عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 14 من 16 الأولىالأولى ... 45678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 261 إلى 280 من 314

الموضوع: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

  1. #261
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (5)
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    من صــ 357 الى صــ 364
    الحلقة (259)



    قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق ؛ لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله . فالمنزل قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ ص: 357 ] . وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن . وقرأ عاصم ويعقوب " وقد نزل " بفتح النون والزاي وشدها ؛ لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى : فإن العزة لله جميعا . وقرأ حميد كذلك ، إلا أنه خفف الزاي . الباقون " نزل " غير مسمى الفاعل . أن إذا سمعتم آيات الله موضع أن إذا سمعتم على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه . وفي قراءة الباقين رفع ؛ لكونه اسم ما لم يسم فاعله . يكفر بها أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله ؛ فأوقع السماع على الآيات ، والمراد سماع الكفر والاستهزاء ؛ كما تقول : سمعت عبد الله يلام ، أي سمعت اللوم في عبد الله .

    قوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي غير الكفر . إنكم إذا مثلهم فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضا بالكفر كفر ؛ قال الله عز وجل : إنكم إذا مثلهم . فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية . وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر ، فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم ، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية إنكم إذا مثلهم أي إن الرضا بالمعصية معصية ؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم . وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة ؛ كما قال :


    فكل قرين بالمقارن يقتدي
    وقد تقدم . وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى . وقال الكلبي : قوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره نسخ بقوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء . وقال عامة المفسرين : هي محكمة . وروى جويبر عن الضحاك قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة .

    قوله تعالى : إن الله جامع المنافقين الأصل " جامع " بالتنوين فحذف استخفافا ؛ فإنه بمعنى يجمع . الذين يتربصون بكم يعني المنافقين ، أي ينتظرون بكم الدوائر . [ ص: 358 ] فإن كان لكم فتح من الله أي غلبة على اليهود وغنيمة . قالوا ألم نكن معكم أي أعطونا من الغنيمة . وإن كان للكافرين نصيب أي ظفر . قالوا ألم نستحوذ عليكم أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم . يقال : استحوذ على كذا أي غلب عليه ؛ ومنه قوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان . وقيل : أصل الاستحواذ الحوط ؛ حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه . وهذا الفعل جاء على الأصل ، ولو أعل لكان ألم نستحذ ، والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ . ونمنعكم من المؤمنين أي بتخذيلنا إياهم عنكم ، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم . والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا : ألم نكن معكم ؟ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا : ألم نكن معكم ! ويحتمل أن يريدوا بقولهم ألم نكن معكم الامتنان على المسلمين . أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم .

    قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا

    فيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا للعلماء فيه تأويلات خمس :

    أحدها : ما روي عن يسيع الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول الله : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا كيف ذلك ، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ! فقال علي رضي الله عنه : معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم . وكذا قال ابن عباس : ذاك يوم القيامة . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف : لعدم فائدة الخبر فيه ، وإن أوهم صدر الكلام معناه ؛ لقوله تعالى : فالله يحكم بينكم يوم القيامة فأخر الحكم إلى يوم القيامة . وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى ؛ بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة . ثم قال : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرارا .

    الثاني : إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم ؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم [ ص: 359 ] فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا .

    الثالث : إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم ؛ كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا .

    قلت : ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا وذلك أن " حتى " غاية ؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض ، وسبي بعضهم لبعض ، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله ؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه .

    الرابع : إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا ؛ فإن وجد فبخلاف الشرع .

    الخامس : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت .

    الثانية : ابن العربي : ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم . وبه قال أشهب والشافعي : لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه ، والملك بالشراء سبيل ، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك . وقال ابن القاسم عن مالك ، وهو قول أبي حنيفة : إن معنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في دوام الملك ؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث . وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم عليه ببيعه مات ، فيرث العبد المسلم وارث الكافر . فهذه سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه ، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية ، فقد أراد الكافر تملكه باختياره ، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده ، وجعل له سبيل عليه . قال أبو عمر : وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه . وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه . فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له ، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه ؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل : [ ص: 360 ] ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما .

    واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين : أحدهما : البيع مفسوخ . والثاني : البيع صحيح ويباع على المشتري .

    الثالثة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد ؛ فقال مالك والشافعي في أحد قوليه : يحال بينه وبين العبد ، ويخارج على سيده النصراني ، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره . فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد المدبر ، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر . وقال الشافعي في القول الآخر : إنه يباع عليه ساعة أسلم ؛ واختاره المزني ؛ لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم في ملك مشرك يذله ويخارجه ، وقد صار بالإسلام عدوا له . وقال الليث بن سعد : يباع النصراني من مسلم فيعتقه ، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه ، ويدفع إلى النصراني ثمنه . وقالسفيان والكوفيون : إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته ، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية .
    قوله : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا

    قوله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قد مضى في " البقرة " معنى الخدع . والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله . قال الحسن : يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ؛ فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق ، فذلك قولهم : انظرونا نقتبس من نوركم .

    قوله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون ، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون تركها عقابا . وفي صحيح الحديث : إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح . فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم [ ص: 361 ] القيام إليها ، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به ، ولولا السيف ما قاموا .

    والرياء : إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ؛ وقد تقدم بيانه . ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف . وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة : تلك صلاة المنافقين - ثلاثا - يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا رواه مالك وغيره . فقيل : وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح ، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير . وقيل : وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله . وقيل : لعدم الإخلاص فيه . وهنا مسألتان :

    الأولى : بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين ، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول ، وخرج من مقتضى قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . وسيأتي اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها . رواه الأئمة . وقال صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن . وقال : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود . قال الشافعي وأحمد وإسحاق : من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة ؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود . قال ابن العربي : وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض . وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها . وقد مضى في " البقرة " هذا المعنى .

    الثانية : قال ابن العربي : إن من صلى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له [ ص: 362 ] بالإيمان ، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه ، ولم يكن عليه حرج ؛ وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل ، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة .

    قلت : قول " وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة " فيه نظر . وقد تقدم بيانه في " النساء " فتأمله هناك . ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل ؛ لقول الله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا فعم . وقال قوم : إنما يدخل النفل خاصة ؛ لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك . وقيل بالعكس ؛ لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها .
    قوله تعالى : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا

    المذبذب : المتردد بين أمرين ؛ والذبذبة الاضطراب . يقال : ذبذبته فتذبذب ؛ ومنه قول النابغة :


    ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
    آخر :


    خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب
    كذا روي بكسر الذال الثانية .

    قال ابن جني : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل . فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين ، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى وفي رواية ( تكر ) بدل ( تعير ) . وقرأ الجمهور " مذبذبين " بضم الميم وفتح الذالين . وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية . وفي حرف أبي " متذبذبين " . ويجوز الإدغام على هذه القراءة " مذبذبين " بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية . وعن الحسن " مذبذبين " بفتح الميم والذالين .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا

    [ ص: 363 ] قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء مفعولان ؛ أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم ؛ وقد تقدم هذا المعنى . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم .
    قوله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا

    قوله تعالى : في الدرك . قرأ الكوفيون " الدرك " بإسكان الراء ، والأولى أفصح ؛ لأنه يقال في الجمع : أدراك مثل جمل وأجمال ؛ قاله النحاس . وقال أبو علي : هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه ، والجمع أدراك . وقيل : جمع الدرك أدرك ؛ كفلس وأفلس . والنار دركات سبعة ؛ أي طبقات ومنازل ؛ إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك . يقال : للبئر أدراك ، ولما تعالى درج ؛ فللجنة درج ، وللنار أدراك . وقد تقدم هذا . فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية ؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين . وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى ، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه . وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى : في الدرك الأسفل من النار قال : توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم . وقال ابن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . وقال تعالى في أصحاب المائدة : فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . وقال في آل فرعون : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .
    قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما

    استثناء ممن نافق . ومن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله ، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا ، ويخلص دينه لله ؛ كما نصت عليه هذه الآية ؛ وإلا فليس بتائب ؛ ولهذا [ ص: 364 ] أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم ، والله أعلم . روى البخاري عن الأسود قال : كنا في حلقة عبد الله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال : لقد نزل النفاق على قوم خير منكم ، قال الأسود : سبحان الله ! إن الله تعالى يقول : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . فتبسم عبد الله وجلس حذيفة في ناحية المسجد ؛ فقام عبد الله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته . فقال حذيفة : عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت : لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم . وقال الفراء : معنى فأولئك مع المؤمنين أي من المؤمنين . وقال القتبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : فأولئك مع المؤمنين ولم يقل : هم المؤمنون . وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله يوم يناد المنادي و سندع الزبانية و يوم يدع الداعي حذفت الواوات لالتقاء الساكنين .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #262
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (5)
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    من صــ 365 الى صــ 372
    الحلقة (260)


    قوله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما

    استفهام بمعنى التقرير للمنافقين . التقدير : أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ؛ فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن ، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه ، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه . وقال مكحول : أربع من كن فيه كن له ، وثلاث من كن فيه كن عليه ؛ فالأربع اللاتي له : فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار ، قال الله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وقال الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وقال تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم . وأما الثلاث اللاتي عليه : فالمكر والبغي والنكث ؛ قال الله تعالى : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه . وقال تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله وقال تعالى : إنما بغيكم على أنفسكم . وكان الله شاكرا عليما أي يشكر عباده على طاعته . [ ص: 365 ] ومعنى " يشكرهم " يثيبهم ؛ فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل ، وذلك شكر منه على عبادته .والشكر في اللغة الظهور ، يقال : دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . والعرب تقول في المثل : " أشكر من بروقة " لأنها يقال : تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر . والله أعلم .
    قوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا

    فيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول وتم الكلام ، ثم قال : إلا من ظلم استثناء ليس من الأول في موضع نصب ؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان . ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم . وقراءة الجمهور " ظلم " بضم الظاء وكسر اللام ؛ ويجوز إسكانها . ومن قرأ " ظلم " بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي ، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة . فعلى القراءة الأولى قالت طائفة : المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به . ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ؛ فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي . فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء . وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو خير له ؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم . وقال أيضا هو والسدي : لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول . وقال ابن المستنير : إلا من ظلم معناه ؛ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح . والآية على هذا في الإكراه ؛ وكذا قال قطرب : إلا من ظلم يريد المكره ؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر ؛ قال : ويجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم على البدل ؛ كأنه قال : لا يحب الله إلا من ظلم ، أي لا يحب الله الظالم ؛ فكأنه يقول : يحب من ظلم أي يأجر من ظلم . والتقدير على [ ص: 366 ] هذا القول : لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم ، على البدل . وقال مجاهد : نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه . قال ابن جريج عن مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه فنزلت إلا من ظلم ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد ؛ قال : نزلت هذه الآية لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه : إنه لم يحسن ضيافته . وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية ؛ قالوا : لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها ؛ وهو قول الليث بن سعد . والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في " هود " والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن ؛ فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا ؛ وقد تقدم في " البقرة " . وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وقال : اللهم عليك بفلان وفلان سماهم . وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا ، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم . وقد روى أبو داود عن عائشة قال : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبخي عنه أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه . وروي ، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته . قال ابن المبارك : يحل عرضه يغلظ له ، وعقوبته يحبس له . وفي صحيح مسلم مطل الغني ظلم . فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم ، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه : فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك ؛ حكي معناه عن سفيان ، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما .

    الثانية : وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين اقض [ ص: 367 ] بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن . الحديث . ولم يرد عليه واحد منهم ؛ لأنها كانت حكومة ، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه ، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب ؛ قاله ابن العربي . وقال علماؤنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت ، وأما إذا تفاوتت ، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء ، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار . ووجه آخر : وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو الأب ، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه ، لا أنه موصوف بتلك الأمور ؛ ثم انضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية ؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز ، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور ؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه ؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما .

    الثالثة : فأما من قرأ " ظلم " بالفتح في الظاء واللام - وهي ، قراءة زيد بن أسلم ، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي ، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى : إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول ؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه ؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق : ألست نافقت ؟ إلا من ظلم ، أي أقام على النفاق ؛ ودل على هذا قوله تعالى : إلا الذين تابوا . قال ابن زيد : وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول ، ثم قال لهم بعد ذلك : ما يفعل الله بعذابكم على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان . ثم قال للمؤمنين : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في إقامته على النفاق ؛ فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول . وقال قوم : معنى الكلام : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، ثم استثنى استثناء منقطعا ؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك .

    [ ص: 368 ] قلت : وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم ؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم . وقال أبو إسحاق الزجاج : يجوز أن يكون المعنى " إلا من ظلم " فقال سوءا ؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه ؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول .

    قلت : ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام : خذوا على أيدي سفهائكم . وقوله : انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا : هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تكفه عن الظلم . وقال الفراء : " إلا من ظلم " يعني ولا من ظلم .

    قوله تعالى : وكان الله سميعا عليما تحذير للظالم حتى لا يظلم ، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار . ثم أتبع هذا بقوله إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فندب إلى العفو ورغب فيه . والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام ؛ وقد تقدم في " آل عمران " فضل العافين عن الناس . ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها . وقيل : إن عفوت فإن الله يعفو عنك . روى ابن المبارك قال : حدثني من سمع الحسن يقول : إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى : فمن عفا وأصلح فأجره على الله .
    قوله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا

    فيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : إن الذين يكفرون لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ؛ إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبين أن الكفر به كفر بالكل ؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

    [ ص: 369 ] ومعنى يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي بين الإيمان بالله ورسله ؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر ؛ وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل ، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم ، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها ؛ فكان كجحد الصانع سبحانه ، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية . وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر ، وهي :

    الثانية : قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد ؛ وقد تقدم هذا من قولهم في " البقرة " . ويقولون لعوامهم : لم نجد ذكر محمد في كتبنا . ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا ، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية . وقال : ذلك ولم يقل ذينك ؛ لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز .

    الثالثة قوله تعالى : أولئك هم الكافرون حقا تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض ، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله ؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل ، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول ؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا . وللكافرين يقوم مقام المفعول الثاني ل " أعتدنا " ؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم عذابا مهينا أي مذلا .
    قوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما

    يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
    قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا

    [ ص: 370 ] سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى بالتوراة ؛ تعنتا له صلى الله عليه وسلم ؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا فقالوا أرنا الله جهرة أي عيانا ؛ وقد تقدم في " البقرة " . وجهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة ؛ فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاءوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات .

    قوله تعالى : ثم اتخذوا العجل في الكلام حذف تقديره : فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل ؛ وقد تقدم في " البقرة " ويأتي ذكره في " طه " إن شاء الله . من بعد ما جاءتهم البينات أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله عز وجل . فعفونا عن ذلك أي عما كان منهم من التعنت . وآتينا موسى سلطانا مبينا أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها ؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة ، وهي قاهرة للقلوب ، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها .
    قوله تعالى : ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا

    قوله تعالى : ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم ، وهو العمل بما في التوراة ؛ وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في " البقرة " . وسجدا نصب على الحال . وقرأ ورش وحده " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء ، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في " البقرة " . والأصل فيه تعتدوا أدغمت التاء في الدال ؛ قال النحاس : ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا ، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ . وأخذنا منهم ميثاقا غليظا يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة . وقيل : عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك .
    قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما

    [ ص: 371 ] قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم فبما نقضهم خفض بالباء وما زائدة مؤكدة كقوله : فبما رحمة من الله وقد تقدم ؛ والباء متعلقة بمحذوف ، التقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم ؛ عن قتادة وغيره . وحذف هذا لعلم السامع . وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي : هو متعلق بما قبله ؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله : فبما نقضهم ميثاقهم قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم . وأنكر ذلك الطبري وغيره ؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان ، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان . قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم ؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم ؛ على ما تقدم في " البقرة " . قال الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ؛ لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله : فبظلم من الذين هادوا حرمنا . ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم . وقيل : المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا ؛ والفاء مقحمة . وكفرهم عطف ، وكذا وقتلهم . والمراد بآيات الله كتبهم التي حرفوها . وغلف جمع غلاف ؛ أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا . وقيل : هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف ؛ أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول ؛ وهو كقوله : قلوبنا في أكنة وقد تقدم هذا في " البقرة " وغرضهم بهذا درء حجة الرسل . والطبع : الختم ؛ وقد تقدم في " البقرة " . بكفرهم أي : جزاء لهم على كفرهم ؛ كما قال : بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء ، وذلك غير نافع لهم . ثم كرر وبكفرهم ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر . وقيل : المعنى [ ص: 372 ] وبكفرهم بالمسيح ؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه ، والعامل في " بكفرهم " هو العامل في " بنقضهم " لأنه معطوف عليه ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه طبع . والبهتان العظيم : رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم . والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم .
    قوله تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما

    قوله تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم كسرت إن لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة . وقد تقدم في " آل عمران " اشتقاق لفظ المسيح . رسول الله بدل ، وإن شئت على معنى أعني . وما قتلوه وما صلبوه رد لقولهم . ولكن شبه لهم أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في " آل عمران " . وقيل : لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه ، كما قال تعالى : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه والإخبار قيل : إنه عن جميعهم . وقيل : إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم ؛ ومعنى اختلافهم قول بعضهم إنه إله ، وبعضهم هو ابن الله . قاله الحسن : وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى . وقال من عاين رفعه إلى السماء : ما قتلناه . وقيل : اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته . وقالت الملكانية : وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته . وقيل : اختلافهم هو أنهم قالوا : إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ ! وقيل : اختلافهم هو أن اليهود قالوا : نحن قتلناه ؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله . وقالت طائفة من النصارى : بل قتلناه نحن . وقالت طائفة منهم : بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه . ما لهم به من علم من زائدة ؛ وتم الكلام . ثم قال جل وعز : إلا اتباع الظن استثناء ليس من الأول في موضع نصب ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل ؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وأنشد سيبويه :


    وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #263
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (5)
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    من صــ 373 الى صــ 389
    الحلقة (261)


    [ ص: 373 ] قوله تعالى : وما قتلوه يقينا قال ابن عباس والسدي : المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا ؛ كقولك : قتلته علما إذا علمته علما تاما ؛ فالهاء عائدة على الظن . قال أبو عبيد : ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال : وما قتلوه فقط . وقيل : المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا ؛ فالوقف على هذا على يقينا . وقيل : المعنى وما قتلوا عيسى ، والوقف على وما قتلوه ويقينا نعت لمصدر محذوف ، وفيه تقديران : أحدهما : أي قالوا هذا قولا يقينا ، أو قال الله هذا قولا يقينا . والقول الآخر : أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا . النحاس : إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ ؛ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعفها . وأجازابن الأنباري الوقف على وما قتلوه على أن ينصب يقينا بفعل مضمر هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا . بل رفعه الله إليه ابتداء كلام مستأنف ؛ أي إلى السماء ، والله تعالى متعال عن المكان ؛ وقد تقدم كيفية رفعه في " آل عمران " . وكان الله عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن أستيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة . حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب .
    قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا

    قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة : المعنى ليؤمنن بالمسيح قبل موته أي الكتابي ؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى ، والثانية على الكتابي ؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك ، ولكنه إيمان لا ينفع ؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت ؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله ، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله . وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال : إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه ، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان ؛ فقال له شهر بن حوشب : إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه ؛ فقال له الحجاج : من أين أخذت هذا ؟ قال : أخذته من محمد بن الحنفية ؛ فقال له الحجاج : أخذت من عين صافية . وروي عن مجاهد أنه قال : ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته ؛ فقيل له : إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال : نعم ! [ ص: 374 ] وقيل : إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام ؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة ؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري . وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال : قبل موت عيسى ؛ والله إنه لحي عند الله الآن ؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون ؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير . وقيل : ليؤمنن به أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به ، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا ؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم . وقيل : ليؤمنن به أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة . والتأويلان الأولان أظهر . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ، ثم قال أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال أبو هريرة : قبل موت عيسى ؛ يعيدها ثلاث مرات . وتقدير الآية عند سيبويه : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به . وتقدير الكوفيين : وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به ، وفيه قبح ، لأن فيه حذف الموصول ، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم .

    قوله تعالى : ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه .
    قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما

    فيه مسألتان :

    الأولى : قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا قال الزجاج : هذا بدل من فبما نقضهم [ ص: 375 ] . والطيبات ما نصه في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم . وبصدهم عن سبيل الله أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل كله تفسير للظلم الذي تعاطوه ، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده ؛ وقد مضى في " آل عمران " أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها .

    الثانية : قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل ؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا ؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد . والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم ؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة ؛ قال الله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهذا نص ؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله . والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا ، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم . فإن قيل : كان ذلك قبل النبوة ؛ قلنا : إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبئ ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب ، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ؛ وقد يجب وقد يكون ندبا ؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح .
    قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما

    [ ص: 376 ] قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم استثنى مؤمني أهل الكتاب ؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا ؛ فنزل لكن الراسخون في العلم والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت ؛ وقد تقدم في " آل عمران " والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما . والمؤمنون أي من المهاجرين والأنصار ، أصحاب محمد عليه السلام . والمقيمين الصلاة وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة : " والمقيمون " على العطف ، وكذا هو في حرف عبد الله ، وأما حرف أبي فهو فيه " والمقيمين " كما في المصاحف . واختلف في نصبه على أقوال ستة ؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح ؛ أي وأعني المقيمين ؛ قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ؛ ومن ذلك والمقيمين الصلاة وأنشد :


    وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
    ويروى ( أمر مرشدهم ) .


    الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
    وأنشد :


    لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
    النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
    قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي : والمقيمين معطوف على ما قال النحاس قال الأخفش : وهذا بعيد ؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين . وحكى محمد بن جرير أنه قيل له : إن المقيمين هاهنا الملائكة عليهم السلام ؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار ، واختار هذا القول ، وحكى أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الراسخين في أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما فلا ينتصب المقيمين على المدح . قال النحاس : ومذهب سيبويه في قوله : والمؤتون رفع بالابتداء . وقال غيره : هو مرفوع على إضمار مبتدأ ؛ أي هم المؤتون الزكاة . وقيل : والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك . أي من قبلك ومن قبل المقيمين . وقيل : المقيمين عطف على الكاف التي في إليك . وقيل : هو عطف على الهاء والميم ، أي منهم ومن المقيمين ؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز ؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض .

    والجواب السادس : ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية [ ص: 377 ] وعن قوله : إن هذان لساحران ، وقوله : والصابئون في المائدة ، فقالت للسائل : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون ثم قال له : ما أكتب ؟ فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة فمن ثم وقع هذا . قال القشيري : وهذا المسلك باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل . وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل ، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري ، والله أعلم .
    إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا

    قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح هذا متصل بقوله : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء . وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق : نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله . والوحي إعلام في خفاء ؛ يقال : وحى إليه بالكلام يحي وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء . إلى نوح قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع . وقيل غير هذا ؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال : أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وقد كان سام بن نوح نبيا ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا ؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر ، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة ، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام ، ثم لوط وإبراهيم عمه ، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب ، ثم هود بن عبد الله ، ثم صالح بن أسف ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون ، ثم داود بن إيشا ، ثم سليمان بن داود ، ثم يونس بن متى ، ثم إلياس ، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا [ ص: 378 ] من سبط يهوذا بن يعقوب ؛ قال : وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط ؛ ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم . قال الزبير : كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح . ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين ؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم .

    قوله تعالى : والنبيين من بعده هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال : وأوحينا إلى إبراهيم فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم ؛ كقوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل وميكال ثم قال وعيسى وأيوب قدم عيسى على قوم كانوا قبله ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود . وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه ، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه ؛ ومثله قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية ؛ ونوح مشتق من النوح ؛ وقد تقدم ذكره موعبا في " آل عمران " وانصرف وهو اسم أعجمي ؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف ؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف ، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة ؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ " ويونس " بكسر النون وكذا " يوسف " يجعلهما من آنس وآسف ، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف . ومن لم يهمز قال : يوانس ويواسف . وحكى أبو زيد : يونس ويوسف بفتح النون والسين ؛ قال المهدوي : وكأن " يونس " في الأصل فعل مبني للفاعل ، و " يونس " فعل مبني للمفعول ، فسمي بهما .

    قوله تعالى : وآتينا داود زبورا الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ . والزبر الكتابة ، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب ، كالرسول والركوب والحلوب . وقرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس ، وزبر بمعنى المزبور ؛ كما يقال : هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه ؛ والأصل في الكلمة التوثيق ؛ يقال : بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة ، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به . وكان داود عليه السلام حسن الصوت ؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته ، وكان متواضعا يأكل من عمل يده ؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة [ ص: 379 ] من الخوص ، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها ، وكان يصنع الدروع ؛ وسيأتي . وفي الحديث : الزرقة في العين يمن وكان داود أزرق .
    قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما

    قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل يعني بمكة . ورسلا منصوب بإضمار فعل ، أي وأرسلنا رسلا ؛ لأن معنى وأوحينا إلى نوح وأرسلنا نوحا . وقيل : هو منصوب بفعل دل عليه قصصناهم أي وقصصنا رسلا ؛ ومثله ما أنشد سيبويه :


    أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به
    وحدي وأخشى الرياح والمطرا
    أي وأخشى الذئب . وفي حرف أبي " ورسل " بالرفع على تقدير ومنهم رسل . ثم قيل : إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه ، ولم يذكر أسماء بعض ، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر . قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ؛ فنزلت وكلم الله موسى تكليما تكليما مصدر معناه التأكيد ؛ يدل على بطلان من يقول : خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى ، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما . قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وأنه لا يجوز في قول الشاعر :


    امتلأ الحوض وقال قطني
    أن يقول : قال قولا ؛ فكذا لما قال : تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل . وقال وهب بن منبه : إن موسى عليه السلام قال : " يا رب بم اتخذتني كليما " ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه ؛ فقال الله تعالى له : أتذكر إذ ند من غنمك جدي فاتبعته أكثر النهار وأتعبك ، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له : أتعبتني وأتعبت نفسك ، ولم تغضب عليه ؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما .
    قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

    [ ص: 380 ] قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين هو نصب على البدل من ورسلا قد قصصناهم ويجوز أن يكون على إضمار فعل ؛ ويجوز نصبه على الحال ؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا . لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا ، وما أنزلت علينا كتابا ؛ وفي التنزيل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف . وقال مقاتل : كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له ؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال : قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال : كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر .

    قلت : هذا أصح ما روي في ذلك ؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له .
    قوله تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا

    قوله تعالى : لكن الله يشهد رفع بالابتداء ، وإن شئت شددت النون ونصبت . وفي الكلام حذف دل عليه الكلام ؛ كأن الكفار قالوا : ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل لكن الله يشهد . ومعنى أنزله بعلمه أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك ؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم . والملائكة يشهدون ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم . وكفى بالله شهيدا أي كفى الله شاهدا ، والباء زائدة .
    قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا

    [ ص: 381 ] قوله تعالى : إن الذين كفروا يعني اليهود أي ظلموا . وصدوا عن سبيل الله أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم : ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوة في ولد هارون وداود ، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ . قد ضلوا ضلالا بعيدا لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام .
    قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا

    قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا يعني اليهود ؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته ، وأنفسهم إذ كفروا ، والناس إذ كتموهم . لم يكن الله ليغفر لهم هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب .
    قوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما

    قوله تعالى : يا أيها الناس هذا خطاب للكل . قد جاءكم الرسول يريد محمدا عليه الصلاة والسلام . بالحق بالقرآن . وقيل : بالدين الحق ؛ وقيل : بشهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : الباء للتعدية ؛ أي جاءكم ومعه الحق ؛ فهو في موضع الحال .

    قوله تعالى : فآمنوا خيرا لكم في الكلام إضمار ؛ أي وأتوا خيرا لكم ؛ هذا مذهب سيبويه ، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي إيمانا خيرا لكم ، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم .
    يتبع




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #264
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (5)
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    من صــ 373 الى صــ 389
    الحلقة (262)


    قوله تعالى : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا

    [ ص: 382 ] قوله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم نهي عن الغلو . والغلو التجاوز في الحد ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء ؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها ؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا ؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ؛ ولذلك قال مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين ؛ وقال الشاعر :


    وأوف ولا تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
    كلا طرفي قصد الأمور ذميم
    وقال آخر :


    عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
    وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله .

    قوله تعالى : ولا تقولوا على الله إلا الحق أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا . ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وفيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : إنما المسيح المسيح رفع بالابتداء ؛ و عيسى بدل منه وكذا ابن مريم . ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم . ودل بقوله : عيسى ابن مريم على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها ، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا . ويكون رسول الله خبرا بعد خبر .

    [ ص: 383 ] الثانية : لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ ، ولا يبتذلون أسماءهن ؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك ؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها ؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله باسمها ، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها ؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها .

    الثالثة : اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب ، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه ، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله ، والله أعلم .

    قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم أي هو مكون بكلمة " كن " فكان بشرا من غير أب ؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه . وقيل : كلمته بشارة الله تعالى مريم عليها السلام ، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام ؛ وذلك قوله : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه . وقيل : " الكلمة " هاهنا بمعنى الآية ؛ قال الله تعالى : وصدقت بكلمات ربها و ما نفدت كلمات الله . وكان لعيسى أربعة أسماء ؛ المسيح وعيسى وكلمة وروح ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن . ومعنى ألقاها إلى مريم أمر بها مريم .

    قوله تعالى : وروح منه هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال ؛ فقالوا : عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا ؛ وعنه أجوبة ثمانية : الأول : قال أبي بن كعب : خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ؛ ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ؛ فلهذا قال : وروح منه . وقيل : هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه ؛ وهذا كقوله : وطهر بيتي للطائفين ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ، وتضاف إلى الله تعالى فيقال : هذا روح من الله أي من خلقه ؛ كما يقال في النعمة إنها من الله . وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم . وقيل : يسمى روحا بسبب نفخة [ ص: 384 ] جبريل عليه السلام ، ويسمى النفخ روحا ؛ لأنه ريح يخرج من الروح . قال الشاعر - هو ذو الرمة :


    فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا
    وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله ؛ وعلى هذا يكون وروح منه معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في ألقاها التقدير : ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم . وقيل : روح منه أي من خلقه ؛ كما قال : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه أي من خلقه . وقيل : روح منه أي رحمة منه ؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ؛ ومنه قوله تعالى : وأيدهم بروح منه أي برحمة ، وقرئ : " فروح وريحان " . وقيل : وروح منه وبرهان منه ؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم .

    قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله ، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها . ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة عن الزجاج . قال ابن عباس : يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه . وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة ؛ كقوله تعالى : سيقولون ثلاثة . قال أبو علي : التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة ؛ فحذف المبتدأ والمضاف . والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون : إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم ؛ فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ؛ فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح ، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين . ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ؛ فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام ، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام ، مثل قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى ، وغير ذلك ؛ وكذلك ما جرى [ ص: 385 ] على يد الأنبياء ؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام ، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى ؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن ، ويكذبون من أتى به ، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر . وقد قيل : إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى ؛ يصلون إلى القبلة ؛ ويصومون شهر رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس ، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار ؛ وكان له فرس يقال لها العقاب ، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى : أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ؛ فخرج وقال : نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله ، ثم توجه إلى اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله . وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك ؛ ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له ؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له : أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها ، فادع الناس إلى نحلتك ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد منهم طائفة ، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث ؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال ؛ والله أعلم . وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى : فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسيأتي إن شاء الله تعالى .

    قوله تعالى : انتهوا خيرا لكم خيرا منصوب عند سيبويه بإضمار فعل ؛ كأنه قال : ائتوا خيرا لكم ، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم ؛ قال سيبويه : ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره انتهوا خيرا لكم لأنك إذا قلت : ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر ؛ وأنشد :


    فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا
    ومذهب أبي عبيدة : انتهوا يكن خيرا لكم ؛ قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأنه يضمر [ ص: 386 ] الشرط وجوابه ، وهذا لا يوجد في كلام العرب . ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف ؛ قال علي بن سليمان : هذا خطأ فاحش ؛ لأنه يكون المعنى : انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم .

    قوله تعالى : إنما الله إله واحد هذا ابتداء وخبر ؛ وواحد نعت له . ويجوز أن يكون إله بدلا من اسم الله عز وجل وواحد خبره ؛ التقدير إنما المعبود واحد .

    سبحانه أن يكون له ولد أي تنزيها عن أن يكون له ولد ؛ فلما سقط " عن " كان أن في محل النصب بنزع الخافض ؛ أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له ، ولا شبيه لله عز وجل . له ما في السماوات وما في الأرض فلا شريك له ، وعيسى ومريم من جملة ما في السماوات وما في الأرض ، وما فيهما مخلوق ، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له . وكفى بالله وكيلا أي لأوليائه ؛ وقد تقدم .
    قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا

    قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أي لن يأنف ولن يحتشم . أن يكون عبدا لله أي : من أن يكون ؛ فهو في موضع نصب . وقرأ الحسن : " إن يكون " بكسر الهمزة على أنها نفي هو بمعنى " ما " والمعنى : ما يكون له ولد ؛ وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة . ولا الملائكة المقربون أي من رحمة الله ورضاه ؛ فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . وكذا ولا أقول إني ملك وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في " البقرة " . ومن يستنكف أي يأنف عن عبادته ويستكبر فلا يفعلها . فسيحشرهم إليه أي إلى المحشر . جميعا فيجازي كلا بما يستحق ، كما بينه في الآية بعد هذا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إلى [ ص: 387 ] قوله : نصيرا . وأصل يستنكف نكف ، فالياء والسين والتاء زوائد ؛ يقال : نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه ؛ ومنه الحديث سئل عن " سبحان الله " فقال : إنكاف الله من كل سوء يعني تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد . وقال الزجاج : استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك ، ومنه الحديث ما ينكف العرق عن جبينه أي ما ينقطع ؛ ومنه الحديث جاء بجيش لا ينكف آخره أي لا ينقطع آخره . وقيل : هو من النكف وهو العيب ؛ يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب : أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها .
    قوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا

    قوله تعالى : يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ عن الثوري ؛ وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة . وقال مجاهد : البرهان هاهنا الحجة ؛ والمعنى متقارب ؛ فإن المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم . والنور المنزل هو القرآن ؛ عن الحسن ؛ وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة ، فهو نور مبين ، أي واضح بين .
    قوله تعالى : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما

    قوله تعالى : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به أي بالقرآن عن معاصيه ، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه . وقيل : اعتصموا به أي بالله . والعصمة الامتناع ، وقد تقدم . ويهديهم أي : وهو يهديهم فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله . إليه أي إلى ثوابه . وقيل : إلى الحق ليعرفوه . صراطا مستقيما أي دينا مستقيما . و " صراطا " منصوب بإضمار فعل دل عليه " ويهديهم " التقدير ؛ ويعرفهم صراطا مستقيما . وقيل : هو مفعول ثان على تقدير ؛ ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما . وقيل : هو [ ص: 388 ] حال . والهاء في إليه قيل : هي للقرآن ، وقيل : للفضل ، وقيل للفضل والرحمة ؛ لأنهما بمعنى الثواب . وقيل : هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه . أبو علي : الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل ، والمعنى ويهديهم إلى صراطه ؛ فإذا جعلنا صراطا مستقيما نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف . وفي قوله : " وفضل " دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه ؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا . والله أعلم .
    قوله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم فيه ست مسائل :

    الأولى : قال البراء بن عازب : هذه آخر آية نزلت من القرآن ؛ كذا في كتاب مسلم . وقيل : نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع ، ونزلت بسبب جابر ؛ قال جابر بن عبد الله : مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين ، فأغمي علي ؛ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة رواه مسلم ؛ وقال : آخر آية نزلت : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وقد تقدم . ومضى في أول السورة الكلام في الكلالة مستوفى ، وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات .

    الثانية : إن امرؤ هلك ليس له ولد أي ليس له ولد ولا والد ؛ فاكتفى بذكر أحدهما ؛ قال الجرجاني : لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود ، فالوالد يسمى والدا لأنه ولد ، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد ؛ كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد ؛ قال الله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون

    [ ص: 389 ] الثالثة : والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ ، غير ابن عباس ؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات ؛ وإليه ذهب داود وطائفة ؛ وحجتهم ظاهر قول الله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد ؛ قالوا : ومعلوم أن الابنة من الولد ، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها . وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد : أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين .

    الرابعة : هذه الآية تسمى بآية الصيف ؛ لأنها نزلت في زمن الصيف ؛ قال عمر : إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة ، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال : يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء . وعنه رضي الله عنه قال : ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها : الكلالة والربا والخلافة ؛ خرجه ابن ماجه في سننه .

    الخامسة : طعن بعض الرافضة بقول عمر : ( والله لا أدع ) الحديث .

    السادسة : قوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا قال الكسائي : المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا . قال أبو عبيد ؛ فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة فاستحسنه . قال النحاس : والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة ، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح ؛ لأنهم لا يجيزون إضمار لا ؛ والمعنى عندهم : يبين الله لكم كراهة أن تضلوا ، ثم حذف ؛ كما قال : واسأل القرية وكذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي كراهية أن يوافق من الله إجابة . والله بكل شيء عليم تقدم في غير موضع . والله أعلم .

    تمت سورة " النساء " والحمد لله الذي وفق .

    وتم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس مبتدئا بتفسير سورة المائدة ونرجو من الله التوفيق






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #265
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 3 الى صــ 10
    الحلقة (263)



    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْمَائِدَةِ

    رَبِّ يَسِّرْ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ

    وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ : يَا عَلِيُّ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ ; أَمَا إِنَّا نَقُولُ : سُورَةُ " الْمَائِدَةِ ، وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ " فَلَا نَأْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ .

    وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا عِنْدِي لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ الْمُنْقِذَةَ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ . وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَمِنْهَا مَا أُنْزِلَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الْآيَةَ . وَكُلُّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَدَنِيٌّ ، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ فِي سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ ، وَإِنَّمَا يُرْسَمُ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ .

    وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ : " الْمَائِدَةُ " مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا ; وَهِيَ : الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّي َةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ، وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ، لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَى قَوْلِهِ : [ ص: 4 ] عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ وَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ .

    قُلْتُ : وَفَرِيضَةٌ تَاسِعَةَ عَشْرَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ لِلْأَذَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، أَمَّا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ " الْجُمُعَةِ " فَمَخْصُوصٌ بِالْجُمُعَةِ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ " الْمَائِدَةِ " فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا ; قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ " الْمَائِدَةِ " ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَتْ : فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَمْ يُنْسَخْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا قَوْلُهُ : وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ الْآيَةَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نُسِخَ مِنْهَا أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ .

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

    فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ :

    الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ عَلْقَمَةُ : كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فَهُوَ مَدَنِيٌّ ، وَ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) فَهُوَ مَكِّيٌّ ; وَهَذَا خُرِّجَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ بِالْكَلَامِ ; فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ :

    الْأَوَّلُ : الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ .

    الثَّانِي : تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .

    الثَّالِثُ : اسْتِثْنَاءُ مَا يَلِي بَعْدَ ذَلِكَ .

    الرَّابِعُ : اسْتِثْنَاءُ حَالِ الْإِحْرَامِ فِيمَا يُصَادُ .

    الْخَامِسُ : مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ مِنْ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ [ ص: 5 ] لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ . وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ : أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ . فَقَالَ : نَعَمْ ! أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ ; فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ ; إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ " الْمَائِدَةِ " فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ .

    الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْفُوا يُقَالُ : وَفَى وَأَوْفَى لُغَتَانِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى وَقَالَ الشَّاعِرُ ( هُوَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ ) :


    أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
    فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ .

    بِالْعُقُودِ : الْعُقُودُ الرُّبُوطُ ، وَاحِدُهَا عَقْدٌ ; يُقَالُ : عَقَدْتُ الْعَهْدَ وَالْحَبْلَ ، وَعَقَدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَجْسَامِ ; قَالَ الْحُطَيْئَةُ :


    قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
    فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ ; قَالَ الْحَسَنُ : يَعْنِي بِذَلِكَ عُقُودَ الدَّيْنِ وَهِيَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ ; مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ ، مَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ ; وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ ، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْقِيَامِ وَالنَّذْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا نَذْرُ الْمُبَاحِ فَلَا يَلْزَمُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ ; قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : هُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ ، وَقِيلَ : هِيَ عَامَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمُّ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَقْدًا فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَغَيْرِ مَوْضِعٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مَعْنَاهُ بِمَا أَحَلَّ وَبِمَا حَرَّمَ وَبِمَا فَرَضَ وَبِمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ; وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ : ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ ص: 6 ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَكَتَبَ الْآيَاتِ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى أَوْفُوا بِعَقْدِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ ; قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَقَالَ : كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ أَوِ الْعَقْدَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ أَيْ : دِينَ اللَّهِ ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ رُدَّ ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ - لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ - فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ ; فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ ادُّعِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ ، وَهَذَا الْحِلْفُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ ; فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَعُقُودِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْغَارَاتِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ لَهُ - لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ ; فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ - فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : وَأَنَا أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا ; وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ; وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ; فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ .

    الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنِ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِهِ وَكَمَالِهِ ; وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ سُنَنٌ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِّ ، يَأْتِي بَيَانُهَا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِتِلْكَ الْأَوْهَامِ الْخَيَالِيَّةِ ، وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلِيَّةِ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْبَهِيمَةُ اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِهَا وَفَهْمِهَا وَعَدَمِ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا ; وَمِنْهُ بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ : مُغْلَقٌ ، وَلَيْلٌ بَهِيمٌ ، وَبُهْمَةٌ لِلشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ . وَالْأَنْعَامُ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ مَشْيِهَا ; [ ص: 7 ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ إِلَى قَوْلِهِ : وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا ; ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ إِلَى قَوْلِهِ : أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ وَقَالَ تَعَالَى : وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَه َا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا يَعْنِي الْغَنَمَ ( وَأَوْبَارِهَا ) يَعْنِي الْإِبِلَ ( وَأَشْعَارِهَا ) يَعْنِي الْمَعْزَ ; فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ الْأَنْعَامِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ ; الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ . قَالَ الْهَرَوِيُّ : وَإِذَا قِيلَ النَّعَمُ فَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : وَقَالَ قَوْمٌ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَكَرَهُ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ عَنْ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ ، فَأُضِيفَ الْجِنْسُ إِلَى أَخَصِّ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ ، وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ لَهُ أَنْعَامٌ بِمَجْمُوعِهِ مَعَهَا ، وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِسَ كَالْأَسَدِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَنْعَامِ ; فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ .

    قُلْتُ : فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهَا ذَوَاتُ الْحَوَافِرِ لِأَنَّهَا رَاعِيَةٌ غَيْرُ مُفْتَرِسَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذِكْرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا ; وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقِيلَ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ مَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا ; لِأَنَّ الصَّيْدَ يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَةً ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ ; فَهِيَ تُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ وَلَيْسَ فِي الْأَجِنَّةِ مَا يُسْتَثْنَى ; قَالَ مَالِكٌ : ذَكَاةُ الذَّبِيحَةِ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا إِذَا لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا وَكَانَ قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ وَتَمَّ خَلْقُهُ ; فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ لَمْ يُؤْكَلْ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا فَيُذَكَّى ، وَإِنْ بَادَرُوا إِلَى تَذْكِيَتِهِ فَمَاتَ بِنَفْسِهِ ، فَقِيلَ : هُوَ ذَكِيٌّ ، وَقِيلَ : لَيْسَ بِذَكِيٍّ ; وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

    الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ : يُقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ [ ص: 8 ] تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَيْسَ السُّنَّةَ ; قُلْنَا : كُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ :

    أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ الْعَسِيفِ ( لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ) وَالرَّجْمُ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ .

    الثَّانِي : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ; الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " . وَيَحْتَمِلُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ أَوْ " مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ .

    الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أَيْ : مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ . وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِلَّا مَا يُتْلَى هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ لَا ؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مِنْهُ ; فَالِاسْتِثْنَا ءَانِ جَمِيعًا مِنْ قَوْلِهِ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا ; التَّقْدِيرُ : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ ; بِخِلَافِ قَوْلِهِ : إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ عَلَى مَا يَأْتِي ، وَقِيلَ : هُوَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ ; فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَحْظُورِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مُسْتَثْنًى مِنَ الْإِبَاحَةِ ; وَهَذَا وَجْهٌ سَاقِطٌ ; فَإِذًا مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْضًا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ عَلَى أَنْ يُعْطَفَ بِإِلَّا كَمَا يُعْطَفُ بِلَا ; وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا فِي النَّكِرَةِ أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ ، وَالنَّصْبُ عِنْدَهُ بِأَنَّ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي أَوْفُوا ; قَالَ الْأَخْفَشُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : حَالٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ . ثُمَّ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْإِحْلَالُ إِلَى النَّاسِ ، أَيْ : لَا تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي [ ص: 9 ] حَالِ الْإِحْرَامِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ : أَحْلَلْتُ لَكُمُ الْبَهِيمَةَ إِلَّا مَا كَانَ صَيْدًا فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ ; كَمَا تَقُولُ : أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحٍ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَإِذَا قُلْتَ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى : ( غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ ) ، فَحُذِفَتِ النُّونُ تَخْفِيفًا .

    السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَعْنِي الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ; يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ وَقَوْمٌ حُرُمٌ إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


    فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
    أَيْ : مُلَبٍّ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِحْرَامًا لِمَا يُحَرِّمُهُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَيُقَالُ : أَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ ; فَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمِ أَيْضًا ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ " حُرْمٌ " بِسُكُونِ الرَّاءِ ; وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ يَقُولُونَ فِي رُسُلٍ : رُسْلٌ وَفِي كُتُبٍ كُتْبٌ وَنَحْوَهُ .

    السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ تَقْوِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ ; أَيْ : فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّامِعُ لِنَسْخِ تِلْكَ الَّتِي عَهِدْتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ تَنَبَّهْ ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ مَالِكُ الْكُلِّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يُشَرِّعُ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ .
    قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب

    فيه ثلاث عشرة مسألة :

    الأولى : قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله خطاب للمؤمنين حقا ; أي : لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة ، وقال ابن فارس : ويقال للواحدة شعارة ; وهو أحسن ، والشعيرة البدنة تهدى ، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم [ ص: 10 ] فيعلم أنها هدي . والإشعار الإعلام من طريق الإحساس ; يقال : أشعر هديه أي : جعل له علامة ليعرف أنه هدي ; ومنه المشاعر المعالم ، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات ، ومنه الشعر ، لأنه يكون بحيث يقع الشعور ; ومنه الشاعر ; لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ; ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه ; فالشعائر على قول : ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله ، وعلى قول : جميع مناسك الحج ; قال ابن عباس . وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر ، وقال الشاعر :


    نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقرب
    وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ; فأنزل الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله . وقال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه ، وقال الحسن : دين الله كله ; كقوله : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي : دين الله .

    قلت : وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه . وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي ، وهي :

    الثانية : فأجازه الجمهور ; ثم اختلفوا في أي جهة يشعر ; فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : يكون في الجانب الأيمن ; وروي عن ابن عمر ، وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن ; أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح ، وروي أنه أشعر بدنة من الجانب الأيسر ; قال أبو عمر بن عبد البر : هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس ; والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس ، قال : ولا يصح عنه غيره . وصفحة السنام جانبه ، والسنام أعلى الظهر ، وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر ; وهو قول مالك ، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن ، وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء ; وبه قال أحمد في أحد قوليه ، ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان ، والحديث يرد عليه ; وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم ; وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #266
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 11 الى صــ 18
    الحلقة (264)


    قلت : والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية : الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة ، [ ص: 11 ] وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح ; لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد ، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما ، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا ، ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا ، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر ; هكذا روي عن ابن عباس ، وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال : يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية ، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن ; وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي . فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار ، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه ; قالوا : وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما ; لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك .

    الثالثة : قوله تعالى : ولا الشهر الحرام اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد ، يأتي بيانها في " براءة " ; والمعنى : لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها ; فإن استبدالها استحلال ، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء ; وكذلك قوله : ولا الهدي ولا القلائد أي : لا تستحلوه ، وهو على حذف مضاف أي : ولا ذوات القلائد جمع قلادة . فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد .

    الرابعة : قوله تعالى : ولا الهدي ولا القلائد الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة ; الواحدة هدية وهدية وهدي . فمن قال : أراد بالشعائر المناسك قال : ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها ، ومن قال : الشعائر الهدي قال : إن الشعائر ما كان مشعرا أي : معلما بإسالة الدم من سنامه ، والهدي ما لم يشعر ، اكتفي فيه بالتقليد ، وقيل : الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى ، وقال الجمهور : الهدي عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ; ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة إلى أن قال : كالمهدي بيضة فسماها هديا ; وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة ; وكذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به ; إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر [ ص: 12 ] والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وأراد به الشاة ; وقال تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند الفقهاء ، وقال مالك : إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي . والقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ; فهو على حذف مضاف ، أي : ولا أصحاب القلائد ثم نسخ .

    قال ابن عباس : آيتان نسختا من " المائدة " آية القلائد وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا ، وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله على ما يأتي . وقيل : أراد بالقلائد نفس القلائد ; فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن ; قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير ، والله أعلم ، وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض . واتفق الفقهاء على أن من قال : لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة . وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه ; من نعل أو غيره ، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام ، وهي سنة البقر والغنم . قالت عائشة رضي الله عنها : أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها ; أخرجه البخاري ومسلم ; وإلى هذا صار جماعة من العلماء : الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب ; وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم ، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها ; فالقول به أولى ، والله أعلم . وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن ; قال ابن عمر ; وبه قال مالك ، وقال الشافعي : تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا ، وقال سعيد بن جبير : تقلد ولا تشعر ; وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام ، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل ، والله أعلم .

    الخامسة : واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما ; قال الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله إلى أن قال : فاصطادوا ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام .

    السادسة : فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما ; لحديث عائشة قالت : ( أنا [ ص: 13 ] فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ; ثم قلدها بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ) ; أخرجه البخاري ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء . وروي عن ابن عباس أنه قال : يصير محرما ; قال ابن عباس : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ; رواه البخاري ; وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير ، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي ; واحتجوا بحديث جابر بن عبد الله قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ، وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة . في إسناده عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف . فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون : لا يصير محرما ; لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر ; لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن ; فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي . العهن الصوف المصبوغ ; ومنه قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش

    السابعة : ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر ; لأنه قد وجب ، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه ; بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول ; فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال : جعلت هذه الشاة أضحية تعينت ; وعليه ; إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها ; فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق ، وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا ضلت فقد أجزأت ، ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي ، وقال أحمد وأبو ثور : تذبح بكل حال ، وقال الأوزاعي : تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه ، ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته ، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها ، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث ، وما أصاب الأضحية قبل [ ص: 14 ] الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي ، هذا تحصيل مذهب مالك ، وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل ; والأول أصوب . والله أعلم .

    الثامنة : قوله تعالى : ولا آمين البيت الحرام يعني القاصدين له ; من قولهم أممت كذا أي : قصدته ، وقرأ الأعمش : " ولا آمي البيت الحرام " بالإضافة كقوله : " غير محلي الصيد " والمعنى : لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة ; وعليه فقيل : ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك ، أو مراعاة حرمة له بقلادة ، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يمكن المشرك من الحج ، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج ; روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره ، وقال قوم : الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين ، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين ، والنهي عام في الشهر الحرام وغيره ; ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا ; وهذا يتمشى على قول عطاء ; فإن المعنى لا تحلوا معالم الله ، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه ; ولذلك قال أبو ميسرة : هي محكمة ، وقال مجاهد : لم ينسخ منها إلا القلائد وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك . وقال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ; جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ; فنزل القرآن ولا آمين البيت الحرام . وقيل : كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا ، وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده فقال [ ص: 15 ] عليه الصلاة والسلام : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم . فمر بسرح المدينة فاستاقه ; فطلبوه فعجزوا عنه ، فانطلق وهو يقول :


    قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
    ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
    بات يقاسها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم
    فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة فقال : هذا الحطم وأصحابه ، وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة ، فتوجهوا في طلبه ; فنزلت الآية ، أي : لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين ; ذكره ابن عباس .

    التاسعة : وعلى أن الآية محكمة ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله يوجب إتمام أمور المناسك ; ولهذا قال العلماء : إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه ; ثم عليه القضاء في السنة الثانية . قال أبو الليث السمرقندي : وقوله تعالى : ولا الشهر الحرام منسوخ بقوله : وقاتلوا المشركين كافة وقوله : ولا الهدي ولا القلائد محكم لم ينسخ ; فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ; فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض ; بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .

    العاشرة : قوله تعالى : يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال فيه جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقيل : كان منهم من يبتغي التجارة ، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله ; وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت ، وأنه يبعث ، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار . قال ابن عطية : هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم ; لتنبسط النفوس ، [ ص: 16 ] وتتداخل الناس ، ويردون الموسم فيستمعون القرآن ، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع ; إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة " براءة " .

    الحادية عشرة : قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام ; حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح ، بل صيغة " أفعل " الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب ; وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره ; لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا ; دليله قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذه " أفعل " على الوجوب ; لأن المراد بها الجهاد ، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن من النظر إلى المعنى والإجماع ، لا من صيغة الأمر . والله أعلم .

    الثانية عشرة : قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد أي : لا يحملنكم ; عن ابن عباس وقتادة ، وهو قول الكسائي وأبي العباس ، وهو يتعدى إلى مفعولين ; يقال : جرمني كذا على بغضك أي : حملني عليه ; قال الشاعر :


    ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
    وقال الأخفش : أي : ولا يحقنكم ، وقال أبو عبيدة والفراء : معنى لا يجرمنكم أي : لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم ، قال عليه السلام : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقد مضى القول في هذا ، ونظير هذه الآية فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقد تقدم مستوفى ، ويقال : فلان جريمة أهله أي : كاسبهم ، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي اكتسب الإثم . ومنه قول الشاعر :


    جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
    معناه كاسب قوت ، والصليب الودك ، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م . قال ابن فارس : [ ص: 17 ] يقال جرم وأجرم ، ولا جرم بمنزلة قولك : لا بد ولا محالة ; وأصلها من جرم أي اكتسب ، قال :


    جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
    وقال آخر :


    يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآس
    ويقال : جرم يجرم جرما إذا قطع ; قال الرماني علي بن عيسى : وهو الأصل ; فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه ، وقال الخليل : لا جرم أن لهم النار لقد حق أن لهم العذاب ، وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد ، أي اكتسب . وقرأ ابن مسعود " يجرمنكم " بضم الياء ، والمعنى أيضا لا يكسبنكم ; ولا يعرف البصريون الضم ، وإنما يقولون : جرم لا غير ، والشنآن البغض ، وقرئ بفتح النون وإسكانها ; يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنآنا وشنآنا بجزم النون ، كل ذلك إذا أبغضته ; أي : لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا ; والمراد بغضكم قوما ، فأضاف المصدر إلى المفعول . قال ابن زيد : لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ; فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية ; أي : لا تعتدوا على هؤلاء ، ولا تصدوهم أن صدوكم أصحابهم ، بفتح الهمزة مفعول من أجله ; أي : لأن صدوكم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة " إن صدوكم " وهو اختيار أبي عبيد ، وروي عن الأعمش " إن يصدوكم " . قال ابن عطية : فإن للجزاء ; أي : إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل ، والقراءة الأولى أمكن في المعنى ، وقال النحاس : وأما " إن صدوكم " بكسر " إن " فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست ، فالصد كان قبل الآية ; وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده ; كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك ; فهذا لا يكون إلا للمستقبل ، وإن فتحت كان للماضي ، فوجب على هذا ألا يجوز إلا أن صدوكم ، وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا ; لأن قوله : لا تحلوا شعائر الله إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم ، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام ، فوجب من هذا فتح أن لأنه لما مضى . أن تعتدوا في موضع نصب ; لأنه [ ص: 18 ] مفعول به ، أي : لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء . وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد " شنآن " بإسكان النون ; لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة ; وخالفهما غيرهما وقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان .

    الثالثة عشرة : قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى قال الأخفش : هو مقطوع من أول الكلام ، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ; أي : ليعن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ; وهذا موافق لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الدال على الخير كفاعله ، وقد قيل : الدال على الشر كصانعه . ثم قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر . قال ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز . وقال الماوردي : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ; لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البر رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته ، وقال ابن خويز منداد في أحكامه : والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ; فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه . ثم نهى فقال : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وهو الحكم اللاحق عن الجرائم ، وعن العدوان وهو ظلم الناس . ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال : واتقوا الله إن الله شديد العقاب




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #267
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 19 الى صــ 26
    الحلقة (265)



    قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم

    [ ص: 19 ] فيه ست وعشرون مسألة :

    الأولى : قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به تقدم القول فيه كاملا في البقرة .

    الثانية : قوله تعالى : والمنخنقة هي التي تموت خنقا ، وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حبل أو بين عودين أو نحوه ، وذكر قتادة : أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها ; وذكر نحوه ابن عباس .

    الثالثة : قوله تعالى : والموقوذة الموقوذة هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية ; عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي ; يقال منه : وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ ، والوقذ شدة الضرب ، وفلان وقيذ أي : مثخن ضربا . قال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونه ، وقال الضحاك : كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها ، ومنه المقتولة بقوس البندق ، وقال الفرزدق :


    شغارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الأبكار
    وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ; فقال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرضه فلا تأكله وفي رواية فإنه وقيذ . قال أبو عمر : اختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ; فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ; على ما روي عن ابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي ، وخالفهم الشاميون في ذلك ; قال الأوزاعي في المعراض : كله خزق أو لم يخزق ; فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا ; قال أبو عمر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن [ ص: 20 ] عمر ، والمعروف عن ابن عمر ما ذكره مالك عن نافع عنه ، والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة لمن لجأ إليه حديث عدي بن حاتم وفيه ( وما أصاب بعرضه فلا تأكله فإنما هو وقيذ ) .

    الرابعة : قوله تعالى : والمتردية المتردية هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت ; كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ; وهي متفعلة من الردى وهو الهلاك ; وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها ، وإذا أصاب السهم الصيد فتردى من جبل إلى الأرض حرم أيضا ; لأنه ربما مات بالصدمة والتردي لا بالسهم ; ومنه الحديث وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك أخرجه مسلم ، وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف ; فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ; فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة على ما يأتي بيانها ، وبقيت هذه كلها ميتة ، وهذا كله من المحكم المتفق عليه . وكذلك النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل .

    الخامسة : قوله تعالى : والنطيحة النطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت قبل أن تذكى ، وتأول قوم النطيحة بمعنى الناطحة ; لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقيل : نطيحة ولم يقل نطيح ، وحق فعيل لا يذكر فيه الهاء كما يقال : كف خضيب ولحية دهين ; لكن ذكر الهاء هاهنا لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به ; يقال : شاة نطيح وامرأة قتيل ، فإن لم تذكر الموصوف أثبت الهاء فتقول : رأيت قتيلة بني فلان وهذه نطيحة الغنم ; لأنك لو لم تذكر الهاء فقلت : رأيت قتيل بني فلان لم يعرف أرجل هو أم امرأة . وقرأ أبو ميسرة " والمنطوحة " .

    السادسة : قوله تعالى : وما أكل السبع يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان ، كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوها ، هذه كلها سباع . يقال : سبع فلان فلانا أي : عضه بسنه ، وسبعه أي : عابه ووقع فيه ، وفي الكلام إضمار ، أي : وما أكل منه السبع ; لأن ما أكله السبع فقد فني ، ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكانت العرب إذا أخذ السبع شاة ثم خلصت منه أكلوها ، وكذلك إن أكل بعضها ; قاله قتادة وغيره ، وقرأ الحسن وأبو حيوة " السبع " بسكون الباء ، وهي لغة لأهل نجد ، وقال حسان في عتبة بن أبي لهب :


    من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
    [ ص: 21 ] وقرأ ابن مسعود : " وأكيلة السبع " وقرأ عبد الله بن عباس : " وأكيل السبع " .

    السابعة : قوله تعالى : إلا ما ذكيتم نصب على الاستثناء المتصل ، عند الجمهور من العلماء والفقهاء ، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة ; فإن الذكاة عاملة فيه ; لأن حق الاستثناء أن يكون مصروفا إلى ما تقدم من الكلام ، ولا يجعل منقطعا إلا بدليل يجب التسليم له . روى ابن عيينة وشريك وجرير عن الركين بن الربيع عن أبي طلحة الأسدي قال : سألت ابن عباس عن ذئب عدا على شاة فشق بطنها حتى انتثر قصبها فأدركت ذكاتها فذكيتها فقال : كل وما انتثر من قصبها فلا تأكل . قال إسحاق بن راهويه : السنة في الشاة على ما وصف ابن عباس ، فإنها وإن خرجت مصارينها فإنها حية بعد ، وموضع الذكاة منها سالم ; وإنما ينظر عند الذبح أحية هي أم ميتة ، ولا ينظر إلى فعل هل يعيش مثلها ؟ فكذلك المريضة ; قال إسحاق : ومن خالف هذا فقد خالف السنة من جمهور الصحابة وعامة العلماء .

    قلت : وإليه ذهب ابن حبيب وذكر عن أصحاب مالك ; وهو قول ابن وهب والأشهر من مذهب الشافعي . قال المزني : وأحفظ للشافعي قولا آخر أنها لا تؤكل إذا بلغ منها السبع أو التردي إلى ما لا حياة معه ; وهو قول المدنيين ، والمشهور من قول مالك ، وهو الذي ذكره عبد الوهاب في تلقينه ، وروي عن زيد بن ثابت ، ذكره مالك في موطئه ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي وجماعة المالكيين البغداديين ، والاستثناء على هذا القول منقطع ; أي : حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي لم يحرم . قال ابن العربي : اختلف قول مالك في هذه الأشياء ; فروي عنه أنه لا يؤكل إلا ما ذكي بذكاة صحيحة ; والذي في الموطأ أنه إن كان ذبحها ونفسها يجري ، وهي تضطرب فليأكل ; وهو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره فهو أولى من الروايات النادرة ، وقد أطلق علماؤنا على المريضة أن المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة ; وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض ، وبقية حياة من سبع لو اتسق النظر ، وسلمت من الشبهة الفكر ، وقال أبو عمرو : قد أجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أن ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة في حين ذبحها ، وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك ; وأجمعوا أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يدا ولا رجلا أنه لا ذكاة فيها ; وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية ، والله أعلم .

    الثامنة : قوله تعالى : ذكيتم الذكاة في كلام العرب الذبح ; قاله قطرب ، وقال ابن سيده في ( المحكم ) والعرب تقول ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) ; قال ابن عطية : وهذا إنما هو [ ص: 22 ] حديث ، وذكى الحيوان ذبحه ; ومنه قول الشاعر :
    يذكيها الأسل


    قلت : الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وعلي وعبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه ، وبه يقول جماعة أهل العلم ، إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال : إذا خرج الجنين من بطن أمه ميتا لم يحل أكله ; لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين . قال ابن المنذر : وفي قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : ذكاة الجنين ذكاة أمه دليل على أن الجنين غير الأم ، وهو يقول : لو أعتقت أمة حامل إن عتقه عتق أمه ; وهذا يلزمه أن ذكاته ذكاة أمه ; لأنه إذا أجاز أن يكون عتق واحد عتق اثنين جاز أن يكون ذكاة واحد ذكاة اثنين ; على أن الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن أصحابه ، وما عليه جل الناس مستغنى به عن قول كل قائل ، وأجمع أهل العلم على أن الجنين إذا خرج حيا أن ذكاة أمه ليست بذكاة له ، واختلفوا إذا ذكيت الأم وفي بطنها جنين ; فقال مالك وجميع أصحابه : ذكاته ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره ، وذلك إذا خرج ميتا أو خرج به رمق من الحياة ، غير أنه يستحب أن يذبح إن خرج يتحرك ، فإن سبقهم بنفسه أكل ، وقال ابن القاسم : ضحيت بنعجة فلما ذبحتها جعل يركض ولدها في بطنها فأمرتهم أن يتركوها حتى يموت في بطنها ، ثم أمرتهم فشقوا جوفها فأخرج منه فذبحته فسال منه دم ; فأمرت أهلي أن يشووه ، وقال عبد الله بن كعب بن مالك . كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون : إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه . قال ابن المنذر : وممن قال ذكاته ذكاة أمه ولم يذكر أشعر أو لم يشعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق . قال القاضي أبو الوليد الباجي : وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر إلا أنه حديث ضعيف ; فمذهب مالك هو الصحيح من الأقوال الذي عليه عامة فقهاء الأمصار . وبالله التوفيق .

    التاسعة : قوله تعالى : ذكيتم الذكاة في اللغة أصلها التمام ، ومنه تمام السن ، والفرس المذكى الذي يأتي بعد تمام القروح بسنة ، وذلك تمام استكمال القوة ، ويقال : ذكى يذكي ، والعرب تقول : جري المذكيات غلاب . والذكاء حدة القلب ; وقال الشاعر هو زهير :


    يفضله إذا اجتهدوا عليه تمام السن منه والذكاء
    [ ص: 23 ] والذكاء سرعة الفطنة ، والفعل منه ذكي يذكى ذكا ، والذكوة ما تذكو به النار ، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما ، وذكاء اسم الشمس ; وذلك أنها تذكو كالنار ، والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها . فمعنى ذكيتم أدركتم ذكاته على التمام . ذكيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التطيب ; يقال : رائحة ذكية ; فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طيب ، لأنه يتسارع إليه التجفيف ; وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما " ذكاة الأرض يبسها " يريد طهارتها من النجاسة ; فالذكاة في الذبيحة تطهير لها ، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة ; وهو قول أهل العراق ، وإذا تقرر هذا فاعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور ، مقرونا بنية القصد لله وذكره عليه ; على ما يأتي بيانه .

    العاشرة : واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة ; فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفرى الأوداج وأنهر الدم فهو من آلات الذكاة ما خلا السن والعظم ; على هذا تواترت الآثار ، وقال به فقهاء الأمصار ، والسن والظفر المنهي عنهما في التذكية هما غير المنزوعين ; لأن ذلك يصير خنقا ; وكذلك قال ابن عباس : ذلك الخنق ; فأما المنزوعان فإذا فريا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم ، وقد كره قوم السن والظفر والعظم على كل حال ; منزوعة أو غير منزوعة ; منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد ، وروي عن الشافعي ; وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خديج قال : قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليست معنا مدى - في رواية - فنذكي بالليط ؟ . وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد أو سعد بن معاذ : أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : لا بأس بها وكلوها ، وفي مصنف أبي داود : أنذبح بالمروة وشقة العصا ؟ قال : أعجل وأرن ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة الحديث أخرجه مسلم ، وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : ما ذبح بالليطة والشطير والظرر فحل ذكي . الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر . والشطير فلقة العود ، وقد يمكن بها الذبح لأن لها جانبا [ ص: 24 ] دقيقا ، والظرر فلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر ; وعكسه الشظاظ ينحر به ، لأنه كطرف السنان ولا يمكن به الذبح .

    الحادية عشرة : قال مالك وجماعة : لا تصح الذكاة إلا بقطع الحلقوم والودجين ، وقال الشافعي : يصح بقطع الحلقوم والمريء ولا يحتاج إلى الودجين ; لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة ، وهو الغرض من الموت . ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم ، ويفترق فيه الحلال - وهو اللحم - من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة ; وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله : ما أنهر الدم ، وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع : الحلقوم والودجين والمريء ; وهو قول أبي ثور ، والمشهور ما تقدم وهو قول الليث . ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا ؟ على قولين .

    الثانية عشرة : وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمت الذكاة ; واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا ، على قولين : وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل ; وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدم وقطع الحلقوم والودجين لم تؤكل ، وقال الشافعي : تؤكل ; لأن المقصود قد حصل ، وهذا ينبني على أصل ، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدم ففيها ضرب من التعبد ; وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونحر في اللبة وقال : إنما الذكاة في الحلق واللبة فبين محلها وعين موضعها ، وقال مبينا لفائدتها : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل . فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنية ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حظ التعبد ، فلم تؤكل لذلك ، والله أعلم .

    الثالثة عشرة : واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة ; فقيل : يجزئه ، وقيل : لا يجزئه ; والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكاها بعد وحياتها مستجمعة فيها .

    الرابعة عشرة : ويستحب ألا يذبح إلا من ترضى حاله ، وكل من أطاقه وجاء به على سنته من ذكر أو أنثى ، بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلما أو كتابيا ، وذبح المسلم أفضل من ذبح الكتابي ، ولا يذبح نسكا إلا مسلم ; فإن ذبح النسك كتابي فقد اختلف فيه ; ولا يجوز في تحصيل المذهب ، وقد أجازه أشهب .

    [ ص: 25 ] الخامسة عشرة : وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسي ، في قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد ; وكذلك المتردي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحلق واللبة على سنة الذكاة ، وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم ; وفي الباب حديث رافع بن خديج وقد تقدم ، وتمامه بعد قوله : ( فمدى الحبشة ) قال : وأصبنا نهب إبل وغنم فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا - وفي رواية - فكلوه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ; قال الشافعي : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة ; واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي العشراء عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك . قال يزيد بن هارون : وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ورواه عن أبي داود ، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه . قال أبو داود : لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش ، وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مهواة فلا يوصل إلى ذكاته إلا بالطعن في غير موضع الذكاة ; وهو قول انفرد به عن مالك وأصحابه . قال أبو عمر : قول الشافعي أظهر في أهل العلم ، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي ; لحديث رافع بن خديج ; وهو قول ابن عباس وابن مسعود ; ومن جهة القياس لما كان الوحشي إذا قدر عليه لم يحل إلا بما يحل به الإنسي ; لأنه صار مقدورا عليه ; فكذلك ينبغي في القياس إذا توحش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يحل بما يحل به الوحشي .

    قلت : أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خديج بأن قالوا : تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته ، وهو مقتضى الحديث وظاهره ; لقوله : ( فحبسه ) ولم يقل إن السهم قتله ; وأيضا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد ، وقد صرح الحديث بأن السهم حبسه وبعد أن صار محبوسا صار مقدورا عليه ; فلا يؤكل إلا بالذبح والنحر ، والله أعلم ، وأما حديث أبي العشراء فقد قال فيه الترمذي : " حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث ، واختلفوا في اسم أبي العشراء ; فقال بعضهم : اسمه أسامة بن قهطم ، ويقال : اسمه يسار بن برز - ويقال : بلز - ويقال : اسمه عطارد نسب إلى جده " . فهذا سند مجهول لا [ ص: 26 ] حجة فيه ; ولو سلمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حجة ; إذ مقتضاه جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور وغيره ، ولا قائل به في المقدور ; فظاهره ليس بمراد قطعا . وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه ; فلا يكون فيه حجة ، والله أعلم . قال أبو عمر : وحجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يند الإنسي أنه لا يذكى إلا بما يذكى به المقدور عليه ، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا . وهذا لا حجة فيه ; لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه ، وهذا غير مقدور عليه .

    السادسة عشرة : ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته رواه مسلم عن شداد بن أوس قال : ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب فذكره . قال علماؤنا : إحسان الذبح في البهائم الرفق بها ; فلا يصرعها بعنف ولا يجرها من موضع إلى آخر ، وإحداد الآلة ، وإحضار نية الإباحة والقربة وتوجيهها إلى القبلة ، والإجهاز ، وقطع الودجين والحلقوم ، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد ، والاعتراف لله بالمنة ، والشكر له بالنعمة ; بأنه سخر لنا ما لو شاء لسلطه علينا ، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا . وقال ربيعة : من إحسان الذبح ألا يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها ; وحكي جوازه عن مالك ; والأول أحسن ، وأما حسن القتلة فعام في كل شيء من التذكية والقصاص والحدود وغيرها ، وقد روى أبو داود عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى في حديثه ( وهي التي تذبح فتقطع ولا تفرى الأوداج ثم تترك فتموت ) .

    السابعة عشرة : قوله تعالى : وما ذبح على النصب قال ابن فارس : النصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح ، وهو النصب أيضا ، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد ، وغبار منتصب مرتفع ، وقيل : النصب جمع ، واحده نصاب كحمار وحمر ، وقيل : هو اسم مفرد والجمع أنصاب ; وكانت ثلاثمائة وستين حجرا ، وقرأ طلحة " النصب " بجزم الصاد . وروي عن ابن عمر " النصب " بفتح النون وجزم الصاد . الجحدري : بفتح النون والصاد جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب ; كالأجمال والأجبال .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #268
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 27 الى صــ 34
    الحلقة (266)


    قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها . قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة ; فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا [ ص: 27 ] البيت بهذه الأفعال ، فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك ; فأنزل الله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ونزلت وما ذبح على النصب المعنى : والنية فيها تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز ، وقال الأعشى :


    وذا النصب المنصوب لا تنسكنه لعافية والله ربك فاعبدا
    وقيل : على بمعنى اللام ; أي : لأجلها ; قال قطرب قال ابن زيد : ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله شيء واحد . قال ابن عطية : ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله ، ولكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له .

    الثامنة عشرة : قوله تعالى : وأن تستقسموا بالأزلام معطوف على ما قبله ، وأن في محل رفع ، أي : وحرم عليكم الاستقسام . والأزلام قداح الميسر ، واحدها زلم وزلم ; قال :


    بات يقاسيها غلام كالزلم
    وقال آخر فجمع :


    فلئن جذيمة قتلت سرواتها فنساؤها يضربن بالأزلام
    وذكر محمد بن جرير : أن ابن وكيع حدثهم عن أبيه عن شريك عن أبي حصين عن سعيد بن جبير أن الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها . قال محمد بن جرير : قال لنا سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . فأما قول لبيد :


    تزل عن الثرى أزلامها
    فقالوا : أراد أظلاف البقرة الوحشية ، والأزلام للعرب ثلاثة أنواع :

    منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه ، على أحدها افعل ، وعلى الثاني لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده - وهي متشابهة - فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب ; وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ; وإنما قيل لهذا الفعل : استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون ; كما يقال : الاستسقاء في الاستدعاء للسقي . ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم : لا تخرج من أجل نجم كذا ، واخرج من أجل نجم كذا ، وقال جل وعز : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وسيأتي بيان هذا مستوفى إن شاء الله .

    [ ص: 28 ] والنوع الثاني : سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل ، كل قدح منها فيه كتاب ; قدح فيه العقل من أمر الديات ، وفي آخر " منكم " وفي آخر " من غيركم " ، وفي آخر " ملصق " ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها عبد المطلب على بنيه إذ كان نذر نحر أحدهم إذا كملوا عشرة ; الخبر المشهور ذكره ابن إسحاق . وهذه السبعة أيضا كانت عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم ; على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل .

    والنوع الثالث : هو قداح الميسر وهي عشرة ; سبعة منها فيها حظوظ ، وثلاثة أغفال ، وكانوا يضربون بها مقامرة لهوا ولعبا ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف ، وقال مجاهد : الأزلام هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال سفيان ووكيع : هي الشطرنج ; فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب كما بينا ; وهو من أكل المال بالباطل ، وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو شطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى الأزلام حرام كله ; وهو ضرب من التكهن والتعرض لدعوى علم الغيب . قال ابن خويز منداد : ولهذا نهى أصحابنا عن الأمور التي يفعلها المنجمون على الطرقات من السهام التي معهم ، ورقاع الفأل في أشباه ذلك ، وقال إلكيا الطبري : وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب ; فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غدا ، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر ; فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الإقراع بين المماليك في العتق ، ولم يعلم هذا الجاهل أن الذي قاله الشافعي بني على الأخبار الصحيحة ، وليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام ; فإن العتق حكم شرعي ، يجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علما على إثبات حكم العتق قطعا للخصومة ، أو لمصلحة يراها ، ولا يساوي ذلك قول القائل : إذا فعلت كذا أو قلت كذا فذلك يدلك في المستقبل على أمر من الأمور ، فلا يجوز أن يجعل خروج القداح علما على شيء يتجدد في المستقبل ، ويجوز أن يجعل خروج القرعة علما على العتق قطعا ; فظهر افتراق البابين .

    [ ص: 29 ] التاسعة عشرة : وليس من هذا الباب طلب الفأل ، وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه أن يسمع يا راشد يا نجيح ; أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح غريب ; وإنما كان يعجبه الفأل لأنه تنشرح له النفس وتستبشر بقضاء الحاجة وبلوغ الأمل ; فيحسن الظن بالله عز وجل ، وقد قال : ( أنا عند ظن عبدي بي ) ، وكان عليه السلام يكره الطيرة ; لأنها من أعمال أهل الشرك ; ولأنها تجلب ظن السوء بالله عز وجل . قال الخطابي : الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله ، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه ، وقال الأصمعي : سألت ابن عون عن الفأل فقال : هو أن يكون مريضا فيسمع يا سالم ، أو يكون باغيا فيسمع يا واجد ; وهذا معنى حديث الترمذي ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا طيرة وخيرها الفأل ، قيل : يا رسول الله وما الفأل ؟ قال : الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم ، وسيأتي لمعنى الطيرة مزيد بيان إن شاء الله تعالى . روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ، ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه ، وثلاثة لا ينالون الدرجات العلا ; من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة .

    الموفية عشرين : قوله تعالى : ذلكم فسق إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، والفسق الخروج ، وقد تقدم ، وقيل يرجع إلى جميع ما ذكر من الاستحلال لجميع هذه المحرمات ، وكل شيء منها فسق وخروج من الحلال إلى الحرام ، والانكفاف عن هذه المحرمات من الوفاء بالعقود ، إذ قال : أوفوا بالعقود .

    الحادية والعشرون : قوله تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفارا . قال الضحاك : نزلت هذه الآية حين فتح مكة ; وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، ويقال : سنة ثمان ، ودخلها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا من قال لا إله إلا الله فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " ، وفي يئس لغتان ، يئس ييأس يأسا ، وأيس يأيس إياسا وإياسة ; قاله النضر بن شميل . فلا تخشوهم واخشوني أي : لا تخافوهم وخافوني فإني أنا القادر على نصركم .

    [ ص: 30 ] الثانية والعشرون : قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها ، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج ; فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم الآية ; على ما نبينه . روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا ; قال : وأي آية ؟ قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه ; نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة . لفظ مسلم ، وعند النسائي ليلة جمعة . وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت ، وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة .

    قلت : القول الأول أصح ، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء ، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت . واليوم قد يعبر بجزء منه عن جميعه ، وكذلك عن الشهر ببعضه ; تقول : فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا ، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة ; وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم ، والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا ; فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية ، ولم ينزل بعدها حكم ، قاله ابن عباس والسدي ، وقال الجمهور : المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم ، قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ، ونزلت آية الربا ، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج ، إذ لم يطف معهم في هذه السنة مشرك ، ولا طاف بالبيت عريان ، ووقف الناس كلهم بعرفة ، وقيل : أكملت لكم دينكم بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول : قد تم لنا ما نريد إذا كفيت عدوك .

    الثالثة والعشرون : قوله تعالى : وأتممت عليكم نعمتي أي : بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم ، إذ قلت : ولأتم نعمتي عليكم وهي دخول مكة . آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى .

    [ ص: 31 ] الرابعة والعشرون : لعل قائلا يقول : قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات ، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا ، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص ، ومعلوم أن النقص عيب ، ودين الله تعالى قيم ، كما قال تعالى : دينا قيما فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل يكون عيبا ، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها ، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره أهو عيب له ، ونقصان أيام الحيض عن المعهود ، ونقصان أيام الحمل ، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه ، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب ، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم يخرج على وجهين :

    أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه ; كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال : أكمل الله عمره ; ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر . ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال : كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه . وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات ; فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا ، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل ; ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا ، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده ، والله أعلم .

    والوجه الآخر : أنه أراد بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم أنه وفقهم للحج الذي لم [ ص: 32 ] يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا ; فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه ; فإنه يقول عليه السلام : بني الإسلام على خمس . الحديث ، وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا ; فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فإنما أراد أكمل وضعه لهم ; وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام .

    الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ورضيت لكم الإسلام دينا أي : أعلمتكم برضاي به لكم دينا ; فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا ; فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره . و ( دينا ) نصب على التمييز ، وإن شئت على مفعول ثان ، وقيل : المعنى ورضيت عنكم إذا انقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم ، ويحتمل أن يريد ورضيت لكم الإسلام دينا أي : ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا ، والله أعلم . والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام ، وهو الإيمان والأعمال والشعب .

    السادسة والعشرون : قوله تعالى : فمن اضطر في مخمصة يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرمات في هذه الآية . والمخمصة الجوع وخلاء البطن من الطعام . والخمص ضمور البطن ، ورجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة ; ومنه أخمص القدم ، ويستعمل كثيرا في الجوع والغرث ; قال الأعشى :


    تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
    أي : منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن . وقال النابغة في خمص البطن من جهة ضمره :


    والبطن ذو عكن خميص لين والنحر تنفجه بثدي مقعد
    وفي الحديث : خماص البطون خفاف الظهور . الخماص جمع الخميص البطن ، [ ص: 33 ] وهو الضامر . أخبر أنهم أعفاء عن أموال الناس ; ومنه الحديث : إن الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ، والخميصة أيضا ثوب ; قال الأصمعي : الخمائص ثياب خز أو صوف معلمة ، وهي سوداء ، كانت من لباس الناس ، وقد تقدم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة .

    السابعة والعشرون : قوله تعالى : غير متجانف لإثم أي : غير مائل لحرام ، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم . والجنف الميل ، والإثم الحرام ; ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تجانفنا فيه لإثم ; أي : ما ملنا ولا تعمدنا ونحن نعلمه : وكل مائل فهو متجانف وجنف . وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي " متجنف " دون ألف ، وهو أبلغ في المعنى ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه ; وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتقرب منه ; ألا تراك أنك إذا قلت : تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا ومقاربة ميل ، وإذا قلت : تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون الرجل وتصون ، وتعاقل وتعقل ; فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده ; قاله قتادة والشافعي . فإن الله غفور رحيم أي : فإن الله له غفور رحيم فحذف ، وأنشد سيبويه [ الرجز لأبي النجم العجلي ] :


    قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
    أراد لم أصنعه فحذف ، والله أعلم .
    قوله تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب .

    فيه تسع عشرة مسألة :

    الأولى : قوله تعالى : يسألونك . الآية نزلت بسبب عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ; قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته ، ومنه ما تقتله فلا ندرك ذكاته ، وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا ؟ فنزلت الآية .

    [ ص: 34 ] الثانية : قوله تعالى : ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ما في موضع رفع بالابتداء ، والخبر أحل لهم وذا زائدة ، وإن شئت كانت بمعنى الذي ، ويكون الخبر قل أحل لكم الطيبات وهو الحلال ، وكل حرام فليس بطيب . وقيل : ما التذه آكله وشاربه ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة . وقيل : الطيبات الذبائح ، لأنها طابت بالتذكية .

    الثالثة : قوله تعالى : وما علمتم أي : وصيد ما علمتم ; ففي الكلام إضمار لا بد منه ، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولا للمعلم من الجوارح المكلبين ، وذلك ليس مذهبا لأحد ; فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلم ; وسيأتي ما للعلماء في أكل الكلب في " الأنعام " إن شاء الله تعالى . وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تتناول ما علمناه من الجوارح ، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل ، وهو الأكل من الجوارح أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير ; وكان لعدي كلاب خمسة قد سماها بأسماء أعلام ، وكان أسماء أكلبه سلهب وغلاب والمختلس والمتناعس ، قال السهيلي : وخامس أشك ، قال فيه : أخطب ، أو قال فيه : وثاب .

    الرابعة : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فينشلي إذا أشلي ويجيب إذا دعي ، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر ، وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده ، وأثر فيه بجرح أو تنييب ، وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف ; فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف . فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب . يقال : جرح فلان واجترح إذا اكتسب ; ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها ، ومنه اجتراح السيئات ، وقال الأعشى :


    ذا جبار منضجا ميسمه يذكر الجارح ما كان اجترح




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #269
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 35 الى صــ 42
    الحلقة (267)


    [ ص: 35 ] وفي التنزيل ويعلم ما جرحتم بالنهار وقال : أم حسب الذين اجترحوا السيئات .

    الخامسة : قوله تعالى : مكلبين معنى مكلبين أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب ، وقيل : معناه مصرين على الصيد كما تصرى الكلاب ; قال الرماني : وكلا القولين محتمل . وليس في مكلبين دليل على أنه إنما أبيح صيد الكلاب خاصة ; لأنه بمنزلة قوله : مؤمنين وإن كان قد تمسك به من قصر الإباحة على الكلاب خاصة . روي عن ابن عمر فيما حكى ابن المنذر عنه قال : وأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال ، وإلا فلا تطعمه . قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي يحل صيده قال : لا ; إلا أن تدرك ذكاته ، وقال الضحاك والسدي : وما علمتم من الجوارح مكلبين هي الكلاب خاصة ; فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي ، وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما ; وبه قال إسحاق بن راهويه ; فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم ، أما من منع صيد الكلب الأسود فلقوله صلى الله عليه وسلم : الكلب الأسود شيطان ، أخرجه مسلم . احتج الجمهور بعموم الآية ، واحتجوا أيضا في جواز صيد البازي بما ذكر من سبب النزول ، وبما خرجه الترمذي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ما أمسك عليك فكل . في إسناده مجالد ولا يعرف إلا من جهته وهو ضعيف ، وبالمعنى وهو أن كل ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا فلا فارق إلا فيما لا مدخل له في التأثير ; وهذا هو القياس في معنى الأصل ، كقياس السيف على المدية والأمة على العبد ، وقد تقدم .

    السادسة : وإذا تقرر هذا فاعلم أنه لابد للصائد أن يقصد عند الإرسال التذكية والإباحة ، وهذا لا يختلف فيه ; لقوله عليه السلام : إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وهذا يقتضي النية والتسمية ; فلو قصد مع ذلك اللهو فكرهه مالك وأجازه ابن عبد الحكم ، وهو ظاهر قول الليث : ما رأيت حقا أشبه بباطل منه ، يعني الصيد ; فأما لو فعله بغير نية التذكية فهو حرام ; لأنه من باب الفساد وإتلاف حيوان لغير منفعة ، وقد نهى [ ص: 36 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة ، وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أن التسمية لا بد منها بالقول عند الإرسال ; لقوله : وذكرت اسم الله فلو لم توجد على أي وجه كان لم يؤكل الصيد ; وهو مذهب أهل الظاهر وجماعة أهل الحديث ، وذهبت جماعة من أصحابنا وغيرهم إلى أنه يجوز أكل ما صاده المسلم وذبحه وإن ترك التسمية عمدا ; وحملوا الأمر بالتسمية على الندب ، وذهب مالك في المشهور إلى الفرق بين ترك التسمية عمدا أو سهوا فقال : لا تؤكل مع العمد وتؤكل مع السهو ; وهو قول فقهاء الأمصار ، وأحد قولي الشافعي ، وستأتي هذه المسألة في " الأنعام " إن شاء الله تعالى . ثم لا بد أن يكون انبعاث الكلب بإرسال من يد الصائد بحيث يكون زمامه بيده . فيخلي عنه ويغريه عليه فينبعث ، أو يكون الجارح ساكنا مع رؤيته الصيد فلا يتحرك له إلا بالإغراء من الصائد ، فهذا بمنزلة ما زمامه بيده فأطلقه مغريا له على أحد القولين ; فأما لو انبعث الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال ولا إغراء فلا يجوز صيده ولا يحل أكله عند الجمهور ومالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي ; لأنه إنما صاد لنفسه من غير إرسال وأمسك عليها ، ولا صنع للصائد فيه ، فلا ينسب إرساله إليه ; لأنه لا يصدق عليه قوله عليه السلام : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي : يؤكل صيده إذا كان أخرجه للصيد .

    السابعة : قرأ الجمهور " علمتم " بفتح العين واللام ، وابن عباس ومحمد بن الحنفية بضم العين وكسر اللام ، أي : من أمر الجوارح والصيد بها . والجوارح الكواسب ، وسميت أعضاء الإنسان جوارح لأنها تكسب وتتصرف . وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح وتسيل الدم ، فهو مأخوذ من الجراح ، وهذا ضعيف ، وأهل اللغة على خلافه ، وحكاه ابن المنذر عن قوم . و " مكلبين " قراءة الجمهور بفتح الكاف وشد اللام ، والمكلب معلم الكلاب ومضريها ، ويقال لمن يعلم غير الكلب : مكلب ; لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب ; حكاه بعضهم ، ويقال للصائد : مكلب فعلى هذا معناه صائدين ، وقيل : المكلب صاحب الكلاب ، يقال : كلب فهو مكلب وكلاب ، وقرأ الحسن " مكلبين " بسكون الكاف وتخفيف اللام ، ومعناه أصحاب كلاب ، يقال : أمشى الرجل كثرت ماشيته ، وأكلب كثرت كلابه ، وأنشد الأصمعي :


    وكل فتى وإن أمشى فأثرى ستخلجه عن الدنيا منون


    الثامنة : قوله تعالى : تعلمونهن مما علمكم الله أنث الضمير مراعاة للفظ الجوارح ; [ ص: 37 ] إذ هو جمع جارحة ، ولا خلاف بين العلماء في شرطين في التعليم وهما : أن يأتمر إذا أمر وينزجر إذا زجر ; لا خلاف في هذين الشرطين في الكلاب وما في معناها من سباع الوحوش ، واختلف فيما يصاد به من الطير ; فالمشهور أن ذلك مشترط فيها عند الجمهور ، وذكر ابن حبيب أنه لا يشترط فيها أن تنزجر إذا زجرت ; فإنه لا يتأتى ذلك فيها غالبا ، فيكفي أنها إذا أمرت أطاعت . وقال ربيعة : ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري ; لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي ، وقد شرط الشافعي وجمهور من العلماء في التعليم أن يمسك على صاحبه ، ولم يشترطه مالك في المشهور عنه ، وقال الشافعي : المعلم هو الذي إذا أشلاه صاحبه انشلى ; وإذا دعاه إلى الرجوع رجع إليه ، ويمسك الصيد على صاحبه ولا يأكل منه ; فإذا فعل هذا مرارا وقال أهل العرف : صار معلما فهو المعلم ، وعن الشافعي أيضا والكوفيين : إذا أشلي فانشلى وإذا أخذ حبس وفعل ذلك مرة بعد مرة أكل صيده في الثالثة . ومن العلماء من قال : يفعل ذلك ثلاث مرات ويؤكل صيده في الرابعة ، ومنهم من قال : إذا فعل ذلك مرة فهو معلم ويؤكل صيده في الثانية .

    التاسعة : قوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم أي : حبسن لكم ، واختلف العلماء في تأويله ; فقال ابن عباس وأبو هريرة والنخعي وقتادة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه : المعنى ولم يأكل ; فإن أكل لم يؤكل ما بقي ، لأنه أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ، والفهد عند أبي حنيفة وأصحابه كالكلب ولم يشترطوا ذلك في الطيور بل يؤكل ما أكلت منه ، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وسلمان الفارسي وأبو هريرة أيضا : المعنى وإن أكل ; فإذا أكل الجارح كلبا كان أو فهدا أو طيرا أكل ما بقي من الصيد وإن لم يبق إلا بضعة ; وهذا قول مالك وجميع أصحابه ، وهو القول الثاني للشافعي ، وهو القياس ، وفي الباب حديثان بمعنى ما ذكرنا أحدهما : حديث عدي في الكلب المعلم ( وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ) أخرجه مسلم . الثاني : حديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب : إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يداك أخرجه أبو داود ، وروي عن عدي ولا يصح ; والصحيح عنه حديث مسلم ; ولما تعارضت الروايتان رام بعض أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع ، وحديث الإباحة على الجواز ، وقالوا : إن عديا كان موسعا عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعا ، وأبا ثعلبة كان محتاجا فأفتاه بالجواز ; والله أعلم ، وقد دل على صحة هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي : فإني [ ص: 38 ] أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه هذا تأويل علمائنا . وقال أبو عمر في كتاب " الاستذكار " : وقد عارض حديث عدي هذا حديث أبي ثعلبة ، والظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ له ; فقوله : وإن أكل يا رسول الله ؟ قال : وإن أكل .

    قلت : هذا فيه نظر ; لأن التاريخ مجهول ; والجمع بين الحديثين أولى ما لم يعلم التاريخ ; والله أعلم . وأما أصحاب الشافعي فقالوا : إن كان الأكل عن فرط جوع من الكلب أكل وإلا لم يؤكل ; فإن ذلك من سوء تعليمه ، وقد روي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب والفهد فمنعوه ، وبين ما أكل منه البازي فأجازوه ، قاله النخعي والثوري وأصحاب الرأي وحماد بن أبي سليمان ، وحكي عن ابن عباس وقالوا : الكلب والفهد يمكن ضربه وزجره ، والطير لا يمكن ذلك فيه ، وحد تعليمه أن يدعى فيجيب ، وأن يشلى فينشلي ; لا يمكن فيه أكثر من ذلك ، والضرب يؤذيه .

    العاشرة : والجمهور من العلماء على أن الجارح إذا شرب من دم الصيد أن الصيد يؤكل ; قال عطاء : ليس شرب الدم بأكل ; وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري ، ولا خلاف بينهم أن سبب إباحة الصيد الذي هو عقر الجارح له لا بد أن يكون متحققا غير مشكوك فيه ، ومع الشك لا يجوز الأكل ، وهي :

    الحادية عشرة : فإن وجد الصائد مع كلبه كلبا آخر فهو محمول على أنه غير مرسل من صائد آخر ، وأنه إنما انبعث في طلب الصيد بطبعه ونفسه ، ولا يختلف في هذا ; لقوله عليه الصلاة والسلام : وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل - في رواية - فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره . فأما لو أرسله صائد آخر فاشترك الكلبان فيه فإنه للصائدين يكونان شريكين فيه . فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر فهو للذي أنفذ مقاتله ، وكذلك لا يؤكل ما رمي بسهم فتردى من جبل أو غرق في ماء ; لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي : وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ، وهذا نص .

    الثانية عشرة : لو مات الصيد في أفواه الكلاب من غير بضع لم يؤكل ; لأنه مات خنقا فأشبه أن يذبح بسكين كالة فيموت في الذبح قبل أن يفرى حلقه . ولو أمكنه أخذه من الجوارح وذبحه فلم يفعل حتى مات لم يؤكل ، وكان مقصرا في الذكاة ; لأنه قد صار مقدورا على ذبحه ، وذكاة المقدور عليه تخالف ذكاة غير المقدور عليه ، ولو أخذه ثم مات قبل أن يخرج السكين ، أو تناولها وهي معه جاز أكله ; ولو لم تكن السكين معه فتشاغل بطلبها لم تؤكل ، وقال [ ص: 39 ] الشافعي : فيما نالته الجوارح ولم تدمه قولان : أحدهما : ألا يؤكل حتى يجرح ; لقوله تعالى : من الجوارح وهو قول بن القاسم ; والآخر : أنه حل وهو قول أشهب ، قال أشهب : إن مات من صدمة الكلب أكل .

    الثالثة عشرة : قوله : ( فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ) ونحوه في حديث أبي ثعلبة الذي خرجه أبو داود ، غير أنه زاد ( فكله بعد ثلاث ما لم ينتن ) يعارضه قوله عليه السلام : كل ما أصميت ودع ما أنميت . فالإصماء ما قتل مسرعا وأنت تراه ، والإنماء أن ترمي الصيد فيغيب عنك فيموت وأنت لا تراه ; يقال : قد أنميت الرمية فنمت تنمي إذا غابت ثم ماتت قال امرؤ القيس :


    فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره
    وقد اختلف العلماء في أكل الصيد الغائب على ثلاثة أقوال : يؤكل ، وسواء قتله السهم أو الكلب . الثاني : لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب ; لقوله : كل ما أصميت ودع ما أنميت ، وإنما لم يؤكل مخافة أن يكون قد أعان على قتله غير السهم من الهوام . الثالث : الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل ، ووجهه أن السهم يقتل على جهة واحدة فلا يشكل ; والجارح على جهات متعددة فيشكل ، والثلاثة الأقوال لعلمائنا ، وقال مالك في غير الموطأ : إذا بات الصيد ثم أصابه ميتا لم ينفذ البازي أو الكلب أو السهم مقاتله لم يأكله ; قالأبو عمر : فهذا يدلك على أنه إذا بلغ مقاتله كان حلالا عنده أكله وإن بات ، إلا أنه يكرهه إذا بات ; لما جاء عن ابن عباس : " وإن غاب عنك ليلة فلا تأكل " ونحوه عن الثوري قال : إذا غاب عنك يوما كرهت أكله ، وقال الشافعي : القياس ألا يأكله إذا غاب عنه مصرعه ، وقال الأوزاعي : إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا من كلبه فليأكله ; ونحوه قال أشهب وعبد الملك وأصبغ ; قالوا : جائز أكل الصيد وإن بات إذا نفذت مقاتله ، وقوله في الحديث : ما لم ينتن تعليل ; لأنه إذا أنتن لحق بالمستقذرات التي تمجها الطباع فيكره أكلها ; فلو أكلها لجاز ، كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم الإهالة السنخة وهي المنتنة ، وقيل : هو معلل بما يخاف منه الضرر على آكله ، وعلى هذا التعليل يكون أكله محرما إن كان الخوف محققا ، والله أعلم .

    الرابعة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب في الصيد بكلب اليهودي والنصراني إذا كان معلما ، فكرهه الحسن البصري ; وأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري وإسحاق ، وأجاز الصيد بكلابهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إذا كان الصائد مسلما ; قالوا : وذلك مثل شفرته ، وأما إن كان [ ص: 40 ] الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك ، وفرق بين ذلك وبين ذبيحته ; وتلا : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ، قال : فلم يذكر الله في هذا اليهود ولا النصارى ، وقال ابن وهب وأشهب : صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته ; وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبحه ، وهم قوم بين اليهود والنصارى ولا دين لهم ، وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور الناس ، وقال أبو ثور فيها قولان : أحدهما : كقول هؤلاء ، والآخر : أن المجوس من أهل الكتاب وأن صيدهم جائز ، ولو اصطاد السكران أو ذبح لم يؤكل صيده ولا ذبيحته ; لأن الذكاة تحتاج إلى قصد ، والسكران لا قصد له .

    الخامسة عشرة : واختلف النحاة في " من " في قوله تعالى : مما أمسكن عليكم فقال الأخفش : هي زائدة كقوله : كلوا من ثمره ، وخطأه البصريون وقالوا : " من " لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في النفي والاستفهام ، وقوله : من ثمره ، ويكفر عنكم من سيئاتكم و يغفر لكم من ذنوبكم للتبعيض ; أجاب فقال : قد قال : يغفر لكم ذنوبكم بإسقاط " من " فدل على زيادتها في الإيجاب ; أجيب بأن " من " هاهنا للتبعيض ; لأنه إنما يحل من الصيد اللحم دون الفرث والدم .

    قلت : هذا ليس بمراد ولا معهود في الأكل فيعكر على ما قال ، ويحتمل أن يريد مما أمسكن أي : مما أبقته الجوارح لكم ; وهذا على قول من قال : لو أكل الكلب الفريسة لم يضر وبسبب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل الجارح منه على ما تقدم .

    السادسة عشرة : ودلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد ، وثبت ذلك في صحيح السنة وزادت الحرث والماشية ; وقد كان أول الإسلام أمر بقتل الكلاب حتى كان يقتل كلب المرية من البادية يتبعها ; روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان ، وروي أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم [ ص: 41 ] قيراط . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة ، كان صاحب زرع ; فقد دلت السنة على ما ذكرنا ، وجعل النقص من أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ; إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه - كما قال بعض شعراء البصرة ، وقد نزل بعمار فسمع لكلابه نباحا فأنشأ يقول :


    نزلنا بعمار فأشلى كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
    فقلت لأصحابي أسر إليهم أذا اليوم أم يوم القيامة أطول
    أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ; والله أعلم ، وقال في إحدى الروايتين : ( قيراطان ) وفي الأخرى ( قيراط ) وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ; كالأسود الذي أمر عليه الصلاة والسلام بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها فقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان أخرجه مسلم ، ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان ، وبغيرهما قيراط ; والله أعلم ، وأما المباح اتخاذه فلا ينقص أجر متخذه كالفرس والهر ، ويجوز بيعه وشراؤه ، حتى قال سحنون : ويحج بثمنه ، وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها لا الذي يحفظها في الدار من السراق ، وكلب الزرع هو الذي يحفظه من الوحوش بالليل والنهار لا من السراق ، وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع والدار في البادية .

    السابعة عشرة : وفي هذه الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل ; لأن الكلب إذا علم يكون له فضيلة على سائر الكلاب ، فالإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على سائر الناس ، لا سيما إذا عمل بما علم ; وهذا كما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : لكل شيء قيمة وقيمة المرء ما يحسنه .

    الثامنة عشرة : قوله تعالى : واذكروا اسم الله عليه أمر بالتسمية ; قيل : عند الإرسال على الصيد ، وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد ، يأتي بيانه في " الأنعام " ، وقيل : المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل ، وهو الأظهر ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ ص: 42 ] لعمر بن أبي سلمة : يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ، وروي من حديث حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليستحل الطعام إلا يذكر اسم الله عليه الحديث . فإن نسي التسمية أول الأكل فليسم آخره ; وروى النسائي عن أمية بن مخشي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يأكل ولم يسم الله ، فلما كان في آخر لقمة قال : بسم الله أوله وآخره ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما زال الشيطان يأكل معه فلما سمى قاء ما أكله .

    التاسعة عشرة : قوله تعالى : واتقوا الله أمر بالتقوى على الجملة ، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر ، وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا ; فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب ; ولهذا قال : وكفى بنا حاسبين فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة . ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال : إن حساب الله لكم سريع إتيانه ; إذ يوم القيامة قريب ، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة ; فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #270
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 43 الى صــ 50
    الحلقة (268)


    قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

    فيه عشر مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات أي : اليوم أكملت لكم دينكم و اليوم أحل لكم الطيبات فأعاد تأكيدا أي : أحل لكم الطيبات التي سألتم عنها ; وكانت الطيبات أبيحت للمسلمين قبل نزول هذه الآية ; فهذا جواب سؤالهم إذ قالوا : ماذا أحل لنا ؟ [ ص: 43 ] وقيل : أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم كما يقال : هذه أيام فلان ; أي : هذا أوان ظهوركم وشيوع الإسلام ; فقد أكملت بهذا دينكم ، وأحللت لكم الطيبات ، وقد تقدم ذكر الطيبات في الآية قبل هذا .

    الثانية : قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ابتداء وخبر ، والطعام اسم لما يؤكل والذبائح منه ، وهو هنا خاص بالذبائح عند كثير من أهل العلم بالتأويل ، وأما ما حرم علينا من طعامهم فليس بداخل تحت عموم الخطاب ; قال ابن عباس : قال الله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، ثم استثنى فقال : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم يعني ذبيحة اليهودي والنصراني ; وإن كان النصراني يقول عند الذبح : باسم المسيح واليهودي يقول : باسم عزير ; وذلك لأنهم يذبحون على الملة ، وقال عطاء : كل من ذبيحة النصراني وإن قال باسم المسيح ; لأن الله جل وعز قد أباح ذبائحهم ، وقد علم ما يقولون ، وقال القاسم بن مخيمرة : كل من ذبيحته وإن قال************ باسم سرجس************ - اسم كنيسة لهم - وهو قول الزهري وربيعة والشعبي ومكحول ; وروي عن صحابيين : عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت . وقالت طائفة : إذا سمعت الكتابي يسمي غير اسم الله عز وجل فلا تأكل ; وقال بهذا من الصحابة علي وعائشة وابن عمر ; وهو قول طاوس والحسن متمسكين بقوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ، وقال مالك : أكره ذلك ، ولم يحرمه .

    قلت : العجب من إلكيا الطبري الذي حكى الاتفاق على جواز ذبيحة أهل الكتاب ، ثم أخذ يستدل بذلك على أن التسمية على الذبيحة ليست بشرط فقال : ولا شك أنهم لا يسمون على الذبيحة إلا الإله الذي ليس معبودا حقيقة مثل المسيح وعزير ، ولو سموا الإله حقيقة لم تكن تسميتهم على طريق العبادة ، وإنما كان على طريق آخر ; واشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل ، ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة ; إذا لم تتصور منه العبادة ، ولأن النصراني إنما يذبح على اسم المسيح ، وقد حكم الله بحل ذبائحهم مطلقا ، وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلا كما يقول الشافعي ، وسيأتي ما في هذا للعلماء في " الأنعام " إن شاء الله تعالى .

    الثالثة : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام الذي لا محاولة فيه كالفاكهة والبر جائز أكله ; إذ لا يضر فيه تملك أحد . والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين : أحدهما : ما فيه محاولة صنعة لا تعلق للدين بها ; كخبز الدقيق ، وعصر الزيت [ ص: 44 ] ونحوه ; فهذا إن تجنب من الذمي فعلى وجه التقزز ، والضرب الثاني : هي التذكية التي ذكرنا أنها هي التي تحتاج إلى الدين والنية ; فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم - كما نقول إنهم لا صلاة لهم ولا عبادة مقبولة - رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة ، وأخرجها النص عن القياس على ما ذكرناه من قول ابن عباس ; والله أعلم .

    الرابعة : واختلف العلماء أيضا فيما ذكوه هل تعمل الذكاة فيما حرم عليهم أو لا ؟ على قولين ; فالجمهور على أنها عاملة في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه ، لأنه مذكى ، وقالت جماعة من أهل العلم : إنما حل لنا من ذبيحتهم ما حل لهم ; لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم ; فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب ; وقصرت لفظ الطعام على البعض ، وحملته الأولى على العموم في جميع ما يؤكل ، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك . قال أبو عمر : وكره مالك شحوم اليهود وأكل ما نحروا من الإبل ، وأكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا ; وسيأتي هذا في " الأنعام " إن شاء الله تعالى ; وكان مالك رحمه الله يكره ما ذبحوه إذا وجد ما ذبحه المسلم ، وكره أن يكون لهم أسواق يبيعون فيها ما يذبحون ; وهذا منه رحمه الله تنزه .

    الخامسة : وأما المجوس فالعلماء مجمعون - إلا من شذ منهم - على أن ذبائحهم لا تؤكل ، ولا يتزوج منهم ; لأنهم ليسوا أهل كتاب على المشهور عند العلماء ، ولا بأس بأكل طعام من لا كتاب له كالمشركين وعبدة الأوثان ما لم يكن من ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة ; إلا الجبن ; لما فيه من إنفحة الميتة . فإن كان أبو الصبي مجوسيا وأمه كتابية فحكمه حكم أبيه عند مالك ، وعند غيره لا تؤكل ذبيحة الصبي إذا كان أحد أبويه ممن لا تؤكل ذبيحته .

    السادسة : وأما ذبيحة نصارى بني تغلب وذبائح كل دخيل في اليهودية والنصرانية فكان علي رضي الله عنه ينهى عن ذبائح بني تغلب ; لأنهم عرب ، ويقول : إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر ; وهو قول الشافعي ; وعلى هذا فليس ينهى عن ذبائح النصارى المحققين منهم ، وقال جمهور الأمة : إن ذبيحة كل نصراني حلال ; سواء كان من بني تغلب أو [ ص: 45 ] غيرهم ، وكذلك اليهودي ، واحتج ابن عباس بقوله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، فلو لم تكن بنو تغلب من النصارى إلا بتوليهم إياهم لأكلت ذبائحهم .

    السابعة : ولا بأس بالأكل والشرب والطبخ في آنية الكفار كلهم ، ما لم تكن ذهبا أو فضة أو جلد خنزير بعد أن تغسل وتغلى ; لأنهم لا يتوقون النجاسات ويأكلون الميتات ; فإذا طبخوا في تلك القدور تنجست ، وربما سرت النجاسات في أجزاء قدور الفخار ; فإذا طبخ فيها بعد ذلك توقع مخالطة تلك الأجزاء النجسة للمطبوخ في القدر ثانية ; فاقتضى الورع الكف عنها . وروي عن ابن عباس أنه قال : إن كان الإناء من نحاس أو حديد غسل ، وإن كان من فخار أغلي فيه الماء ثم غسل - هذا إذا احتيج إليه - وقاله مالك ; فأما ما يستعملونه لغير الطبخ فلا بأس باستعماله من غير غسل ; لما روى الدارقطني عن عمر أنه توضأ من بيت نصراني في حق نصرانية ; وهو صحيح وسيأتي في " الفرقان " بكماله ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل كتاب نأكل في آنيتهم ، وأرض صيد ، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم ، وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم ; فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك ؟ قال : أما ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل كتاب تأكلون في آنيتهم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها ثم ذكر الحديث .

    الثامنة : قوله تعالى : وطعامكم حل لهم دليل على أنهم مخاطبون بتفاصيل شرعنا ; أي : إذا اشتروا منا اللحم يحل لهم اللحم ويحل لنا الثمن المأخوذ منهم .

    التاسعة : قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الآية . وقد تقدم معناها في " البقرة " و " النساء " والحمد لله ، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب . هو على العهد دون دار الحرب فيكون خاصا ، وقال غيره : يجوز نكاح الذمية والحربية لعموم الآية . وروي عن ابن عباس أنه قال : المحصنات العفيفات العاقلات ، وقال الشعبي : هو أن تحصن فرجها فلا تزني ، وتغتسل من الجنابة ، وقرأ الشعبي " والمحصنات " بكسر الصاد ، وبه قرأ الكسائي ، وقال مجاهد : المحصنات الحرائر ; قال أبو عبيد : يذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل [ ص: 46 ] الكتاب ; لقوله تعالى : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وهذا القول الذي عليه جلة العلماء .

    العاشرة : قوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان قيل : لما قال تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قال : نساء أهل الكتاب : لولا أن الله تعالى رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا ; فنزلت ومن يكفر بالإيمان أي : بما أنزل على محمد . وقال أبو الهيثم : الباء صلة ; أي : ومن يكفر الإيمان أي : يجحده فقد حبط عمله وقرأ ابن السميقع " فقد حبط " بفتح الباء ، وقيل : لما ذكرت فرائض وأحكام يلزم القيام بها ، ذكر الوعيد على مخالفتها ; لما في ذلك من تأكيد الزجر عن تضييعها ، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى : ومن يكفر بالله ; قال الحسن بن الفضل : إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان . وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : ولا يجوز أن يسمى الله إيمانا خلافا للحشوية والسالمية ; لأن الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانا ، واسم الفاعل منه مؤمن ; والإيمان التصديق ، والتصديق لا يكون إلا كلاما ، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى كلاما .
    قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون

    فيه اثنتا وثلاثون مسألة :

    الأولى : ذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع ، وهي آية الوضوء . قال ابن عطية : لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا ، فكان الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته ، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في [ ص: 47 ] التيمم ، وقد ذكرنا في آية " النساء " خلاف هذا ، والله أعلم . ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع ، وفيما ذكر من إتمام النعمة ; فإن هذه الرخصة من إتمام النعم .

    الثانية : واختلف العلماء في المعنى المراد بقوله : إذا قمتم إلى الصلاة على أقوال ; فقالت طائفة : هذا لفظ عام في كل قيام إلى الصلاة ، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا ; فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ ، وكان علي يفعله ويتلو هذه الآية ; ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده ، وروي مثله عن عكرمة ، وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة .

    قلت : فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها ، وقالت طائفة : الخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ; قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه ; فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث ، وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة ، وكان دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك ; فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال ، وقالت طائفة : المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل ; وحملوا الأمر على الندب ، وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلبا للفضل ، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد ، إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم .

    قلت : وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك ; فإن الأمر إذا ورد ، مقتضاه الوجوب ; لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم ، على ما هو معروف من سيرتهم ، وقال آخرون : إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة ; وهذا غلط لحديث أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ، وإن أمته كانت على خلاف ذلك ، وسيأتي ; ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد ; وذلك في غزوة خيبر ، وهي سنة ست ، وقيل : سنة سبع ، وفتح مكة كان في سنة ثمان ; وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه ، وأخرجه البخاري ومسلم ; فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة . فإن قيل : فقد روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم [ ص: 48 ] الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ، فقال عمر رضي الله عنه : لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ; فقال : ( عمدا صنعته يا عمر ) . فلم سأله عمر واستفهمه ؟ قيل له : إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر ; والله أعلم . وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر ; قال حميد : قلت لأنس : وكيف كنتم تصنعون أنتم ؟ قال : كنا نتوضأ وضوءا واحدا ; قال : حديث حسن صحيح ; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الوضوء على الوضوء نور فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة ، وقد سلم عليه رجل وهو يبول فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال : إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر رواه الدارقطني ، وقال السدي وزيد بن أسلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة يريد من المضاجع يعني النوم ، والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر ، ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا ؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير ; التقدير : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا ; فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر . ثم قال : وإن كنتم جنبا فاطهروا فهذا حكم نوع آخر ; ثم قال للنوعين جميعا : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا . وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره ، وقال جمهور أهل العلم : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ; وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير ، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : فاطهروا ودخلت الملامسة الصغرى في قوله " محدثين " . ثم ذكر بعد قوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا حكم عادم الماء من النوعين جميعا ، وكانت الملامسة هي الجماع ، ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما ذكر الواجد ; وهذا تأويل الشافعي وغيره ; وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم .

    قلت : وهذان التأويلان أحسن ما قيل في الآية ; والله أعلم ، ومعنى إذا قمتم إذا أردتم ، كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ ، أي : إذا أردت ; لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة لا يمكن .

    الثالثة : قوله تعالى : الصلاة فاغسلوا وجوهكم ذكر تعالى أربعة أعضاء : الوجه وفرضه [ ص: 49 ] الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي ، لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها آداب وسنن ، والله أعلم ، ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه ، وإمرار اليد عليه ; وهذه حقيقة الغسل عندنا ، وقد بيناه في " النساء " ، وقال غيرنا : إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده ; ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه أو يده ولم يدلك يقال : غسل وجهه ويده ، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم ، فإذا حصل كفى ، والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة ، وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض ; فحده في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين ، ومن الأذن إلى الأذن في العرض ، وهذا في الأمرد ; وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو أن يكون خفيفا أو كثيفا ; فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال الماء إليها ، وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس ; ثم ما زاد على الذقن من الشعر واسترسل من اللحية ، فقال سحنون عن ابن القاسم : سمعت مالكا سئل : هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء ؟ قال : نعم ، وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس ، وعاب ذلك على من فعله ، وذكر ابن القاسم أيضا عن مالك قال : يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها ; قال : وهي مثل أصابع الرجلين . قال ابن عبد الحكم : تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل . قال أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها ضعيفة . وذكر ابن خويز منداد : أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في الوضوء ، إلا شيء روي عن سعيد بن جبير ; قوله : ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن تنبت فإذا نبتت لم يغسلها ، وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية ؟ قال الطحاوي : التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند جميعهم . فكذلك الوضوء . قال أبو عمر : من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها ; لأن الوجه مأخوذ من المواجهة ، والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب لحية من أمرد ; فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة .

    قلت : واختار هذا القول ابن العربي وقال : وبه أقول ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل لحيته ، خرجه الترمذي وغيره ; فعين المحتمل بالفعل ، وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك تخليل لحيته عامدا أعاد ، وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته ; قال : هذا حديث حسن صحيح ; قال أبو عمر : ومن لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة ، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة ، وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله ، فيكون غسل اللحية بدلا منه ، واختلفوا أيضا في [ ص: 50 ] غسل ما وراء العذار إلى الأذن ; فروى ابن وهب عن مالك قال : ليس ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه . قال أبو عمر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : البياض بين العذار والأذن من الوجه ، وغسله واجب ; ونحوه قال الشافعي وأحمد ، وقيل : يغسل البياض استحبابا ; قال ابن العربي : والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا للأمرد لا للمعذر .

    قلت : وهو اختيار القاضي عبد الوهاب ; وسبب الخلاف هل تقع عليه المواجهة أم لا ؟ والله أعلم ، وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل الوجه باطن الأنف والفم أم لا ؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في الوضوء والغسل ، إلا أن أحمد قال : يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك المضمضة ، وقال عامة الفقهاء : هما سنتان في الوضوء والغسل ; لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن ، والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة ، ثم إن الله تعالى لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما المسلمون ، ولا اتفق الجميع عليه ; والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه ، وقد مضى هذا المعنى في " النساء " ، وأما العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله ، إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه ; وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به ; قال ابن العربي : ولذلك كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى بذلك ; وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير تحديد ، كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر ; وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو : " أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله " والله أعلم .

    الرابعة : وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية ; لقوله عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات . قال البخاري : فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام ; وقال الله تعالى : قل كل يعمل على شاكلته ، يعني على نيته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن جهاد ونية ، وقال كثير من الشافعية : لا حاجة إلى نية ; وهو قول الحنفية ; قالوا : لا تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها ، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه ، والطهارة شرط ; فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة ، كالحائض والنفساء .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #271
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 51 الى صــ 58
    الحلقة (269)


    احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم فلما وجب فعل الغسل كانت [ ص: 51 ] النية شرطا في صحة الفعل ; لأن الفرض من قبل الله تعالى فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به ; فإذا قلنا : إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى ، ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما ، قصد أداء الواجب ; وصح في الحديث أن الوضوء يكفر ; فلو صح بغير نية لما كفر ، وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين

    الخامسة : قال ابن العربي ، قال بعض علمائنا : إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه ، وإن عزبت نيته في الطريق ، ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية . قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه : فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على القولين ، وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال : يجوز أن تتقدم فيها النية على التكبير ; ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة فما وفقها الله ولا سددها! اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في وجوبها بين العلماء ، وقد اختلف فيها قول مالك ; فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح في تقديمها في بعض المواضع ، فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها ، وهي أصل مقصود ، فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه ! هل هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت الغفلة بتقديم النية عليه .

    السادسة : قوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد ; فقال قوم : نعم ; لأن ما بعد ( إلى ) إذا كان من نوع ما قبلها دخل فيه ; قال سيبويه وغيره ، وقد مضى هذا في " البقرة " مبينا ، وقيل : لا يدخل المرفقان في الغسل ; والروايتان مرويتان عن مالك ; الثانية لأشهب ; والأولى عليها أكثر العلماء وهو الصحيح ; لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ، وقد قال بعضهم : إن إلى بمعنى مع ، كقولهم : الذود إلى الذود إبل ، أي : مع الذود ، وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه في " النساء " ; ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف ، وكذلك الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ ; فالمرفق داخل تحت اسم اليد ، فلو كان المعنى مع المرافق لم يفد ، فلما قال : إلى اقتطع من حد المرافق عن الغسل ، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر ، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى ; قال ابن العربي : وما فهم أحد [ ص: 52 ] مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال : إن قوله إلى المرافق حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما ; ولذلك تدخل المرافق في الغسل .

    قلت : ولما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ بالوضوء إبطه وساقه ويقول : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء . قال القاضي عياض : والناس مجمعون على خلاف هذا ، وألا يتعدى بالوضوء حدوده ; لقوله عليه السلام : فمن زاد فقد تعدى وظلم . وقال غيره : كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به ، ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما استنبطه من قوله عليه السلام : أنتم الغر المحجلون ومن قوله : تبلغ الحلية كما ذكر .

    السابعة : قوله تعالى : وامسحوا برءوسكم تقدم في " النساء " أن المسح لفظ مشترك ، وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه ، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح ، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه ، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ; وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ; فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن الأذنين من الرأس ، وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري ، حيث قال : هما من الوجه يغسلان معه ، وخلافا للشعبي ، حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس ; وهو قول الحسن وإسحاق ، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي ، وسيأتي بيان حجتهما ; وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه ، ومنه رأس الجبل ; وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر :


    إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند الملتقى ثم سائري


    الثامنة : واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا ; ثلاثة لأبي حنيفة ، وقولان للشافعي ، وستة أقوال لعلمائنا ; والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه . وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه ; والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض : والمعنى وامسحوا رءوسكم ، وقيل : دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله : فامسحوا بوجوهكم فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع ، وهذا قاطع . وقيل : إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به ، والمسح لغة لا يقتضي [ ص: 53 ] ممسوحا به ; فلو قال : وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس ; فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء ، فكأنه قال : وامسحوا برءوسكم الماء ; وذلك فصيح في اللغة على وجهين ; إما على القلب كما أنشد سيبويه : ( وهو الشاعر الخفاف بن ندبة السلمي )


    كنواح ريش حمامة نجدية ومسحت باللثتين عصف الإثمد
    واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب ، وأما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر : ( هو الأخطل )
    مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
    فهذا ما لعلمائنا في معنى الباء ، وقال الشافعي : احتمل قول الله تعالى : وامسحوا برءوسكم بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ; وقال في موضع آخر : فإن قيل قد قال الله عز وجل : فامسحوا بوجوهكم في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه ؟ قيل له : مسح الوجه في التيمم بدل من غسله ; فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه ، ومسح الرأس أصل ; فهذا فرق ما بينهما . أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا : لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار ، وموضع الاستعجال والاختصار ، وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار ; ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة ; أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة ; فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة ; والله أعلم .

    التاسعة : وجمهور العلماء على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ ، وقال الشافعي : يمسح رأسه ثلاثا ; وروي عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء ، وكان ابن سيرين يمسح مرتين . قال أبو داود : وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ; فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ، قالوا فيها : ومسح برأسه ولم يذكروا عددا .

    العاشرة : واختلفوا من أين يبدأ بمسحه ; فقال مالك : يبدأ بمقدم رأسه ، ثم يذهب بيديه إلى مؤخره ، ثم يردهما إلى مقدمه ; على حديث عبد الله بن زيد أخرجه مسلم ; وبه يقول الشافعي وابن حنبل ، وكان الحسن بن حي يقول : يبدأ بمؤخر الرأس ; على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء ; وهو حديث يختلف في ألفاظه ، وهو يدور على عبد الله بن محمد بن [ ص: 54 ] عقيل وليس بالحافظ عندهم ; أخرجه أبو داود من رواية بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع ، وروى ابن عجلان عنه عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية بمنصب الشعر ، لا يحرك الشعر عن هيئته ; ورويت هذه الصفة عن ابن عمر ، وأنه كان يبدأ من وسط رأسه ، وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد ; وكل من أجاز بعض الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس . وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا : أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك ، ومسح عمر اليافوخ فقط ، والإجماع منعقد على استحسان المسح باليدين معا ، وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة ، واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس ; فالمشهور أن ذلك يجزئ ، وهو قول سفيان الثوري ; قال سفيان : إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه ، وقيل : إن ذلك لا يجزئ ; لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب ، إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الإجزاء . قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاثة أصابع ; واختلفوا في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة ، وقيل : هو فرض .

    الحادية عشرة : فلو غسل متوضئ رأسه بدل المسح فقال ابن العربي : لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه ، إلا ما أخبرنا الإمام فخر الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس بن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه ، وهذا تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في قوله : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وقال تعالى : أم بظاهر من القول وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة . فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به ; قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحل ; وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .

    الثانية عشرة : وأما الأذنان فهما من الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم ، ثم اختلفوا في تجديد الماء ; فقال مالك وأحمد : يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس ، على ما فعل ابن عمر ; وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء ، وقال : هما سنة على حالهما لا من الوجه ولا من الرأس ; لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج ; وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يمسحان مع الرأس بماء واحد ; وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة [ ص: 55 ] والتابعين ، وقال داود : إن مسح أذنيه فحسن ، وإلا فلا شيء عليه ; إذ ليستا مذكورتين في القرآن . قيل له : اسم الرأس تضمنهما كما بيناه ، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصابعه في صماخيه ، وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين ، وثبتت سنة مسحهما بالسنة ، وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه قال : إن ترك مسح أذنيه لم يجزه ، وقال أحمد : إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد ، وروي عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا أعاد ; وهذا عند الفقهاء ضعيف ، وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر ، ولو كان كذلك لم يعرف الفرض الواجب من غيره ; والله أعلم . احتج من قال : هما من الوجه بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه ، وفي مصنف أبي داود من حديث عثمان : فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة ، ثم غسل رجليه ثم قال : أين السائلون عن الوضوء ؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ . احتج من قال : يغسل ظاهرهما مع الوجه ، وباطنهما يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل الوجه وأمر بمسح الرأس ; فما واجهك من الأذنين وجب غسله ; لأنه من الوجه وما لم يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس ، وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم . احتج من قال : هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي : ( فإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ) الحديث أخرجه مالك .

    الثالثة عشرة : قوله تعالى : " وأرجلكم " قرأ نافع وابن عامر والكسائي " وأرجلكم " بالنصب ; وروى الوليد بن مسلم عن نافع أنه قرأ " وأرجلكم " بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان ; وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة " وأرجلكم " بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة والتابعون ; فمن قرأ بالنصب جعل العام " اغسلوا " وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح ، وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء ، وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واللازم من قوله في غير ما حديث ، وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم [ ص: 56 ] تلوح فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء . ثم إن الله حدهما فقال : إلى الكعبين كما قال في اليدين إلى المرافق فدل على وجوب غسلهما ; والله أعلم .

    ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء ، قال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم ، وتعلق الطبري بقراءة الخفض .

    قلت : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق الله وكذب الحجاج ; قال الله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم . قال : وكان إذا مسح رجليه بلهما ، وروي عن أنس أيضا أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل ، وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح ، وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ; ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحا ، وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين ، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين ; قال النحاس : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعا ، فالمسح واجب على قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين . قال ابن عطية : وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل .

    قلت : وهو الصحيح ; فإن لفظ المسح مشترك ، يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل ; قال الهروي : أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري قال : المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا ، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه : قد تمسح ; ويقال : مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب ، فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال : إن المراد بقراءة الخفض الغسل ; بقراءة النصب التي لا احتمال فيها ، وبكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل ، والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة ; ثم [ ص: 57 ] إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل الرجلين ، التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم ; فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم - لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير ، وقد روى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - علي ( وأرجلكم ) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : ( وأرجلكم ) هذا من المقدم والمؤخر من الكلام ، وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : اغسلوا الأقدام إلى الكعبين ، وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ ( وأرجلكم ) بالنصب ، وقد قيل : إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان ، وتلقينا هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا وعليهما خفان ، فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال التي تمسح فيه ، وهذا حسن . فإن قيل : إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ( المائدة ) - وقد قاله ابن عباس ، ورد المسح أبو هريرة وعائشة ، وأنكره مالك في رواية عنه - فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي ، وقد أثبت المسح على الخفين عدد كثير من الصحابة وغيرهم ، وقد قال الحسن : حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين ; وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ; قال إبراهيم النخعي : وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، قال إبراهيم النخعي : كان يعجبهم هذا الحديث ; لأن إسلام جرير كان بعد نزول ( المائدة ) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر رمضان ، وأن ( المائدة ) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات ، وهذا حديث لا يثبت لوهاه ; وإنما نزل منها يوم عرفة اليوم أكملت لكم دينكم على ما تقدم ; قال أحمد بن حنبل : أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين ; لأن إسلامه كان بعد نزول ( المائدة ) وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح ، أما عائشة فلم يكن عندها بذلك علم ; ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت : سله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; الحديث ، وأما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح ، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال : إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما يجب عليه ، وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن [ ص: 58 ] وهب عنه أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر . قال أحمد : كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال : حبب إلي الوضوء ; ونحوه عن أبي أيوب ، وقال أحمد رضي الله عنه : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه ، وصلينا خلفه ولم نعبه ، إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع ، فلا يصلى خلفه ، والله أعلم ، وقد قيل : إن قوله ( وأرجلكم ) معطوف على اللفظ دون المعنى ، وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ ، وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب ; وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس بالجر لأن النحاس الدخان ، وقال : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ بالجر . قال امرؤ القيس :


    كأن أبانا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
    فخفض مزمل بالجوار ، وإن المزمل الرجل وإعرابه الرفع ; قال زهير :


    لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر
    قال أبو حاتم : كان الوجه ( القطر ) بالرفع ولكنه جره على جوار المور ; كما قالت العرب : هذا جحر ضب خرب ; فجروه وإنما هو رفع ، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده النحاس وقال : هذا القول غلط عظيم ; لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه ، وإنما هو غلط ونظيره الإقواء .

    قلت : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل ، ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب ، ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما ، فتبين بهذا الحديث بطلان قول من قال بالمسح ، إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح ، ودليل آخر من جهة الإجماع ; وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه ،




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #272
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 89 الى صــ 66
    الحلقة (270)


    واختلفوا فيمن مسح قدميه ; فاليقين ما [ ص: 59 ] أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه ، ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما ; وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه ، فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا ، وأن العامل في قوله وأرجلكم قوله : فاغسلوا والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما تقول : أكلت الخبز واللبن أي : وشربت اللبن ; ومنه قول الشاعر :


    علفتها تبنا وماء باردا
    وقال آخر :


    ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
    وقال آخر :


    وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
    وقال آخر :


    شراب ألبان وتمر وأقط
    التقدير : علفتها تبنا وسقيتها ماء ، ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا ، وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها ; والنعام لا يطفل إنما يفرخ ، وأطفلت كان لها أطفال ، والجلهتان جنبتا الوادي ، وشراب ألبان وآكل تمر ; فيكون قوله : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم عطف بالغسل على المسح حملا على المعنى والمراد الغسل ; والله أعلم .

    الرابعة عشرة : قوله تعالى : إلى الكعبين روى البخاري : حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بتور من ماء ، فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ; فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ; فهذا الحديث دليل على أن الباء في قوله وامسحوا برءوسكم زائدة لقوله : فمسح رأسه ولم يقل برأسه ، وأن مسح الرأس مرة ، وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن زيد في تفسير قوله : فأقبل بهما وأدبر ، وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي [ ص: 60 ] الرجل ، وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر القدم ; قاله في ( الصحاح ) وروي عن ابن القاسم ، وبه قال محمد بن الحسن ; قال ابن عطية : ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ، ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام ; وقال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق ; وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال : الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم .

    قلت : هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة ; وكعبت المرأة إذا فلك ثديها ، وكعب القناة أنبوبها ، وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب ، وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها ، ومنه الحديث : والله لا يزال كعبك عاليا ، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ، قال : فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب ، والعرقوب هو مجمع مفصل الساق والقدم ، ومنه الحديث ويل للعراقيب من النار يعني إذا لم تغسل ; كما قال : ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار .

    الخامسة عشرة : قال ابن وهب عن مالك : ليس على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل ، ولا خير في الجفاء والغلو ; قال ابن وهب : تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين ; وقال ابن القاسم عن مالك : من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه ، وقال محمد بن خالد عن ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرك رجليه : إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه ; قال ابن القاسم : وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه .

    قلت : الصحيح أنه لا يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل ، كما أن ما بين أصابع اليد من اليد ، ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين ، فإن الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره ، مع ما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه ; وهذا يقتضي العموم . وقد كان مالك رحمه الله في آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن لهيعة والليث بن سعد عن [ ص: 61 ] يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين أصابع رجليه ; قال ابن وهب ، فقال لي مالك : إن هذا لحسن ، وما سمعته قط إلا الساعة ; قال ابن وهب : وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به ، وقد روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خللوا بين الأصابع لا تخللها النار وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل ; فثبت ما قلناه ، والله الموفق .

    السادسة عشرة : ألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء ، وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ بين أبعاضه ، ولا فصل بفعل ليس منه ; واختلف العلماء في ذلك ; فقال ابن أبي سلمة وابن وهب : ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان ، فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا أو ناسيا لم يجزه ، وقال ابن عبد الحكم : يجزئه ناسيا ومتعمدا ، وقال مالك في " المدونة " وكتاب محمد : إن الموالاة ساقطة ; وبه قال الشافعي ، وقال مالك وابن القاسم : إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا ; وقال مالك في رواية ابن حبيب : يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح ; فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين :

    الأول : أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق ، وإنما المقصود وجود الغسل في جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة .

    والثاني : أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب فيها التوالي كالصلاة ; وهذا أصح ، والله أعلم .

    السابعة عشرة : وتتضمن ألفاظ الآية أيضا الترتيب وقد اختلف فيه ; فقال الأبهري : الترتيب سنة ، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي يجزئ ، واختلف في العامد فقيل : يجزئ ويرتب في المستقبل ، وقال أبو بكر القاضي وغيره : لا يجزئ لأنه عابث ، وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه ، وبه يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور ، وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره ، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه ، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء ، وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن " الواو " لا توجب التعقيب ولا تعطي رتبة ، وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والمزني وداود بن علي ; قال إلكيا الطبري ظاهر قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو مذهب الأكثرين من العلماء . قال أبو عمر : إلا أن مالكا يستحب له استئناف [ ص: 62 ] الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة ، ولا يرى ذلك واجبا عليه ; هذا تحصيل مذهبه ، وقد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه ، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة ; قال علي ثم قال بعد ذلك : لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف . وسبب الخلاف ما قال بعضهم : إن " الفاء " توجب التعقيب في قوله : " فاغسلوا " فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت المشروط به ، فاقتضت الترتيب في الجميع ; وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه إذ هو جزاء الشرط وجوابه ، وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط معنى واحدا ، فإذا كانت جملا كلها جوابا لم تبال بأيها بدأت ، إذ المطلوب تحصيلها . قيل : إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو ; وليس كذلك لأنك تقول : تقاتل زيد وعمرو ، وتخاصم بكر وخالد ، فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب ، والصحيح أن يقال : إن الترتيب متلقى من وجوه أربعة :

    الأول : أن يبدأ بما بدأ الله به كما قال عليه الصلاة والسلام حين حج : نبدأ بما بدأ الله به .

    الثاني : من إجماع السلف فإنهم كانوا يرتبون .

    الثالث : من تشبيه الوضوء بالصلاة .

    الرابع : من مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .

    احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل أعضاء الجنابة ، فكذلك غسل أعضاء الوضوء ; لأن المعنى في ذلك الغسل لا التبدية ، وروي عن علي أنه قال : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت ، وعن عبد الله بن مسعود قال : لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك ; قال الدارقطني : هذا مرسل ولا يثبت ، والأولى وجوب الترتيب ، والله أعلم .

    الثامنة عشرة : إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم يتيمم عند أكثر العلماء ، ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك ; لأن التيمم إنما جاء في الأصل لحفظ وقت الصلاة ، ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء . احتج الجمهور بقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا واجد ، فقد عدم شرط صحة التيمم فلا يتيمم .

    التاسعة عشرة : وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست بواجبة ; لأنه قال : إذا قمتم إلى الصلاة ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء ، فلو كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به ; وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، وهي رواية أشهب عن مالك ، وقال ابن وهب عن مالك : إزالتها واجبة في الذكر والنسيان ; وهو قول الشافعي ، وقال ابن القاسم : تجب إزالتها مع الذكر ، وتسقط مع النسيان ، وقال أبو حنيفة : تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج [ ص: 63 ] المعتاد الذي عفي عنه ، والصحيح رواية ابن وهب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله ولا يعذب إلا على ترك الواجب ; ولا حجة في ظاهر القرآن ; لأن الله سبحانه وتعالى إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة ، ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها .

    الموفية عشرين : ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا ، ولمالك في ذلك ثلاث روايات :

    الأولى : الإنكار مطلقا كما يقوله الخوارج ، وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة ، وقد تقدم .

    الثانية : يمسح في السفر دون الحضر ; لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر ; وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر ، أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال : فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى ; فأتى سباطة قوم خلف حائط ، فقام كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه ، فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في رواية - فتوضأ ومسح على خفيه ، ومثله حديث شريح بن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت : عليك بابن أبي طالب فسله ; فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فسألناه فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة ; - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا ; وقد تقدم ذكرها .

    الحادية والعشرون : ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت ، وهو قول الليث بن سعد ; قال ابن وهب سمعت مالكا يقول : ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت . وروى أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : نعم ، قال : يوما ؟ قال : يوما ، قال : ويومين ؟ قال : ويومين ، قال : وثلاثة أيام ؟ قال : نعم وما شئت ، وفي رواية ( نعم وما بدا لك ) . قال أبو داود : وقد اختلف في إسناده وليس بالقوي . وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري : يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله ; وروي عن مالك في رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء ، وأنكرها أصحابه .

    الثانية والعشرون : والمسح عند جميعهم لمن لبس خفيه على وضوء ; لحديث المغيرة بن شعبة أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه ; فأهويت [ ص: 64 ] لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ومسح عليهما . ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم ، وهذا بناء منه على أن التيمم يرفع الحدث . وشذ داود فقال : المراد بالطهارة هاهنا هي الطهارة من النجس فقط ; فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين ، وسبب الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة .

    الثالثة والعشرون : ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق يسير : قال ابن خويز منداد : معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه ، ويكون مثله يمشى فيه ، وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري ; وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة ، وقال الأوزاعي : يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم ; وهو قول الطبري ، وقال أبو حنيفة : إذا كان ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح ، ولا يمسح إذا ظهر ثلاث ; وهذا تحديد يحتاج إلى توقيف ، ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا تسلم من الخرق اليسير ، وذلك متجاوز عند الجمهور منهم ، وروي عن الشافعي إذا كان الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه . وقال الحسن بن حي : يمسح على الخف إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب ، فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح ، قال أبو عمر : هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين ; وهو قول الثوري وأبي يوسف ومحمد وهي :

    الرابعة والعشرون : ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين ، وهو أحد قولي مالك ، وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين ، وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ; قال أبو داود : وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ; لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ; وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي ولا بالمتصل . قال أبو داود : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ; وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس ; رضي الله عنهم أجمعين .

    قلت : وأما المسح على النعلين فروى أبو محمد الدارمي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد خير قال : رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال : لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق [ ص: 65 ] بالمسح من ظاهرهما ; قال أبو محمد الدارمي رحمه الله : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين .

    قلت : وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين ، أخرجه أبو داود عنه قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . قال مالك والشافعي فيمن مسح ظهور خفيه دون بطونهما : إن ذلك يجزئه ; إلا أن مالكا قال : من فعل ذلك أعاد في الوقت ; ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه ; وكان عليه الإعادة في الوقت وبعده ; وكذلك قال جميع أصحاب مالك إلا شيء روي عن أشهب أنه قال : باطن الخفين وظاهرهما سواء ، ومن مسح باطنهما دون ظاهرهما لم يعد إلا في الوقت ، وروي عن الشافعي أنه قال يجزئه مسح بطونهما دون ظهورهما ; والمشهور من مذهبه أنه من مسح بطونهما واقتصر عليهما لم يجزه وليس بماسح ، وقال أبو حنيفة والثوري : يمسح ظاهري الخفين دون باطنهما ; وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق وجماعة ، والمختار عند مالك والشافعي وأصحابهما مسح الأعلى والأسفل ، وهو قول ابن عمر وابن شهاب ; لما رواه أبو داود والدارقطني عن المغيرة بن شعبة قال : وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله ; قال أبو داود : روي أن ثورا لم يسمع هذا الحديث من رجاء بن حيوة .

    الخامسة والعشرون : واختلفوا فيمن نزع خفيه وقد مسح عليهما على أقوال ثلاثة :

    الأول : يغسل رجليه مكانه وإن أخر استأنف الوضوء ; قاله مالك والليث ، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ; وروي عن الأوزاعي والنخعي ولم يذكروا مكانه .

    الثاني : يستأنف الوضوء ; قاله الحسن بن حي وروي عن الأوزاعي والنخعي .

    الثالث : ليس عليه شيء ويصلي كما هو ; قاله ابن أبي ليلى والحسن البصري ، وهي رواية عن إبراهيم النخعي رضي الله عنهم .

    السادسة والعشرون : قوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا وقد مضى في " النساء " معنى الجنب . و ( اطهروا ) أمر بالاغتسال بالماء ; ولذلك رأى عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء . وقال الجمهور من الناس : بل هذه العبارة هي لواجد الماء ، وقد ذكر الجنب بعد في أحكام عادم الماء بقوله : أو لامستم النساء والملامسة هنا الجماع ; وقد صح عن عمر وابن مسعود أنهما رجعا إلى ما عليه الناس وأن الجنب يتيمم ، وحديث عمران بن حصين نص في ذلك ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا [ ص: 66 ] معتزلا لم يصل في القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال : يا رسول الله أصابتي جنابة ولا ماء . قال : عليك بالصعيد فإنه يكفيك أخرجه البخاري .

    السابعة والعشرون : قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط تقدم في " النساء " مستوفى ، ونزيد هنا مسألة أصولية أغفلناها هناك ، وهي تخصيص العموم بالعادة الغالبة ، فإن الغائط كناية عن الأحداث الخارجة من المخرجين كما بيناه في " النساء " فهو عام ، غير أن جل علمائنا خصصوا ذلك بالأحداث المعتادة الخارجة على الوجه المعتاد ، فلو خرج غير المعتاد كالحصى والدود ، أو خرج المعتاد على وجه السلس والمرض لم يكن شيء من ذلك ناقضا ، وإنما صاروا إلى اللفظ ; لأن اللفظ مهما تقرر لمدلوله عرف غالب في الاستعمال ، سبق ذلك الغالب لفهم السامع حالة الإطلاق ، وصار غيره مما وضع له اللفظ بعيدا عن الذهن ، فصار غير مدلول له ، وصار الحال فيه كالحال في الدابة ; فإنها إذا أطلقت سبق منها الذهن إلى ذوات الأربع ، ولم تخطر النملة ببال السامع فصارت غير مرادة ولا مدلولة لذلك اللفظ ظاهرا ، والمخالف يقول : لا يلزم من سبقية الغالب أن يكون النادر غير مراد ; فإن تناول اللفظ لهما واحد وضعا ، وذلك يدل على شعور المتكلم بهما قصدا ; والأول أصح ، وتتمته في كتب الأصول .

    الثامنة والعشرون : قوله تعالى : أو لامستم النساء روى عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : القبلة من اللمس ، وكل ما دون الجماع لمس ; وكذلك قال ابن عمر واختاره محمد بن يزيد قال : لأنه قد ذكر في أول الآية ما يجب على من جامع في قوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا ، وقال عبد الله بن عباس : اللمس والمس والغشيان الجماع ، ولكنه عز وجل يكني ، وقال مجاهد في قوله عز وجل : وإذا مروا باللغو مروا كراما قال : إذا ذكروا النكاح كنوا عنه ; وقد مضى في " النساء " القول في هذا الباب مستوفى والحمد لله .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #273
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 67 الى صــ 74
    الحلقة (271)


    التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء قد تقدم في " النساء " أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهو الذي يقال فيه : إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت ; اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال : الأول : قال ابن خويز منداد : الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه ; قال : ورواه المدنيون عن [ ص: 67 ] مالك ; قال : وهو الصحيح من المذهب ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ; وهو قول الشافعي ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد ، وقال أصبغ : لا يصلي ولا يقضي ; وبه قال أبو حنيفة . قال أبو عمر بن عبد البر : ما أعرف كيف أقدم ابن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر ، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين ، وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله : وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا ; وهذا لا حجة فيه ، وقد ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة ; وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء . قال أبو ثور : وهو القياس .

    قلت : وقد احتج المزني فيما ذكره إلكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت ، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم ، والتيمم متى لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا ، ومنه قال المزني : ولا إعادة ، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها ; قال أبو عمر : ولا ينبغي حمله على المغمى عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله . وقال ابن القاسم وسائر العلماء : الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله ، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى ، وعن الشافعي روايتان ; المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد ; قال المزني : إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد ; وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري ، وقال زفر بن الهذيل : المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا . وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم ، وقال أبو عمر : من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور ; قالوا : وقوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة بغير طهور لمن قدر على طهور ; فأما من لم يقدر فليس كذلك ; لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد ، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا ، وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث ; وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا : من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة ; لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي ; قاله غير أبي عمر ، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب .

    الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا قد مضى في " النساء " اختلافهم [ ص: 68 ] في الصعيد ، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقوله مالك ، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك ، فلما قال : عليك بالصعيد أحاله على وجه الأرض . والله أعلم . تقدم في " النساء " الكلام فيه فتأمله هناك .

    الحادية والثلاثون : وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب : قال صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري ، وقد تقدم في " البقرة " الكلام فيه ; قال ابن العربي : والوضوء أصل في الدين ، وطهارة المسلمين ، وخصوصا لهذه الأمة في العالمين ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم وذلك لا يصح ; قال غيره : ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام : لكم سيما ليست لغيركم فإنهم كانوا يتوضئون ، وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء ، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم ، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء ; والله أعلم . قال أبو عمر : وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم ، كما جاء عن موسى عليه السلام قال : " يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي " فقال له : " تلك أمة محمد " في حديث فيه طول ، وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب ; ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته ، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ، ولمن اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به ، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه ، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء ; فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا : من حدثك بهذا الحديث وما علمك به ؟ فأخبره أنها رؤيا ; فأنشده كعب ، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك ؟ فقال : نعم والله لقد رأيت ذلك ; فقال كعب : والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته ، وصفة الأنبياء في كتاب الله ، لكان ما تقوله من التوراة . أسنده في كتاب " التمهيد " قال أبو عمر : وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون والله أعلم ; وهذا لا أعرفه من وجه صحيح ، وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر [ ص: 69 ] قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر السماء ، حتى يخرج نقيا من الذنوب ، وحديث مالك عن عبد الله الصنابحي أكمل ، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله ، وهو مما وهم فيه مالك ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة تابعي شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر ; قال أبو عبد الله الصنابحي : قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر ؟ قال : دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام . وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام ; وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية ; لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى .

    الثانية والثلاثون : قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي : من ضيق في الدين ; دليله قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج . و ( من ) صلة ؛ أي : ليجعل عليكم حرجا . ولكن يريد ليطهركم أي : من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي ، وقيل : من الحدث والجنابة ، وقيل : لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة . وقرأ سعيد بن المسيب " ليطهركم " والمعنى واحد ، كما يقال : نجاه وأنجاه . وليتم نعمته عليكم أي : بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر ، وقيل : بتبيان الشرائع ، وقيل : بغفران الذنوب ; وفي الخبر ( تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار ) . لعلكم تشكرون أي : لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته .
    قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور

    قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به قيل : هو الميثاق الذي في قوله عز وجل : وإذ أخذ ربك من بني آدم ; قال مجاهد وغيره ، ونحن وإن لم [ ص: 70 ] نذكره فقد أخبرنا الصادق به ، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به ، وقيل : هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة ; والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا : سمعنا وأطعنا ، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة ، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال : إنما يبايعون الله فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم ، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه ، وكان أول من بايعه البراء بن معرور ، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشد لعقد أمره ، وهو القائل : والذي بعثك بالحق لأمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر . الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق ، ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها ، وقد اتصل هذا بقوله تعالى : أوفوا بالعقود فوفوا بما قالوا ; جزاهم الله تعالى عن نبيهم وعن الإسلام خيرا ، ورضي الله عنهم وأرضاهم . واتقوا الله أي : في مخالفته إنه عالم بكل شيء .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

    قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين الآية تقدم معناها في " النساء " ، والمعنى : أتممت عليكم نعمتي فكونوا قوامين لله ، أي : لأجل ثواب الله ; فقوموا بحقه ، واشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم ، وحيف على أعدائكم . ولا يجرمنكم شنآن قوم على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق ، وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو [ ص: 71 ] على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه ; لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه ، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه ، ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه ، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق ، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك ; فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم ; وإليه أشار عبد الله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة : هذا معنى الآية . وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله : ولا يجرمنكم شنآن قوم ، وقرئ " ولا يجرمنكم " قال الكسائي : هما لغتان . وقال الزجاج : معنى " لا يجرمنكم " لا يدخلنكم في الجرم ; كما تقول : آثمني أي : أدخلني في الإثم . ومعنى : هو أقرب للتقوى أي : لأن تتقوا الله ، وقيل : لأن تتقوا النار . ومعنى لهم مغفرة وأجر عظيم أي : قال الله في حق المؤمنين : لهم مغفرة وأجر عظيم أي : لا تعرف كنهه أفهام الخلق ; كما قال : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، وإذا قال الله تعالى : أجر عظيم و أجر كريم و أجر كبير فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ ، ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله : لهم مغفرة وهو في موضع نصب ; لأنه وقع موقع الموعود به ، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد ; كما قال الشاعر :


    وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعين سلسبيل
    وموضع الجملة نصب ; ولذلك عطف عليها بالنصب ، وقيل : هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا ; على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به ، وهذا المعنى عن الحسن . والذين كفروا نزلت في بني النضير ، وقيل في جميع الكفار .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم [ ص: 72 ] قال جماعة : نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يعصمك مني يا محمد ؟ كما تقدم في " النساء " ، وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه ، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم ، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات ، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث ( بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة ) وقد ضم بعضهم الغين ، والأول أصح ، وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث ، وذكر أنه أسلم كما تقدم ، وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير ، وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة ، والله أعلم ، وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله منهم . قال القشيري : وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق . أن يبسطوا إليكم أيديهم أي : بالسوء . فكف أيديهم عنكم أي : منعهم .
    قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل

    قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا فيه ثلاث مسائل :

    الأولى : قال ابن عطية : هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير ، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم ، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها [ ص: 73 ] وعن مصالحهم فيها ، والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ; ومنه قيل في عمر رضي الله عنه : إنه كان لنقابا . فالنقباء الضمان ، واحدهم نقيب ، وهو شاهد القوم وضمينهم ; يقال : نقب عليهم ، وهو حسن النقيبة أي : حسن الخليقة ، والنقب والنقب الطريق في الجبل ، وإنما قيل : نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم ، وقال قوم : النقباء الأمناء على قومهم ; وهذا كله قريب بعضه من بعض ، والنقيب أكبر مكانة من العريف . قال عطاء بن يسار : حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ; ذكره الدارمي في مسنده . قال قتادة - رحمه الله - وغيره : هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط ، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله ; ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة ; بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان . فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا ، وسماهم النقباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم ; فساروا ليختبروا حال من بها ، ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم ; فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها ; فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل ، وأن يعلموا به موسى عليه السلام ، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ، ومن وثقوه على سرهم ; ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل فقالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .

    الثانية : ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية ; فتركب عليه الأحكام ، ويرتبط به الحلال والحرام ; وقد جاء أيضا مثله في الإسلام ; قال صلى الله عليه وسلم لهوازن : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم . أخرجه البخاري .

    الثالثة : وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس ، والتجسس : التبحث ، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا ; أخرجه مسلم ، وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " إن شاء الله تعالى ، وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في " المحبر " فقال : من سبط روبيل شموع بن ركوب ، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري ، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا ، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف ، ومن سبط أفراثيم بن يوسف يوشع بن النون ، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو ، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط [ ص: 74 ] منشا بن يوسف كدي بن سوشا ، ومن سبط دان عمائيل بن كسل ، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل ، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا ، ومن سبط كاذاكوال بن موخي ; فالمؤمنون منهم يوشع وكالب ، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم ; قاله الماوردي ، وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك .

    قوله تعالى : وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة قال الربيع بن أنس : قال ذلك للنقباء ، وقال غيره : قال ذلك لجميع بني إسرائيل ، وكسرت " إن " لأنها مبتدأة . معكم لأنه ظرف ، أي : بالنصر والعون . ثم ابتدأ فقال : لئن أقمتم الصلاة إلى أن قال لأكفرن عنكم سيئاتكم أي : إن فعلتم ذلك ولأدخلنكم جنات واللام في لئن لام توكيد ومعناها القسم ; وكذا لأكفرن عنكم ، ولأدخلنكم ، وقيل : المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم ، وتضمن شرطا آخر لقوله : لأكفرن أي : إن فعلتم ذلك لأكفرن ، وقيل : قوله لئن أقمتم الصلاة جزاء لقوله : إني معكم وشرط لقوله : لأكفرن والتعزير : التعظيم والتوقير ; وأنشد أبو عبيدة :


    وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
    أي : يعظم ويوقر ، والتعزير : الضرب دون الحد ، والرد ; تقول : عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح . فقوله : عزرتموهم أي : رددتم عنهم أعداءهم . أي : رددتم عنهم أعداءهم . وأقرضتم الله قرضا حسنا يعني الصدقات ; ولم يقل إقراضا ، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله : والله أنبتكم من الأرض نباتا ، فتقبلها ربها بقبول حسن وقد تقدم . ثم قيل : حسنا أي : طيبة بها نفوسكم ، وقيل : يبتغون بها وجه الله ، وقيل : حلالا ، وقيل : قرضا اسم لا مصدر . فمن كفر بعد ذلك منكم أي : بعد الميثاق . فقد ضل سواء السبيل أي : أخطأ قصد الطريق ، والله أعلم .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #274
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى





    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 75 الى صــ 82
    الحلقة (272)


    قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

    [ ص: 75 ] قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم أي : فبنقضهم ميثاقهم ، " ما " زائدة للتوكيد ، عن قتادة وسائر أهل العلم ; وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم ، ومن جهة تكثيره للتوكيد ; كما قال :


    لشيء ما يسود من يسود
    فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير . لعناهم قال ابن عباس : عذبناهم بالجزية . وقال الحسن ومقاتل : بالمسخ . عطاء : أبعدناهم ; واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة . وجعلنا قلوبهم قاسية أي : صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله ; والقاسية والعاتية بمعنى واحد ، وقرأ الكسائي وحمزة : " قسية " بتشديد الياء من غير ألف ; وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب ، والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه ، وقيل : هو من الدراهم القسيات أي : الفاسدة الرديئة ; فمعنى " قسية " على هذا ليست بخالصة الإيمان ، أي : فيها نفاق . قال النحاس : وهذا قول حسن ; لأنه يقال : درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره . يقال : درهم قسي ( مخفف السين مشدد الياء ) مثال شقي أي : زائف ; ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد : ( الشاعر هو : أبو زيد الطائي )


    لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف
    يصف وقع المساحي في الحجارة ، وقال الأصمعي وأبو عبيد : درهم قسي كأنه معرب قاشي . قال القشيري : وهذا بعيد ; لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا ; لأن ما قلت نقرته يقسو ويصلب ، وقرأ الأعمش : " قسية " بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية ; من قسى يقسي لا من قسا يقسو ، وقرأ الباقون على وزن فاعلة ; وهو اختيار أبي عبيد ; وهما لغتان مثل العلية والعالية ، والزكية والزاكية . قال أبو جعفر النحاس : أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية ، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة . فالمعنى : جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي ; لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر ، كالدراهم القسية التي خالطها غش . قال الراجز :


    قد قسوت وقست لداتي
    يحرفون الكلم عن مواضعه أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويلقون ذلك إلى العوام ، وقيل : معناه يبدلون حروفه . و ( يحرفون ) في موضع نصب ، أي : جعلنا قلوبهم قاسية [ ص: 76 ] محرفين ، وقرأ السلمي والنخعي " الكلام " بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . ونسوا حظا مما ذكروا به أي : نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبيان نعته . ولا تزال تطلع أي : وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف على خائنة منهم والخائنة الخيانة ; قال قتادة ، وهذا جائز في اللغة ، ويكون مثل قولهم : قائلة بمعنى قيلولة ، وقيل : هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة ، وقد تقع خائنة للواحد كما يقال : رجل نسابة وعلامة ; فخائنة على هذا للمبالغة ; يقال : رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة . قال الشاعر :


    حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع
    قال ابن عباس : على خائنة أي : معصية ، وقيل : كذب وفجور ، وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ; كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه . إلا قليلا منهم لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في خائنة منهم . فاعف عنهم واصفح في معناه قولان : فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة ، والقول الآخر أنه منسوخ بآية السيف ، وقيل : بقوله عز وجل وإما تخافن من قوم خيانة .
    قوله تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم

    [ ص: 77 ] قوله تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم أي : في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ; إذ هو مكتوب في الإنجيل ، فنسوا حظا وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ; أي : لم يعملوا بما أمروا به ، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى أخذنا ميثاقهم هو كقولك : أخذت من زيد ثوبه ودرهمه ; قاله الأخفش ، ورتبة ( الذين ) أن تكون بعد ( أخذنا ) وقبل ( الميثاق ) ; فيكون التقدير : أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم ; لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا ، وتقديره عند الكوفيين ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه ; فالهاء والميم تعودان على " من " المحذوفة ، وعلى القول الأول تعودان على الذين ، ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى ، ولا ألينها لبست من الثياب ; لئلا يتقدم مضمر على ظاهر ، وفي قولهم : إنا نصارى ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها ; روي معناه عن الحسن .

    قوله تعالى : فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أي : هيجنا ، وقيل : ألصقنا بهم ; مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه . يقال : غري بالشيء يغرى غرا " بفتح الغين " مقصورا وغراء " بكسر الغين " ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به ، وحكى الرماني : الإغراء تسليط بعضهم على بعض ، وقيل : الإغراء التحريش ، وأصله اللصوق ; يقال : غريت بالرجل غرا - مقصور وممدود مفتوح الأول - إذا لصقت به ، وقال كثير :


    إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل
    وأغريت زيدا بكذا حتى غري به ; ومنه الغراء الذي يغرى به للصوقه ; فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه ، وأغريت الكلب أي : أولعته بالصيد . بينهم ظرف للعداوة . والبغضاء البغض . أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما . عن السدي وقتادة : بعضهم لبعض عدو ، وقيل : أشار إلى افتراق النصارى خاصة ; قاله الربيع بن أنس ، لأنهم أقرب مذكور ; وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية ; أي : كفر بعضهم بعضا . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل في معنى فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم ، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار . وقوله : وسوف ينبئهم الله تهديد لهم ; أي : سيلقون جزاء نقض الميثاق .

    قوله تعالى : يا أهل الكتاب الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب ; فجميعهم مخاطبون . [ ص: 78 ] قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم . يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي : من كتبكم ; من الإيمان به ، ومن آية الرجم ، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة ; فإنهم كانوا يخفونها . ويعفو عن كثير أي : يتركه ولا يبينه ، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته ، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته ، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه ، وقيل ويعفو عن كثير يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به ، وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : يا هذا عفوت عنا ؟ فأعرض عنه رسول الله عليه وسلم ولم يبين ; وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه ، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه : أرى أنه صادق فيما يقول : لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه . قد جاءكم من الله نور أي : ضياء ; قيل : الإسلام ، وقيل : محمد عليه السلام ; عن الزجاج . وكتاب مبين أي القرآن ; فإنه يبين الأحكام ، وقد تقدم . يهدي به الله من اتبع رضوانه أي : ما رضيه الله . سبل السلام طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة ، والمؤمنة من كل مخافة ; وهي الجنة ، وقال الحسن والسدي : السلام الله عز وجل ; فالمعنى دين الله - وهو الإسلام - كما قال : إن الدين عند الله الإسلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور أي : من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات . بإذنه أي : بتوفيقه وإرادته .
    قوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم تقدم في آخر " النساء " بيانه والقول فيه . وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به ; لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا . قل فمن يملك من الله شيئا أي : من أمر الله . و ( يملك ) بمعنى يقدر ; من قولهم ملكت على فلان [ ص: 79 ] أمره أي اقتدرت عليه . أي : فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا ؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره ، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها ; فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده . ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران ، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية ، وقال وما بينهما ولم يقل وما بينهن ; لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي :


    طرقا فتلك هماهمي أقريهما قلصا لواقح كالقسي وحولا
    فقال : " طرقا " ثم قال : " فتلك هماهمي " . يخلق ما يشاء عيسى من أم بلا أب آية لعباده .
    قوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير

    قوله تعالى : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قال ابن عباس : خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا : لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه ; فنزلت الآية . قال ابن إسحاق : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم ، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ؟ ; نحن أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ; فأنزل الله عز وجل فيهم وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم إلى آخر الآية . قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ; فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا : ما قلنا هذا لكم ، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده ; فأنزل الله عز وجل : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل إلى قوله : والله على كل شيء قدير . [ ص: 80 ] السدي : زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد . قال غيره : والنصارى قالت نحن أبناء الله ; لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى " أذهب إلى أبي وأبيكم " ، وقيل : المعنى : نحن أبناء رسل الله ، فهو على حذف مضاف ، وبالجملة . فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا ; فرد عليهم قولهم فقال : فلم يعذبكم بذنوبكم فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين ; إما أن يقولوا هو يعذبنا . فيقال لهم : فلستم إذا أبناءه وأحباءه ; فإن الحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم تقرون بعذابه ; فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا : لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم ، وما جاءت به رسلهم ، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم ; ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم ، وقيل : معنى يعذبكم عذبكم ; فهو بمعنى المضي ; أي : فلم مسخكم قردة وخنازير ؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم ؟ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد ، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا ، بل يحتج عليهم بما عرفوه . ثم قال : بل أنتم بشر ممن خلق أي : كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية ، ويجازي كلا بما عمل . يغفر لمن يشاء أي : لمن تاب من اليهود . ويعذب من يشاء من مات عليها . ولله ملك السماوات والأرض فلا شريك له يعارضه . وإليه المصير أي : يئول أمر العباد إليه في الآخرة .
    قوله تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . يبين لكم انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول . على فترة من الرسل أي : سكون ; يقال فتر الشيء سكن ، وقيل : على فترة على انقطاع ما بين النبيين ; عن أبي علي وجماعة أهل العلم ، حكاه الرماني ; قال : والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه ، من قولهم : فتر عن عمله وفترته عنه ، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد . وامرأة فاترة الطرف أي : منقطعة عن حدة النظر ، وفتور البدن كفتور الماء ، والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما ، والمعنى ; أي : مضت للرسل مدة قبله ، واختلف في قدر مدة تلك الفترة ; [ ص: 81 ] فذكر محمد بن سعد في كتاب " الطبقات " عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة ، ولم يكن بينهما فترة ، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم . وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أولها ثلاثة أنبياء ; وهو قوله تعالى : إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث والذي عزز به " شمعون " وكان من الحواريين ، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة ، وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون ، وبينهما أربعة أنبياء ; واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان . قال القشيري : ومثل هذا مما لا يعلم إلا بخبر صدق . وقال قتادة : كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة ; وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه ، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة ، وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة ، وذكر ابن سعد عن عكرمة قال : بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام . قال ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، والقرن مائة سنة ، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون ، والقرن مائة سنة ، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون ، والقرن مائة سنة ; فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين . والله أعلم . أن تقولوا أي : لئلا أو كراهية أن تقولوا ; فهو في موضع نصب . ما جاءنا من بشير أي : مبشر . ولا نذير أي : منذر ، ويجوز من بشير ولا نذير على الموضع . قال ابن عباس : قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود ; يا معشر يهود اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أن محمدا رسول الله ، ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته ; فقالوا : ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير ; فنزلت الآية . والله على كل شيء قدير على إرسال من شاء من خلقه . وقيل : قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه .
    قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

    [ ص: 82 ] قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم

    تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه ; فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام ، وهو تسلية له ; أي : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا قصة موسى ، وروي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ " يا قوم اذكروا " بضم الميم ، وكذلك ما أشبهه ; وتقديره يا أيها القوم . إذ جعل فيكم أنبياء لم ينصرف ; لأنه فيه ألف التأنيث . وجعلكم ملوكا أي : تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين ، فأنقذكم منه بالغرق ; فهم ملوك بهذا الوجه ، وبنحوه فسر السدي والحسن وغيرهما . قال السدي : ملك كل واحد منه نفسه وأهله وماله ، وقال قتادة : إنما قال : وجعلكم ملوكا لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل ، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا ، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط ، وقيل : جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن ; روي معناه عن جماعة من أهل العلم . قال ابن عباس : إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك ، وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك ; وهو قول عبد الله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #275
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 83 الى صــ 90
    الحلقة (273)

    فقال له [ ص: 83 ] عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك منزل تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال : فإن لي خادما . قال : فأنت من الملوك . قال ابن العربي : وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دارا وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام ، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام ، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق ، وقال ابن عباس ومجاهد : جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام ، أي : هم مخدومون كالملوك ، وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل ; وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيينة ، وزادوا الزوجة ; وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم : من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك ; ذكره النحاس ، ويقال : من استغنى عن غيره فهو ملك ; وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها .

    قوله تعالى : وآتاكم أي : أعطاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين ; وهو وجه الكلام . مجاهد : والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام ، وقيل : كثرة الأنبياء فيهم ، والآيات التي جاءتهم ، وقيل : قلوبا سليمة من الغل والغش ، وقيل : إحلال الغنائم والانتفاع بها .

    قلت : وهذا القول مردود ; فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح ; وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة ، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه ، ومعنى من العالمين أي : عالمي زمانكم ; عن الحسن . وقال ابن جبير وأبو مالك : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ; وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله . وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين . والمقدسة معناه المطهرة . مجاهد : المباركة ; والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه . قتادة : هي الشام . مجاهد : الطور وما حوله . ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء . قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، وقول قتادة يجمع هذا كله . التي كتب الله لكم أي : فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم . ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار ; فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا ، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم ، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة ، وهم ذوو أجسام هائلة ; حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم [ ص: 84 ] بين يده وقال : إن هؤلاء يريدون قتالنا ; فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا ; على ما تقدم ، وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد ، وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر .

    قلت : وهذا أشبه ; فإنه يقال : إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم ، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة .

    قلت : ولا تعارض بين هذا والأول ; فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا ; على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى ، وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصفا في قول مقاتل . وقال الكلبي : كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا ، والله أعلم . فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوقنا ، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم ، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم .

    قوله تعالى : ولا ترتدوا على أدباركم أي : لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين ، وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته ، والمعنى واحد .

    قوله تعالى : قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين أي : عظام الأجسام طوال ، وقد تقدم ; يقال : نخلة جبارة أي : طويلة ، والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر . وقال الزجاج : الجبار من الآدميين العاتي ، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد ; فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه ; فإنه يجبر غيره على ما يريده ; وأجبره أي : أكرهه . وقيل : هو مأخوذ من جبر العظم ; فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه ، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو باطل ، وقيل : إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه . قال الفراء : لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين ; جبار من أجبر ودراك من أدرك . ثم قيل : كان هؤلاء من بقايا عاد ، وقيل : هم من ولد عيصوا بن إسحاق ، وكانوا من الروم ، وكان معهم عوج الأعنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا ; قاله ابن عمر ، وكان يحتجن السحاب أي : يجذبه بمحجنه ويشرب منه ، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ، وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة ، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها ، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته ، وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع ; وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما [ ص: 85 ] أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله ، وقيل : بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة . ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم ، وقال الكلبي : عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت ، والله أعلم .

    قوله تعالى : إنا لن ندخلها يعني البلدة إيلياء ، ويقال : أريحاء حتى يخرجوا منها أي : حتى يسلموها لنا من غير قتال ، وقيل : قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان ; فإنهم قالوا :فإن يخرجوا منها فإنا داخلون

    قوله تعالى : قال رجلان من الذين يخافون قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا ، وكانا من الاثني عشر نقيبا . ويخافون أي : من الجبارين . قتادة : يخافون الله تعالى ، وقال الضحاك : هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى ; فمعنى يخافون على هذا أي : من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله ، وقيل : يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم ، وقرأ مجاهد وابن جبير " يخافون " بضم الياء ، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى . أنعم الله عليهما أي : بالإسلام أو باليقين والصلاح . ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم ; فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة ، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب ، ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله . ثم قالا : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين مصدقين به ; فإنه ينصركم . ثم قيل على القول الأول : لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة ، وقالوا : نصدقكما وندع قول عشرة ! . ثم قالوا لموسى : إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها وهذا عناد وحيد عن القتال ، وإياس من النصر . ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا فاذهب أنت وربك وصفوه بالذهاب والانتقال ، والله متعال عن ذلك ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ; وهو معنى قول الحسن ; لأنه قال : هو كفر منهم بالله ، وهو الأظهر في معنى الكلام ، وقيل : أي : أن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا ، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا ; فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر ; لأنهم شكوا في رسالته . وقيل المعنى : اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك ، وقيل : أرادوا بالرب هارون ، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه . وبالجملة فقد فسقوا بقولهم ; لقوله تعالى : فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا تحزن عليهم . إنا هاهنا قاعدون أي : لا نبرح ولا نقاتل ، ويجوز " قاعدين " على الحال ; لأن الكلام قد تم قبله .

    [ ص: 86 ] قوله تعالى : قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي لأنه كان يطيعه ، وقيل المعنى : إني لا أملك إلا نفسي ، ثم ابتدأ فقال : وأخي . أي : وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه ; فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي ، وعلى الثاني في موضع رفع ، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء ; أي : إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا ، وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا . فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين يقال : بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم ؟ ففيه أجوبة ; الأول : بما يدل على بعدهم عن الحق ، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان ; ولذلك ألقوا في التيه . الثاني : بطلب التمييز أي : ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب ، وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به ; ومنه قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم أي : يقضى . وقد فعل لما أماتهم في التيه ، وقيل : إنما أراد في الآخرة ، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار ; والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر :


    يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين
    وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ : " فافرق " بكسر الراء .

    قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة ، وأصل التيه في اللغة الحيرة ; يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير . وتيهته وتوهته بالياء والواو ، والياء أكثر ، والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها ; وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : ( هو العجاج )


    تيه أتاويه على السقاط
    وقال آخر :


    بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
    فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل : في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا ; فكانوا سيارة لا قرار لهم . واختلف هل كان معهم موسى وهارون ؟ فقيل : لا ; لأن التيه عقوبة ، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل ، فقوبلوا على كل يوم [ ص: 87 ] سنة ; وقد قال : فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، ومعنى ( محرمة ) أي : أنهم ممنوعون من دخولها ; كما يقال : حرم الله وجهك على النار ، وحرمت عليك دخول الدار ; فهو تحريم منع لا تحريم شرع ، عن أكثر أهل التفسير ; قال الشاعر :


    جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام
    أي : أنا فارس فلا يمكنك صرعي ، وقال أبو علي : يجوز أن يكون تحريم تعبد ، ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدءوا منه ، وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة . أربعين ظرف زمان للتيه ; في قول الحسن وقتادة ; قالا : ولم يدخلها أحد منهم ; فالوقف على هذا على عليهم ، وقال الربيع بن أنس وغيره : إن أربعين سنة ظرف للتحريم ، فالوقف على هذا على أربعين سنة ; فعلى الأول إنما دخلها أولادهم ; قاله ابن عباس . ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب ، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها ، وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها . وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه . قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين ، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة ، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده ، وكانت تنزل من السماء - إذا غنموا - نار بيضاء فتأكل الغنائم ; وكان ذلك دليلا على قبولها ، فإن كان فيها غلول لم تأكله ، وجاءت السباع والوحوش فأكلته ; فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته ، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عندك الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب ، فنزلت النار فأكلت الغنائم ، وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي : صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون ; فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز ، عرف باسم الغال ; وكان اسمه عاجزا .

    قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا ، وقد تقدم حكمه في ملتنا ، وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : غزا نبي من الأنبياء الحديث أخرجه مسلم وفيه قال : فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله [ ص: 88 ] عليه - قال : فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة ، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت ، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم ; فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة والسلام ، على ما يقال ، والله أعلم ، وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ، وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى : وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها ، وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي ، وزاد : وهارون ; وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ; فقالوا : ما فعل هارون ؟ فقال : مات ; قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له ، وكان محبا في بني إسرائيل ; فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله ; فانطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك ؟ قال : لا ; ولكني مت ; قال : فعد إلى مضجعك ; وانصرف ، وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه ، وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء ، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق . قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل .

    قلت : قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : " أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " قال : فرد الله إليه عينه وقال : " ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة " قال : " أي : رب ثم مه " ، قال : " ثم الموت " قال : " فالآن " ; فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه ، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء ، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ; ولعل ذلك لئلا يعبد ، والله أعلم ، ويعني بالطريق طريق بيت المقدس ، ووقع [ ص: 89 ] في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق ، واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال ; منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة ، وهذا باطل ، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له .

    ومنها : أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة ، وهذا مجاز لا حقيقة ، ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت ، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها ; وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن ، وهذا وجه حسن ; لأنه حقيقة في العين والصك ; قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة ، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ; وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : " يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت " فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ; وأيضا قوله في الرواية الأخرى : " أجب ربك " يدل على تعريفه بنفسه ، والله أعلم .

    ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب ، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته ; وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت . قال ابن العربي : وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب ، ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال : أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت ، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير ، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه ، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت ; إذ لم يصرح له بالتخيير ، ومما يدل على صحة هذا ، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم ، والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام ، وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها ; وفي الصحيح غنية عنها . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ; فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : " كشاة تسلخ وهي حية " ، وهذا صحيح معنى ; قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : إن للموت سكرات على ما بيناه في كتاب " التذكرة " ، وقوله : فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا تحزن ، والأسى الحزن ; أسى يأسى أسى أي : حزن ، قال :


    يقولون لا تهلك أسى وتجمل

    [ ص: 90 ] قوله تعالى : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين

    فيه مسألتان :

    الأولى : قوله تعالى : واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق الآية . وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود ، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه . المعنى : إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء ، وقتل قابيل هابيل ، والشر قديم . أي : ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق ، لا كالأحاديث الموضوعة ; وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام ، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، واختلف في ابني آدم ; فقال الحسن البصري : ليسا لصلبه ، كانا رجلين من بني إسرائيل - ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود - وكان بينهما خصومة ، فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل . قال ابن عطية : وهذا وهم ، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب ؟ والصحيح أنهما ابناه لصلبه ; هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما ; وهما قابيل وهابيل ، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل - لأنه كان صاحب زرع - واختارها من أردأ زرعه ، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها ، وكان قربان هابيل كبشا - لأنه كان صاحب غنم - أخذه من أجود غنمه . فتقبل فرفع إلى الجنة ، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام ; قاله سعيد بن جبير وغيره . فلما تقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمنا - قال له قابيل حسدا : - لأنه كان كافرا - أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني ! لأقتلنك وقيل : سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى - إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل على ما يأتي ، واسمه هبة الله ; لأن جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته : هذا هبة الله لك بدل هابيل ، وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومائة سنة - وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ; فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء ، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا ; فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره آدم فلم يأتمر ، وزجره فلم ينزجر ; فاتفقوا على التقريب ; قاله جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #276
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 91 الى صــ 98
    الحلقة (274)


    وروي أن آدم حضر ذلك ، والله أعلم . وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق : أن آدم لم يكن يزوج [ ص: 91 ] ابنته من ابنه ; ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم إلا دين النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت ، وهي أول من بغى على وجه الأرض ; فسلط الله عليها من قتلها ، ثم ولدت لآدم قابيل ، ثم ولدت له هابيل ; فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن ، يقال لها : جمالة في صورة إنسية ; وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه . فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية في صفة إنسية وخلق لها رحما ، وكان اسمها بزلة ، فلما نظر إليها هابيل أحبها ; فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل . فقال قابيل : يا أبت ألست أكبر من أخي ؟ قال : نعم . قال : فكنت أحق بما فعلت به منه ! فقال له آدم : يا بني إن الله قد أمرني بذلك ، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، فقال : لا والله ، ولكنك آثرته علي . فقال آدم : " فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل " .

    قلت : هذه القصة عن جعفر ما أظنها تصح ، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن ، والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، وهذا كالنص ثم نسخ ذلك ، حسبما تقدم بيانه في سورة " البقرة " . وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا ; أولهم قابيل وتوأمته إقليمياء ، وآخرهم عبد المغيث . ثم بارك الله في نسل آدم . قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا ، وما روي عن جعفر - من قوله : فولدت بنتا وأنها بغت - فيقال : مع من بغت ؟ أمع جني تسول لها ! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر ، وذلك معدوم ، والله أعلم .

    الثانية : وفي قول هابيل قال إنما يتقبل الله من المتقين كلام قبله محذوف ; لأنه لما قال له قابيل : لأقتلنك قال له : ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ؟ ، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ، أما إني اتقيته وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين . قال ابن عطية : المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة ; فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة ; وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة ; علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا ، وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة .

    قلت : وهذا خاص في نوع من العبادات ، وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال [ ص: 92 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
    قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين

    فيه مسألتان :

    الأولى : قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك الآية . أي : لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك ; فهذا استسلام منه . وفي الخبر : ( إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم ) ، وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول الله : إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن كخير ابني آدم وتلا هذه الآية لئن بسطت إلي يدك لتقتلني . قال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا ، وألا يمتنع ممن يريد قتله . قال علماؤنا : وذلك مما يجوز ورود التعبد به ، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا ، وفي وجوب ذلك عليه خلاف ، والأصح وجوب ذلك ; لما فيه من النهي عن المنكر ، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع ; واحتجوا بحديث أبي ذر ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة ، وكف اليد عند الشبهة ; على ما بيناه في كتاب " التذكرة " ، وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج . قال ابن عطية : وهذا هو الأظهر ، ومن هاهنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ; لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ، ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ; ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه ، وقيل : المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي ، وعلى هذا قيل : كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ، ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي ، وقيل : لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل . وقيل : أراد لئن بسطت إلي يدك ظلما فما أنا بظالم ; إني أخاف الله رب العالمين .

    [ ص: 93 ] الثانية : قوله تعالى : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك قيل : معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه وكان هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ; فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي ، وقيل : المعنى بإثمي الذي يختص بي فيما فرطت ; أي : يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلك ; وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام : يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه . أخرجه مسلم بمعناه ، وقد تقدم ، ويعضده قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وهذا بين لا إشكال فيه ، وقيل : المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم أي : لئلا تميد بكم . وقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا أي : لئلا تضلوا فحذف " لا " .

    قلت : وهذا ضعيف ; لقوله عليه السلام : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل ; ولهذا قال أكثر العلماء : إن المعنى ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي . قال الثعلبي : هذا قول عامة أكثر المفسرين ، وقيل : هو استفهام ، أي : أو إني أريد ؟ على جهة الإنكار ; كقوله تعالى : وتلك نعمة أي : أو تلك نعمة ؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية . حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كيسان : كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال : إنما وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل ; والمعنى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني لأمتنعن من ذلك مريدا للثواب ; فقيل له : فكيف قال : بإثمي وإثمك ; وأي إثم له إذا قتل ؟ فقال : فيه ثلاثة أجوبة :

    أحدها : أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، ويروى هذا القول عن مجاهد .

    والوجه الآخر : أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي ; لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل .

    والوجه الثالث : أنه لو بسط يده إليه أثم ; فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك [ ص: 94 ] فإثمه يرجع على صاحبه . فصار هذا مثل قولك : المال بينه وبين زيد ; أي المال بينهما ، فالمعنى أن تبوء بإثمنا ، وأصل " باء " رجع إلى المباءة ، وهي المنزل . وباءوا بغضب من الله أي : رجعوا ، وقد مضى في " البقرة " مستوفى ، وقال الشاعر :


    ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوء الدم بالدم
    أي : لا يرجع الدم بالدم في القود .

    فتكون من أصحاب النار دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد ، وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل : فتكون من أصحاب النار على أنه كان كافرا ; لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن ، وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية ، ومعنى من أصحاب النار مدة كونك فيها ، والله أعلم .
    قوله تعالى : فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين

    فيه أربع مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : فطوعت له نفسه . أي : سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له يقال : طاع الشيء يطوع أي : سهل وانقاد . وطوعه فلان له أي : سهله . قال الهروي : طوعت وأطاعت واحد ; يقال : طاع له كذا إذا أتاه طوعا . وقيل : طاوعته نفسه في قتل أخيه ; فنزع الخافض فانتصب . وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ; قاله ابن جريج ومجاهد وغيرهما ، وقال ابن عباس وابن مسعود : وجده نائما فشدخ رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قاله ابن عباس ، وقيل : عند عقبة حراء ; حكاه محمد بن جرير الطبري ، وقال جعفر الصادق : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم ، وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة ، ويقال : إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه ; لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها ; فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند ، والله أعلم . ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ; ففعل القاتل بأخيه كذا ، والسوءة يراد بها العورة ، وقيل : يراد بها جيفة المقتول ; ثم إنه هرب إلى أرض [ ص: 95 ] عدن من اليمن ، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، فهو أول من عبد النار فيما قيل ، والله أعلم .

    وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرت الأرض ; فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل . وقيل : إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم ، فلما وصل إليه قال له : أين هابيل ؟ فقال : لا أدري كأنك وكلتني بحفظه . فقال له آدم : أفعلتها ؟ ! والله إن دمه لينادي ، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل . فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما . ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك ، حتى جاءه ملك فقال له : حياك الله يا آدم وبياك . فقال : ما بياك ؟ قال : أضحكك ; قال مجاهد وسالم بن أبي الجعد . ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا ، وتفسيره هبة الله ، أي : خلفا من هابيل ، وقال مقاتل : كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل هابيل هربوا ، فلحقت الطيور بالهواء ، والوحوش بالبرية ، ولحقت السباع بالغياض . وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال :


    تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون
    وقل بشاشة الوجه المليح
    في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره . قال ابن عطية : هكذا هو الشعر بنصب " بشاشة " وكف التنوين . قال القشيري وغيره قال ابن عباس : ما قال آدم الشعر ، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ; لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال : إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث ; فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان ، فترجم عنه يعرب بالعربية وجعله شعرا .

    الثانية : روي من حديث أنس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه ، وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ، وهذا نص على التعليل ; وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود ; لأنه أول من عصى به ، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء ; قال صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم [ ص: 96 ] القيامة ، وهذا نص في الخير والشر ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ، وهذا كله صريح ، ونص صحيح في معنى الآية ، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية ، لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه ، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع ; لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه ، فصار كمن لم يجن .

    ووجه آخر : فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال ، كما بيناه في " البقرة " والناسي غير آثم ولا مؤاخذ .

    الثالثة : تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد ، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة ، وأمسه به رحما ، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه .

    الرابعة : قوله تعالى : فأصبح من الخاسرين أي : ممن خسر حسناته ، وقال ، مجاهد : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج . قال ابن عطية : فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : فأصبح من الخاسرين وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة .

    قلت : ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ; فيكون المعنى فأصبح من الخاسرين أي : في الدنيا ، والله أعلم .
    قوله تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين

    فيه خمس مسائل :

    الأولى : قوله تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه ، وكان ابن آدم هذا أول من قتل ، وقيل : إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ; لأنه من عادة الغراب فعل ذلك ; فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه . وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب ، [ ص: 97 ] ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة ; قاله مجاهد ، وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة ; وقاله ابن عباس ، وقيل : حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم ، وفي الخبر عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له ، وقال قوم : كان قابيل يعلم الدفن ، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به ، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه ، فقال عند ذلك : يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه ، ولم يكن ذلك ندم توبة ، وقيل : إنما ندمه كان على فقده لا على قتله ، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه . أو ندم ولم يستمر ندمه ; فقال ابن عباس : ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه ، ويقال : إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه . ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه . ويقال : دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض ، ويقال : إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية ، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش ، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله . قال ابن عباس : فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم ، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار ; وذلك قوله تعالى : ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس الآية ، فإبليس رأس الكافرين من الجن ، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس ; على ما يأتي بيانه في " حم فصلت " إن شاء الله تعالى ، وقد قيل : إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة ، والله بكل ذلك أعلم وأحكم ، وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ; ولذلك جهلت سنة المواراة ; وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل ، وقوله يبحث معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره . ومن هذا سميت سورة " براءة " البحوث ; لأنها فتشت عن المنافقين ; ومن ذلك قول الشاعر :


    إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوني كان فيهم مباحث
    وفي المثل : لا تكن كالباحث على الشفرة ; قال الشاعر :


    فكانت كعنز السوء قامت برجلها إلى مدية مدفونة تستثيرها


    [ ص: 98 ] الثانية : بعث الله الغراب حكمة ; ليرى ابن آدم كيفية المواراة ، وهو معنى قوله تعالى : ثم أماته فأقبره ، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق ، فرضا على جميع الناس على الكفاية ، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين . وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه ، ثم الجيرة ، ثم سائر المسلمين ، وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات ; قال : اذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي .

    الثالثة : ويستحب في القبر سعته وإحسانه ; لما رواه ابن ماجه عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احفروا وأوسعوا وأحسنوا ، وروي عن الأدرع السلمي قال : جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم ; فإذا رجل قراءته عالية ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : هذا مراء ; قال : فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله . قال : وحضر حفرته فقال : أوسعوا له وسع الله عليه فقال بعض أصحابه : يا رسول الله لقد حزنت عليه ؟ فقال : أجل إنه كان يحب الله ورسوله ; أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد . قال أبو عمر بن عبد البر : أدرع السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا ، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري ; وأما هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري ، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه هشاما ، واستشهد أبوه عامر يوم أحد . سكن هشام البصرة ومات بها ; ذكر هذا في كتاب الصحابة .

    الرابعة : ثم قيل : اللحد أفضل من الشق ; فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد ; فقالوا : أيهما جاء أولا عمل عمله ، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه ، وأخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما ، والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة ; وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق ، واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة ، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب ;




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #277
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 99 الى صــ 106
    الحلقة (275)


    قال سعد بن أبي [ ص: 99 ] وقاص في مرضه الذي هلك فيه : ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم . أخرجه مسلم . وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللحد لنا والشق لغيرنا .

    الخامسة : روى ابن ماجه عن سعيد بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أخذ في تسوية [ اللبن على ] اللحد قال : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر ، اللهم جاف الأرض عن جنبيها ، وصعد روحها ولقها منك رضوانا . قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك ؟ قال : إني إذا لقادر على القول ! بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا .

    فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام ، والأصل في يا ويلتى يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف ، وقرأ الحسن على الأصل بالياء ، والأول أفصح ; لأن حذف الياء في النداء أكثر ، وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك ; قاله سيبويه ، وقال الأصمعي : " ويل " بعد ، وقرأ الحسن : " أعجزت " بكسر الجيم . قال النحاس : وهي لغة شاذة ; إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها ، وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة ، والله أعلم .
    قوله : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون

    قوله تعالى : من أجل ذلك أي : من جراء ذلك القاتل وجريرته ، وقال الزجاج : أي : من جنايته ; يقال : أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى ; مثل أخذ يأخذ أخذا . قال الخنوت :


    وأهل خباء صالح كنت بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله
    [ ص: 100 ] أي : جانيه ، وقيل : أنا جاره عليهم ، وقال عدي بن زيد :


    أجل إن الله قد فضلكم فوق من أحكأ صلبا بإزار
    وأصله الجر ; ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول ، ومنه الآجل نقيض العاجل ، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم ، ومنه أجل بمعنى نعم . لأنه انقياد إلى ما جر إليه ، ومنه الإجل للقطيع من بقر الوحش ; لأن بعضه ينجر إلى بعض ; قاله الرماني ، وقرأ يزيد بن القعقاع أبو جعفر : " من أجل ذلك " بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة ، والأصل " من إجل ذلك " فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة . ثم قيل : يجوز أن يكون قوله : من أجل ذلك متعلقا بقوله : من النادمين ، فالوقف على قوله : من أجل ذلك ، ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو كتبنا . ف ( من أجل ) ابتداء كلام والتمام ( من النادمين ) ; وعلى هذا أكثر الناس ; أي : من سبب هذه النازلة كتبنا ، وخص بني إسرائيل بالذكر - وقد تقدمتهم أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا ، وكان قبل ذلك قولا مطلقا ; فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء . ومعنى بغير نفس أي : بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل ، وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلما وتعديا . أو فساد في الأرض أي : شرك ، وقيل : قطع طريق .

    وقرأ الحسن : " أو فسادا " بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره ; أو أحدث فسادا ; والدليل عليه قوله : من قتل نفسا بغير نفس لأنه من أعظم الفساد .

    وقرأ العامة : " فساد " بالجر على معنى أو بغير فساد . فكأنما قتل الناس جميعا اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا ; فروي عن ابن عباس أنه قال : المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا ، وعنه أيضا أنه قال : المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا ، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا ، وعنه أيضا . المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ ، وقال مجاهد : المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله [ ص: 101 ] جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ; يقول : لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك ، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه ، وقال ابن زيد : المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا ، قال : ومن أحياها أي : من عفا عمن وجب له قتله ; وقاله الحسن أيضا ; أي : هو العفو بعد المقدرة ، وقيل : المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه ; لأنه قد وتر الجميع ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، أي : يجب على الكل شكره ، وقيل : جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع ; وله أن يحكم بما يريد ، وقيل : كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم . قال ابن عطية : وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله ، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع ; ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا ، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته ، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها ، فقد استويا في الحنث ، وقيل : المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع ; لأنه أنكر الشرع ، وفي قوله تعالى : ومن أحياها تجوز ; فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة ، وإلا فالإحياء حقيقة - الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى ، وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود اللعين : أنا أحيي وأميت فسمى الترك إحياء . ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات ، وأن أكثرهم مجاوزون الحد ، وتاركون أمر الله .
    قوله : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

    فيها خمس عشرة مسألة :

    الأولى : اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية ; فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين ; روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك : أن قوما من عكل - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة ; فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم ; فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم ; فما ارتفع النهار حتى جيء بهم ; فأمر بهم [ ص: 102 ] فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون . قال أبو قلابة : فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله ، وفي رواية : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ; وفي رواية : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي بهم قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية ، وفي رواية قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ، وفي البخاري قال جرير بن عبد الله في حديث : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال جرير : فكانوا يقولون الماء ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : النار ، وقد حكى أهل التواريخ والسير : أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه ، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات ، وأدخل المدينة ميتا ، وكان اسمه يسار وكان نوبيا ، وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة ، وفي بعض الروايات عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعدما قتلهم . وروي عن ابن عباس والضحاك : أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ، وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى قوله : غفور رحيم نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه ، وممن قال : إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن ، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وقوله عليه الصلاة والسلام : الإسلام يهدم ما قبله أخرجه مسلم ; والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك . وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد . قال ابن المنذر : قول مالك صحيح ، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول : وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك ; وهو قوله جل ثناؤه : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم ; فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام ، وحكى الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين ، فوقف الأمر على هذه الحدود ، وروى محمد بن سيرين قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ; يعني حديث أنس ; ذكره أبو داود ، وقال قوم منهم الليث بن سعد : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ ; إذ لا [ ص: 103 ] يجوز التمثيل بالمرتد . قال أبو الزناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك ; فأنزل الله تعالى في ذلك إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا الآية . أخرجه أبو داود . قال أبو الزناد : فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد . وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل ; لأن ذلك وقع في مرتين ، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال : إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة ; فكان هذا قصاصا ، وهذه الآية في المحارب المؤمن .

    قلت : وهذا قول حسن ، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي ; ولذلك قال الله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبل القدرة ، والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم ، ولا يصلب أيضا ; فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد ، وقال تعالى في حق الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . وقال في المحاربين : إلا الذين تابوا الآية ; وهذا بين ، وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب ; قال الله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فمثلوا فمثل بهم ، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل ، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا ، والله أعلم ، وحكى الطبري عن السدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك ; فنزلت الآية ناهية عن ذلك ، وهذا ضعيف جدا ; فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل ; وفي صحيح البخاري : فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود ، وفي قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله استعارة ومجاز ; إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال ، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد ، والمعنى : يحاربون أولياء الله ; فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم ، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا حثا على الاستعطاف عليهم ; ومثله في صحيح السنة استطعمتك فلم تطعمني . الحديث أخرجه مسلم ، وقد تقدم في " البقرة " .

    [ ص: 104 ] الثانية : واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة ; فقال مالك : المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة ; قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة ; وقالت طائفة : حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة ; وهذا قول الشافعي وأبي ثور ; قال ابن المنذر : كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة ، والكتاب على العموم ، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة ، وقالت طائفة : لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر ; هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان ، والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله ، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا .

    الثالثة : واختلفوا في حكم المحارب ; فقالت طائفة : يقام عليه بقدر فعله ; فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب ، فإذا قتل ولم يأخذ المال قتل ، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي ; قاله ابن عباس ، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم ، وقال أبو يوسف : إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة ; قال الليث : بالحربة مصلوبا . وقال أبو حنيفة : إذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه ، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه ; قال أبو يوسف : القتل يأتي على كل شيء ، ونحوه قول الأوزاعي ، وقال الشافعي : إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت ، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي ; لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة ، وإذا قتل قتل ، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب ; وروي عنه أنه قال : يصلب ثلاثة أيام ; قال : وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس ، وقال أحمد : إن قتل قتل ، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي ، وقال قوم : لا ينبغي أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ; وحكي عن الشافعي : أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وقال أبو ثور : الإمام مخير على ظاهر الآية ، وكذلك قال مالك ، وهو مروي عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال : الإمام مخير في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية ; قال ابن عباس : ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار ; وهذا القول أشعر بظاهر الآية ; فإن أهل القول الأول الذين قالوا إن " أو " للترتيب [ ص: 105 ] وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون : يقتل ويصلب ; ويقول بعضهم : يصلب ويقتل ; ويقول بعضهم : تقطع يده ورجله وينفى ; وليس كذلك الآية ولا معنى " أو " في اللغة ; قال النحاس ، واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال : " من أخاف السبيل وأخذ المال فاقطع يده للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فاصلبه " . قال ابن عطية : وبقي النفي للمخيف فقط ، والمخيف في حكم القاتل ، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا .

    الرابعة : قوله تعالى : أو ينفوا من الأرض اختلف في معناه ; فقال السدي : هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه ; عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري . حكاه الرماني في كتابه ; وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ، ويطلبون لتقام عليهم الحدود ; وقال الليث بن سعد والزهري أيضا ، وقال مالك أيضا : ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني .

    وقال مالك أيضا والكوفيون : نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها ، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره ; واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك :


    خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
    عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
    حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال : أحبسه حتى أعلم منه التوبة ، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ; والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وقد تجنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ; ومنه الحديث الذي ناء بصدره نحو الأرض المقدسة ، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه ، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سرح ; قال ابن عطية : وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسجن حيث يغرب ، وهذا على الأغلب في أنه مخوف ، ورجحه الطبري وهو [ ص: 106 ] الواضح ; لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية ، وسجنه بعد بحسب الخوف منه ، فإن تاب وفهمت حاله سرح .

    الخامسة : قوله تعالى : أو ينفوا من الأرض النفي أصله الإهلاك ; ومنه الإثبات والنفي ، فالنفي الإهلاك بالإعدام ; ومنه النفاية لردي المتاع ; ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو .

    قال الراجز :


    كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي


    السادسة : قال ابن خويز منداد : ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق ، وقد قيل : يراعى في ذلك النصاب ربع دينار ; قال ابن العربي ، قال الشافعي وأصحاب الرأي : لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق ; وقال مالك : يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح ; فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار ، ولم يوقت في الحرابة شيئا ، بل ذكر جزاء المحارب ، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة ; ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه ، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس . وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر ; حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صيح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب . قال القاضي ابن العربي : كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق ، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم ، وأصحابه يأخذون مال الرجل ، حكمت فيهم بحكم المحاربين ، فافهموا هذا من أصل الدين ، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين .

    قلت : اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ ; والحضيض الحفرة في أسفل الوادي ; كذا قال أهل اللغة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #278
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 107 الى صــ 114
    الحلقة (276)


    السابعة : ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل ; وللشافعي قولان :

    أحدهما : أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص ; وهذا ضعيف ; لأن [ ص: 107 ] القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال ; قال الله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد ، ولم يخص شريفا من وضيع ، ولا رفيعا من دنيء .

    الثامنة : وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع . وقال الشافعي : لا يقتل إلا من قتل ; وهذا أيضا ضعيف ; فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم ; وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة ، فالمحارب أولى .

    التاسعة : وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم ، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكفهم عن أذى المسلمين ، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا ، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته ; ولا يذفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل ; فإن أخذوا ووجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته ، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال ; وما أتلفوه من مال لأحد غرموه ; ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة ، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي :

    العاشرة : لم يكن للإمام عليهم سبيل ، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين ، فاقتص منهم من النفس والجراح ، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك ، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين ; هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي . وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمة ما استهلكوا ; لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم ، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه ، وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده ، وأما ما استهلكه فلا يطالب به ; وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه ، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه ، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا ; قال ابن خويز منداد : واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال ; هل يتبع دينا بما أخذ ، أو يسقط عنه كما يسقط عن السارق ؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء .

    [ ص: 108 ] الحادية عشرة : وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب ; فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة ، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ، ولا يجوز عفو ولي الدم ، والقائم بذلك الإمام ; جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى .

    قلت : فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها ، واجتلبنا دررها ; ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي :

    الثانية عشرة : تفسير مجاهد لها ; المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة ; وليس بصحيح ; فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده ، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا ، ويرجم إن كان ثيبا محصنا ، وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك ، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج ، فهذا أفحش المحاربة ، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى : ويسعون في الأرض فسادا .

    الثالثة عشرة : قال علماؤنا : ويناشد اللص بالله تعالى ، فإن كف ترك وإن أبى قوتل ، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر . روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي ؟ قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي . قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي قال : فانشد بالله قال : فإن أبوا علي قال : فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك قال : أرأيت إن قاتلني ؟ قال : فقاتله قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد قال : فإن قتلته ؟ قال : هو في النار . قال ابن المنذر : وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم ; هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان ، وبهذا يقول عوام أهل العلم : إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما ; للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت ، ولا حالا دون حال إلا السلطان ; فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه ; للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي [ ص: 109 ] فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم ، من الجور والظلم ، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة .

    قلت : وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون ؟ وهذا الخلاف مبني على أصل ، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر ؟ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال ، والله أعلم .

    الرابعة عشرة : قوله تعالى : ذلك لهم خزي في الدنيا لشناعة المحاربة وعظم ضررها ، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر ; لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس ، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات ، وركنها وعمادها الضرب في الأرض ; كما قال عز وجل : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر ، واحتاجوا إلى لزوم البيوت ، فانسد باب التجارة عليهم ، وانقطعت أكسابهم ; فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة ، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم ، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم ، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة . وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي ، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة والله أعلم ، ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب ، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا ، ويجري هذا الذنب مجرى غيره . ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم ، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب ، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة ، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية .

    الخامسة عشرة : قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم ، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله : فاعلموا أن الله غفور رحيم . أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط ، ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع ، وتقام الحدود عليه كما تقدم ، وللشافعي قول إنه يسقط كل حد بالتوبة ، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق الآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه ، وقيل : أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وآمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود ; وهذا ضعيف ; لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع ، وقيل : إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا [ ص: 110 ] نالتهم يد الإمام ، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم ; كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا ، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب ; فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم ، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة " يونس " ; فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم ، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا ، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ، والله أعلم .
    قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

    الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة الوسيلة هي القربة عن أبي وائل والحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير ، وهي فعيلة من توسلت إليه أي : تقربت ; قال عنترة :


    إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
    والجمع الوسائل ; قال :


    إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
    ويقال : منه سلت أسأل أي : طلبت ، وهما يتساولان أي : يطلب كل واحد من صاحبه ; فالأصل الطلب ; والوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها ، والوسيلة درجة في الجنة ، وهي التي جاء الحديث الصحيح بها في قوله عليه الصلاة والسلام : فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة .
    قوله تعالى : يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم

    قال يزيد الفقير : قيل لجابر بن عبد الله إنكم يا أصحاب محمد تقولون إن قوما يخرجون من النار والله تعالى يقول : وما هم بخارجين منها فقال جابر : إنكم تجعلون العام [ ص: 111 ] خاصا والخاص عاما ، إنما هذا في الكفار خاصة ; فقرأت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة . و ( مقيم ) معناه دائم ثابت لا يزول ولا يحول ; قال الشاعر :


    فإن لكم بيوم الشعب مني عذابا دائما لكم مقيما
    قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم

    فيه سبع وعشرون مسألة :

    قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما الآية . لما ذكر تعالى أخذ الأموال بطريق السعي في الأرض والفساد ذكر حكم السارق من غير حراب على ما يأتي بيانه أثناء الباب ; وبدأ سبحانه بالسارق قبل السارقة عكس الزنى على ما نبينه آخر الباب ، وقد قطع السارق في الجاهلية ، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة ، فأمر الله بقطعه في الإسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم ، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد ; وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة ولا خلاف فيه ، وظاهر الآية العموم في كل سارق وليس كذلك ; لقوله عليه السلام : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا فبين أنه إنما أراد بقوله : والسارق والسارقة بعض السراق دون بعض ; فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ، أو فيما قيمته ربع دينار ; وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث والشافعي وأبو ثور ; وقال مالك : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهو ربع دينار لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما ، والعروض لا تقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ; فجعل مالك الذهب والورق كل واحد منهما أصلا بنفسه ، وجعل تقويم العروض بالدراهم في المشهور ، وقال أحمد وإسحاق : إن سرق ذهبا فربع دينار ، وإن سرق غير الذهب والفضة كانت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم من الورق ، وهذا نحو ما صار إليه مالك في القول الآخر ; والحجة للأول حديث ابن عمر أن رجلا سرق حجفة ، فأتى به [ ص: 112 ] النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم ، وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه ، وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فابن عمر يقول : ثلاثة دراهم ; وابن عباس يقول : عشرة دراهم ; وأنس يقول : خمسة دراهم ، وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه ، ورفعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته ; قاله أبو عمر وغيره ، وعلى هذا فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه ; وهو قول إسحاق ; فقف على هذين الأصلين فهما عمدة الباب ، وهما أصح ما قيل فيه . وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري : لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلا ، أو دينارا ذهبا عينا أو وزنا ; ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل ; وحجتهم حديث ابن عباس ; قال : قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم ، ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم ; أخرجهما الدارقطني وغيره ، وفي المسألة قول رابع ، وهو ما رواه الدارقطني عن عمر قال : لا تقطع الخمس إلا في خمس ; وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة ; وقال أنس بن مالك : قطع أبو بكر - رحمه الله - في مجن قيمته خمسة دراهم ، وقول خامس : وهو أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا ; روي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، وقول سادس : وهو أن اليد تقطع في درهم فما فوقه ; قاله عثمان البتي . وذكر الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم ، وقول سابع : وهو أن اليد تقطع في كل ما له قيمة على ظاهر الآية ; هذا قول الخوارج ، وروي عن الحسن البصري ، وهي إحدى الروايات الثلاث عنه ، والثانية كما روي عن عمر ، والثالثة حكاها قتادة عنه أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد ؟ فاتفق رأينا على درهمين ، وهذه أقوال متكافئة والصحيح منها ما قدمناه لك ; فإن قيل : قد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وهذا موافق لظاهر الآية في القطع في القليل والكثير ; فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير ، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله عليه السلام : من بنى لله مسجدا ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ، وقيل : إن ذلك مجاز من وجه آخر ; وذلك أنه إذا ضري بسرقة [ ص: 113 ] القليل سرق الكثير فقطعت يده ، وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري في آخر الحديث كالتفسير قال : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم .

    قلت : كحبال السفينة وشبه ذلك ، والله أعلم .

    الثانية : اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يجب فيه القطع ، وقال الحسن بن أبي الحسن : إذا جمع الثياب في البيت ، وقال الحسن بن أبي الحسن أيضا في قول آخر مثل قول سائر أهل العلم فصار اتفاقا صحيحا ، والحمد لله .

    الثالثة : الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس ، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله على ما يأتي بيانه . قال ابن المنذر : ليس في هذا الباب خبر ثابت لا مقال فيه لأهل العلم ، وإنما ذلك كالإجماع من أهل العلم ، وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز ، وفي الموطأ لمالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن قال أبو عمر : هذا حديث يتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ، وعبد الله هذا ثقة عند الجميع ، وكان أحمد يثني عليه ، وعن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة وفي رواية . ( وجلدات نكال ) بدل ( والعقوبة ) . قال العلماء : ثم نسخ الجلد وجعل مكانه القطع . قال أبو عمر : قوله ( غرامة مثليه ) منسوخ لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به إلا ما جاء عن عمر في دقيق حاطب بن أبي بلتعة ; خرجه مالك ; ورواية عن أحمد بن حنبل ، والذي عليه الناس في الغرم بالمثل ; لقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وروى أبو داود عن صفوان بن أمية قال : كنت نائما في المسجد علي خميصة لي ثمن ثلاثين درهما ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 114 ] فأمر به ليقطع ، قال : فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها ; قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ؟ ، ومن جهة النظر أن الأموال خلقت مهيأة للانتفاع بها للخلق أجمعين ، ثم الحكمة الأولية حكمت فيها بالاختصاص الذي هو الملك شرعا ، وبقيت الأطماع متعلقة بها ، والآمال محومة عليها ; فتكفها المروءة والديانة في أقل الخلق ، ويكفها الصون والحرز عن أكثرهم ، فإذا أحرزها مالكها فقد اجتمع فيها الصون والحرز الذي هو غاية الإمكان للإنسان ; فإذا هتكا فحشت الجريمة فعظمت العقوبة ، وإذا هتك أحد الصونين وهو الملك وجب الضمان والأدب .

    الرابعة : فإذا اجتمع جماعة فاشتركوا في إخراج نصاب من حرزه ، فلا يخلو ، إما أن يكون بعضهم ممن يقدر على إخراجه أو لا ، إلا بتعاونهم ، فإذا كان الأول فاختلف فيه علماؤنا على قولين : أحدهما يقطع فيه ، والثاني لا يقطع فيه ; وبه قال أبو حنيفة والشافعي ; قالا : لا يقطع في السرقة المشتركون إلا بشرط أن يجب لكل واحد من حصته نصاب ; لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وكل واحد من هؤلاء لم يسرق نصابا فلا قطع عليهم ، ووجه القطع في إحدى الروايتين أن الاشتراك في الجناية لا يسقط عقوبتها كالاشتراك في القتل ; قال ابن العربي : وما أقرب ما بينهما فإنا إنما قتلنا الجماعة بالواحد صيانة للدماء ; لئلا يتعاون على سفكها الأعداء ، فكذلك في الأموال مثله ; لا سيما وقد ساعدنا الشافعي على أن الجماعة إذا اشتركوا في قطع يد رجل قطعوا ولا فرق بينهما ، وإن كان الثاني وهو مما لا يمكن إخراجه إلا بالتعاون فإنه يقطع جميعهم بالاتفاق من العلماء ; ذكره ابن العربي .

    الخامسة : فإن اشتركوا في السرقة بأن نقب واحد الحرز وأخرج آخر ، فإن كانا متعاونين قطعا ، وإن انفرد كل منهما بفعله دون اتفاق بينهما ، بأن يجيء آخر فيخرج فلا قطع على واحد منهما . وإن تعاونا في النقب وانفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة ; وقال الشافعي : لا قطع ; لأن هذا نقب ولم يسرق ، والآخر سرق من حرز مهتوك الحرمة . وقال أبو حنيفة : إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع ، ولا يشترط في الاشتراك في النقب التحامل على آلة واحدة ، بل التعاقب في الضرب تحصل به الشركة .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #279
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 115 الى صــ 122
    الحلقة (277)


    السادسة : ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز فأدخل الآخر يده فأخذه فعليه [ ص: 115 ] القطع ، ويعاقب الأول ; وقال أشهب : يقطعان . وإن وضعه خارج الحرز فعليه القطع لا على الآخذ ، وإن وضعه في وسط النقب فأخذه الآخر والتقت أيديهما في النقب قطعا جميعا .

    السابعة : والقبر والمسجد حرز ، فيقطع النباش عند الأكثر ; وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ; لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له ; لأن الميت لا يملك ، ومنهم من ينكر السرقة ; لأنه ليس فيه ساكن ، وإنما تكون السرقة بحيث تتقى الأعين ، ويتحفظ من الناس ; وعلى نفي السرقة عول أهل ما وراء النهر ، وقال الجمهور : هو سارق لأنه تدرع الليل لباسا واتقى الأعين ، وقصد وقتا لا ناظر فيه ولا مار عليه ، فكان بمنزلة ما لو سرق في وقت بروز الناس للعيد ، وخلو البلد من جميعهم ، وأما قولهم : إن القبر غير حرز فباطل ; لأن حرز كل شيء بحسب حاله الممكنة فيه . وأما قولهم : إن الميت لا يملك فباطل أيضا ; لأنه لا يجوز ترك الميت عاريا فصارت هذه الحاجة قاضية بأن القبر حرز ، وقد نبه الله تعالى عليه بقوله : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا ليسكن فيها حيا ، ويدفن فيها ميتا ، وأما قولهم : إنه عرضة للتلف ; فكل ما يلبسه الحي أيضا معرض للتلف والإخلاق بلباسه ، إلا أن أحد الأمرين أعجل من الثاني ; وقد روى أبو داود عن أبي ذر قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ، يعني القبر ; قلت : الله ورسوله أعلم قال : عليك بالصبر قال حماد : فبهذا قال من قال تقطع يد السارق ; لأنه دخل على الميت بيته ، وأما المسجد ، فمن سرق حصره قطع ; رواه عيسى عن ابن القاسم ، وإن لم يكن للمسجد باب ; ورآها محرزة ، وإن سرق الأبواب قطع أيضا ; وروي عن ابن القاسم أيضا إن كانت سرقته للحصر نهارا لم يقطع ، وإن كان تسور عليها ليلا قطع ; وذكر عن سحنون إن كانت حصره خيط بعضها إلى بعض قطع ، وإلا لم يقطع . قال أصبغ : يقطع سارق حصر المسجد وقناديله وبلاطه ، كما لو سرق بابه مستسرا أو خشبة من سقفه أو من جوائزه ، وقال أشهب في كتاب محمد : لا قطع في شيء من حصر المسجد وقناديله وبلاطه .

    الثامنة : واختلف العلماء هل يكون غرم مع القطع أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : لا يجتمع الغرم مع القطع بحال ; لأن الله سبحانه قال : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ولم يذكر غرما . وقال الشافعي : يغرم قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا ، [ ص: 116 ] وتكون دينا عليه إذا أيسر أداه ; وهو قول أحمد وإسحاق ، وأما علماؤنا مالك وأصحابه فقالوا : إن كانت العين قائمة ردها ، وإن تلفت فإن كان موسرا غرم ، وإن كان معسرا لم يتبع دينا ولم يكن عليه شيء ; وروى مالك مثل ذلك عن الزهري ; قال الشيخ أبو إسحاق : وقد قيل إنه يتبع بها دينا مع القطع موسرا كان أو معسرا ; قال : وهو قول غير واحد من علمائنا من أهل المدينة ، واستدل على صحته بأنهما حقان لمستحقين فلا يسقط أحدهما الآخر كالدية والكفارة ، ثم قال : وبهذا أقول ، واستدل القاضي أبو الحسن للمشهور بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا أقيم على السارق الحد فلا ضمان عليه وأسنده في كتابه . وقال بعضهم : إن الإتباع بالغرم عقوبة ، والقطع عقوبة ، ولا تجتمع عقوبتان ; وعليه عول القاضي عبد الوهاب ، والصحيح قول الشافعي ومن وافقه ; قال الشافعي : يغرم السارق ما سرق موسرا كان أو معسرا ; قطع أو لم يقطع ، وكذلك إذا قطع الطريق ; قال : ولا يسقط الحد لله ما أتلف للعباد ، وأما ما احتج به علماؤنا من الحديث ( إذا كان معسرا ) فبه احتج الكوفيون وهو قول الطبري ، ولا حجة فيه ; رواه النسائي والدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف . قال أبو عمر : هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة ، وقال ابن العربي : وهذا حديث باطل ، وقال الطبري : القياس أن عليه غرم ما استهلك ، ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك . قال أبو عمر : ترك القياس لضعيف الأثر غير جائز ; لأن الضعيف لا يوجب حكما .

    التاسعة : واختلف في قطع يد من سرق المال من الذي سرقه ; فقال علماؤنا : يقطع ، وقال الشافعي : لا يقطع ; لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز ، وقال علماؤنا : حرمة المالك عليه باقية لم تنقطع عنه ، ويد السارق كلا يد ، كالغاصب لو سرق منه المال المغصوب قطع ، فإن قيل : اجعلوا حرزه كلا حرز ; قلنا : الحرز قائم والملك قائم ولم يبطل الملك فيه فيقولوا لنا أبطلوا الحرز .

    العاشرة : واختلفوا إذا كرر السرقة بعد القطع في العين المسروقة ; فقال الأكثر : يقطع ، وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه ، وعموم القرآن يوجب عليه القطع ، وهو يرد قوله ، وقال أبو حنيفة أيضا في السارق يملك الشيء المسروق بشراء أو هبة قبل القطع : فإنه لا يقطع ، والله تعالى يقول : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء .

    الحادية عشرة : قرأ الجمهور " والسارق " بالرفع . قال سيبويه : المعنى وفيما فرض عليكم السارق والسارقة ، وقيل : الرفع فيهما على الابتداء ، والخبر فاقطعوا أيديهما . وليس [ ص: 117 ] القصد إلى معين إذ لو قصد معينا لوجب النصب ; تقول : زيدا اضربه ; بل هو كقولك : من سرق فاقطع يده . قال الزجاج : وهذا القول هو المختار ، وقرئ " والسارق " بالنصب فيهما على تقدير اقطعوا السارق والسارقة ; وهو اختيار سيبويه ; لأن الفعل بالأمر أولى ; قال سيبويه رحمه الله تعالى : الوجه في كلام العرب النصب ; كما تقول : زيدا أخرجه ; ولكن العامة أبت إلا الرفع ; يعني عامة القراء وجلهم ، فأنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ ابن مسعود " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم " وهو يقوي قراءة الجماعة ، والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر من سرق يسرق سرقا بفتح الراء . قاله الجوهري ، وأصل هذا اللفظ إنما هو أخذ الشيء في خفية من الأعين ، ومنه استرق السمع ، وسارقه النظر . قال ابن عرفة : السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس ، فإن تمنع بما في يده فهو غاصب .

    قلت : وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته ، قالوا : وكيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها ولا سجودها خرجه الموطأ وغيره ، فسماه سارقا وإن كان ليس سارقا من حيث هو موضع الاشتقاق ، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالبا .

    الثانية عشرة : قوله تعالى : ( فاقطعوا ) القطع معناه الإبانة والإزالة ، ولا يجب إلا بجمع أوصاف تعتبر في السارق وفي الشيء المسروق ، وفي الموضع المسروق منه ، وفي صفته . فأما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف ; وهي البلوغ والعقل ، وأن يكون غير مالك للمسروق منه ، وألا يكون له عليه ولاية ، فلا يقطع العبد إن سرق من مال سيده ، وكذلك السيد إن أخذ مال عبده لا قطع بحال ; لأن العبد وماله لسيده . ولم يقطع أحد بأخذ مال عبده لأنه آخذ لماله ، وسقط قطع العبد بإجماع الصحابة وبقول الخليفة : غلامكم سرق متاعكم . وذكر الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ولا على الذمي قال : لم يرفعه غير فهد بن سليمان ، والصواب أنه موقوف ، وذكر ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا سرق العبد فبيعوه ولو بنش أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا [ ص: 118 ] أبو أسامة عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة ; قال ابن ماجه : وحدثنا جبارة بن المغلس حدثنا حجاج بن تميم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس ; أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس ، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه ، وقال : مال الله سرق بعضه بعضا وجبارة بن المغلس متروك ; قاله أبو زرعة الرازي ، ولا قطع على صبي ولا مجنون .

    الثالثة عشرة : ويجب على الذمي والمعاهد ، والحربي إذا دخل بأمان ، وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف ; وهي النصاب وقد مضى القول فيه ، وأن يكون مما يتمول ويتملك ويحل بيعه ، وإن كان مما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع فيه باتفاق حاشا الحر الصغير عند مالك ، وابن القاسم ; وقيل : لا قطع عليه ; وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ; لأنه ليس بمال ، وقال علماؤنا : هو من أعظم المال ; ولم يقطع السارق في المال لعينه ، وإنما قطع لتعلق النفوس به ، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد ، وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا ، ففي ذلك اختلاف بين ابن القاسم وأشهب . قال ابن القاسم : ولا يقطع سارق الكلب ; وقال أشهب : ذلك في المنهي عن اتخاذه ، فأما المأذون في اتخاذه فيقطع سارقه . قال : ومن سرق لحم أضحية أو جلدها قطع إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم ، وقال ابن حبيب قال أصبغ : إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع ; وأما إن سرقها بعد الذبح فلا يقطع ، وإن كان مما يجوز اتخاذ أصله وبيعه ، فصنع منه ما لا يجوز استعماله كالطنبور والملاهي من المزمار والعود وشبهه من آلات اللهو فينظر ; فإن كان يبقى منها بعد فساد صورها وإذهاب المنفعة المقصودة بها ربع دينار فأكثر قطع ، وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها فإنما يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة ، وكذلك الصليب من ذهب أو فضة ، والزيت النجس إن كانت قيمته على نجاسته نصابا قطع فيه . الوصف الثالث ; ألا يكون للسارق فيه ملك ، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره ، ولا شبهة ملك ، على اختلاف بين علمائنا وغيرهم في مراعاة شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال ; لأن له فيه نصيبا . وروي عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم ير عليه قطعا وقال : له فيه نصيب ، وعلى هذا مذهب الجماعة في بيت المال ، وقيل : يجب عليه القطع تعلقا بعموم لفظ آية السرقة ، وأن يكون مما تصح سرقته كالعبد الصغير والأعجمي الكبير ; لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الفصيح فإنه . لا يقطع فيه ، وأما ما يعتبر في الموضع المسروق منه فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق ، وجملة القول فيه أن كل شيء له مكان معروف فمكانه حرزه ، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه ; فالدور والمنازل والحوانيت حرز لما فيها ، غاب عنها أهلها أو حضروا ، وكذلك بيت المال حرز [ ص: 119 ] لجماعة المسلمين ، والسارق لا يستحق فيه شيئا ، وإن كان قبل السرقة ممن يجوز أن يعطيه الإمام وإنما يتعين حق كل مسلم بالعطية ; ألا ترى أن الإمام قد يجوز أن يصرف جميع المال إلى وجه من وجوه المصالح ولا يفرقه في الناس ، أو يفرقه في بلد دون بلد آخر ويمنع منه قوما دون قوم ; ففي التقدير أن هذا السارق ممن لا حق له فيه . وكذلك المغانم لا تخلو : أن تتعين بالقسمة ; فهو ما ذكرناه في بيت المال ; وتتعين بنفس التناول لمن شهد الواقعة ; فيجب أن يراعى قدر ما سرق ، فإن كان فوق حقه قطع وإلا لم يقطع .

    الرابعة عشرة : وظهور الدواب حرز لما حملت ، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع وإن لم يكن هناك حانوت ، كان معه أهله أم لا ; سرقت بليل أو نهار ، وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة ، والدواب على مرابطها محرزة ، كان معها أهلها أم لا ; فإن كانت الدابة بباب المسجد أو في السوق لم تكن محرزة إلا أن يكون معها حافظ ; ومن ربطها بفنائه أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه فإنه حرز لها . والسفينة حرز لما فيها وسواء كانت سائبة أو مربوطة ; فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة ، وإن كان صاحبها ربطها في موضع وأرساها فيه فربطها حرز ; وهكذا إن كان معها أحد حيثما كانت فهي محرزة ، كالدابة بباب المسجد معها حافظ ; إلا أن ينزلوا بالسفينة في سفرهم منزلا فيربطوها فهو حرز لها كان صاحبها معها أم لا .

    الخامسة عشرة : ولا خلاف أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة ، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ - وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار - شيئا وإن لم يدخل بها بيته ولا خرج بها من الدار ، ولا خلاف في أنه لا يقطع من سرق منهم من قاعة الدار شيئا وإن أدخله بيته أو أخرجه من الدار ; لأن قاعتها مباحة للجميع للبيع والشراء ، إلا أن تكون دابة في مربطها أو ما يشبهها من المتاع .

    السادسة عشرة : ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما ; لقوله عليه السلام : أنت ومالك لأبيك . ويقطع في سرقة مالهما ; لأنه لا شبهة له فيه ، وقيل : لا يقطع ; وهو قول ابن وهب وأشهب ; لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة ، ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال سيده فلأن لا يقطع ابنه في ماله أولى . واختلفوا في الجد ; فقال مالك وابن القاسم : لا يقطع ، وقال أشهب : يقطع ، وقول مالك أصح أنه أب ; قال مالك : أحب إلي ألا يقطع الأجداد من قبل الأب والأم وإن لم تجب لهم نفقة . قال ابن القاسم وأشهب : ويقطع من سواهما من القرابات . قال ابن القاسم : ولا يقطع من سرق من جوع أصابه ، وقال أبو حنيفة : لا قطع على [ ص: 120 ] أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم ; وهو قول الثوري ، وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق : يقطع من سرق من هؤلاء ، وقال أبو ثور : يقطع كل سارق سرق ما تقطع فيه اليد ; إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع ، والله أعلم .

    السابعة عشرة : واختلفوا في سارق المصحف ; فقال الشافعي وأبو يوسف وأبو ثور : يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد ; وبه قال ابن القاسم ، وقال النعمان : لا يقطع من سرق مصحفا . قال ابن المنذر : يقطع سارق المصحف ، واختلفوا في الطرار يطر النفقة من الكم ، فقالت طائفة : يقطع من طر من داخل الكم أو من خارج ; وهو قول مالك والأوزاعي وأبي ثور ويعقوب . قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق : إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع ، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع ، وقال الحسن : يقطع . قال ابن المنذر : يقطع على أي جهة طر .

    الثامنة عشرة : واختلفوا في قطع اليد في السفر ، وإقامة الحدود في أرض الحرب ; فقال مالك والليث بن سعد : تقام الحدود في أرض الحرب ولا فرق بين دار الحرب والإسلام ، وقال الأوزاعي : يقيم من غزا على جيش - وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار - الحدود في عسكره غير القطع . وقال أبو حنيفة : إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره ، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه فيقيم الحدود في عسكره . استدل الأوزاعي ومن قال بقوله بحديث جنادة بن أبي أمية قال : كنا مع بسر بن أرطاة في البحر ، فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو ولولا ذلك لقطعته . بسر هذا يقال ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت له أخبار سوء في جانب علي وأصحابه ، وهو الذي ذبح طفلين لعبد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها فهامت على وجهها ، فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره ويذهب عقله ، فكان كذلك . قال يحيى بن معين : كان بسر بن أرطاة رجل سوء . استدل من قال بالقطع بعموم القرآن ; وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وأولى ما يحتج به لمن منع القطع في أرض الحرب والحدود : مخافة أن يلحق ذلك بالشرك ، والله أعلم .

    التاسعة عشرة : فإذا قطعت اليد أو الرجل فإلى أين تقطع ؟ فقال الكافة : تقطع من الرسغ والرجل من المفصل ، ويحسم الساق إذا قطع ، وقال بعضهم : يقطع إلى المرفق ، وقيل : إلى المنكب ، لأن اسم اليد يتناول ذلك . وقال علي رضي الله عنه : تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب ; وبه قال أحمد وأبو ثور . قال ابن المنذر : وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر [ ص: 121 ] بقطع يد رجل فقال : احسموها وفي إسناده مقال ; واستحب ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما ، وهذا أحسن وهو أقرب إلى البرء وأبعد من التلف .

    الموفية عشرين : لا خلاف أن اليمنى هي التي تقطع أولا ، ثم اختلفوا إن سرق ثانية ; فقال مالك وأهل المدينة والشافعي وأبو ثور وغيرهم : تقطع رجله اليسرى ، ثم في الثالثة يده اليسرى ، ثم في الرابعة رجله اليمنى ، ثم إن سرق خامسة يعزر ويحبس ، وقال أبو مصعب من علمائنا : يقتل بعد الرابعة ; واحتج بحديث خرجه النسائي عن الحارث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله ، إنما سرق ، قال : اقتلوه ، قالوا : يا رسول الله إنما سرق ، قال : اقطعوا يده ، قال : ثم سرق فقطعت رجله ، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى قطعت قوائمه كلها ، ثم سرق أيضا الخامسة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال : اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه ; منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال : أمروني عليكم فأمروه عليهم ، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه ، وبحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق في الخامسة فقال : اقتلوه . قال جابر : فانطلقنا به فقتلناه ، ثم اجتررناه فرميناه في بئر ورمينا عليه الحجارة . رواه أبو داود وخرجه النسائي وقال : هذا حديث منكر وأحد رواته ليس بالقوي ، ولا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا . قال ابن المنذر : ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا اليد بعد اليد والرجل بعد الرجل . وقيل : تقطع في الثانية رجله اليسرى ثم لا قطع في غيرها ، ثم إذا عاد عزر وحبس ; وروي عن علي بن أبي طالب ، وبه قال الزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل . قال الزهري : لم يبلغنا في السنة إلا قطع اليد والرجل ، وقال عطاء : تقطع يده اليمنى خاصة ولا يعود عليه القطع : ذكره ابن العربي وقال : أما قول عطاء فإن الصحابة قالوا قبله خلافه .

    الحادية والعشرون : واختلفوا في الحاكم يأمر بقطع يد السارق اليمنى فتقطع يساره ، فقال قتادة : قد أقيم عليه الحد ولا يزاد عليه ; وبه قال مالك : إذا أخطأ القاطع فقطع شماله ، وبه قال أصحاب الرأي استحسانا ، وقال أبو ثور : على الحزاز الدية لأنه أخطأ وتقطع يمينه إلا أن يمنع بإجماع . قال ابن المنذر : ليس يخلو قطع يسار السارق من أحد معنيين ; إما أن يكون القاطع عمد ذلك فعليه القود ، أو يكون أخطأ فديته على عاقلة القاطع ; وقطع يمين السارق يجب ، ولا يجوز إزالة ما أوجب الله سبحانه بتعدي معتد أو خطأ مخطئ ، وقال الثوري في الذي يقتص منه في يمينه فيقدم شماله فتقطع ; قال : تقطع يمينه أيضا . قال ابن المنذر : وهذا [ ص: 122 ] صحيح . وقالت طائفة : تقطع يمينه إذا برئ ; وذلك أنه هو أتلف يساره ، ولا شيء على القاطع في قول أصحاب الرأي ، وقياس قول الشافعي ، وتقطع يمينه إذا برئت ، وقال قتادة والشعبي : لا شيء على القاطع وحسبه ما قطع منه .

    الثانية والعشرون : وتعلق يد السارق في عنقه ، قال عبد الله بن محيريز سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو ؟ فقال : جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ، ثم أمر بها فعلقت في عنقه ; أخرجه الترمذي - وقال : حديث حسن غريب - وأبو داود والنسائي .

    الثالثة والعشرون : إذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا ; فقال مالك : يقتل ويدخل القطع فيه ، وقال الشافعي : يقطع ويقتل ; لأنهما حقان لمستحقين فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه ، وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وهو اختيار ابن العربي .

    الرابعة والعشرون : قوله تعالى : أيديهما لما قال أيديهما ولم يقل يديهما تكلم علماء اللسان في ذلك - قال ابن العربي : وتابعهم الفقهاء على ما ذكروه حسن ظن بهم - فقال الخليل بن أحمد والفراء : كل شيء يوجد من خلق الإنسان إذا أضيف إلى اثنين جمع تقول : هشمت رءوسهما وأشبعت بطونهما ، و إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، ولهذا قال : اقطعوا أيديهما ولم يقل يديهما ، والمراد فاقطعوا يمينا من هذا ويمينا من هذا . ويجوز في اللغة ; فاقطعوا يديهما وهو الأصل ; وقد قال الشاعر فجمع بين اللغتين :


    ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
    وقيل : فعل هذا لأنه لا يشكل ، وقال سيبويه : إذا كان مفردا قد يجمع إذا أردت به التثنية ، وحكي عن العرب ; وضعا رحالهما ، ويريد به رحلي راحلتيهما ; قال ابن العربي : وهذا بناء على أن اليمين وحدها هي التي تقطع وليس كذلك ، بل تقطع الأيدي والأرجل ، فيعود قوله أيديهما إلى أربعة وهي جمع في الاثنين ، وهما تثنية فيأتي الكلام على فصاحته ، ولو قال : فاقطعوا أيديهم لكان وجها ; لأن السارق والسارقة لم يرد بهما شخصين خاصة ، وإنما هما اسما جنس يعمان ما لا يحصى .

    الخامسة والعشرون : قوله تعالى : جزاء بما كسبا مفعول من أجله ، وإن شئت كان مصدرا وكذا نكالا من الله يقال : نكلت به إذا فعلت به ما يوجب أن ينكل به عن ذلك الفعل والله عزيز لا يغالب حكيم فيما يفعله ; وقد تقدم .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #280
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,892

    افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



    تَّفْسِيرِ
    (الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
    الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
    المجلد (6)
    سُورَةُ الْمَائِدَةِ
    من صــ 123 الى صــ 130
    الحلقة (2787)


    [ ص: 123 ] قوله تعالى : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم

    السادسة والعشرون : قوله تعالى : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح شرط وجوابه فإن الله يتوب عليه ومعنى من بعد ظلمه من بعد السرقة ; فإن الله يتجاوز عنه ، والقطع لا يسقط بالتوبة ، وقال عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق ، وقاله بعض الشافعية وعزاه إلى الشافعي قولا . وتعلقوا بقول الله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وذلك استثناء من الوجوب ، فوجب حمل جميع الحدود عليه ، وقال علماؤنا : هذا بعينه دليلنا ; لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حد المحارب قال : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم وعطف عليه حد السارق وقال فيه : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما . قال ابن العربي : ويا معشر الشافعية سبحان الله ! أين الدقائق الفقهية ، والحكم الشرعية ، التي تستنبطونها من غوامض المسائل ؟ ! ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه ، المعتدي بسلاح ، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف بالخيل والركاب كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة ، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام ; فأما السارق والزاني وهما في قبضة المسلمين وتحت حكم الإمام ، فما الذي يسقط عنهم حكم ما وجب عليهم ؟ ! أو كيف يجوز أن يقال : يقاس على المحارب وقد فرقت بينهما الحكمة والحالة ! هذا ما لا يليق بمثلكم يا معشر المحققين ، وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة ، فالتوبة مقبولة والقطع كفارة له . وأصلح أي : كما تاب عن السرقة تاب عن كل ذنب ، وقيل : وأصلح أي : ترك المعصية بالكلية ، فأما من ترك السرقة بالزنى أو التهود بالتنصر فهذا ليس بتوبة ، وتوبة الله على العبد أن يوفقه للتوبة ، وقيل : أن تقبل منه التوبة .

    السابعة والعشرون : يقال : بدأ الله بالسارق في هذه الآية قبل السارقة ، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب أن يقال : لما كان حب المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب بدأ بهما في الموضع ; هذا أحد الوجوه في المرأة على ما يأتي بيانه في سورة " النور " من البداية بها على الزاني إن شاء الله . ثم جعل الله حد السرقة قطع اليد لتناول المال ، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به لثلاثة معان :

    أحدها : أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية ، وليس للزاني [ ص: 124 ] مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه . الثاني : أن الحد زجر للمحدود وغيره ، وقطع اليد في السرقة ظاهر : وقطع الذكر في الزنى باطن .

    الثالث : أن قطع الذكر فيه إبطال للنسل وليس في قطع اليد إبطاله ، والله أعلم .

    قوله تعالى : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير

    قوله تعالى : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض الآية . خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره ; أي : لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول القائل : نحن أبناء الله وأحباؤه ، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد ، وقيل : أي : له أن يحكم بما يريد ; فلهذا فرق بين المحارب وبين السارق غير المحارب ، وقد تقدم نظائر هذه الآية والكلام فيها فلا معنى لإعادتها والله الموفق . هذا ما يتعلق بآية السرقة من بعض أحكام السرقة ، والله أعلم .
    يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

    فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : يا أيها الرسول لا يحزنك الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال : قيل نزلت في بني قريظة والنضير ; قتل قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم ، وإنما يعطونهم الدية على ما يأتي بيانه ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية بين القرظي والنضيري ، فساءهم ذلك ولم يقبلوا . وقيل ; إنها نزلت في شأن أبي لبابة حين [ ص: 125 ] أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح ، وقيل : إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم ; وهذا أصح الأقوال ; رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود . قال أبو داود عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : ائتوني بأعلم رجلين منكم فجاءوا بابني صوريا فنشدهما الله تعالى كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما . قال : فما يمنعكما أن ترجموهما ، قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما ، وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فدك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ; فسألوه فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم ، فقال ابن صوريا : فأما إذ ناشدتني الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية ، والاعتناق زنية ، والقبلة زنية ، فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو ذاك ، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا ، فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال : لا - ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم ; فأنزل الله تعالى : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله : إن أوتيتم هذا فخذوه يقول : ائتوا محمدا ، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، فأنزل الله عز وجل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها . هكذا في هذه الرواية ( مر على النبي صلى الله عليه وسلم ) ، وفي حديث ابن عمر : أتي بيهودي ويهودية [ ص: 126 ] قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود ، قال : ما تجدون في التوراة على من زنى الحديث ، وفي رواية ; أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا ، وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود ، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بيننا ، ولا تعارض في شيء من هذا كله ، وهي كلها قصة واحدة ، وقد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال : زنى رجل من اليهود وامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بالتخفيفات ، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله ، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك ; قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ; فقالوا : يا أبا القاسم ، ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب ، فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ، فقالوا : يحمم وجهه ويجبه ويجلد ، والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما ; قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة ; فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم . وساق الحديث إلى أن قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما .

    الثانية : والحاصل من هذه الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم ، فحكم عليهم بمقتضى ما في التوراة . واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا ، وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها ، وأن الإسلام ليس شرطا في الإحصان . فهذه مسائل أربع . فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام ; فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ، ومنعهم منه بلا خلاف ، وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي ، غير أن مالكا رأى الإعراض عنهم أولى ، فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام . وقال الشافعي : لا يحكم بينهم في الحدود ، وقال أبو حنيفة : يحكم بينهم على كل حال ، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم ، وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي ; لقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله على ما يأتي بيانه بعد ، احتج مالك بقوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وهي نص في التخيير . قال ابن القاسم : إذا جاء [ ص: 127 ] الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير ; لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول : لا يلتفت إلى الأساقفة . قال ابن العربي : وهو الأصح ; لأن المسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ ، ولم يعتبر رضا الحاكم . فالكتابيون بذلك أولى ، وقال عيسى عن ابن القاسم : لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا أهل حرب . قال ابن العربي : وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره : أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك ، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسم المرأة الزانية بسرة ، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا ، فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه ، وإن أفتاكم به فاحذروه ; الحديث . قال ابن العربي : وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا ; وإن لم يكن عهد وذمة ودار لما كان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم ; فلا حجة لرواية عيسى في هذا ; وعنهم أخبر الله تعالى بقوله : سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع ; فكل من حكم رجلا في الدين وهي :

    الثالثة : فأصله هذه الآية . قال مالك : إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه ، إلا أن يكون جورا بينا ، وقال سحنون : يمضيه إن رآه صوابا . قال ابن العربي : وذلك في الأموال والحقوق التي تختص بالطالب ، فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان ; والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه ، وتحقيقه أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم لقاعدة الولاية ، ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج الحمر ، فلا بد من فاصل ; فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج ; وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة ، وقال الشافعي وغيره : التحكيم جائز وإنما هو فتوى . وقال بعض العلماء : إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم علىاليهود بالرجم إقامة لحكم كتابهم ، لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به ; ألا ترى أنه قال : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأن ذلك كان حين قدم المدينة ، ولذلك استثبت ابني صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك ، وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم عليها غير مقبولة بالإجماع ، لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به ، وقد يحتمل أن يكون حصول طريق العلم بذلك الوحي ، أو ما ألقى الله في روعه من تصديق ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا ; فبين له النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بمشروعية الرجم ، ومبدؤه ذلك الوقت ، فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم التوراة ، وبين أن ذلك حكم شريعته ، وأن التوراة حكم الله سبحانه ; لقوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا [ ص: 128 ] وهو من الأنبياء ، وقد قال عنه أبو هريرة : ( فإني أحكم بما في التوراة ) والله أعلم .

    الرابعة : والجمهور على رد شهادة الذمي ; لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على مسلم ولا على كافر ، وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذ لم يوجد مسلم على ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل : فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين : فالجواب ; أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به ، على نحو ما عملت به بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم ، وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم ، فكان منفذا لا حاكما ، وهذا على التأويل الأول ، وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بتلك الواقعة ، إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك ، والله أعلم .

    الخامسة : قوله تعالى : " لا يحزنك " قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي ، والحزن والحزن خلاف السرور ، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين ، وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ، ومحزون بني عليه . قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم ، وقد قرئ بهما ، واحتزن وتحزن بمعنى ، والمعنى في الآية تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم : أي : لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر ، فإن الله قد وعدك النصر عليهم .

    السادسة : قوله تعالى : من الذين قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون ولم تؤمن قلوبهم أي : لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به ألسنتهم ومن الذين هادوا يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام ، ثم ابتدأ فقال : سماعون للكذب أي : هم سماعون ، ومثله طوافون عليكم ، وقيل الابتداء من قوله : ومن الذين هادوا ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب ، أي : قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة ، وقيل : أي : يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك ، فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكذب عليه عند عامتهم ، ويقبح صورته في أعينهم ; وهو معنى قوله : سماعون لقوم آخرين لم يأتوك وكان في المنافقين من يفعل هذا . قال الفراء ويجوز سماعين وطوافين ، كما قال : ملعونين أينما ثقفوا وكما قال : إن المتقين في جنات ونعيم . ثم قال : فاكهين آخذين ، وقال سفيان بن عيينة : إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله : سماعون لقوم آخرين لم يأتوك [ ص: 129 ] ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه بهم ; لأنه لم يكن حينئذ تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام ، وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " إن شاء الله تعالى .

    السابعة : قوله تعالى : يحرفون الكلم من بعد مواضعه أي : يتأولونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل ; وبين أحكامه ; فقالوا : شرعه ترك الرجم ; وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل . ويحرفون في موضع الصفة لقوله سماعون وليس بحال من الضمير الذي في يأتوك لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا ، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف ، والمحرفون من اليهود بعضهم لا كلهم ، ولذلك كان حمل المعنى على من الذين هادوا فريق سماعون أشبه ( يقولون ) في موضع الحال من المضمر في ( يحرفون ) . إن أوتيتم هذا فخذوه أي : إن أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد فاقبلوا وإلا فلا .

    الثامنة : قوله تعالى : ومن يرد الله فتنته أي : ضلالته في الدنيا وعقوبته في الآخرة . فلن تملك له من الله شيئا أي : فلن تنفعه أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم بيان منه عز وجل أنه قضى عليهم بالكفر ، ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من قال خلاف ذلك على ما تقدم ; أي : لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم . لهم في الدنيا خزي قيل : هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم ، ثم أحضرت التوراة فوجد فيها الرجم وقيل : خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل ، والله أعلم .
    قوله تعالى : سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين

    فيه مسألتان :

    الأولى : قوله تعالى : سماعون للكذب كرره تأكيدا وتفخيما ، وقد تقدم

    الثانية : قوله تعالى : أكالون للسحت على التكثير ، والسحت في اللغة أصله الهلاك والشدة ; قال الله تعالى : فيسحتكم بعذاب ، وقال الفرزدق :

    [ ص: 130 ]
    وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلفا
    كذا الرواية . أو مجلف بالرفع عطفا على المعنى ; لأن معنى لم يدع لم يبق . ويقال للحالق : أسحت أي استأصل ، وسمي المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات أي : يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ، يقال رجل مسحوت المعدة أي : أكول ; فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم ، وقيل : سمي الحرام سحتا لأنه يسحت مروءة الإنسان .

    قلت : والقول الأول أولى ; لأن بذهاب الدين تذهب المروءة ، ولا مروءة لمن لا دين له .

    قال ابن مسعود وغيره : السحت الرشا ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رشوة الحاكم من السحت ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به قالوا : يا رسول الله ; وما السحت ؟ قال : الرشوة في الحكم ، وعن ابن مسعود أيضا أنه قال : السحت أن يقضي الرجل لأخيه حاجة فيهدي إليه هدية فيقبلها ، وقال ابن خويز منداد : من السحت أن يأكل الرجل بجاهه ، وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها ، ولا خلاف بين السلف أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سحت حرام ، وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل ، وبطل كل حكم حكم به بعد ذلك .

    قلت : وهذا لا يجوز أن يختلف فيه إن شاء الله ; لأن أخذ الرشوة منه فسق ، والفاسق لا يجوز حكمه . والله أعلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : لعن الله الراشي والمرتشي ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : السحت الرشوة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية ، وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له : الرشوة حرام في كل شيء ؟ فقال : لا ; إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى ما ليس لك ، أو تدفع حقا قد لزمك ; فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام . قال أبو الليث السمرقندي الفقيه : وبهذا نأخذ ; لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة . وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال : إنما الإثم على القابض دون الدافع ; قال المهدوي : ومن جعل كسب الحجام ومن ذكر معه سحتا فمعناه أنه يسحت مروءة آخذه .




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •