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرائض التي فرضها عليهم .
    أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين

    قوله تعالى : " أم يقولون افتراه " في " أم " قولان : أحدهما : أنها بمعنى الواو ، قاله أبو عبيدة . والثاني : بمعنى بل ، قاله الزجاج .

    [ ص: 33 ] قوله تعالى : " فأتوا بسورة مثله " قال الزجاج : المعنى : فأتوا بسورة مثل سورة منه ، فذكر المثل لأنه إنما التمس شبه الجنس ، " وادعوا من استطعتم " ممن هو في التكذيب مثلكم " إن كنتم صادقين " أنه اختلقه .
    بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين

    قوله تعالى : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " فيه قولان : أحدهما : أن المعنى : بما لم يحيطوا بعلم ما فيه ذكر الجنة والنار والبعث والجزاء . والثاني : بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به ، لأنهم شاكون فيه .

    وفي قوله : " ولما يأتهم تأويله " قولان : أحدهما : تصديق ما وعدوا به من الوعيد . والتأويل : ما يؤول إليه الأمر . والثاني : ولم يكن معهم علم تأويله ، قاله الزجاج .

    قيل لسفيان بن عيينة : يقول الناس : كل إنسان عدو ما جهل ، فقال : هذا في كتاب الله . قيل : أين ؟ فقال : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " .

    وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد في القرآن : من جهل شيئا عاداه ؟ فقال : نعم ، في موضعين . قوله : " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " وقوله : وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [الأحقاف :11]
    ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين

    قوله تعالى : " ومنهم من يؤمن به " في المشار إليهم قولان :

    [ ص: 34 ] أحدهما : أنهم اليهود ، قاله أبو صالح عن ابن عباس .

    والثاني : قريش ، قاله مقاتل بن سليمان .

    وفي هاء " به " قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ودينه ، قاله مقاتل . والثاني : إلى القرآن ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

    وهذه الآية تضمنت الإخبار عما سبق في علم الله ، فالمعنى : ومنهم من سيؤمن به . وقال الزجاج : منهم من يعلم أنه حق فيصدق به ويعاند فيظهر الكفر ، " ومنهم من لا يؤمن به " أي : يشك ولا يصدق .

    قوله تعالى : " وربك أعلم بالمفسدين " قال عطاء : يريد المكذبين ، وهذا تهديد لهم .
    وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

    قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي . . . " الآية . قال أبو صالح عن ابن عباس : نسختها آية السيف ; وليس هذا بصحيح ، لأنه لا تنافي بين الآيتين .
    ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون

    قوله تعالى : ومنهم من يستمعون إليك اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال : أحدها : في يهود المدينة ، كانوا يأتون رسول الله ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشقاء ، فنزلت هذه الآية .

    والثاني : أنها نزلت في المستهزئين ، كانوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم للاستهزاء والتكذيب ، فلم ينتفعوا ، فنزلت فيهم هذه الآية ، والقولان مرويان عن ابن عباس .

    [ ص: 35 ] والثالث : أنها نزلت في مشركي قريش ، قاله مقاتل . قال الزجاج : ظاهرهم ظاهر من يستمع ، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم . " ولو كانوا لا يعقلون " أي : ولو كانوا مع ذلك جهالا . وقال ابن عباس : يريد أنهم شر من الصم ، لأن الصم لهم عقول وقلوب ، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم .
    ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون

    قوله تعالى : " ومنهم من ينظر إليك " قال ابن عباس ; يريد : متعجبين منك . أفأنت تهدي العمي " يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون . وقال الزجاج : ومنهم من يقبل عليك بالنظر ، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى . وقال ابن جرير : ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى حججك على نبوتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيق . وقال مقاتل : و " لو " في الآيتين بمعنى " إذا " .
    إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون .

    قوله تعالى : " إن الله لا يظلم الناس شيئا " لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة ، أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم ، لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء ، وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم بذلك ، لأن الفعل منسوب إليهم ، وإن كان بقضاء الله .

    قوله تعالى : " ولكن الناس " قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : " ولكن الناس " بتخفيف النون وكسرها ، ورفع الاسم بعدها .
    ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين

    [ ص: 36 ] قوله تعالى : " ويوم نحشرهم " وقرأ حمزة : " يحشرهم " بالياء . قال أبو سليمان الدمشقي : هم المشركون .

    قوله تعالى : " كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار " فيه قولان :

    أحدهما : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، قاله ابن عباس . والثاني : في الدنيا ، قاله مقاتل . قال الضحاك : قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم ، فصار كالساعة من النهار ، لهول ما استقبلوا من القيامة .

    قوله تعالى : " يتعارفون بينهم " قال ابن عباس : إذا بعثوا من القبور تعارفوا ، ثم تنقطع المعرفة . قال الزجاج : وفي معرفة بعضهم بعضا ، وعلم بعضهم بإضلال بعض ، التوبيخ لهم ، وإثبات الحجة عليهم . وقيل : إذا تعارفوا وبخ بعضهم بعضا ، فيقول هذا لهذا : أنت أضللتني ، وكسبتني دخول النار .

    قوله تعالى : " قد خسر الذين كذبوا " هو من قول الله تعالى ، لا من قولهم ، والمعنى : خسروا ثواب الجنة إذ كذبوا بالبعث " وما كانوا مهتدين " من الضلالة .
    وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون

    قوله تعالى : " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " قال المفسرون : كانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته من عذابهم . " أو نتوفينك " قبل أن نريك " فإلينا مرجعهم " بعد الموت ، والمعنى : إن لم ننتقم منهم عاجلا ، انتقمنا آجلا .

    قوله تعالى : " ثم الله شهيد على ما يفعلون " من الكفر والتكذيب . قال [ ص: 37 ] الفراء : " ثم " هاهنا عطف ، ولو قيل : معناها هناك الله شهيد ، كان جائزا . وقال غيره : " ثم " هاهنا بمعنى الواو . وقرأ ابن أبي عبلة : " ثم الله شهيد " بفتح الثاء ، يراد به : هنالك الله شهيد .

    قوله تعالى : " فإذا جاء رسولهم قضي بينهم " فيه ثلاثة أقوال :

    أحدها : إذا جاء في الدنيا بعد الإذن له في دعائهم ، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم ، قاله الحسن . وقال غيره : إذا جاءهم في الدنيا ، حكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة والمعصية .

    والثاني : إذا جاء يوم القيامة ، قاله مجاهد . وقال غيره : إذا جاء شاهدا عليهم .

    والثالث : إذا جاء في القيامة وقد كذبوه في الدنيا ، قاله ابن السائب .

    قوله تعالى : " قضي بينهم بالقسط " فيه قولان : أحدهما : بين الأمة ، فأثيب المحسن وعوقب المسيء . والثاني : بينهم وبين نبيهم .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد




    تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
    جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
    الجزء الرابع
    سُورَةُ يُونُسَ
    الحلقة (280)
    صــ 38 إلى صــ 44


    ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين

    قوله تعالى : " ويقولون متى هذا الوعد " في القائلين هذا قولان :

    أحدهما : الأمم المتقدمة ، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم ، قاله ابن عباس .

    والثاني : أنهم المشركون الذين أنذرهم نبينا صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو سليمان .

    وفي المراد بالوعد قولان : أحدهما : العذاب ، قاله ابن عباس . والثاني : قيام الساعة . " إن كنتم صادقين " أنت وأتباعك .
    قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه [ ص: 38 ] المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون

    قوله تعالى : " قل لا أملك لنفسي ضرا . . . " الآية ، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من (الأعراف :34 و188) .

    قوله تعالى : " إن أتاكم عذابه بياتا " قال الزجاج : البيات : كل ما كان بليل . وقوله : " ماذا " في موضع رفع من جهتين . إحداهما : أن يكون " ذا " بمعنى الذي ، المعنى : ما الذي يستعجل منه المجرمون ؟ ويجوز أن يكون " ماذا " اسما واحدا ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل منه المجرمون ؟ والهاء في " منه " تعود على العذاب . وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى ، فيكون المعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى ؟ وعودها على العذاب أجود ، لقوله : " أثم إذا ما وقع آمنتم به " . وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين : المشركون ، وكانوا يقولون : نكذب بالعذاب ونستعجله ، ثم إذا وقع العذاب آمنا به ; فقال الله تعالى موبخا لهم : " أثم إذا ما وقع آمنتم به " أي : هنالك تؤمنون فلا يقبل منكم الإيمان ، ويقال لكم : الآن تؤمنون ؟ فأضمر : تؤمنون به مع " آلآن وقد كنتم به تستعجلون " مستهزئين ، وهو قوله : " ثم قيل للذين ظلموا " أي : كفروا ، عند نزول العذاب " ذوقوا عذاب الخلد " لأنه إذا نزل بهم العذاب ، أفضوا منه إلى عذاب الآخرة الدائم .
    ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين

    قوله تعالى : " ويستنبئونك " أي : ويستخبرونك " أحق هو " يعنون البعث [ ص: 39 ] والعذاب . " قل إي " المعنى : نعم " وربي " وفتح هذه الياء نافع ، وأبو عمرو . وإنما أقسم مع إخباره تأكيدا . وقال ابن قتيبة : " إي " بمعنى " بل " ولا تأتي إلا قبل اليمين صلة لها .

    قوله تعالى : " وما أنتم بمعجزين " قال ابن عباس : بسابقين . وقال الزجاج : لستم ممن يعجز أن يجازى على كفره .
    ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون

    قوله تعالى : " ولو أن لكل نفس ظلمت " قال ابن عباس : أشركت . " ما في الأرض لافتدت به " عند نزول العذاب . " وأسروا الندامة " يعني : الرؤساء أخفوها من الأتباع . " وقضي بينهم " أي : بين الفريقين . وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضل : " أسروا الندامة " بمعنى أظهروا ، لأنه ليس بيوم تصنع ولا تصبر ، والإسرار من الأضداد ; يقال : أسررت الشيء ، بمعنى : أخفيته . وأسررته : أظهرته ، قال الفرزدق :


    ولما رأى الحجاج جرد سيفه أسر الحروري الذي كان أضمرا


    يعني : أظهر . فعلى هذا القول : أظهروا الندامة عند إحراق النار لهم ، لأن [ ص: 40 ] النار ألهتهم عن التصنع والكتمان . وعلى الأول : كتموها قبل إحراق النار إياهم .

    وقوله تعالى : " ألا إن وعد الله حق " قال ابن عباس : ما وعد أولياءه من الثواب ، وأعداءه من العقاب . " ولكن أكثرهم " يعني المشركين " لا يعلمون " .
    يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين

    قوله تعالى : " يا أيها الناس " قال ابن عباس : يعني قريشا . " قد جاءتكم موعظة " يعني القرآن . " وشفاء لما في الصدور " أي : دواء لداء الجهل . " وهدى " أي : بيان من الضلالة .
    قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون

    قوله تعالى : " قل بفضل الله وبرحمته " فيه ثمانية أقوال :

    أحدها : أن فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وهلال بن يساف . وروي عن الحسن ، ومجاهد في بعض الرواية عنهما ، وهو اختيار ابن قتيبة .

    والثاني : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : أن جعلهم من أهل القرآن ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال أبو سعيد الخدري ، والحسن في رواية .

    والثالث : أن فضل الله : العلم ، ورحمته : محمد صلى الله عليه وسلم ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

    والرابع : أن فضل الله : الإسلام ، ورحمته تزيينه في القلوب ، قاله ابن عمر .

    والخامس : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإسلام ، قاله الضحاك ، وزيد بن أسلم ، وابنه ومقاتل .

    [ ص: 41 ] والسادس : أن فضل الله ورحمته : القرآن ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، واختاره الزجاج .

    والسابع : أن فضل الله : القرآن ، ورحمته : السنة ، قاله خالد بن معدان .

    والثامن : فضل الله : التوفيق ، ورحمته : العصمة ، قاله ابن عيينة .

    قوله تعالى : " فبذلك فليفرحوا " وقرأ أبي بن كعب ، وأبو مجلز ، وقتادة ، وأبو العالية ، ورويس عن يعقوب : " فلتفرحوا " بالتاء . وقرأ الحسن ، ومعاذ القارئ ، وأبو المتوكل مثل ذلك ، إلا أنهم كسروا اللام . وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران : " فبذلك فافرحوا " . قال ابن عباس : بذلك الفضل والرحمة . " هو خير مما يجمعون " أي : مما يجمع الكفار من الأموال . وقرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، ورويس : " تجمعون " بالتاء ، وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله : " بفضل الله " خبر لاسم مضمر ، تأويله : هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله ورحمته ، فبذلك التطول من الله فليفرحوا .
    قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

    قوله تعالى : " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق " قال المفسرون : هذا خطاب لكفار قريش ، كانوا يحرمون ما شاؤوا ، ويحلون ما شاؤوا . و " أنزل " بمعنى خلق . وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في (المائدة :103) و(الأنعام :139) .

    قوله تعالى : " قل آلله أذن لكم " أي : في هذا التحليل والتحريم .
    [ ص: 42 ] وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون

    قوله تعالى : " وما ظن الذين يفترون على الله الكذب " في الكلام محذوف ، تقديره : ما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم ، " إن الله لذو فضل على الناس " حين لم يعجل عليهم بالعقوبة " ولكن أكثرهم لا يشكرون " تأخير العذاب عنهم .
    وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين

    قوله تعالى : " وما تكون في شأن " أي : في عمل من الأعمال ، وجمعه : شؤون . " وما تتلو منه " في هاء الكناية قولان :

    أحدهما : أنها تعود إلى الشأن . قال الزجاج : معنى الآية : أي وقت تكون في شأن من عبادة الله ، وما تلوت من الشأن من قرآن .

    والثاني : أنها تعود إلى الله تعالى ، فالمعنى : وما تلوت من الله ، أي : من نازل منه من قرآن ، ذكره جماعة من العلماء . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأمته داخلون فيه ، بدليل قوله : " ولا تعملون من عمل " قال ابن الأنباري : جمع في هذا ، ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين .

    قوله تعالى : " إذ تفيضون فيه " الهاء عائدة على العمل . قال ابن قتيبة : تفيضون بمعنى تأخذون فيه . وقال الزجاج : تنتشرون فيه ، يقال : أفاض القوم في الحديث : إذا انتشروا فيه وخاضوا . " وما يعزب " معناه : وما يبعد . وقال ابن قتيبة : [ ص: 43 ] ما يبعد ولا يغيب . وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي هاهنا وفي (سبإ :3) . وقد بينا " مثقال ذرة " في سورة (النساء :40) .

    قوله تعالى : " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما . وقرأ حمزة ، وخلف ، ويعقوب برفع الراء فيهما . قال الزجاج : من قرأ بالفتح ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة ، ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر ، والموضع موضع خفض ، إلا أنه فتح لأنه لا ينصرف . ومن رفع ، فالمعنى : وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر . ويجوز رفعه على الابتداء ، فيكون المعنى ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، " إلا في كتاب مبين " قال ابن عباس : هو اللوح المحفوظ
    ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم

    قوله تعالى : " ألا إن أولياء الله " روى ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، من أولياء الله ؟ قال " الذين إذا رؤوا ذكر الله " . وروى عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عز وجل " قالوا : يا رسول الله ، من هم ، وما أعمالهم لعلنا نحبهم ؟ قال " هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم [ ص: 44 ] ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس " ، ثم قرأ " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "

    قوله تعالى : " لهم البشرى في الحياة الدنيا " فيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح ، أو ترى له ، رواه عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .

    والثاني : أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت ، قاله الضحاك ، وقتادة ، والزهري .

    والثالث : أنها ما بشر الله به في كتابه من جنته وثوابه ، كقوله : وبشر الذين آمنوا [البقرة :25] ، وأبشروا بالجنة [فصلت :30] ، يبشرهم ربهم [التوبة :21] ، وهذا قول الحسن ، واختاره الفراء ، والزجاج ، واستدلا بقوله : " لا تبديل لكلمات الله " . قال ابن عباس : لا خلف لمواعيده ، وذلك أن مواعيده بكلماته ، فإذا لم تبدل الكلمات ، لم تبدل المواعيد .

    فأما بشراهم في الآخرة ، ففيها ثلاثة أقوال :

    أحدها : أنها الجنة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، واختاره ابن قتيبة .

    [ ص: 45 ] والثاني : أنه عند خروج الروح تبشر برضوان الله ، قاله ابن عباس .

    والثالث : أنها عند الخروج من قبورهم ، قاله مقاتل .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •