تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 13 من 16 الأولىالأولى ... 345678910111213141516 الأخيرةالأخيرة
النتائج 241 إلى 260 من 301

الموضوع: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

  1. #241
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

    " ختم المجلد الثامن " ويليه المجلد التاسع "
    " زكاة الورق "
    الموافق : 10/ سبتمبر /2020 ميلادي
    الموافق : 22/ محرم / 1442 هجري


    ................
    (3)
    (8/197)
    هَل ينفع الثَّنَاء على الْمَيِّت بِالْخَيرِ وَإِن خَالف الْوَاقِع أم لَا بُد أَن يكون الثَّنَاء عَلَيْهِ مطابقا للْوَاقِع؟ قلت: قَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء أصَحهمَا أَن ذَلِك يَنْفَعهُ، وَأَن لم يُطَابق الْوَاقِع لِأَنَّهُ لَو كَانَ لَا يَنْفَعهُ إلاَّ بالموافقة لم يكن للثناء فَائِدَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة فرات بن السَّائِب عَن مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن العَبْد سيرزق الثَّنَاء والستر وَالْحب من النَّاس حَتَّى تَقول الْحفظَة: رَبنَا إِنَّك تعلم ونعلم غير مَا يَقُولُونَ، فَيَقُول: أشهدكم أَنِّي قد غفرت لَهُ مَا لَا يعلمُونَ، وَقبلت شَهَادَتهم على مَا يَقُولُونَ) .
    ........
    (8/199)
    وَاخْتلف فِي النَّفس وَالروح فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر وَأَصْحَابه: إنَّهُمَا إسمان لشَيْء وَاحِد. وَقَالَ ابْن حبيب: الرّوح هُوَ النَّفس الْجَارِي يدْخل وَيخرج لَا حَيَاة للنَّفس إلاَّ بِهِ. وَالنَّفس يألم ويلذ، وَالروح لَا يألم وَلَا يلذ، وَعَن ابْن الْقَاسِم عَن عبد الرَّحْمَن بن خلف: بَلغنِي أَن الرّوح لَهُ جَسَد ويدان ورجلان وَرَأس وعينان يسل من الْجَسَد سلاً، وَعَن ابْن الْقَاسِم: الرّوح مثل المَاء الْجَارِي.
    ....
    (8/210)
    وَقَالَ أَبُو الطّيب: اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنه لَا غدو وَلَا عشي فِي الْآخِرَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا فهم معرضون بعد مماتهم على النَّار
    ....
    (8/220)
    روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من مُسلم يَمُوت يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة إلاَّ وَقَاه الله تَعَالَى فتْنَة الْقَبْر) . قلت: هَذَا حَدِيث انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَلَيْسَ إِسْنَاده بِمُتَّصِل لِأَن ربيعَة بن سيف يرويهِ عَن ابْن عمر، وَلَا يعرف لَهُ سَماع مِنْهُ، فَلذَلِك لم يذكرهُ البُخَارِيّ، فاقتصر على مَا وَافق شَرطه.
    .........
    (8/220)
    وَاخْتلفُوا فِي سَبَب موت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ سيف بن عمر، إِسْنَاده عَن ابْن عمر، قَالَ: كَانَ سَبَب مرض أبي بكر وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كمد فَمَا زَالَ جِسْمه يذوب حَتَّى مَاتَ. وَقيل: سم، فَقَالَ ابْن سعد بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن شهَاب: إِن أَبَا بكر والْحَارث بن كلدة يأكلان خزيرة أهديت لأبي بكر، فَقَالَ لَهُ الْحَارِث: إرفع يدك يَا خَليفَة رَسُول الله، وَالله إِن فِيهَا السم سنة وَأَنا وَأَنت نموت فِي يَوْم وَاحِد عِنْد انْتِهَاء السّنة، فماتا عِنْد انْقِضَائِهَا، وَلم يَزَالَا عليلين حَتَّى مَاتَا. والخزيرة أَن يقطع اللَّحْم ويذر عَلَيْهِ الدَّقِيق. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الَّذِي سمته امْرَأَة من الْيَهُود فِي أرز، وَقيل: إِن الْيَهُود سمته فِي حسو. وَقيل: اغْتسل فِي يَوْم بَارِد فَحم خَمْسَة عشر يَوْمًا وَتُوفِّي، حَكَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن عَائِشَة. وَقيل: علق بِهِ سل قبل وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل بِهِ حَتَّى قَتله، حَكَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
    .....
    (8/230)
    قَالَ ابْن بطال ذكر شرار الْمَوْتَى من أهل الشّرك خَاصَّة جَائِز لِأَنَّهُ لَا شكّ أَنهم فِي النَّار وَقَالَ سبّ الْأَمْوَات يجْرِي مجْرى الْغَيْبَة فَإِن كَانَ أغلب أَحْوَال الْمَرْء الْخَيْر وَقد تكون مِنْهُ الْغَلَبَة فالاغتياب لَهُ مَمْنُوع وَإِن كَانَ فَاسِقًا مُعْلنا فَلَا غيبَة لَهُ فَكَذَلِك الْمَيِّت
    .....
    (8/232)
    وَأَبُو لَهب كنيته، وسمه عبد الْعُزَّى بن عبد الْمطلب، عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَاتَ كَافِرًا وَفِي (التَّلْوِيح) : وَاخْتلف فِي أبي لَهب، هَل هُوَ لقب لَهُ أَو كنية لَهُ، فَالَّذِي عِنْد ابْن إِسْحَاق والكلبي فِي آخَرين أَن عبد الْمطلب لقبه بذلك لحمرة خديه وتوقدهما كالجمر، وَفِي حَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للهب بن أبي لَهب واسْمه عبد الْعُزَّى: (أكلك كلب الله) ، فَأَكله الْأسد،
    .........
    " كتاب الزكاة "
    (8/233)
    وَقَالَ ابْن بطال: فَمن جحد وَاحِدَة من هَذِه الْخمس فَلَا يتم إِسْلَامه، أَلا ترى أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: من منعهَا مُنْكرا وُجُوبهَا فقد كفر إِلَّا أَن يكون حَدِيث عهد بِالْإِسْلَامِ وَلم يعلم وُجُوبهَا. وَقَالَ الْقشيرِي: من جَحدهَا كفر، وَأجْمع الْعلمَاء أَن مانعها تُؤْخَذ
    قهرا مِنْهُ، وَإِن نصب الْحَرْب دونهَا قتل، كَمَا فعل أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَهْل الرِّدَّة، وَوَافَقَ على ذَلِك جَمِيع الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
    ......
    (8/238)
    من رِوَايَة حُسَيْن الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن سعيد بن الْمسيب، أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: ابْتَغوا بأموال اليتامي لَا تأكلها الصَّدَقَة. وَقد اخْتلف فِي سَماع ابْن الْمسيب عَن عمر بن الْخطاب، وَالصَّحِيح أَنه لم يسمع مِنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب، فَرَأى غير وَاحِد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، مِنْهُم: عمر وَعلي وَعَائِشَة وَابْن عمر، وَبِه يَقُول: مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَت طَائِفَة من أهل الْعلم: لَيْسَ فِي مَال الْيَتِيم زَكَاة، وَبِه قَالَ: سُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن الْمُبَارك. قلت: وَبِه قَالَ: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَهُوَ قَول أبي وَائِل وَسَعِيد بن جُبَير وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكي عَنهُ إِجْمَاع الصَّحَابَة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا تجب الزَّكَاة إلاَّ على من تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصِّيَام، وَذكر حميد بن زَنْجوَيْه النَّسَائِيّ: أَنه مَذْهَب ابْن عَبَّاس
    ........
    (8/238)
    حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) . وَإِسْنَاده حسن.
    ......
    (8/242)
    وَفِي كتاب الرِّدَّة لسيف عَن فَيْرُوز الديلمي أول ردة كَانَت فِي الْإِسْلَام ردة كَانَت بِالْيمن على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على يَد ذِي الْخمار عبهلة بن كَعْب وَهُوَ الْأسود الْعَنسِي
    .........
    (8/246)
    عقَالًا " وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهَا قَدِيما وحديثا فَذهب جمَاعَة مِنْهُم إِلَى أَن المُرَاد بالعقال زَكَاة عَام وَهُوَ مَعْرُوف فِي اللُّغَة بذلك وَهَذَا قَول الْكسَائي وَالنضْر بن شُمَيْل وَأبي عبيد والمبرد وَغَيرهم من أهل اللُّغَة وَهُوَ قَول جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقول عَمْرو بن الْعَلَاء
    (سعى عقَالًا فَلم يتْرك لنا سبدا ... فَكيف لَو قد سعى عَمْرو عِقَالَيْنِ)
    وَذهب كَثِيرُونَ من الْمُحَقِّقين إِلَى أَن المُرَاد بالعقال الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير وَهَذَا القَوْل محكي عَن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَابْن أبي ذِئْب وَغَيرهمَا وَهُوَ مَأْخُوذ مَعَ الْفَرِيضَة لِأَن على صَاحبهَا التَّسْلِيم وَإِنَّمَا يَقع قبضهَا برباطها وَقيل معنى وجوب الزَّكَاة فِيهِ إِذا كَانَ من عرُوض التِّجَارَة فَبلغ مَعَ غَيره فِيهَا قيمَة نِصَاب وَقيل أَرَادَ بِهِ الشَّيْء التافه الحقير فَضرب العقال مثلا لَهُ وَقيل كَانَ من عَادَة الْمُصدق إِذا أَخذ الصَّدَقَة أَن يعمد إِلَى قرن بِفَتْح الْقَاف وَالرَّاء وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يقرن بِهِ بَين بَعِيرَيْنِ لِئَلَّا تشرد الْإِبِل فيسمى عِنْد ذَلِك الْقرَان فَكل قرنين مِنْهَا عقال
    ..........
    (8/248)
    وَكَانَ من مَذْهَب أبي ذَر تَحْرِيم إدخار مَا زَاد على نَفَقَة الْعِيَال، وَكَانَ يُفْتِي النَّاس بذلك ويحثهم عَلَيْهِ وَيَأْمُرهُمْ بِهِ ويغلظ فِي خِلَافه، فَنَهَاهُ مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم ينْتَه فخشي أَن يضرّهُ النَّاس فِي هَذَا، فَكتب يشكوه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان، وَأَن يأخذوه إِلَيْهِ، فاستقدمه عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْمَدِينَة وأنزله بالربذة وَحده، وَبهَا مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
    .......
    (8/257)
    وَأجْمع أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وأئمة اللُّغَة على أَن الْأُوقِيَّة الشَّرْعِيَّة: أَرْبَعُونَ درهما، وَهِي أُوقِيَّة الْحجاز. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا يَصح أَن تكون الْأُوقِيَّة وَالدَّرَاهِم مَجْهُولَة فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يُوجب الزَّكَاة فِي أعداد مِنْهَا وَتَقَع بهَا الْبياعَات والأنكحة كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَهَذَا يبين أَن قَول من زعم أَن الدَّرَاهِم لم تكن مَعْلُومَة إِلَى زمَان عبد الْملك بن مَرْوَان وَأَنه جمعهَا بِرَأْي الْعلمَاء، وَجعل كل عشرَة وزن سَبْعَة مَثَاقِيل وَوزن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، قَول بَاطِل، وَإِنَّمَا معنى مَا نقل من ذَلِك أَنه لم يكن مِنْهَا شَيْء من ضرب الْإِسْلَام وعَلى صفة لَا تخْتَلف، بل كَانَت مجموعات من ضرب فَارس وَالروم صغَارًا وكبارا وَقطع فضَّة غير مَضْرُوبَة وَلَا منقوشة ويمنية ومغربية، فَرَأَوْا صرفهَا إِلَى ضرب الْإِسْلَام ونقشه وتصييرها وزنا وَاحِدًا لَا يخْتَلف وأعيانا يسْتَغْنى فِيهَا من الموازين، فَجمعُوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم، قَالَ القَاضِي: وَلَا شكّ أَن الدَّرَاهِم كَانَت حِينَئِذٍ مَعْلُومَة، وَإِلَّا فَكيف كَانَ يتَعَلَّق بهَا حُقُوق الله تَعَالَى فِي الزَّكَاة وَغَيرهَا وَحُقُوق الْعباد وَهَذَا كَمَا كَانَت الْأُوقِيَّة مَعْلُومَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع أهل الْعَصْر الأول على التَّقْدِير بِهَذَا الْوَزْن الْمَعْرُوف، وَهُوَ أَن الدِّرْهَم سِتَّة دوانيق، وكل عشرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل وَلم يتَغَيَّر المثقال فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام.
    .........
    (8/260)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: وجوب الزَّكَاة فِي هَذِه المحدودات. وَالثَّانيَِة: أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون ذَلِك، وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي هَاتين إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الْحبّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل منابذ لصريح الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: هَذِه عبارَة سمجة وَلَا يَلِيق التَّلَفُّظ بهَا فِي حق إِمَام مُتَقَدم علما وفضلاً وزهدا وقربا أَي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْكِبَار، لَا سِيمَا ذَلِك من شخص مَوْسُوم بَين النَّاس بِالْعلمِ الغزير والزهد الْكثير، والإنصاف فِي مثل هَذَا الْمقَام تَحْسِين الْعبارَة، وَهُوَ اللَّائِق لأهل الدّين، وَلَا يفحش الْعبارَة إلاَّ من يتعصب بِالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ هَذَا من الدّين، وَلم ينْسب النَّوَوِيّ بطلَان هَذَا الْمَذْهَب ومنابذة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة لأبي حنيفَة وَحده، بل نسبه أَيْضا إِلَى بعض السّلف، وَالسَّلَف هم: عمر بن عبد الْعَزِيز وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهَذَا أَيْضا قَول زفر وَرِوَايَة عَن بعض التَّابِعين، فَإِن مَذْهَب هَؤُلَاءِ مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) : عَن معمر عَن سماك بن الْفضل عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: فِيمَا أنبتت الأَرْض من قَلِيل أَو كثير الْعشْر.
    ........
    (8/262)
    فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى عُثْمَان: إِن كَانَ لَك بِالشَّام حَاجَة فَابْعَثْ إِلَى أبي ذَر، فَكتب إِلَيْهِ عُثْمَان أَن أقدم عَليّ، فَقدم) . وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا كتب مُعَاوِيَة يشكو أَبَا ذَر لِأَنَّهُ كَانَ كثير الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ والمنازعة لَهُ، وَكَانَ فِي جَيْشه ميل إِلَى أبي ذَر، فأقدمه عُثْمَان خشيَة الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ رجلا لَا يخَاف فِي الله لومة لائم، وَقَالَ الْمُهلب: وَكَانَ هَذَا من توقير مُعَاوِيَة لَهُ، إِذْ كتب فِيهِ إِلَى السُّلْطَان الْأَعْظَم، لِأَنَّهُ مَتى أخرجه كَانَت وصمة عَلَيْهِ
    وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: (أَنهم كَثُرُوا عَلَيْهِ يسألونه عَن سَبَب خُرُوجه من الشَّام، قَالَ: فخشي عُثْمَان على أهل الْمَدِينَة خشيَة مُعَاوِيَة على أهل الشَّام) . وَقَالَ ابْن بطال: وَلما قدم أَبُو ذَر الْمَدِينَة اجْتمع عَلَيْهِ النَّاس يسألونه عَن الْقِصَّة، وَمَا جرى بَينه وَبَين مُعَاوِيَة، فَلَمَّا رأى أَبُو ذَر ذَلِك خَافَ أَن يعاتبه عُثْمَان فِي ذَلِك، فَذكر لَهُ كَثْرَة النَّاس وتعجبهم من حَاله كَأَنَّهُمْ لم يروه قطّ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: إِن كنت تخشى وُقُوع فتْنَة فاسكن مَكَانا قَرِيبا من الْمَدِينَة، فَنزل الربذَة
    أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ من مذْهبه أَنه يحرم على الْإِنْسَان إدخار مَا زَاد على حَاجته. وَفِيه: أَن أَبَا ذَر ذهب إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر لفظ: {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة}
    ........
    قَالَ سَحْنُون: ترك الدُّنْيَا زهدا أفضل من كسبها من الْحَلَال وإنفاقها فِي سَبِيل الله
    .........
    (8/280)
    وروى أَبُو الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مثل الَّذِي يعْتق عِنْد الْمَوْت كَالَّذي يهدي إِذا شبع) ، وَلما بلغ مَيْمُون بن مهْرَان أَن رقية امْرَأَة هِشَام مَاتَت واعتقت كل مَمْلُوك لَهَا، قَالَ: يعصون الله فِي أَمْوَالهم مرَّتَيْنِ: يَبْخلُونَ بِمَا فِي أَيْديهم، فَإِذا صَارَت لغَيرهم أَسْرفُوا فِيهَا.
    .........
    (8/282)
    وَقَالَ ابْن سعد: قَالَ لنا مُحَمَّد بن عمر، يَعْنِي: الْوَاقِدِيّ، هَذَا الحَدِيث، وهم فِي سَوْدَة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي زَيْنَب بنت جحش، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَهِيَ أول نِسَائِهِ بِهِ لُحُوقا. وَتوفيت فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَبقيت سَوْدَة إِلَى أَن توفت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة فِي شَوَّال سنة أَربع وَخمسين، وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث غلط من بعض الروَاة، وَالْعجب من البُخَارِيّ كَيفَ لم يُنَبه عَلَيْهِ، وَلَا مَن بعده من أَصْحَاب التَّعَالِيق، حَتَّى: إِن بعضه فسره بِأَن لُحُوق سَوْدَة من أَعْلَام النُّبُوَّة، وكل ذَلِك وهم، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَب بنت جحش، فَإِنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا بِالْمَعْرُوفِ، وَتوفيت سنة عشْرين، وَهِي أول الزَّوْجَات وَفَاة، وَسَوْدَة توفيت سنة أَربع وَخمسين، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك على الصِّحَّة من حَدِيث عَائِشَة بنت طَلْحَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: وَكَانَت زَيْنَب أطولنا يدا لِأَنَّهَا كَانَت تعْمل وَتَتَصَدَّق
    قد روى البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى سعيد بن أبي هِلَال، أَنه قَالَ: مَاتَت سَوْدَة فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَجزم الذَّهَبِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) بِأَنَّهَا مَاتَت فِي أُخر خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ ابْن سيد النَّاس: إِنَّه الْمَشْهُور. وَأما على قَول الْوَاقِدِيّ الَّذِي تقدم ذكره فَلَا يَصح وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث سقط مِنْهُ ذكر زَيْنَب لِاتِّفَاق أهل السّير على أَن زَيْنَب أول من مَاتَ من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: مُرَاده أَن الصَّوَاب: وَكَانَت زَيْنَب أَسْرَعنَا لُحُوقا بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: يُعَكر على هَذَا التَّأْوِيل الرِّوَايَات الْمُصَرّح فِيهَا بِأَن الضَّمِير لسودة. قلت: ابْن بطال لم يؤول، وَلَا يُقَال لمثل هَذَا تَأْوِيل، وَأَرَادَ بالروايات مَا ذَكرْنَاهُ من البُخَارِيّ الَّذِي ذكره فِي (تَارِيخه)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجمع أهل السّير أَن زَيْنَب أول نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موتا بعده، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ يُونُس بن بكير فِي (زِيَادَة الْمَغَازِي) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) بِإِسْنَادِهِ عَنهُ عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ، التَّصْرِيح بِأَن ذَلِك لِزَيْنَب، وَلَكِن قصر زَكَرِيَّا فِي إِسْنَاده فَلم يذكر مسروقا وَلَا عَائِشَة، وَلَفظه: (قُلْنَ النسْوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّنَا أسْرع بك لُحُوقا؟ قَالَ: أَطْوَلكُنَّ يدا فأخذن يتذارعن أيتهن أطول يدا، فَلَمَّا توفيت زَيْنَب علِمْنَ أَنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا فِي الْخَيْر وَالصَّدَََقَة)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يَخْلُو أَن يُقَال: إِمَّا أَن فِي الحَدِيث اختصارا وتلفيقا يَعْنِي: اختصر البُخَارِيّ الْقِصَّة وَنقل الْقطعَة الْأَخِيرَة من حَدِيث فِيهِ ذكر زَيْنَب، فالضمائر رَاجِعَة إِلَيْهَا. وَإِمَّا أَنه اكْتفى بشهرة الْحِكَايَة وَعلم أهل هَذَا الشَّأْن بِأَن الأسرع لُحُوقا هِيَ زَيْنَب، فتعود الضمائر إِلَى من هِيَ مُفْردَة فِي أذهانهم. وَإِن أَن يؤول الْكَلَام بِأَن الضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحوقها بِهِ أَولا، وَعلمنَا بعد ذَلِك أَنَّهَا هِيَ الَّتِي طول صَدَقَة يَديهَا، وَالْحَال أَنَّهَا كَانَت أسْرع لُحُوقا بِهِ، وَكَانَت محبَّة للصدقة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي لَيْسَ بسديد، لَا من جِهَة التَّوْفِيق بَين الْأَخْبَار، وَلَا من جِهَة مَا يَقْتَضِيهِ تركيب الْكَلَام، بل كَلَامه بعيد جدا من هَذَا الْوَجْه.
    .......
    (8/289)
    وَاخْتلفُوا فِي دفع الزَّكَاة إِلَى سَائِر الْأَقَارِب المحتاجين الَّذين لَا يلْزمه نَفَقَتهم فَروِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه يجْزِيه وَهُوَ قَول عَطاء وَالقَاسِم وَأحمد وَقَالُوا هِيَ لَهُم صَدَقَة وصلَة وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى وَطَاوُس لَا يُعْطي قرَابَته من الزَّكَاة وَهُوَ قَول أَشهب وَذكر ابْن الْمَوَّاز عَن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كره أَن يخص قرَابَته بِزَكَاتِهِ وَإِن لم تلْزمهُ نفقاتهم وَمِمَّنْ قَالَ بِإِعْطَاء الْأَقَارِب مَا لم يَكُونُوا فِي عِيَاله ابْن عَبَّاس وَابْن الْمسيب وَعَطَاء وَالضَّحَّاك وَطَاوُس وَمُجاهد حَكَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي المُصَنّف عَنْهُم وَفِي مُسْند الدَّارمِيّ من حَدِيث حَكِيم مَرْفُوعا " أفضل الصَّدَقَة على ذِي الرَّحِم الْكَاشِح " وَفِيه جَوَاز الافتخار بالمواهب الربانية والتحدث بنعم الله تَعَالَى وَفِيه جَوَاز الِاسْتِخْلَاف فِي الصَّدَقَة لَا سِيمَا فِي التَّطَوُّع لِأَن فِيهِ نوع أسرار وَفِيه أَن للمتصدق جَزَاء مَا نَوَاه سَوَاء صَادف الْمُسْتَحق أَو لَ
    ....
    (8/290)
    الَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَأَن البُخَارِيّ أَرَادَ بِهَذِهِ مُعَارضَة مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عَبَّاس بن عبد الرَّحْمَن الْمدنِي، قَالَ: خصلتان لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يليهما إِلَى أحد من أَهله: كَانَ يناول الْمِسْكِين بِيَدِهِ، وَيَضَع الطّهُور لنَفسِهِ. وَفِي (التَّرْغِيب) للجوزي، بِسَنَد صَالح عَن ابْن عَبَّاس: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكل طهوره وَلَا صدقته الَّتِي يتَصَدَّق بهَا إِلَى أحد، يكون هُوَ الَّذِي يتولاهما بِنَفسِهِ. انْتهى. قلت: الَّذِي يظْهر من كَلَامه أَن الْمُتَصَدّق بِنَفسِهِ والمأمور بِالصَّدَقَةِ عَنهُ كِلَاهُمَا فِي الْأجر سَوَاء على مَا يُشِير إِلَيْهِ
    .....
    (8/294)
    وَحَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة بن حزَام بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي الْأَسدي الْمَكِّيّ ولد فِي بَاطِن الْكَعْبَة عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ وَفِي الْإِسْلَام أَيْضا سِتِّينَ وَأعْتق مائَة رَقَبَة وَحمل على مائَة بعير فِي الْجَاهِلِيَّة وَحج فِي الْإِسْلَام وَمَعَهُ مائَة بَدَنَة ووقف بِعَرَفَة بِمِائَة رَقَبَة فِي أَعْنَاقهم أطواق الْفضة منقوش فِيهَا عُتَقَاء الله عَن حَكِيم بن حزَام وَأهْدى ألف شَاة وَمَات بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ أَو أَربع وَخمسين
    ........
    (8/294)
    يفَ طَابَ للنووي تَقْدِيم الزَّوْجَة على الْوَلَد وَالْولد بضعَة من الْأَب وَالزَّوْجَة أَجْنَبِيَّة ثمَّ يُعلل مَا قَالَه بقوله لِأَن نَفَقَتهَا آكِد لِأَنَّهَا لَا تسْقط بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلَا بالإعسار وَهَذَا أَيْضا عَجِيب مِنْهُ لِأَن نَفَقَتهَا صلَة فِي نفس الْأَمر وَهِي على شرف السُّقُوط وَنَفَقَة الْوَلَد حتم لَا تسْقط
    .......
    (8/297)
    الَ ابْن بطال: الامتنان مُبْطل لأجر الصَّدَقَة. قَالَ تَعَالَى: {لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى} (الْبَقَرَة: 462) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يكون الْمَنّ غَالِبا إلاَّ عَن الْبُخْل وَالْكبر وَالْعجب ونسيان منَّة الله تَعَالَى فِيمَا أنعم الله عَلَيْهِ، فالبخيل تعظم فِي نَفسه الْعَطِيَّة، وَإِن كَانَت حقيرة فِي نَفسهَا، وَالْعجب يحملهُ على النّظر لنَفسِهِ بِعَين العظمه وَأَنه منعم بِمَالِه عَن الْمُعْطِي، وَالْكبر يحملهُ على أَن يحقر الْمُعْطى لَهُ وَإِن كَانَ فِي نَفسه فَاضلا، وَمُوجب ذَلِك كُله الْجَهْل ونسيان منَّة الله تَعَالَى فِيمَا أنعم عَلَيْهِ، وَلَو نظر مصيره لعلم أَن الْمِنَّة للآخذ لما يزِيل عَن الْمُعْطِي من إِثْم الْمَنْع وذم الْمَانِع وَلما يحصل لَهُ من الْأجر الجزيل وَالثنَاء الْجَمِيل. انْتهى
    ............
    (8/301)
    قَالَ ابْن قرقول: الأغاليط. صعاب الْمسَائِل ودقاق النَّوَازِل الَّتِي يغلط فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لَيْسَ بالأغاليط لَيْسَ بالصغير من الْأَمر واليسير الرزية.

    ......
    (8:/310)
    لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن الرب، عز وَجل: (وَمَا تقرب إِلَى عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ) . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، عَن بعض الْعلمَاء: ثَوَاب الْفَرْض يزِيد على ثَوَاب النَّافِلَة بسبعين دَرَجَة.
    ......
    ..........
    ........
    ...........

    الحمد لله "

  2. #242
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الحمد لله
    " تلخيص المجلد التاسع " من " عمدة القاري " لبدر الدين العيني رحمه الله
    الموافق : الأربعاء 28/ محرم / 1442 هجري
    الموافق : 16/ سبتمبر / 2020 ميلادي

    المجلد التاسع "
    (9/9)
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (كتاب الْعِلَل) : سَأَلت مُحَمَّدًا عَن حَدِيث سَالم عَن أَبِيه كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتاب الصَّدَقَة؟فَقَالَ: أَرْجُو أَن يكون مَحْفُوظًا، وسُفْيَان بن حُسَيْن صَدُوق. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَيفَ سَاغَ للْبُخَارِيّ أَن يعلق هَذَا الحَدِيث ممرضا، وَهُوَ نقض لما يَقُوله المحدثون. قلت: لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يلْزم من تَحْسِين التِّرْمِذِيّ إِيَّاه أَن يكون حسنا عِنْده.
    ........
    (9/10)
    سْتدلَّ بِهِ لِأَحْمَد على أَن من كَانَ لَهُ مَاشِيَة فِي بلد لَا تبلغ النّصاب كعشرين شَاة، مثلا بِالْكُوفَةِ، وَمثلهَا بِالْبَصْرَةِ أَنَّهَا لَا تضم بِاعْتِبَار كَونهَا ملك رجل وَاحِد وَيُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن الْجمع والتفريق أَن يكون فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان،وَعَن هَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر: خَالفه الْجُمْهُور فَقَالُوا: يجب على صَاحب المَال زَكَاة مَاله وَلَو كَانَ فِي بلدان شَتَّى، وَيخرج مِنْهُ الزَّكَاة
    .............
    (9/11)
    وأعجب الْأُمُور أَن الْبَيْهَقِيّ إِذا كَانَ الحَدِيث لَهُم يسكت عَن ابْن لَهِيعَة وَمثله، وَإِذا كَانَ عَلَيْهِم يتَكَلَّم فيهم بالباع والذراع.
    .........
    (9/15)
    إِن من أمعن النّظر فِي تراجم هَذَا الْكتاب وَمَا أودعهُ فِيهَا من أسرار الْمَقَاصِد استبعد أَن يفعل أَو يضع لفظا لغير معنى أَو يرسم فِي الْبَاب خَبرا يكون غَيره بِهِ أقعد وَأولى، وَإِنَّمَا قصد بِذكر مَا لم يترجم بِهِ أَن يُقرر أَن الْمَقْصُود إِذا وجد الْأَعْلَى مِنْهُ أَو الأنقص شرع الْجبرَان كَمَا شرع ذَلِك فِيمَا يتضمنه هَذَا الْخَبَر من ذكر الْأَسْنَان، فَإِنَّهُ لَا فرق بَين فقد بنت مَخَاض وَوُجُود الْأَكْمَل مِنْهَا،
    ...........
    (9/16)
    وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي كِتَابه (المسالك شرح موطأ مَالك) : ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَاشِيَة ثَلَاثَة كتب: كتاب أبي بكر، وَكتاب آل عَمْرو بن حزم، وَكتاب عمر بن الْخطاب، وَعَلِيهِ عول مَالك لطول مُدَّة خِلَافَته وسعة بَيْضَة الْإِسْلَام فِي أَيَّامه وَكَثْرَة مصدقيه، وَمَا من أحد اعْترض عَلَيْهِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَقر بِالْمَدِينَةِ وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل مَعَ أَنه رِوَايَة سَائِر أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ أَبُو الْحَارِث: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كتاب عَمْرو بن حزم فِي الصَّدقَات صَحِيح وَإِلَيْهِ أذهب.
    ..........
    (9/26)
    وَقد جرت عَادَة البُخَارِيّ إِذا وقف على لَفْظَة غَرِيبَة تطابق كلمة فِي الْقُرْآن نقل تَفْسِير تِلْكَ الْكَلِمَة الَّتِي من الْقُرْآن تكثيرا للفائدة وتنبيها على مَا وَقع من ذَلِك فِي الْقُرْآن
    ...........
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَفِيه رد لما يرْوى عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،إِنَّه قاال: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فترغبوا فِي الدُّنْيَا)
    ..
    (9/30)
    يجوز أَن يُقَال: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول،كَمَا يُقَال: ءن الله تَعَالَى قَالَ، خلافًا لما قَالَه مطرف بن عبد الله بن الشخير،إِذْ قَالَ: لَا يُقَال الله وَتَعَالَى يَقُول،إِنَّمَا يُقَال: قَالَ الله، أَو الله، عز وَجل، كَأَنَّهُ ينجر إِلَى اسْتِئْنَاف القَوْل. وَقَول الله قديم، وَكَأَنَّهُ ذهل عَن قَوْله عز وَجل {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل} (
    ..........
    (9/33)
    أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب وضعفاء الأهلين أفضل مِنْهَا على سَائِر النَّاس إِذا كَانَت صَدَقَة تطوع، وَيدل على ذَلِك قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَك أَجْرَانِ: أجر الْقَرَابَة وَالصَّدَََقَة) . وَقَالَ لميمونة حِين أعتقت جَارِيَة لَهَا (أما إِنَّك لَو أعطيتهَا أخوالك كَانَ أعظم لأجرك) ذكره البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْهِبَة.
    ..........
    (9/33)
    مَسْأَلَة الْحلِيّ فَفِيهَا خلاف بَين الْعلمَاء،فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري: تجب فِيهَا الزَّكَاة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر ابْن الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَبِه قَالَ سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَمُحَمّد بن سِيرِين وَجَابِر بن زيد وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وطاووس وَمَيْمُون بن مهْرَان وَالضَّحَّاك وعلقمة وَالْأسود وَعمر بن عبد الْعَزِيز وذر الْهَمدَانِي وَالْأَوْزَاعِي ّ وَابْن شبْرمَة وَالْحسن بن حَيّ،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَابْن حزم: الزَّكَاة وَاجِبَة بِظَاهِر الْكتاب وَالسّنة، وَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،فِي أظهر قوليه: لَا تجب الزَّكَاة فِيهَا، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَعَائِشَة وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَالشعْبِيّ، وَكَانَ الشَّافِعِي يُفْتِي بِهَذَا فِي الْعرَاق وَتوقف بِمصْر،وَقَالَ: هَذَا مِمَّا استخير الله فِيهِ. وَقَالَ اللَّيْث: مَا كَانَ من حلي يلبس ويعار فَلَا زَكَاة فِيهِ، وَإِن اتخذ للتحرز عَن الزَّكَاة فَفِيهِ الزَّكَاة،وَقَالَ أنس: يزكّى عَاما وَاحِدًا لَا غير.
    وَاسْتدلَّ من أسقط الزَّكَاة بِحَدِيث جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لَيْسَ فِي الْحلِيّ زَكَاة، ذكره فِي (الإِمَام) وَعَن جَابر أَنه كَانَ يرى الزَّكَاة فِي كثير الْحلِيّ دون قليلها،
    عَن عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: كَانَت تلِي بَنَات أُخْتهَا يتامى فِي حجرها فَلَا تخرج من حليهن الزَّكَاة، وَأخرج الدَّارَقُطْنِي ّ عَن شريك عَن عَليّ بن سُلَيْمَان،قَالَ: سَأَلت أنس بن مَالك عَن الْحلِيّ،فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ زَكَاة. وروى الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ من جِهَة: أخبرنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار،قَالَ: سَمِعت ابْن خَالِد يسْأَل جَابر بن عبد الله عَن الْحلِيّ أفيه زَكَاة؟فَقَالَ جَابر: لَا، وَإِن كَانَ يبلغ ألف دِينَار. وَأخرج الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر عَن أَسمَاء بنت أبي بكر أَنَّهَا كَانَت تحلي بناتها الذَّهَب وَلَا تزكيه نَحوا من خمسين ألف.
    وَاحْتج من رأى فِيهَا الزَّكَاة بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن امْرَأَة أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهَا بنت لَهَا وَفِي يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب،فَقَالَ لَهَا: أتعطين زَكَاة هَذَا؟قَالَت: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَن يسورك الله بهما يَوْم الْقِيَامَة سِوَارَيْنِ من نَار؟قَالَت: فخلعتهما فألقيتهما إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَت: هما لله وَلِرَسُولِهِ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ،وَقَالَ: وَلَا يَصح فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. قلت: قَالَ ابْن الْقطَّان فِي كِتَابه: إِسْنَاده صَحِيح،وَقَالَ الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده لَا مقَال فِيهِ
    .........
    (9/40)
    وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد: مِثَال المَال مِثَال الْحَيَّة الَّتِي فِيهَا ترياق نَافِع وسم ناقع، فَإِن أَصَابَهَا المعزم الَّذِي يعرف وَجه الِاحْتِرَاز من شَرها وَطَرِيق اسْتِخْرَاج ترياقها النافع كَانَت نعْمَة، وَإِن أَصَابَهَا السوادي الْغَنِيّ فَهِيَ عَلَيْهِ بلَاء مهلك.
    ........
    (9/45)
    وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَأما قَول أبي حنيفَة: لَا يُعطى الْغَازِي من الزَّكَاة إلاَّ أَن يكون مُحْتَاجا، فَهُوَ خلاف ظَاهر للْكتاب وَالسّنة،فَأَما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {وَفِي سَبِيل الله} (التَّوْبَة: 06) . وَأما السّنة فروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ إلاَّ لخمسة: لعامل عَلَيْهَا، أَو لغاز فِي سَبِيل الله، أَو غَنِي اشْتَرَاهَا بِمَالِه، أَو فَقير تصدق عَلَيْهِ فأهدى لَغَنِيّ إو غَارِم) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم،وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ،وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُرْسلا فَإِن قلت: مَا أحسن الْأَدَب سِيمَا مَعَ الأكابر، وَأَبُو حنيفَة لم يُخَالف الْكتاب وَلَا السّنة، وَإِنَّمَا عمل بِالسنةِ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ،وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تحل
    الصدة لغني )
    ........
    (9/52)
    قَوْله: (كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع) أَي: كمن بِهِ الْجُوع الْكَاذِب، وَقد يُسمى بجوع الْكَلْب كلما ازْدَادَ أكلا ازْدَادَ جوعا لِأَنَّهُ يَأْكُل من سقم كلما أكل ازْدَادَ سقما وَلَا يجد شبعا وَيَزْعُم أهل الطِّبّ أَن ذَلِك من غَلَبَة السَّوْدَاء،ويسمونها: الشَّهْوَة الْكَلْبِيَّة، وَهِي صفة لمن يَأْكُل وَلَا يشْبع.
    الظَّاهِر أَنه من غَلَبَة السَّوْدَاء وشدتها كلما ينزل الطَّعَام فِي معدته يَحْتَرِق وإلاَّ فَلَا يتَصَوَّر أَن يسع فِي الْمعدة أَكثر مَا يسع فِيهِ،وَقد ذكر أهل الْأَخْبَار أَن رجلا من أهل الْبَادِيَة أكل جملا وَامْرَأَته أكلت فصيلاً ثمَّ أَرَادَ أَن يُجَامِعهَا فَقَالَت: بيني وَبَيْنك جمل وفصيل كَيفَ يكون ذَاك
    ..........
    (9/53)
    لْغَالِب من النَّاس لَا يعرف الْبركَة إلاَّ فِي الشَّيْء الْكثير، فَبين بالمثال الْمَذْكُور أَن الْبركَة هِيَ خلق من خلق الله تَعَالَى، وَضرب لَهُم الْمثل بِمَا يعهدون بِالْأَكْلِ إِنَّمَا يُؤْكَل ليشبع فَإِذا أكل وَلم يشْبع كَانَ عناء فِي حَقه بِغَيْر فَائِدَة، وَكَذَلِكَ المَال لَيست الْفَائِدَة فِي عينه وَإِنَّمَا هِيَ لما يتَحَصَّل بِهِ من الْمَنَافِع، فَإِذا كثر المَال عِنْد الْمَرْء بِغَيْر تَحْصِيل مَنْفَعَة كَانَ وجوده كَالْعدمِ.
    ...........
    (9/55)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلفُوا فِيمَن جَاءَهُ مَال: هَل يجب قبُوله؟ الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه يسْتَحبّ فِي غير عَطِيَّة السُّلْطَان، وَأما عطيته فَالصَّحِيح أَنه إِن غلب الْحَرَام فِيمَا فِي يَده فَحَرَام،وإلاَّ فمباح وَقَالَت طَائِفَة: الْأَخْذ وَاجِب من السُّلْطَان لقَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . فَإِذا لم يَأْخُذهُ فَكَأَنَّهُ لم يأتمر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَيْسَ معنى هَذَا الحَدِيث فِي الصَّدقَات، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَال الَّتِي يقسمها الإِمَام على أَغْنِيَاء النَّاس وفقرائهم، فَكَانَت تِلْكَ الْأَمْوَال يعطاها النَّاس لَا من جِهَة الْفقر، وَلَكِن من حُقُوقهم فِيهَا،فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر حِين أعطَاهُ قَوْله: (أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أعطَاهُ لِمَعْنى غير الْفقر،ثمَّ قَالَ لَهُ: خُذْهُ فتموله، كَذَا رَوَاهُ شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، فَدلَّ أَن ذَلِك لَيْسَ من أَمْوَال الصَّدقَات، لِأَن الْفَقِير لَا يَنْبَغِي أَن يَأْخُذهُ من الصَّدقَات مَا يَتَّخِذهُ مَالا كَانَ عَن مَسْأَلَة أَو غير مَسْأَلَة.
    ..........
    (9/60)
    (إِضَاعَة الْأَمْوَال) ، وَهُوَ أَن يتْركهُ من غير حفظ لَهُ فيضيع، أَو يتْركهُ حَتَّى يفْسد، أَو يرميه إِذا كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاوله، أَو بِأَن يرضى بِالْغبنِ، أَو يُنْفِقهُ فِي الْبناء واللباس والمطعم بإسراف، أَو يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، أَو يُسلمهُ لخائن أَو مبذر، أَو يموه الْأَوَانِي بِالذَّهَب أَو يطرز الثِّيَاب بِهِ، أَو يذهِّب سقوف الْبَيْت، فَإِنَّهُ من التضييع الْفَاحِش لِأَنَّهُ لَا يُمكن تخليصه مِنْهُ وإعادته إِلَى أَصله، وَمِنْه قسْمَة مَا لَا ينْتَفع بقسمته كاللؤلؤة، وَمِنْه الصَّدَقَة وإكثارها وَعَلِيهِ دين لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاء دينه، وَمِنْه سوء الْقيام على مَا يملكهُ كالرقيق إِذا لم يتعهده ضَاعَ، وَمِنْه أَن يتخلى الرجل من كل مَاله وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ غير قوي على الصَّبْر والإطاقة،وَقد يحْتَمل أَن يؤول معنى الإضاعة على الْعَكْس مِمَّا تقدم بِأَن يُقَال: إضاعته: حَبسه عَن حَقه وَالْبخل بِهِ على أَهله كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
    (وَمَا ضَاعَ مَال أورث الْمجد أَهله ... وَلَكِن أَمْوَال الْبَخِيل تضيع)
    ...
    (9/67)
    ذكر الْكَلْبِيّ فِي كِتَابه (أَسمَاء الْبلدَانِ) أَن سلمى بنت حام بن حمى بن برارة من بني عمليق كَانَت لَهَا حاضنة يُقَال لَهَا العوجاء، وَكَانَت الرَّسُول بَينهَا وَبَين أجأ بن عبد الْحَيّ من العماليق، فعشقها فهرب بهَا وبحاضنتها إِلَى مَوضِع جبل طييء، وبالجبلين قوم من عَاد، وَكَانَ لسلمى أخوة فجاؤوا فِي طلبَهَا فلحقوهم بِموضع الجبلين، فَأخذُوا سلمى فنزعوا عينهَا ووضعوها على الْجَبَل، وكتف أجأ، وَكَانَ أول من كتف وَوضع على الْجَبَل الآخر، فَسُمي بهَا الجبلان، أجأ وسلمى. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أجأ، بِفَتْح أَوله وثانيه على وزن فعل يهمز وَلَا يهمز وَيذكر وَيُؤَنث، وَهُوَ مَقْصُور فِي كلا الْوَجْهَيْنِ من همزه وَترك همزه. وَقَالَ بَعضهم: وَيُقَال: إِن الجبلين سميا باسم رجل وَامْرَأَة من العماليق،قلت: الْكَلْبِيّ قد سماهما كَمَا ذكرنَا.
    ........
    (9/68)
    مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث جَابر: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْخرص،وَقَالَ: أَرَأَيْتُم إِن هلك التَّمْر أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل مَال أَخِيه بِالْبَاطِلِ؟) والحظر بعد الْإِبَاحَة عَلامَة النّسخ. وَقَوله: والخرص عمل بِهِ ... إِلَى قَوْله: إلاَّ الشّعبِيّ، مُسلم لكنه لَيْسَ على الْوَجْه الَّذِي ذَكرُوهُ، وَإِنَّمَا وَجهه أَنهم فعلوا ذَلِك ليعلم مِقْدَار مَا فِي أَيدي النَّاس من الثِّمَار فَيُؤْخَذ مثله بِقَدرِهِ فِي أَيَّام الصرام لَا أَنهم يملكُونَ شَيْئا مَا يجب لله فِيهِ بِبَدَل لَا يَزُول ذَلِك الْبَدَل
    .....
    (9/69)
    قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سيارة المنعي، وَعبد الله بن عَمْرو،قَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث ابْن عمر فِي إِسْنَاده مقَال، وَلَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب كثير شَيْء، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم، وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: لَيْسَ فِي الْعَسَل شَيْء. انْتهى. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِحَدِيث ابْن عمر هَذَا،وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (كتب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أهل الْيمن أَن يُؤْخَذ من الْعَسَل الْعشْر) ، وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن الْمُحَرر، بتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة وتكرارها، وَهُوَ مَتْرُوك. قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِثِقَة،وَقَالَ أَحْمد: ترك النَّاس حَدِيثه،وَقَالَ الْجوزجَاني: هَالك،وَقَالَ ابْن حبَان: من خِيَار عباد الله إلاَّ أَنه كَانَ يكذب وَلَا يعلم، ويقلب الْأَخْبَار وَلَا يفهم. وروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ حَدِيث أبي سيار المنعي،قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله إِن لي نخلا! قَالَ: إِذن تعشر؟قلت: إحم لي جبلة، فحماه لي) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ،وَقَالَ: وَهَذَا أصح مَا رُوِيَ فِي وجوب الْعشْر فِيهِ، وَهُوَ مُنْقَطع. قَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا فَقَالَ: حَدِيث مُرْسل،وَإِنَّمَا قَالَ: مُرْسل، لِأَن فِيهِ سُلَيْمَان بن مُوسَى يروي عَن أبي سيارة، وَسليمَان لم يُدْرِكهُ،
    وَقَالَ شَيخنَا أَيْضا: حكى التِّرْمِذِيّ عَن أَكثر أهل الْعلم وجوب الزَّكَاة فِي الْعَسَل، وسمى مِنْهُم: أَحْمد وَإِسْحَاق، وَفِيه نظر، فَإِن الَّذين لم يَقُولُوا بِالْوُجُوب: مَالك وَالشَّافِعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح بن حَيّ وَأَبُو بكر بن الْمُنْذر وَدَاوُد، وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة: عبد الله بن عمر، وَمن التَّابِعين: الْمُغيرَة بن حَكِيم وَعمر بن عبد الْعَزِيز. وَقَالَ: وَفرق أَبُو حنيفَة بَين أَن يكون النَّحْل فِي أَرض الْعشْر وَبَين أَن يكون فِي أَرض الْخراج، فَإِن كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِيهِ الزَّكَاة، وَإِن كَانَ فِي أَرض الْخراج فَلَا زَكَاة فِيهِ، قل أَو كثر. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا كَانَ فِي أَرض الْعشْر فَفِي قَلِيل الْعَسَل وَكَثِيره الْعشْر، وَحكى عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من الْعَسَل عشر، وَحكى ابْن حزم عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا بلغ الْعَسَل عشرَة أَرْطَال فَفِيهِ رَطْل وَاحِد، وَكَذَا مَا زَاد فَفِيهِ الْعشْر، والرطل هُوَ الفلفلي. قَالَ: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِذا بلغ الْعَسَل خَمْسَة أفراق فَفِيهِ الْعشْر، وإلاَّ فَلَا. قَالَ: وَالْفرق سِتَّة وَثَلَاثُونَ رطلا فلفلية
    رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: لَيْسَ فِي الْخَيل وَلَا فِي الرَّقِيق وَلَا فِي الْعَسَل صَدَقَة؟ قلت: الْعمريّ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ. فَإِن قلت: قَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ فِي زَكَاة الْعَسَل حَدِيث يَصح؟ قلت: هَذَا لَا يقْدَح مَا لم يبين عِلّة الحَدِيث والقادح فِيهِ، وَقد رَوَاهُ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو دَاوُد، وَلم يتَكَلَّم عَلَيْهِ، فَأَقل حَاله أَن يكون حسنا وَهُوَ حجَّة، وَلَا يلْزمنَا قَول البُخَارِيّ لِأَن الصَّحِيح لَيْسَ مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَكم من حَدِيث صَحِيح
    لم يُصَحِّحهُ البُخَارِيّ، وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَونه غير صَحِيح أَن لَا يحْتَج بِهِ، فَإِن الْحسن، وَإِن لم يبلغ دَرَجَة الصَّحِيح، فَهُوَ يحْتَج بِهِ، وَلِأَن النَّحْل تتَنَاوَل من الْأَنْوَار وَالثِّمَار وفيهَا الْعشْر
    ..........
    (9/75)
    وَقَالَ ابْن بطال: وَقَول أبي حنيفَة خلاف السّنة، وَالْعُلَمَاء،قَالَ: وَقد تنَاقض فِيهَا لِأَنَّهُ اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرقة ربع الْعشْر) ،مَعَ قَوْله: (لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة) ، وَلم يَسْتَعْمِلهُ فِي حَدِيث الْبَاب مَعَ مَا بعده، وَكَانَ يلْزمه القَوْل بِهِ. انْتهى. قلت: قَوْله: خلاف السّنة، بَاطِل لِأَنَّهُ احْتج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ بِحَدِيث الْبَاب، كَمَا ذكرنَا، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن بطال خلاف الْقُرْآن،لِأَن عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده} (الْأَنْعَام: 141) . يتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكثير، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَوله: وَخلاف الْعلمَاء، أَيْضا بَاطِل، لِأَن قَول أبي حنيفَة هُوَ قَول من ذَكَرْنَاهُمْ الْآن، فَكيف يَقُول بترك الْأَدَب خلاف الْعلمَاء؟وَقَوله: وَقد تنَاقض، غير صَحِيح، لِأَن من نقل ذَلِك من أَصْحَابه لم يقل أحد مِنْهُم إِنَّه اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر، وَأَصْحَابه أدرى بِمَا قَالَه وَبِمَا ذهب إِلَيْهِ، وَلما نقل صَاحب (التَّوْضِيح) مَا قَالَه ابْن بطال أظهر النشاط بذلك،وَقَالَ: وَفِي حَدِيث جَابر: لَا زَكَاة فِي شَيْء من الْحَرْث حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوسق، فَإِذا بلغَهَا فَفِيهِ الزَّكَاة، ذكرهَا ابْن التِّين،وَقَالَ: هِيَ زِيَادَة من ثِقَة فَقبلت،وَفِي مُسلم من حَدِيث جَابر: (وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من التَّمْر صَدَقَة) ،وَفِي رِوَايَة من حَدِيث أبي سعيد: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوساق من تمر وَلَا حب صَدَقَة) . وَفِي رِوَايَة: (لَيْسَ فِي حب وَلَا تمر صَدَقَة) ، حَتَّى يبلغ خَمْسَة أوساق. انْتهى.
    قَالَ النَّوَوِيّ: لَا خلاف بَين الْمُسلمين أَنه لَا زَكَاة فِيمَا دون خَمْسَة أوسق إلاَّ مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَبَعض السّلف: إِنَّه تجب الزَّكَاة فِي قَلِيل الحَبِّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل، منابذ لصري
    الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. قلت: لَيْت شعري كَيفَ تلفظ بِهَذَا الْكَلَام مَعَ شهرته بالزهد والورع؟ وعجبي كل الْعجب يَقُول هَذَا مَعَ اطِّلَاعه على مستنداته من الْكتاب وَالسّنة، وَلَا ينْفَرد حطه على أبي حنيفَة وَحده، بل على كل من كَانَ مذْهبه مثل مذْهبه.

    ........
    (9/76)
    وَقَالَ ابْن بطال: نَاقض أَبُو حنيفَة حَيْثُ اسْتعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي مَسْأَلَة الرقة، وَلم يسْتَعْمل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، كَمَا أَنه أوجب الزَّكَاة فِي الْعَسَل وَلَيْسَ فِيهِ خبر وَلَا إِجْمَاع. قلت: كَيفَ يسْتَعْمل الْمُجْمل والمفسر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَهُوَ غير قَائِل بِهِ هُنَا لعدم الْإِجْمَال فِيهِ، وَمن أَيْن الْإِجْمَال ودلالته ظَاهِرَة، لِأَن دلَالَته على إِفْرَاده كدلالة الْخَاص على فَرد وَاحِد، فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّفْسِير، وَلَفظ الصَّدَقَة فِي الزَّكَاة أظهر من الْعشْر فَصَرفهُ إِلَيْهَا أولى، وَلَا كَذَلِك صَدَقَة الرقة. وَلم يفهم ابْن بطال الْفرق بَينهمَا،وَكَيف يَقُول ابْن بطال: كَمَا أَنه أوجب الزَّكَاة وَلَيْسَ فِيهِ خبر؟ وَقد ذكرنَا عَن التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (فِي الْعَسَل فِي كل عشرَة أزق زق) ، وَذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب جملَة أَحَادِيث تدل على الْوُجُوب،وَقَوله: وَلَا إِجْمَاع، كَلَام واهٍ، لِأَن الْمُجْتَهد لَا يرى بِالْوُجُوب فِي شَيْء إلاَّ إِذا كَانَ فِيهِ إِجْمَاع، وَهَذَا لم يقل بِهِ أحد.
    .........
    (9/77)
    وَقَالَ ابْن بطال: الأوسق الْخَمْسَة هِيَ الْمِقْدَار الْمَأْخُوذ مِنْهُ، وَأوجب أَبُو حنيفَة فِي قَلِيل مَا تخرجه الأَرْض وَكَثِيره، فَإِنَّهُ خَالف الْإِجْمَاع. قلت: لَيْت شعري كَيفَ يتَلَفَّظ بِهَذَا الْكَلَام؟ وَمن أَيْن الْإِجْمَاع حَتَّى خَالفه أَبُو حنيفَة؟ وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة ذَهَبُوا إِلَى مَا قَالَه أَبُو حنيفَة،قَالَ: وَكَذَلِكَ أوجبهَا فِي الْبُقُول والرياحين وَمَا لَا يوسق كالرمان، وَالْجُمْهُور على خِلَافه. قلت: أوجب أَبُو حنيفَة فِي الْبُقُول،يَعْنِي: الخضروات بِعُمُوم حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور عَن قريب،وبعموم حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِيمَا سقت السَّمَاء والغيم العُشر، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف العُشر) ، رَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأحمد، فَدلَّ عمومها على وجوب العُشر فِي جَمِيع مَا أخرجته الأَرْض من غير قيد وَإِخْرَاج لبَعض الْخَارِج عَن الْوُجُوب وإخلائه عَن حُقُوق الْفُقَرَاء، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي (عارضة الأحوذي) : وَأقوى الْمذَاهب فِي الْمَسْأَلَة
    مَذْهَب أبي حنيفَة دَلِيلا، وأحفظها للْمَسَاكِين، وأولاها قيَاما بشكر النِّعْمَة، وَعَلِيهِ يدل عُمُوم الْآيَة والْحَدِيث،وَقد رام الْجُوَيْنِيّ أَن يخرج عُمُوم الحَدِيث من يَدي أبي حنيفَة بِأَن قَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث لم يَأْتِ للْعُمُوم، وَإِنَّمَا جَاءَ لتفصيل الْفرق بَين مَا يقلّ وَيكثر مؤونته وَأبْدى، فِي ذَلِك وَأعَاد،وَلَيْسَ بممتنع أَن يَقْتَضِي الحَدِيث الْوَجْهَيْنِ: الْعُمُوم وَالتَّفْصِيل، وَذَلِكَ أكمل فِي الدَّلِيل وَأَصَح فِي التَّأْوِيل. انْتهى.
    ......
    (9/80)
    قَالَ ابْن شَدَّاد فِي (أَحْكَامه) : اخْتلف النَّاس فِي تَحْرِيم الصَّدَقَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر ابْن تَيْمِية فِي الصَّدَقَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَيْن، وَللشَّافِعِيّ قَوْلَيْنِ. قَالَ: وَإِنَّمَا تَركهَا تنزها. وَعَن أَحْمد: حل صَدَقَة التَّطَوُّع لَهُ، وَفِي (نِهَايَة الْمطلب) يحرم
    فَرضهَا ونفلها على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَئِمَّة على تَحْرِيمهَا على قرَابَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ الْمَالِكِي: يحل لَهُم فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي حنيفَة.
    .....
    (9/84)
    وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ اسْم هَذَا الْفرس: الْورْد، وَكَانَ لتميم الدَّارِيّ فأهداه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْطَاهُ لعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
    ...........
    (9/93)
    وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي أول (السِّيرَة) : إِن أصل دُخُول الْيَهُود فِي الْيمن فِي زمن أسعد أبي كرب، وَهُوَ تبع الْأَصْفَر
    ......
    (9/95)
    كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (لقد أُوتِيَ مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد) . يُرِيد بِهِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام،وَقيل: لَا يُقَال ذَلِك، إلاَّ فِي حق الرجل الْجَلِيل الْقَدِير، كآل أبي بكر وَآل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،وَقيل: آل الرجل: أَهله،وَالْفرق بَين الْآل والأهل: أَن الْآل قد خص بالأشراف، فَلَا يُقَال آل الحائك وَلَا آل الْحجام. فَإِن قلت: كَيفَ قيل: آل فِرْعَوْن؟قلت: لتصوره بِصُورَة الْأَشْرَاف،وَفِي الصِّحَاح: أصل آل: أول،وَقيل: أهل،وَلِهَذَا يُقَال فِي تصغيره: أهيل.

    ..........
    (9/96)
    وَفِي (كتاب الْأَحْجَار) لأبي الْعَبَّاس التيغاشي: إِن حَيَوَان الْجَوْهَر الَّذِي يتكون فِيهِ مِنْهُ الْكَبِير وَيُسمى الدّرّ، وَمِنْه الصَّغِير وَيُسمى اللُّؤْلُؤ. وَهَذَا الْحَيَوَان يُسمى باليونانين: أرسطورس، يَعْلُو لحم ذَلِك الْحَيَوَان صدفتان ملتصقتان بجسمه، وَالَّذِي يَلِي الصدفتين من لَحْمه أسود، وَله فَم وأذنان وشحم من داخلها إِلَى غَايَة الصدفتين، وَالْبَاقِي رغوة وزبد وَمَاء. وَقيل: إِن الْبَحْر الْمُحِيط يلْحق آخِره أول الْبَحْر المسلوك، وَإِن الرِّيَاح تصفق الَّذِي فِيهِ الدّرّ فِي وَقت ريح الشمَال، فَيصير لموجه رشاش فيلتقمه الصدف عِنْد ذَلِك إِلَى قَعْر الْبَحْر، فيتغرس هُنَاكَ وَيضْرب بعروق فيتشعب مثل الشّجر وَيصير نباتا بعد أَن كَانَ حَيَوَانا
    وَقَالَ ابْن قدامَة: وَلَا زَكَاة فِي الْمُسْتَخْرج من الْبَحْر كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر وَنَحْوه فِي ظَاهر قَول الْخرقِيّ، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد،وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَن فِيهِ الزَّكَاة، لِأَنَّهُ خَارج من مَعْدن التبر
    وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، وَإِنَّمَا هُوَ غنيمَة لمن أَخذه.
    إنَّما جعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرِّكازِ الخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي المَاءِ
    هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، يُرِيد بِهِ الرَّد على الْحسن، وَوَجهه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا جعل الْخمس فِي الرِّكَاز لَا فِي الشَّيْء الَّذِي يصاب فِي المَاء،
    ......
    (9/102)
    (العجماء) أَي: الْبَهِيمَة، وَسميت العجماء لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم،وَعَن أبي حَاتِم: يُقَال لكل من لم يبين الْكَلَام من الْعَرَب والعجم وَالصغَار: أعجم ومستعجم، وَكَذَلِكَ من الطير والبهائم كلهَا،وَالِاسْم: العجمة. قَوْله: (جَبَّار) ،بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الهدر،يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ ضَمَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْجَبَّار الهدر الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَّةَ، وكل مَا أفسد وَأهْلك جَبَّار، ذكره ابْن سَيّده،
    (والبئر جَبَّار) ، مَعْنَاهُ الرجل يحْفر بِئْرا بفلاة أَو بِحَيْثُ يجوز لَهُ من الْعمرَان فَيسْقط فِيهَا رجل أَو يسْتَأْجر من يحْفر لَهُ بِئْرا فِي ملكه فينهار عَلَيْهِ فَلَا شيى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَعْدن إِذا اسْتَأْجر من يحفره،
    وَقَالَ أهل الْيمن يَكْتُبُونَ: النَّار، بِالْبَاء وَمَعْنَاهُ عِنْدهم أَن من استوقد نَارا يما يجوز لَهُ فتعدت إِلَى مَا لَا يجوز فَلَا شَيْء فِيهِ، وَرُوِيَ فِي حَدِيث جَابر، والجب جَبَّار، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد: الْبِئْر لَا النَّار، كَمَا هُوَ فِي الْكتب السِّتَّة الْمَشْهُورَة، وَورد فِي بعض طرق الحَدِيث: الرجل جَبَّار، فاستدل بِهِ من فرق فِي حَالَة كَون راكبها مَعهَا بَين أَن يضْرب بِيَدِهَا أَو يرمح برجلها، فَإِن أفسدت بِيَدِهَا ضمنه، وَإِن رمحت برجلها لَا يضمن
    ......
    (9/102)
    وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على أَن جِنَايَة الْبَهَائِم بِالنَّهَارِ لَا ضَمَان فِيهَا إِذا
    لم يكن مَعهَا أحد، فَإِن كَانَ مَعهَا رَاكب أَو سائق أَو قَائِد، فجمهور الْعلمَاء على ضَمَان مَا أتلفت،وَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: لَا ضَمَان بِكُل حَال، سَوَاء كَانَ بِرَجُل أَو بقدم لإِطْلَاق النَّص، إلاَّ أَن يحملهَا الَّذِي فَوْقهَا على ذَلِك، أَو يَقْصِدهُ فَيكون حِينَئِذٍ كالآلة، وَكَذَا إِذا تعدى فِي ربطها أَو إرسالها فِي مَوضِع لَا يجب ربطها فِيهِ. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة بِالْإِطْلَاقِ، يَعْنِي سَوَاء كَانَ إتلافها بِيَدِهَا أَو رجلهَا أَو فمها، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ يجب ضَمَانه فِي مَال الَّذِي هُوَ مَعهَا، سَوَاء كَانَ مَالِكهَا أَو مُسْتَأْجرًا أَو مستعيرا أَو غَاصبا أَو مودعا أَو وَكيلا أَو غَيره، إلاَّ أَن تتْلف آدَمِيًّا فَتجب دِيَته على عَاقِلَة الَّذِي مَعهَا، وَالْكَفَّارَة فِي مَاله
    (9/110)
    قَالَ ابْن بزيزة: قَالَ قوم من سلف الْعلمَاء: إِذا أكمل الْجَنِين فِي بطن أمه مائَة وَعشْرين يَوْمًا قبل انصداع الْفجْر من لَيْلَة الْفطر وَجب إِخْرَاج زَكَاة الْفطر عَنهُ كَأَنَّهُ اعْتمد على حَدِيث ابْن مَسْعُود: (إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ صباحا) الحَدِيث
    ...........
    (9/110)
    (من الْمُسلمين) : تكلم الْعلمَاء فِيهِ، قَالَ الشَّيْخ فِي (الإِمَام) : وَقد اشتهرت هَذِه اللَّفْظَة من رِوَايَة مَالك حَتَّى قيل: إِنَّه تفرد بهَا. قَالَ أَبُو قلَابَة: عبد الْملك بن مُحَمَّد لَيْسَ أحد يَقُول فِيهِ من الْمُسلمين غير مَالك،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد تَخْرِيجه لَهُ: زَاد مَالك (من الْمُسلمين) ،وَقد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَلم يَقُولُوا فِيهِ: من الْمُسلمين، وتبعهما على ذَلِك القَوْل جمَاعَة. قَالَ الشَّيْخ: وَلَيْسَ بِصَحِيح، فقد تَابع مَالِكًا هَذِه اللَّفْظَة من الثِّقَات سَبْعَة،وهم: عمر بن نَافِع رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان رَوَاهُ مُسلم عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر من رَمَضَان على كل نفس من الْمُسلمين. .) الحَدِيث، والمعلى بن أَسد رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير عَن كل مُسلم) الحَدِيث، وَعبد الله بن عمر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من بر على كل حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين، وَصَححهُ) ، وَكثير بن فرقد رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا عَنهُ
    وَحكى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع فِيهِ، وَقَالَ ابْن حزم: الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب فَيحرم تَأْخِيرهَا عَن ذَلِك الْوَقْت.
    ...........

  3. #243
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تابع / المجلد التاسع "
    اليوم : الثلاثاء 4 /صفر /1442 هجري
    الموافق : 22/ سبتمبر /2020 ميلادي

    " كتاب الحج "
    وبه نستعين

    (2)
    (9/117)
    وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق فُضَيْل بن غَزوَان عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: لم تكن الصَّدَقَة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا التَّمْر وَالزَّبِيب وَالشعِير وَلم تكن خَاصَّة وَقَالَ ابْن الْمُنْذر أَيْضا: لَا نعلم فِي الْقَمْح خَبرا ثَابتا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعْتَمد عَلَيْهِ، وَلم يكن الْبر بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِك الْوَقْت إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير مِنْهُ، فَلَمَّا كثر فِي زمن الصَّحَابَة رَأَوْا أَن نصف صَاع مِنْهُ يقوم مقَام صَاع من شعير، وهم الْأَئِمَّة، فَغير جَائِز أَن يعدل عَن قَوْلهم إلاَّ إِلَى قَول مثلهم، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن عُثْمَان وَعلي وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأمه أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بأسانيد صَحِيحَة: أَنهم رَأَوْا أَن فِي زَكَاة الْفطر نصف صَاع من قَمح، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن حَدِيث أبي سعيد دَال على أَنه لم يُوَافق على ذَلِك، وَكَذَلِكَ ابْن عمر، فَلَا إِجْمَاع فِي الْمَسْأَلَة، خلافًا للطحاوي.
    قلت: روى الطَّحَاوِيّ أَحَادِيث كَثِيرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن أَصْحَابه من بعده وَعَن تابعيهم من بعدهمْ فِي: أَن صَدَقَة الْفطر من الْحِنْطَة نصف صَاع، وَمِمَّا سوى الْحِنْطَة صَاع، ثمَّ قَالَ: مَا علمنَا أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولامن التَّابِعين روى عَنهُ خلاف ذَلِك، فَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُخَالف ذَلِك، إِذْ كَانَ قد صَار إِجْمَاعًا فِي زمن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى زمن من ذكرنَا من التَّابِعين،
    ما من جعل نصف صَاع فِيهَا بدل صَاع من شعير فقد فعل ذَلِك بِالِاجْتِهَادِ ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد مَا كَانَ عَلَيْهِ من شدَّة الإتباع والتمسك بالآثار وَترك الْعُدُول إِلَى الِاجْتِهَاد مَعَ وجود النَّص. قلت: مَعَ وجود الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة أَن الصَّدَقَة من الْحِنْطَة نصف صَاع، كَيفَ يكون الِاجْتِهَاد؟ وَأَبُو سعيد هُوَ الَّذِي اجْتهد حَتَّى جعل الطَّعَام برا، مَعَ قَوْله: (كُنَّا نخرج على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير. .) الحَدِيث، وَلَا نخرج غَيره، وَمَعَ مُخَالفَته الْآثَار الَّتِي فِيهَا نصف صَاع من بر، كَيفَ ترك الْعُدُول إِلَى الِاجْتِهَاد؟ وَقَوله: مَعَ وجود النَّص غير مُسلم، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده نَص غير صَاع من طَعَام، وَلم يكن عِنْده نَص صَرِيح على أَن الصَّدَقَة من الْبر صَاع
    ...........
    (9/118)
    وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِي (الْعَارِضَة) : وَفِي كتاب مُسلم: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة الْفطر على النَّاس وَقَالَ: إغنوهم عَن سُؤال هَذَا الْيَوْم) ، وَقَالَ: هَذَا قوى فِي الْأَثر، وَلكنه وهم فِي عزوه لمُسلم، وَهَذَا لم يُخرجهُ مُسلم أصلا، وَإِنَّمَا أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ وَالْبَيْهَقِيّ . وَيسْتَحب إخْرَاجهَا يَوْم الْفطر قبل الْخُرُوج إِلَى الصَّلَاة، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالقَاسِم وَمُسلم بن يسَار وَأبي نَضرة وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالْحكم بن عُيَيْنَة ومُوسَى بن وردان وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأهل كوفة، وَلم يحك التِّرْمِذِيّ فِيهِ خلافًا لما أخرج هَذَا الحَدِيث، وَحكى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع فِيهِ، فَقَالَ فِي (معالم السّنَن) : وَهُوَ قَول عَامَّة أهل الْعلم، وَنقل الِاتِّفَاق فِي اسْتِحْبَاب إخْرَاجهَا فِي الْوَقْت الْمَذْكُور. أما جَوَاز تَقْدِيمهَا عَلَيْهِ وتأخيرها عَنهُ، فَالْخِلَاف فِيهِ مَشْهُور،
    ......
    كتاب " الحج "
    (9/124)
    وَقد جمع ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي كتابا فِيهِ أَسمَاء من أردفه سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَه على الدَّابَّة فَبلغ بهم نيفا وَثَلَاثِينَ رجلا
    ........
    (9/125)
    وَالْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات مَا قَالَه شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: إِن السُّؤَال وَقع مَرَّات: مرّة من امْرَأَة عَن أَبِيهَا، وَمرَّة من امْرَأَة عَن أمهَا، وَمرَّة عَن رجل عَن أمه، وَمرَّة من رجل عَن أَبِيه، وَمرَّة من رجل عَن أَخِيه، وَمرَّة فِي السُّؤَال عَن الشَّيْخ الْكَبِير، وَمرَّة فِي الْحَج عَن الْمَيِّت. فَإِن قلت: هَل يعلم السَّائِل عَن هَذَا رجلا كَانَ أَو امْرَأَة؟ قلت: أما الرجل فقد سمي من السَّائِلين، من ذَلِك حُصَيْن بن عَوْف، كَمَا ذكره ابْن مَاجَه وسمى مِنْهُم: أَبُو رزين لَقِيط بن عَامر، كَمَا هُوَ عِنْد أَصْحَاب السّنَن، وَأما النِّسَاء فَلم يسم مِنْهُنَّ أحد إلاَّ فِي رِوَايَة سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَمَّته لم تسم، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ (إِن أحد النِّسَاء، امْرَأَة سِنَان بن سَلمَة الْجُهَنِيّ، سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أمهَا مَاتَت) الحَدِيث. والمرأتان ذكرتا فِي الْحَج عَن الْمَيِّت لَا عَن المعضوب، وَهُوَ بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: الزَّمن الَّذِي لَا حراك بِهِ.
    .......
    (9/126)
    وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور: يجوز الْحَج عَن الْمَيِّت عَن فَرْضه ونذره، سَوَاء أوصى بِهِ أَو لم يوص، وَهُوَ وَاجِب فِي تركته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا يجوز الِاسْتِنَابَة فِي حجَّة التَّطَوُّع على أصح الْقَوْلَيْنِ، والْحَدِيث حجَّة على الْحسن بن حَيّ فِي قَوْله: إِن الْمَرْأَة لَا يجوز أَن تحج عَن الرجل، وَهُوَ حجَّة لمن أجَازه.
    وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: جَوَاز الْحَج عَن غَيره إِذا كَانَ معضوبا، وَلم يجزه مَالك، وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ.
    ........
    (9/127)
    وْله: (لَا صرورة فِي الْإِسْلَام) فقد قَالَ الْخطابِيّ: إِن الصرورة هُوَ الَّذِي أقلع عَن النِّكَاح بِالْكُلِّيَّةِ وَأعْرض عَنهُ كرهبان النَّصَارَى، وَله معنى آخر، وَهُوَ أَنه: الَّذِي لم يحجّ فَيكون مَعْنَاهُ: أَن سنة الدّين أَن لَا يبْقى من النَّاس من يَسْتَطِيع الْحَج إلاَّ ويحج، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن من لم يحجّ
    عَن نَفسه لَا يحجّ عَن غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَبْنِيّ على أَن الْحَج على الْفَوْر أَو التَّرَاخِي، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه على التَّرَاخِي، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن الْحسن، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس. وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف: هُوَ على الْفَوْر، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَقَول جُمْهُور أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَلَا نَص لأبي حنيفَة فِي ذَلِك. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مذْهبه يَقْتَضِي أَنه على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح،ذكره الطرطوشي وَاحْتج لَهُم بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث مهْرَان بن أبي صَفْوَان عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من أَرَادَ الْحَج فليعجل
    .......
    (9/133)
    عبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ شَقِيق عَائِشَة، وَأمّهَا أم رُومَان بنت عَامر، وَكَانَ اسْم عبد الرَّحْمَن فِي الْجَاهِلِيَّة عبد الْعُزَّى،وَقيل: عبد الْكَعْبَة،فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الرَّحْمَن، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة أَحَادِيث اتفقَا على ثَلَاثَة، مَاتَ بالحبشي على اثْنَي عشر ميلًا من مَكَّة، فَحمل وَدفن فِي مَكَّة فِي إمرة مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين
    .............
    (9/134)
    إِنْكَار الْمُهلب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر لَا وَجه لَهُ، فَإِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ فِي (سنَنه) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي،قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد بن أسلم عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه،قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأزواجه فِي حجَّة الْوَدَاع: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر،قَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد وأجمله حج مبرور ثمَّ لُزُوم الْحصْر) . وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لأزواجه: (هَذِه ثمَّ لُزُوم الْحصْر) أَي: إنكن لَا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الْحصْر،هِيَ: جمع الْحَصِير الَّذِي يبسط فِي الْبَيْت، وتضم الصَّاد وتسكن تَخْفِيفًا.

    ..............
    (9/135)
    حَدِيث: تقاتلي عليا وَأَنت لَهُ ظالمة، فَلَيْسَ بِمَعْرُوف، وَالْمَعْرُوف أَن
    هَذَا قَالَه للزبير بن الْعَوام، وَالله أعلم، وَسَنَد حَدِيثه ضَعِيف، وَقَالَ الْمُهلب أَيْضا،قَوْله: (لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور)
    ........
    (9/138)
    د على عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن فِي زعمهم أَن لَا شَيْء على من ترك الْمِيقَات وَلم يحرم، وَهُوَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة، وَهُوَ شَاذ. وَنقل ابْن بطال عَن مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه يرجع من مَكَّة إِلَى الْمِيقَات،وَاخْتلفُوا إِذا رَجَعَ: هَل عَلَيْهِ دم أم لَا؟فَقَالَ مَالك وَالثَّوْري فِي رِوَايَة: لَا يسْقط عَنهُ الدَّم بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن رَجَعَ إِلَيْهِ فلبى فَلَا دم عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَإِن لم يلب فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ الثَّوْريّ فِي رِوَايَة،وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: لَا دم عَلَيْهِ إِذا رَجَعَ إِلَى الْمِيقَات بعد إِحْرَامه على كل وَجه أَي: قبل أَن يطوف، فَإِن طَاف فالدم بَاقٍ، وَإِن رَجَعَ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ لَا يلْزم أَن يكون من الْمَذْكُورَات، بل يَصح من الْجِعِرَّانَة، وَنَحْوهَا. قلت: هِيَ للمكي وَأما الآفاقي فَلَا يَصح لَهُ الْإِحْرَام بهَا إلاَّ من الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة.
    ..........
    (9/140)
    قَالَ الْكرْمَانِي: والمركب الإضافي هُوَ اسْم الْمَكَان، وَقد يقْتَصر على لفظ الْمُضَاف، كَمَا فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم. قلت: النُّكْتَة فِي ذكره هُنَا بِهَذِهِ اللَّفْظَة هِيَ أَن الْمَكَان الَّذِي يُسمى الْقرن موضعان أَحدهمَا فِي هبوط،وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الْمنَازل،وَالْآخر فِي صعُود وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: قرن الثعالب، وَالْمَعْرُوف الأول. وَذكر فِي (أَخْبَار مَكَّة) للفاكهي: أَن قرن الثعالب جبل مشرف على أَسْفَل منى، بَينه وَبَين مَسْجِد منى ألف وَخَمْسمِائة ذِرَاع. وَقيل لَهُ: قرن الثعالب لِكَثْرَة مَا كَانَ يأوي إِلَيْهِ من الثعالب، فَظهر أَن قرن الثعالب لَيْسَ من الْمَوَاقِيت، وَقد وَقع ذكره فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي إتْيَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّائِف يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام وردهم عَلَيْهِ. قَالَ: فَلم استفق إلاَّ وَأَنا بقرن الثعالب ... الحَدِيث، ذكره ابْن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة النَّبَوِيَّة)
    ............
    (9/140)
    قد جمع وَاحِد مَوَاقِيت الْإِحْرَام بنظم،وَهُوَ قَوْله:
    (قرنَ يلملمُ ذُو الحليفة جحفةٌ ... قل: ذاتُ عرقٍ كلُّها مِيقَات)
    (نجدٌ تهامةُ والمدينةُ مغربٌ ... شرقٌ وَهن إِلَى الْهدى مرقات)

    ..............

    (9/141)
    وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا يحل لأحد أَن يحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ قبل الْمَوَاقِيت، فَإِن أحرم أحد قبلهَا وَهُوَ يمر عَلَيْهَا فَلَا إِحْرَام لَهُ وَلَا حج، وَلَا عمْرَة لَهُ إلاَّ أَن يَنْوِي إِذا صَار فِي الْمِيقَات تَحْدِيد إِحْرَام، فَذَلِك جَائِز، وإحرامه حِينَئِذٍ تَامّ
    وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أَحْمد فِي الرجل يخرج لحَاجَة وَهُوَ لَا يُرِيد الْحَج، فجاوز ذَا الحليفة ثمَّ أَرَادَ الْحَج يرجع إِلَى ذِي الحليفة فَيحرم؟ وَبِه قَالَ إِسْحَاق.
    ............
    (9/142)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي مَنَاسِكه: ذَات عرق أول بِلَاد تهَامَة ودونها بميلين وَنصف مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي لبني هِلَال بن عَامر بن صعصعة، وَبهَا بركَة تعرف بقصر الوصيف، وَبهَا من الْآبَار الْكِبَار ثَلَاثَة آبار وآبار صغَار كَثِيرُونَ وبقربه قبر أبي رِغَال، وبالقرب مِنْهَا بُسْتَان مِنْهُ إِلَى مَكَّة ثَمَانِيَة عشر ميلًا.
    ..........
    (9/144)
    احْتج بِهِ طَاوُوس وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد على أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت لَهُم كوقت سَائِر الْبلدَانِ، وَإِنَّمَا يهلون من الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع عوام أهل الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر، وَاخْتلفُوا فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق، فَثَبت أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ شَيْء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْإِثْبَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي وقته على حسب مَا علمه بِالْوَحْي من فتح الْبلدَانِ والأقطار لأمته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زويت لي الأَرْض فَأريت مشارقها وَمَغَارِبهَا) . وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: إِن مِيقَات أهل الْعرَاق ذَات عرق، إلاَّ أَن الشَّافِعِي اسْتحبَّ أَن يحرم الْعِرَاقِيّ من العقيق الَّذِي بحذاء ذَات عرق، وَقَالَ فِي (الْأُم) : لم يثبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَإِنَّمَا أجمع عَلَيْهِ النَّاس، وَهَذَا يدل على أَن مِيقَات ذَات عرق لَيْسَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ. وَبِه قطع الْغَزالِيّ والرافعي فِي (شرح الْمسند) وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَكَذَا وَقع فِي الْمُدَوَّنَة لمَالِك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت: صححت الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة والراقعي فِي (الشَّرْح الصَّغِير) وَالنَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَنه مَنْصُوص عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ:
    احْتج بِهِ طَاوُوس وَابْن سِيرِين وَجَابِر بن زيد على أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت لَهُم كوقت سَائِر الْبلدَانِ، وَإِنَّمَا يهلون من الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع عوام أهل الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر، وَاخْتلفُوا فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق، فَثَبت أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ شَيْء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْإِثْبَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي وقته على حسب مَا علمه بِالْوَحْي من فتح الْبلدَانِ والأقطار لأمته، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زويت لي الأَرْض فَأريت مشارقها وَمَغَارِبهَا) . وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَمن بعدهمْ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: إِن مِيقَات أهل الْعرَاق ذَات عرق، إلاَّ أَن الشَّافِعِي اسْتحبَّ أَن يحرم الْعِرَاقِيّ من العقيق الَّذِي بحذاء ذَات عرق، وَقَالَ فِي (الْأُم) : لم يثبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَإِنَّمَا أجمع عَلَيْهِ النَّاس، وَهَذَا يدل على أَن مِيقَات ذَات عرق لَيْسَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ. وَبِه قطع الْغَزالِيّ والرافعي فِي (شرح الْمسند) وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَكَذَا وَقع فِي الْمُدَوَّنَة لمَالِك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت: صححت الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة والراقعي فِي (الشَّرْح الصَّغِير) وَالنَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَنه مَنْصُوص عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ:
    ......
    .......
    (9/145)
    لظَّاهِر أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي رُجُوعه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرِي فِي النّوم وَهُوَ معرس فِي هَذِه الْبَطْحَاء أَنه قيل لَهُ: إِنَّك ببطحاء مباركة، فَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهَا تبركا بهَا. ويجعلها عِنْد رُجُوعه من مَكَّة مَوضِع مبيته ليبكر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة ويدخلها فِي صدر النَّهَار، وتتقدم أَخْبَار القادمين على أَهْليهمْ فتتهيأ الْمَرْأَة، وَهُوَ فِي معنى كَرَاهِيَة الطروق لَيْلًا من السّفر، ثمَّ هَذِه الصَّلَاة لَيست الصَّلَاة الَّتِي تصلى وَقت الْإِحْرَام، لِأَن الَّذِي يُصَلِّي وَقت الْإِحْرَام سنة، وَهَذِه الصَّلَاة مُسْتَحبَّة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهَذَا عَن مَالك وَغَيره من أهل الْعلم مُسْتَحبّ مستحسن مرغب فِيهِ، وَلَيْسَ بِسنة من سنَن الْحَج وَلَا الْمَنَاسِك الَّتِي تجب بهَا على تاركها فديَة أَو دم، وَلكنه حسن عِنْد جَمِيعهم إِلَّا ابْن عمر، فَإِنَّهُ جعله سنة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: لَو ترك هَذِه الصَّلَاة فَاتَتْهُ الْفَضِيلَة وَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
    ...........
    (9/150)
    قَالَ الْبكْرِيّ: كَذَا يَقُول الْعِرَاقِيُّون َ، وَمِنْهُم من يُخَفف الرَّاء ويسكن الْعين، وَكَذَا الْخلاف فِي الْحُدَيْبِيَة، وهما بَين الطَّائِف وَمَكَّة وَهِي إِلَى مَكَّة أدنى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَهِي قريب من مَكَّة، وَهِي فِي الْحل وميقات الْإِحْرَام. وَقَالَ ياقوت: هِيَ غير الْجِعِرَّانَة الَّتِي بِأَرْض الْعرَاق. قَالَ سيف بن عمر: نزلها الْمُسلمُونَ لقِتَال الْفرس، وَقَالَ يُوسُف بن مَاهك. اعْتَمر بهَا ثَلَاثمِائَة نَبِي، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَعْنِي: بالجعرانة الَّتِي بِقرب مَكَّة
    ..........
    (9/152)
    خْتلف الْعلمَاء فِي اسْتِعْمَال الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه، مِنْهُم مَالك وَمُحَمّد بن الْحسن، ومنعهما عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَأَجَابُوهُ مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ تمسكا بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي لحرمه حِين أحرم، ولحله حِين أحل قبل أَن يطوف بِالْبَيْتِ) ، وَلمُسلم: بذريرة فِي حجَّة الْوَدَاع، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ كَمَا سَيَأْتِي: (وطيبته بمنى قبل أَن يفِيض) .
    وكأني أنظر إِلَى وبيص الْمسك فِي مفرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم)
    ........
    (9/155)
    ولَمْ تَرَ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بالتُّبَّانِ بَأْسا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
    وَتَعْلِيق عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَنَّهَا حجت وَمَعَهَا غلْمَان لَهَا، وَكَانُوا إِذا شدوا رَحلهَا يَبْدُو مِنْهُم الشَّيْء، فَأَمَرتهمْ أَن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون. وَأخرجه من وَجه آخر مُخْتَصرا بِلَفْظ: يشدون هودجها، وَفِي هَذَا رد على ابْن التِّين فِي قَوْله: أَرَادَت النِّسَاء، لِأَنَّهُنَّ يلبسن الْمخيط بِخِلَاف الرِّجَال، وَكَأن هَذَا رَأْي رَأَتْهُ عَائِشَة وإلاَّ فالأكثر على أَنه لَا فرق بَين التبَّان والسراويل فِي مَنعه للْمحرمِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : التبَّان لبسه حرَام عندنَا كالقميص والدراعة والخف وَنَحْوهَا، فَإِن لبس شَيْئا من ذَلِك مُخْتَارًا عَامِدًا أَثم وأزاله وافتدى، سَوَاء قصر الزَّمَان أَو طَال.
    ..........
    (9/156)
    حْتج بِهِ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَزفر فِي أَن الْمحرم إِذا تطيب قبل إِحْرَامه بِمَا شَاءَ الطّيب مسكا كَانَ أَو غَيره، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ مِمَّا يبْقى عَلَيْهِ بعد إِحْرَامه أَو لَا وَلَا يضرّهُ بَقَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَأحمد وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ، وَهُوَ قَول عَائِشَة راوية الحَدِيث، وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير، وَابْن جَعْفَر وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَجَمَاعَة من التَّابِعين بالحجاز وَالْعراق، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : استحبه عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُعَاوِيَة وَأم حَبِيبَة وَابْن الْمُنْذر وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَنَقله ابْن أبي شيبَة عَن عُرْوَة بن الزبير عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم فِي رِوَايَة، وَذكره ابْن حزم عَن الْبَراء بن عَازِب وَأنس بن مَالك وَأبي ذَر وَالْحُسَيْن بن عَليّ وَابْن الْحَنَفِيَّة وَالْأسود وَالقَاسِم وَسَالم وَهِشَام بن عُرْوَة وخارجة بن زيد وَابْن جريج. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُم عَطاء وَالزهْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَابْن سِيرِين وَالْحسن: لَا يجوز أَن يتطيب الْمحرم قبل إِحْرَامه بِمَا يبْقى عَلَيْهِ رَائِحَته بعد الْإِحْرَام، وَإِذا أحرم حرم عَلَيْهِ الطّيب حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، وَإِلَيْهِ ذهب مُحَمَّد بن الْحسن، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَهَذَا مَذْهَب عمر وَعُثْمَان وَابْن عمر وَعُثْمَان بن الْعَاصِ. وَقَالَ الطرطوشي: يكره الطّيب الْمُؤَنَّث كالمسك والزعفران والكافور والغالية وَالْعود وَنَحْوهَا، فَإِن تطيب وَأحرم بِهِ فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، فَإِن أكل طَعَاما فِيهِ طيب، فَإِن كَانَت النَّار مسته فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن لم تمسه النَّار فَفِيهِ وَجْهَان،
    ...............
    (9/160)
    اخْتلف الْعلمَاء فِي الْموضع الَّذِي أحرم مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ قوم: إِنَّه أهل من مَسْجِد ذِي الحليفة. وَقَالَ آخَرُونَ: لم يهل إلاَّ بعد أَن اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته بعد خُرُوجه من الْمَسْجِد، وروى ذَلِك أَيْضا عَن ابْن عمر وَأنس وَابْن عَبَّاس وَجَابِر، وَقَالَ آخَرُونَ: بل أحرم حِين أظل على الْبَيْدَاء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَأنكر قوم أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم من الْبَيْدَاء، رُوِيَ ذَلِك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه قَالَ: مَا أهل إلاَّ من ذِي الحليفة، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك بَعْدَمَا ركب رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يهل إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَكَانَ ابْن عمر يَفْعَله. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك بَعْدَمَا تنبعث بِهِ رَاحِلَته، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مَالك عَن المَقْبُري عَن عبيد بن جريج عَن ابْن عمر قَالَ: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة. انْتهى.
    ...........
    (9/161)
    قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: سُئِلَ عَمَّا يلبس فَأجَاب بِمَا لَا يلبس، ليدل بالالتزام من طَرِيق الْمَفْهُوم على مَا يجوز، وَإِنَّمَا عدل عَن الْجَواب لِأَنَّهُ أخصر وأحصر. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَدَلِيله أَنه نبه بالقمص والسراويل على جَمِيع مَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَهُوَ مَا كَانَ مخيطا أَو مَعْمُولا على قدر الْبدن أَو الْعُضْو كالجوشن والتبان وَغَيرهمَا، وَنبهَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعمائم والبرانس على كل سَاتِر للرأس مخيطا كَانَ أَو غَيره، حَتَّى الْعِصَابَة فَإِنَّهَا حرَام. وَنبهَ بالخفاف على كل سَاتِر للرِّجل من مداس وجورب وَغَيرهَا. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن الْمُعْتَبر فِي الْجَواب مَا يحصل مِنْهُ الْمَقْصُود كَيفَ كَانَ، وَلَو بتغيير أَو زِيَادَة، وَلَا يشْتَرط الْمُطَابقَة، قَوْله وَلَا تشْتَرط الْمُطَابقَة. قلت: لَيْسَ على الْإِطْلَاق، بل الأَصْل اشْتِرَاطهَا وَلَكِن ثَمَّ مَوضِع يكون الْعُدُول عَنْهَا إِلَى غَيره وَهُوَ الأهم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ مَوَاقِيت للنَّاس) وَنَحْو ذَلِك
    ........
    (9/162)
    لْكَعْبَيْنِ فِي الْإِحْرَام، وهما العظمان الناتئان عِنْد مفصل السَّاق والقدم، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: إِذا اضْطر الْمحرم إِلَى الْخُفَّيْنِ خرق ظهورهما وَترك فيهمَا قدر مَا يسْتَمْسك رِجْلَاهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَمن تبعه من الْحَنَفِيَّة: الكعب هُنَا هُوَ الْعظم الَّذِي فِي وسط الْقدَم عِنْد معقد الشرَاك. وَقيل: إِن ذَلِك لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة. قلت: الَّذِي قَالَ: لَا يعرف عِنْد أهل اللُّغَة، هُوَ ابْن بطال، وَالَّذِي قَالَه هُوَ لَا يعرف، وَكَيف وَالْإِمَام مُحَمَّد بن الْحسن إِمَام فِي اللُّغَة والعربية؟ فَمن أَرَادَ تَحْقِيق صدق هَذَا فَلْينْظر فِي مُصَنفه الَّذِي وَضعه على أوضاع يعجز عَنهُ الفحول من الْعلمَاء والأساطين من الْمُحَقِّقين، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ (الْجَامِع الْكَبِير) وَالَّذِي قَالَه هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأَصْمَعِي، قَالَه الإِمَام فَخر الدّين
    ..........
    (9/165)
    حجَّة لأبي حنيفَة وصاحبيه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد بن عَليّ وَأبي عبيد والطبري فِي قَوْلهم: يُلَبِّي الْحَاج وَلَا يقطع التَّلْبِيَة حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ الْمَنْقُول أَيْضا عَن عَطاء بن أبي رَبَاح وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ
    فَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يقطع التَّلْبِيَة مَعَ أول حَصَاة يرميها من جَمْرَة الْعقبَة. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَطَائِفَة من أهل النّظر والأثر: لَا يقطعهَا حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة بأسرها، قَالُوا: وَهُوَ ظَاهر الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة) وَلم يقل: حَتَّى رمى بَعْضهَا. قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك عَن عَامر بن شَقِيق عَن أبي وَائِل (عَن عبد الله: رمقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة بِأول حَصَاة) . فَإِن قلت: أخرج ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : عَن الْفضل بن عَبَّاس قَالَ: (أفضت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَات، فَلم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، يكبر مَعَ كل حَصَاة، ثمَّ قطع التَّلْبِيَة مَعَ آخر حَصَاة) . قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه زِيَادَة غَرِيبَة لَيست فِي الرِّوَايَات عَن الْفضل، وَإِن كَانَ ابْن خُزَيْمَة قد اخْتَارَهَا. وَقَالَ الذَّهَبِيّ: فِيهِ نَكَارَة.
    .........
    (9/166)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن الْمَرْأَة تلبس الْمخيط كُله والخفاف وَإِن لَهَا أَن تغطي رَأسهَا وتستر شعرهَا إلاَّ وَجههَا تسدل عَلَيْهِ الثَّوْب سدلاف خَفِيفا تستتر بِهِ عَن نظر الرِّجَال، وَلَا تخمره إلاَّ مَا رُوِيَ عَن فَاطِمَة بنت الْمُنْذر، قَالَت: كُنَّا نخمر وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات مَعَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. تَعْنِي: جدَّتهَا. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك التخمير سدلاً كَمَا جَاءَ عَن عَائِشَة، قَالَت: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا مر بِنَا ركب سدلنا الثَّوْب على وُجُوهنَا وَنحن مُحرمَات، فَإِذا جَاوز رفعنَا. قلت: فِيمَا أخرجه الْجَمَاعَة: وَلَا تنتقب الْمَرْأَة الْمُحرمَة فِيهِ دَلِيل على أَنه يحرم على الْمَرْأَة ستر وَجههَا فِي الْإِحْرَام. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: مَفْهُومه يدل على إِبَاحَة تَغْطِيَة الْوَجْه للرجل وإلاَّ لما كَانَ فِي التَّقْيِيد بِالْمَرْأَةِ فَائِدَة. قلت: قد ذهب إِلَى جَوَاز تَغْطِيَة الرجل الْمحرم وَجهه عُثْمَان بن عَفَّان وَزيد بن ثَابت ومروان
    الحكم وَمُجاهد وطاووس، وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَجُمْهُور أهل الْعلم، وَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك إِلَى الْمَنْع من ذَلِك، واحتجا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تخمروا وَجهه وَلَا رَأسه، رَوَاهُ مُسلم، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظ: وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ خَارِجا وَجهه وَرَأسه. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَهَذَا أَمر فِيهِ خَفَاء على الْخلق وَلَيْسوا على الْحق. قَالَ: وَلَقَد رَأَيْت بعض أَصْحَابنَا من أهل الْعلم مِمَّن يتعاطى الْفِقْه والْحَدِيث يَبْنِي الْمَسْأَلَة على أَن الْوَجْه من الرَّأْس أم لَا؟ فعجبت لضلالته عَن دلَالَته ونسيانه لصنعته، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: لَا أَدْرِي مَا وَجه إِنْكَاره على من بنى الْمَسْأَلَة على ذَلِك، وَمَا قَالَه وَاضح فِي قَول ابْن عمر الَّذِي رَوَاهُ مَالك، وَقد جَاءَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح التَّفْرِقَة بَين أَعلَى الْوَجْه وأسفله، فروى سعيد بن مَنْصُور فِي (سنَنه) بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ قَالَ: يُغطي الْمحرم وَجهه مَا دون الحاجبين، وَفِي رِوَايَة لَهُ: مَا دون عَيْنَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بذلك الِاحْتِيَاط لكشف الرَّأْس، وَلَكِن هَذَا أَمر زَائِد على الِاحْتِيَاط لذَلِك، وَالِاحْتِيَاط يحصل بِدُونِ ذَلِك.
    ......
    (9/169)
    أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا لِأَنَّهُ جمع بَين الْعمرَة وَالْحج فِي سفرة وَاحِدَة، وَهُوَ صفة الْقُرْآن، وَأَنه أفضل من الْإِفْرَاد والتمتع،
    .......
    (9/170)
    قَالَ ابْن بطال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ، وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن مَالك، فَفِي رِوَايَة ابْن الْقَاسِم: لَا ترفع الْأَصْوَات بِالتَّلْبِيَةِ إلاَّ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد منى وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَوْله الْقَدِيم لَا يرفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسَاجِد الْجَمَاعَات إِلَّا الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد منى وَمَسْجِد عَرَفَة. وَقَوله الْجَدِيد: اسْتِحْبَابه مُطلقًا وَفِي (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا أَن التَّلْبِيَة المقترنة بِالْإِحْرَامِ لَا يجْهر بهَا، صرح بِهِ الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَابنَا.
    وَأَجْمعُوا أَن الْمَرْأَة لَا ترفع صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَن تسمع نَفسهَا كَأَنَّهُمْ لمحوا مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن معن عَن إِبْرَاهِيم بن أبي حَبِيبَة عَن دَاوُد بن حُصَيْن عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا ترفع الْمَرْأَة صَوتهَا بِالتَّلْبِيَةِ ، وَمن حَدِيث أبي الجويرية عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم مثله، وَعَن عَطاء كَذَلِك، وَمن حَدِيث عدي ابْن أبي عِيسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر: لَيْسَ على النِّسَاء أَن يرفعن أصواتهن بِالتَّلْبِيَةِ ، لَكِن يُعَارضهُ مَا رَوَاهُ بِسَنَد كَالشَّمْسِ: عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه، قَالَ: خرج مُعَاوِيَة لَيْلَة النَّفر فَسمع صَوت تَلْبِيَة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَائِشَة اعْتَمَرت من التَّنْعِيم، فَذكرت ذَلِك لعَائِشَة، فَقَالَت: لَو سَأَلَني لأخبرته
    .........
    (9/174)
    فِي (تَارِيخ مَكَّة) للأزرقي، صفة تَلْبِيَة جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، رَوَاهُ من رِوَايَة عُثْمَان بن سَاج، قَالَ: أَخْبرنِي صَادِق أَنه بلغه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لقد مر بفج الروحاء سَبْعُونَ نَبيا تلبيتهم شَتَّى، مِنْهُم يُونُس بن مَتى، وَكَانَ يُونُس يَقُول: لبيْك فراج الكرب لبيْك، وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لبيْك أَنا عَبدك لديك لبيْك. قَالَ: وتلبية عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام: أَنا عَبدك وَابْن أمتك بنت عبديك لبيْك، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف بِعَرَفَات، فَلَمَّا قَالَ: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، قَالَ إِنَّمَا الْخَيْر خير الْآخِرَة، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح وَلم يخرجَاهُ،
    ..........
    (9/173)
    وروى الدَّارَقُطْنِي ّ فِي الْعِلَل من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَن يحيى بن سِيرِين عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لبيْك حجا حَقًا، تعبدا وَرقا. وَفِي هَذَا الحَدِيث نُكْتَة غَرِيبَة، وَهُوَ أَنه اجْتمع فِيهِ ثَلَاثَة أخوة يروي بَعضهم عَن بعض، وَلَا يعرف هَذَا فِي غير هَذَا الحَدِيث.
    ...........
    (9/176)
    مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان أَنبأَنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس عَن سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا طوافك بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة يَكْفِيك لحجك وعمرتك قَالَ ابْن حزم فصح أَنَّهَا كَانَت قارنة وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد عَن أم سَلمَة سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول أهلوا يَا آل مُحَمَّد بِعُمْرَة فِي حج وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث خيوان أَن مُعَاوِيَة قَالَ للصحابة هَل تعلمُونَ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أَن يقرن بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَقَالُوا لَا وَفِي سنَن الْكَجِّي حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد حَدثنَا يحيى بن ضريس عَن عِكْرِمَة بن عمار عَن الهرماس بن زِيَاد قَالَ سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على نَاقَته قَالَ لبيْك حجَّة وَعمرَة مَعًا وَاعْلَم أَن الطَّحَاوِيّ رَحمَه الله قد أخرج فِي تَفْضِيل الْقرَان وَأَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ قَارنا من عشرَة أنفس من الصَّحَابَة وهم عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عمر وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمْرَان بن حُصَيْن وَأَبُو طَلْحَة وسراقة بن مَالك وَعَائِشَة وَأم سَلمَة زَوجي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
    ..........
    (9/177)
    فَقَالَ القَاضِي عِيَاض قد أَكثر النَّاس الْكَلَام على هَذِه الْأَحَادِيث من عُلَمَائِنَا وَغَيرهم فَمن مجيد منصف وَمن مقصر متكلف
    وَمن مطيل مكثر وَمن مقتصد مُخْتَصر وأوسعهم نفسا فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ فَإِنَّهُ تكلم فِي ذَلِك عَن ألف ورقة وَتكلم فِي ذَلِك أَيْضا مَعَه أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ وبعدهم أَبُو عبد الله بن أبي صفرَة وَأَخُوهُ الْمُهلب وَالْقَاضِي أَبُو عبد الله بن المرابط وَالْقَاضِي أَبُو الْحسن بن الْقصار الْبَغْدَادِيّ والحافظ أَبُو عمر بن عبد الْبر وَغَيرهم وَأولى مَا يُقَال فِي هَذَا على مَا فحصناه من كَلَامهم واخترناه من اختياراتهم مَا هُوَ أجمع للروايات وأشبه بمساق الْأَحَادِيث أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ للنَّاس فعل هَذِه الثَّلَاثَة أَشْيَاء لتدل على جَوَاز جَمِيعهَا إِذْ لَو أَمر بِوَاحِد لَكَانَ غَيره لَا يجزىء وَإِذا كَانَ لم يحجّ سوى هَذِه الْحجَّة فأضيف الْكل إِلَيْهِ وَأخْبر كل وَاحِد بِمَا أمره بِهِ وأباحه لَهُ وَنسبه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَّا لأَمره بذلك أَو لتأويله عَلَيْهِ انْتهى
    .......
    (9/179)
    (ذا طوى )
    وادٍ مَعْرُوف بِقرب مَكَّة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَوضِع عِنْد بَاب مَكَّة بأسفلها فِي صوب طَرِيق الْعمرَة الْمُعْتَادَة وَمَسْجِد عَائِشَة، وَيعرف الْيَوْم بآبار الزاهدة، يصرف وَلَا يصرف،
    ......
    (9/180)
    وَفِي (الاستذكار) : مَا أعلم أحدا من الْمُتَقَدِّمين أوجب الِاغْتِسَال عِنْد الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ أَو الْحَج إلاَّ الْحسن بن أبي الْحسن، وَقد رُوِيَ عَن عِكْرِمَة إِيجَابه كَقَوْل أهل الظَّاهِر، وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْوضُوء يَكْفِي مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ سنة مُؤَكدَة عِنْد مَالك وَأَصْحَابه لَا يرخصون فِي تَركه إلاَّ من عذر، وَعَن عبد الْملك: هُوَ لَازم، إلاَّ أَنه لَيْسَ فِي تَركه نَاسِيا وَلَا عَامِدًا دم وَلَا فديَة. وَقَالَ ابْن خوازمند: هُوَ عِنْد مَالك أوكد من غسل الْجُمُعَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري: يجْزِيه الْوضُوء، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم،
    ........
    (9/181)
    بت فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رأى مُوسَى قَائِما فِي قَبره يُصَلِّي. فَإِن قلت: مَا الدَّاعِي إِلَى عِبَادَتهم بعد الْمَوْت وَمَوْضِع الْعِبَادَة دَار الدُّنْيَا؟ قلت: حببت إِلَيْهِم الْعِبَادَة فهم متعبدون بِمَا يجدونه بِمَا يجدونه من دواني أنفسهم لَا بِمَا يلزمون بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا يلهم أهل الْجَاهِلِيَّة الذّكر، وَيُؤَيِّدهُ أَن أَعمال الْآخِرَة ذكر وَدُعَاء. كَقَوْلِه تَعَالَى: {دَعوَاهُم فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ... }
    ............
    (9/185)
    وَإِمَّا حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاخْتلف فِيهِ بِحَسب الْمذَاهب، وَالْأَظْهَر قَول أَحْمد: لَا أَشك أَنه كَانَ قَارنا، والمتعة أحب إِلَيّ. فَإِن قلت: قد رُوِيَ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد الْحَج، وَرُوِيَ: أَنه تمتّع، وَرُوِيَ: أَنه قرن، فَمَا التَّوْفِيق فِيهَا؟ قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: طَرِيق التَّوْفِيق فِيهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بِعُمْرَة فِي بَدْء أمره فَمضى فِيهَا مُتَمَتِّعا، ثمَّ أحرم بِحجَّة قبل طَوَافه وإفرادها بِالْإِحْرَامِ، فَصَارَ بهَا قَارنا. فَإِن قلت: فِيهِ إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة فَمَا حكمه؟ قلت: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، وشذ بعض النَّاس فَمَنعه، وَقَالَ: لَا يدْخل بِإِحْرَام على إِحْرَام، كَمَا فِي الصَّلَاة. وَاخْتلفُوا فِي عَكسه، وَهُوَ إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج، فجوزه أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم، وَمنعه آخَرُونَ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ خَاصّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قُلْنَا: دَعْوَى الخصوصية تحْتَاج إِلَى دَلِيل.

    .........

    (9/185)
    قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ دلَالَة على أَن طواف الْمُحدث لَا يجوز، وَلَو كَانَ ذَلِك لأجل الْمَسْجِد لقَالَ: لَا يدْخل الْمَسْجِد، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ، فَعَن أَحْمد: طواف الْمُحدث وَالْجنب لَا يَصح، وَعنهُ: يَصح. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الطَّهَارَة لَيست بِشَرْط فَلَو طَاف وَعَلِيهِ نَجَاسَة أَو طَاف مُحدثا أَو جنبا صَحَّ طَوَافه، لقَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق}
    وَمذهب الْجُمْهُور: أَن السَّعْي يَصح من الْمُحدث وَالْجنب وَالْحَائِض. وَعَن الْحسن: أَنه إِن كَانَ قبل التَّحَلُّل أعَاد السَّعْي، وَإِن كَانَ بعده فَلَا شَيْء عَلَيْهِ.




    ......
    ( 3 )
    وَقَالَ الْمَازرِيّ: قيل: إِن الْمُتْعَة الَّتِي نهى عَنْهَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وَقيل: وَنهى عمر عَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، ثمَّ الْحَج من عَامَّة، وعَلى الثَّانِي: إِنَّمَا نهى عَنْهَا ترغيبا فِي الْإِفْرَاد الَّذِي هُوَ أفضل، لَا أَنه يعْتَقد بُطْلَانهَا وتحريمها. وَقَالَ عِيَاض: الظَّاهِر أَنه نهى عَن الْفَسْخ، وَلِهَذَا كَانَ يضْرب النَّاس عَلَيْهَا، كَمَا رَوَاهُ مُسلم، بِنَاء على أَن الْفَسْخ كَانَ خَاصّا بِتِلْكَ السّنة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمُخْتَار أَنه نهى عَن الْمُتْعَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي هِيَ الاعتمار فِي أشهر الْحَج، ثمَّ الْحَج من عَامَّة، وَهُوَ على التَّنْزِيه للترغيب فِي الْإِفْرَاد، ثمَّ انْعَقَد الْإِجْمَاع على جَوَاز التَّمَتُّع من غير كَرَاهَة. وَقيل: عِلّة كَرَاهَة عمر الْمُتْعَة أَن يكون معرسا بِالْمَرْأَةِ ثمَّ يشرع فِي الْحَج وَرَأسه يقطر، وَذَلِكَ أَنه كَانَ من رَأْيه عدم الترفه للْحَاج بِكُل طَرِيق، فكره لَهُم قرب عَهدهم بِالنسَاء لِئَلَّا يسْتَمر الْميل إِلَى ذَلِك، بِخِلَاف من بعد عَهده مِنْهُنَّ، وَيدل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم عَن أبي مُوسَى أَنه كَانَ يُفْتِي بِالْمُتْعَةِ، فَقَالَ رجل: رويدك بِبَعْض فتياك فَإنَّك لَا تَدْرِي مَا أحدث أَمِير الْمُؤمنِينَ بعد، حَتَّى لقِيه بعد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قد علمت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد فعله وَأَصْحَابه، وَلَكِن كرهت أَن يظلوا معرسين بِهن فِي الْأَرَاك ثمَّ يروحون فِي الْحَج تقطر رؤوسهم. وَفِيه: حجَّة لأبي حنيفَة وَأحمد من أَن الْمُعْتَمِر إِذا كَانَ مَعَه الْهَدْي لَا يتَحَلَّل من عمرته حَتَّى ينْحَر هَدْيه يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِنَّه إِذا طَاف وسعى وَحلق حل من عمرته وَحل لَهُ كل شَيْء فِي الْحَال، سَوَاء كَانَ سَاق هَديا أم لَا
    ..........
    (9/190)
    {أشهر مَعْلُومَات} (الْبَقَرَة: 791) . وَهِي: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن عَطاء وطاووس وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَمَكْحُول وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالربيع بن أنس وَمُقَاتِل بن حَيَّان، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي يُوسُف وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، ويحكى عَن عمر، وَعلي وَابْن مَسْعُود وَعبد الله بن الزبير وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة بِكَمَالِهِ
    قَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَجَاء فِيهِ حَدِيث مَرْفُوع، وَلكنه مَوْضُوع رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق حُصَيْن بن الْمخَارِق، وَهُوَ مُتَّهم بِالْوَضْعِ عَن يُونُس بن عبيد عَن شهر بن حَوْشَب عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أشهر مَعْلُومَات: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت لَا يَصح رَفعه، وَاحْتج الْجُمْهُور بِمَا علقه البُخَارِيّ على مَا يَجِيء، قَالَ ابْن عمر: هِيَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة، وَرَوَاهُ ابْن جرير: حَدثنِي أَحْمد بن حَازِم بن أبي عزْرَة حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا وَرْقَاء عَن عبد الله بن دِينَار (عَن ابْن عمر: أشهر الْحَج مَعْلُومَات؟ قَالَ: شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر ذِي الْحجَّة) إِسْنَاده صَحِيح، وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي (مُسْتَدْركه)
    ........
    (9/194)
    النُّزُول بالمحصب، فَظَاهره أَن النُّزُول فِيهِ سنة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ قَول إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كَانَ ابْن عمر يرَاهُ سنة، وَقَالَ نَافِع: حصب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء بعده، أخرجه مُسلم، وَزعم ابْن حبيب أَن مَالِكًا كَانَ يَأْمر بالتحصيب ويستحبه، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي، وَقَالَ عِيَاض: هُوَ مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء، وَهُوَ عِنْد الْحِجَازِيِّين َ أوكد مِنْهُ عِنْد الْكُوفِيّين، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ بِوَاجِب، وَأخرج مُسلم عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانُوا ينزلون بِالْأَبْطح) ، وأخرجت الْأَئِمَّة السِّتَّة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب ليَكُون أسمح لِخُرُوجِهِ وَلَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ نزله وَمن شَاءَ لم ينزله.




  4. #244
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الجمعة
    الموافق : 7/ صفر /1442 هجري
    الموافق : 25/سبتمبر /2020 ميلادي

    " تابع / كتاب الحج " من عمدة القاري للعيني رحمه الله .

    (4 )
    ( عقرى حلقى )
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وعَلى الْأَقْوَال كلهَا هِيَ كلمة اتسعت فِيهَا الْعَرَب فَصَارَت تلفظها وَلَا تُرِيدُ بهَا حَقِيقَة مَعْنَاهَا الَّتِي وضعت لَهُ: كتربت يَدَاهُ، وقاتله الله. قَالَ: إِن الْمُحدثين يَرْوُونَهُ بِالْألف الَّتِي هِيَ ألف التَّأْنِيث، ويكتبونه بِالْيَاءِ، وَلَا ينونونه. وَقيل: مَعْنَاهُ مشؤمة مؤذية. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال ذَلِك لأمر يعجب مِنْهُ، وَيُقَال: إمرأة حالق إِذا حلقت قَومهَا بشؤمها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يُرِيد: أَنْت طَوِيلَة اللِّسَان لما كَلمته بِمَا يكره، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْحلق الَّذِي يخرج مِنْهُ الْكَلَام.
    .........
    (9/199)
    (ويجعلون الْمحرم صفرا) أَي: يجْعَلُونَ الصفر من الْأَشْهر الْحرم، وَلَا يجْعَلُونَ الْمحرم مِنْهَا. قَوْله: (صفر) قَالَ بَعضهم: كَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول من الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) قَوْله: (صفرا) هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ مَصْرُوف بِلَا خلاف، وَوَقع فِي مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى: صفر بِغَيْر ألف. قلت: هَذَا يرد مَا قَالَه بَعضهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَوْله: صفر، كَذَا هُوَ بِغَيْر ألف فِي أصل الدمياطي، رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِي مُسلم: الصَّوَاب صفرا بِالْألف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كَانَ يَنْبَغِي أَن يكْتب بِالْألف، وَلَكِن على تَقْدِير حذفهَا لَا بُد من قِرَاءَته مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ منصرف. وَقَالَ الْكرْمَانِي: اللُّغَة الربيعية أَنهم يَكْتُبُونَ الْمَنْصُوب بِلَا ألف. وَقَالَ: وتقرأ هَذِه الْأَلْفَاظ كلهَا سَاكِنة الآخر مَوْقُوفا عَلَيْهَا، لِأَن مُرَادهم السجع. وَفِي (الْمُحكم) وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة لَا يصرفهُ، فَقيل لَهُ: لِمَ لم تصرفْهُ؟ لِأَن النَّحْوِيين قد أَجمعُوا على صرفه وَقَالُوا لَا يمْنَع الْحَرْف من الصّرْف إلاَّ العلتان فَأخْبرنَا بالعلتين فِيهِ؟ فَقَالَ: نعم، العلتان الْمعرفَة والساعة. وَقَالَ: أَبُو عمر الْمُطَرز، يرى أَن الْأَزْمِنَة كلهَا سَاعَات، والساعات مُؤَنّثَة، وَقَالَ عِيَاض: قيل صفر دَاء يكون فِي الْبَطن كالحيات إِذا اشْتَدَّ جوع الْإِنْسَان عضه، وَقَالَ رؤبة: هِيَ حَيَّة تلتوي فِي الْبَطن، وَهِي أعدى من الجرب عِنْد الْعَرَب قلت: هَذَا الْمَعْنى فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صفر، وَهَهُنَا غير مُنَاسِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَت الْعلمَاء: المُرَاد الْإِخْبَار عَن النسيء الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكَانُوا يسمون الْمحرم صفرا، ويحلونه، ويؤخرون تَحْرِيم الْمحرم إِلَى نفس صفر، لِئَلَّا يتوالى عَلَيْهِم ثَلَاثَة أشهر مُحرمَة، فيضيق عَلَيْهِم فِيهَا مَا اعتادوه من الْمُقَاتلَة والغارة والنهب، فضللهم الله فِي ذَلِك فَقَالَ: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر يضل بِهِ الَّذين كفرُوا} (التَّوْبَة: 73) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ، النسيء، هُوَ تَأْخِير حُرْمَة الشَّهْر إِلَى شهر آخر وَرُبمَا زادوا فِي عدد الشَّهْر فيجعلونها ثَلَاثَة عشر أَو أَرْبَعَة عشر ليتسع لَهُم الْوَقْت، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِن الْعَرَب كَانُوا يؤخرون الْمحرم إِلَى صفر، وَهُوَ النسيء الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} (التَّوْبَة: 73) . وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أول من نسأ القلمّس واسْمه: حُذَيْفَة
    ابْن عبيد الْكِنَانِي، ثمَّ ابْنه عباد، ثمَّ ابْنه قلع بن عباد، ثمَّ أُميَّة بن قلع، ثمَّ عَوْف بن أُميَّة، ثمَّ جُنَادَة بن أُميَّة وَعَلِيهِ قَامَ الْإِسْلَام. وَقيل: أول من نسأ نعيم بن ثَعْلَبَة، ثمَّ جُنَادَة، وَهُوَ الَّذِي أدْركهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: مَالك بن كنَانَة،وَقيل: عَمْرو بن طَيء. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الصفران شَهْرَان من السّنة سمي أَحدهمَا فِي الْإِسْلَام: الْمحرم، وَفِي (الْمُحكم) : قَالَ بَعضهم: سمي صفرا لأَنهم كَانُوا يمتارون الطَّعَام فِيهِ من الْمَوَاضِع،وَقَالَ بَعضهم: سمي بذلك لإصفار مَكَّة من أَهلهَا إِذا سافروا،وروى عَن رؤبة أَنه قَالَ: سموا الشَّهْر صفرا لأَنهم كَانُوا يغزون فِيهِ الْقَبَائِل فيتركون من لقوا صفرا من الْمَتَاع، وَذَلِكَ إِذا كَانَ صفر بعدالمحرم،
    ........
    (9/202)
    فَأمرنِي ابْن عَبَّاس بالتمتع، وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة فِي زمن عبد الله بن الزبير، وَكَانَ ينْهَى عَن التَّمَتُّع كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن الزبير عَنهُ، وَعَن جَابر،وَنقل ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن الزبير: أَنه كَانَ لَا يرى التَّمَتُّع إلاَّ للمحصر، وَوَافَقَهُ عَلْقَمَة وَإِبْرَاهِيم،وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا اخْتِصَاص بذلك للمحصر
    ......
    (9/203)
    حَدِيث جَابر بن عبد الله الَّذِي رَوَاهُ مطولا جدا،وَلأبي بكر إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَلَيْهِ كتاب سَمَّاهُ: (التَّخْيِير) استنبط مِنْهُ مائَة نوع ونيفا وَخمسين نوعا من وُجُوه الْعلم، وَالْبُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ذكر جلّ حَدِيث جَابر الَّذِي انْفَرد بِهِ مُسلم، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة.
    .......
    (9/209)
    قَالَ أَبُو عَبْدِ الله كانَ يُقالُ هُوَ مُسَدَّدٌ كاسْمِهِ قالَ أبُو عَبْدِ الله سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِينٍ يقولُ سَمعْتُ يَحْيى بنَ سَعِيدٍ يقُولُ لَوْ أنَّ مُسَدَّدا أتيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فحَدَّثْتُهُ لاَسْتَحَقَّ ذالِكَ ومَا أبَالِي كُتُبِي كانَتُ عِنْدِي أوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ
    أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه،وَأَشَارَ بِكَلَامِهِ هَذَا إِلَى الْمُبَالغَة فِي تَوْثِيق مُسَدّد بن مسرهد حَيْثُ قَالَ: هُوَ مُسَدّد أَي: مُحكم من التسديد، وَهُوَ الإحكام، وَمِنْه السداد وَهُوَ الْقَصْد فِي الْأَمر وَالْعدْل فِيهِ، والسداد الاسْتقَامَة أَيْضا، وَمِنْه المسدد، وَهُوَ لَازم الطَّرِيق المستقيمة، واشتقاق السد أَيْضا مِنْهُ لِأَنَّهُ الْبناء الْمُحكم الْقوي، وَلم يكتف بتوثيقه إِيَّاه بِنَفسِهِ حَتَّى نقل عَن يحيى بن معِين
    الإِمَام فِي بَاب الْجرْح وَالتَّعْدِيل حَيْثُ نقل عَن يحيى بن سعيد الْقطَّان،إِنَّه قَالَ: لَو أَن مُسَددًا ... إِلَى آخِره، وَهَذَا مِنْهُ غَايَة فِي التَّعْدِيل وَنِهَايَة فِي التوثيق.
    ..........
    (9/211)
    وَلَكنهُمْ اخْتلفُوا فِي أول من بنى الْكَعْبَة،فَقيل: أول من بناها آدم، عَلَيْهِ السَّلَام،ذكره ابْن إِسْحَاق: وَقيل: أول من بناها شِيث. عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَت قبل أَن يبنيها خيمة من ياقوتة حَمْرَاء يطوف بهَا آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويأنس بهَا، لِأَنَّهَا أنزلت إِلَيْهِ من الْجنَّة. وَقيل: أول من بناها الْمَلَائِكَة،وَذَلِكَ لما قَالُوا: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 03) . الْآيَة، خَافُوا وطافوا بالعرش سبعا يسترضون الله ويتضرعون إِلَيْهِ، فَأَمرهمْ الله تَعَالَى أَن يبنوا الْبَيْت الْمَعْمُور فِي السَّمَاء السَّابِعَة، وَأَن يجْعَلُوا طوافهم لَهُ لكَونه أَهْون من طواف الْعَرْش ثمَّ أَمرهم أَن يبنوا فِي كل سَمَاء بَيْتا، وَفِي كل أَرض بَيْتا. قَالَ مُجَاهِد: هِيَ أَرْبَعَة عشر بَيْتا. وَرُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة حِين أسست الْكَعْبَة انشقت الأَرْض إِلَى مُنْتَهَاهَا، وقذفت مِنْهَا حِجَارَة أَمْثَال الْإِبِل، فَتلك الْقَوَاعِد من الْبَيْت الَّتِي وضع عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْبَيْت، فَلَمَّا جَاءَ الطوفان رفعت وأودع الْحجر الْأسود أَبَا قبيس،وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء وَسَعِيد بن الْمسيب: أَن آدم بناه من خَمْسَة أجبل: من حراء وطور سيناء، وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وَهَذَا غَرِيب،
    ..
    (9/219)
    وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة) : وَلما بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمْسا وَثَلَاثِينَ أَجمعت قُرَيْش لبنيان الْكَعْبَة، وَكَانُوا يهمون لذَلِك ليسقفوها ويهابون هدمها، وَإِنَّمَا كَانَت رضما فَوق الْقَامَة، فأرادوا رَفعهَا وتسقيفها، وَذَلِكَ أَن نَفرا سرقوا كنز الْكَعْبَة، وَإِنَّمَا يكون فِي بِئْر فِي جَوف الْكَعْبَة، وَكَانَ الَّذِي وجد عِنْده الْكَنْز دويك مولى بني مليح بن عَمْرو من خُزَاعَة، فَقطعت قُرَيْش يَده، وَيَزْعُم النَّاس أَن الَّذين سَرقُوهُ وضعوه عِنْد دويك، وَكَانَ الْبَحْر قد رمى بسفينة إِلَى جدة لرجل من تجار الرّوم فتحطمت فَأخذُوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وَكَانَ بِمَكَّة رجل قبْطِي نجار فتهيأ لَهُم، فِي أنفسهم بعض مَا يصلحها، وَكَانَت حَيَّة تخرج من بِئْر الْكَعْبَة الَّتِي كَانَت تطرح فِيهَا مَا يهدى لَهَا كل يَوْم، فتشرف على جِدَار الْكَعْبَة، وَكَانَت مِمَّا يهابون ذَلِك أَنه كَانَ لَا يدنو مِنْهَا أحد إلاَّ أخزلت، وكشطت وَفتحت فاها، وَكَانُوا يهابونها، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْم تشرف على جِدَار الْكَعْبَة، كَمَا كَانَت تصنع بعث الله إِلَيْهَا طائرا، فاختطفها،فَذهب بهَا فَقَالَت قُرَيْش: إِنَّا لنَرْجُو أَن يكون الله تَعَالَى، رَضِي مَا أردنَا، عندنَا عَامل رَفِيق، وَعِنْدنَا خشب، وكفانا الله الْحَيَّة، ثمَّ اجْتمعت الْقَبَائِل من قُرَيْش فَجمعُوا الْحِجَارَة لبنائها، كل قَبيلَة على حِدة، ثمَّ بنوها حَتَّى بلغ الْبُنيان مَوضِع الرُّكْن،يَعْنِي: الْحجر الْأسود، فاختصموا فِيهِ، كل قَبيلَة تُرِيدُ أَن ترفعه إِلَى مَوْضِعه دون الْأُخْرَى، فآخر الْأَمر إِن أَبَا أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمرَان بن مَخْزُوم كَانَ عامئذ أسن قُرَيْش كلهم،
    ......
    (9/218)
    وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَهُوَ الدَّرَاورْدِي، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة سعيد بن جُبَير (أَن عَائِشَة قَالَت: يَا رَسُول الله، كل نِسَائِك دخل الْكَعْبَة غَيْرِي؟قَالَ: فانطلقي إِلَى قرابتك شيبَة يفتح لَك الْكَعْبَة، فَأَتَتْهُ،فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَالله مَا فتحت بلَيْل قطّ فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، وَإِن أَمرتنِي أَن أفتحها فتحتها. قَالَ: لَا،ثمَّ قَالَ: إِن قَوْمك قصرت بهم النَّفَقَة فقصروا فِي الْبُنيان، وَإِن الْحجر من الْبَيْت فاذهبي فَصلي فِيهِ) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى،فِي هَذَا الحَدِيث: أَن الْحجر كُله من الْبَيْت، وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي فِي (الْمُخْتَصر) . وَمُقْتَضى كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابه كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح، وَعَلِيهِ نَص الشَّافِعِي، وَبِه قطع جَمَاهِير أَصْحَابنَا،قَالَ: وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا رَجحه ابْن الصّلاح قبله،وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الصَّحِيح أَن لَيْسَ كُله من الْبَيْت، بل الَّذِي هُوَ من الْبَيْت قدر سِتَّة أَذْرع مُتَّصِل بِالْبَيْتِ، وَبِه قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَابْنه إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا أَن قَوْمك حَدِيث عهد بشركٍ لهدمت الْكَعْبَة وألزقتها بِالْأَرْضِ،د ولجعلت لَهَا بَابَيْنِ: بَابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فِيهَا سِتَّة أَذْرع من الْحجر فَإِن قُريْشًا اقتصرتها حِين بنت الْكَعْبَة) .
    ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
    (9/219)
    وَقَالَ ابْن الصّلاح اضْطَرَبَتْ الرِّوَايَات، فِيهِ، فَفِي رِوَايَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : الْحجر من الْبَيْت، وَرُوِيَ سِتَّة أَذْرع أَو نَحْوهَا، وَرُوِيَ خَمْسَة أَذْرع،
    وَرُوِيَ قَرِيبا من سبع. قَالَ ابْن الصّلاح: وَإِذا اضْطَرَبَتْ الروايت تعين الْأَخْذ بأكثرها ليسقط الْفَرْض بِيَقِين.
    وَقَالَ بَعضهم: بعد أَن ذكر حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ،وَبعد أَن قَالَ: وَنَحْوه لأبي دَاوُد من طَرِيق صَفِيَّة بنت شيبَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَلأبي عوَانَة من طَرِيق قَتَادَة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَلأَحْمَد من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: هَذِه الرِّوَايَات كلهَا مُطلقَة، وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح مِنْهَا مُقَيّدَة. لمُسلم من طَرِيق أبي قزعة عَن الْحَارِث بن عبد الله عَن عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: فِي حَدِيث الْبَاب: حَتَّى أَزِيد فِيهِ من الْحجر،وَله من وَجه آخر عَن الْحَارِث عَنْهَا: (فَإِن بدا لقَوْمك أَن يبنوه بعدِي فهلمي لأريك مَا تَرَكُوهُ مِنْهُ، فأراها قَرِيبا من سَبْعَة أَذْرع) ، ثمَّ ذكر الرِّوَايَات المضطربة فِيهِ الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب،ثمَّ قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَات كلهَا تَجْتَمِع على أَنَّهَا فَوق السِّتَّة وَدون السَّبْعَة انْتهى. قلت: قَوْله: وَقد جَاءَت رِوَايَات أصح مِنْهَا، غير مُسلم، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على أَن الْحجر كُله من الْبَيْت،وأصرح مِنْهُ حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي لَفظه: (إِن الْحجر من الْبَيْت) ، فَكل ذَلِك صَحِيح، وترجيح رِوَايَة الْحَارِث عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على رِوَايَة الْأسود بن يزِيد عَنْهَا بالأصحية لَا دَلِيل عَلَيْهِ، ثمَّ تكلّف فِي الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات بِالْكَسْرِ والجبر. فَالْأَوْجه والأصوب فِيهِ مَا قَالَه ابْن الصّلاح، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا. ثمَّ إِن ثَبت أَن الْحجر كُله أَو بعضه من الْبَيْت فَلَا تصح صَلَاة كل مُسْتَقْبل شَيْئا مِنْهُ، وَهُوَ غير مُسْتَقْبل لشَيْء من الْكَعْبَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَحَادِيث فِي هَذَا آحَاد، إِنَّمَا تفِيد الظَّن، وَقد أمرنَا باستقبال الْمَسْجِد الْحَرَام يَقِينا على مَا هُوَ مَعْرُوف فِي التَّفْصِيل بَين الْحَاضِر والبعيد، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب عِنْد الْحَنَفِيَّة والمالكية، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ أَنه لَا يَصح اسْتِقْبَال شَيْء من الْحجر فِي الصَّلَاة مَعَ عدم اسْتِقْبَال شَيْء من الْكَعْبَة.
    .........
    (9/222)
    رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَعنهُ أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أرى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَوضِع أنصاب الْحرم، فنصبها ثمَّ جددها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ جددها قصي بن كلاب، ثمَّ جددها سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا ولي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعث أَرْبَعَة من قُرَيْش فنصبوا أنصاب الْحرم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (المنتظم) : وَأما حُدُود الْحرم: فَأول من وَضعهَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ جِبْرِيل يرِيه، ثمَّ لم يجدد حَتَّى كَانَ قصي فجددها، ثمَّ قلعتها قُرَيْش فِي زمَان نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،فَقَالَ: إِنَّهُم سيعيدونها،فَرَأى رجال مِنْهُم فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول: حرم أكْرمكُم الله بِهِ نزعتم أنصابه؟ الْآن تختطفكم الْعَرَب، فأعادوها. فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: قد أعادوها. فَقَالَ: قد أَصَابُوا. قَالَ: مَا وضعُوا مِنْهَا نصبا إلاَّ بيد ملك، ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح تَمِيم بن أَسد فجددها، ثمَّ جددها عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ جددها عبد الْملك بن مَرْوَان. فَإِن قلت: مَا السَّبَب فِي بعد بعض الْحُدُود وَقرب بَعْضهَا مِنْهُ؟قلت: إِن الله عز وَجل، لما أهبط على آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَيْتا من ياقوتة، أَضَاء لَهُ مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، فنفرت الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، وَأَقْبلُوا ينظرُونَ، فَجَاءَت مَلَائِكَة فوقفوا مَكَان الْحرم إِلَى مَوضِع انْتِهَاء نوره، وَكَانَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يطوف بِهِ ويأنس بِهِ.
    ............
    (9/224)
    قَالَ القَاضِي عِيَاض: حكم اللّقطَة فِي سَائِر الْبِلَاد وَاحِد،وَعند الشَّافِعِي: أَن لقطَة مَكَّة بِخِلَاف غَيرهَا من الْبِلَاد، وَأَنَّهَا لَا تحل إلاَّ لمن يعرفهَا،وَمذهب الْحَنَفِيَّة كمذهب مَالك لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إعرف عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ، من غير فصل
    ...........
    (9/229)
    قَالَ النَّوَوِيّ: معنى تقاسمهم على الْكفْر تحالفهم على إِخْرَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبني هَاشم وَالْمطلب من مَكَّة إِلَى هَذَا الشّعب، وَهُوَ خيف بني كنَانَة، وَكَتَبُوا بَينهم الصَّحِيفَة الْمَشْهُورَة فِيهَا أَنْوَاع من الْبَاطِل، فَأرْسل الله عَلَيْهَا الأرضة فَأكلت مَا فِيهَا من الْكفْر وَتركت مَا فِيهَا من ذكر الله تَعَالَى، فَأخْبر جِبْرِيل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَأخْبر بِهِ عَمه أَبَا طَالب، فَأخْبرهُم عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فوجدوه كَمَا قَالَه، والقصة مَشْهُورَة،
    وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة فِيمَا ذكر فِي (الطَّبَقَات) : لما بلغ قُريْشًا فعل النَّجَاشِيّ بِجَعْفَر وَأَصْحَابه، وإكرامه لَهُم، كبر ذَلِك عَلَيْهِم جدا وغضبوا وَأَجْمعُوا على قتل سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَتَبُوا كتابا على بني هَاشم أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا يخالطوهم، وَكَانَ الَّذِي كتب الصَّحِيفَة مَنْصُور بن عِكْرِمَة الْعَبدَرِي فشُلَّت يَده، وَفِي الْأَنْسَاب للزبير بن أبي بكر،اسْمه: بغيض بن عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار،وَقَالَ الْكَلْبِيّ: هُوَ
    مَنْصُور بن عَامر بن هَاشم أَخُو عِكْرِمَة بن عَامر بن هَاشم، ثمَّ ذكر فِي (الطَّبَقَات) : وعلقوا الصَّحِيفَة فِي جَوف الْكَعْبَة،وَقَالَ بَعضهم: بل كَانَت عِنْد أم الْجلاس بنت مخربة الحنظلية، خَالَة أبي جهل، وحصروا بني هَاشم فِي شعب أبي طَالب لَيْلَة هِلَال الْمحرم سنة سبع من حِين النُّبُوَّة، وانحاز بَنو الْمطلب بن عبد منَاف إِلَى أبي طَالب فِي شُعْبَة، وَخرج أَبُو لَهب إِلَى قُرَيْش فظاهرهم على بني هَاشم وَبني الْمطلب، وَقَطعُوا عَنْهُم الْميرَة والمارة، فَكَانُوا لَا يخرجُون إلاَّ من موسم إِلَى موسم حَتَّى بَلغهُمْ الْجهد، فأقاموا فِيهِ ثَلَاث سِنِين، ثمَّ أطلع الله رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَمر صحيفتهم وَأَن الأرضة أكلت مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم. وَبَقِي مَا كَانَ فِيهَا من ذكر الله، عز وَجل،وَفِي لفظ: (ختموا على الْكتاب ثَلَاثَة خَوَاتِيم) فَذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي طَالب،فَقَالَ أَبُو طَالب لكفار قُرَيْش: إِن ابْن أخي أَخْبرنِي، وَلم يكذبنِي قطّ، أَن الله تَعَالَى قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست مَا كَانَ فِيهَا من جور وظلم وَبَقِي فِيهَا كل مَا ذكر بِهِ الله تَعَالَى، فَإِن كَانَ ابْن أخي صَادِقا نزعتم عَن سوء رَأْيكُمْ، وَإِن كَانَ كَاذِبًا دَفعته إِلَيْكُم فقتلتموه أَو استحييتموه. قَالُوا: قد أنصفتنا، فَإِذا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسقط فِي أَيْديهم ونكسوا على رؤوسهم،فَقَالَ أَبُو طَالب: علام نحبس ونحصر، وَقد بَان الْأَمر؟ فتلاوم رجال من قُرَيْش على مَا صَنَعُوا ببني هَاشم، مِنْهُم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وَزَمعَة بن الْأسود وَأَبُو البحتري بن هَاشم وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة، ولبسوا السِّلَاح ثمَّ خَرجُوا إِلَى بني هَاشم وَبني الْمطلب فأمروهم بِالْخرُوجِ إِلَى مساكنهم، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش ذَلِك سقط فِي أَيْديهم وَعرفُوا أَن لن يسلموهم، وَكَانَ خُرُوجهمْ من الشّعب فِي السّنة الْعَاشِرَة.

    ........

    (9/232)
    وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي: كَانَ أَوْلَاد حام سَبْعَة أخوة كأولاد سَام: السَّنَد والهند والزنج والقبط والحبشة والنوبة وكنعان، فَأخذُوا مَا بَين الْجنُوب وَالدبور وَالصبَا. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا خير فِي الْحَبَش، إِن جَاعُوا سرقوا، وَإِن شَبِعُوا زنوا، وَإِن فيهم حسنتين إطْعَام الطَّعَام وإلباس يَوْم الْبَأْس) . وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (التيجان) : أول من جرى لِسَان الْحَبَشَة على لِسَانه سحلب بن أداد بن ناهس بن سرعَان بن حام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ تولدت من هَذَا اللِّسَان ألسن استخرجت مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الأَصْل
    ......
    (9/234)
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن قيل مَا السِّرّ فِي حراسة الْكَعْبَة من الْفِيل وَلم تحرس فِي الْإِسْلَام مِمَّا صنع بهَا الْحجَّاج والقرامطة وَذُو السويقتين؟فَالْجَوَاب: إِن حبس الْفِيل كَانَ من أَعْلَام النُّبُوَّة لسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَلَائِل رسَالَته لتأكيد الْحجَّة عَلَيْهِم بالأدلة الَّتِي شوهدت بالبصر قبل الْأَدِلَّة الَّتِي ترى بالبصائر، وَكَانَ حكم الْحَبْس أَيْضا دلَالَة على وجود النَّاصِر
    .........
    (9/234)
    وَذكر الْمَاوَرْدِيّ: أَن أول من كساها الديباج خَالِد بن جَعْفَر بن كلاب أَحْمد لطيمة يحل الْبر، وَوجد فِيهَا إنماطا فعلقها على الْكَعْبَة،وَذكر الْحَافِظ: أَن أول من علقها عبد الله بن الزبير وَفِي كتاب ابْن إِسْحَاق: أول من حلاها عبد الْمطلب بن عبد منَاف لما حفرهَا بالفزالين اللَّذين وجدهما من ذهب فِيهَا. وَعَن لَيْث بن أبي سليم،قَالَ: كَانَت كسْوَة الْكَعْبَة على عهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الانطاع والمسوح. وَقَالَ ابْن دحْيَة: كساها الْمهْدي الْقبَاطِي والخز والديباج، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ ابْن جريج: زعم بعض عُلَمَائِنَا أَن أول من كساها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،وَحكى البلاذري: أَن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أدد، وروى الْوَاقِدِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي ربيعَة،قَالَ: كسي الْبَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة الأنطاع، ثمَّ كَسَاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الثِّيَاب اليمانية، ثمَّ كَسَاه عمر وَعُثْمَان الْقبَاطِي، ثمَّ كَسَاه الْحجَّاج الديباج.
    بْن إِسْحَاق: بَلغنِي أَن الْبَيْت لم يكْسَ فِي عهد أبي بكر وَعمر،يَعْنِي: لم يجدد لَهُ كسْوَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج: أخْبرت أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَكْسُوهَا الْقبَاطِي. وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كساها الْقبَاطِي والحبرات، وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأول من كساها الديباج عبد الْملك بن مَرْوَان،وَأَن أول من أدْرك ذَلِك من الْفُقَهَاء قَالُوا: أصَاب، مَا نعلم لَهَا من كسْوَة أوفق مِنْهُ وروى أَبُو عرُوبَة فِي (الْأَوَائِل) لَهُ: عَن الْحسن،قَالَ: أول من لبس الْكَعْبَة الْقبَاطِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (المؤتلف) : أَن أول من كسا الْكَعْبَة الديباج تنيلة بنت جنان وَالِدَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، كَانَت أضلت الْعَبَّاس صَغِيرا فنذرت إِن وجدته أَن تكسو الْكَعْبَة الديباج، وَذكر الزبير بن بكار أَنَّهَا أضلت ضِرَارًا ابْنهَا، فَرده عَلَيْهَا رجل من جذام، فكست الْكَعْبَة ثيابًا بَيْضَاء، وَهُوَ مَحْمُول على تعدد الْقِصَّة، وكسيت فِي أَيَّام الفاطميين الديباج الْأَبْيَض، وَكَسَاهَا السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين ديباجا أصفر، وَكَسَاهَا نَاصِر العباسي ديباجا أَخْضَر، ثمَّ كساها ديباجا أسود، فاستمر إِلَى الْآن، وَلم تزل الْمُلُوك يتداولون كسوتها إِلَى أَن وقف عَلَيْهَا الصَّالح إِسْمَاعِيل بن النَّاصِر فِي سنة نَيف وَخمسين وَسَبْعمائة، قَرْيَة بنواحي الْقَاهِرَة، وَلم تزل تُكْسَى من هَذَا الْوَقْف.
    .........
    (9/236)
    شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم المفتوحتين، الْعَبدَرِي، أسلم يَوْم الْفَتْح وَأعْطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ وَلابْن عَمه عُثْمَان بن طَلْحَة مِفْتَاح الْكَعْبَة،وَقَالَ: خذوها يَا بني أبي طَلْحَة خالدة تالدة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا يَأْخُذ مِنْكُم
    لَّا ظَالِم، وَهُوَ الْآن فِي يَد بني شيبَة، مَاتَ سنة تسع وَخمسين
    .......
    (9/237)
    قع بَين أبي بن كَعْب وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحسن (عَن عمر: أَرَادَ أَن يَأْخُذ كنز الْكَعْبَة فينفقه فِي سَبِيل الله،فَقَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: قد سَبَقَك صاحباك، فَلَو كَانَ فضلا لفعلاً) . وَفِي لفظ: (فَقَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: وَالله مَا ذَاك لَك؟قَالَ: ولِمَ؟قَالَ: أقره رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ عمر لكثرته إِنْفَاقه فِي سَبِيل الله وَفِي مَنَافِع الْمُسلمين، ثمَّ لما ذكر بِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يتَعَرَّض لَهُ أمسك.

    ..........

    (9/240)
    أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع) ، تكلم الشارحون فِي مُرَاد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَذَا الْكَلَام،فَقَالَ مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن النَّاس كَانُوا حَدِيثي عهد بِعبَادة الْأَصْنَام، فخشي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يظنّ الْجُهَّال بِأَن استلام الْحجر، هُوَ مثل مَا كَانَت الْعَرَب تَفْعَلهُ، فَأَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يعلم أَن استلامه لَا يقْصد بِهِ إلاَّ تَعْظِيم الله، عز وَجل، وَالْوُقُوف عِنْد أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن ذَلِك من شَعَائِر الْحَج الَّتِي أَمر الله بتعظيمها، وَأَن استلامه مُخَالف لفعل الْجَاهِلِيَّة فِي عِبَادَتهم الْأَصْنَام، لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى، فنبه عمر على مُخَالفَة هَذَا الِاعْتِقَاد، وَأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعبد إلاَّ من يملك الضَّرَر والنفع، وَهُوَ الله جلّ جَلَاله،وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أَن قَول عمر لذَلِك طلب مِنْهُ للآثار وَبحث عَنْهَا وَعَن مَعَانِيهَا. قَالَ: وَلما رأى أَن الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم لَهُ سَبَب يظْهر للحس، وَلَا من جِهَة الْعقل، ترك فِيهِ الرَّأْي وَالْقِيَاس، وَصَارَ إِلَى مَحْض الِاتِّبَاع، كَمَا صنع فِي الرمل. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي حَدِيث عمر من الْفِقْه أَن مُتَابعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاجِبَة وَإِن لم يُوقف فِيهَا على علل مَعْلُومَة وَأَسْبَاب معقولة، وَأَن أعيانها حجَّة على من بلغته وَإِن لم يفقه مَعَانِيهَا، وَمن الْمَعْلُوم أَن تَقْبِيل الْحجر إكرام وإعظام لحقه. قَالَ: وفضَّل الله بعض الْأَحْجَار على بعض، كَمَا فضل بعضَ الْبِقَاع على بعض، وَبَعض اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على بعض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْحِكْمَة فِي كَون الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود يجمع فِيهِ بَين التَّقْبِيل والاستلام، كَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَفِيه الْحجر الْأسود، وَأَن الرُّكْن الْيَمَانِيّ اقْتصر فِيهِ على الاستلام لكَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَلم يقبَّل، وَإِن الرُّكْنَيْنِ الغربيين لَا يقبلان وَلَا يستلمان لفقد الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين فيهمَا.
    ...........
    (9/241)
    رَاهَة تَقْبِيل مَا لم يرد الشَّرْع بتقبيله من الْأَحْجَار وَغَيرهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَأما قَول الشَّافِعِي: وَمهما قبل من الْبَيْت فَحسن، فَإِنَّهُ لم يرد بالْحسنِ مَشْرُوعِيَّة ذَلِك، بل أَرَادَ إِبَاحَة ذَلِك، والمباح من جملَة الْحسن، كَمَا ذكره الأصوليون. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى،وَقَالَ أَيْضا: وَأما تَقْبِيل الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة على قصد التَّبَرُّك، وَكَذَلِكَ تَقْبِيل أَيدي الصَّالِحين وأرجلهم فَهُوَ حسن مَحْمُود بِاعْتِبَار الْقَصْد وَالنِّيَّة، وَقد سَأَلَ أَبُو هُرَيْرَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكْشف لَهُ الْمَكَان الَّذِي قبله، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سرته، فَقبله تبركا بآثاره وَذريته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَ ثَابت الْبنانِيّ لَا يدع يَد أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَتَّى يقبلهَا،وَيَقُول: يَد مست يَد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ أَيْضا: وَأَخْبرنِي الْحَافِظ أَبُو سعيد ابْن العلائي قَالَ: رَأَيْت فِي كَلَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي جُزْء قديم عَلَيْهِ خطّ ابْن نَاصِر وَغَيره من الْحفاظ، أَن الإِمَام أَحْمد سُئِلَ عَن تَقْبِيل قبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتقبيل منبره،فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك،قَالَ: فأريناه للشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية فَصَارَ يتعجب من ذَلِك،وَيَقُول: عجبت أَحْمد عِنْدِي جليل يَقُوله؟ هَذَا كَلَامه أَو معنى كَلَامه؟وَقَالَ: وَأي عجب فِي ذَلِك وَقد روينَا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه غسل قَمِيصًا للشَّافِعِيّ وَشرب المَاء الَّذِي غسله بِهِ، وَإِذا كَانَ هَذَا تَعْظِيمه لأهل الْعلم فَكيف بمقادير الصَّحَابَة؟ وَكَيف بآثار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام؟وَلَقَد أحسن مَجْنُون ليلى حَيْثُ يَقُول:
    (أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا الْجِدَار)
    (وَمَا حب الدَّار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حبُّ من سكن الديارا)
    وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَيُمكن أَن يستنبط من تَقْبِيل الْحجر واستلام الْأَركان جَوَاز تَقْبِيل مَا فِي تقبيله تَعْظِيم الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِن لم يرد فِيهِ خبر بالندب لم يرد بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقد رَأَيْت فِي بعض تعاليق جدي مُحَمَّد بن أبي بكر،عَن الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف: أَن بَعضهم كَانَ إِذا رأى الْمَصَاحِف قبلهَا، وَإِذا رأى أَجزَاء الحَدِيث قبلهَا، وَإِذا رأى قُبُور الصَّالِحين قبلهَا،قَالَ: وَلَا يبعد هَذَا، وَالله أعلم فِي كل مَا فِيهِ تَعْظِيم لله تَعَالَى
    ............
    (9/242)
    كَانَ أَبُو طَاهِر القرمطي من الباطنية وَقَالَ بِسوء رَأْيه: هَذَا الْحجر مغنطيس بني آدم، فجَاء إِلَى مَكَّة وَقلع الْبَاب وأصعد رجلا من أَصْحَابه ليقطع الْمِيزَاب، فتردى على رَأسه إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المآب، وَأخذ أسلاب مَكَّة والحاج وَألقى الْقَتْلَى فِي بِئْر زَمْزَم فَهَلَك تَحت الْحجر من مَكَّة إِلَى الْكُوفَة أَرْبَعُونَ جملا، فعلقه لعنة الله عَلَيْهِ على الأسطوانة السَّابِعَة من جَامع الْكُوفَة من الْجَانِب الغربي ظنا مِنْهُ أَن الْحَج ينْتَقل إِلَى الْكُوفَة،قَالَ ابْن دحْيَة: ثمَّ حمل الْحجر إِلَى هجر سنة سبع عشرَة وثلاثمائة، وَبَقِي عِنْد القرامطة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة إلاَّ شهرا، ثمَّ رد لخمس خلون من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة، وَكَانَ يحكم التركي بذل لَهُم فِي دِرْهَم خمسين ألف دِينَار،فَمَا فعلوا وَقَالُوا: أخذناه بِأَمْر وَلَا نرده إلاَّ بِأَمْر وَقيل: إِن القرمطي بَاعَ الْحجر من الْخَلِيفَة المقتدر بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، ثمَّ أرسل الْحجر إِلَى مَكَّة على قعُود أعجف، فسمن تَحْتَهُ وَزَاد حسنه إِلَى مَكَّة، شرفها الله تَعَالَى.
    ..........
    (9/243)
    الدَّاخِل فِي الْبَيْت يُصَلِّي فِي أَي نَاحيَة شَاءَ من نواحي الْبَيْت، وكل نَاحيَة من نواحي الْبَيْت من دَاخله سَوَاء، كَمَا أَن كل نواحيه من خَارجه فِي الصَّلَاة إِلَيْهِ سَوَاء. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ الشَّافِعِي: من صلى فِي جَوف الْبَيْت مُسْتَقْبلا حَائِطا من حيطانها فَصلَاته جَائِزَة، وَإِن صلى نَحْو بَاب الْبَيْت وَكَانَ مغلقا، فَكَذَلِك وَإِن كَانَ مَفْتُوحًا فباطلة، لِأَنَّهُ لم يسْتَقْبل شَيْئا مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بغلق بَاب الْكَعْبَة حِين صلوا. وَقد يُقَال: إِنَّمَا أغلقه لِكَثْرَة النَّاس عَلَيْهِ فصلوا بِصَلَاتِهِ، وَيكون ذَلِك عِنْدهم من مَنَاسِك الْحَج، كَمَا فعل فِي صَلَاة اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن يكْتب عَلَيْهِم، وَمَتى فتح، وَكَانَت العتبة قدر ثُلثي ذِرَاع صحت أَيْضا، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا إِذا انْهَدَمت وَصلى كَمَا ألزمنا ابْن الْقصار بِهِ، لِأَنَّهُ صلى إِلَى الْجِهَة. انْتهى. قَالَ النَّوَوِيّ: إِذا كَانَ الْبَاب مسدودا أَو لَهُ عتبَة قدر ثُلثي ذِرَاع يجوز، هَذَا هُوَ الصَّحِيح،وَفِي وَجه: يقدر بِذِرَاع،وَقيل: يَكْفِي شخوصها،وَقيل: يشْتَرط قدر قامة طولا وعرضا، وَلَو وضع بَين يَدَيْهِ مَتَاعا واستقبله لم يجزه. قلت: الصَّلَاة فِي الْكَعْبَة جَائِزَة فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ قَول عَامَّة أهل الْعلم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: لَا يصلى فِي الْبَيْت وَالْحجر فَرِيضَة وَلَا رَكعَتَا الطّواف الواجبتان وَلَا الْوتر وَلَا رَكعَتَا الْفجْر، وَغير ذَلِك، لَا بَأْس بِهِ، ذكره فِي ذخيرتهم. وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن مَالك أَنه: لَا يُصَلِّي الْفَرْض وَلَا السّنَن، وَيُصلي التَّطَوُّع، فَإِن صلى فِيهِ مَكْتُوبَة
    <<
    ........
    (9/243)
    روى الفاكهي من طَرِيق ضَعِيف عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَ بَنو أبي طَلْحَة يَزْعمُونَ أَنه لَا يَسْتَطِيع أحد فتح الْكَعْبَة غَيرهم، فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِفْتَاح فَفَتحهَا بِيَدِهِ، وَعُثْمَان الْمَذْكُور هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى بن عبد الدَّار بن قصي بن كلاب،وَيُقَال لَهُ: الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم، ولآل بَيته الحجبة لحجبهم الْكَعْبَة، ويعرفون الْآن بالشيبين نِسْبَة إِلَى شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ ابْن عَم عُثْمَان هَذَا لَا وَلَده، وَله أَيْضا صُحْبَة وَرِوَايَة،وَاسم أم عُثْمَان الْمَذْكُور: سلافة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفتح الْفَاء
    ......
    (9/244)
    قَالَ ابْن حبَان الْأَشْبَه عِنْدِي أَن يحمل الخبران على دخولين متغايرين: أَحدهمَا يَوْم الْفَتْح وَصلى فِيهِ،وَالْآخر: فِي حجَّة الْوَدَاع وَلم يصلِّ فِيهِ) من غير أَن يكون بَينهمَا تضَاد، وَمِمَّا يرجح بِهِ إِثْبَات صلَاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْبَيْت على من نفاها كَثْرَة الروَاة لَهَا، فَالَّذِينَ أثبتوها بِلَال وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن طَلْحَة وَشَيْبَة بن عُثْمَان، وَالَّذين نفوها أُسَامَة وَالْفضل بن عَبَّاس وَعبد الله بن الْعَبَّاس، وَأما الْفضل فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح أَنه دخل مَعَهم، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أخبر عَن أَخِيه الْفضل وَلم يدْخل مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبَيْت. وَمن الْأَجْوِبَة أَن الْقَاعِدَة تَقْدِيم الْمُثبت على النَّافِ
    .........
    (9/245)
    وروى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من دخل الْبَيْت دخل فِي حَسَنَة وَخرج من سَيِّئَة مغفورا لَهُ) . وَفِي سَنَده عبد الله بن المؤمل وَفِيه مقَال، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَجعله من قَول مُجَاهِد، وَحكى الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن دُخُول الْبَيْت من مَنَاسِك الْحَج، ورده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا دخله عَام الْفَتْح وَلم يكن حِينَئِذٍ محرما، يسْتَحبّ للداخل أَن لَا يرفع بَصَره إِلَى السّقف
    الَت عَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: عجبا للمرء إِذا دخل الْكَعْبَة كَيفَ يرفع بَصَره قبل السّقف، يدع ذَلِك إجلالاً لله تَعَالَى، وإعظاما لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة خلف بَصَره مَوضِع سُجُوده، حَتَّى خرج مِنْهَا. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث مُنكر
    ..........
    (9/246)
    قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: سَبَب ترك دُخُوله مَا كَانَ فِي الْبَيْت من الْأَصْنَام والصور، وَلم يكن الْمُشْركُونَ يتركونه ليغيرها، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح أمرنَا بِإِزَالَة الصُّور ثمَّ دَخلهَا،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَت الْأَصْنَام ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنما، لأَنهم كَانُوا يعظمون كل يَوْم صنما ويخصون أعظمها بصنمين، وروى الإِمَام أَحْمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (مُسْنده) (عَن جَابر،قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة صور، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يمحوها فَبل عمر ثوبا ومحاها بِهِ، فَدَخلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِيهَا شَيْء)
    .......
    (9/249)
    الرمل فِي الطّواف. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ: هَل هُوَ سنة من سنَن الْحَج لَا يجوز تَركهَا؟ أَو لَيْسَ بِسنة لِأَنَّهُ كَانَ لعِلَّة وَقد زَالَت، فَمن شَاءَ فعله اخْتِيَارا؟فَروِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر: أَنه سنة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ فعله وَمن شَاءَ تَركه، روى ذَلِك عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم طَاوُوس وَعَطَاء وَالْحسن وَالقَاسِم وَسَالم، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَجُمْهُور الْعلمَاء، على أَن الرمل من الْحجر إِلَى الْحجر، وَفِي (التَّوْضِيح) : ثمَّ الْجُمْهُور على أَنه يستوعب الْبَيْت بالرمل،وَفِي قَول: لَا يرمل بَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، وَالْمَرْأَة لَا ترمل بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ يقْدَح فِي السّتْر وَلَيْسَت من أهل الْجلد وَلَا تهرول أَيْضا بَين الصَّفَا والمروة فِي السَّعْي، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عمر وَعَائِشَة وَجَمَاعَة، فَإِن ترك الرمل فِي الطّواف والهرولة فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، ث
    .......
    (9/2
    (9/250)
    قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، طلوبا للآثار، بحوثا عَنْهَا وَعَن مَعَانِيهَا لما رأى الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم فِيهِ سَببا يظْهر للحس، أَو يتَبَيَّن فِي الْعقل، ترك فِيهِ الرَّأْي وَصَارَ إِلَى الِاتِّبَاع، وَلما رأى الرمل قد ارْتَفع سَببه الَّذِي كَانَ قد أحدث من أَجله فِي الزَّمَان الأول هَمَّ بِتَرْكِهِ، ثمَّ لَاذَ بِاتِّبَاع السّنة متبركا بِهِ، وَقد يحدث شَيْء من أَمر الدّين بِسَبَب من الْأَسْبَاب فيزول ذَلِك السَّبَب وَلَا يَزُول حكمه، كالعرايا والاغتسال للْجُمُعَة.
    ...........
    (9/250)
    قَالَ الطَّبَرِيّ: ثَبت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رمل فِي حجَّته وَلَا مُشْرك يَوْمئِذٍ يرَاهُ، فَعلم أَنه من مَنَاسِك الْحَج، غير أَنا لَا نرى على من ترك عَامِدًا وَلَا سَاهِيا قَضَاء وَلَا فديَة، لِأَن من تَركه فَلَيْسَ بتارك الْعَمَل، وَإِنَّمَا هُوَ تَارِك لهيئته وَصفته كالتلبية الَّتِي فِيهَا رفع الصَّوْت، فَإِن خفص صَوته بهَا كَانَ غير مضيع لَهَا وَلَا تاركها، وَإِنَّمَا ضيع صفة من صفاتها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
    .........
    (9/255)
    وَأخرجه مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن الْحَارِث عَن قَتَادَة دون قصَّة مُعَاوِيَة بِلَفْظ: (لم أرَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين) ، وَوَصله التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن أبي الطُّفَيْل،قَالَ: كنت مَعَ ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة، فَكَانَ مُعَاوِيَة لَا يمر بِرُكْن إلاَّ استلمه،فَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَلم إلاَّ الْحجر واليماني،فَقَالَ مُعَاوِيَة: لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مهجور، أَو روى أَحْمد أَيْضا من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة (عَن أبي الطُّفَيْل،قَالَ: حج مُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس، فَجعل ابْن عَبَّاس يسْتَلم الْأَركان كلهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَة إِنَّمَا اسْتَلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هذَيْن الرُّكْنَيْنِ اليمانيين،فَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ من أَرْكَانه شَيْء مهجور) ، قَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي (الْعِلَل) : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: قلبه شُعْبَة،يَقُول: النَّاس يخالفونني فِي هَذَا، وَلكنه سمعته من قَتَادَة هَكَذَا. انْتهى. وَقد رَوَاهُ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة على الصَّوَاب أخرجه أَحْمد أَيْضا.


    .....................
    ( 5 )
    (9/255)
    ن يسْتَلم الْأَركان كلهَا، وَهُوَ مَذْهَب مُعَاوِيَة وَعبد الله ابْن الزبير وَجَابِر بن زيد وَعُرْوَة بن الزبير وسُويد بن غَفلَة،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ مَذْهَب جَابر بن عبد الله وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَأنس بن مَالك. الثَّانِي: مَذْهَب ابْن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،ومذهبهما أَنه: لَا يسْتَلم إلاَّ الرُّكْن الْأسود والركن الْيَمَانِيّ، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة أَيْضا لِأَنَّهُمَا على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَقَالَ أَكثر أهل الْعلم: لَا يسن استلام الرُّكْنَيْنِ الشاميين. وروى ابْن أبي شيبَة،قَالَ: حَدثنَا ابْن نمير عَن حجاج عَن عَطاء قَالَ: أدْركْت شَيخنَا ابْن عَبَّاس وجابرا وَأَبا هُرَيْرَة وَعبيد بن عُمَيْر لَا يستلمون غَيرهمَا من الْأَركان،يَعْنِي: الْأسود واليماني
    .........
    (9/257)
    وَقَالَ ابْن بطال: غَرَضه بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد على من زعم أَن الْمُعْتَمِر إِذا طَاف حل قبل أَن يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة. قلت: مَذْهَب ابْن عَبَّاس: أَن الْمُعْتَمِر يحل من عمرته بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا يحْتَاج إِلَى السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة،وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْعمرَة الطّواف، وَبِه قَالَ ابْن رَاهَوَيْه، فَأَرَادَ البُخَارِيّ رد هَذَا القَوْل، وَبَين أَن الْعمرَة هِيَ الطّواف بِالْبَيْتِ وَصَلَاة رَكْعَتَيْنِ بعده، ثمَّ الْخُرُوج إِلَى الصَّفَا للسعي بَينه وَبَين الْمَرْوَة،
    ..........
    (9/259)
    مطلوبية الْوضُوء للطَّواف، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ وَاجِب أَو شَرط؟فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بِشَرْط، فَلَو طَاف على غير وضوء صَحَّ طَوَافه، فَإِن كَانَ ذَلِك للقدوم فَعَلَيهِ صَدَقَة، وَأَن كَانَ طواف الزِّيَارَة فَعَلَيهِ شَاة،وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: هُوَ شَرط. وَفِيه: أَن أول شَيْء يَفْعَله دَاخل الْحرم الِابْتِدَاء بِالطّوافِ للقدوم، وَاسْتثنى الشَّافِعِي من هَذَا الْمَرْأَة الجميلة والشريفة الَّتِي لَا تبرز للرِّجَال، فَيُسْتَحَب لَهَا تَأْخِير الطّواف وَدخُول الْمَسْجِد إِلَى اللَّيْل، لِأَنَّهُ أستر لَهَا وَأسلم من الْفِتْنَة.
    ........
    (9/260)
    روى الفاكهي من طَرِيق زَائِدَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ نهى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن يطوف الرِّجَال مَعَ النِّسَاء قَالَ فَرَأى رجلا مَعَهُنَّ فَضَربهُ بِالدرةِ قَالَ الفاكهي وَيذكر عَن ابْن عُيَيْنَة أول من فرق بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الطّواف خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي (قلت) الأول اسْم لفرد سَابق وكل وَاحِد أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بعده وَكَانَت إمرة خَالِد فِي مَكَّة فِي زمن عبد الْملك بن مَرْوَان وَذَلِكَ قبل ابْن هِشَام بِمدَّة طَوِيلَة " قَالَ كَيفَ تمنعهن " بِلَفْظ الْخطاب وبلفظ الْغَيْبَة أَي كَيفَ يمنعهن الْمَانِع قَوْله " وَقد طَاف نسَاء النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ الرِّجَال " يَعْنِي طفن فِي وَقت وَاحِد غير مختلطات بِالرِّجَالِ لِأَن سنتهن أَن يطفن ويصلين من وَرَاء الرِّجَال وَقَالَ ابْن بطال من السّنة إِذا أَرَادَ النِّسَاء دُخُول الْبَيْت أَن يخرج الرِّجَال مِنْهُ بِخِلَاف الطّواف بِهِ
    ........
    (9/265)
    وَقد روى أَحْمد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أدْرك رجلَيْنِ وهما مقترنان،فَقَالَ: مَا بَال القِران؟قَالَا: إِنَّا نذرنا لنقترنن حَتَّى نأتي الْكَعْبَة. فَقَالَ: أطلقا أنفسكما، لَيْسَ هَذَا نذرا إِنَّمَا النّذر مَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله) . وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق فَاطِمَة بنت مُسلم: (حَدثنِي خَليفَة بن بشر عَن أَبِيه أَنه أسلم، فَرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله وَولده، ثمَّ لقِيه هُوَ وَابْنه طلق بن بشر مقترنين بِحَبل،فَقَالَ: مَا هَذَا؟فَقَالَ: حَلَفت لَئِن رد الله عَليّ مَالِي وَوَلَدي لأحجن بَيت الله مَقْرُونا. فَأخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَبل فَقَطعه،وَقَالَ لَهما: حجا، إِن هَذَا من عمل الشَّيْطَان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: قطعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّير مَحْمُول على أَنه لم يُمكن إِزَالَة هَذَا الْمُنكر إلاَّ بِقطعِهِ
    ..........
    (9/265)
    وَلَو طافت الْمَرْأَة متنقبة وَهِي غير مُحرمَة، قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : فَمُقْتَضى مَذْهَبنَا كَرَاهَته كَمَا فِي الصَّلَاة. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تَطوف متنقبة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَكَرِهَهُ طَاوُوس وَغَيره، وَالله أعلم.
    ........
    (9/265)
    قَالَ ابْن عبد الْبر: لما خرج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْحَج نزل صدر بَرَاءَة بعده،فَقيل: يَا رَسُول الله لَو بعثت بهَا إِلَى أبي بكر،فَقَالَ: إِنَّه لَا يُؤَدِّيهَا عني إلاَّ رجل من أهل بَيْتِي، ثمَّ دَعَا عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأرْسلهُ، فَخرج رَاكِبًا على نَاقَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العضباء حَتَّى أدْرك أَبَا بكر بالعرج،فَقَالَ لَهُ: أَبُو بكر: استعملك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْحَج؟قَالَ: لَا وَلَكِن بَعَثَنِي بِقِرَاءَة بَرَاءَة على النَّاس.
    قَالُوا: وَالْحكمَة فِي إِعْطَاء بَرَاءَة لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن فِيهَا نقض الْعَهْد، وَكَانَت سيرة الْعَرَب أَنه لَا يحل العقد إلاَّ الَّذِي عقده أَو رجل من أهل بَيته، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقطع أَلْسِنَة الْعَرَب بِالْحجَّةِ. وَقيل: إِن فِي سُورَة بَرَاءَة فَضِيلَة لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِي {ثَانِي اثْنَيْنِ} (بَرَاءَة (التَّوْبَة) : 04) . فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون يَقْرَأها غَيره.

    ...........

    (9/273)
    والزعفراني نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تَحت كلواذا وإليها ينْسب درب الزَّعْفَرَان بِبَغْدَاد، وَكثير من الْمُحدثين ينْسب إِلَى هَذَا الدَّرْب، وَجَمَاعَة مِنْهُم ينسبون إِلَى بيع الزَّعْفَرَان،وَفِي نواحي هَمدَان قَرْيَة تسمى: الزعفرانية، وَمِنْهُم من ينْسب إِلَى الزعافر
    ..........
    (9/274)
    قال النووي :
    ن الْمبيت بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق مَأْمُور بِهِ، وَهل هُوَ وَاجِب أَو سنة؟قَالَ أَبُو حنيفَة: سنة. وَالْآخرُونَ: وَاجِب. وَالثَّانيَِة: يجوز لأهل السِّقَايَة أَن يتْركُوا هَذَا الْمبيت ويذهبوا إِلَى مَكَّة ليستقوا بِاللَّيْلِ المَاء من زَمْزَم، ويجعلوه فِي الْحِيَاض مسبلاً للْحَاج، وَلَا يخْتَص ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي بِالْعَبَّاسِ، بل كل من تولى السِّقَايَة كَانَ لَهُ ذَلِك،وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تخْتَص الرُّخْصَة بِالْعَبَّاسِ،وَقَالَ بَعضهم: بآل الْعَبَّاس. انْتهى
    ..........
    (9/275)
    قَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت زَمْزَم لِأَن بابل بن ساسان حَيْثُ سَار إِلَى الْيمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، فَلَمَّا احتفرها عبد الْمطلب أصَاب السيوف والحلي فِيهِ سميت زَمْزَم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا، وَلَو تركت لساحت على وَجه الأَرْض حَتَّى مَلأ كل شَيْء. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: سميت بزمزمة المَاء، وَهُوَ حركته،وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم: مَاء زمزوم وزمزام أَي: كثير. وَفِي (الموعب) : مَاء زَمْزَم وزمازم،وَهُوَ الْكثير وَعَن ابْن هِشَام: الزمزمة عِنْد الْعَرَب الْكَثْرَة والاجتماع، وَذكر المَسْعُودِيّ أَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول، والزمزمة صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها.
    وَمن فضائلها: مَا رَوَاهُ مُسلم: شرب أَبُو ذَر مِنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْسَ لَهُ طَعَام غَيرهَا. وَأَنه سمن، فَأخْبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،بذلك فَقَالَ: إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طَعَام طعم وَزَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وشفاء سقم، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،مَرْفُوعا: (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ)
    .......
    (9/279)
    (قَالَ: أَخْبرنِي الْبَراء بن زيد أَن أم سليم حدثته أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرب وَهُوَ قَائِم فِي قربَة) . وَفِي لفظ لَهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهَا، وَفِي بَيته قربَة معلقَة، فَشرب من الْقرْبَة قَائِما. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِي ّ أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن هَذِه الْأَحَادِيث أشكل مَعْنَاهَا على بعض الْعلمَاء، حَتَّى قَالَ فِيهَا أقوالاً بَاطِلَة،وَالصَّوَاب مِنْهَا: أَن النَّهْي مَحْمُول على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأما شربه قَائِما فلبيان الْجَوَاز، وَمن زعم نسخا فقد غلط، فَكيف يكون النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع، وَإِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت التاريح فأنَّى لَهُ ذَلِك؟وَقَالَ الطَّحَاوِيّ مَا ملخصه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بِهَذَا النَّهْي الإشفاق على أمته، لِأَنَّهُ يخَاف من الشّرْب قَائِما الضَّرَر، وحدوث الدَّاء،كَمَا قَالَ لَهُم: أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا. انْتهى. قلت: اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِيهِ،فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة: إِلَى كَرَاهَة الشّرْب قَائِما. وَرُوِيَ ذَلِك عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذهب الشّعبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وزادان وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد إِلَى أَنه لَا بَأْس بِهِ، ويروى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَسعد وَعمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
    ....
    (9/290)
    وشذ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: قَالَ بعض أَئِمَّتنَا: لَو قدم السَّعْي على الطّواف اعْتد بالسعي، وَهَذَا غلط. وَنقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع فِي اشْتِرَاط ذَلِك،وَقَالَ عَطاء: يجوز السَّعْي من غير تقدم طواف وَهُوَ غَرِيب. وَفِي (التَّوْضِيح) : أَيْضا الْمُوَالَاة
    بَين مَرَّات السَّعْي سنة، فَلَو تخَلّل بِيَسِير أَو طَوِيل بَينهُنَّ لم يضر، وَكَذَا بَينه وَبَين الطّواف، وَيسْتَحب السَّعْي على طَهَارَة من الْحَدث وَالنَّجس ساترا عَوْرَته، وَالْمَرْأَة تمشي وَلَا تسْعَى لِأَنَّهُ أستر لَهَا.
    ........
    (9/292)

    الْحسن الْبَصْرِيّ اشْترط الطَّهَارَة للسعي،
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لم يذكر عَن أحد من السّلف اشْتِرَاط الطَّهَارَة للسعي إلاَّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن الْحَنَابِلَة فِي رِوَايَة
    .............
    (9/303)
    لسرادق، بِضَم السِّين. قَالَ الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ غَيره أَنه هُوَ الْخَيْمَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا السرادق هُوَ الَّذِي يُحِيط بالخيمة وَله بَاب يدْخل مِنْهُ إِلَى الْخَيْمَة وَلَا يعْمل هَذَا غَالِبا إلاَّ للسلاطين والملوك الْكِبَار،وبالفارسية يُسمى: سرابردة.
    .............
    (9/304)
    وَعند الشَّافِعِي: فِي الْحَج أَربع خطب مسنونة: إِحْدَاهَا بِمَكَّة يَوْم السَّابِع،وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة: يَوْم النَّحْر بمنى،وَالرَّابِعَة: يَوْم النفرالأول بمنى،وَعند مَالك: ثَلَاث خطب،الأولى: يَوْم السَّابِع بِمَكَّة بعد الظّهْر خطْبَة وَاحِدَة وَلَا يجلس فِيهَا. الثَّانِيَة: بِعَرَفَات بعد الزَّوَال بجلسة فِي وَسطهَا. وَالثَّالِثَة: فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَعند أَحْمد كَذَلِك ثَلَاث خطب، وَلَا خطْبَة فِي الْيَوْم السَّابِع بِمَكَّة، بل يخْطب بِعَرَفَات بعد الزَّوَال، ثمَّ يخْطب بمنى يَوْم النَّحْر فِي أصح الرِّوَايَتَيْن ِ، ثمَّ كَذَلِك ثَانِي أَيَّام منى بعد الظّهْر. وَقَالَ ابْن حزم: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَهُوَ يَوْم النَّفر وَفِيه حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَآخر فِي (مُسْند أَحْمد) وَالدَّارَقُطْن ِيّ،وَقَالَ ابْن حزم: وَقد روى أَيْضا أَنه خطبهم يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم الأكارع، وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا. قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يخْطب الْعشْر كُله، وَرُوِيَ عَن ابْن الزبير كَذَلِك، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
    ........
    (9/303)
    لسرادق، بِضَم السِّين. قَالَ الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ غَيره أَنه هُوَ الْخَيْمَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا السرادق هُوَ الَّذِي يُحِيط بالخيمة وَله بَاب يدْخل مِنْهُ إِلَى الْخَيْمَة وَلَا يعْمل هَذَا غَالِبا إلاَّ للسلاطين والملوك الْكِبَار،وبالفارسية يُسمى: سرابردة.
    .............
    (9/304)
    وَعند الشَّافِعِي: فِي الْحَج أَربع خطب مسنونة: إِحْدَاهَا بِمَكَّة يَوْم السَّابِع،وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة: يَوْم النَّحْر بمنى،وَالرَّابِعَة: يَوْم النفرالأول بمنى،وَعند مَالك: ثَلَاث خطب،الأولى: يَوْم السَّابِع بِمَكَّة بعد الظّهْر خطْبَة وَاحِدَة وَلَا يجلس فِيهَا. الثَّانِيَة: بِعَرَفَات بعد الزَّوَال بجلسة فِي وَسطهَا. وَالثَّالِثَة: فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَعند أَحْمد كَذَلِك ثَلَاث خطب، وَلَا خطْبَة فِي الْيَوْم السَّابِع بِمَكَّة، بل يخْطب بِعَرَفَات بعد الزَّوَال، ثمَّ يخْطب بمنى يَوْم النَّحْر فِي أصح الرِّوَايَتَيْن ِ، ثمَّ كَذَلِك ثَانِي أَيَّام منى بعد الظّهْر. وَقَالَ ابْن حزم: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَهُوَ يَوْم النَّفر وَفِيه حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَآخر فِي (مُسْند أَحْمد) وَالدَّارَقُطْن ِيّ،وَقَالَ ابْن حزم: وَقد روى أَيْضا أَنه خطبهم يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم الأكارع، وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا. قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يخْطب الْعشْر كُله، وَرُوِيَ عَن ابْن الزبير كَذَلِك، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .
    ........
    تم
    ختم المجلد التاسع
    ويليه المجلد
    العاشر
    الحمد لله
    ...

  5. #245
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    تلخيص المجلد العاشر
    اليوم: الجمعة
    الموافق : 14/ صفر /1442 هجري
    الموافق : 2/ أكتوبر / 2020 ميلادي
    " الحمد لله "


    الجزء العاشر

    ( 10/ 4)
    وَسميت عَرَفَات بِهَذَا الإسم إِمَّا لِأَنَّهَا وصفت لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، فَلَمَّا بصرها عرفهَا. أَو لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين كَانَ يَدُور بِهِ فِي المشاعر أرَاهُ إِيَّاهَا،فَقَالَ: قد عرفت. أَو لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط من الْجنَّة بِأَرْض الْهِنْد، وحواء، عَلَيْهَا السَّلَام، بجذة، فَالْتَقَيَا ثمَّة فتعارفا أَو لِأَن النَّاس يَتَعَارَفُونَ بهَا. أَو لِأَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف حَقِيقَة رُؤْيَاهُ فِي ذبح وَلَده ثمَّة أَو لِأَن الْخلق يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ. أَو لِأَن فِيهَا جبالاً، والجيال هِيَ الْأَعْرَاف، وكل عَال فَهُوَ عرف
    يَ الْمزْدَلِفَة، وَسمي بِهِ لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام
    ,,,
    .......
    10/5)
    )
    وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث جُبَير بن مطعم،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل عَرَفَات موقف، فارفعوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف فارفعوا عَن محسر، وكل أَيَّام منى منحر وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح) . وَفِي هَذِه الْأَحَادِيث تعْيين عَرَفَة للوقوف، وَأَنه لَا يَجْزِي الْوُقُوف بغَيْرهَا، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه يَصح الْوُقُوف بعرنة، بِضَم الْعين وَالنُّون، والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة عَلَيْهِ، وحد عَرَفَة مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس،قَالَ: حد عَرَفَة من قبل الْمشرق على بطن عُرَنَة إِلَى جبال عُرَنَة إِلَى وصيق إِلَى ملتقى وصيق إِلَى وَادي عُرَنَة. ووصيق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأَوْسَط) من مَنَاسِكه: وعرفة مَا جَاوز بطن عُرَنَة وَلَيْسَ الْوَادي وَلَا الْمَسْجِد مِنْهَا إِلَى الْجبَال الْمُقَابلَة مِمَّا يَلِي حَوَائِط ابْن عَامر وَطَرِيق الحضن، وَمَا جَاوز ذَلِك فَلَيْسَ بِعَرَفَة،و: الحضن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة المفتوحتين. وَابْن عَامر هُوَ عبد الله بن عَامر بن كريز، وَكَانَ لَهُ حَائِط نخل وَكَانَ فِيهَا عين. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهُوَ الْآن خراب. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا إِذا دفع من عَرَفَة قبل غرُوب الشَّمْس وَلم يقف بهَا لَيْلًا، فَذهب مَالك إِلَى أَن الِاعْتِمَاد فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة على اللَّيْل من لَيْلَة النَّحْر، وَالنَّهَار من يَوْم عَرَفَة تبع، فَإِن وقف جزأ من اللَّيْل أَي جزءٍ كَانَ قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر أَجزَأَهُ،وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: الِاعْتِمَاد على النَّهَار من يَوْم عَرَفَة من وَقت الزَّوَال وَاللَّيْل كُله تبع، فَإِن وقف جزأً من النَّهَار أَجزَأَهُ، وَإِن وقف جزأً من اللَّيْل أَجزَأَهُ،إلاَّ أَنهم يَقُولُونَ: إِن وقف جزأ من النَّهَار بعد الزَّوَال دون اللَّيْل كَانَ عَلَيْهِ دم، وَإِن وقف جزأ من اللَّيْل دون النَّهَار لم يجب عَلَيْهِ دم، وَذهب أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى أَن الْوُقُوف من حِين طُلُوع الْفجْر من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من لَيْلَة النَّحْر، فسوى بَين أَجزَاء اللَّيْل وأجزاء النَّهَار. وَقَالَ ابْن قدامَة: وعَلى من دفع قبل الْغُرُوب دم فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَأَصْحَاب الرَّأْي.
    ...........
    (10/6)
    روى نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: من لم يقف بِعَرَفَة لَيْلَة الْمزْدَلِفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج. وَعَن عُرْوَة بن الزبير مثله،وَرَفعه ابْن عمر مرّة: ... من فَاتَهُ عَرَفَات بلَيْل فقد فَاتَهُ الْحَج) ، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب رَفعه،قَالَ: (من جَاوز وَادي عَرَفَة قبل أَن تغيب الشَّمْس فَلَا حج لَهُ) ،وَعَن معمر عَن رجل عَن سعيد بن جُبَير رَفعه: (إِنَّا لَا ندفع حَتَّى تغرب الشَّمْس) يَعْنِي: من عَرَفَات: قلت: ابْن حزم ضعف هَذِه كلهَا ووهاها. وَعَن عُرْوَة بن مُضرس الطَّائِي مَرْفُوعا: (من أدْرك مَعنا هَذِه الصَّلَاة وأتى عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقضى تفثه) ، رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَالله تَعَالَى أعلم
    .........
    (10/11)
    الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء فِي الْمزْدَلِفَة، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ،وَلَكِن الْخلاف فِيهِ: هَل هُوَ للنسك أَو لمُطلق السّفر، أَو للسَّفر الطَّوِيل،فَمن قَالَ: للنسك،قَالَ: يجمع أهل مَكَّة وَمنى وعرفة والمزدلفة،وَمن قَالَ: لمُطلق السّفر،قَالَ: يجمعُونَ سوى أهل الْمزْدَلِفَة، وَمن قَالَ للسَّفر الطَّوِيل،قَالَ: يتم أهل مَكَّة وَمنى وعرفة والمزدلفة وَجَمِيع من كَانَ بَينه وَبَينهَا دون مَسَافَة الْقصر، وَيقصر من طَال سَفَره. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم أَنه لَا يُصَلِّي الْمغرب دون جمع. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله تَعَالَى: كَأَنَّهُ أَرَادَ الْعَمَل عَلَيْهِ مَشْرُوعِيَّة واستحبابا لَا تحتما وَلَا لُزُوما، فَإِنَّهُم لم يتفقوا على ذَلِك، بل اخْتلفُوا فِيهِ
    وَقَالَ مَالك: لَا يُصليهَا أحد قبل جمع إلاَّ من عذر، فَإِن صلاهما من عذر لم يجمع بَينهمَا حَتَّى يغيب الشَّفق، وَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَن هَذَا هُوَ الْأَفْضَل، وَأَنه إِن جمع بَينهمَا فِي وَقت الْمغرب أَو فِي وَقت الْعشَاء، بِأَرْض عَرَفَات أَو غَيرهَا أَو صلى كل
    صَلَاة فِي وَقتهَا جَازَ ذَلِك، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو ثَوْر، وَأَبُو يُوسُف وَأَشْهَب، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن أَصْحَاب الحَدِيث،
    ..........
    (10/15)
    مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان وَالْإِقَامَة لكل من الصَّلَاتَيْنِ إِذا جمع بَينهمَا،وَقَالَ ابْن حزم: لم نجده مرويا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَو ثَبت عَنهُ لَقلت بِهِ، وَقد وجد عَن عمر من فعله. قلت: أخرجه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَنهُ،
    .........
    (10/16)
    قَالَ الْأَزْهَرِي: يُسمى مشعرا لِأَنَّهُ معلم لِلْعِبَادَةِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي صَاحب (الْمَنَاسِك) : الْأَصَح أَن الْمشعر الْحَرَام فِي الْمزْدَلِفَة لَا غير الْمزْدَلِفَة، وحد الْمزْدَلِفَة مَا بَين مأزمي عَرَفَة وَقرن محسر يَمِينا وَشمَالًا من الشعاب وَالْجِبَال،وَقَالَ الْكرْمَانِي الشَّارِح: وَاخْتلف فِيهِ، وَالْمَعْرُوف عَن أَصْحَابنَا أَنه قزَح،بِضَم الْقَاف وَفتح الزَّاي وبالمهملة: وَهُوَ جبل مَعْرُوف بِالْمُزْدَلِفَ ةِ، والْحَدِيث يدل عَلَيْهِ،وَقَالَ غَيرهم: إِنَّه نفس الْمزْدَلِفَة. وَفِي (التَّلْوِيح) : والمزدلفة لَهَا اسمان آخرَانِ: جمع والمشعر الْحَرَام. وَفِي حَدِيث أَن قزَح هُوَ الْمشعر الْحَرَام،وَعَن ابْن عمر: أَن الْمشعر الْحَرَام هُوَ الْمزْدَلِفَة كلهَا. وَقَالَ بَعضهم: لَو كَانَ الْمشعر الْحَرَام هُوَ الْمزْدَلِفَة لقَالَ،عز وَجل: فاذكروا الله فِي الْمشعر الْحَرَام،
    .........
    (10/17)
    وَقد اخْتلف السّلف فِي الْمبيت بِالْمُزْدَلِفَ ةِ،فَذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَمُحَمّد بن إِدْرِيس فِي أحد قوليه: إِلَى وجوب الْمبيت بهَا، وَأَنه لَيْسَ بِرُكْن، فَمن تَركه فَعَلَيهِ دم، وَهُوَ قَول عَطاء وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَمُجاهد،وَعَن الشَّافِعِي: سنة، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ ابْن بنت الشَّافِعِي
    وَابْن خُزَيْمَة الشافعيان: هُوَ ركن،وَقَالَ عَلْقَمَة وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ: من ترك الْمبيت بِمُزْدَلِفَة فَاتَهُ الْحَج.
    وَقَالَ أهل الظَّاهِر: من لم يدْرك مَعَ الإِمَام صَلَاة الصُّبْح بِالْمُزْدَلِفَ ةِ بَطل حجه بِخِلَاف النِّسَاء وَالصبيان والضعفاء. وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَو ترك الْوُقُوف بهَا بعد الصُّبْح من غير عذر فَعَلَيهِ دم، وَإِن كَانَ بِعُذْر الزحام فتعجل السّير إِلَى منى، فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، والمأمور بِهِ فِي الْآيَة الْكَرِيمَة الذّكر دون الْوُقُوف، ووقف الْوُقُوف بالمشعر بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر إِلَى أَن يسفر جدا،وَعَن مَالك: لَا يقف أحد إِلَى الْأَسْفَار، بل يدْفَعُونَ قبل ذَلِك.
    ..........
    (10/20)
    وَاخْتلف السّلف فِي الْوَقْت الَّذِي يقطع فِيهِ الْحَاج التَّلْبِيَة، فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن التَّلْبِيَة لَا تقطع حَتَّى يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِه قَالَ عَطاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وروى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَج. فَإِذا زاغت الشَّمْس من يَوْم عَرَفَة قطعهَا. وَقَالَ مَالك: وَذَلِكَ الْأَمر الَّذِي لم يزل عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا،
    قَالُوا: وَهُوَ قَول ظَاهر الحَدِيث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة،وَلم يقل: حَتَّى رمى بَعْضهَا.
    ..........
    وَهُوَ جبل الْمزْدَلِفَة على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى. وَقيل: هُوَ أعظم جبال مَكَّة عرف بِرَجُل من هُذَيْل اسْمه ثبير وَدفن فِيهِ، وَهَذَا هُوَ المُرَاد، وَإِن كَانَ للْعَرَب جبال أخر كل إسم مِنْهَا ثبير، وَهُوَ منصرف،وَلَكِن بِدُونِ التَّنْوِين لِأَنَّهُ منادى مُفْرد معرفَة تَقْدِيره: أشرق يَا ثبير،وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِن للْعَرَب أَرْبَعَة أجبال أسماؤها: ثبير، وَكلهَا حجازية،وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أما حَدِيث: أقطع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شُرَيْح بن ضَمرَة الْمُزنِيّ ثبيرا فَلَيْسَ بجبل، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم مَا لمزبنة،وَعند ابْن مَاجَه: أشرق ثبير، كَيْمَا نغير
    ..........
    (10/23)
    إِذا ترك الْوُقُوف بهَا بعد الصُّبْح من غير عذر فَعَلَيهِ دم، وَإِن كَانَ بِعُذْر الزحام فتعجل السّير إِلَى منى فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَفِيه: الْإِفَاضَة قبل طُلُوع الشَّمْس من يَوْم النَّحْر، وَاخْتلفُوا فِي الْوَقْت الْأَفْضَل للإفاضة، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه إِنَّمَا يسْتَحبّ بعد كَمَال الْإِسْفَار، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور لحَدِيث جَابر الطَّوِيل. وَفِيه: (فَلم يزل وَاقِفًا حَتَّى أَسْفر جدا فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبَاب الْإِفَاضَة من الْمزْدَلِفَة قبل الْأَسْفَار) ، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وروى ابْن خُزَيْمَة والطبري من طَرِيق عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقفون بِالْمُزْدَلِفَ ةِ حَتَّى إِذا طلعت الشَّمْس فَكَانَت على رُؤُوس الْجبَال كَأَنَّهَا العمائم على رُؤُوس الرِّجَال دفعُوا فَدفع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين أَسْفر كل شَيْء قبل أَن تطلع الشَّمْس) ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الْمسور بن مخرمَة نَحوه.
    ........
    (10/30)
    ويوضح هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه سُئِلَ: هَل يركب الرجل هَدْيه؟فَقَالَ: لَا بَأْس، قد كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمر بِالرِّجَالِ يَمْشُونَ فيأمرهم بركوب هديهم.
    وَقد اخْتلفُوا فِي هَذَا على أَقْوَال:
    الأول: الْجَوَاز مُطلقًا، وَبِه قَالَ عُرْوَة بن الزبير وَنسبه ابْن الْمُنْذر إِلَى أَحْمد وَإِسْحَاق، وَبِه قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة) تبعا لأصله فِي الضَّحَايَا وَنَقله فِي (شرح الْمُهَذّب) عَن الْقفال والماوري.
    الثَّانِي: مَا قَالَه النَّوَوِيّ، وَنقل عَنهُ عَن أبي حَامِد والبندنيجي وَغَيرهمَا مُقَيّدَة بِالْحَاجةِ،وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: تجويزه بِغَيْر الْحَاجة مُخَالفَة النَّص، وَهُوَ الَّذِي نَقله التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي،حَيْثُ قَالَ: وَقد رخص قوم من أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم ركُوب الْبَدنَة إِذا احْتَاجَ إِلَى ظهرهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق،وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُول عَن جمَاعَة من التَّابِعين: أَنَّهَا لَا تركب إلاَّ عِنْد الِاضْطِرَار إِلَى ذَلِك، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن الشّعبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، فَلذَلِك قَيده صَاحب (الْهِدَايَة) من أَصْحَابنَا بالاضطرار إِلَى ذَلِك.
    .........
    (10/32)
    وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) : اخْتلف السّلف فِيمَن لم يجد الْهَدْي وَلم يصم الْأَيَّام الثَّلَاثَة قبل يَوْم النَّحْر، فَقَالَ عمر بن الْخطاب وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لَا يجْزِيه إلاَّ الْهَدْي، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ ابْن عمر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يَصُوم أَيَّام منى، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. انْتهى. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّوْم من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَعَن سَالم عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قَالَا: لم
    يرخص فِي أَيَّام التَّشْرِيق أَن يضمن إلاَّ لمن لم يجد الْهَدْي،وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمُتَمَتّع: إِذا لم يجد الْهَدْي وَلم يصم فِي الْعشْر أَنه يَصُوم أَيَّام التَّشْرِيق، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي سنَنه؟قلت: رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام أكل وَشرب، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْأَيَّام أَيَّام التَّشْرِيق، مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرج حَدِيثه الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد حسن عَنهُ،أَنه قَالَ: (خرج مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَيَّام التَّشْرِيق فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَيَّام أَيَّام وَأكل وَشرب)
    وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما ثَبت بِهَذِهِ الْآثَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق، وَكَانَ نَهْيه عَن ذَلِك بمنى والحاج مقيمون بهَا وَفِيهِمْ المتمتعون والقارنون، وَلم يسْتَثْن مِنْهُم مُتَمَتِّعا، وَلَا قَارنا، دخل فِيهِ المتمتعون والقارنون فِي ذَلِك النَّهْي. وَأما الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ سَالم عَن أَبِيه مَرْفُوعا فَهُوَ ضَعِيف، وَفِي سَنَده يحيى بن سَلام نزيل مصر،قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: ضَعِيف، وَفِيه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى فِيهِ مقَال، وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن شُعْبَة أَن حَدِيث يحيى بن سَلام حَدِيث مُنكر لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بالرواية لضعف يحيى بن سَلام وَابْن أبي ليلى وَسُوء حفظهما.
    ........
    (10/35)
    ذهب جُمْهُور الْعلمَاء إِلَى أَن الْإِشْعَار سنة، وَذكر ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بأسانيد جَيِّدَة عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس: إِن شِئْت فأشعر وَإِن شِئْت فَلَا، وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : قَالَ أَبُو حنيفَة: أكره الْإِشْعَار وَهُوَ مثلَة،وَقَالَ: هَذِه طامة من طوام الْعَالم أَن يكون مثلَة شَيْء فعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أفٍ لكل عقل يتعقب حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيلْزمهُ أَن تكون الْحجامَة وَفتح الْعرق مثله، فَيمْنَع من ذَلِك. وَهَذِه قولة لَا نعلم لأبي حنيفَة فِيهَا مُتَقَدم من السّلف، وَلَا مُوَافق من فُقَهَاء عصره إلاَّ من ابتلاه الله تَعَالَى بتقليده. قلت: هَذَا سفاهة وَقلة حَيَاء، لِأَن الطَّحَاوِيّ الَّذِي هُوَ أعلم النَّاس بمذاهب الْفُقَهَاء، وَلَا سِيمَا بِمذهب أبي حنيفَة، ذكر أَن أَبَا حنيفَة لم يكره أصل الْإِشْعَار، وَلَا كَونه سنة، وَإِنَّمَا كره مَا يفعل على وَجه يخَاف مِنْهُ هلاكها لسراية الْجرْح، لَا سِيمَا فِي حر الْحجاز مَعَ الطعْن بِالسِّنَانِ، أَو الشَّفْرَة، فَأَرَادَ سد الْبَاب على الْعَامَّة، لأَنهم لَا يراعون الْحَد فِي ذَلِك، وَأما من وقف على الْحَد فَقطع الْجلد دون اللَّحْم فَلَا يكرههُ، وَذكر الْكرْمَانِي صَاحب الْمَنَاسِك عَنهُ استحسانه،قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح، لَا سِيمَا إِذا كَانَ بمبضع وَنَحْوه، فَيصير كالفصد والحجامة،وَأما قَوْله: وَهَذِه قولة لَا نعلم لأبي حنيفَة فِيهَا مُتَقَدم من السّلف، فَقَوْل فَاسد، لِأَن ابْن بطال ذكر أَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَيْضا لَا يرى بالإشعار،وَلما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلد نَعْلَيْنِ، وأشعر الْهَدْي فِي الشق الْأَيْمن بِذِي الحليفة
    وكيعا يَقُول حِين روى هَذَا الحَدِيث: لَا تنظروا إِلَى قَول أهل الرَّأْي فِي هَذَا، فَإِن الْإِشْعَار سنة، وَقَوْلهمْ بِدعَة. قَالَ: وَسمعت أَبَا السَّائِب يَقُول: كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ لرجل مِمَّن ينظر فِي الرَّأْي: أشعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَيَقُول أَبُو حنيفَة: هُوَ مثلَة. قَالَ الرجل: فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: الْإِشْعَار مثلَة. قَالَ: فَرَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا،وَقَالَ: أَقُول لَك: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَتقول: قَالَ إِبْرَاهِيم؟ مَا أحقك بِأَن تحبس ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا؟ انْتهى. وَقَالَ الْخطابِيّ: لَا أعلم أحدا يكره الْإِشْعَار إلاَّ أَبَا حنيفَة،قَالَ: وَخَالفهُ صَاحِبَاه، وَقَالا بقول عَامَّة أهل الْعلم. قلت: الْجَواب عَمَّا نَقله التِّرْمِذِيّ عَن وَكِيع، وَعَما قَالَه الْخطابِيّ، وَعَن قَول كل من يتعقب على أبي حنيفَة بِمثل هَذَا يحصل مِمَّا قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَقد رَأَيْت كل مَا ذكره، وَفِيه أريحية العصبية والحط على من لَا يجوز الْحَط عَلَيْهِ،وحاشا من أهل الْإِنْصَاف أَن يصدر مِنْهُم مَا لَا يَلِيق ذكره فِي حق الْأَئِمَّة الأجلاء على أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: لَا أتبع الرَّأْي وَالْقِيَاس إلاَّ إِذا لم أظفر بِشَيْء من الْكتاب أَو السّنة أَو الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قد خير صَاحب الْهَدْي فِي الْإِشْعَار، وَتَركه على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَهَذَا يشْعر مِنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان الْإِشْعَار سنة وَلَا مُسْتَحبا.
    .........
    (10/36)
    قَالَ مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن ربيعَة بن الهدير: رأى رجلا متجردا بالعراق،فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: أَمر بهديه أَن يُقَلّد، فَلذَلِك تجرد، فَذكر ذَلِك لِابْنِ الزبير،فَقَالَ: بِدعَة وَرب الْكَعْبَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يجوز عندنَا أَن يكون حلف ابْن الزبير على ذَلِك إلاَّ أَنه قد علم أَن السّنة على خِلَافه. وَالله أعلم.
    .....
    (10/39)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: دَلِيل على اسْتِحْبَاب بعث الْهَدْي إِلَى الْحرم وَأَن من لم يذهب إِلَيْهِ يسْتَحبّ لَهُ بَعثه مَعَ غَيره وَفِيه: أَن من بعث هَدْيه لَا يصير محرما وَلَا يحرم عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يحرم على الْمحرم، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمذهب الْعلمَاء كَافَّة إلاَّ رِوَايَة حكيت عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَطَاء وَسَعِيد ابْن جُبَير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَحَكَاهُ الْخطابِيّ أَيْضا عَن أهل الرَّأْي أَنه إِذا فعل ذَلِك لزمَه اجْتِنَاب مَا يجتنبه الْمحرم، وَلَا يصير محرما من غير نِيَّة الْإِحْرَام، وَالصَّحِيح مَا قَالَه الْجُمْهُور، ولهذه الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة.
    ............
    (10/40)
    فَمَا كَانَ يُقَال لَهُ إلاَّ زِيَاد بن أَبِيه. وَقيل: استلحاق مُعَاوِيَة لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُقَال لَهُ: زِيَاد بن عبيد، وَكَانَت أمه سميَّة مولاة الْحَارِث بن كلدة الثَّقَفِيّ تَحت عبيد الْمَذْكُور، فَولدت زيادا على فرَاشه، فَكَانَ ينْسب إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي خلَافَة مُعَاوِيَة شهد جمَاعَة على إِقْرَار أبي سُفْيَان بِأَن زيادا وَلَده، فاستلحقه مُعَاوِيَة لذَلِك وزوى ابْنه ابْنَته،وَأمر زيادا على العراقين: الْبَصْرَة والكوفة، جَمعهمَا لَهُ، وَمَات فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين،
    ..........
    (10/40)
    ردوا قَول ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من قَوْله: (إِن من بعث بهديه إِلَى مَكَّة وَأقَام هُوَ، فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يجْتَنب مَا يجتنبه الْمحرم حَتَّى ينْحَر هَدْيه) . وَقَالَ ابْن التِّين: خَالف ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هَذَا جَمِيع الْفُقَهَاء، واحتجت عَائِشَة بِفعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا روته فِي ذَلِك يجب أَن يُصَار إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَجَعَ عَنهُ. انْتهى قلت: ابْن عَبَّاس لم ينْفَرد بذلك، بل ثَبت ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. مِنْهُم: ابْن عمر رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن أَيُّوب وَابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن جريج عَن نَافِع عَن ابْن عمر، كَانَ إِذا بعث بِالْهَدْي يمسك عَمَّا يمسك عَنهُ الْمحرم إلاَّ أَنه لَا يُلَبِّي. وَمِنْهُم: قيس بن سعد بن عبَادَة، أخرج سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَنهُ نَحْو ذَلِك. وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن عمر، وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،أَنَّهُمَا قَالَا فِي الرجل يُرْسل ببدنته: إِنَّه يمسك عَمَّا يمسك عَنهُ الْمحرم، وَهَذَا مُنْقَطع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه رد عَائِشَة على ابْن عَبَّاس؟قلت: حَاصله أَن ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك قِيَاسا للتوكيل فِي أَمر الْهَدْي على الْمُبَاشرَة لَهُ،فَقَالَت لَهُ عَائِشَة: لَا اعْتِبَار للْقِيَاس فِي مُقَابلَة السّنة الظَّاهِرَة. انْتهى. قلت: لَا نسلم أَن ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك، قِيَاسا، بل الظَّاهِر أَنه إِنَّمَا قَالَه لقِيَام دَلِيل من السّنة عِنْده، وَلم يقل ابْن عَبَّاس هَذَا وَحده، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن،ألاَ يرى أَن جمَاعَة من التَّابِعين وهم: الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن جُبَير وافقوا ابْن عَبَّاس فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من ذَلِك؟ وَاحْتج لَهُم الطَّحَاوِيّ فِي ذَلِك من حَدِيث جَابر بن عبد الله،
    ......
    (10/41)
    وَاحْتج الشَّافِعِي بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْغنم تقلد، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن حبيب،وَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة: لَا تقلد لِأَنَّهَا تضعف عَن التَّقْلِيد. وَقَالَ أَبُو عمر: احْتج من لم يره بِأَن الشَّارِع إِنَّمَا حج حجَّة وَاحِدَة لم يهد فِيهَا غنما، وأنكروا حَدِيث الْأسود الَّذِي فِي البُخَارِيّ فِي تَقْلِيد الْغنم، قَالُوا هُوَ حَدِيث لَا يعرفهُ أهل بَيت عَائِشَة. وَقَالَ بَعضهم: مَا أَدْرِي مَا وَجه الْحجَّة مِنْهُ، لِأَن حَدِيث الْبَاب دلّ على أَنه أرسلها وَأقَام، فَكَانَ ذَلِك قبل حجَّته قطعا، فَلَا تعَارض بَين الْفِعْل وَالتّرْك، لِأَن مُجَرّد التّرْك لَا يدل على نسخ الْجَوَاز، ثمَّ من الَّذِي صرح بِهِ من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بِأَنَّهُ لم يكن فِي هداياه فِي حجَّته غنم حَتَّى يسوغ الِاحْتِجَاج بذلك؟انْتهى قلت: الْهَدْي الَّذِي أرسل بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْغنم
    يْسَ هدي الْإِحْرَام، وَلِهَذَا أَقَامَ حَلَالا بعد إرْسَاله، وَلم ينْقل أَنه أهْدى غنما فِي إِحْرَامه.
    ........
    (10/47)
    أَن نحر الْبَقر جَائِز عِنْد الْعلمَاء إلاَّ أَن الذّبْح مُسْتَحبّ عِنْدهم لقَوْله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} (الْبَقَرَة: 76) . وَخَالف الْحسن بن صَالح فاستحب نحرها. وَقَالَ مَالك: إِن ذبح الْجَزُور من غير ضَرُورَة أَو نحر الشَّاة من غير ضَرُورَة لم تُؤْكَل، وَكَانَ مُجَاهِد يسْتَحبّ نحر الْبَقر. قلت: الحَدِيث ورد بِلَفْظ النَّحْر، كَمَا هَهُنَا،وَورد أَيْضا بِلَفْظ: الذّبْح، وَعَلِيهِ ترْجم البُخَارِيّ على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قيل: يجوز أَن يكون الرَّاوِي لما اسْتَوَى الْأَمْرَانِ عِنْده عبر مرّة بالنحر وَمرَّة بِالذبْحِ. وَفِي رِوَايَة ضحى،قَالَ ابْن التِّين: فَإِن يكنَّ هَدَايَا فَهُوَ أصل مَذْهَب مَالك، وَإِن يكنَّ ضحايا فَيحْتَمل أَن تكون وَاجِبَة كوجوب ضحايا غير الْحَاج. وَقَالَ الْقَدُورِيّ: الْمُسْتَحبّ فِي الْإِبِل النَّحْر، فَإِن ذَبحهَا جَازَ وَيكرهُ، وَإِنَّمَا يكره فعله لَا الْمَذْبُوح، وَالذّبْح هُوَ قطع الْعُرُوق الَّتِي فِي أَعلَى الْعُنُق تَحت اللحيين، والنحر يكون فِي اللبة، كَمَا أَن الذّبْح يكون فِي الْحلق...


    (10/56)
    (ثمَّ ليقضوا تفثهم) ، قَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: التفث، حلق الرَّأْس وَأخذ الشَّارِب ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة وقص الْأَظْفَار وَالْأَخْذ من العارضين وَرمي الْجمار وَالْوُقُوف بِعَرَفَة، وَقيل: مَنَاسِك الْحَج، والتفث فِي الأَصْل: الْوَسخ والقذارة من طول الشّعْر والأظفار والشعث، وقضاؤه نقضه، وإذهابه. وَقَالَ الزّجاج: أهل اللُّغَة لَا يعْرفُونَ التفث إلاَّ من التَّفْسِير، وَكَأَنَّهُ الْخُرُوج من الْإِحْرَام إِلَى الْإِحْلَال.
    ......
    (10/57)
    وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف الْعلمَاء فِي الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث، فَقَالَ قوم: يحرم إمْسَاك لُحُوم الْأَضَاحِي وَالْأكل مِنْهَا بعد ثَلَاث، وَأَن حكم التَّحْرِيم بَاقٍ، كَمَا قَالَه عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء: يُبَاح الْأكل والإمساك بعد الثَّلَاث، وَالنَّهْي مَنْسُوخ بِحَدِيث جَابر هَذَا وَغَيره، وَهَذَا من نسخ السّنة بِالسنةِ، وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ هُوَ نسخا بل كَانَ التَّحْرِيم لعِلَّة. فَلَمَّا زَالَت زَالَ التَّحْرِيم، وَتلك الْعلَّة هِيَ الدافة، وَكَانُوا منعُوا من ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام من أجل الدافة، فَلَمَّا زَالَت الْعلَّة الْمُوجبَة لذَلِك أَمرهم أَن يَأْكُلُوا ويدخروا. وروى مُسلم من حَدِيث مَالك عَن عبد الله بن أبي بكر عَن عبد الله بن وَاقد قَالَ نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل لُحُوم الضَّحَايَا بعد ثَلَاث. قَالَ عبد الله بن أبي بكر: فَذكرت ذَلِك لعمرة، فَقَالَت: صدق، سَمِعت عَائِشَة تَقول: دف أهل أَبْيَات من أهل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأَضْحَى زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ادخروا ثَلَاثًا ثمَّ تصدقوا بِمَا بَقِي، فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك، قَالُوا: يَا رَسُول الله إِن النَّاس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون فِيهَا الودك، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا ذَاك؟ قَالُوا: نهيت أَن تُؤْكَل لُحُوم الضَّحَايَا بعد ثَلَاث. فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ من أجل الدافة الَّتِي دفت، فَكُلُوا وَادخرُوا وتصدقوا) . قَالَ أهل اللُّغَة: الدافة، بتَشْديد الْفَاء: قوم يَسِيرُونَ جَمِيعًا سيرا خَفِيفا من: دف يدف، بِكَسْر الدَّال. ودافة الْأَعْرَاب من يرد مِنْهُم الْمصر، وَالْمرَاد هُنَا: من ورد من ضعفاء الْأَعْرَاب للمواساة. وَقيل: كَانَ النَّهْي الأول للكراهة لَا للتَّحْرِيم، قَالَ هَؤُلَاءِ: وَالْكَرَاهَة بَاقِيَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا، وَلَكِن لَا يحرم
    ........
    (10/59)
    وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقَول أبي حنيفَة وَزفر مُخَالف للْحَدِيث، فَلَا وَجه لَهُ. قلت: مَا خَالف إلاَّ من جازف، وَأَبُو حنيفَة احْتج بِمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا سَلام بن الْمُطِيع أَو الْأَحْوَص عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: من قدم شَيْئا من حجه أَو أَخّرهُ فليهرق لذَلِك دَمًا. وَأخرج أَيْضا عَن سعيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَجَابِر بن زيد أبي الشعْثَاء نَحْو ذَلِك، وَأخرج الطَّحَاوِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر نَحوه، وَأخرجه أَيْضا عَن ابْن مَرْزُوق عَن الْحصيب عَن وهيب عَن أَيُّوب عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس مثله، ثمَّ أجَاب أَبُو حنيفَة عَن حَدِيث الْبَاب وَنَحْوه: أَن المُرَاد بالحرج الْمَنْفِيّ هُوَ الْإِثْم، وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك نفي الْفِدْيَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا ابْن عَبَّاس أحد من روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: مَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَن شَيْء قدم وَلَا أخر من أَمر الْحَج إلاَّ قَالَ: لَا حرج: فَلم يكن معنى ذَلِك عِنْده على الْإِبَاحَة فِي تَقْدِيم مَا قدمُوا، وَلَا تَأْخِير مَا أخروا، مِمَّا ذكرنَا أَن فِيهِ الدَّم، وَلَكِن معنى ذَلِك عِنْده: على أَن الَّذِي فَعَلُوهُ فِي حجَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على الْجَهْل بالحكم فِيهِ، كَيفَ هُوَ فعذرهم لجهلهم وَأمرهمْ فِي المستأنف أَن يتعلموا مَنَاسِكه.
    .........
    (10/62)
    فِي (كَامِل) ابْن عدي من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا: (من لبد رَأسه للْإِحْرَام فقد وَجب عَلَيْهِ الْحلق) ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لبد رَأسه أَو ضفره فَإِن قصر وَلم يحلق أَجزَأَهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه كَانَ يَقُول: من لبد أَو عقص أَو ضفر فَإِن نوى الْحلق فليحلق، وَإِن لم يُنَوّه فَإِن شَاءَ حلق وَإِن شَاءَ قصر. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين فِي شرح التِّرْمِذِيّ: إِن الْحلق نسك. قَالَه النَّوَوِيّ، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَهُوَ القَوْل الصَّحِيح للشَّافِعِيّ. وَفِيه خَمْسَة أوجه أَصَحهَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج وَالْعمْرَة إِلَّا بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه وَاجِب. وَالثَّالِث: أَنه مُسْتَحبّ. وَالرَّابِع: أَنه اسْتِبَاحَة مَحْظُور. وَالْخَامِس: أَنه ركن فِي الْحَج وَاجِب فِي الْعمرَة وَإِلَيْهِ ذهب الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَغير وَاحِد من الشَّافِعِيَّة.

    (10/62)
    قد اخْتلف أهل الحَدِيث فِي الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي هَذَا الحَدِيث، فَذهب بَعضهم إِلَى الْجمع بَينهمَا، وَذهب بَعضهم إِلَى التَّرْجِيح لتعذر الْجمع عِنْده،وَقَالَ صَاحب الْفَهم: إِن قَوْله: (لما حلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شقّ رَأسه الْأَيْمن أعطاء أَبَا طَلْحَة) ، لَيْسَ مناقضا لما فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة أَنه قسم شعر الْجَانِب الْأَيْمن بَين النَّاس، وَشعر الْجَانِب الْأَيْسَر أعطَاهُ أم سليم، وَهِي امْرَأَة أبي طَلْحَة وَهِي أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. . قَالَ: وَحصل من مَجْمُوع هَذِه الرِّوَايَات أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما حلق الشق الْأَيْمن نَاوَلَهُ أَبَا طَلْحَة ليقسمه بَين النَّاس، فَفعل أَبُو طَلْحَة، وناول شعر الشق الْأَيْسَر ليَكُون عِنْد أبي طَلْحَة، فَصحت نِسْبَة كل ذَلِك إِلَى من نسب إِلَيْهِ، وَالله أعلم. وَقد جمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي مَوضِع إِمْكَان جمعه، وَرجح فِي مَكَان تعذره،فَقَالَ: وَالصَّحِيح أَن الَّذِي وزعه على النَّاس الشق الْأَيْمن، وَأعْطى الْأَيْسَر أَبَا طَلْحَة وَأم سليم، وَلَا تضَاد بَين الرِّوَايَتَيْن ِ، لِأَن أم سليم امْرَأَة أبي طَلْحَة، فإعطاه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهما، فنسب الْعَطِيَّة تَارَة إِلَيْهِ وَتارَة إِلَيْهَا. انْتهى. وَفِي رِوَايَة أَحْمد
    ......
    (10/63 )
    طَهَارَة شعر الْآدَمِيّ، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء، وَهُوَ الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو جَعْفَر التِّرْمِذِيّ مِنْهُم، فخصص الطَّهَارَة بِشعرِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذهب إِلَى نَجَاسَة شعر غَيره.

    (10/64)
    وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن سِيرِين أَنه قَالَ: فَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدَة السَّلمَانِي يُرِيد: هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لِأَن يكون عِنْدِي شَعْرَة مِنْهُ أحب إِلَيّ من كل بَيْضَاء وصفراء على وَجه الأَرْض. وَفِي بَطنهَا، وَقد ذكر غير وَاحِد أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ فِي قلنسوته شَعرَات من شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك كَانَ لَا يقدم على وَجه إلاَّ فتح لَهُ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره الملا فِي (السِّيرَة) : أَن خَالِدا سَأَلَ أَبَا طَلْحَة حِين فرق شعره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين النَّاس أَن يُعْطِيهِ شعر ناصيته، فَأعْطَاهُ إِيَّاه، فَكَانَ مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل مَا أقدم عَلَيْهِ.
    ......ز
    (10/63)
    أَن الحالق الْمَذْكُور اخْتلف فِي تَعْيِينه، فَقَالَ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) : زَعَمُوا أَنه معمر بن عبد الله،وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، قَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ الْكَبِير) : قَالَ عَليّ بن عبد الله: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن عقبَة، مولى معمر،عَن معمر الْعَدوي قَالَ: (كنت أرجِّل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قضى حجه، وَكَانَ يَوْم النَّحْر، جلس يحلق رَأسه، فَرفع رَأسه فَنظر فِي وَجْهي،فَقَالَ: يَا معمر! أمكنك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من شحمة أُذُنه، وَفِي يدك الموسى،فَقَالَ: ذَاك من الله تَعَالَى عَليّ وفضله. قَالَ: نعم؟ فحلقته) ،وَقيل: إِن الَّذِي حلق رَأسه
    عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام هُوَ خرَاش بن أُميَّة بن ربيعَة، حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا وهمٌ من قَائِله، وَإِنَّمَا حلق رَأسه خرَاش بن أُميَّة يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَقد بَينه ابْن عبد الْبر، فَقَالَ فِي تَرْجَمَة خرَاش، وَهُوَ الَّذِي حلق رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة. انْتهى. فَمن ذكر أَنه حلق لَهُ يَوْم النَّحْر فِي حجَّته فقد وهم، وَإِنَّمَا حلق لَهُ يَوْم النَّحْر معمر بن عبد الله الْعَدوي. كَمَا تقدم، وَهُوَ الصَّوَاب.
    أَن عِنْد أبي حنيفَة يبْدَأ بِيَمِين الحالق ويسار المحلوق، قَالَه الْكرْمَانِي فِي (مَنَاسِكه) وَعند الشَّافِعِي: يبْدَأ بِيَمِين المحلوق، وَالصَّحِيح عِنْد أبي حنيفَة مثله.

    ........
    (10/64)
    أللهم ارْحَمْ المحلقين) ، هَذَا الدُّعَاء الَّذِي وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتكرار للمحلقين وأفراد الدُّعَاء للمقصرين، هَل كَانَ ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع أَو فِي الْحُدَيْبِيَة؟فَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: كَونه فِي الْحُدَيْبِيَة هُوَ الْمَحْفُوظ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع،وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا يبعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَمَا قَالَه القَاضِي هُوَ الصَّوَاب جمعا بَين الْأَحَادِيث، فَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أم الْحصين أَنه قَالَه فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقد رُوِيَ أَن ابْن إِسْحَاق قَالَ فِي (السِّيرَة) : حَدثنِي ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد (عَن ابْن عَبَّاس،قَالَ حلق: رجال يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَقصر آخَرُونَ،فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أللهم ارْحَمْ المحلقين، ثَلَاثًا. قيل: يَا رَسُول الله! مَا بَال المحلقين ظَاهَرت لَهُم بالترحم؟قَالَ: لأَنهم لم يشكوا) . فَهَذَا يُوضح أَنه قَالَه فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
    وَقَالَ الْخطابِيّ: كَانَت عَادَتهم اتِّخَاذ الشّعْر على الرؤوس وتوفيرها وتزيينها، وَكَانَ الْحلق فيهم قَلِيلا، ويرون ذَلِك نوعا من الشُّهْرَة، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم الْحلق، فمالوا إِلَى التَّقْصِير. فَمنهمْ من حلق وَمِنْهُم من قصر لما يجد فِي نَفسه مِنْهُ، فَمن أجل ذَلِك سمح لَهُم بِالدُّعَاءِ بِالرَّحْمَةِ، وَقصر، بالآخرين إِلَى أَن استعطف عَلَيْهِم، فعممهم بِالدُّعَاءِ بعد ذَلِك.
    .........
    (10/65)
    مَا ذكر من أَفضَلِيَّة الْحلق على التَّقْصِير إِنَّمَا هِيَ فِي حقِّ الرِّجَال دون النِّسَاء، لوُرُود النَّهْي عَن حلق النِّسَاء، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ على النِّسَاء الْحلق، إِنَّمَا على النِّسَاء التَّقْصِير) . وروى التِّرْمِذِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ هَذَا
    لحَدِيث: عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة (عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تحلق الْمَرْأَة رَأسهَا)
    ..........
    (10/65)
    هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم وَلَفظه: (رحم الله المحلقين، مرّة أَو مرَّتَيْنِ. قَالُوا: والمقصرين؟قَالَ: والمقصرين) الشَّك فِيهِ من اللَّيْث وإلاَّ فَأكْثر الروَاة يوافقون لما رَوَاهُ مَالك، فَإِن مُعظم الرِّوَايَات عَن مَالك إِعَادَة الدُّعَاء للمحلقين مرَّتَيْنِ، وَعطف الْمُقَصِّرِينَ عَلَيْهِ فِي الْمرة الثَّالِثَة، وَانْفَرَدَ يحيى بن بكير دون رَوَاهُ (الْمُوَطَّأ) بِإِعَادَة ذَلِك ثَلَاث مَرَّات نبه عَلَيْهِ ابْن عبد الْبر فِي (التَّقَصِّي) وَلم يُنَبه عَلَيْهِ فِي (التَّمْهِيد) بل قَالَ فِيهِ: إِنَّهُم لم يَخْتَلِفُوا على مَالك فِي ذَلِك.
    ..........

  6. #246
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأثنين
    الموافق : 17/ صفر /1442 هجري
    الموافق : 5/ 10/ 2020 ميلادي

    تكملة كتاب " الحج " من عمدة القاري للعيني رحمه الله

    (10/ 67)
    لحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن هَذَا الْيَوْم أرخص الله تَعَالَى لكم إِذا رميتم الْجَمْرَة أَن تحلوا يَعْنِي: من كل شَيْء حرمتم إلاَّ النِّسَاء، فَإِذا أمسيتم قبل أَن تطوفوا صرتم حرما كهيئتكم قبل أَن ترموا الْجَمْرَة حَتَّى تطوفوا بِهِ) فَفِي هَذَا الحَدِيث إِن من أخَّر طواف الْإِفَاضَة حَتَّى أَمْسَى عَاد محرما كَمَا كَانَ قبل رمي الْجَمْرَة، يحرم عَلَيْهِ لبس الْمخيط وَغَيره من مُحرمَات الْإِحْرَام. قلت: حَدِيث أم سَلمَة هَذَا شَاذ، أَجمعُوا على ترك الْعَمَل بِهِ. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهَذَا حكم لَا أعلم أحدا قَالَ بِهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَنْسُوخ وَالْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ لَا ينْسَخ، فَهُوَ يدل على وجود نَاسخ وَإِن لم يظْهر، وَالله أعلم.
    ........
    (10/70)
    وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : إِذا ترك طواف الْوَدَاع لزمَه دم، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ أَكثر الْعلمَاء، فَهُوَ وَاجِب. وَقَالَ مَالك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر: هُوَ سنة لَا شَيْء فِي تَركه، وَعَن مُجَاهِد رِوَايَتَانِ كالمذهبين.
    ........
    (10/70)
    فقد أجمع الْعلمَاء أَن من رمى جَمْرَة الْعقبَة من طُلُوع الشَّمْس إِلَى الزَّوَال يَوْم النَّحْر فقد أصَاب سنتها ووقتها الْمُخْتَار. وَأَجْمعُوا أَن من رَمَاهَا يَوْم النَّحْر قبل المغيب فقد رَمَاهَا فِي وَقت لَهَا، وَإِن لم يكن ذَلِك مستحسنا لَهُ، وَاخْتلفُوا فِيمَن أخر رميها حَتَّى غربت الشَّمْس من يَوْم النَّحْر،فَذكر ابْن الْقَاسِم أَن مَالِكًا كَانَ مرّة يَقُول: عَلَيْهِ دم، وَمرَّة لَا يرى عَلَيْهِ شَيْئا،وَقَالَ الثَّوْريّ: من أَخّرهَا عَامِدًا إِلَى اللَّيْل فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ: يرميها من الْغَد وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَقد أَسَاءَ، سَوَاء تَركهَا عَامِدًا أَو نَاسِيا لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِن أخر جَمْرَة الْعقبَة إِلَى اللَّيْل لَا يرميها حَتَّى تَزُول الشَّمْس من الْغَد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَإِسْحَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمُحَمّد وَابْن الْمُنْذر وَيَعْقُوب: يَرْمِي لَيْلًا،لقَوْله: وَلَا حرج،وَلأبي حنيفَة: أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،قَالَ: من فَاتَهُ الرَّمْي حَتَّى تغيب الشَّمْس فَلَا يرم حَتَّى تَزُول الشَّمْس من الْغَد، وَإِذا رمى جَمْرَة الْعقبَة قبل طُلُوع الْفجْر يَوْم النَّحْر فَأكْثر الْعلمَاء على أَنه لَا يجزىء وَعَلِيهِ الْإِعَادَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَأبي ثَوْر وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق. وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَجَمَاعَة المكيين: يجْزِيه وَلَا إِعَادَة على من فعله وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه:
    ........
    (10/75)
    وَقد أجمع الْعلمَاء على جَوَاز الْأَمريْنِ مَعًا وَاخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من ذَلِك، فَذهب أَحْمد إِسْحَاق إِلَى اسْتِحْبَاب الرَّمْي مَاشِيا، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابر بن عبد الله أَنه كَانَ يكره أَن يركب إِلَى شَيْء من الْجمار إلاَّ من ضَرُورَة، وَذهب مَالك إِلَى اسْتِحْبَاب الْمَشْي فِي رمي أَيَّام التَّشْرِيق، وَأما جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر فيرميها على حسب حَاله كَيفَ كَانَ،وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لَيْسَ من سنة الرَّمْي الرّكُوب لَهُ وَلَا التَّرَجُّل، وَلَكِن يَرْمِي الرجل على هَيئته الَّتِي يكون حِينَئِذٍ عَلَيْهَا من ركُوب أَو مشي، وَلَا ينزل إِن كَانَ رَاكِبًا لرمي، وَلَا يركب إِن كَانَ مَاشِيا، وَأما الْأَيَّام بعْدهَا فَيَرْمِي مَاشِيا لِأَن النَّاس نازلون مَنَازِلهمْ بمنى فيمشون للرمي وَلَا يركبون، لِأَنَّهُ خُرُوج عَن التَّوَاضُع حِينَئِذٍ، هَذَا مَذْهَب مَالك. انْتهى وَاخْتَارَ بَعضهم الرّكُوب فِي الْيَوْم الأول والأخير وَالْمَشْي فِيمَا بَينهمَا،وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: رمي الْجمار ركُوب يَوْمَيْنِ ومشي يَوْمَيْنِ، وَحمله الْبَيْهَقِيّ على ركُوب الْيَوْم الأول والأخير، وَحكى النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) عَن الشَّافِعِي وموافقيه: أَنه يسْتَحبّ لمن وصل منى رَاكِبًا أَن يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر رَاكِبًا، وَلَو رَمَاهَا مَاشِيا جَازَ، وَأما من وَصلهَا مَاشِيا فيرميها مَاشِيا
    .......
    (10/81)
    وَقَالَ ابْن جني: من عَادَة الْعَرَب أَن يوقعوا على الشَّيْء الَّذِي يختصونه بالمدح اسْم الْجِنْس، ألاَ تراهم كَيفَ سموا الْكَعْبَة بِالْبَيْتِ، وَكتاب سِيبَوَيْهٍ بِالْكتاب،وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: إِن الْبَلدة خَاص لمَكَّة،أَو: اللَّام،للْعهد عَن قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أمرت أَن أعبد رب هَذِه الْبَلدة الَّذِي حرمهَا} (النَّمْل: 19)
    ..........
    (10/82)
    يوم النحرالْحَج الْأَكْبَر، وَالْعمْرَة يُقَال لَهَا الْحَج الْأَصْغَر. وَقيل: الْحَج الَّذِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَاقِفًا فِيهِ: الْحَج الْأَكْبَر،وَقيل إِنَّمَا قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) لِاجْتِمَاع الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فِيهِ، وموافقته لأعياد أهل الْكتاب.
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَج الْأَكْبَر: حَدثنَا عبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد حَدثنَا أبي عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الْحَارِث (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: سَأَلت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر؟فَقَالَ: يَوْم النَّحْر) . وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَوْقُوفا،وَقَالَ: وَهُوَ الْأَصَح. قلت: انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ مَرْفُوعا وموقوفا،

    ..............
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يَوْم النَّحْر، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعبد الله بن أبي أوفى وَالشعْبِيّ وَمُجاهد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه يَوْم عَرَفَة، ويروى ذَلِك عَن عمر وَابْنه عبد الله بن عمر. وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه أَيَّام الْحَج كلهَا،وَقد يعبر عَن الزَّمَان بِالْيَوْمِ كَقَوْلِهِم: يَوْم بُعَاث وَيَوْم الْجمل وَيَوْم صفّين وَنَحْو ذَلِك، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ مُجَاهِد: الْأَكْبَر الْقرَان، والأصغر الْإِفْرَاد،وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم حج أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ)
    ...............
    (10/84)
    عَن أبي الزبير (عَن جَابر،قَالَ: رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد فَإِذا زَالَت الشَّمْس) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة يحيى بن سعيد،وَالتِّرْمِذِيّ عَن عَليّ بن خشرم: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير (عَن جَابر،قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي يَوْم النَّحْر ضحى وَأما بعد ذَلِك فَبعد زَوَال الشَّمْس) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الله بن إِدْرِيس.
    وَفِي (التَّوْضِيح) : رمي جَمْرَة الْعقبَة من أَسبَاب التَّحَلُّل عندنَا، وَلَيْسَ بِرُكْن،خلافًا لعبد الْملك الْمَالِكِي حَيْثُ قَالَ: من خرجت عَنهُ أَيَّام منى وَلم يرم جَمْرَة الْعقبَة بَطل حجه، فَإِن ذكر بعد غرُوب شمس يَوْم النَّحْر فَعَلَيهِ دم، وَإِن تذكر بعد فَعَلَيهِ بَدَنَة،وَقَالَ ابْن وهب: لَا شَيْء عَلَيْهِ مَا دَامَت أَيَّام منى. وَفِي (الْمُحِيط) أَوْقَات رمي جَمْرَة الْعقبَة ثَلَاثَة: مسنون بعد طُلُوع الشَّمْس، ومباح بعد زَوَالهَا إِلَى غُرُوبهَا، ومكروه وَهُوَ الرَّمْي بِاللَّيْلِ. وَلَو لم يرم حَتَّى دخل اللَّيْل فَعَلَيهِ أَن يرميها فِي اللَّيْل، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعَن أبي يُوسُف،وَهُوَ قَول الثَّوْريّ: لَا يَرْمِي فِي اللَّيْل وَعَلِيهِ دم، وَلَو لم يرمِ فِي يَوْم النَّحْر حَتَّى أصبح من الْغَد رَمَاهَا وَعَلِيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة، خلافًا لَهما.




    ...........

    (10/85)
    أَن الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق مَحَله بعد زَوَال الشَّمْس، وَهُوَ كَذَلِك، وَقد اتّفق عَلَيْهِ الْأَئِمَّة. وَخَالف أَبُو حنيفَة فِي الْيَوْم الثَّالِث مِنْهَا،فَقَالَ: يجوز الرَّمْي فِيهِ قبل الزَّوَال اسْتِحْسَانًا. وَقَالَ: إِن رمى فِي الْيَوْم الأول أَو الثَّانِي قبل الزَّوَال أعَاد، وَفِي الثَّالِث يجْزِيه. وَقَالَ عَطاء وطاووس: يجوز فِي الثَّلَاثَة قبل الزَّوَال،وَاتفقَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: أَنه إِذا مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر ذَلِك بِالدَّمِ.
    وَعند الْجُمْهُور: لَا يجوز الرَّمْي فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَهِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة إلاَّ بعد الزَّوَال. وَقَالَ عَطاء وطاووس: يجْزِيه فِيهَا قبل الزَّوَال، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَاتَّفَقُوا أَنه إِذا مَضَت أَيَّام التَّشْرِيق وَغَابَتْ الشَّمْس من آخرهَا فقد فَاتَ الرَّمْي، وَيجْبر بِالدَّمِ. وَقَالَ ابْن قدامَة: إِذا أخر رمي يَوْم إِلَى يَوْم بعده أَو أخر الرَّمْي كُله إِلَى آخر أَيَّام التَّشْرِيق ترك السّنة، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ. وَعند أبي حنيفَة: إِن ترك حَصَاة أَو حصاتين أَو ثَلَاثًا إِلَى الْغَد رَمَاهَا وَعَلِيهِ لكل حَصَاة نصف صَاع، وَإِن ترك أَرْبعا إِلَى الْغَد فَعَلَيهِ دم، وَالله أعلم.
    ...........
    (10/87)
    حلف ابْن مَسْعُود من غير دَاع لذَلِك لأجل تَأْكِيد كَلَامه، وَذَلِكَ أَنه لما سمع من عبد الرَّحْمَن بن يزِيد مَا نقل عَن هَؤُلَاءِ الَّذين يرْمونَ جَمْرَة الْعقبَة من فَوق الْوَادي على خلاف مَا يَفْعَله الشَّارِع صَعب عَلَيْهِ ذَلِك، وَكَرِهَهُ مِنْهُم، وَأنكر عَلَيْهِم غَايَة الْإِنْكَار حَتَّى أَلْجَأَهُ ذَلِك إِلَى الْيمن. ثمَّ الْحِكْمَة فِي ذكر ابْن مَسْعُود لسورة الْبَقَرَة دون غَيرهَا من السُّور، وَإِن كَانَ قد أنزل عَلَيْهِ كل السُّور، وَأَن مُعظم الْمَنَاسِك مَذْكُور فِي سُورَة الْبَقَرَة،فَكَأَنَّهُ قَالَ: من هُنَا رمى من أنزل عَلَيْهِ أُمُور الْمَنَاسِك وَأخذ عَنهُ الشَّرْع فَهُوَ أولى وأحق بالاتباع مِمَّن رمى الْجَمْرَة من فَوْقهَا.

    .........

    (10/87)
    أَن السّنة رمي جَمْرَة الْعقبَة من بطن الْوَادي، وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا كره. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَلَو رَمَاهَا من أَسْفَلهَا جَازَ. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يرميها من فَوْقهَا ثمَّ رَجَعَ،فَقَالَ: لَا يرميها إلاَّ من أَسْفَلهَا وَقَالَ ابْن بطال رمى جَمْرَة الْعقبَة من حَيْثُ يَتَيَسَّر من الْعقبَة من أَو أَسْفَلهَا أَو أَعْلَاهَا أَو أوسطها، كل ذَلِك وَاسع، والموضع الَّذِي يخْتَار بهَا بطن الْوَادي من أجل حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَكَانَ جَابر بن عبد الله يرميها من بطن الْوَادي، وَبِه قَالَ عَطاء وَسَالم، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ مَالك، فرميها من أَسْفَلهَا أحب إِلَيّ. وَقد روى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جَاءَ والزحام عِنْد الْجَمْرَة، فَصَعدَ فَرَمَاهَا من فَوْقهَا.
    ...........
    (10/88)
    أَنه لَا يكره قَول الرجل سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان، وَنَحْو ذَلِك وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ مَا حكى عَن بعض التَّابِعين كَرَاهَة ذَلِك، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يُقَال السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهِ كَذَا،وَالأَصَح قَول الْجُمْهُور لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْآيَتَيْنِ من آخر سُورَة الْبَقَرَة فِي لَيْلَة كفتاه) . وَغير ذَلِك من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المرفوعة.
    ............
    (10/89)
    قَالَ سَمِعت الْحجَّاج يَقُول) هَذَا حِكَايَة عَن الْأَعْمَش عَن الْحجَّاج لأجل إِظْهَار خطئه، وَلم يقْصد بِهِ الرِّوَايَة عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن أَهلا لذَلِك،وأصل الْقَضِيَّة أَن الْأَعْمَش سمع الْحجَّاج يَقُول وَهُوَ على الْمِنْبَر: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل عمرَان وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا النِّسَاء،وَلم يقل: سُورَة الْبَقَرَة وَسورَة آل عمرَان وَسورَة النِّسَاء، وَلم ير بِإِضَافَة السُّورَة إِلَى الْبَقَرَة وَلَا إِلَى آل عمرَان وَلَا إِلَى النِّسَاء، وَنَحْو ذَلِك. وروى النَّسَائِيّ بِلَفْظ: لَا تَقولُوا: سُورَة الْبَقَرَة،قولا: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن الْأَعْمَش،قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن يُوسُف يَقُول وَهُوَ يخْطب على الْمِنْبَر: ألفوا الْقُرْآن كَمَا أَلفه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، وَالسورَة الَّتِي تذكر فِيهَا آل عمرَان.
    .......
    (10/90)
    قَالَ عِيَاض: إِن كَانَ الْحجَّاج أَرَادَ بقوله: كَمَا أَلفه جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، تأليف الْآي فِي كل سُورَة ونظمها على مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن فِي الْمُصحف، فَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين، أَجمعُوا أَن ذَلِك تأليف سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ يُرِيد تأليف السُّورَة بَعْضهَا على أثر بعض، فَهُوَ قَول بعض الْفُقَهَاء والقراء، وَخَالفهُم جمَاعَة من الْمُحَقِّقين،وَقَالُوا: بل هُوَ اجْتِهَاد من الْأمة وَلَيْسَ بتوقيف،وَقَالَ أَبُو الْفضل: تَقْدِيم الْحجَّاج سُورَة النِّسَاء على آل عمرَان فِي رِوَايَة مُسلم دَلِيل على أَنه لم يرد إلاَّ نظم الْآي، لِأَن الْحجَّاج إِنَّمَا كَانَ يتبع مصحف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا يُخَالِفهُ.
    ............
    _10/90)
    ا بُد من رمي سبع بحصات. وَمِنْهَا: التَّكْبِير مَعَ كل حَصَاة، وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَابه فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض، وَأَنه لَو ترك التَّكْبِير أَجزَأَهُ إِجْمَاعًا وَفِيه نظر، لِأَن بَعضهم يعده وَاجِبا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكبر مَعَ كل حَصَاة،وَيَقُول: بِسم الله وَالله أكبر رغما للشَّيْطَان وَحزبه، وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول،كلما رمى حَصَيَات: أللهم إهدني بِالْهدى، وقني بالتقوى، وَاجعَل الْآخِرَة خيرا لي من الأولى. وَكَانَ ابْن مَسْعُود وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،يَقُولَانِ عِنْد ذَلِك: أللهم اجْعَلْهُ حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: فَإِن سبح لَا شَيْء
    عليه
    ............
    (10/91)
    قَالَ عبد الله بن عمر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه كَانَ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة وَلَا يقف عِنْدهَا. أخرج البُخَارِيّ هَذَا مُسْندًا فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، وَقد روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده نَحوه، وَلَا يعرف فِيهِ خلاف.
    .........
    (10/92)
    وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يقف عِنْد الْجَمْرَة الأولى، فَكَانَ ابْن مَسْعُود يقف عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة مرَّتَيْنِ،وَعَن ابْن عمر: كَانَ يقف عِنْدهَا قدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة عِنْد الْجَمْرَتَيْن،وَعَن أبي مجلز قَالَ: كَانَ ابْن عمر يشبر ظله ثَلَاثَة أشبار ثمَّ يَرْمِي، وَقَامَ عِنْد الْجَمْرَتَيْن قدر قِرَاءَة سُورَة يُوسُف، وَكَانَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يقف بِقدر قِرَاءَة سُورَة من المئين، وَلَا تَوْقِيف فِي ذَلِك عِنْد الْعلمَاء، وَإِنَّمَا هُوَ ذكر وَدُعَاء، فَإِن لم يقف وَلم يدع فَلَا حرج عَلَيْهِ عِنْد أَكثر الْعلمَاء إلاَّ الثَّوْريّ فَإِنَّهُ اسْتحبَّ أَن يطعم شَيْئا أَو يهريق دَمًا.
    .............
    (10/93)
    قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا أُبِيح للْحَاج بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة قبل الطّواف بِالْبَيْتِ، فروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن الزبير وَعَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء، وَهُوَ قَول سَالم وطاووس وَالنَّخَعِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الْبَاب،وروى عَن ابْن عمر وَابْنه: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء وَالطّيب وَقَالَ مَالك يحل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَالصَّيْد. وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : أكره لمن رمى جَمْرَة الْعقبَة أَن يتطيب حَتَّى يفِيض فَإِن فعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب عُرْوَة بن الزبير وَجَمَاعَة من السّلف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنه لَا يحل للْحَاج اللبَاس وَالطّيب يَوْم النَّحْر وَإِن رمى جَمْرَة الْعقبَة وَحلق وَذبح حَتَّى تحل لَهُ النِّسَاء، وَلَا تحل لَهُ النِّسَاء حَتَّى يطوف طواف الزِّيَارَة. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يحيى بن عُثْمَان،قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف،قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن أم قيس بنت مُحصن،قَالَت: دخل عَليّ عكاشة بن مُحصن وَآخر فِي منى مسَاء يَوْم الْأَضْحَى، فَنَزَعَا ثيابهما وتركا الطّيب. فَقلت: مَا لَكمَا؟فَقَالَا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لنا: من لم يفضِ إِلَى الْبَيْت من عَشِيَّة هَذِه فَليدع الثِّيَاب وَالطّيب. وَقَالَ عَلْقَمَة وَسَالم وطاووس وَعبيد الله بن الْحسن وخارجة بن زيد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي (الصَّحِيح) وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق: إِذا رمى الْمحرم جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ حلق حل لَهُ كل شَيْء كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ إلاَّ النِّسَاء.
    ........
    (10/94)
    قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا أُبِيح للْحَاج بعد رمي جَمْرَة الْعقبَة قبل الطّواف بِالْبَيْتِ، فروى عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن الزبير وَعَائِشَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء، وَهُوَ قَول سَالم وطاووس وَالنَّخَعِيّ، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الْبَاب،وروى عَن ابْن عمر وَابْنه: أَنه يحل لَهُ كل شَيْء إلاَّ النِّسَاء وَالطّيب وَقَالَ مَالك يحل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء وَالصَّيْد. وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : أكره لمن رمى جَمْرَة الْعقبَة أَن يتطيب حَتَّى يفِيض فَإِن فعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب عُرْوَة بن الزبير وَجَمَاعَة من السّلف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنه لَا يحل للْحَاج اللبَاس وَالطّيب يَوْم النَّحْر وَإِن رمى جَمْرَة الْعقبَة وَحلق وَذبح حَتَّى تحل لَهُ النِّسَاء، وَلَا تحل لَهُ النِّسَاء حَتَّى يطوف طواف الزِّيَارَة. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يحيى بن عُثْمَان،قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف،قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة عَن أم قيس بنت مُحصن،قَالَت: دخل عَليّ عكاشة بن مُحصن وَآخر فِي منى مسَاء يَوْم الْأَضْحَى، فَنَزَعَا ثيابهما وتركا الطّيب. فَقلت: مَا لَكمَا؟فَقَالَا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لنا: من لم يفضِ إِلَى الْبَيْت من عَشِيَّة هَذِه فَليدع الثِّيَاب وَالطّيب. وَقَالَ عَلْقَمَة وَسَالم وطاووس وَعبيد الله بن الْحسن وخارجة بن زيد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي (الصَّحِيح) وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق: إِذا رمى الْمحرم جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ حلق حل لَهُ كل شَيْء كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ إلاَّ النِّسَاء.
    كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء. فَقَالَ لَهُ رجل: وَالطّيب؟فَقَالَ: أما أَنا فقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضمخ رَأسه بالمسك. أفطيب هُوَ؟قلت: سُبْحَانَ الله. آثَار التعصب الْبَاطِل لَا تَخْلُو عَنْهُم، فَلم لم يذكر صَاحب (التَّوْضِيح) حَدِيث الْبَاب فِي احتجاج الطَّحَاوِيّ لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه، فَإِنَّهُ احْتج لَهُم أَولا بِحَدِيث الْبَاب، وَأخرجه من طرق، وَاحْتج أَيْضا بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره صَاحب (التَّوْضِيح) وَصدر كَلَامه بِهِ،وغمز بقوله: وَفِيه الْحجَّاج بن أَرْطَأَة، فَمَا للحجاج بن أَرْطَأَة وَقد احتجت بِهِ الْأَرْبَعَة وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا أخرج حَدِيثه؟ وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ طعن فِيهِ بِأَن الْحسن الْبَصْرِيّ لم يسمع من ابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُ لَيْسَ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحسن العرني، وَقد روى عَن يحيى بن معِين أَن الْحسن العرني لم يسمع من ابْن عَبَّاس،وَغَيره قَالَ: سمع مِنْهُ، فالمثبت أولى من النَّافِي على مَا عرف، وَقد ذهل صَاحب (التَّوْضِيح) وَلم يفرق بَين الْبَصْرِيّ والعرني، وَمَعَ هَذَا فَحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَأما الْجَواب عَن حَدِيث أم قيس، أُخْت عكاشة بن مُحصن، فَإِنَّهُ لَا يُعَارض حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لِأَن حَدِيث عَائِشَة فِيهِ من الصِّحَّة مَا لَيْسَ فِي حَدِيث أم قيس، وَفِيه ابْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيثه هَذَا شَاذ.

    .........
    طواف الوداع
    (10/95)
    طواف الْوَدَاع لَا بُد أَن يكون آخر الْعَهْد بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم على الصَّحِيح عندنَا، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ مَالك وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر: هُوَ سنة لَا شَيْء فِي تَركه. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: هُوَ وَاجِب على الآفاقي دون الْمَكِّيّ والميقاتي، وَمن دونهم،وَقَالَ أَبُو يُوسُف: أحب إليَّ أَن يطوف الْمَكِّيّ لِأَنَّهُ يخْتم الْمَنَاسِك، وَلَا يجب على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، وَلَا على الْمُعْتَمِر لِأَن وُجُوبه عرف نصا فِي الْحَج، فَيقْتَصر عَلَيْهِ وَلَا على فَائت الْحَج، لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ الْعمرَة وَلَيْسَ لَهَا طواف الْوَدَاع،وَقَالَ مَالك: إِنَّمَا أَمر النَّاس أَن يكون آخر نسكهم الطّواف لقَوْله تَعَالَى: {ذَلِك وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب}
    ..........
    (10/96)
    ن طواف الْوَدَاع سَاقِط عَن الْحَائِض لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أخبر عَن صَفِيَّة أَنَّهَا حَاضَت قَالَ: أحابستنا هِيَ؟ فَلَمَّا أخبر أَنَّهَا قد أفاضت من قبل أَن تحيض،قَالَ: فَلَا إِذا،أَي: فَلَا تحبسنا حِينَئِذٍ، لِأَنَّهَا أدَّت الْفَرْض الَّذِي هُوَ ركن الْحَج. وَهَذَا قَول عوام أهل الْعلم، وَخَالف فِي ذَلِك طَائِفَة،فَقَالُوا: لَا يحل لأحد أَن ينفر حَتَّى يطوف طواف الْوَدَاع، وَلم يعذروا فِي ذَلِك حَائِضًا بحيضها، ذكره الطَّحَاوِيّ،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَابْن عمر وَزيد بن ثَابت، فَإِنَّهُم أمروا الْحَائِض بالْمقَام إِذا كَانَت حَائِضًا لطواف الْوَدَاع، فكأنهم أوجبوه عَلَيْهَا كَمَا يجب عَلَيْهَا طواف الْإِفَاضَة، وَأسْندَ ابْن الْمُنْذر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى نَافِع (عَن ابْن عمر،ققال: طافت امْرَأَة بِالْبَيْتِ يَوْم النَّحْر ثمَّ حَاضَت، فَأمر عمر بحبسها بِمَكَّة بعد أَن ينفر النَّاس حَتَّى تطهر وَتَطوف بِالْبَيْتِ) . ثمَّ قَالَ: وَقد ثَبت رُجُوع ابْن عمر وَزيد بن ثَابت عَن ذَلِك، وَبَقِي عمر فخالفناه لثُبُوت حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَحَادِيث هَذَا الْبَاب،وَقد روى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد: كَانَ الصَّحَابَة يَقُولُونَ: إِذا أفاضت الْمَرْأَة قبل أَن تحيض فقد فرغت، إلاَّ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: آخر عهدها بِالْبَيْتِ، وَقد وَافق عمر على رِوَايَة ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَيره، فروى أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والطَّحَاوِي، وَاللَّفْظ لأبي دَاوُد.
    ........
    (10/99)
    وَأخرجه الثَّقَفِيّ فِي فَوَائده من طَرِيق أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (أميران وليسا بأميرين: من تبع جَنَازَة فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْصَرف حَتَّى تدفن أَو يَأْذَن أَهلهَا، وَالْمَرْأَة تحج أَو تعتمر مَعَ قوم فتحيض قبل طواف الرُّكْن، فَلَيْسَ لَهُم أَن ينصرفوا حَتَّى تطهر أَو تَأذن لَهُم) . قلت: إِسْنَاد كل مِنْهُمَا إِسْنَاد ضَعِيف جدا، وَلَئِن سلمنَا صحتهما فَلَا دلَالَة لَهما على الْوُجُوب، وَقد ذكر مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) أَنه يلْزم الْجمال أَن يحبس لَهَا إِلَى انْقِضَاء أَكثر مُدَّة الْحيض، وَكَذَا على النُّفَسَاء،وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْمَوَّاز بِأَن فِيهِ تعريضا للْفَسَاد: كَقطع الطَّرِيق، وأجابه القَاضِي عِيَاض بِأَن مَحل ذَلِك أَمن الطَّرِيق، كَمَا أَن مَحَله أَن يكون مَعَ الْمَرْأَة محرم، وَالله أعلم.
    ..........
    (10/100)
    الترمذي
    لَيْسَ بنسك من مَنَاسِك الْحَج، إِنَّمَا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للاستراجة. وَقَالَ الْحَافِظ زكي الدّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ: التحصيب مُسْتَحبّ عِنْد جَمِيع الْعلمَاء،وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِيه نظر لِأَن التِّرْمِذِيّ حكى اسْتِحْبَابه عَن بعض أهل الْعلم، وَحكى النَّوَوِيّ اسْتِحْبَابه عَن مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَالْجُمْهُور، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَقد كَانَ من أهل الْعلم من لَا يستحبه فَكَانَت أَسمَاء وَعُرْوَة ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لَا يحصبان، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار) عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ سعيد بن جُبَير،فَقيل لإِبْرَاهِيم: إِن سعيد بن جُبَير لَا يَفْعَله،فَقَالَ: قد كَانَ يَفْعَله، ثمَّ بدا لَهُ،وَقَالَ ابْن بطال: وَكَانَت عَائِشَة لَا تحصب وَلَا أَسمَاء، وَهُوَ مَذْهَب عُرْوَة.
    وَقَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَ نُزُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمحصب شكرا لله تَعَالَى على الظُّهُور بعد الاختفاء، وعَلى إِظْهَار دين الله تَعَالَى بَعْدَمَا أَرَادَ الْمُشْركُونَ من إخفائه، وَإِذا تقرر أَن نزُول المحصب لَا تعلق لَهُ بالمناسك فَهَل يسْتَحبّ لكل أحد أَن ينزل فِيهِ إِذا مر بِهِ؟ يحْتَمل أَن يُقَال باستحبابه مُطلقًا، وَيحْتَمل أَن يُقَال باستحبابه للْجمع الْكثير، وَإِظْهَار الْعِبَادَة فِيهِ إِظْهَارًا لشكر الله تَعَالَى على رد كيد الْكفَّار، وَإِبْطَال مَا أرادوه. وَالله أعلم.
    ........
    (10/105)
    وَلم يذكر هَذَا فِي الحَدِيث لِأَنَّهُ لم يكن من مواسم الْحَج، وَإِنَّمَا كَانَ يُقَام فِي شهر رَجَب. وَقَالَ الرشاطي: هِيَ أكبر أسواق تهَامَة. كَانَ يقوم ثَمَانِيَة أَيَّام فِي السّنة. قَالَ حَكِيم بن حزَام، وَقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحضرها واشتريت مِنْهُ فِيهَا بزا من بز تهَامَة،وَقَالَ الفاكهي: وَلم تزل هَذِه الْأَسْوَاق قَائِمَة فِي الْإِسْلَام إِلَى أَن كَانَ أول من ترك مِنْهَا سوق عكاظ فِي زمن الْخَوَارِج سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة، وَآخر مَا ترك مِنْهَا سوق حُبَاشَة فِي زمن دَاوُد بن عِيسَى بن مُوسَى العباسي فِي سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، وروى الزبير بن بكار فِي (كتاب النّسَب) من طَرِيق حَكِيم بن حزَام أَنَّهَا،أَي: سوق عكاظ، كَانَت تُقَام صبح هِلَال ذِي الْقعدَة إِلَى أَن يمْضِي عشرُون يَوْمًا،قَالَ: ثمَّ يقوم سوق مجنة عشرَة أَيَّام إِلَى هِلَال ذِي الْحجَّة، ثمَّ يقوم سوق ذُو الْمجَاز ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ يتوجهون إِلَى منى لِلْحَجِّ، وَفِي حَدِيث أبي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبث عشر سِنِين يتبع النَّاس فِي مَنَازِلهمْ فِي الْمَوْسِم بمجنة وعكاظ يبلغ رسالات ربه) الحَدِيث. أخرجه أَحْمد وَغَيره.
    حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ الهَيْثَمِ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا كانَ ذُو المَجَازِ وعُكاظٌ مَتْجَرَ الناسِ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ كأنَّهُمْ كَرِهُوا ذالِكَ حَتَّى نَزَلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنُ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ.
    انتهى كتاب " الحج "
    ويليه
    " باب العمرة "
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات


    باب العمرة
    (10/107)
    وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَ أحَدٌ إلاَّ وعَلَيْهِ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ
    ي (الْمَنَاسِك) عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان. وَقَالَ بَعضهم: وَجزم المُصَنّف بِوُجُوب الْعمرَة، وَهُوَ متابع فِي ذَلِك للمشهور عَن الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا من أهل الْأَثر. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: الْعمرَة سنَّة لَا نعلم أحدا رخص فِي تَركهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْء ثَابت بِأَنَّهَا تطوع. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي لَا يُرِيد بِهِ أَنَّهَا لَيست بواجبة،بِدَلِيل قَوْله: لَا نعلم أحدا رخص فِي تَركهَا، لِأَن السنَّة الَّتِي يُرِيد بهَا خلاف الْوَاجِب يرخص فِي تَركهَا قطعا، والسنَّة تطلق وَيُرَاد بهَا الطَّرِيقَة، وَغير سنة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى. قلت: كَأَن شَيخنَا حمل قَول الشَّافِعِي: الْعمرَة سنة،على معنى أَنَّهَا سنّة لَا يجوز تَركهَا بِدَلِيل قَوْله: (لَيْسَ فِيهَا شَيْء ثَابت بِأَنَّهَا تطوع،وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يثبت أَنَّهَا تطوع يكون معنى قَوْله: إنَّها سنَّة أَي: سنة وَاجِبَة لَا يرخض فِي تَركهَا، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَيْسَ بِثَابِت هُوَ مُرْسل أبي صَالح الْحَنَفِيّ،فقد روى الرّبيع عَن الشَّافِعِي أَن سعيد بن سَالم القداح قد احْتج بِأَن سُفْيَان الثَّوْريّ أخبرهُ عَن يَعْقُوب بن إِسْحَاق عَن أبي صَالح الْحَنَفِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْحَج جِهَاد وَالْعمْرَة تطوع) ،قلت: هَذَا مُنْقَطع، فصح قَوْله أَنه لَيْسَ بِثَابِت.
    مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حبيب بن أبي عمْرَة عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،قَالَت: قلت: يَا رَسُول الله {على النِّسَاء جِهَاد؟قَالَ: نعم} عَلَيْهِنَّ جِهَاد لَا قتال فِيهِ الْحَج وَالْعمْرَة) . قلت: أخرجه البُخَارِيّ وَلم يذكر فِيهِ الْعمرَة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة قُتَيْبَة عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء (عَن جَابر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: الْحَج وَالْعمْرَة فريضتان واجبتان) . قلت: قَالَ ابْن عدي: هُوَ عَن ابْن لَهِيعَة عَن عَطاء غير مَحْفُوظ
    مَا الأسلام؟ فَقَالَ) الْإِسْلَام أَن تشهد أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتحج وتعتمر) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: هَذَا إِسْنَاد ثَابت أخرجه مُسلم بِهَذَا الْإِسْنَاد،وَقَالَ ابْن الْقطَّان: زِيَادَة صَحِيحَة، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) والجوزقي وَالْحَاكِم أَيْضا قلت: المُرَاد بِإِخْرَاج مُسلم لَهُ أَنه أخرج الْإِسْنَاد هَكَذَا، وَلم يسق لفظ هَذِه الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا أحَال بِهِ على الطّرق الْمُتَقَدّمَة إِلَى يحيى بن يعمر بقوله كنحو حَدِيثهمْ،وَذكر أَبُو عَمْرو عَن الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة: أَن الْعمرَة لَيست بواجبة وروى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَعنهُ أَنَّهَا سنة. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الْعمرَة سنة وَيَنْبَغِي أَن يَأْتِي بهَا عقيب الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث جَابر (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْعمرَة أَوَاجِبَة هِيَ قَالَ: لَا، وَإِن تَعْتَمِرُوا هُوَ أفضل) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: قَالَ الْمُنْذِرِيّ: وَفِي تَصْحِيحه لَهُ نظر، فَإِن فِي سَنَده الْحجَّاج بن أَرْطَاة وَلم يحْتَج بِهِ الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا)
    .........
    _10/110)
    (قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَن صلَاتهم) أَي: فسألنا ابْن عمر عَن صَلَاة هَؤُلَاءِ الَّذين يصلونَ فِي الْمَسْجِد. قَوْله: (بِدعَة) أَي: صلَاتهم بِدعَة،وَإِنَّمَا قَالَ: بِدعَة، وَإِنَّمَا الْبِدْعَة إِحْدَاث مَا لم يكن فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى صَلَاة الضُّحَى فِي بَيت أم هانىء،وَقد مر فِي: بَاب صَلَاة الضُّحَى، لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لم تثبت عِنْده فَلذَلِك أطلق عَلَيْهَا الْبِدْعَة،وَقيل: أَرَادَ أَنَّهَا من الْبدع المستحسنة، كَمَا قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي صَلَاة التَّرَاوِيح، نعمت الْبِدْعَة هَذِه،وَقيل: أَرَادَ أَن إظهارها فِي الْمَسْجِد والاجتماع لَهَا هُوَ الْبِدْعَة، لَا أَن نفس تِلْكَ الصَّلَاة بِدعَة، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجه.
    ......
    (10/111)
    فَيدل على صِحَة ذَلِك أَن عَائِشَة ردَّتْ على ابْن عمر قَوْله، (وَقَالَت: مَا اعْتَمر فِي رَجَب قطّ) . وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: إِنَّه وهم من ابْن عمر لإِجْمَاع الْمُسلمين أَنه اعْتَمر ثَلَاثًا، وروى الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن هِشَام بن عُرْوَة (عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر ثَلَاث عمر: عمْرَة فِي شَوَّال، وعمرتين فِي ذِي الْقعدَة) ، والْحَدِيث عِنْد أبي دَاوُد من رِوَايَة دَاوُد بن عبد الرَّحْمَن عَن هِشَام، إلاَّ
    نه قَالَ: (اعْتَمر عمْرَة فِي ذِي الْقعدَة وَعمرَة فِي شَوَّال) وروى الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة عمر بن ذَر عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: (اعْتَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة) . وَقَالَ شَيخنَا: كَأَن عَائِشَة تُرِيدُ وَالله أعلم بِعُمْرَة شَوَّال عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَالصَّحِيح إِنَّمَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة، كَمَا فِي حَدِيث أنس فِي الصَّحِيح، وَإِلَيْهِ ذهب الزُّهْرِيّ وَنَافِع مولى ابْن عمر وَقَتَادَة
    ........
    _(10/114)
    قَالَ ابْن حزم: سِتَّة عشر من الثِّقَات اتَّفقُوا على أنس على أَن لفظ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ إهلالاً بِحجَّة وَعمرَة مَعًا. وصرحوا عَن أنس أَنه سمع ذَلِك مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وهم: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ، وَأَبُو قلَابَة، وَحميد الطَّوِيل، وَأَبُو قزعة وثابت الْبنانِيّ، وَحميد بن هِلَال، وَيحيى بن أبي إِسْحَاق، وَقَتَادَة، وَأَبُو أَسمَاء، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمصْعَب بن سليم، وَمصْعَب بن عبد الله بن الزبْرِقَان، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، وَأَبُو قدامَة، وَزيد بن أسلم، وَعلي بن زيد. وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ عَن تِسْعَة مِنْهُم، وَقد شرحنا جَمِيع ذَلِك فِي شرحنا (شرح مَعَاني الْآثَار) فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَليرْجع إِلَيْهِ.
    .........
    (10/115)
    وَلَعَلَّه أَشَارَ إِلَى مَا رُوِيَ (عَن عَائِشَة،قَالَت: خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمْرَة فِي رَمَضَان فَأفْطر وَصمت، وَقصر وَأَتْمَمْت) الحَدِيث، أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ، وَقَالَ إِسْنَاده حسن، وَقَالَ صَاحب (الْهَدْي) إِنَّه غلط لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعْتَمر فِي رَمَضَان،ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن حمله على أَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان مُتَعَلق بقولِهَا: خرجت وَيكون المُرَاد سفر فتح مَكَّة، فَإِنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَان. انْتهى. قلت: هَذَا كُله تعسف وَتصرف بِغَيْر وَجه بطرِيق تخمين،فَمن قَالَ: إِن البُخَارِيّ وقف على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور حَتَّى يُشِير إِلَيْهِ،وَقَوله: وَيُمكن حَملَة إِلَى آخِره مستبعد جدا لِأَن ذكر الْإِمْكَان هُنَا غير موجه أصلا،لِأَن قَوْلهَا فِي رَمَضَان يتَعَلَّق بقولِهَا: خرجت قطعا، فَمَا الْحَاجة فِي ذكر ذَلِك بالإمكان؟ وَلَا يساعده أَيْضا قَوْله؟فَإِنَّهُ أَي: فَإِن فتح مَكَّة كَانَ فِي رَمَضَان فِي اعتذاره عَن البُخَارِيّ فِي اقْتِصَاره فِي التَّرْجَمَة على قَوْله: عمْرَة فِي رَمَضَان لِأَن عمرته فِي تِلْكَ السّنة لم تكن فِي رَمَضَان، بل كَانَت فِي ذِي الْقعدَة،فَإِنَّهُ أَيْضا صرح بقوله: وَاعْتمر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي تِلْكَ السّنة من الْجِعِرَّانَة لَكِن فِي ذِي الْقعدَة.
    ......
    (10/116)
    وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: حَدِيث الْعمرَة هَذَا صَحِيح، وَهُوَ فضل من الله ونعمة، فقد أدْركْت الْعمرَة منزلَة الْحَج بانضمام رَمَضَان إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ أَن ثَوَاب الْعَمَل يزِيد بِزِيَادَة شرف الْوَقْت، كَمَا يزِيد بِحُضُور الْقلب وبخلوص الْقَصْد. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَن عمْرَة فَرِيضَة فِي رَمَضَان كحجة فَرِيضَة، وَعمرَة نَافِلَة فِي رَمَضَان كحجة نَافِلَة، وَقَالَ ابْن التِّين. قَوْله: (كحجة) ، يحْتَمل أَن يكون على بَابه، وَيحْتَمل أَن يكون لبركة رَمَضَان، وَيحْتَمل أَن يكون مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَة. وَقد قَالَ بعض الْمُتَقَدِّمين: بِأَنَّهُ مَخْصُوص بِهَذِهِ الْمَرْأَة، فروى أَحْمد بن منيع فِي (مُسْنده) بِإِسْنَاد صَحِيح عَن سعيد بن جُبَير عَن امْرَأَة من الْأَنْصَار،يُقَال لَهَا أم سِنَان: أَنَّهَا أَرَادَت الْحَج، فَذكر الحَدِيث،وَفِيه: (فَقَالَ سعيد بن جُبَير: وَلَا نعلم لهَذِهِ الْمَرْأَة وَحدهَا) ،وَوَقع عِنْد أبي دَاوُد من حَدِيث يُوسُف بن عبد الله بن سَلام عَن أم معقل فِي آخر حَدِيثهَا: (فَكَانَت تَقول: الْحَج حجَّة وَالْعمْرَة عمْرَة، وَقد قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لي، فَمَا أَدْرِي إليَّ خَاصَّة أَو للنَّاس عَامَّة؟) انْتهى. وَالظَّاهِر حمله على الْعُمُوم.

    ..........

    (10/120)
    هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْ نِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي تلِي لَيْلَة النَّفر الْأَخير، وَالْمرَاد بهَا لَيْلَة الْمبيت بالمحصب. قَوْله: (وَغَيرهَا) أَي: وَغير لَيْلَة الحصبة، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن الْحَاج إِذا تمّ حجه بعد انْقِضَاء أَيَّام التَّشْرِيق يجوز لَهُ أَن يعْتَمر، وَاخْتلف السّلف فِي الْعمرَة فِي أَيَّام الْحَج، فروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد،قَالَ: سُئِلَ عمر وَعلي وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن الْعمرَة لَيْلَة الحصبة،فَقَالَ عمر: هِيَ خير من لَا شَيْء،وَقَالَ عَليّ: من مِثْقَال ذرة، وَنَحْوه،وَقَالَت عَائِشَة: الْعمرَة على قدر النَّفَقَة. انْتهى. كَأَنَّهَا أشارت بذلك إِلَى أَن الْخُرُوج لقصد الْعمرَة من الْبَلَد إِلَى مَكَّة أفضل من الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى أدنى الْحل، وَذَلِكَ أَنه يحْتَاج إِلَى نَفَقَة كَثِيرَة فِي خُرُوجه من بَلَده إِلَى مَكَّة لأجل الْعمرَة، بِخِلَاف حَالَة خُرُوجه من مَكَّة إِلَى الْحل، وَعَن عَائِشَة أَيْضا، لِأَن أَصوم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أَتصدق على عشرَة مَسَاكِين أحب إِلَيّ من أَن أعتمر بِالْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرت من التَّنْعِيم. وَقَالَ طَاوُوس فِيمَن اعْتَمر بعد الْحَج: لَا أَدْرِي أيعذبون عَلَيْهَا أم يؤجرون؟وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: اعتمرنا بعد الْحَج، فعاب ذَلِك علينا سعيد بن جُبَير، وَأَجَازَ ذَلِك آخَرُونَ. وروى ابْن عُيَيْنَة عَن الْوَلِيد بن هِشَام،قَالَ: سَأَلت أم الدَّرْدَاء عَن الْعمرَة بعد الْحَج، فأمرتني بهَا. وَسُئِلَ عَطاء عَن عمْرَة التَّنْعِيم قَالَ هِيَ تَامَّة وتجزيه وَقَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عمْرَة الْمحرم تَامَّة وَقد روى مثل هَذَا الْمَعْنى قَالَ تمت الْعمرَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة والنحر، وَأَيَّام التَّشْرِيق للْحَاج وَغَيره،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْعمرَة جَائِزَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق. قلت: فَذهب أَصْحَابنَا أَن الْعمرَة تجوز فِي جَمِيع السّنة إلاَّ أَنَّهَا تكره فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تكره فِي وَقت مَا،وَعند مَالك: تكره فِي أشهر الْحَج
    .....
    (10/120)
    هَذَا بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْعمرَة لَيْلَة الحصبة، بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْ نِ وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي اللَّيْلَة الَّتِي تلِي لَيْلَة النَّفر الْأَخير، وَالْمرَاد بهَا لَيْلَة الْمبيت بالمحصب. قَوْله: (وَغَيرهَا) أَي: وَغير لَيْلَة الحصبة، وَأَشَارَ بذلك إِلَى أَن الْحَاج إِذا تمّ حجه بعد انْقِضَاء أَيَّام التَّشْرِيق يجوز لَهُ أَن يعْتَمر، وَاخْتلف السّلف فِي الْعمرَة فِي أَيَّام الْحَج، فروى عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَادِهِ عَن مُجَاهِد،قَالَ: سُئِلَ عمر وَعلي وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن الْعمرَة لَيْلَة الحصبة،فَقَالَ عمر: هِيَ خير من لَا شَيْء،وَقَالَ عَليّ: من مِثْقَال ذرة، وَنَحْوه،وَقَالَت عَائِشَة: الْعمرَة على قدر النَّفَقَة. انْتهى. كَأَنَّهَا أشارت بذلك إِلَى أَن الْخُرُوج لقصد الْعمرَة من الْبَلَد إِلَى مَكَّة أفضل من الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى أدنى الْحل، وَذَلِكَ أَنه يحْتَاج إِلَى نَفَقَة كَثِيرَة فِي خُرُوجه من بَلَده إِلَى مَكَّة لأجل الْعمرَة، بِخِلَاف حَالَة خُرُوجه من مَكَّة إِلَى الْحل، وَعَن عَائِشَة أَيْضا، لِأَن أَصوم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أَتصدق على عشرَة مَسَاكِين أحب إِلَيّ من أَن أعتمر بِالْعُمْرَةِ الَّتِي اعْتَمَرت من التَّنْعِيم. وَقَالَ طَاوُوس فِيمَن اعْتَمر بعد الْحَج: لَا أَدْرِي أيعذبون عَلَيْهَا أم يؤجرون؟وَقَالَ عَطاء بن السَّائِب: اعتمرنا بعد الْحَج، فعاب ذَلِك علينا سعيد بن جُبَير، وَأَجَازَ ذَلِك آخَرُونَ. وروى ابْن عُيَيْنَة عَن الْوَلِيد بن هِشَام،قَالَ: سَأَلت أم الدَّرْدَاء عَن الْعمرَة بعد الْحَج، فأمرتني بهَا. وَسُئِلَ عَطاء عَن عمْرَة التَّنْعِيم قَالَ هِيَ تَامَّة وتجزيه وَقَالَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عمْرَة الْمحرم تَامَّة وَقد روى مثل هَذَا الْمَعْنى قَالَ تمت الْعمرَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة والنحر، وَأَيَّام التَّشْرِيق للْحَاج وَغَيره،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْعمرَة جَائِزَة السّنة كلهَا إلاَّ يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق. قلت: فَذهب أَصْحَابنَا أَن الْعمرَة تجوز فِي جَمِيع السّنة إلاَّ أَنَّهَا تكره فِي الْأَيَّام الْمَذْكُورَة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد: لَا تكره فِي وَقت مَا،وَعند مَالك: تكره فِي أشهر الْحَج
    .....
    .....
    (10/122)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْفَسْخ هَل هُوَ خَاص للصحابة تِلْكَ السّنة خَاصَّة أم بَاقٍ لَهُم ولغيرهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَيجوز لكل من أحرم بِحَجّ وَلَيْسَ مَعَه هدي أَن يقلب إِحْرَامه عمْرَة ويتحلل بأعمالها؟وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وجماهير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف: هُوَ مُخْتَصّ بهم فِي تِلْكَ السّنة، لَا يجوز بعْدهَا، وَإِنَّمَا أمروا بِهِ تِلْكَ السّنة ليخالفوا مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من تَحْرِيم الْعمرَة فِي أشهر الْحَج. وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ للجماهير حَدِيث أبي ذَر الَّذِي رَوَاهُ مُسلم كَانَت فِي الْحَج لأَصْحَاب مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،خَاصَّة يَعْنِي: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، وروى النَّسَائِيّ عَن الْحَارِث بن بِلَال عَن أَبِيه،قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} فسخ الْحَج لنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟فَقَالَ: بل لنا خَاصَّة) . وَأما الَّذِي فِي حَدِيث سراقَة (ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد؟ . فَقَالَ: لَا بل لِلْأَبَد) . فَمَعْنَاه جَوَاز الاعتمار فِي أشهر الْحَج وَالْقرَان
    .........
    (10/124)
    وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْإِمْلَاء) : أفضل بقاع الْحل للاعتمار الْجِعِرَّانَة، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم مِنْهَا، ثمَّ التَّنْعِيم لِأَنَّهُ أذن لعَائِشَة مِنْهَا. انْتهى. قلت: اعتماره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجِعِرَّانَة لم يكن بِالْقَصْدِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ حِين رَجَعَ من الطَّائِف مجتازا إِلَى الْمَدِينَة، وَأذنه لعَائِشَة من التنيعم لكَونهَا أقرب وأسهل عَلَيْهَا من غَيرهَا.
    ...........
    (10/130)
    وَاخْتلف الْعلمَاء إِذا وطىء الْمُعْتَمِر بعد طَوَافه وَقبل سَعْيه،فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: عَلَيْهِ الْهَدْي وَعمرَة أُخْرَى مَكَانهَا، وَيتم عمرته الَّتِي أفسدها. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَوَافَقَهُمْ أَبُو حنيفَة إِذا جَامع بعد أَرْبَعَة أَشْوَاط بِالْبَيْتِ، أَنه يقْضِي مَا بَقِي من عمرته وَعَلِيهِ دم، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ إلاَّ الدَّعْوَى
    ..........
    (10/131)
    وَيُقَال: الْحجُون مَقْبرَة أهل مَكَّة تجاه دَار أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ على ميل وَنصف من مَكَّة،وَأغْرب السُّهيْلي فَقَالَ: الْحجُون على فَرسَخ وَثلث من مَكَّة، وَهُوَ غلط ظَاهر، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ، وَعند الْمقْبرَة الْمَعْرُوفَة بالمعلاة على يسَار الدَّاخِل إِلَى مَكَّة وَيَمِين الْخَارِج مِنْهَا. وروى الْوَاقِدِيّ عَن إشياخه: أَن قصي بن كلاب لما مَاتَ دفن بالحجون فتدافن النَّاس بعده بِهِ

  7. #247
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الخميس

    الموافق : 20 /صفر /1442 هجري
    الموافق :8/أكتوبر /2020 ميلادي

    تابع / كتاب الحج من " عمدة القاري " للعيني .

    (10/130)
    وَاخْتلف الْعلمَاء إِذا وطىء الْمُعْتَمِر بعد طَوَافه وَقبل سَعْيه،فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: عَلَيْهِ الْهَدْي وَعمرَة أُخْرَى مَكَانهَا، وَيتم عمرته الَّتِي أفسدها. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَوَافَقَهُمْ أَبُو حنيفَة إِذا جَامع بعد أَرْبَعَة أَشْوَاط بِالْبَيْتِ، أَنه يقْضِي مَا بَقِي من عمرته وَعَلِيهِ دم، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهَذَا الحكم لَا دَلِيل عَلَيْهِ إلاَّ الدَّعْوَى
    ..........
    (10/131)
    وَيُقَال: الْحجُون مَقْبرَة أهل مَكَّة تجاه دَار أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ على ميل وَنصف من مَكَّة،وَأغْرب السُّهيْلي فَقَالَ: الْحجُون على فَرسَخ وَثلث من مَكَّة، وَهُوَ غلط ظَاهر، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ، وَعند الْمقْبرَة الْمَعْرُوفَة بالمعلاة على يسَار الدَّاخِل إِلَى مَكَّة وَيَمِين الْخَارِج مِنْهَا. وروى الْوَاقِدِيّ عَن إشياخه: أَن قصي بن كلاب لما مَاتَ دفن بالحجون فتدافن النَّاس بعده بِهِ.
    ..........
    (10/136)
    وَكَانَ رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ رِفَاعَة بن تَابُوت، فجَاء فتسور الْحَائِط، ثمَّ دخل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا خرج من بَاب الدَّار خرج مَعَه رِفَاعَة، فَقَالَ لَهُ النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا حملك على ذَلِك؟قَالَ: رَأَيْتُك خرجت مِنْهُ فَخرجت. فَقَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي أحمس. فَقَالَ الرجل: إِن ديننَا وَاحِد، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. قلت: هَذَا مُرْسل، وَحَدِيث جَابر مُسْند وَهُوَ أقوى. فَإِن قلت: هَل يجوز أَن يحمل على التَّعَدُّد؟قلت: لَا مَانع من هَذَا، وَلَكِن ثمَّة مَانع آخر لِأَن رِفَاعَة بن تَابُوت مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَهُوَ الَّذِي هبت الرّيح الْعَظِيمَة لمَوْته، كَمَا وَقع فِي (صَحِيح مُسلم) مُبْهما، وَفِي غَيره مُفَسرًا، فَيتَعَيَّن أَن يكون ذَلِك الرجل قُطْبَة بن عَامر،وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَن فِي مُرْسل الزُّهْرِيّ عِنْد الطَّبَرِيّ: فَدخل رجل من الْأَنْصَار من بني سَلمَة، وَقُطْبَة من بني سَلمَة، بِخِلَاف رِفَاعَة.
    ............
    (10/140)
    وَقَالَ الذَّهَبِيّ أَبُو عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَالِد الْمُخْتَار الْكذَّاب وَصفِيَّة أسلم فِي عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأمره عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على جَيش كثيف وَقَالَ لَا يبعد أَن يكون لَهُ رُؤْيَة وَكَانَ شَابًّا شجاعا خَبِيرا بِالْحَرْبِ والمكيدة مَاتَ فِي وقْعَة جسر الَّذِي يُسمى جسر أبي عبيد وَكَانَ اجْتمع جَيش كثير من الْفرس وَمَعَهُمْ أفيلة كَثِيرَة وَأمر أَبُو عبيد الْمُسلمين أَن يقتلُوا الفيلة أَولا فاحتوشوها فَقَتَلُوهَا عَن آخرهَا وَقد قدمت الْفرس بَين أَيْديهم فيلا أَبيض عَظِيما فَقدم إِلَيْهِ أَبُو عبيد فَضَربهُ بِالسَّيْفِ فَقطع زلومه فَحمل الْفِيل وَحمل عَلَيْهِ فتخبطه بِرجلِهِ فَقتله ووقف فَوْقه وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة وَابْنه الْمُخْتَار ولد عَام الْهِجْرَة وَلَيْسَت لَهُ صُحْبَة وَلَا رِوَايَة حَدِيث وَكَانَ مَعَ أَبِيه يَوْم الجسر وَكَانَ خارجيا ثمَّ صَار زيد يَأْثَم صَار شِيعِيًّا وَكَانَ ممخرقا ابتدع أَشْيَاء كَانَ يزْعم أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَأْتِيهِ بِالْوَحْي وَكَانَ قد وَقع بَينه وَبَين مُصعب بن الزبير حروب فآخر الْأَمر قَتَلُوهُ وجاؤا بِرَأْسِهِ إِلَى مُصعب رَضِي الله عَنهُ وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة -
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    نهاية " كتاب الحج والعمرة "
    ...............
    ........
    (10/141)
    وروى ابْن أبي حَاتِم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل ابْن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عَلَيْهِ إِن شَاءَ أَو يرحمه إلاَّ يحيى بن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَإِنَّهُ كَانَ {سيدا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) . ثمَّ أَهْوى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قذاة من الأَرْض فَأَخذهَا،وَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذِه القذاة) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إعلم أَن ثَنَاء الله تَعَالَى على يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ كَمَا قَالَه بَعضهم: إِنَّه كَانَ هيوبا أَو لَا ذكر لَهُ، بل أنكر حذاق الْمُفَسّرين ونقاد الْعلمَاء،وَقَالُوا: هَذَا نقيصة وعيب، وَلَا يَلِيق بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه مَعْصُوم من الذُّنُوب،أَي: لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حصر عَنْهَا. وَقيل: مَانِعا نَفسه عَن الشَّهَوَات،وَقيل: لَيست لَهُ شَهْوَة فِي النِّسَاء، وَالْمَقْصُود أَنه مدح يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ أَنه لَا يَأْتِي النِّسَاء كَمَا قَالَه بَعضهم،بل مَعْنَاهُ: أَنه مَعْصُوم عَن الْفَوَاحِش والقاذورات، وَلَا يمْنَع ذَلِك من تَزْوِيجه بِالنسَاء الْحَلَال وغشيانهن وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النَّسْل من دُعَاء زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،حَيْثُ قَالَ: {هَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة} (آل عمرَان: 83) . كَأَنَّهُ سَأَلَ ولدا لَهُ ذُرِّيَّة ونسل وعقب، وَالله تَعَالَى أعلم
    .......
    .........
    (10/144)
    وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم، وَهُوَ من الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء.

    ...........

    -
    (10/146)
    وَقد ضعف بعض لمالكية أَحَادِيث الِاشْتِرَاط فِي الْحَج،فَحكى القَاضِي عِيَاض عَن الْأصيلِيّ قَالَ: لَا يثبت عِنْدِي فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح،قَالَ: قَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم سَنَده عَن الزُّهْرِيّ غير معمر، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله: وَمَا قَالَه الْأصيلِيّ غلط فَاحش، فقد ثَبت وَصَحَّ من حَدِيث عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا على مَا مر.
    وَاخْتلفُوا فِي مَشْرُوعِيَّة الِاشْتِرَاط،فَقيل: وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة. وَقيل: مُسْتَحبّ وَهُوَ قَول أَحْمد، وَغلط من حكى الْإِنْكَار عَنهُ. وَقيل: جَائِز، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد. وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ضباعة بنت الزبير،قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم، يرَوْنَ الِاشْتِرَاط فِي الْحَج،وَيَقُولُونَ: إِن اشْترط لغَرَض لَهُ كَمَرَض أَو عذر فَلهُ أَن يحل وَيخرج من إِحْرَامه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقيل: هُوَ قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ قَالَ بِهِ عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين،وَذهب بعض التَّابِعين وَمَالك وَأَبُو حنيفَة إِلَى أَنه: لَا يَصح الِاشْتِرَاط، وحملوا الحَدِيث على أَنه قَضِيَّة عين، وَأَن ذَلِك مَخْصُوص بضباعة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلم يَرَ بعض أهل الْعلم الِاشْتِرَاط فِي الْحَج. وَقَالُوا: إِن اشْترط فَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج من إِحْرَامه فيرونه كمن لم يشْتَرط. قلت: حكى الْخطابِيّ ثمَّ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة الْخُصُوص بضباعة،وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن مَعْنَاهُ: محلي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْت،أَي: إِذا أدركتني الْوَفَاة انْقَطع إحرامي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه ظَاهر الْفساد وَلم يبين وَجهه. وَالله أعلم.
    ....
    (10/148)
    رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ،وَفِيه: (فَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام فَعَلَيهِ قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَت غير الْفَرِيضَة فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين حج النَّفْل الَّذِي يفْسد بِالْجِمَاعِ، فَإِنَّهُ يجب قَضَاؤُهُ، وَالنَّفْل الَّذِي يفوت عَنهُ بِسَبَب الْإِحْصَار؟قلت: ذَلِك بتقصير، وَهَذَا بِدُونِ تَقْصِيره،وَعند أبي حنيفَة: إِذا تحلل الْمحصر لزمَه الْقَضَاء سَوَاء كَانَ نفلا أَو فرضا، وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. فَقَالَ الْجُمْهُور: يذبح الْمحصر الْهَدْي حَيْثُ يحل، سَوَاء كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يذبحه إِلَّا
    فِي الْحرم، وَفصل الْآخرُونَ كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس هُنَا. فَإِن قلت: مَا سَبَب الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك؟قلت: منشأ الِاخْتِلَاف فِيهِ هَل نحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية فِي الْحل أَو فِي الْحرم؟وَكَانَ عَطاء يَقُول: لم ينْحَر يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم، وَوَافَقَهُ ابْن إِسْحَاق،وَقَالَ غَيره من أهل الْمَغَازِي: إِنَّمَا نحر فِي الْحل وَأَبُو حنيفَة أَخذ بقول عَطاء، وَفِي (الاستذكار) : قَالَ عَطاء وَابْن إِسْحَاق: لم ينْحَر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيه يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم.
    ..........
    (10/152)
    لَيْسَ فِيهِ تعرض لغير حلق الرَّأْس من سَائِر شُعُور الْجَسَد،وَقد أوجب الْعلمَاء الْفِدْيَة بحلق سَائِر شُعُور الْبدن لِأَنَّهَا فِي معنى حلق الرَّأْس إلاَّ دَاوُد الظَّاهِرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجب الْفِدْيَة إلاَّ بحلق الرَّأْس فَقَط،وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْمحَامِلِي: أَن فِي رِوَايَة عَن مَالك لَا تتَعَلَّق الْفِدْيَة بِشعر الْبدن.
    .........
    (10/158)
    وَقد اخْتلف فِي المُرَاد بالرفث فِي الحَدِيث على هَذِه الْأَقْوَال: قَالَ الْأَزْهَرِي: هِيَ كلمة جَامِعَة لكل مَا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة،
    ,,,,,,,,,,,,
    (10/161)
    . قَالَ الزُّهْرِيّ: نزل الْكتاب بالعمد وَجَاءَت السّنة بالْخَطَأ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا ابْن علية (عَن أَيُّوب،قَالَ: نبئت عَن طَاوُوس قَالَ: لَا يحكم على من أصَاب صيدا خطأ، إِنَّمَا يحكم على من أَصَابَهُ متعمدر) ، وَهَذَا مَذْهَب غَرِيب وَهُوَ متمسك بِظَاهِر الْآيَة، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَأحمد فِي رِوَايَة،وَقَالَ مُجَاهِد: المُرَاد بالمتعمد القاصد إِلَى قتل الصَّيْد النَّاسِي لإحرامه، فَأَما الْمُتَعَمد لقتل الصَّيْد مَعَ ذكره لإحرامه فَذَاك أمره أعظم من أَن يكفر وَقد بَطل إِحْرَامه، رَوَاهُ ابْن جرير عَنهُ من طَرِيق ابْن أبي نجيح وَلَيْث بن أبي سليم وَغَيرهمَا عَنهُ، وَهُوَ قَول غَرِيب أَيْضا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِن قَتله مُتَعَمدا قيل لَهُ: هَل قتلت قبله شَيْئا من الصَّيْد؟فَإِن قَالَ: نعم، لم يحكم عَلَيْهِ،وَقيل لَهُ: إذهب فينتقم الله مِنْك. وَإِن قَالَ: لم أقتل حكم عَلَيْهِ، وَإِن قتل بعد ذَلِك لم يحكم عَلَيْهِ، ويملأ ظَهره وبطنه ضربا وجيعا، وَبِذَلِك حكم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صيدوج، وادٍ بِالطَّائِف، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور
    ......
    (10/170)
    وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن لحم الصَّيْد مُبَاح للْمحرمِ إِذا لم يعن عَلَيْهِ وَقَالَ الْقشيرِي اخْتلف النَّاس فِي أكل الْمحرم لحم الصَّيْد على مَذَاهِب.
    أَحدهَا: أَنه مَمْنُوع مُطلقًا صيد لأَجله أَو لَا، وَهَذَا مَذْكُور عَن بعض السّلف، دَلِيله حَدِيث الصعب بن جثامة.
    الثَّانِي: مَمْنُوع إِن صَاده أَو صيد لأَجله، سَوَاء كَانَ بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ.
    الثَّالِث: إِن كَانَ باصطياده أَو بِإِذْنِهِ أَو بدلالته حرم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ على غير ذَلِك لم يحرم، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة.
    وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَأْكُل مَا صيد وَهُوَ حَلَال، وَلَا يَأْكُل مَا صيد بعد. وَحَدِيث أبي قَتَادَة هَذَا يدل على جَوَاز أكله فِي الْجُمْلَة، وعزى صَاحب (الإِمَام) إِلَى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي حنيفَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن جده الزبير،قَالَ: (كُنَّا نحمل الصَّيْد صفيفا ونتزوده وَنحن محرمون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الْبَلْخِي فِي (مُسْند أبي حنيفَة) من هَذَا الْوَجْه عَن هِشَام، وَمن جِهَة إِسْمَاعِيل بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (مُسْنده) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر: حَدثنَا شيخ لنا (عَن طَلْحَة بن عبد الله أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَحل آثَار الصَّيْد أيأكله الْمحرم؟قَالَ: نعم) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (أهْدى لطلْحَة طَائِر وَهُوَ محرم فَقَالَ: أكلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَعند الدَّارَقُطْنِي ّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطَاهُ حمَار وَحش وَأمره أَن يفرقه فِي الرقَاق) . قَالَ: ويروى عَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ رخصَة. ثمَّ قَالَ: عَائِشَة تكرههُ وَغير وَاحِد،وروى الْحَاكِم على شَرطهمَا من حَدِيث جَابر يرفعهُ: (لحم صيد الْبر لكم حَلَال وَأَنْتُم حرم مَا لم تصيدوه أَو يصاد لَكِن)
    ......
    (10/171)
    (بالقاحة) ،بقاف وحاء مُهْملَة خَفِيفَة: على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة قبل السقيا بِنَحْوِ ميل: قَالَ عِيَاض: كَذَا قَيده النَّاس كلهم، وَرَوَاهُ بَعضهم عَن البُخَارِيّ بِالْفَاءِ وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب بِالْقَافِ، وَزعم ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي أَنَّهَا بفاء وجيم،ورد ذَلِك عَلَيْهِ ابْن هِشَام: قيل: وَقع عِنْد الجوزقي من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن سُفْيَان: بالصفاح،بدل: القاحة، بِكَسْر الصَّاد بعْدهَا فَاء، وَنسب ذَلِك إِلَى التَّصْحِيف لِأَن الصفاح مَوضِع بِالرَّوْحَاءِ وَبَين الروحاء وَبَين السقيا مَسَافَة طَوِيلَة وَقَالَ الْبكْرِيّ الروحاء قَرْيَة جَامِعَة لمزينة على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا والسقيا أَيْضا قَرْيَة جَامِعَة.
    .....
    (10/180)
    وَفِي (الْحَيَوَان) للجاحظ: الْغُرَاب الأبقع غَرِيب، وَهُوَ غراب الْبَين،وكل غراب فقد يُقَال لَهُ: غراب الْبَين إِذا أَرَادوا بِهِ الشؤم إلاَّ غراب الْبَين نَفسه غراب صَغِير،وَإِنَّمَا قيل لكل غراب: غراب الْبَين، لسقوطه فِي مَوَاضِع مَنَازِلهمْ إِذا باتوا. وناس يَزْعمُونَ أَن تسافدها على غير تسافد الطير، وَإِنَّهَا تزلق بالمناقير وتلقح من هُنَالك. وَقيل: إِنَّهُم يتسافدون كبني آدم، أخبر بذلك جمَاعَة شاهدوه. وَفِي (الموعب) : الْغُرَاب الأبقع هُوَ الَّذِي فِي صَدره بَيَاض. وَفِي (الْمُحكم) : غراب أبقع يخالط سوَاده بَيَاض، وَهُوَ أخبثهما، وَبِه يضْرب الْمثل لكل خَبِيث،وَقَالَ أَبُو عمر: هُوَ الَّذِي فِي بَطْنه وظهره بَيَاض
    ..........
    (10/180)
    الرِّوَايَات الْمُطلقَة مَحْمُولَة على هَذِه الرِّوَايَة الْمقيدَة الَّتِي رَوَاهَا مُسلم، وَذَلِكَ لِأَن الْغُرَاب إِنَّمَا أُبِيح قَتله لكَونه يبتدىء بالأذى، وَلَا يبتدىء بالأذى إلاَّ الْغُرَاب الأبقع، وَأما الْغُرَاب غير الأبقع فَلَا يبتدىء بالأذى،فَلَا يُبَاح قَتله: كالعقعقق وغراب الزَّرْع. وَيُقَال لَهُ: الزاغ، وافتوا بِجَوَاز أكله، فَبَقيَ مَا عداهُ من الْغرْبَان ملتحقا بالأبقع. وَمِنْهَا: الغداف، على الصَّحِيح فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، ذكره فِي (الرَّوْضَة) بِخِلَاف مَا ذكره الرَّافِعِيّ،وسمى ابْن قدامَة الغداف: غراب الْبَين،الْمَعْرُوف عِنْد أهل اللُّغَة أَنه الأبقع قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: المُرَاد بالغراب فِي الحَدِيث الغداف والأبقع لِأَنَّهُمَا يأكلان الْجِيَف، وَأما غراب الزَّرْع فَلَا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي سعيد الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقد ذَكرْنَاهُ،وَفِيه: (وَيَرْمِي الْغُرَاب وَلَا يقْتله) ، وروى ابْن الْمُنْذر وَغَيره نَحوه عَن عَليّ وَمُجاهد،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ الْعلم قتل الْغُرَاب فِي الْإِحْرَام إلاَّ مَا جَاءَ عَن عَطاء، قَالَ فِي محرم كسر قرن غراب،قَالَ: إِن أدماه فَعَلَيهِ الْجَزَاء! وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يُتَابع أحد عَطاء على هَذَا. انْتهى. وَعند الْمَالِكِيَّة اخْتِلَاف آخر فِي الْغُرَاب والحدأة: هَل يتَقَيَّد جوازهما بِأَن يبتدئا بالأذى؟ وَهل يخْتَص ذَلِك بكبارهما؟وَالْمَشْهُور عَنْهُم مَا قَالَه ابْن شاش: لَا فرق وفَاقا لِلْجُمْهُورِ.
    وَمن أَنْوَاع الْغرْبَان: العقعق، وَهُوَ قدر الْحَمَامَة على شكل الْغُرَاب،وَقيل: سمي بذلك لِأَنَّهُ يعق فِرَاخه فيتركها بِلَا طعم، وَبِهَذَا يظْهر أَنه نوع من الْغرْبَان، وَالْعرب
    تتشائم به
    وَقَالَ أَبُو عمر: لَا تثبت هَذِه الزِّيَادَة أَعنِي: قَوْله: (والغراب الأبقع) ،وَقَالَ ابْن قدامَة: الرِّوَايَات الْمُطلقَة أصح. قلت: دَعْوَى التَّدْلِيس مَرْدُودَة لِأَن شُعْبَة لَا يروي عَن شُيُوخه المدلسين إلاَّ مَا هُوَ مسموع لَهُم، وَفِي الحَدِيث عَن شُعْبَة،قَالَ: سَمِعت قَتَادَة يحدث عَن سعيد بن الْمسيب، بل صرح النَّسَائِيّ فِي رِوَايَته من طَرِيق النَّضر بن شُمَيْل عَن شُعْبَة بِسَمَاع قَتَادَة، وَنفي ثُبُوت الزِّيَادَة مَرْدُود أَيْضا بِإِخْرَاج مُسلم، وَالزِّيَادَة مَقْبُولَة من الثِّقَة الْحَافِظ، وَهُوَ كَذَلِك هُنَا.
    ........
    (10/185)
    وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَنْبَغِي أَن تقتل عوامر الْبيُوت وسكانها إلاَّ بعد مناشدة الْعَهْد الَّذِي أَخذ عَلَيْهِنَّ، فَإِن ثَبت بعد إنشاده قتل، وَذَلِكَ حذار الْإِصَابَة فيلحقه مَا لحق الْفَتى المعرس بأَهْله، حَيْثُ وجد حَيَّة على فرَاشه فَقَتلهَا قبل مناشدته إِيَّاهَا،وَاعْتَلُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: (أَن بِالْمَدِينَةِ جنا قد أَسْلمُوا، فَإِن رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فآذنوه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن بدا لكم بعد ذَلِك فَاقْتُلُوهُ) . وَلَا تخَالف بَينهمَا، وَرُبمَا تمثل بعض الْجِنّ بِبَعْض صور الْحَيَّات فَيظْهر لأعين بني آدم، كَمَا روى ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة بنت طَلْحَة أَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَأَتْ فِي مغتسلها حَيَّة فقتلتها، فَأتيت فِي منامها،فَقيل لَهَا: إِنَّك قتلت مُسلما،فَقَالَت: لَو كَانَ مُسلما مَا دخل على أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ؟فَقيل: مَا دخل عَلَيْك إلاَّ وَعَلَيْك ثِيَابك، فَأَصْبَحت فزعة، ففرقت فِي الْمَسَاكِين إثني عشر ألفا) . قَالَ ابْن نَافِع: لَا تنذر عوامر الْبيُوت إلاَّ بِالْمَدِينَةِ خَاصَّة على ظَاهر الحَدِيث،وَقَالَ مَالك: تنذر بِالْمَدِينَةِ وَغَيرهَا، وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أوجب، وَلَا تنذر فِي الصحارى،وَقَالَ غَيره: بِالسَّوِيَّةِ بَين الْمَدِينَة وَغَيرهَا، لِأَن الْعلَّة إِسْلَام الْجِنّ، وَلَا يحل قتل مُسلم جني وَلَا أنسي. وَمِمَّا يُؤَكد قتل الْحَيَّة مَا ذكره البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن مَسْعُود، وَعند الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث ذَر (عَن عبد الله: من قتل حَيَّة أَو عقربا فقد قتل كَافِرًا) . وَقَالَ: الْمَوْقُوف أشبه بِالصَّوَابِ.
    ..........
    (10/186)
    مْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْمَعْرُوف بالأشدق لطيم الشَّيْطَان لَيست لَهُ صُحْبَة وَعرف بالأشدق لِأَنَّهُ صعد الْمِنْبَر فَبَالغ فِي شتم عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأَصَابَهُ لقُوَّة ولاه يزِيد بن مُعَاوِيَة الْمَدِينَة وَكَانَ أحب النَّاس إِلَى أهل الشَّام وَكَانُوا يسمعُونَ لَهُ ويطيعونه وَكتب إِلَيْهِ يزِيد أَن يُوَجه إِلَى عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ جَيْشًا فوجهه وَاسْتعْمل عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير بن الْعَوام وَقَالَ الطَّبَرِيّ كَانَ قدوم عَمْرو بن سعيد واليا على الْمَدِينَة من قبل يزِيد بن مُعَاوِيَة فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتِّينَ وَقيل قدمهَا فِي رَمَضَان مِنْهَا وَهِي السّنة الَّتِي ولي فِيهَا يزِيد الْخلَافَة فَامْتنعَ ابْن الزبير من بيعَته وَأقَام بِمَكَّة فَجهز إِلَيْهِ عَمْرو بن سعيد جَيْشًا وَأمر عَلَيْهِم عَمْرو بن الزبير وَكَانَ معاديا لِأَخِيهِ عبد الله وَكَانَ عَمْرو بن سعيد قد ولاه شرطة ثمَّ أرْسلهُ إِلَى قتال أَخِيه فجَاء مَرْوَان إِلَى عَمْرو بن سعيد فَنَهَاهُ فَامْتنعَ وجاءه أَبُو شُرَيْح فَذكر الْقِصَّة فَلَمَّا نزل الْجَيْش ذَا طوى خرج إِلَيْهِم جمَاعَة من أهل مَكَّة فهزموهم وَأسر عَمْرو بن الزبير فسجنه أَخُوهُ بسجن عَارِم وَكَانَ عَمْرو بن الزبير قد ضرب جمَاعَة من أهل الْمَدِينَة مِمَّن اتهمهم بالميل إِلَى أَخِيه فأقادهم عبد الله مِنْهُ حَتَّى مَاتَ عَمْرو من ذَلِك الضَّرْب
    ......
    (10/192)
    وروى أَيْضا من طَرِيق الحكم عَن شيخ من أهل مَكَّة أَن حَماما كَانَ على الْبَيْت، فذرق على يَد عمر، فَأَشَارَ عمر بِيَدِهِ فطار فَوَقع على بعض بيُوت مَكَّة، فَجَاءَت حَيَّة فأكلته، فَحكم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على نَفسه بِشَاة. وروى من طَرِيق آخر عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
    وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق مُجَاهِد، قَالَ: أصَاب وَاقد بن عبد الله بن عمر برسام فِي الطَّرِيق وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى مَكَّة، فكواه ابْن عمر.
    .......
    (10/195)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر، لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي جَوَاز قتل الْمحرم الْفَأْرَة إلاَّ النَّخعِيّ، فَإِنَّهُ منع الْمحرم من قَتلهَا، وَهُوَ قَول شَاذ، وَقَالَ القَاضِي، وَحكى السَّاجِي عَن النَّخعِيّ أَنه لَا يقتل الْمحرم الْفَأْرَة، فَإِن قَتلهَا فداها، وَهَذَا خلاف النَّص وَخلاف جَمِيع أهل الْعلم، وروى الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن حَمَّاد بن زيد،قَالَ: لما ذكرُوا لَهُ هَذَا القَوْل،قَالَ: مَا كَانَ بِالْكُوفَةِ أفحش ردا للآثار من إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لقلَّة مَا سمع مِنْهَا، وَلَا أحسن اتبَاعا لَهَا من الشّعبِيّ لِكَثْرَة مَا سمع، وَنقل ابْن شاش عَن الْمَالِكِيَّة خلافًا فِي جَوَاز قتل الصَّغِير مِنْهَا الَّذِي لَا يتَمَكَّن من الْأَذَى،والفأرة أَنْوَاع مِنْهَا: الجرذ،بِضَم الْجِيم على وزن: عمر، والخلد، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة. وَسُكُون اللَّام، وفأرة الْإِبِل، وفأرة الْمسك، وفأرة الغيط، وَحكمهَا فِي تَحْرِيم الْأكل وَجَوَاز قَتلهَا سَوَاء.: فِي الْعَقْرَب: فَإِنَّهُ يجوز قَتله مُطلقًا حَتَّى فِي ا
    ...........

    (ج10/ص 202)
    وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَو كَانَ معنى الِاقْتِدَاء فِي قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ أقتديتم اهْتَدَيْتُمْ) ، يُرَاد بِهِ الْفَتْوَى لما احْتَاجَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى إِقَامَة الْبَيِّنَة على دَعْوَاهُ،بل كَانَ يَقُول للمسور: أَنا نجم وَأَنت نجم، فبأينا اقْتدى من بَعدنَا كَفاهُ،وَلَكِن مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ الْمُزنِيّ وَغَيره من أهل النّظر: أَنه فِي النَّقْل لِأَن جَمِيعهم عدُول. وَفِيه: اعْتِرَاف للفاضل بفضله وإنصاف الصَّحَابَة بَعضهم بَعْضًا. وَفِيه: أَن الصَّحَابَة إِذا اخْتلفُوا فِي قَضِيَّة لم تكن الْحجَّة فِي قَول أحد مِنْهُم إلاَّ بِدَلِيل يجب التَّسْلِيم لَهُ من كتاب أَو سنة، كَمَا أَتَى أَبُو أَيُّوب بِالسنةِ.
    ..........
    (10/203)
    قد اخْتلف الْعلمَاء فِي غسل الْمحرم رَأسه،فَذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: إِلَى أَنه لَا بَأْس بذلك، وَردت الرُّخْصَة بذلك عَن عمر بن الْخطاب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور،
    .......
    (10/205)
    قد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب،فَقَالَ ابْن الْقصار: وَاخْتلف قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي جَوَاز دُخُول مَكَّة بِغَيْر إِحْرَام لمن لم يرد الْحَج وَالْعمْرَة،فَقَالَا مرّة: لَا يجوز دُخُولهَا إِلَّا بِالْإِحْرَامِ لاختصاصها ومباينتها جَمِيع الْبلدَانِ إلاَّ الحطابين، وَمن قرب مِنْهَا مثل جدة والطائف وَعُسْفَان لِكَثْرَة ترددهم إِلَيْهَا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَاللَّيْث، وعَلى هَذَا فَلَا دم عَلَيْهِ، نَص عَلَيْهِ فِي (الْمُدَوَّنَة) . وَقَالا مرّة أُخْرَى: دُخُولهَا بِهِ مُسْتَحبّ لَا وَاجِب. قلت: مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَمَالك فِي رِوَايَة،وَابْن وهب وَدَاوُد بن عَليّ وَأَصْحَابه الظَّاهِرِيَّة: أَنه لَا بَأْس بِدُخُول الْحرم بِغَيْر إِحْرَام، وَمذهب عَطاء بن أبي رَبَاح وَاللَّيْث بن سعد وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك فِي رِوَايَة، وَهِي قَوْله الصَّحِيح،وَالشَّافِعِيّ فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَأحمد وَأبي ثَوْر وَالْحسن بن حَيّ: لَا يصلح لأحد كَانَ منزله من وَرَاء الْمِيقَات إِلَى الْأَمْصَار أَن يدْخل مَكَّة إِلَّا بِالْإِحْرَامِ، فَإِن لم يفعل أساءو لَا شَيْء عَلَيْهِ عِنْد الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر،وَعند أبي حنيفَة: عَلَيْهِ حجَّة أَو عمْرَة. وَقَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم خلافًا بَين فُقَهَاء الْأَمْصَار فِي الحطابين وَمن يدمن الِاخْتِلَاف إِلَى مَكَّة ويكثره فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَنهم لَا يأمرون بذلك لما عَلَيْهِم من الْمَشَقَّة،
    .......
    (10/206)
    وَقَالَ الْحَاكِم فِي الإكليل: اخْتلفت الرِّوَايَات فِي لبسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِمَامَة والمغفر يَوْم الْفَتْح، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه دَخلهَا وَهُوَ حَلَال. قَالَ: وَقَالَ بعض النَّاس: الْعِمَامَة كالمغفر على الرَّأْس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث جَابر الْمَذْكُور آنِفا. قَالَ: وَهُوَ، وَإِن صَححهُ مُسلم، وَحده،فَالْأول يَعْنِي: حَدِيث أنس مجمع على صِحَّته،وَالدَّلِيل على أَن المغفر غير الْعِمَامَة قَوْله: من حَدِيد، فَبَان بِهَذَا أَن حَدِيث المغفر من حَدِيد أثبت من الْعِمَامَة السَّوْدَاء، لِأَن راويها أَبُو الزبير. وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار: أَبُو الزبير يحْتَاج إِلَى دعامة، وَقد روى عَمْرو بن حُرَيْث ومزيدة وعنبسة صَاحب (الألواح) عَن عبيد الله ابْن أبي بكر (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبس الْعِمَامَة السَّوْدَاء) ، وَلَا يَصح مِنْهَا، وَإِنَّمَا لبس الْبيَاض وَأمر بِهِ. قلت: روى مُسلم من طرق من حَدِيث أبي الزبير (عَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء) ،وَمن طَرِيق جَعْفَر بن عَمْرو بن حُرَيْث عَن أَبِيه قَالَ: (كَأَنِّي أنظر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء قد أرْخى طرفيها بَين كَتفيهِ) ،وَقَالَ ابْن السّديّ: إِن ابْن الْعَرَبِيّ قَالَ حِين قيل لَهُ: لم يروه إلاَّ مَالك قد رويته من ثَلَاثَة عشر طَرِيقا غير طَرِيق مَالك، واتهموه فِي ذَلِك ونسبوه إِلَى المجازفة، وَقد أخطأوا فِي ذَلِك لقلَّة أطلاعهم فِي هَذَا الْبَاب وَعدم وقوفهم على مَا وقف عَلَيْهِ ابْن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله،حِين قيل لَهُ: تفرد بِهِ الزُّهْرِيّ عَن مَالك: إِنَّه قد ورد من طَرِيق ابْن أخري الزُّهْرِيّ وَأبي أويس وَمعمر وَالْأَوْزَاعِي ّ،وَقَالَ: إِن رِوَايَة ابْن أخي الزُّهْرِيّ عِنْد الْبَزَّار، وَرِوَايَة أبي أويس عِنْد ابْن سعد وَابْن عدي، وَرِوَايَة معمر ذكرهَا ابْن عدي، وَرِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ ذكرهَا لمزي
    .....
    (10/207)
    وروى ابْن أبي شيبَة وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الدَّلَائِل) من طَرِيق الحكم بن عبد الْملك عَن قَتَادَة (عَن أنس: أَمن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،النَّاس يَوْم فتح مَكَّة إلاَّ أَرْبَعَة من النَّاس: عبد الْعُزَّى بن خطل، وَمقيس بن صبَابَة الْكِنَانِي، وَعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَأم سارة. فَأَما عبد الْعُزَّى بن خطل فَقتل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة) . وَقَالَ أَبُو عمر: فَقتل بَين الْمقَام وزمزم، وروى الْحَاكِم من طَرِيق أبي معشر عَن يُوسُف بن يَعْقُوب عَن السَّائِب بن زيد،قَالَ: فَأخذ عبد الله بن خطل من تَحت أَسْتَار الْكَعْبَة فَقتل بَين الْمقَام وزمزم، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ أَن أَبَا بَرزَة الْأَسْلَمِيّ قتل ابْن خطل وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة، وَرَوَاهُ أَحْمد من وَجه آخر وَهُوَ أصح مَا ورد فِي تعْيين قَاتله. وَبِه جزم البلاذري وَغَيره. وَأهل الْعلم بالأخبار. وَتحمل بَقِيَّة الرِّوَايَات على أَنهم ابتدروا قَتله، فَكَانَ الْمُبَاشر لقَتله أَبُو بَرزَة.
    وَقد جمع الْوَاقِدِيّ عَن شُيُوخه أَسمَاء من لم يُؤمن يَوْم الْفَتْح،وَأمر بقتْله عشرَة أنفس: سِتَّة رجال وَأَرْبع نسْوَة، وَالسَّبَب فِي قتل ابْن خطل وَعدم دُخُوله فِي قَوْله (من دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) مَا رَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي: (حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر وَغَيره أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
    (10/210)
    وَقَالَ الْأَصْمَعِي: فِي الْفَم الْأَسْنَان الثنايا والرباعيات والأنياب والضواحك والطواحين والأرحاء والنواجذ، وَهِي سِتَّة وَثَلَاثُونَ،من فَوق وأسفل أَربع ثنايا: ثنيتان من أَسْفَل وثنيتان من فَوق، ثمَّ يَلِي الثنايا أَربع رباعيات، رباعيتان من فَوق ورباعيتان من أَسْفَل ثمَّ يَلِي الرباعيات الأنياب،وَهِي أَرْبَعَة: نابان من فَوق ونابان من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي الأنياب الضواحك،وَهِي أَرْبَعَة أضراس إِلَى كل نَاب من أَسْفَل الْفَم وَأَعلاهُ: ضَاحِك ثمَّ يَلِي الضواحك الطواحين والأرحاء،وَهِي سِتَّة عشر فِي كل شقّ ثَمَانِيَة: أَرْبَعَة من فَوق وَأَرْبَعَة من أَسْفَل، ثمَّ يَلِي الأرحاء النواجذ أَرْبَعَة أضراس وَهِي آخر الأضراس نباتا، الْوَاحِد ناجذ
    وَسَيذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الدِّيات فِي: بَاب إِذا عض رجلا فَوَقَعت ثناياه عَن صَفْوَان بن يعلى عَن أَبِيه وَعَن زُرَارَة بن أوفى (عَن عمرَان بن حُصَيْن،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رجلا عض يَد رجل فَنزع يَده من فَمه فَوَقَعت ثنيتاه فاختصموا إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ يعَض أحدكُم أَخَاهُ كَمَا يعَض الْفَحْل لَا دِيَة لَك) .
    وَبِهَذَا أَخذ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فِي أَن المعضوض إِذا نزع يَده فَسَقَطت أَسْنَان العاض وَفك لحيته لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين،وَقَالَ مَالك: يضمن.
    (10/219)
    جَوَاب أبي حنيفَة لحكام الرَّازِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: سَأَلت أَبَا حنيفَة،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَل تُسَافِر الْمَرْأَة بِغَيْر محرم؟فَقَالَ: لَا، نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تُسَافِر امْرَأَة مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فَصَاعِدا إلاَّ وَمَعَهَا زَوجهَا أَو ذُو محرم مِنْهَا. قَالَ حكام: فَسَأَلت الْعَرْزَمِي؟فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك. حَدثنِي عَطاء أَن عَائِشَة كَانَت تُسَافِر بِلَا محرم، فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته بذلك،فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لم يدر الْعَرْزَمِي مَا روى، كَانَ النَّاس لعَائِشَة محرما، فَمَعَ أَيهمْ سَافَرت فقد سَافَرت بِمحرم، وَلَيْسَ النَّاس لغَيْرهَا من النِّسَاء كَذَلِك، وَلَقَد أحسن أَبُو حنيفَة فِي جَوَابه هَذَا لِأَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُلهنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وهم محارم لَهُنَّ، لِأَن الْمحرم من لَا يجوز لَهُ نِكَاحهَا على التأييد، فَكَذَلِك أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ حرَام على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. والعرزمي هُوَ مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي سُلَيْمَان الرَّاوِي الْكُوفِي، فِيهِ مقَال،فَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة،وَعَن أَحْمد: لَيْسَ بِشَيْء لَا يكْتب حَدِيثه، نزل جبانة عَرْزَم بِالْكُوفَةِ فنسب إِلَيْهَا، وعرزم بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي.
    ...........
    (10/222)
    ن النِّسَاء كُلهنَّ سَوَاء فِي منع الْمَرْأَة عَن السّفر، إلاَّ مَعَ ذِي محرم،إِلَّا مَا نقل عَن أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ أَنه: خصّه بِغَيْر الْعَجُوز الَّتِي لَا تشْتَهى. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: الَّذِي قَالَه الْبَاجِيّ تَخْصِيص للْعُمُوم بِالنّظرِ إِلَى الْمَعْنى، يَعْنِي مُرَاعَاة الْأَمر الْأَغْلَب، وَتعقب بِأَن لكل سَاقِطَة لاقطة. فَإِن قلت: يُمكن أَن يحْتَج للباجي فِيمَا قَالَه بِحَدِيث عدي بن حَاتِم مَرْفُوعا: (يُوشك أَن تخرج الظعينة من الْحيرَة تؤم الْبَيْت لَا جوارٍ مَعهَا) الحَدِيث فِي البُخَارِيّ قلت: هَذَا يدل على جوده لَا على جَوَازه، وَأجَاب بَعضهم عَن هَذَا بِأَنَّهُ خبر فِي سِيَاق الْمَدْح وَرفع منار الْإِسْلَام،فَيحمل على الْجَوَاز قلت: هَذَا إِخْبَار من الشَّارِع بِقُوَّة الْإِسْلَام وَكَثْرَة أَهله وَوُقُوع الْأَمْن فَلَا يسْتَلْزم ذَلِك الْجَوَاز. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: هَذِه الْمَسْأَلَة تتَعَلَّق بالعامين إِذا تَعَارضا،فَإِن قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . عَام فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، فمقتضاه أَن الِاسْتِطَاعَة على السّفر إِذا وجدت وَجب الْحَج على الْجَمِيع. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إلاَّ مَعَ ذِي محرم) عَام فِي كل سفر، فَيدْخل فِيهِ الْحَج، فَمن أخرجه عَنهُ خص الحَدِيث بِعُمُوم الْآيَة، وَمن أدخلهُ فِيهِ خص الْآيَة بِعُمُوم الحَدِيث، فَيحْتَاج إِلَى التَّرْجِيح من خَارج،وَقد رجح الْمَذْهَب الثَّانِي بِعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله) ، وَفِيه نظر لكَون النَّهْي عَاما
    ......
    (10/223)
    قْدِيم الأهم من الْأُمُور المتعارضة، فَإِن الرجل لما عرض لَهُ الْغَزْو وَالْحج رجح الْحَج، لِأَن امْرَأَته لَا يقوم غَيره مقَامه فِي السّفر مَعهَا، بِخِلَاف الْغَزْو. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَنه لَيْسَ للزَّوْج منع امْرَأَته من الْحَج الْفَرْض، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَالأَصَح عِنْدهم أَن لَهُ منعهَا لكَون الْحَج على التَّرَاخِي. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِي ّ من طَرِيق إِبْرَاهِيم الصَّائِغ عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا،فِي امْرَأَة لَهَا زوج وَلها مَال وَلَا يَأْذَن لَهَا فِي الْحَج: لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إلاَّ بِإِذن زَوجهَا قلت: هُوَ مَحْمُول على حج التَّطَوُّع، عملا بِالْحَدِيثين، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على أَن للرجل منع زَوجته من الْخُرُوج إِلَى الْأَسْفَار كلهَا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِيمَا كَانَ وَاجِبا.

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    نهاية كتاب " الحج والعمرة "
    ويليه كتاب " فضائل المدينة "

  8. #248
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأحد
    الموافق : 23/ صفر /1442 هجري
    الموافق : 11/ أكتوبر /2020 ميلادي

    " كتاب فضائل المدينة " من عمدة القاري

    يثرب
    (10/228)
    وَالأَصَح أَنَّهَا من بِلَاد الْيمن، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا بناها تبع الْأَكْبَر حِين بشر بمبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخْبر أَنه إِنَّمَا يكون فِي مَدِينَة يثرب، وَكَانَت يثرب يَوْمئِذٍ صحراء فبناها لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكتب بذلك عهدا. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لما نزل تبع الْمَدِينَة نزل بوادي قناة وحفر فِيهِ بِئْرا فَهِيَ إِلَى الْيَوْم تدعى ببئر الْملك، وَذكر أَيْضا أَن الدَّار الَّتِي نزلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ الدَّار الَّتِي بناها تبع لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ: وَمن يَوْم مَاتَ تبع إِلَى مولد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف سنة، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم،وَيُقَال: كَانَ سكان الْمَدِينَة العماليق،ثمَّ نزلها طَائِفَة من بني إِسْرَائِيل قيل: أرسلهم مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، كَمَا ذكره الزبير بن بكار، ثمَّ نزلها الْأَوْس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بِسَبَب سيل العرم، والأوس والخزرج أَخَوان،وأمهما: قيلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة، وهما الْأَنْصَار، مِنْهُم الأوسيون وَمِنْهُم الخزرجيون، وَقد ذكرنَا أَن اسْم الْمَدِينَة كَانَ يثرب،فسماها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طيبَة وطابة،وَمن أسمائها: الْعَذْرَاء، وجابرة، ومجبورة، والمحبة، والمحبوبة، والقاصمة، قصمت الْجَبَابِرَة. وَلم تزل عزيزة فِي الْجَاهِلِيَّة، وأعمها الله بمهاجرة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمنعت على الْمُلُوك من التبابعة وَغَيرهم.
    ........
    (10/234)
    (تَأْكُل الْقرى) ،أَي: يغلب أَهلهَا سَائِر الْبِلَاد، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْغَلَبَة لِأَن الْآكِل غَالب على الْمَأْكُول،وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الْأكل أَنَّهَا مَرْكَز جيوش الْإِسْلَام فِي أول الْأَمر فَمِنْهَا فتحت الْبِلَاد فَغنِمت أموالها. أَو أَن أكلهَا يكون من الْقرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها، وَوَقع فِي (موطأ ابْن وهب) : قلت لمَالِك: مَا تَأْكُل الْقرى؟قَالَ: تفتح الْقرى. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بأكلها الْقرى غَلَبَة فَضلهَا على فضل غَيرهَا،فَمَعْنَاه: أَن الْفَضَائِل تضمحل فِي جنب عَظِيم فَضلهَا حَتَّى يكَاد تكون عدما، وَقد سميت مَكَّة أم الْقرى،قيل: الْمَذْكُور للمدينة أبلغ مِنْهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي يظْهر من كَلَامه أَنه مِمَّن يرجح الْمَدِينَة
    من مكة
    ...........
    (10/235)
    الَ الْمُهلب بن أبي صفرَة: هَذَا الحَدِيث حجَّة لمن فضل الْمَدِينَة على مَكَّة، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أدخلت مَكَّة وَسَائِر الْقرى فِي الْإِسْلَام، فَصَارَت الْقرى وَمَكَّة فِي صَحَائِف أهل الْمَدِينَة، وَإِلَيْهِ ذهب مَالك وَأهل الْمَدِينَة، وروى عَن أَحْمد خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ،وَقَالَ ابْن حزم: روى الْقطع بتفضيل مَكَّة على الْمَدِينَة عَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَابر وَأَبُو هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن الزبير وَعبيد الله بن عدي، مِنْهُم ثَلَاثَة مدنيون بأسانيد فِي غَايَة الصِّحَّة،قَالَ: وَهُوَ قَول جَمِيع الصَّحَابَة وَجُمْهُور الْعلمَاء، وَاحْتج مقلد وَمَالك بأخبرا ثَابِتَة مِنْهَا، قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَالَ: وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ، إِنَّمَا فِيهِ أَنه حرمهَا كَمَا حرمهَا إِبْرَاهِيم،وَبِقَوْلِهِ: (أللهم بَارك لنا فِي تمرنا ومدنا) ،وَبِقَوْلِهِ: (أللهم إجعل بِالْمَدِينَةِ ضعْفي مَا جعلت بِمَكَّة من الْبركَة) ،قَالَ: وَلَا حجَّة لَهُم فيهمَا، إِنَّمَا فيهمَا الدُّعَاء للمدينة وَلَيْسَ من بَاب الْفضل فِي شَيْء،وَبِقَوْلِهِ: الْمَدِينَة كالكير) ، وَلَا حجَّة لَهُم، لِأَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي وَقت دون وَقت، وَفِي قوم دون قوم، وَفِي خَاص دون عَام، انْتهى. وَاحْتج بَعضهم على تَفْضِيل الْمَدِينَة على مَكَّة بقوله: (كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد) ، وَلَا حجَّة فِي ذَلِك،لِأَن هَذَا فِي خَاص من النَّاس وَمن الزَّمَان بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق} (التَّوْبَة: 101) . وَالْمُنَافِق خَبِيث بِلَا شكّ، وَقد خرج من الْمَدِينَة بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذ وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن مَسْعُود وَطَائِفَة، ثمَّ عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وعمار وَآخَرُونَ، وهم من أطيب الْخلق، فَدلَّ على أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ تَخْصِيص نَاس دون نَاس، وَوقت دون وَقت.
    .............
    (10/236)
    وروى الزبير فِي (أَخْبَار الْمَدِينَة) من طَرِيق عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي،قَالَ: بَلغنِي أَن لَهَا أَرْبَعِينَ إسما، وَرُوِيَ من طَرِيق أبي سُهَيْل بن مَالك عَن كَعْب الْأَحْبَار،قَالَ: نجد فِي كتاب الله تَعَالَى،الَّذِي أنزل على مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن الله قَالَ للمدينة: يَا طيبَة، يَا طابة، يَا مسكينة، لَا تقبلي الْكُنُوز أرفع أجاجيرك على الْقرى
    ...........
    (10/238)
    وَقَالَ عِيَاض: وَقد وجد ذَلِك حَيْثُ صَارَت،أَي: الْمَدِينَة مَعْدن الْخلَافَة ومقصد النَّاس وملجأهم، وحملت إِلَيْهَا خيرات الأَرْض وَصَارَت من أعمر الْبِلَاد، فَلَمَّا انْتَقَلت الْخلَافَة مِنْهَا إِلَى الشَّام ثمَّ إِلَى الْعرَاق وتغلبت عَلَيْهَا الْأَعْرَاب وتعاورتها الْفِتَن، وخلت من أَهلهَا فقصدتها عوافي الطير وَالسِّبَاع، وَذكر الإخباريون أَنَّهَا خلت من أَهلهَا فِي بعض الْفِتَن الَّتِي جرت بِالْمَدِينَةِ، وَبقيت ثمارها للعوافي،كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وخلت مُدَّة ثمَّ تراجع النَّاس إِلَيْهَا، وَفِي حَال خلوها عَدَت الْكلاب على سواري الْمَسْجِد،وَعَن مَالك: حَتَّى يدْخل الْكَلْب أَو الذِّئْب فيعوي على بعض سواري الْمَسْجِد،وَقَالَ عِيَاض: هَذَا مِمَّا جرى فِي الْعَصْر الأول وانقضى، وَهَذَا من معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمُخْتَار أَن هَذَا التّرْك يكون فِي آخر الزَّمَان عِنْد قيام السَّاعَة، ويوضحه قضة الراعبين،فقد وَقع عِنْد مُسلم بِلَفْظ: (ثمَّ يحْشر راعيان) ،وَفِي البُخَارِيّ: أَنَّهُمَا آخر من يحْشر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم وَغَيرهمَا من حَدِيث محجن بن الأدرع الْأَسْلَمِيّ،قَالَ: (بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحَاجَة، ثمَّ لَقِيَنِي وَأَنا خَارج من بعض طرق الْمَدِينَة، فَأخذ بيَدي حَتَّى أَتَيْنَا أحدا، ثمَّ أقبل على الْمَدِينَة،فَقَالَ: ويل أمهَا قَرْيَة يَوْم يَدعهَا أَهلا كأينع مَا يكون؟قلت: يَا رَسُول الله {من يَأْكُل ثَمَرهَا؟قَالَ: عَافِيَة الطير وَالسِّبَاع) . وروى عمر بن شبة بِإِسْنَاد صَحِيح، (عَن عَوْف بن مَالك،قَالَ: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَسْجِد ثمَّ نظر إِلَيْنَا،فَقَالَ: أما وَالله لتدعنها مذللة أَرْبَعِينَ عَاما للعوافي} أَتَدْرُونَ مَا العوافي؟ الطير وَالسِّبَاع) . انْتهى. وَهَذَا لم يَقع قطعا. قَالَ الْمُهلب: فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمَدِينَة تسكن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَإِن خلت فِي بعض الْأَوْقَات يقْصد الراعيان بغنمهما إِلَى الْمَدِينَة.
    ....
    (10/239)
    الَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: افتتحت الْيمن فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَيَّام أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وافتتحت الشَّام بعْدهَا، وَالْعراق بعْدهَا. انْتهى. قلت: يمن اسْم يعرب بن قحطان بن عَابِر، وَهُوَ هود، فَلذَلِك يُقَال أَرض يمن، ذكره فِي كتاب (التيجان) وَذكر الْبكْرِيّ: إِنَّمَا سمي الْيمن يمنا لِأَنَّهُ عَن يَمِين الْكَعْبَة، كَمَا سمي الشَّام شاما لِأَنَّهُ عَن شمال الْكَعْبَة. وَقيل: إِنَّمَا سمي بذلك قبل أَن تعرف الْكَعْبَة لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس،وَقيل: سميت الْيمن يمنا بيمن بن قحطان، وَحكى الْهَمدَانِي،قَالَ: لما طغت الْعَرَب العاربة أَقبلت بَنو يقطن بن عَابِر فتيامنوا،فَقَالَت الْعَرَب: تيامنت بَنو يقطن، فسموا الْيمن. وتشأم الْآخرُونَ فسموا شاما.
    ..........
    (10:/240)
    وَقَالَ الْمُهلب فِيهِ: إِن الْمَدِينَة لَا يَأْتِيهَا إلاَّ مُؤمن، وَإِنَّمَا يَسُوقهُ إِلَيْهَا إيمَانه ومحبته فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَ الْإِيمَان يرجع إِلَيْهَا كَمَا خرج مِنْهَا أَولا. وَمِنْهَا ينتشر كانتشار الْحَيَّة من جحرها، ثمَّ إِذا راعها شَيْء رجعت إِلَى جحرها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَ هَذَا فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والقرن الَّذِي كَانَ مِنْهُم وَالَّذين يَلُونَهُمْ خَاصَّة، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَمر مُسْتَقِيمًا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه تَنْبِيه على صِحَة مَذْهَبهم وسلامتهم من الْبدع، وَأَن عَمَلهم حجَّة، كَمَا رَوَاهُ مَالك، رَحمَه الله. قلت: هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي زمن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِلَى انْقِضَاء الْقُرُون الثَّلَاثَة، وَهِي تسعون سنة، وَأما بعد ذَلِك فقد تَغَيَّرت الْأَحْوَال وَكَثُرت الْبدع خُصُوصا فِي زَمَاننَا هَذَا على مَا لَا يخفى.
    ........
    (10/241)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: يَعْنِي أَرَادَ الله الْمَكْر بهم لَا يمهله الله وَلم يُمكن لَهُ كَمَا انْقَضى شَأْن من حاربها أَيَّام بني أُميَّة مثل مُسلم بن عقبَة، فَإِنَّهُ هلك فِي مُنْصَرفه عَنْهَا، ثمَّ هلك مرسله إِلَيْهَا يزِيد بن مُعَاوِيَة على إِثْر ذَلِك، وَغَيرهمَا مِمَّن صنع صنيعهما،وَقيل: المُرَاد من كادها اغتيالاً، وعَلى غَفلَة من أَهلهَا لَا يتم لَهُ أَمر، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من أرادها فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسوء اضمحل أمره كَمَا يضمحل الرصاص فِي النَّار
    .......
    (10/247)
    رَجَعَ نَاس من أَصْحَابه " أَي من أَصْحَاب النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمسلمون فسلكوا على الْبَدَائِع وهم ألف رجل وَالْمُشْرِكُون َ ثَلَاثَة آلَاف فَمضى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نزل بِأحد وَرجع عَنهُ عبد الله ابْن أبي بن سلول فِي ثَلَاثمِائَة فَبَقيَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَبْعمِائة قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد أهل الْمَغَازِي أَنهم بقوا فِي سَبْعمِائة قَالَ وَالْمَشْهُور عَن الزُّهْرِيّ أَنهم بقوا فِي أَرْبَعمِائَة مقَاتل وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة وَكَانَ على خيل الْمُشْركين خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ مَعَهم مائَة فرس وَكَانَ لواؤهم مَعَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة قَالَ وَلم يكن مَعَ الْمُسلمين فرس وَاحِد وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وعدة أَصْحَاب رَسُول الله سَبْعمِائة ذِرَاع وَلم يكن مَعَهم من الْخَيل سوى فرسين فرس لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفرس لأبي بردة قَوْله " قَالَت فرقة نقتلهم " أَي نقْتل الراجعين وَقَالَت فرقة لَا نقتلهم فَلَمَّا اخْتلفُوا أنزل الله تَعَالَى {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين وَالله أركسهم بِمَا كسبوا أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله وَمن يضلل الله فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا} وَهَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي النِّسَاء وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نُزُولهَا فَقيل فِي هَؤُلَاءِ الَّذين رجعُوا من غَزْوَة أحد بعد أَن خَرجُوا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقيل فِي قوم استئذنوا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخُرُوج إِلَى البدو معتلين باجتواء الْمَدِينَة فَلَمَّا خَرجُوا لم يزَالُوا راحلين مرحلة حَتَّى لَحِقُوا بالمشركين فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فيهم فَقَالَ بَعضهم هم كفار وَقَالَ بَعضهم هم مُسلمُونَ وَقيل كَانُوا قوما هَاجرُوا من مَكَّة ثمَّ بدا لَهُم فَرَجَعُوا وَكَتَبُوا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا على دينك وَمَا أخرجنَا إِلَّا اجتواء الْمَدِينَة والاشتياق إِلَى بلدنا وَقيل هم العرنيون الَّذين أَغَارُوا على السَّرْح وَقتلُوا يسارا وَقيل هم قوم أظهرُوا الْإِسْلَام وقعدوا عَن الْهِجْرَة
    الْبركَة فِي الصَّاع وَالْمدّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الظَّاهِر أَن الْبركَة حصلت فِي نفس الْكَيْل بِحَيْثُ يَكْفِي الْمَدّ فِيهَا من لَا يَكْفِيهِ فِي غَيرهَا، وَهَذَا أَمر محسوس عِنْد من سكنها،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِذا وجدت الْبركَة فِيهَا فِي وَقت حصلت إِجَابَة الدعْوَة، وَلَا يسْتَلْزم دوامها فِي كل حِين
    ........
    (10/249)
    (مَا بَين بَيْتِي ومنبري) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَحده: (مَا بَين قَبْرِي ومنبري) ،وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه خطأ، وَاحْتج على ذَلِك بِأَن فِي (مُسْند) مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ بِلَفْظ: (بَيْتِي) وَكَذَلِكَ بِلَفْظ (بَيْتِي) فِي: بَاب فضل مَا بَين الْقَبْر والمنبر. قلت: نِسْبَة هَذَا إِلَى الْخَطَأ خطأ،لِأَنَّهُ وَقع لفظ: قَبْرِي ومنبري، فِي حَدِيث ابْن عمر أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد رِجَاله ثِقَات، وَكَذَا وَقع فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أخرجه الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح،على أَن المُرَاد بقوله: بَيْتِي، أحد بيوته لَا كلهَا، وَهُوَ بَيت عَائِشَة الَّذِي دفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ فَصَارَ قَبره،وَقد ورد فِي حَدِيث: (مَا بَين الْمِنْبَر وَبَيت عَائِشَة رَوْضَة من رياض الْجنَّة) ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط)
    ............
    (10/249)
    (ومنبري على حَوْضِي) ،أَكثر الْعلمَاء: المُرَاد أَن منبره بِعَيْنِه الَّذِي كَانَ،وَقيل: إِن لَهُ هُنَاكَ منبرا على حَوْضه،وَقيل: مَعْنَاهُ أَن مُلَازمَة منبره للأعمال الصَّالِحَة تورد صَاحبهَا إِلَى الْحَوْض وَيشْرب مِنْهُ المَاء، وَهُوَ الْحَوْض المورود الْمُسَمّى بالكوثر،وَقيل: إِن ذرع مَا بَين الْمِنْبَر وَالْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْقَبْر الْآن ثَلَاث وَخَمْسُونَ ذِرَاعا،وَقيل: أَربع وَخَمْسُونَ وَسدس،وَقيل: خَمْسُونَ إلاَّ ثلي ذِرَاع، وَهُوَ الْآن كَذَلِك، فَكَأَنَّهُ نقص لما أَدخل من الْحُجْرَة فِي الْجِدَار.
    .............
    (10/250)
    كر ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العماليق أخرجُوا بني عنبر وهم أخوة عَاد من يثرب فنزلوا الْجحْفَة،وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ سيل فاجتحفهم فسميت الْجحْفَة،
    ...........
    (10/252)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أهل الْجحْفَة إِذْ ذَاك يهودا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يَدْعُو على من لم يجبهم إِلَى دَار الْإِسْلَام إِذا خَافَ مِنْهُ مَعُونَة أهل الْكفْر، وَيسْأل الله أَن يبتليهم بِمَا يشغلهم عَنهُ، وَقد دَعَا على قومه أهل مَكَّة حِين يئس مِنْهُم. فَقَالَ: (أللهم أَعنِي عَلَيْهِم بِسبع كسبع يُوسُف) ، ودعا على أهل الْجحْفَة بالحمى ليشغلهم بهَا فَلم تزل الْجحْفَة من يَوْمئِذٍ أَكثر بِلَاد الله حمَّى وَأَنه ليتقي شرب المَاء من عينهَا الَّذِي يُقَال لَهُ عين حم، فَقل من شرب مِنْهُ إلاَّ حُمَّ، وَلما دَعَا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك الدُّعَاء لم يبْق أحد من أهل الْجحْفَة إلاَّ أَخَذته الْحمى، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا هُوَ السِّرّ فِي أَن الطَّاعُون لَا يدْخل الْمَدِينَة، لِأَن الطَّاعُون وباء، وَسَيِّدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بِنَقْل الوباء عَنْهَا، فَأجَاب الله دعاءه إِلَى آخر الْأَبَد. فَإِن قلت: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقدوم على الطَّاعُون، فَكيف قدمُوا الْمَدِينَة وَهِي وبيئة؟قلت: كَانَ ذَلِك قبل النَّهْي، أَو أَن النَّهْي يخْتَص بالطاعون وَنَحْوه من الْمَوْت الذريع لَا الْمَرَض، وَإِن عَم
    .......
    (10،/253)
    رد على الصُّوفِيَّة إِذْ قَالُوا: إِن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلاَّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِجَمِيعِ مَا نزل بِهِ، وَلَا يَدْعُو الله فِي كشف ذَلِك عَنهُ، فَإِن دَعَا فَلَيْسَ فِي الْولَايَة كَامِلا. وَفِيه: حجَّة على بعض الْمُعْتَزلَة الْقَائِلين بِأَن لَا فَائِدَة فِي الدُّعَاء مَعَ سَابق الْقدر، وَالْمذهب أَن الدُّعَاء عبَادَة مُسْتَقلَّة وَلَا يُسْتَجَاب مِنْهُ إلاَّ مَا سبق بِهِ التَّقْدِير.
    ........
    (10/253)
    قَالَ ابْن حزم: من نوى ترويح بهالقلب ليقوى على الطَّاعَة فَهُوَ مُطِيع، وَمن نوى بِهِ التقوية على الْمعْصِيَة فَهُوَ عَاص، وَإِن لم ينْو شَيْئا فَهُوَ لَغْو مَعْفُو عَنهُ،وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور: إِذا سلم من تَضْييع فرض وَلم يتْرك حفظ حُرْمَة الْمَشَايِخ بِهِ فَهُوَ مَحْمُود، وَرُبمَا أجر.
    وَفِيه: أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤمنِ أَن يسْأَل ربه صِحَة جِسْمه وَذَهَاب الْآفَات عَنهُ إِذا نزلت بِهِ كسؤاله إِيَّاه فِي الرزق، وَلَيْسَ فِي دُعَاء الْمُؤمن ورغبته فِي ذَلِك إِلَى الله لوم وَلَا قدح فِي دينه. وَفِيه: تَمْثِيل الصَّالِحين والفضلاء بالشعر


    الحمد لله الذي بنعمته
    الصالحات
    نهابة كتاب " فضائل المدينة "
    ويليه كتاب " الصوم "

  9. #249
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    كتاب الصيام
    (10/255)
    فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص على الثَّلَاثِينَ الَّتِي هِيَ الشَّهْر الْكَامِل؟قلت: قَالُوا: لما أكل آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّجَرَة الَّتِي نهى عَنْهَا، بَقِي شَيْء من ذَلِك فِي جَوْفه ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا تَابَ الله عَلَيْهِ أمره بصيام ثَلَاثِينَ يَوْمًا بلياليهن، ذكره فِي (خُلَاصَة الْبَيَان فِي تَلْخِيص مَعَاني الْقُرْآن)
    ............
    (10/259)
    وَمُلَخَّصه: أَن الصَّوْم لَا يَقع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقع فِي غَيره، لِأَنَّهُ لَا يظْهر من ابْن آدم بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقلب، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ مُرْسلا. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي الصَّوْم رِيَاء) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب الْغَرِيب عَن شَبابَة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ،قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال لَا تكون إلاَّ بالحركات إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تخفى على النَّاس،وروى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من وَجه آخر: عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة،وَلَفظه: (الصّيام لَا رِيَاء فِيهِ، قَالَ الله،عز وَجل: هُوَ لي) وَفِيه مقَال
    ...........
    (10/260)
    وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الزهاد أَنه مَخْصُوص بصيام خَواص الْخَواص،فَقَالَ: إِن الصَّوْم على أَرْبَعَة أَنْوَاع: صِيَام الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع،و: صِيَام خَواص الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَاب الْمُحرمَات من قَول أَو فعل، وَصِيَام الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن ذكر غير الله وعبادته، وَصِيَام خَواص الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن غير الله، فَلَا فطر لَهُم إلاَّ يَوْم لِقَائِه.

    ............
    (10/263)
    قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن فِي الْجنَّة بَابا يُقَال لَهُ الريان، يدْخل مِنْهُ الصائمون يَوْم الْقِيَامَة لَا يدْخل مِنْهُ أحد غَيرهم،يُقَال: أَيْن الصائمون؟ فَيدْخلُونَ مِنْهُ، فَإِذا دخل آخِرهم أغلق فَلم يدْخل مِنْهُ أحد) . وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا فِي بعض النّسخ من مُسلم،وَفِي الْكثير مِنْهَا: (فَإِذا دخل أَوَّلهمْ أغلق) . قلت: الْأَمر بِالْعَكْسِ،فَفِي الْكثير: (فَإِذا دخل آخِرهم) ،وَوَقع فِي بعض النّسخ الَّتِي لَا يعْتَمد عَلَيْهَا: (فَإِذا دخل أَوَّلهمْ) . وَهُوَ غير صَحِيح،فَلذَلِك قَالَ شرَّاح مُسلم وَغَيرهم: إِنَّه وهم، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين،رَحمَه الله تَعَالَى: وَقد اسْتشْكل بَعضهم الْجمع بَين حَدِيث بَاب الريان وَبَين الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي أخرجه مُسلم من حَدِيث عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: (مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ فَيبلغ أَو يسبغ الْوضُوء،ثمَّ يَقُول: أشهد أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إلاَّ فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية، يدْخل من أَيهَا شَاءَ) . قَالُوا: فقد أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يدْخل من أَيهَا شَاءَ، وَقد لَا يكون فَاعل هَذَا الْفِعْل من أهل الصّيام، بِأَن لَا يبلغ وَقت الصّيام الْوَاجِب، أَو لَا يتَطَوَّع بالصيام، وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه يصرف عَن أَن يَشَاء بَاب الصّيام، فَلَا يَشَاء الدُّخُول مِنْهُ، وَيدخل من أَي بَاب شَاءَ غير الصّيام، فَيكون قد دخل من الْبَاب الَّذِي شاءه. وَالثَّانِي: أَن حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد اخْتلفت أَلْفَاظه،فَعِنْدَ التِّرْمِذِيّ: (فتحت لَهُ ثَمَانِيَة أَبْوَاب من الْجنَّة يدْخل من أَيهَا شَاءَ) ، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تدل على أَن أَبْوَاب الْجنَّة أَكثر من ثَمَانِيَة مِنْهَا، وَقد لَا يكون بَاب الصّيام من هَذِه الثَّمَانِية، وَلَا تعَارض حِينَئِذٍ.
    ...........
    (10/265)
    (وَأَرْجُو أَن تكون مِنْهُم) ، خطاب لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والرجاء من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب، نبه عَلَيْهِ ابْن التِّين، فَدلَّ هَذَا على فَضِيلَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وعَلى أَنه من أهل هَذِه الْأَعْمَال كلهَا.
    ن أَعمال الْبر لَا تفتح فِي الْأَغْلَب للْإنْسَان الْوَاحِد فِي جَمِيعهَا، وَإِن من فتح لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا حرم غَيرهَا فِي الْأَغْلَب، وَأَنه قد يفتح فِي جَمِيعهَا للقليل من النَّاس، وَإِن الصدِّيق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم.

    .....
    (10/265)
    ن أَعمال الْبر لَا تفتح فِي الْأَغْلَب للْإنْسَان الْوَاحِد فِي جَمِيعهَا، وَإِن من فتح لَهُ فِي شَيْء مِنْهَا حرم غَيرهَا فِي الْأَغْلَب، وَأَنه قد يفتح فِي جَمِيعهَا للقليل من النَّاس، وَإِن الصدِّيق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم.
    ولرمضان ناتق، ولشوال وعل، وَلِذِي الْقعدَة، وَرَنَّة، وَلِذِي الْحجَّة برك،
    ........
    (10/271)
    وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : وَقد كَانَ بعض كبار التَّابِعين يذهب فِي هَذَا إِلَى اعْتِبَاره بالنجوم ومنازل الْقَمَر، وَطَرِيق الْحساب. وَقَالَ ابْن سِيرِين،رَحمَه الله تَعَالَى: وَكَانَ أفضل لَهُ لَو لم يفعل، وَحكى ابْن شُرَيْح عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه قَالَ: من كَانَ مذْهبه الِاسْتِدْلَال بالنجوم ومنازل الْقَمَر، ثمَّ تبين لَهُ من جِهَة النُّجُوم أَن الْهلَال اللَّيْلَة وغم عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَن يعْتَقد الصَّوْم ويبيته ويجزيه. وَقَالَ أَبُو عمر: وَالَّذِي عندنَا فِي كتبه أَنه: لَا يَصح اعْتِقَاد رَمَضَان إلاَّ بِرُؤْيَة فَاشِية أَو شَهَادَة عادلة، أَو إِكْمَال شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وعَلى هَذَا مَذْهَب جُمْهُور فُقَهَاء الْأَمْصَار بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام وَالْمغْرب، مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَعَامة أهل الحَدِيث إلاَّ أَحْمد وَمن قَالَ بقوله، وَذكر فِي (الْقنية) للحنفية: لَا بَأْس بالإعتماد على قَول المنجمين،وَعَن ابْن مقَاتل: لَا بَأْس بالاعتماد على قَوْلهم وَالسُّؤَال عَنْهُم، إِذا اتّفق عَلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم،وَقَول من قَالَ: إِنَّه يرجع إِلَيْهِم عِنْد الِاشْتِبَاه بعيد،وَعند الشَّافِعِي: لَا يجوز تَقْلِيد المنجم فِي حسابه، وَهل يجوز للمنجم أَن يعْمل بِحِسَاب نَفسه؟ فِيهِ وَجْهَان،وَقَالَ الْمَازرِيّ: حمل جُمْهُور الْفُقَهَاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فاقدروا لَهُ) ، على أَن المُرَاد إِكْمَال الْعدة ثَلَاثِينَ، كَمَا فسره فِي حَدِيث آخر، وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد حِسَاب
    .......
    (10/275)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن الْغَيْبَة والنميمة وَالْكذب: هَل يفْطر الصَّائِم؟ فَذهب الْجُمْهُور من الْأَئِمَّة إِلَى أَنه لَا يفْسد الصَّوْم بذلك، وَإِنَّمَا التَّنَزُّه عَن ذَلِك من تَمام الصَّوْم. وَعَن الثَّوْريّ: إِن الْغَيْبَة تفْسد الصَّوْم، ذكره الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) ،وَقَالَ: رَوَاهُ بشر بن الْحَارِث عَنهُ،قَالَ: وروى لَيْث عَن مُجَاهِد: (خصلتان تفسدان الصَّوْم: الْغَيْبَة وَالْكذب) ، هَكَذَا ذكره الْغَزالِيّ بِهَذَا اللَّفْظ،وَالْمَعْرُوف عَن مُجَاهِد: (خصلتان من حفظهما سلم لَهُ صَوْمه: الْغَيْبَة وَالْكذب) ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن لَيْث عَن مُجَاهِد، وروى ابْن أبي الدُّنْيَا عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم عَن يعلى بن عبيد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم،قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْكَذِب يفْطر الصَّائِم. وروى أَيْضا عَن يحيى بن يُوسُف عَن يحيى بن سليم عَن هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي،قَالُوا: اتَّقوا المفطِرَين: الْكَذِب والغيبة.

    .......
    (10/277)
    نِّكَاح على ثَلَاثَة أَنْوَاع: الأول: سنة وَهُوَ فِي حَال الِاعْتِدَال لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تناكحوا تَوَالَدُوا تكثروا، فَإِنِّي أباهي بكم الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة) . الثَّانِي: وَاجِب وَهُوَ عِنْد التوقان وَهُوَ غَلَبَة الشَّهْوَة. الثَّالِث: مَكْرُوه وَهُوَ إِذا خَافَ الْجور، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شرع لمصَالح كَثِيرَة فَإِذا خَافَ الْجور لم تظهر تِلْكَ الْمصَالح ثمَّ فِي هَذِه الْحَالة تشتغل بِالصَّوْمِ، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أحل النِّكَاح وَندب نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ ليكونوا على كَمَال من دينهم وصيانة لأَنْفُسِهِمْ من غض أَبْصَارهم وَحفظ فروجهم لما يخْشَى على من جبله الله على حب أعظم الشَّهَوَات، ثمَّ أعلم أَن النَّاس كلهم لَا يَجدونَ طولا إِلَى النِّسَاء، وَرُبمَا خَافُوا الْعَنَت بِعقد النِّكَاح، فعوضهم مِنْهُ مَا يدافعون بِهِ سُورَة شهواتهم وَهُوَ الصّيام، فَإِنَّهُ وَجَاء، وَهُوَ مقطع للانتشار وحركة الْعُرُوق الَّتِي تتحرك عِنْد شَهْوَة الْجِمَاع.
    ........
    (10/285)
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: كَيفَ سمي شهر رَمَضَان شهر عيد، وَإِنَّمَا الْعِيد فِي شَوَّال؟فقد أجَاب عَنهُ الْأَثْرَم بجوابين: أَحدهمَا: أَنه قد يرى هِلَال شَوَّال بعد الزَّوَال من آخر يَوْم رَمَضَان. وَالثَّانِي: لما قرب الْعِيد من الصَّوْم أضافته الْعَرَب إِلَيْهِ بِمَا قرب مِنْهُ. قلت: فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث التَّصْرِيح بِأَن الْعِيد فِي رَمَضَان، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة،قَالَ: سَمِعت خَالِدا الْحذاء يحدث عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (شَهْرَان لَا ينقصان فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا عيد: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة) ، وَهَذَا إِسْنَاده صَحِيح.
    وَقد اخْتلف النَّاس فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث على أَقْوَال،فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يكونَانِ ناقصين فِي الحكم وَإِن وجدا ناقصين فِي عدد الْحساب،وَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: أَنَّهُمَا لَا يكادان يوجدان فِي سنة وَاحِدَة مُجْتَمعين فِي النُّقْصَان، إِن كَانَ أَحدهمَا تسعا وَعشْرين كَانَ الآخر ثَلَاثِينَ، على الْكَمَال. وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا تَفْضِيل الْعَمَل فِي الْعشْر من ذِي الْحجَّة، فَإِنَّهُ لَا ينقص فِي الْأجر وَالثَّوَاب عَن شهر رَمَضَان،وَقَالَ ابْن حبَان: لهَذَا الْخَبَر مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن شَهْري عيد لَا ينقصان فِي الْحَقِيقَة، وَإِن نقصا عندنَا فِي رَأْي الْعين عِنْد الْحَائِل بَيْننَا وَبَين رُؤْيَة الْهلَال بقترة، أَو ضباب،وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن شَهْري عيد لَا ينقصان فِي الْفَضَائِل، يُرِيد أَن عشر ذِي الْحجَّة على الْفضل كشهر رَمَضَان،وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: مَعْنَاهُ: لَا ينقصان، وَإِن كَانَا تسعا وَعشْرين يَوْمًا، فهما كاملان، لِأَن فِي أَحدهمَا الصّيام، وَفِي الآخر الْحَج، وَأَحْكَام ذَلِك كُله كَامِلَة غير نَاقِصَة. وَعَن الْمَازرِيّ: مَعْنَاهُ لَا ينقصان فِي عَام وَاحِد بِعَيْنِه،وَعَن الْخطابِيّ قيل: لَا ينقص أجر ذِي الْحجَّة عَن أجر رَمَضَان لفضل الْعَمَل فِي الْعشْر،وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: روى عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (كل شهر حرَام ثَلَاثُونَ) ،فَقَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَن ابْن إِسْحَاق لَا يُقَاوم خَالِد الْحذاء وَلِأَن العيان يمنعهُ.
    ..........
    (10/287)
    قَالَ القَاضِي: وَإِجْمَاع السّلف الصَّالح حجَّة عَلَيْهِم، وَقَالَ ابْن بزيزة، هُوَ مَذْهَب بَاطِل، فقد نهت الشَّرِيعَة عَن الْخَوْض فِي علم النُّجُوم لِأَنَّهَا حدس وتخمين لَيْسَ فِيهَا قطع وَلَا ظن غَالب، مَعَ أَنه لَو ارْتبط الْأَمر بهَا لضاق الْأَمر، إِذْ لَا يعرفهَا إِلَّا الْقَلِيل
    ........
    (10/290)
    فِي (كتاب الْحَيَوَان) للجاحظ: لَيْسَ شَيْء من الْحَيَوَان يتبطن طروقته أَي: يَأْتِيهَا من جِهَة بَطنهَا غير الْإِنْسَان والتمساح، وَفِي (تَفْسِير الواحدي) : والدب. وَقيل الْغُرَاب.
    ....
    (10/293)
    (إِن وِسَادك لَعَرِيض) ، كنى بالوساد عَن النّوم، لِأَن النَّائِم يتوسد،أَي: إِن نومك لطويل كثير،وَقيل: كنى بالوساد عَن مَوضِع الوساد من رَأسه وعنقه،وَتشهد لَهُ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا) ، فَإِن عرض الْقَفَا كِنَايَة عَن السّمن،وَقيل: أَرَادَ من أكل مَعَ الصُّبْح فِي صَوْمه أصبح عريض الْقَفَا، لِأَن الصَّوْم لَا يُؤثر فِيهِ،وَيُقَال: يكنى عَن الأبله بعريض الْقَفَا،فَإِن عرض الْقَفَا وَعظم الرَّأْس إِذا أفرطا قيل: إِنَّه دَلِيل الغباوة والحماقة، كَمَا أَن استواءه دَلِيل على علو الهمة وَحسن الْفَهم، وَهَذَا من قبيل الْكِنَايَة الْخفية، وَالْفرق بَين الْكِنَايَة وَالْمجَاز أَن الِانْتِقَال فِي الْكِنَايَة من اللَّازِم إِلَى الْمَلْزُوم، وَفِي الْمجَاز من الْمَلْزُوم إِلَى اللَّازِم، وَهَكَذَا فرق السكاكي وَغَيره،وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِنَّمَا عرض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قفا عدي لِأَنَّهُ غفل عَن الْبَيَان، وتعريض الْقَفَا مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على قلَّة الفطنة،قيل: أنكر ذَلِك غير وَاحِد،مِنْهُم: الْقُرْطُبِيّ،فَقَالَ: حمله بعض النَّاس على الذَّم لَهُ على ذَلِك الْفَهم، وَكَأَنَّهُم فَهموا أَنه نسبه إِلَى الْجَهْل والجفا وَعدم الْفِقْه،وعضدوا ذَلِك بقوله: (إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا)
    وَلَيْسَ الْأَمر على مَا قَالُوهُ، لِأَن من حمل اللَّفْظ على حَقِيقَته اللسانية الَّتِي هِيَ الأَصْل إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ دَلِيل التَّجَوُّز لم يسْتَحق ذما وَلَا ينْسب إِلَى جهل، وَإِنَّمَا عَنى وَالله أعلم إِن وِسَادك إِن كَانَ يُغطي الْخَيْطَيْنِ اللَّذين أَرَادَ الله فَهُوَ إِذا عريض وَاسع،ولهذه قَالَ فِي إِثْر ذَلِك: إِنَّمَا هُوَ سَواد اللَّيْل وَبَيَاض النَّهَار
    ........
    (10/299)
    وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ تَقْدِير الْأَوْقَات بأعمال الْبدن، وَكَانَت الْعَرَب تقدر الْأَوْقَات بِالْأَعْمَالِ،كَقَوْلِهِم: قدر حلب شَاة، وَقدر نحر جزور، فَعدل زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن ذَلِك إِلَى التَّقْدِير بِالْقِرَاءَةِ إِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك الْوَقْت كَانَ وَقت الْعِبَادَة بالتلاوة.
    وَفِيه: إِشَارَة إِلَى أَن أوقاتهم كَانَت مستغرقة بِالْعبَادَة.
    ...........
    (10/300)
    جَاءَ الْوِصَال عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَغَيرهم، فَفِي كتاب (الْأَوَائِل) للعسكري: كَانَ ابْن الزبير يواصل خَمْسَة عشر يَوْمًا حَتَّى تيبس أمعاؤه، فَإِذا كَانَ يَوْم فطره أَتَى بِسمن وصبر فيحساه حَتَّى لَا تنفتق الأمعاء، وَعَن عَامر بن عبد الله بن الزبير أَنه كَانَ يواصل لَيْلَة سِتّ عشرَة، وَلَيْلَة سبع عشرَة من رَمَضَان لَا يفرق بَينهمَا، وَيفْطر على السّمن، فَقيل لَهُ،فَقَالَ: السّمن يبل عروقي، وَالْمَاء يخرج من جَسَدِي. قلت: قَالَ ابْن عبد الْبر: أجمع الْعلمَاء على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْوِصَال، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله،فَقيل: نهى عَنهُ رفقا بهم، فَمن قدر على الْوِصَال فَلَا حرج عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لله، عز وَجل، يدع طَعَامه وَشَرَابه، وَكَانَ عبد الله بن الزبير وَجَمَاعَة يواصلون الْأَيَّام، وَكَانَ أَحْمد وَإِسْحَاق لَا يكرهان الْوِصَال من سحر إِلَى سحرلا غير، وَكره
    أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَجَمَاعَة من أهل الْفِقْه والأثر الْوِصَال على كل حَال لمن قوي عَلَيْهِ وَلغيره، وَلم يجيزوا الْوِصَال لأحد لحَدِيث
    وَقَالَ الْخطابِيّ: الْوِصَال من خَصَائِص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومحظور على أمته، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيمه. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : مَكْرُوه كَرَاهَة تَحْرِيم،وَقيل: كَرَاهَة تَنْزِيه، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَرُوِيَ عَن بعض الصَّحَابَة وَغَيرهم من تَرْكِهم الْأكل الْأَيَّام ذَوَات الْعدَد، وَكَانَ ذَلِك مِنْهُم على أنحاء شَتَّى، فَمنهمْ من كَانَ ذَلِك مِنْهُ لقدرته عَلَيْهِ فَيصْرف فطره إِلَى أهل الْفقر وَالْحَاجة، وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله اسْتغْنَاء عَنهُ أَو كَانَت نَفسه قد اعتادته،كَمَا روى الْأَعْمَش عَن التَّيْمِيّ أَنه قَالَ: ربم ألبث ثَلَاثِينَ يَوْمًا مَا أطْعم من غير صَوْم، وَمَا يَمْنعنِي ذَلِك من حوائجي،وَقَالَ الْأَعْمَش: كَانَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يمْكث شَهْرَيْن لَا يَأْكُل، وَلكنه يشرب شربة من نَبِيذ، وَمِنْهُم من كَانَ يَفْعَله منعا لنَفسِهِ شهوتها مَا لم تَدعه إِلَيْهِ الضَّرُورَة، وَلَا يخَاف الْعَجز عَن أَدَاء وَاجِب عَلَيْهِ إِرَادَة قهرها وَحملهَا على الْأَفْضَل.
    .........
    (10/305)
    لاشْتِرَاط النِّيَّة فِي الصَّوْم من اللَّيْل بِمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن أُخْته حَفْصَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ) ، لفظ النَّسَائِيّ،وَلأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرجح التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ الْمَوْقُوف بعد أَن أطنب فِي تَخْرِيج طرقه، وَحكى التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل عَن البُخَارِيّ تَرْجِيح وَقفه، وَعمل بِظَاهِر الْإِسْنَاد جمَاعَة من الْأَئِمَّة فصححوا الحَدِيث الْمَذْكُور مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحكم وَابْن حزم، وروى لَهُ الدَّارَقُطْنِي ّ طَرِيقا أُخْرَى،وَقَالَ: رجالها ثِقَات، وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، وَأبْعد من ذَلِك تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض إِذا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء، فتجزي النِّيَّة فِي النَّهَار أَولا فِي يَوْم بِعَيْنِه كرمضان، فَلَا يَجْزِي، إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزي فِي اللَّيْل، وَفِي النَّهَار، وَقد تعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَام غث لَا أصل لَهُ. انْتهى. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَفْصَة حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه،يَعْنِي من الْوَجْه الَّذِي رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يجمع الصيم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ،
    .........
    (10/306)
    مَشْرُوع الْوَقْت فِي هَذَا متنوع، فَيحْتَاج إِلَى التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ، بِخِلَاف شهر رَمَضَان لِأَن الصَّوْم فِيهِ غير متنوع، فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّعْيِين، وَكَذَلِكَ النّذر الْمعِين فَهَذَا هُوَ السِّرّ الْخَفي فِي هَذَا التَّخْصِيص الَّذِي استبدعه من لَا وقُوف لَهُ على دقائق الْكَلَام، ومدارك اسْتِخْرَاج الْمعَانِي من النُّصُوص، وَلم يكتف الْمُدَّعِي بعد هَذَا الْكَلَام لبعد إِدْرَاكه حَتَّى ادّعى الأبعدية فِي تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم التَّطَوُّع، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة لِأَن حَامِل الطَّحَاوِيّ على هَذِه التَّفْرِقَة مَا رَوَاهُ مُسلم، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَت: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة {هَل عنْدكُمْ شَيْء؟قَالَت: فَقلت: لَا يَا رَسُول الله مَا عندنَا شَيْء} قَالَ: فَإِنِّي صَائِم) ، وبنحوه روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ كلَاما لَا يُوجد أسمج مِنْهُ، لِأَن من يتعقب كَلَام أحد إِن لم يذكر وَجهه بِمَا يقبله الْعلمَاء، يكون كَلَامه هُوَ غثاء لَا أصل لَهُ، وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور،أَعنِي: حَدِيث حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ وسلامته عَن الِاضْطِرَاب بِأَنَّهُ مَحْمُول على نفي الْفَضِيلَة والكمال،كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاَّ فِي الْمَسْجِد)
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    نهاية المجلد العاشر من " عمدة القاري "
    ويليه المجلد الحادي عشر
    والحمد لله .

  10. #250
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    البوم : الأربعاء
    الموافق : 26/صفر/1442 هجري
    الموافق :14/أكتوبر /2020 ميلادي

    المجلد الحادي عشر
    تابع / كتاب الصيام
    (11/4)
    مَرْوَان بن عبد الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي، أَبُو عبد الْملك، ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ،وَقيل: بِأَرْبَع، وَلم يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ مَالك: ولد يَوْم أحد،وَقيل: يَوْم الخَنْدَق،وَقيل: ولد بِمَكَّة،وَقيل: بِالطَّائِف وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل لما نفى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهُ الحكم، وَكَانَ مَعَ أَبِيه حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فردهما واستكتب عُثْمَان مَرْوَان وضمه إِلَيْهِ، وَاسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْمَدِينَة وَمَكَّة والطائف، ثمَّ عَزله عَن الْمَدِينَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين، وَلما مَاتَ مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَلم يعْهَد إِلَى أحد بَايع النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، ثمَّ مَاتَ، وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة أشهر، مَاتَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى مُسلم.
    ..........
    (11/5)
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يُجَامع فِي رَمَضَان وَيُؤَخر الْغسْل إِلَى بعد طُلُوع الْفجْر بَيَانا للْجُوَاز. وَالثَّانيَِة: أَن ذَلِك كَانَ من جماع لَا من احْتِلَام، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِم، إِذْ الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ قيل فِي قَول عَائِشَة من غير احْتِلَام إِشَارَة إِلَى جَوَاز الِاحْتِلَام عَلَيْهِ وَإِلَّا لما كَانَ لاستثنائه معنى ورد بِأَن الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم عَنهُ، وَلَكِن الِاحْتِلَام يُطلق على الْإِنْزَال، وَقد يَقع الْإِنْزَال من غير رُؤْيَة شَيْء فِي الْمَنَام.

    ...........

    (11/6)
    لى مَا رَوَاهُ مَالك عَن سمي (عَن أبي بكر أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ،وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق المَقْبُري: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي النَّاس: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) ، وَإِلَيْهِ كَانَ يذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس، وَلَكِن أَبَا هُرَيْرَة لم يثبت على قَوْله هَذَا حَيْثُ رد الْعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة إِلَى عَائِشَة،فَقَالَ: عَائِشَة أعلم مني،أَو قَالَ: أعلم بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِّي. وَقَالَ أَبُو عمر: روى عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان الرُّجُوع عَن ذَلِك، وَحَكَاهُ الْحَازِمِي عَن سعيد بن الْمسيب،وَقَالَ الْخطابِيّ وَابْن الْمُنْذر: أحسن مَا سَمِعت من خبر أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه مَنْسُوخ، لِأَن الْجِمَاع كَانَ محرما على الصَّائِم بعد النّوم، فَلَمَّا أَبَاحَ الله تَعَالَى الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر جَازَ للْجنب إِذا أصبح قبل أَن يغْتَسل أَن يَصُوم لارْتِفَاع الْحَظْر، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي بِمَا سَمعه من الْفضل على الْأَمر الأول وَلم يعلم بالنسخ، فَلَمَّا سمع خبر عَائِشَة وَأم سَلمَة رَجَعَ إِلَيْهِ
    .........
    (11/5)
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أصبح جنبا وَهُوَ يُرِيد الصَّوْم: هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟على سَبْعَة أَقْوَال: الأول: أَن الصَّوْم صَحِيح مُطلقًا فرضا كَانَ أَو تَطَوّعا أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا أَو لنوم أَو نِسْيَان، لعُمُوم الحَدِيث، وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو ذَر وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو عمر: إِنَّه الَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بالعراق والحجاز أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار، مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَاللَّيْث وأصحابهم وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية وَأَبُو عُبَيْدَة وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث. الثَّانِي: أَنه لَا يَصح صَوْم من أصبح جنبا مُطلقًا، وَبِه قَالَ الْفضل بن عَبَّاس وَأُسَامَة بن زيد وَأَبُو هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَة عَنهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين أَن يُؤَخر الْغسْل عَالما بجنابته أم لَا، فَإِن علم وأخره عمدا لم يَصح وإلاَّ صَحَّ، رُوِيَ ذَلِك عَن طَاوُوس وَعُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
    .........
    (11/6)
    روى أَبُو عمر من رِوَايَة عَطاء بن مينا، (عَن أبي هُرَيْرَة،أَنه قَالَ: كنت حدثتكم: من أصبح جنبا فقد أفطر، وَإِن ذَلِك من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟قلت: لَا يَصح ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة لِأَنَّهُ من رِوَايَة عمر بن قيس، وَهُوَ مَتْرُوك، وَذكر ابْن خُزَيْمَة أَن بعض الْعلمَاء توهم أَن أَبَا هُرَيْرَة غلط فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ رد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يغلط، بل أحَال على رِوَايَة صَادِق، إلاَّ أَن الْخَبَر مَنْسُوخ. انْتهى.
    وَقد ذكرنَا وَجه النّسخ بِأَن حَدِيث عَائِشَة هُوَ النَّاسِخ لحَدِيث الْفضل، وَلم يبلغ الْفضل وَلَا أَبَا هُرَيْرَة النَّاسِخ، فاستمر أَبُو هُرَيْرَة على الْفتيا بِهِ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ بعد ذَلِك لما بلغه، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي يُونُس مولى عَائِشَة عَنْهَا،وَقد ذكرنَا عَن قريب مَا يشْعر بِأَن ذَلِك كَانَ بعد الْحُدَيْبِيَة لقَوْله فِيهَا: (غفر الله لَك مَا تقدم وَمَا تَأَخّر) ، وَأَشَارَ إِلَى آيَة الْفَتْح، وَهِي إِنَّمَا نزلت عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَابْتِدَاء فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَالله أعلم
    .............
    (11/9)
    وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا الْفضل بن دُكَيْن عَن إِسْرَائِيل عَن زيد بن جُبَير عَن أبي يزِيد الضني (عَن مَيْمُونَة،مولاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن رجل قبل امْرَأَته وهما صائمان؟قَالَ: قد أفطرا) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَلَفظه: (عَن مَيْمُونَة بنت سعد قَالَت: سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقبْلَة للصَّائِم؟فَقَالَ: أفطرا جَمِيعًا) . وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو يزِيد الضني،بِكَسْر الضَّاد الْمُعْجَمَة وَالنُّون الْمُشَدّدَة: نِسْبَة إِلَى ضنة. قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: لَيْسَ بِمَعْرُوف،وَقَالَ ابْن حزم: مَجْهُول، ومَيْمُونَة بنت سعد،وَقيل: سعيد، خَادِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه ابْن حزم وَلَفظه: عَن مَيْمُونَة بنت عقبَة مولاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث، وَكَذَا قَالَ السُّهيْلي وَالْبَيْهَقِيّ ،وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَنهُ يَعْنِي البُخَارِيّ فَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أحدث بِهِ، وَأَبُو يزِيد لَا أعرف اسْمه وَهُوَ رجل مَجْهُول
    ..........
    (11/15)
    وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي حَدثنَا سُفْيَان عَن عَاصِم بن عبيد الله (عَن عبد الله بن عَامر بن ربيعَة عَن أَبِيه،قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا أحصي يتَسَوَّك وَهُوَ صَائِم) ،ثمَّ قَالَ: حَدِيث عَامر بن ربيعَة حَدِيث حسن، وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن شريك وَعَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن عَاصِم،وَلَفظه: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك وَهُوَ صَائِم) ،زَاد فِي رِوَايَة: (مَا لَا أعد وَلَا أحصي) . قَالَ صَاحب (الإِمَام) : ومداره على عَاصِم بن عبيد الله،قَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) بعد أَن حكى عَن التِّرْمِذِيّ أَنه حسنه: لَكِن مَدَاره على عَاصِم بن عبيد الله وَقد ضعفه الْجُمْهُور، فَلَعَلَّهُ اعتضد. انْتهى. وَقَالَ الْمزي: وَأحسن مَا قيل فِيهِ قَول الْعجلِيّ: لَا بَأْس بِهِ،وَقَول ابْن عدي: هُوَ مَعَ ضعفه يكْتب حَدِيثه. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ،بعد تَخْرِيجه: عَاصِم بن عبيد الله لَيْسَ بِالْقَوِيّ.

    ..........

    (11/15)
    وَأما حكم الْمَسْأَلَة فقد اخْتلفُوا فِي الْكحل للصَّائِم فَلم يَرَ الشَّافِعِي بِهِ بَأْسا سَوَاء وجد طعم الْكحل فِي الْحلق أم لَا، وَاخْتلف قَول مَالك فِيهِ فِي الْجَوَاز وَالْكَرَاهَة، قَالَ فِي (الْمُدَوَّنَة) : يفْطر مَا وصل إِلَى الْحلق من الْعين،وَقَالَ أَبُو مُصعب: لَا يفْطر، وَذهب الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق إِلَى كَرَاهَة الْكحل للصَّائِم، وَحكى عَن أَحْمد أَنه إِذا وجد طعمه فِي الْحلق أفطر،وَعَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر: يجوز بِلَا كَرَاهَة، وَأَنه لَا يفْطر بِهِ سَوَاء وجد طعمه أم لَا. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَابْن شبْرمَة وَابْن أبي ليلى أَنهم قَالُوا: يبطل صَوْمه. وَقَالَ ابْن قَتَادَة: يجوز بالإثمد، وَيكرهُ بِالصبرِ، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد عَن الْأَعْمَش قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا من أَصْحَابنَا يكره الْكحل للصَّائِم
    ........
    (11/16)
    قال البخاري
    وَقَالَ الحَسَنُ ومُجَاهِدٌ إنْ جامَعَ ناسِيا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ
    وَصله عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد،قَالَ: لَو وطىء رجل امْرَأَته وَهُوَ صَائِم نَاسِيا فِي رَمَضَان لم يكن عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر، وَهُوَ قَول عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَعَطَاء وطاووس وَمُجاهد وَعبيد الله بن الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَأبي ثَوْر وَابْن أبي ذِئْب وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالثَّوْري، وَكَذَلِكَ فِي الْأكل وَالشرب نَاسِيا. وَقَالَ ابْن علية وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَمَالك: يفْطر وَعَلِيهِ الْقَضَاء،زَاد أَحْمد: وَالْكَفَّارَة فِي الْجِمَاع نَاسِيا، وَهُوَ أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة.
    .............
    (11/20)
    وَاخْتلف أهل الحَدِيث فِيمَا إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا بِسَنَدِهِ ثمَّ ذكر سندا آخر وَلم يسق لفظ مَتنه،وَإِنَّمَا قَالَ بعده: مثله،أَو: نَحوه، فَهَل يسوغ للراوي عَنهُ أَن يروي لفظ الحَدِيث الْمَذْكُور أَولا لإسناد الثَّانِي أم لَا؟ على ثَلَاثَة مَذَاهِب. أظهرها: أَنه لَا يجوز مُطلقًا. وَهُوَ قَول شُعْبَة وَرجحه ابْن الصّلاح وَابْن دَقِيق الْعِيد. وَالثَّانِي: أَنه إِن عرف الرَّاوِي بالتحفظ والتمييز للألفاظ جَازَ، وإلاَّ فَلَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَابْن معِين. وَالثَّالِث: وَهُوَ اخْتِيَار الْحَاكِم: التَّفْرِقَة بَين قَوْله: مثله،وَبَين قَوْله: نَحوه،فَإِن قَالَ: مثله، جَازَ بِالشّرطِ الْمَذْكُور،وَإِن قَالَ: نَحوه، لم يجز، وَهُوَ قَول يحيى بن معِين. وَقَالَ الْخَطِيب: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن معِين بِنَاء على منع الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، فَأَما على جَوَازهَا فَلَا فرق.
    ...........
    (11/19)
    هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَي: لم يخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ من الصَّحَابَة أَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَزيد بن خَالِد الْمَذْكُور الْآن الصَّائِم من غير الصَّائِم، وَلَا السِّوَاك الْيَابِس من غَيره، فَيدْخل فِي عُمُوم الْإِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا إو يَابسا، وَلَو افترق الحكم فِيهِ بَين الرطب واليابس فِي ذَلِك لبينه، لِأَن الله عز وَجل فرض عَلَيْهِ الْبَيَان لأمته.
    وَقَالَ ابْن بطال حَدِيث عُثْمَان حجَّة وَاضِحَة فِي إِبَاحَة كل جنس من السِّوَاك رطبا كَانَ أَو يَابسا وَهُوَ انتزاع ابْن سِيرِين مِنْهُ حِين قَالَ لَا بَأْس بِالسِّوَاكِ الرطب
    فَقيل لَهُ طعم فَقَالَ وَالْمَاء لَهُ طعم وَهَذَا لَا انفكاك مِنْهُ لِأَن المَاء أرق من ريق السِّوَاك وَقد أَبَاحَ الله تَعَالَى الْمَضْمَضَة بِالْمَاءِ فِي الْوضُوء للصَّائِم
    ........
    (11/22)
    قال البخاري
    ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ منْ أفْطرَ يَوْما مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ولاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيامُ الدهْرِ وإنْ صامَهُ

    يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول الَّتِي هِيَ صِيغَة التمريض إِلَى أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لَيْسَ على شَرطه،
    ........
    (11/24)
    وَقَالَ ابْن بطال: نظرت أَقْوَال التَّابِعين الَّذين ذكرهم البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب فِي المصنفات فَلم أر قَوْلهم بِسُقُوط الْكَفَّارَة إلاَّ فِي الْفطر بِالْأَكْلِ لَا المجامعة، فَيحْتَمل أَن يكون عِنْدهم الْأكل وَالْجِمَاع سَوَاء فِي سُقُوط الْكَفَّارَة، إِذْ كل مَا أفسد الصّيام من أكل أَو شرب أَو جماع فاسم الْفطر يَقع عَلَيْهِ، وفاعله مفطر بذلك من صِيَامه،وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدع طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي) ، فَدخل أعظم الشَّهَوَات وَهِي شَهْوَة الْجِمَاع فِي ذَلِك. انْتهى. قلت: حُكيَ عَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين أَنه: لَا كَفَّارَة على الواطىء فِي نَهَار رَمَضَان، واعتبروه بِقَضَائِهِ. قَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ خَاص بذلك الرجل،يَعْنِي فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: (جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: هَلَكت. .) الحَدِيث على مَا يَأْتِي،وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يحضر عَلَيْهِ برهَان. وَقَالَ قوم: هُوَ مَنْسُوخ وَلم يقم دَلِيل نسخه،وَعند الْجُمْهُور: يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لحَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نبينه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالَّذين ذكرهم البُخَارِيّ سِتَّة من التَّابِعين،الأول: سعيد بن الْمسيب، فوصل أَثَره مُسَدّد وَغَيره فِي قصَّة المجامع قَالَ يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ ويستغفر الله تَعَالَى. الثَّانِي: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ،فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة
    .....
    (11/28)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: وَظَاهره يدل على أَن قدر خَمْسَة عشر صَاعا يَكْفِي لِلْكَفَّارَةِ عَن شخص وَاحِد لكل مِسْكين مد،قَالَ: وَقد جعله الشَّافِعِي أصلا لمذهبه فِي أَكثر الْمَوَاضِع الَّتِي يجب فِيهَا الْإِطْعَام،وَعِنْدنَا: الْوَاجِب لكل مِسْكين نصف صَاع من بر أَو صَاع من تمر، كَمَا فِي كَفَّارَة الظِّهَار،لما روى الدَّارَقُطْنِي ّ عَن ابْن عَبَّاس: (يطعم كل يَوْم مِسْكينا نصف صَاع من بر) وَعَن عَائِشَة فِي هَذِه الْقِصَّة: (أُتِي بعرق فِيهِ عشرُون صَاعا) ذكره السفاقسي فِي (شرح البُخَارِيّ) ويروى: (مَا بَين خَمْسَة عشر صَاعا إِلَى عشْرين)
    .........
    (11/28)
    احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر على أَنه: لَا يلْزم فِي الْجِمَاع على الرجل وَالْمَرْأَة إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، إِذْ لم يذكر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْمَرْأَة، وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان،وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأَبُو ثَوْر: تجب الْكَفَّارَة على الْمَرْأَة أَيْضا إِن طاوعته،وَقَالَ القَاضِي: وَسوى الْأَوْزَاعِيّ بَين المكرهة والطائعة على مذْهبه، وَقَالَ مَالك،فِي الْمَشْهُور من مذْهبه فِي المكرهة: يكفر عَنْهَا بِغَيْر الصَّوْم. وَقَالَ سَحْنُون: لَا شَيْء عَلَيْهَا، وَلَا عَلَيْهِ لَهَا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر،وَلم يخْتَلف مَذْهَبنَا فِي قَضَاء المركهة والنائمة إلاَّ مَا ذكره ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل عَن مَالك أَنه لَا غسل على الْمَوْطُوءَة نَائِمَة وَلَا مُكْرَهَة إلاَّ أَن تلتذ قَالَ ابْن قصار: فَتبين من هَذَا أَنَّهَا غير مفطرة،وَقَالَ القَاضِي: وظاهرة أَنه لَا قَضَاء على المكرهة إِلَّا أَن تلتذ، وَلَا على النائمة لِأَنَّهَا كالمحتلمة، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر فِي النائمة والمكرهة.
    وَاخْتلف فِي وجوب الْكَفَّارَة على الْمُكْره على الوطىء لغيره. على هَذَا،وَحكى ابْن الْقصار عَن أبي حنيفَة: لَا يلْزم الْمُكْره عَن نَفسه وَلَا على من أكرهه، وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : وَأما على الْمَرْأَة فَتجب عَلَيْهَا أَيْضا الْكَفَّارَة إِذا كَانَت مطاوعة،وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: فِي قَول: لَا يجب عَلَيْهَا أصلا،وَفِي قَول: يجب عَلَيْهَا ويتحملها الزَّوْج. وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر حكم الْمَرْأَة وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان، أَن الْمَرْأَة لَعَلَّهَا كَانَت مُكْرَهَة أَو ناسية لصومها، أَو من يُبَاح لَهَا الْفطر ذَلِك الْيَوْم لعذر الْمَرَض أَو السّفر أَو الصغر أَو الْجُنُون أَو الْكفْر أَو الْحيض أَو طَهَارَتهَا من حَيْضهَا فِي أثْنَاء النَّهَار.
    ............
    (11/29)
    التَّرْتِيب فِي الْكَفَّارَة وَاجِب، فَتَحْرِير رَقَبَة أَولا فَإِن لم يُوجد فَصِيَام شَهْرَيْن وَإِن لم يسْتَطع الصَّوْم فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا، بِدَلِيل عطف بعض الْجمل على الْبَعْض بِالْفَاءِ الْمرتبَة المعقبة كَمَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة،وَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى التَّخْيِير لقَوْله فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صم شَهْرَيْن أَو أطْعم) ،فخيره: بِأَو، الَّتِي موضوعها التَّخْيِير،وَعَن ابْن الْقَاسِم: لَا يعرف مَالك غير الْإِطْعَام، وَذكر مقلدوه حجَجًا لذَلِك كَثِيرَة لَا تقاوم مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث من وجوب التَّرْتِيب واستحبابه،وَزعم بَعضهم أَن الْكَفَّارَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات قَالَ ابْن التِّين: وَإِلَيْهِ ذهب الْمُتَأَخّرُون َ من أَصْحَابنَا، فوقت المجاعة الْإِطْعَام أولى، وَإِن كَانَ خصبا فالعتق أولى، وَأمر بعض الْمُفْتِينَ أهل الْغنى الْوَاسِع بِالصَّوْمِ لمشقته عَلَيْهِ، وَعَن أبي ليلى هُوَ مُخَيّر فِي الْعتْق وَالصِّيَام، فَإِن لم يقدر عَلَيْهِمَا أطْعم، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن جرير،
    وَقَالَ ابْن قدامَة: الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك أَحْمد أَن كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان ككفارة الظِّهَار فِي التَّرْتِيب: الْعتْق إِن أمكن، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الصّيام، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الْإِطْعَام، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنَّهَا على التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام، وبأيها كفر أَجزَأَهُ، وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، فَإِن عجز عَن هَذِه الْأَشْيَاء سَقَطت الْكَفَّارَة عَنهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَن أَحْمد، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما رأى عجز الْأَعرَابِي عَنْهَا قَالَ: (أطْعمهُ أهلك) وَلم يَأْمُرهُ بكفارة أُخْرَى، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَعَن الزُّهْرِيّ: لَا بُد من التَّكْفِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْأَنْوَاع
    ..........
    (11/29)
    اخْتلف الْفُقَهَاء فِي قَضَاء ذَلِك الْيَوْم مَعَ الْكَفَّارَة،فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق: عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن كفر بِالْعِتْقِ وَالْإِطْعَام صَامَ يَوْمًا مَكَان ذَلِك الْيَوْم الَّذِي أفطر، وَإِن صَامَ شَهْرَيْن مُتَتَابعين دخل فيهمَا قَضَاء ذَلِك الْيَوْم،وَقَالَ قوم: لَيْسَ فِي الْكَفَّارَة صِيَام ذَلِك الْيَوْم،قَالَ أَبُو عمر: لِأَنَّهُ لم يرد فِي حَدِيث عَائِشَة وَلَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي نقل الْحفاظ للْأَخْبَار الَّتِي لَا عِلّة فِيهَا ذكر الْقَضَاء، وَإِنَّمَا فِيهَا الْكَفَّارَة. قلت: جَاءَ فِي خبر أبي هُرَيْرَة وَغَيره: الْقَضَاء، وروى ابْن مَاجَه عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب عَن عبد الْجَبَّار بن عمر عَن يحيى بن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك،أَي: بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: هَلَكت، وَقد تقدم قبله،ثمَّ قَالَ: (ويصوم يَوْمًا مَا مَكَانَهُ) .

    .........

    (11/29)
    أَجمعُوا على أَن من وطىء فِي رَمَضَان فِي يَوْم آخر أَن عَلَيْهِ كَفَّارَة أُخْرَى، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ على من وطىء مرَارًا فِي يَوْم وَاحِد إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، فَإِن وطىء فِي يَوْم من رَمَضَان وَلم يكفر حَتَّى وطىء فِي يَوْم آخر،فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن عَلَيْهِ لكل يَوْم كَفَّارَة، كفر أم لَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة إِذا وطىء قبل أَن يكفر وَقَالَ الثَّوْريّ: أحب إِلَيّ أَن يكفر عَن كل يَوْم، وَأَرْجُو أَن يجْزِيه كَفَّارَة وَاحِدَة مَا لم يكفر.

    ..........

    (11/30)
    فِي حَدِيث عَائِشَة: (احترقت) كَمَا مر،وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (مَا أُراني إلاَّ قد هَلَكت) ،وَقد رُوِيَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: (هَلَكت وأهلكت) ،قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذِه اللَّفْظَة غير مَوْجُودَة فِي شَيْء من رِوَايَة هَذَا الحَدِيث،قَالَ: وَأَصْحَاب سُفْيَان لم يرووها عَنهُ إِنَّمَا ذكرُوا قَوْله: (هَلَكت) ، حسب،قَالَ: غير أَن بعض أَصْحَابنَا حَدثنِي أَن الْمُعَلَّى بن مَنْصُور روى هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان، فَذكر هَذَا الْحَرْف فِيهِ وَهُوَ غير مَحْفُوظ، والمعلى لَيْسَ بذلك فِي الْحِفْظ والإتقان. انْتهى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَا يرضاها أَصْحَاب الحَدِيث،وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَيست مَحْفُوظَة عِنْد الْحفاظ الْأَثْبَات.
    .......
    (11/30)
    وَقَالَ شَيخنَا زيد الدّين،رَحمَه الله: وَردت هَذِه اللَّفْظَة مُسندَة من طرق ثَلَاثَة: أَحدهَا: الَّذِي ذكره الْخطابِيّ، وَقد رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِي ّ من رِوَايَة أبي ثَوْر،قَالَ: حَدثنَا مُعلى بن مَنْصُور حَدثنَا سُفْيَان بن عينة، فَذكره الدَّارَقُطْنِي ّ، تفرد بِهِ أَبُو ثَوْر عَن مُعلى بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة،
    .....
    (11/31)
    فِي رِوَايَة سَاق مُسلم إسنادها وسَاق أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) متنها أَنه قَالَ: (أفطرت فِي رَمَضَان) ، وَبِهَذَا يرد على الْقُرْطُبِيّ فِي دَعْوَاهُ تعدد الْقِصَّة، لِأَن مخرج الحَدِيث وَاحِد، والقصة وَاحِدَة،وَوَقع فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عَن سعيد بن مَنْصُور: (أصبت امْرَأَتي ظهرا فِي رَمَضَان) ، وبتعيين رَمَضَان، يفهم الْفرق فِي وجوب كَفَّارَة الْجِمَاع فِي الصَّوْم بَين رَمَضَان وَغَيره من الْوَاجِبَات كالنذر، وَبَعض الْمَالِكِيَّة أوجبوا الْكَفَّارَة على من أفسد صَوْمه مُطلقًا، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، ورد عَلَيْهِم بِالَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (هَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟)
    ...........
    (11/33)
    قع فِي (شرح السّنة) لِلْبَغوِيِّ: أَن من جَامع مُتَعَمدا فِي رَمَضَان فسد صَوْمه. وَعَلِيهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة، وَيُعَزر على سوء صَنِيعه. قلت: هُوَ مَحْمُول على من لم يَقع مِنْهُ مَا وَقع من صَاحب هَذِه الْقِصَّة من النَّدَم وَالتَّوْبَة.
    وَفِيه: أَن الْكَفَّارَة مرتبَة ككفارة الظِّهَار، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء إلاَّ أَن مَالك بن أنس زعم أَنه مُخَيّر بَين عتق الرَّقَبَة وَصَوْم شَهْرَيْن وَالْإِطْعَام،وَحكي عَنهُ أَنه قَالَ: الْإِطْعَام أحب إِلَيّ من الْعتْق، وَوَقع فِي (الْمُدَوَّنَة) : وَلَا يعرف مَالك غير الْإِطْعَام وَلَا يَأْخُذ بِعِتْق وَلَا صِيَام. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهِي معضلة لَا يَهْتَدِي إِلَى توجيهها مَعَ مصادمة الحَدِيث الثَّابِت، غير أَن بعض الْمُحَقِّقين من أَصْحَابه حل هَذَا اللَّفْظ وتأوله على الِاسْتِحْبَاب فِي تَقْدِيم الطَّعَام على غَيره من الْخِصَال، وَذكر أَصْحَابه فِي هَذَا
    وُجُوهًا كَثِيرَة كلهَا لَا تقاوم مَا ورد فِي الحَدِيث من تَقْدِيم الْعتْق على الصّيام، ثمَّ الْإِطْعَام
    سلك الْجُمْهُور فِي ذَلِك مَسْلَك التَّرْجِيح بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب عَن الزُّهْرِيّ أَكثر مِمَّن روى التَّخْيِير، وَاعْترض ابْن التِّين بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب ابْن عُيَيْنَة وَمعمر وَالْأَوْزَاعِي ّ، وَالَّذين رووا التَّخْيِير مَالك وَابْن جريج وفليح بن سُلَيْمَان وَعمر بن عُثْمَان المَخْزُومِي، وَأجِيب: بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب عَن الزُّهْرِيّ ثَلَاثُونَ نفسا أَو أَكثر، وَرجح التَّرْتِيب أَيْضا بِأَن رَاوِيه حكى لفظ الْقِصَّة على وَجههَا فمعه زِيَادَة علم من صُورَة الْوَاقِعَة، وراوي التَّخْيِير حكى لفظ رَاوِي الحَدِيث، فَدلَّ على أَنه من تصرف بعض الروَاة إِمَّا لقصد الِاخْتِصَار أَو لغير ذَلِك، ويترجح التَّرْتِيب أَيْضا بِأَنَّهُ أحوط. وَحمل الْمُهلب والقرطبي الْأَمر على التَّعَدُّد، وَهُوَ بعيد، لِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد، وَحمل بَعضهم التَّرْتِيب على الْأَوْلَوِيَّة والتخيير على الْجَوَاز.
    .....
    (11/34)
    وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَرْبَعَة مَرْفُوعا من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة،أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء، وَمن استقاء عمدا فليقض) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه من حَدِيث هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس،قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غَيره وَجهه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يَصح إِسْنَاده. وَقَالَ البُخَارِيّ: لم يَصح، وَإِنَّمَا يرْوى عَن عبد الله بن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله ضَعِيف، وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ من طَرِيق عِيسَى ابْن يُونُس،وَنقل عَن عِيسَى أَنه قَالَ: زعم أهل الْبَصْرَة أَن هشاما وهم فِيهِ،وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد يَقُول: لَيْسَ من ذَا شَيْء. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد أَنه غير مَحْفُوظ،وَقَالَ ابْن بطال: تفرد بِهِ عِيسَى وَهُوَ ثِقَة إلاَّ أَن أهل الحَدِيث أنكروه عَلَيْهِ، وَوهم عِنْدهم فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عَليّ الطوسي: هُوَ حَدِيث غَرِيب،وَالصَّحِيح رِوَايَة أبي الدَّرْدَاء وثوبان وفضالة بن عبيد: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاء فَأفْطر) .
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أصح شَيْء فِي الْقَيْء والرعاف.



    .........
    (11/38)
    روى عَن الْحسن عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وهم أَبُو هُرَيْرَة وثوبان وَمَعْقِل بن يسَار وَعلي بن أبي طَالب وَأُسَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
    أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ
    ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ،قَالَ: إِنَّا كرهنا الْحجامَة للصَّائِم من أحل الضعْف، وروى أَيْضا عَن حميد قَالَ سَأَلَ ثَابتا الْبنانِيّ أنس بن مَالك هَل كُنْتُم تَكْرَهُونَ الْحجامَة للصَّائِم؟قَالَ: لَا إِلَّا من أجل الضعْف وَرُوِيَ أَيْضا عَن جَابر بن أبي جَعْفَر وَسَالم عَن سعيد ومغيرة عَن إِبْرَاهِيم وَلَيْث عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس،قَالَ: إِنَّمَا كرهت الْحجامَة للصَّائِم مَخَافَة الضعْف. انْتهى.
    ............
    (11/41)
    وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ حَدِيث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، بِلَا ريب فِيهِ، لَكِن وجدنَا من حَدِيث أبي سعيد (أرخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما فِي الْحجامَة للصَّائِم) ، وَإِسْنَاده صَحِيح، فَوَجَبَ الْأَخْذ بِهِ لِأَن الرُّخْصَة إِنَّمَا تكون بعد الْعَزِيمَة، فَدلَّ على نسخ الْفطر بالحجامة سَوَاء كَانَ حاجما أَو محجوما، وَقد مر حَدِيث أبي سعيد عَن قريب.
    حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ احْتَجَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ صَائِمٌ. .
    .....
    (11/43)
    وَقَالَ الْإِسْبِيجَابِ يّ فِي (شرح مُخْتَصر الطَّحَاوِيّ) : الْأَفْضَل أَن يَصُوم فِي السّفر إِذا لم يُضعفهُ الصَّوْم، فَإِن أضعفه ولحقه مشقة بِالصَّوْمِ بِالْفطرِ أفضل، فَإِن أفطر من غير مشقة لَا يَأْثَم، وَبِمَا قُلْنَاهُ قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الْمَذْهَب.
    وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة: أفضل الْأَمريْنِ أيسرهما عَلَيْهِ،وَقيل: الصَّوْم وَالْفطر سَوَاء وَهُوَ قَول للشَّافِعِ
    .......
    (11/47)
    أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى،وَاسْمهَا: هجيمة، وَهِي تابعية،وَأم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى اسْمهَا: خيرة، وَهِي صحابية، وكلتاهما زوجتا أبي الدَّرْدَاء،وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قد جعل ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم كلتيهما وَاحِدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك،وَقَالَ أَبُو مسْهر أَيْضا: هما وَاحِدَة، وَهُوَ وهمٌ مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ
    .......
    (11/48)
    قَالَ سُفْيَان: فَذكر لي أَن الزُّهْرِيّ كَانَ يَقُول: وَلم أسمع أَنا مِنْهُ: (لَيْسَ من أمبرا مصيام فِي امسفر) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ هِيَ لُغَة طَيء فَإِنَّهُم يبدلون اللَّام ميما. وروى ابْن عدي من حَدِيث عَطاء عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر) ، وَفِيه مقَال. وروى ابْن عدي أَيْضا من حَدِيث مَيْمُون بن مهْرَان عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر) ، وَفِيه مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْعُكَّاشِي، وَهُوَ مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: ذهب قوم إِلَى هَذِه الْأَحَادِيث،وَقَالُوا: الْإِفْطَار فِي شهر رَمَضَان فِي السّفر أفضل من الصّيام قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: سعيد بن جُبَير وَابْن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَقَتَادَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى مَذَاهِب الْعلمَاء.

    .........

    (11/51)
    الشَّيْخ الْكَبِير والعجوز إِذا كَانَ الصَّوْم يجهدهما ويشق عَلَيْهِمَا مشقة شَدِيدَة، فَلَهُمَا أَن يفطرا ويطعما لكل يَوْم مِسْكينا، وَهَذَا قَول عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَسَعِيد ابْن جُبَير وطاووس وَأبي حنيفَة وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأحمد بن حَنْبَل،وَقَالَ مَالك: لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء، لِأَنَّهُ لَو ترك الصَّوْم لعَجزه مَا تجب فديَة، كَمَا تَركه لمَرض اتَّصل بِهِ الْمَوْت، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ربيعَة وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ وَابْن الْمُنْذر،وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ كالمذهبين: أَحدهمَا: لَا تجب الْفِدْيَة عَلَيْهِمَا لعدم وجوب الصَّوْم عَلَيْهِمَا. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيد: تجب الْفِدْيَة
    لكل يوم مد من طعام
    ...........
    (11/56)
    أَن الْقَضَاء موسع، وَيصير فِي شعْبَان مضيقا، وَيُؤْخَذ من حرصها على الْقَضَاء فِي شعْبَان أَنه لَا يجوز تَأْخِير الْقَضَاء حَتَّى يدْخل رَمَضَان، فَإِن دخل فالقضاء وَاجِب أَيْضا، فَلَا يسْقط. وَأما الْإِطْعَام فَلَيْسَ فِي الحَدِيث لَهُ ذكر، لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بالإثبات، وَقد تقدم بَيَان الْخلاف فِيهِ. وَفِيه: أَن حق الزَّوْج من الْعشْرَة والخدمة يقدم على سَائِر الْحُقُوق مَا لم يكن فرضا محصورا فِي الْوَقْت،وَقيل: قَول عَائِشَة: فَمَا أَسْتَطِيع أَن أقضيه إلاَّ فِي شعْبَان، يدل على أَنَّهَا كَانَت لَا تتطوع بِشَيْء من الصّيام، لَا فِي عشر ذِي الْحجَّة، وَلَا فِي عَاشُورَاء وَلَا فِي غَيرهمَا، وَهُوَ مَبْنِيّ على أَنَّهَا مَا كَانَت ترى جَوَاز صِيَام التَّطَوُّع لمن عَلَيْهِ دين من رَمَضَان، وَلَكِن من أَيْن ذَلِك لمن يَقُول بِهِ، والْحَدِيث سَاكِت عَن هَذَا؟
    ..........
    (11/57)
    أن الْأُمُور الشَّرْعِيَّة الَّتِي ترد على خلاف الْقيَاس وَلَا يعلم وَجه الْحِكْمَة فِيهَا يجب الِاتِّبَاع بهَا، ويكل الْأَمر فِيهَا إِلَى الشَّارِع، ويتعبد بهَا وَلَا يعْتَرض،وَلَا يَقُول: لم كَانَ كَذَا؟ ألاَ ترى أَن فِي حَدِيث قَتَادَة،قَالَ: حَدَّثتنِي معَاذَة أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: أتجزىء إحدانا صلَاتهَا، إِذا طهرت؟قَالَت: أحرورية أَنْت؟ كُنَّا نحيض مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يَأْمُرنَا بِهِ،أَو قَالَت: فَلَا نفعله
    وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: إِن الْمَنْع فِي ذَلِك النَّص، وَإِن كل شَيْء ذَكرُوهُ من الْفرق ضَعِيف، وَزعم الْمُهلب أَن السَّبَب فِي منع الْحَائِض من الصَّوْم أَن خُرُوج الدَّم يحدص ضعفا فِي النَّفس غَالِبا، فَاسْتعْمل هَذَا الْغَالِب فِي جَمِيع الْأَحْوَال، فَلَمَّا كَانَ الضعْف يُبِيح الْفطر وَيُوجب الْقَضَاء كَانَ كَذَلِك الْحيض، وَفِيه نظر، لِأَن الْمَرِيض لَو تحامل فصَام صَحَّ صَوْمه، بِخِلَاف الْحَائِض، فَإِن الْمُسْتَحَاضَة فِي نزف الدَّم أَشد من الْحَائِض، وَقد أُبِيح لَهَا الصَّوْم.
    ..............
    (11/58)
    وَقَالَ الحَسَنُ إنْ صَامَ عَنْهُ ثَلاثُونَ رَجُلاٍ يَوْما واحِدا أجازَ
    هَذَا الْأَثر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مِمَّا يبين مُرَاده من التَّرْجَمَة المبهمة، وَوجه مطابقته لَهَا أَيْضا، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الدَّارَقُطْنِي ّ فِي كتاب المذبح من طَرِيق عبد الله بن الْمُبَارك عَن سعيد بن عَامر وَهُوَ الضبعِي، وَعَن أَشْعَث عَن الْحسن فِيمَن مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَجمع لَهُ ثَلَاثُونَ رجلا فصاموا عَنهُ يَوْمًا وَاحِدًا أَجْزَأَ عَنهُ
    .........
    (11/59)
    احْتج بِهِ أَصْحَاب الحَدِيث فأجازوا الصّيام عَن الْمَيِّت، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، وَأَبُو ثَوْر وطاووس وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَاللَّيْث بن سعد وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ وَابْن حزم، سَوَاء كَانَ عَن صِيَام رَمَضَان أَو عَن كَفَّارَة أَو عَن نذر، وَرجح الْبَيْهَقِيّ وَالنَّوَوِيّ القَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ لصِحَّة الْأَحَادِيث فِيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله فِي (شرح مُسلم) : إِنَّه الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نعتقده، وَهُوَ الَّذِي صَححهُ محققو أَصْحَابه الجامعيين بَين الْفِقْه والْحَدِيث لقُوَّة الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة، وَنقل الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) : من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم فَلم يقضه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ صَامَ عَنهُ وليه أَو أطْعم عَنهُ على قَوْله فِي الْقَدِيم، وَهَذَا ظَاهر أَن الْقَدِيم تَخْيِير الْوَلِيّ بَين الصّيام وَالْإِطْعَام، وَبِه صرح النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) قلت: لَيْسَ القَوْل الْقَدِيم مذهبا لَهُ فَإِنَّهُ غسل كتبه الْقَدِيمَة وَأشْهد على نَفسه بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، هَكَذَا نقل ذَلِك عَنهُ أَصْحَابه.
    ثمَّ إعلم أَن فِي هَذَا الْبَاب اخْتِلَافا كثيرا وأقوالاً. الأول: مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَالثَّانِي: هُوَ أَن يطعم الْوَلِيّ عَن الْمَيِّت كل يَوْم مِسْكينا مدا من قَمح، وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الْحَدِيد، وَأَنه لَا يَصُوم أحد عَن أحد، وَإِنَّمَا يطعم عَنهُ عِنْد مَالك إِذا أوصى بِهِ. وَالثَّالِث: يطعم عَنهُ كل يَوْم نصف صَاع، روى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ. وَالرَّابِع: يطعم عَنهُ عَن كل يَوْم صَاعا من غير الْبر، وَنصف صَاع من الْبر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَهَذَا إِذا أوصى بِهِ، فَإِن لم يوصِ فَلَا يطعم عَنهُ. الْخَامِس: التَّفْرِقَة بَين صَوْم رَمَضَان وَبَين صَوْم النّذر، فيصوم عَنهُ وليه مَا عَلَيْهِ من نذر. وَيطْعم عَنهُ عَن كل يَوْم من رَمَضَان مدا، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ عَن أبي عبيد أَيْضا.
    (عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي يَمُوت وَعَلِيهِ رَمَضَان وَلم يقضه،قَالَ: يطعم عَنهُ لكل يَوْم نصف صَاع من بر،قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا خطأ من وَجْهَيْن. أَحدهمَا: رَفعه الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول ابْن عمر. وَالْآخر: قَوْله: نصف صَاع،وَإِنَّمَا قَالَ: مدا من حِنْطَة، وَضَعفه عبد الْحق فِي أَحْكَامه بأشعث وَابْن أبي ليلى.
    وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (علله) : الْمَحْفُوظ مَوْقُوف، هَكَذَا رَوَاهُ عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) ؛ لَا يَصح هَذَا الحَدِيث، فَإِن مُحَمَّد بن أبي ليلى كثير الْوَهم
    .........
    (11/60)
    قَالَ مهنىء: سَأَلت أَحْمد عَن حَدِيث عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة مَرْفُوعا: (من مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام؟) فَقَالَ أَبُو عبد الله: لَيْسَ بِمَحْفُوظ، وَهَذَا من قبل عبيد الله بن أبي جَعْفَر، وَهُوَ مُنكر الْأَحَادِيث، وَكَانَ فَقِيها، وَأما الحَدِيث فَلَيْسَ هُوَ فِيهِ بِذَاكَ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرَأَيْت بعض أَصْحَابنَا ضعف حَدِيث عَائِشَة بِمَا رُوِيَ عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن امْرَأَة عَن عَائِشَة فِي امْرَأَة مَاتَت وَعَلَيْهَا الصَّوْم،قَالَت: يطعم عَنْهَا. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: لَا تَصُومُوا عَن مَوْتَاكُم وأطعموا عَنْهُم،ثمَّ قَالَ: وَفِيهِمَا نظر، وَلم يزدْ عَلَيْهِ. قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: (حَدثنَا روح بن الْفرج حَدثنَا يُوسُف بن عدي حَدثنَا عبيد بن حميد عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن قلت لعَائِشَة: إِن أُمِّي توفيت وَعَلَيْهَا صِيَام رَمَضَان، أيصلح أَن أَقْْضِي عَنْهَا؟فَقَالَت: لَا، وَلَكِن تصدقي عَنْهَا مَكَان كل يَوْم على مِسْكين خير من صيامك) وَهَذَا سَنَد صَحِيح.
    وَقد أحمعوا على أَنه لَا يُصَلِّي أحد عَن أحد، فَكَذَلِك الصَّوْم، لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا عبَادَة بدنية،وَقَالَ ابْن الْقصار: لما لم يجز الصَّوْم عَن الشَّيْخ ألهم فِي حَيَاته فَكَذَا بعد مماته، فَيرد مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى مَا أجمع عَلَيْهِ، وَحكى ابْن الْقصار أَيْضا فِي (شرح البُخَارِيّ) عَن الْمُهلب أَنه قَالَ: لَو جَازَ أَن يَصُوم أحد عَن أحد فِي الصَّوْم لجَاز أَن يُصَلِّي النَّاس عَن النَّاس، فَلَو كَانَ ذَلِك سائغا لجَاز أَن يُؤمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عَمه أبي طَالب لِحِرْصِهِ على إيمَانه، وَقد أَجمعت الْأمة على أَنه لَا يُؤمن أحد عَن أحد، وَلَا يُصَلِّي أحد عَن أحد، فَوَجَبَ أَن يرد مَا اخْتلف فِيهِ إِلَى مَا أجمع عَلَيْهِ. قلت: فِيهِ بعض غَضَاضَة وَترك محَاسِن الْأَدَب ومصادمة الْأَخْبَار الثَّابِتَة فِيهِ، وَالْأَحْسَن فِيهِ أَن يسْلك فِيهَا مَا سلكنا من الْوُجُوه الْمَذْكُورَة.
    .........
    (11/60)
    وَهِي أَن الصَّحَابِيّ إِذا روى شَيْئا ثمَّ أفتى بِخِلَافِهِ فَالْعِبْرَة لما رَآهُ،وَقَالَ بَعضهم: الرَّاجِح أَن الْمُعْتَبر مَا رَوَاهُ لَا مَا رَآهُ، لاحْتِمَال أَن يُخَالف ذَلِك لاجتهاد مُسْتَنده فِيهِ لم يتَحَقَّق، وَلَا يلْزم من ذَلِك ضعف الحَدِيث عِنْده، وَإِذا تحققت صِحَة الحَدِيث لم يتْرك بِهِ الْمُحَقق للمظنون انْته
    ..........
    (11/61)
    وَقَالَ ابْن حزم: من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم فرض من قَضَاء رَمَضَان أَو نذر أَو كَفَّارَة وَاجِبَة فَفرض على أوليائه أَن يصوموه عَنهُ، هم أَو بَعضهم، وَلَا إطْعَام فِي ذَلِك أصلا، أوصى بذلك أَو لم يوصِ بِهِ، وَيبدأ بِهِ على دُيُون النَّاس. وَفِيه: صِحَة الْقيَاس. وَفِيه: قَضَاء الدّين عَن الْمَيِّت، وَقد أَجمعت الْأَئِمَّة عَلَيْهِ،فَإِن مَاتَ وَعَلِيهِ دين لله وَدين لآدَمِيّ قدم دين الله لقَوْله: (فدين الله أَحَق) ،وَفِيه: ثَلَاثَة أَقْوَال للشَّافِعِيّ: الأول: أَصَحهَا تَقْدِيم دين الله تَعَالَى. الثَّانِي: تَقْدِيم دين الْآدَمِيّ. الثَّالِث: هما سَوَاء فَيقسم بَينهمَا.
    ...........
    (11/66)
    وَاسْتحبَّ القَاضِي حُسَيْن أَن يكون فطره على مَاء يتَنَاوَلهُ بِيَدِهِ من النَّهر وَنَحْوه حرصا على طلب الْحَلَال للفطر لغَلَبَة الشُّبُهَات فِي المآكل. وروينا عَن ابْن عمر أَنه كَانَ رُبمَا أفطر على الْجِمَاع، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن سِيرِين عَنهُ، وَإِسْنَاده حسن،وَذَلِكَ يحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَن يكون ذَلِك لغَلَبَة الشَّهْوَة وَإِن كَانَ الصَّوْم يكسر الشَّهْوَة. وَالثَّانِي: أَن يكون لتحَقّق الْحل من أَهله، وَرُبمَا يردد فِي بعض المأكولات. وَفِي (الْمُسْتَدْرك) : عَن قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يُصَلِّي الْمغرب حَتَّى يفْطر، وَلَو على شربة من مَاء، وَذهب ابْن حزم إِلَى وجوب الْفطر على التَّمْر إِن وجده. فَإِن لم يجده فعلى المَاء، وَإِن لم يفعل فَهُوَ عاصٍ، وَلَا يبطل صَوْمه بذلك.
    .........
    (11/67)
    وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء أَنه لَا تلْزم الْعِبَادَات والفرائض إلاَّ عِنْد الْبلُوغ، إلاَّ أَن أَكثر الْعلمَاء استحسنوا تدريب الصّبيان على الْعِبَادَات رَجَاء الْبركَة، وَأَنَّهُمْ يعتادونها فتسهل عَلَيْهِم إِذا ألزمهم، وَأَن من فعل ذَلِك بهم مأجور. وَفِي (الْأَشْرَاف) : اخْتلفُوا فِي الْوَقْت الَّذِي يُؤمر فِيهِ الصَّبِي بالصيام،فَكَانَ ابْن سِيرِين وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَعَطَاء وَعُرْوَة وَقَتَادَة وَالشَّافِعِيّ يَقُولُونَ: يُؤمر بِهِ إِذا أطاقه، وَنقل عَن الْأَوْزَاعِيّ مثل مَا ذكرنَا الْآن،وَاحْتج بِحَدِيث ابْن أبي لَبِيبَة عَن أَبِيه عَن جده عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِذا صَامَ الْغُلَام ثَلَاثَة أَيَّام متتابعة فقد وَجب عَلَيْهِ صِيَام رَمَضَان) . وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: إِذا طاقوا الصّيام ألزموه، فَإِذا أفطروا بِغَيْر عذر وَلَا عِلّة فَعَلَيْهِم الْقَضَاء. وَقَالَ أَشهب: يسْتَحبّ لَهُم إِذا أطاقوه. وَقَالَ عُرْوَة: إِذا أطاقوا الصَّوْم وَجب عَلَيْهِم. قَالَ عِيَاض: وَهَذَا غلط يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) ،فَذكر: الصَّبِي حَتَّى يَحْتَلِم،وَفِي رِوَايَة: (حَتَّى يبلغ) .
    .......
    (11/72)
    لَكِن اخْتلفُوا: هَل هِيَ رِوَايَة تَنْزِيه أَو تَحْرِيم؟ على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا صَاحب (الْمُهَذّب) وَغَيره،أصَحهمَا عِنْدهم: أَن الْكَرَاهَة للتَّحْرِيم. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي، وَحكى صَاحب (الْمُفْهم) عَن قوم: أَنه يحرم،قَالَ: وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر. قَالَ: وَذهب الْجُمْهُور وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَجَمَاعَة من أهل الْفِقْه إِلَى كَرَاهَته، وَذهب آخَرُونَ إِلَى جَوَاز الْوِصَال لمن قوي عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ كَانَ يواصل عبد الله بن الزبير وَابْن عَامر وَابْن وضاح من الْمَالِكِيَّة، كَانَ يواصل أَرْبَعَة أَيَّام، حَكَاهُ ابْن حزم. وَقد حكى القَاضِي عِيَاض عَن ابْن وهب وَإِسْحَاق وَابْن حَنْبَل أَنهم أَجَازُوا الْوِصَال،وَالْجُمْهُور ذَهَبُوا إِلَى أَن الْوِصَال من خَواص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله: (إِنِّي لست كَأحد مِنْكُم) ، وَهَذَا دَال على التَّخْصِيص، وَأما غَيره من الْأمة فَحَرَام عَلَيْهِ. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) (من حَدِيث عَائِشَة: كَانَ يُصَلِّي بعد الْعَصْر وَينْهى عَنْهَا، ويواصل وَينْهى عَن الْوِصَال) ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ من الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَاحْتج من أَبَاحَ الْوِصَال بقول عَائِشَة: (نَهَاهُم عَن الْوِصَال رَحْمَة لَهُم)
    ........
    (11/74)
    حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ الْهَادِ عنْ عَبْدِ الله بنِ خَبَّابٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لَا تُوَاصِلُوا فأيُّكُمْ إذَا أرَادَ أنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ فإنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رسولَ الله قَالَ إنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنِّي أبيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وساقٍ يَسْقِينِي. (الحَدِيث 3691
    والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة ابْن الْهَاد أَيْضا وَلم يخرج مُسلم حَدِيث أبي سعيد وعزو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد إِلَى مُسلم وهم
    ..........
    (11/76)
    لَّذِي يشرع فِي عبَادَة يجب عَلَيْهِ أَن يَأْتِي بهَا وإلاَّ يكون مُبْطلًا لعمله،وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: أما من احْتج فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . فجاهل بأقوال أهل الْعلم، وَذَلِكَ أَن الْعلمَاء فِيهَا على قَوْلَيْنِ،فَيَقُول أَكثر أهل السّنة: لَا تبطلوها بالرياء أخلصوها لله تَعَالَى،وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم بارتكاب الْكَبَائِر. قلت: من أَيْن لأبي عمر هَذَا الْحصْر.
    وَقد اخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ،فَقيل: لَا تُبْطِلُوا الطَّاعَات بالكبائر،وَقيل: لَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم بِمَعْصِيَة الله ومعصية رَسُوله،وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تبطلوها بالرياء والسمعة، عَنهُ بِالشَّكِّ، والنفاق،وَقيل: بالعجب، فَإِن الْعجب يَأْكُل الْحَسَنَات كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب. وَقيل: لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى على أَن قَوْله: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم} (مُحَمَّد: 33) . عَام يتَنَاوَل كل من يبطل عمله، سَوَاء كَانَ فِي صَوْم أَو فِي صَلَاة وَنَحْوهمَا من الْأَعْمَال الْمَشْرُوعَة، فَإِذا نهى عَن إِبْطَاله يجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ ليخرج عَن عُهْدَة مَا شرع فِيهِ وأبطله.
    ............
    (11/78)
    قَالَ: مُحَمَّد هُوَ ابْن إِدْرِيس، سَمِعت سُفْيَان عَامَّة مجالستي إِيَّاه لَا يذكر فِيهِ (سأصوم يَوْمًا مَكَان ذَلِك) ،قَالَ: ثمَّ إِنِّي عرضت عَلَيْهِ الحَدِيث قبل أَن يَمُوت بِسنة فَأجَاب،فِيهِ: سأصوم يَوْمًا مَكَان ذَلِك، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه الْكَبِير) من طَرِيق الطَّحَاوِيّ وَفِي كِتَابه (الْمعرفَة) أَيْضا، فَفِي هَذَا الحَدِيث ذكر وجوب الْقَضَاء. وَفِي حَدِيث عَائِشَة مَا قد وَافق ذَلِك.
    ثمَّ انْظُر مَا أَقُول لَك، من الْعجب العجاب،وَهُوَ أَن أَحْمد قَالَ: هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن سُفْيَان دون هَذِه اللَّفْظَة،وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن طَلْحَة ابْن يحيى دون اللَّفْظَة مِنْهُم: سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد ووكيع بن الْجراح وَيحيى بن سعيد الْقطَّان ويعلى بن عبيد وَغَيرهم، وَأخرجه مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث عبد الْوَاحِد وَغَيره دون هَذِه اللَّفْظَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن الْكَبِيرَة) : رِوَايَة هَؤُلَاءِ تدل على خطأ هَذِه اللَّفْظَة، وَهَذَا الْعجب العجاب مِنْهُ أَن يخطِّيء هَهُنَا إِمَامه الشَّافِعِي ويخطِّىء مثل سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالشَّافِعِيّ إِمَام ثِقَة، وروى هَذِه اللَّفْظَة من مثل سُفْيَان الَّذِي هُوَ من أكبر مشايخه، ثمَّ لم يذكر خِلَافه عَنهُ، ثمَّ يتَلَفَّظ بِمثل هَذَا الْكَلَام البشيع لأجل تَضْعِيف مَا احتجت بِهِ الْحَنَفِيَّة، وغمض عَيْنَيْهِ من جِهَة الشَّافِعِي وَمن جِهَة شَيْخه، وَلَيْسَ هَذَا من دأب الْعلمَاء الراسخين، فضلا عَن الْعلمَاء المقلدين.
    وَأما قَول البُخَارِيّ والذهلي: إِنَّه لَا يَصح، فَهُوَ نفي، وَالْإِثْبَات مقدم عَلَيْهِ. وَقَوله: قَالَ النَّسَائِيّ هَذَا خطأ دَعْوَى بِلَا إِقَامَة برهَان، لِأَن كَونه مُرْسلا على زعمهم لَا يسْتَلْزم كَونه خطأ،وَقَول أبي عمر فِيهِ وهمان: أَحدهمَا: أَن قَوْله: مدَار حَدِيث يحيى بن سعيد على يحيى بن أَيُّوب غَفلَة مِنْهُ، فَإِنَّهُ هُوَ بعد هَذَا بأسطر رَوَاهُ من رِوَايَة أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَالثَّانِي: أَن قَوْله: وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم مَتْرُوك الحَدِيث، قد انْقَلب عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم فَظن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن حَبِيبَة،قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك الحَدِيث وَلَيْسَ هُوَ الرَّاوِي لهَذَا الحَدِيث، وَهَذَا إِسْمَاعِيل بن عقبَة، احْتج بِهِ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَالنَّسَائِيّ.
    .........
    (11/79)
    ذكر أهل السّير والمغازي: أَن المؤاخاة بَين الصَّحَابَة وَقعت مرَّتَيْنِ: الأولى: قبل الْهِجْرَة بَين الْمُهَاجِرين خَاصَّة على الْمُوَاسَاة والمناصرة، وَكَانَ من ذَلِك أخوة زيد بن حَارِثَة وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ آخى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، بعد أَن هَاجر وَذَلِكَ بعد قدومه الْمَدِينَة. فَإِن قلت: روى الْوَاقِدِيّ عَن الزُّهْرِيّ أَنه كَانَ يُنكر كل مؤاخاة وَقعت بعد بدر،وَيَقُول: قطعت بدر الْمَوَارِيث، وسلمان إِنَّمَا أسلم بعد وقْعَة أحد، وَأول مُشَاهدَة الخَنْدَق. قلت: الَّذِي قَالَه الزُّهْرِيّ إِنَّمَا يُرِيد بِهِ المؤاخاة الْمَخْصُوصَة الَّتِي كَانَت عقدت بَينهم ليتوارثوا بهَا، ومؤاخاة سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء إِنَّمَا كَانَت على المؤاساة، والمؤاخاة الْمَخْصُوصَة لَا تدفع المؤاخاة من أَصْلهَا. وروى ابْن سعد من طَرِيق حميد بن هِلَال،قَالَ: وآخى بَين سلمَان وَأبي الدَّرْدَاء، فَنزل سلمَان الْكُوفَة وَنزل أَبُو الدَّرْدَاء الشَّام
    ..........
    (11/82)
    (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة النّصْف من شعْبَان قَامَ فصلى أَربع عشرَة رَكْعَة، ثمَّ جلس، فَقَرَأَ بِأم الْقُرْآن أَربع عشرَة مرّة) الحَدِيث. وَفِي آخِره: (من صنع هَكَذَا لَكَانَ لَهُ كعشرين حجَّة مبرورة، وكصيام عشْرين سنة مَقْبُولَة، فَإِن أصبح فِي ذَلِك الْيَوْم صَائِما كَانَ لَهُ كصيام سِتِّينَ سنة مَاضِيَة، وَسِتِّينَ سنة مُسْتَقْبلَة) . رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) وَقَالَ: هَذَا مَوْضُوع، وَإِسْنَاده مظلم. ولعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَدِيث آخر رَوَاهُ أَيْضا فِي (الموضوعات) فِيهِ: (من صلى مائَة رَكْعَة فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان) الحَدِيث،وَقَالَ: لَا شكّ أَنه مَوْضُوع، وَكَانَ بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي هَذِه الصَّلَاة مقاولات، فَابْن الصّلاح يزْعم أَن لَهَا أصلا من السّنة، وَابْن عبد السَّلَام يُنكره.
    ........
    (11/83)
    وَأما الْوقُود فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَزعم ابْن دحْيَة أَن أول مَا كَانَ
    ذَلِك زمن يحيى بن خَالِد بن برمك، أَنهم كَانُوا مجوسا فأدخلوا فِي دين الْإِسْلَام مَا يموهون بِهِ على الطَّعَام. قَالَ: وَلما اجْتمعت بِالْملكِ الْكَامِل وَذكرت لَهُ ذَلِك قطع دابر هَذِه الْبِدْعَة الْمَجُوسِيَّة من سَائِر أَعمال الْبِلَاد المصرية.
    ...........
    (11/84)
    جمع الْمُحب الطَّبَرِيّ فِيهِ سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ يلْتَزم صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر، فَرُبمَا تَركهَا فيتداركها فِيهِ. ثَانِيهَا: تَعْظِيمًا لرمضان. ثَالِثهَا: أَنه ترفع فِيهِ الْأَعْمَال. رَابِعهَا: لِأَنَّهُ يغْفل عَنهُ النَّاس. خَامِسهَا: لِأَنَّهُ تنسخ فِيهِ الْآجَال. سادسها: أَن نِسَاءَهُ كن يصمن فِيهِ مَا فاتهن من الْحيض فيتشاغل عَنهُ بِهِ، وَالْحكمَة فِي كَونه لم يستكمل غير رَمَضَان لِئَلَّا يظنّ وُجُوبه. فَإِن قلت: صَحَّ فِي مُسلم: أفضل الصَّوْم بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم، فَكيف أَكثر مِنْهُ فِي شعْبَان؟ويعارضه أَيْضا رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (أَي الصَّوْم أفضل بعد رَمَضَان؟قَالَ: شعْبَان) . قلت: لَعَلَّه كَانَ يعرض لَهُ فِيهِ إعذار من سفر أَو مرض أَو غير ذَلِك، أَو لَعَلَّه لم يعلم بِفضل الْمحرم إلاَّ فِي آخر عمره قبل التَّمَكُّن مِنْهُ، وَلِأَن مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ لَا يُقَاوم مَا رَوَاهُ مُسلم.

    .........

    (11/85)
    وَذكر بعض الْعلمَاء إِنَّه وَقع مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصل شعْبَان برمضان وفصله مِنْهُ وَذَلِكَ فِي سنتَيْن فَأكْثر، وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي (الْإِحْيَاء) : فإنَّ وَصلَ شعْبَان برمضان فَجَائِز، فعل ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة، وَفصل مرَارًا كَثِيرَة، انْتهى. قلت: على هَذَا الْوَجْه يبعد وجوده مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث، نعم، وَقع مِنْهُ الْوَصْل والفصل، أما الْوَصْل فَهُوَ فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن أبي سَلمَة (عَن أم سَلمَة،قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إلاَّ شعْبَان ورمضان) . وَأما الْفَصْل فَفِي حَدِيث أبي دَاوُد من رِوَايَة عبد الله بن أبي قيس (عَن عَائِشَة،قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتحفظ من هِلَال شعْبَان مَا لَا يتحفظ من غَيره، ثمَّ يَصُوم لرمضان، فَإِن غم عَلَيْهِ عد ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صَامَ) . وَأخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ،وَقَالَ: (هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك،وَقَالَ: هَذَا صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصل شعْبَان برمضان) . وَرِجَال إِسْنَاده ثِقَات،وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة بِلَفْظ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم شعْبَان ورمضان يصلهمَا) . وَفِي إِسْنَاده الْأَحْوَص بن حَكِيم وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ حَدِيث أبي أُمَامَة وَفِي إِسْنَاده يُوسُف بن عَطِيَّة وَهُوَ ضَعِيف.

    ...........

    (11/92)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: عادات السّلف فِي وظائف الْقِرَاءَة كَانَ بَعضهم يخْتم فِي كل شهر، وَهُوَ أَقَله، وَأما أَكْثَره فثمان ختمات فِي يَوْم وَلَيْلَة على مَا بلغنَا.
    ........
    (11/95)
    سَبَب التَّسْمِيَة بأيام الْبيض مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِنَّمَا سميت بأيام الْبيض لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أهبط إِلَى الأَرْض أحرقته الشَّمْس فاسودَّ. فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَن صم أَيَّام الْبيض، فصَام أول يَوْم فأبيضَّ ثلث جسده، فَلَمَّا صَامَ الْيَوْم الثَّانِي ابيضَّ ثلثا جسده، فَلَمَّا صَامَ الْيَوْم الثَّالِث ابيضَّ جسده كُله. وَقيل: سميت بذلك لِأَن ليَالِي أَيَّام الْبيض مُقْمِرَة، وَلم يزل الْقَمَر من غرُوب الشَّمْس إِلَى طُلُوعهَا فِي الدُّنْيَا فَتَصِير اللَّيَالِي وَالْأَيَّام كلهَا بيضًا.

    ...........

    (11/98)
    وَفِي (الصَّحِيح) أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ لَا يدحل على أحد من النِّسَاء إلاَّ على أَزوَاجه إلاَّ على أم سليم، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك،قَالَ: أرحمها، قُتِلَ أَخُوهَا حرَام معي، فَبين تخصيصها بذلك، فَلَو كَانَ ثمَّة عِلّة أُخْرَى لذكرها، لِأَن تَأْخِير الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة لَا يجوز، وَهَذِه الْعلَّة مُشْتَركَة بَينهَا وَبَين أُخْتهَا أم حرَام. قَالَ: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على الْخلْوَة بهَا، فَلَعَلَّهُ كَانَ ذَلِك مَعَ ولد أَو خَادِم أَو زوج أَو تَابع، وَأَيْضًا فَإِن قتل حرَام كَانَ يَوْم بِئْر مَعُونَة فِي صفر سنة أَربع، ونزول الْحجاب سنة خمس، فَلَعَلَّ دُخُوله عَلَيْهَا. كَانَ قبل ذَلِك،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا تستتر مِنْهُ النِّسَاء لِأَنَّهُ كَانَ مَعْصُوما، بِخِلَاف غَيره.
    ..........
    (11/100)
    فَائِدَة: أَسمَاء ليَالِي الشَّهْر عشرَة، لكل ثَلَاث مِنْهَا اسْم. فالثلاث الأولى: غرر، لِأَن غرَّة كل شَيْء أَوله. وَالثَّانيَِة: نفل على وزن صرد ونغر لزيادتها على الْغرَر، وَالنَّفْل الزِّيَادَة. وَثَلَاث تسع إِذْ آخرهَا تَاسِع. وَثَلَاث عشر لِأَن أَولهَا عَاشر، وزنهما وزن زحل. وَثَلَاث تبع. وَثَلَاث درع ووزنهما كزحل أَيْضا لاسوداد أوائلها وابيضاض أواخرها. وَثَلَاث ظلم لإظلامها. وَثَلَاث حنادس لشدَّة سوادها. ثَلَاث دآدىء كسلالم لِأَنَّهَا بقايا. وَثَلَاث محاق بِضَم الْمِيم، لانمحاق الْقَمَر أول الشَّهْر والمحق المحو، وَيُقَال لَهما سرر أَيْضا عِنْد الْجُمْهُور،
    .........
    (11/102)
    (فَصم يَوْمَيْنِ) ،وَفِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله: (فَإِذا فطرت رَمَضَان؟) وَالَّذِي يفْطر رَمَضَان هَل يَكْتَفِي فِي قَضَائِهِ بيومين؟قلت: تَقْدِيره من رَمَضَان،وحذفت لَفْظَة: من، وَهِي مُرَادة كَمَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى،وَهُوَ من قبيل قَوْله تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه} (الْأَعْرَاف: 551) . أَي: من قومه، وَهَذَا هُوَ تَحْرِير هَذَا الْموضع الَّذِي لم أر أحدا من شرَّاح البُخَارِيّ وَمن شرَّاح مُسلم حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، وَلَا سِيمَا من يَدعِي فِي هَذَا الْفَنّ بدعاوى عريضة بمقدمات لَيْسَ لَهَا نتيجة.
    قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ ثابِتٌ عنْ مُطَرِّفٍ عنْ عِمْرَانَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ
    أَبُو عَبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ هَذَا،وَأَرَادَ بِالتَّعْلِيقِ أَن المُرَاد من قَوْله: (أصمت سرر هَذَا الشَّهْر) هُوَ سرر شعْبَان وَلَيْسَ هُوَ برمضان. كَمَا ظَنّه أَبُو النُّعْمَان،وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق مُسلم

    .........
    (11/105)
    أَنه يكره إِفْرَاده بِالصَّوْمِ، فَإِن صَامَ يَوْمًا قبله أَو بعده لم يكره، وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وطاووس وَأبي يُوسُف، وَفِي (كتاب الطّراز) : وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر، وَاخْتلف عَن الشَّافِعِي، فَحكى الْمُزنِيّ عَنهُ جَوَازه، وَحكى أَبُو حَامِد فِي تَعْلِيقه عَنهُ كَرَاهَته، وَكَذَا حَكَاهُ ابْن الصّباغ عَن تَعْلِيق أبي حَامِد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي (الرَّوْضَة)
    فِي (شرح مُسلم) : إِنَّه قَالَ بِهِ جُمْهُور أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَمِمَّنْ صَححهُ من الْمَالِكِيَّة، ابْن الْعَرَبِيّ،فَقَالَ: وبكراهته يَقُول الشَّافِعِي وَهُوَ الصَّحِيح
    " الجمعة "
    أَنه يحرم صَوْم يَوْم الْجُمُعَة إلاَّ لمن صَامَ يَوْمًا قبله أَو يَوْمًا بعده، أَو وَافق عَادَته بِأَن كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، فَوَافَقَ يَوْم الْجُمُعَة صِيَامه، وَهُوَ قَول ابْن حزم لظواهر الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي عَن تَخْصِيصه بِالصَّوْمِ، وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ الْحَنَفِيَّة بِحَدِيث ابْن مَسْعُود: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام، وَقل مَا كَانَ يفْطر يَوْم الْجُمُعَة، قَالَ: وَلَيْسَ فِيهِ حجَّة، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرِيد: كَانَ لَا يتَعَمَّد فطره إِذا وَقع فِي الْأَيَّام الَّتِي كَانَ يصومها. قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا وَصَححهُ ابْن حبَان وَابْن عبد الْبر وَابْن حزم، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل يتْرك مَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر الحَدِيث، وَيدْفَع حجيته بِالِاحْتِمَالِ الناشيء عَن غير دَلِيل الَّذِي لَا يعْتَبر، وَلَا يعْمل بِهِ، وَهَذَا كُله عسف ومكابرة.
    ...........
    ثمَّ إعلم أَنهم اخْتلفُوا أَيْضا فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْجُمُعَة مُفردا على أَقْوَال:
    الأول: مَا قَالَه النَّوَوِيّ عَن الْعلمَاء أَنه يَوْم دُعَاء وَذكر وَعبادَة من الْغسْل والتبكير إِلَى الصَّلَاة وانتظارها واستماع الْخطْبَة،وإكثار الذّكر بعْدهَا لقَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون} (الْجُمُعَة: 01) . وَغير ذَلِك من الْعِبَادَات فِي يَوْمهَا، فاستحب الْفطر فِيهِ ليَكُون أعون لَهُ على هَذِه الْوَظَائِف وأدائها بنشاط وانشراح لَهَا، والتذاذ بهَا من غير ملل وَلَا سآمة. قَالَ: وَهُوَ نَظِير الْحَاج يَوْم عَرَفَة فَإِن السّنة لَهُ الْفطر،ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ: فَإِن قيل: لَو كَانَ كَذَلِك لم يزل النَّهْي وَالْكَرَاهَة بِصَوْم يَوْم قبله أَو بعده لبَقَاء الْمَعْنى؟ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ يحصل لَهُ بفضيلة الصَّوْم الَّذِي قبله أَو بعده مَا يجْبر مَا قد يحصل من فتور أَو تَقْصِير فِي وظائف يَوْم الْجُمُعَة بِسَبَب صَوْمه. انْتهى قلت: فِيهِ نظر، إِذْ جبر مَا فَاتَهُ من أَعمال يَوْم الْجُمُعَة بِصَوْم يَوْم آخر لَا تخْتَص بِكَوْن الصَّوْم قبله بِيَوْم أَو بعده بِيَوْم، بل صَوْم يَوْم الْإِثْنَيْنِ أفضل من صَوْم يَوْم السبت.

    ...........

    (11/115)
    الطَّحَاوِيّ أخرج أَحَادِيث النَّهْي عَن الصَّوْم فِي أَيَّام التَّشْرِيق عَن سِتَّة عشر نفسا من الصَّحَابَة، وَهَذَا هُوَ الإِمَام الجهبذ صَاحب الْيَد الطُّولى فِي هَذَا الْفَنّ.
    مَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا ثَبت بِهَذِهِ الْآثَار عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، النَّهْي عَن صِيَام أَيَّام التَّشْرِيق، وَكَانَ نَهْيه عَن ذَلِك بمنى، وَالْحجاج مقيمون بهَا، وَفِيهِمْ المتمتعون والقارنون، وَلم يسْتَثْن مِنْهُم مُتَمَتِّعا وَلَا قَارنا، دخل المتمتعون والقارنون فِي ذَلِك، ثمَّ أجَاب عَن حَدِيثهمْ، وَهُوَ حَدِيث عبد الله بن عمرَان، فِي إِسْنَاده يحيى بن سَلام، أَنه حَدِيث مُنكر لَا يُثبتهُ أهل الْعلم بالرواية لضعف يحيى بن سَلام، وَابْن أبي ليلى وَفَسَاد حفظهما، وَالدَّارَقُطْن ِيّ أَيْضا ضعف يحيى بن سَلام، وَابْن أبي ليلى فِيهِ مقَال، وَكَانَ يحيى بن سعيد يُضعفهُ،وَعَن أَحْمد: كَانَ سيء الْحِفْظ مُضْطَرب الحَدِيث،وَعَن أبي حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ
    ,,,,,,,,,
    (11/116)
    الَ أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: عَاشُورَاء مَمْدُود، وَلم يجىء فاعولاء فِي كَلَام الْعَرَب إلاَّ عَاشُورَاء،والضاروراء: اسْم الضراء، والساروراء اسْم للسراء، والدالولاء اسْم للدالة، وخابوراء اسْم مَوضِع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يَوْم عَاشُورَاء وعاسوراء ممدودان،
    ...........
    (11/117)
    لِمَ سُمِّيَ الْيَوْم الْعَاشِر عَاشُورَاء؟ اخْتلفُوا فِيهِ،فَقيل: لِأَنَّهُ عَاشر الْمحرم، وَهَذَا ظَاهر،وَقيل: لِأَن الله تَعَالَى أكْرم فِيهِ عشرَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بِعشر كرامات. الأول: مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ نصر فِيهِ، وفلق الْبَحْر لَهُ، وغرق فِرْعَوْن وَجُنُوده. الثَّانِي: نوح عَلَيْهِ السَّلَام اسْتَوَت سفينته على الجودي فِيهِ. الثَّالِث: يُونُس، عَلَيْهِ السَّلَام،
    أنجي فِيهِ من بطن الْحُوت. الرَّابِع: فِيهِ تَابَ الله على آدم عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَه عِكْرِمَة. الْخَامِس: يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ أخرج من الْجب فِيهِ. السَّادِس: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ ولد فِيهِ، وَفِيه رفع. السَّابِع: دَاوُد، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ تَابَ الله عَلَيْهِ. الثَّامِن: إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، ولد فِيهِ. التَّاسِع: يَعْقُوب، عَلَيْهِ السَّلَام، فِيهِ رد بَصَره. الْعَاشِر: نَبينَا مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر.
    .........
    (11/125)
    قَوْله: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، ظَاهره يتَنَاوَل كل ذَنْب من الْكَبَائِر والصغائر، وَبِه قطع ابْن الْمُنْذر،وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَعْرُوف أَنه يخْتَص بالصغائر، وَبِه قطع إِمَام الْحَرَمَيْنِ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هُوَ مَذْهَب أهل السّنة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ،من رِوَايَة قُتَيْبَة عَن سُفْيَان: (وَمَا تَأَخّر) ، وَكَذَا زَادهَا حَامِد بن يحيى عِنْد قَاسم بن أصبغ، وَالْحُسَيْن بن الْحسن الْمروزِي فِي كتاب الصّيام لَهُ، وَهِشَام ابْن عمار فِي الْجُزْء الثَّانِي عشر من (فَوَائده) ويوسف بن يَعْقُوب النجاحي فِي (فَوَائده) : كلهم عَن ابْن عُيَيْنَة، ووردت هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا من طَرِيق أبي سَلمَة من وَجه آخر أخرجه أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي هُرَيْرَة،وَقد وَردت هَذِه الزِّيَادَة أَعني لفظ:: (وَمَا تَأَخّر) فِي عدَّة أَحَادِيث فَإِن قلت: الْمَغْفِرَة تستدعي سبق شَيْء من ذَنْب، والمتأخر من الذُّنُوب لم يَأْتِ فَكيف يغْفر؟قلت: هَذَا كِنَايَة عَن حفظ الله إيَّاهُم من الْكَبَائِر، فَلَا يَقع مِنْهُم كَبِيرَة بعد ذَلِك،وَقيل: مَعْنَاهُ أَن ذنوبهم تقع مغفورة.
    ...........
    (11/131)
    وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ: هِيَ غير مَخْصُوصَة بِشَهْر من الشُّهُور، وَبِه قَالَ الحنفيون، وَفِي (قاضيخان) : الْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا تَدور فِي السّنة كلهَا، وَقد تكون فِي رَمَضَان، وَقد تكون فِي غَيره، وَصَحَّ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَغَيرهم، وَقد زيف الْمُهلب هَذَا القَوْل. وَقَالَ: لَعَلَّ صَاحبه بناه على دوران الزَّمَان لنُقْصَان الْأَهِلّة، وَهُوَ فَاسد، لِأَن ذَلِك لم يعْتَبر فِي صِيَام رَمَضَان، فَلَا يعْتَبر فِي غَيره حَتَّى تنْتَقل لَيْلَة الْقدر عَن رَمَضَان انْتهى. قلت: تزييفه هَذَا القَوْل فَاسد، لِأَن قَصده تزييف قَول الْحَنَفِيَّة، وَلَا يدْرِي أَنه فِي نفس الْأَمر تزييف
    قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَهَذَا جرْأَة مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا ماخذ ابْن مَسْعُود كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح مُسلم) عَن أبي بن كَعْب أَنه أَرَادَ أَن لَا يتكل النَّاس،وَقَالَ الإِمَام نجم الدّين أَبُو حَفْص عمر النَّسَفِيّ فِي منظومته:
    (وَلَيْلَة الْقدر بِكُل الشَّهْر ... دَائِرَة وعيناها فأدر)
    .......
    (11/140)
    وَقَالَ أَبُو البركات بن تَيْمِية الْحَنْبَلِيّ: وَقَالَت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وأتباعهم: الصَّوْم من شَرط الِاعْتِكَاف الْوَاجِب، وَهُوَ مَذْهَب عَليّ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَنَافِع وَابْن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِي ّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَالْحسن بن حَيّ. وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود وطاووس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد وَإِسْحَاق وَأحمد،فِي رِوَايَة: إِن الصَّوْم لَيْسَ بِشَرْط فِي الْوَاجِب وَالنَّفْل، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد، وَمَا ذكره أَبُو البركات قَول قديم للشَّافِعِيّ،وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ على الْمُعْتَكف صَوْم إلاَّ أَن يَجعله على نَفسه، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ،قَالَ: وَرَفعه أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق السُّوسِي وَغَيره. لَا يرفعهُ، وَهُوَ شيخ الدَّارَقُطْنِي ّ، لكنه خَالف الْجَمَاعَة فِي رَفعه مَعَ أَن النَّافِي لَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل،
    ..........
    (11/141)
    وَفِي (الذَّخِيرَة) : أَن الصَّوْم كَانَ فِي أول الْإِسْلَام بِاللَّيْلِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ قبل نسخه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قد تقرر أَن النّذر الْجَارِي فِي الْكفْر لَا ينْعَقد على الصَّحِيح، فَلم يكن ذَلِك شَيْئا وَاجِبا عَلَيْهِ،وَقَالَ الْمُهلب: كل مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة من الْأَيْمَان وَالطَّلَاق وَجَمِيع الْعُقُود يَهْدِمهَا الْإِسْلَام وَيسْقط حرمتهَا، فَيكون الْأَمر بذلك أَمر اسْتِحْبَاب كَيْلا يكون خلفا فِي الْوَعْد. وَقَالَ ابْن بطال: مَحْمُول عِنْد الْفُقَهَاء على الحض وَالنَّدْب لِأَن الْإِسْلَام يجبُّ مَا قبله.
    ...........
    (11/152)
    وَزعم ابْن خالويه فِي كتاب (لَيْسَ) : أَن الشَّيْطَان لَيْسَ لَهُ تسلط على النَّاس،وعَلى أَن يَأْتِي العَبْد من فَوْقه قَالَ الله تَعَالَى: {ثمَّ لآتينهم من بَين أَيْديهم وَمن خَلفهم وَعَن أَيْمَانهم وَعَن شمائلهم} (الْأَعْرَاف: 71) . وَلم يقل من فَوْقهم، لِأَن رَحْمَة الله تَعَالَى تنزل من فَوق.

    .........

    انتهى كتاب الصوم و
    يليه كتاب البيوع

  11. #251
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "

    تلخيص المجلد الحادي عشر من " عمدة القاري "

    ويليه المجلد الثاني عشر " من كتاب البيوع " باب الثمار "
    الموافق : 2/ ربيع الأول / 1442 هجري
    الموافق : 19/10/2020 ميلادي

    .....
    كتاب البيوع "
    (11/161)
    {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (الْجُمُعَة: 01، 11) . أَي: بِغَيْر حق، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن التَّصَرُّف فِي المَال بالحرام بَاطِل حرَام، سَوَاء كَانَ أكلا أَو بيعا أَو هبة، وَغير ذَلِك،وَالْبَاطِل اسْم جَامع لكل مَا لَا يحل فِي الشَّرْع: كالربا وَالْغَصْب وَالسَّرِقَة والخيانة، وكل محرم ورد الشَّرْع بِهِ.
    ........
    (11/161)
    نهى الْعلمَاء والحكماء عَن أَن يكون الرجل لَا حِرْفَة لَهُ وَلَا صناعَة، خشيَة أَن يحْتَاج إِلَى النَّاس فيذل لَهُم. وَقد رُوِيَ عَن لُقْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام،أَنه قَالَ لِابْنِهِ: يَا بني خُذ من الدُّنْيَا بلاغك، وَأنْفق من كسبك لآخرتك، وَلَا ترفض الدُّنْيَا كل الرَّفْض فَتكون عيالاً، وعَلى أَعْنَاق الرِّجَال كلالاً.
    .........
    (11/162)
    وَقَالَ الْخَلِيل: كل صَاد تَجِيء قبل الْفَاء، وكل سين تَجِيء بعد الْقَاف،فللعرب فِيهِ لُغَتَانِ: سين وصاد، وَلَا يبالون اتَّصَلت أَو انفصلت بعد أَن تَكُونَا فِي كلمة إلاَّ أَن الصَّاد فِي بعض أحسن وَالسِّين فِي بعض أحسن. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَكَانُوا إِذا تبايعوا تصافقوا بالأكف إِمَارَة لانتزاع البيع، وَذَلِكَ أَن الْأَمْلَاك إِنَّمَا تُضَاف إِلَى الْأَيْدِي، والقبوض تبع لَهَا، فَإِذا تصافقت الأكف انْتَقَلت الْأَمْلَاك واستقرت كل يَد مِنْهَا على مَا صَار لكل وَاحِد مِنْهُمَا من ملك صَاحبه، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ تجارًا وَالْأَنْصَار أَصْحَاب زرع، فيغيبون بهَا عَن حَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَكثر أَحْوَاله وَلَا يسمعُونَ من حَدِيثه إلاَّ مَا كَانَ يحدث بِهِ فِي أَوْقَات شهودهم،وَأَبُو هُرَيْرَة حَاضر دهره لَا يفوتهُ شَيْء مِنْهَا: إلاَّ مَا شَاءَ الله، ثمَّ لَا يستولي عَلَيْهِ النسْيَان لصدق عنايته بضبطه وَقلة اسْتِعْمَاله بِغَيْرِهِ، وَقد لحقته دَعْوَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَتْ لَهُ الْحجَّة على من أنكر أمره واستغرب شَأْنه
    وَقَالَ ابْن الْأَثِير: أهل الصّفة، هم فُقَرَاء الْمُهَاجِرين، وَمن لم يكن لَهُ مِنْهُم منزل يسكنهُ، فَكَانُوا يأوون إِلَى مَوضِع يظلل فِي مَسْجِد الْمَدِينَة يسكنونه، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة رئيسهم.
    ........
    (11/165)
    وَفِي (التَّلْوِيح) : والوليمة فِي الْعرس مُسْتَحبَّة، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي،وَفِي رِوَايَة عَنهُ: وَاجِبَة، وَهُوَ قَول دَاوُد، وَقتهَا بعد الدُّخُول،وَقيل: عِنْد العقد،وَعَن ابْن حبيب: استحبابها عِنْد العقد وَعند الدُّخُول، وَأَن لَا ينقص عَن شَاة. قَالَ القَاضِي: الْإِجْمَاع أَنه لَا حد لقدرها المجزىء. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّهَا قدر الشَّاة لمن قدر عَلَيْهَا، فَمن لم يقدر فَلَا حرج عَلَيْهِ، فقد أولم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالسويق وَالتَّمْر على بعض نِسَائِهِ، وكرهت طَائِفَة الْوَلِيمَة أَكثر من يَوْمَيْنِ، وَعَن مَالك أسبوعا.
    .............
    (11/168)
    مالك بن أهيب وَيُقَال وهيب بن عبد منَاف بن زهرَة بن كلاب بن مرّة بن
    كَعْب بن لؤَي بن غَالب الْقرشِي أَبُو إِسْحَاق الزُّهْرِيّ أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ يلتقي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كلاب بن مرّة وَيُقَال لَهُ فَارس الْإِسْلَام مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَهُوَ الْمَشْهُور فِي قصره بالعقيق وَحمل على رِقَاب النَّاس إِلَى الْمَدِينَة وَدفن بِالبَقِيعِ وَهُوَ آخر الْعشْرَة وَفَاة وَكَانَ عمره حينما مَاتَ بضعا وَسبعين سنة وَقيل ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ وَقيل غير ذَلِك وَأمه حمْنَة بنت سُفْيَان بن أبي أُميَّة بن عبد شمس وَقيل بنت أبي سُفْيَان وَقيل بنت أبي أَسد وَعبد بن زَمعَة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر وَقَالَ أَبُو نعيم عبد زَمعَة بن الْأسود العامري أَخُو سَوْدَة أم الْمُؤمنِينَ كَانَ شريفا سيدا من سَادَات الصَّحَابَة قَالَ الذَّهَبِيّ كَذَا نسبه أَبُو نعيم فَوَهم إِنَّمَا هُوَ ابْن زَمعَة بن قيس وَزَمعَة بالزاي وَالْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات وَقيل بِسُكُون الْمِيم وَالْولد الْمُتَنَازع فِيهِ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن زَمعَة بن قيس وَكَانَت أمه من موَالِي الْيمن ولعَبْد الرَّحْمَن هَذَا عقب بِالْمَدِينَةِ وَله ذكر فِي الصَّحَابَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي تَجْرِيد الصَّحَابَة عبد الرَّحْمَن بن زَمعَة بن قيس الْقرشِي العامري هُوَ ابْن وليد زَمعَة صَاحب الْقِصَّة وَسَوْدَة بنت زَمعَة بن قيس القرشية العامرية أم الْمُؤمنِينَ يُقَال كنيتها أم الْأسود وَأمّهَا الشموس بنت قيس تزَوجهَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد موت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَكَانَت قبله عِنْد السَّكْرَان بن عمر وَأخي سهل بن عمر وروت عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروى عَنْهَا عبد الله بن عَبَّاس وَيحيى بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن سعد وَيُقَال ابْن أسعد بن زُرَارَة الْأنْصَارِيّ مَاتَت فِي آخر خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (
    ..........
    (11/168)
    وأجمعت جمَاعَة من الْعلمَاء بِأَن الْحرَّة فرَاش بِالْعقدِ عَلَيْهَا مَعَ إِمْكَان الْوَطْء وَإِمْكَان الْحمل فَإِذا كَانَ عقد النِّكَاح يُمكن مَعَه الْوَطْء وَالْحمل فَالْوَلَد لصَاحب الْفراش لَا يَنْتَفِي عَنهُ أبدا بِدَعْوَى غَيره وَلَا بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَّا بِاللّعانِ
    وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْمَرْأَة يطلقهَا زَوجهَا من حِين العقد عَلَيْهَا بِحَضْرَة الْحَاكِم وَالشُّهُود فتأتي بِولد لسِتَّة أشهر فَصَاعِدا من ذَلِك الْوَقْت عقيب العقد فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يلْحق بِهِ لِأَنَّهَا لَيست بفراش لَهُ إِذا لم يتَمَكَّن من الْوَطْء فِيهِ الْعِصْمَة وَهُوَ كالصغير أَو الصَّغِيرَة اللَّذين لَا يُمكن مِنْهُمَا الْوَلَد وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه هِيَ فرَاش لَهُ وَيلْحق بِهِ وَلَدهَا وَاخْتلفُوا فِي الْأمة فَقَالَ مَالك إِذا أقرّ بِوَطْئِهَا صَارَت فراشا إِن لم يدع اسْتِبْرَاء الْحق بِهِ وَلَدهَا وَإِن ادّعى اسْتِبْرَاء حلفه وبريء من وَلَدهَا وَقَالَ الْعِرَاقِيُّون َ لَا تكون الْأمة فراشا بِالْوَطْءِ إِلَّا بِأَن يَدعِي سَيِّدهَا وَلَدهَا وَأما إِن نَفَاهُ فَلَا يلْحق بِهِ سَوَاء أقرّ بِوَطْئِهَا أَو لم يقر وَسَوَاء اسْتَبْرَأَ أَو لم يستبرى
    .........
    (11/175)
    وروى الْحَاكِم من حَدِيث الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يبْقى فِيهِ أحد إلاَّ أكل الرِّبَا، فَإِن لم يَأْكُلهُ أَصَابَهُ من غباره) . وَقَالَ: إِن صَحَّ سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة فَهَذَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا يكون لضعف الدّين وَعُمُوم الْفِتَن، وَقد قَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: (من بابت أكَّالاً من عمل الْحَلَال بَات وَالله عَنهُ راضٍ، وَأصْبح مغفورا لَهُ. وَطلب الْحَلَال فَرِيضَة على كل مُؤمن) . ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب والترهيب) من حَدِيث دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه عَن جده ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا مُخْتَصرا. وَقَالَ ابْن التِّين: أخبر بِهَذَا تحذيرا، لِأَن فتْنَة المَال شَدِيدَة. وَقد دعِي أَبُو هُرَيْرَة إِلَى طَعَام، فَلَمَّا أكل لم ير نِكَاحا وَلَا ختانا وَلَا مولودا،قَالَ: مَا هَذَا؟ قيل خفضوا جَارِيَة. فَقَالَ: هَذَا طَعَام مَا كُنَّا نعرفه، ثمَّ قاءه،قَالَ: يُقَال: أول مَا ينتن من الْإِنْسَان بَطْنه، وروى أبان بن أبي عَيَّاش (عَن أنس قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! إجعلني مستجاب الدعْوَة. قَالَ: يَا أنس أطب كسبك تستجاب دعوتك. فَإِن الرجل ليرْفَع إِلَى فِيهِ اللُّقْمَة من حرَام فَلَا تستجاب لَهُ دَعوته أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
    ........
    (11/175)
    مَا أخرجه عبد الرَّزَّاق من كَلَام ابْن عمر، أَنه كَانَ فِي السُّوق فأقيمت الصَّلَاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا الْمَسْجِد،فَقَالَ ابْن عمر: فيهم نزلت، فَذكر الْآيَة،وَقَالَ ابْن بطال: وَرَأَيْت فِي تَفْسِير الْآيَة،قَالَ: كَانُوا حدادين وخرازين، فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة أَو غرز الأشفى فَسمع الْأَذَان لم يخرج الأشفي من الغررة وَلم يُوقع المطرقة، وَرمى بهَا، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة. وَفِي الْآيَة نعت تجار الْأمة السالفة وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من مُرَاعَاة حُقُوق الله تَعَالَى والمحافظة عَلَيْهَا والتزام ذكر الله فِي حَال
    تجاراتهم وصبرهم على أَدَاء الْفَرَائِض وإقامتها، وخوفهم من سوء الْحساب وَالسُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة
    .............
    (11/176)
    وَاخْتلفُوا: هَل يسْتَحبّ تَقْدِيم السَّلَام ثمَّ الاسْتِئْذَان، أَو تَقْدِيم الاسْتِئْذَان ثمَّ السَّلَام؟ وَقد صَحَّ حديثان فِي تَقْدِيم السَّلَام،فَذهب جمَاعَة إِلَى قَوْله: السَّلَام عَلَيْكُم أَدخل،وَقيل: يقدم الاسْتِئْذَان.

    ...........
    (11/176)
    قالَ ابْن مَسْعُود: لَو أَن علم عمر وضع فِي كفة وَوضع علم أَحيَاء أهل الأَرْض فِي كفة لرجح علم عمر عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة على أَن طلب الدُّنْيَا يمْنَع من استفادة الْعلم، وَكلما ازْدَادَ الْمَرْء طلبا لَهَا ازْدَادَ جهلا، وَقل علما.
    ...........
    (11/178)
    قَول من زعم منع ركُوبه فِي أبان ركُوبه، وَهُوَ قَول يرْوى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلما كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر،فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف دود على عود، فَكتب إِلَيْهِ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن لَا يركبه أحد طول حَيَاته، فَلَمَّا كَانَ بعد عمر لم يزل يركب حَتَّى كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز، فَاتبع فِيهِ رَأْي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ منع عمر لشدَّة شفقته على الْمُسلمين، وَأما إِذا كَانَ أبان هيجانه وارتجاجه فالأمة مجمعة على أَنه لَا يجوز ركُوبه، لِأَنَّهُ تعرض للهلاك، وَقد نهى الله عباده عَن ذَلِك. بقوله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 591) . وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما} (النِّسَاء: 92) .
    والْفُلْكُ: السُّفُنُ، الوَاحِدُ والجَمْعُ سَوَاءٌ

    ...........
    (11/180)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان إسم لتِلْك الديار الَّتِي قصبتها برد سير وَقد غلب على برد سير حَتَّى كَانَت مقصد القوافل والملوك والعساكر. قلت: برد سير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال وَكسر السِّين المهملات وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان، بِفَتْح الْكَاف. وَقَالَ الْكرْمَانِي الشَّارِح بِكَسْرِهَا،قَالَ: هُوَ بلدنا وَأهل الْبَلَد أعلم باسم بلدهم من غَيرهم، وهم متفقون على كسرهَا،وساعد بَعضهم النَّوَوِيّ فَقَالَ: لَعَلَّ الصَّوَاب فِيهَا فِي الأَصْل الْفَتْح ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا بِالْكَسْرِ تغييرا من الْعَامَّة. قلت
    ضبط هَذَا بِالْوَجْهَيْنِ ، وَلَكِن الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب لِأَنَّهُ ادّعى اتِّفَاق أهل بَلَده على الْكسر، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ هَذَا مَحل المناقشة، وَلَا يبْنى على الْكسر وَلَا على الْفَتْح حكم.

    ..............
    (11/181)
    لْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخيرَات وبلوغ الْأَغْرَاض، فنال فِي قصر الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله. وَزعم عِيَاض أَن المُرَاد بذلك: بَقَاء ذكره الْجَمِيل بعد الْمَوْت على الْأَلْسِنَة، فَكَأَنَّهُ لم يمت،وَذكر الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ: أَن المُرَاد بذلك قلَّة الْمقَام فِي البرزخ.
    ........
    (11/185)
    الزِّرَاعَة وَالتِّجَارَة والصناعة، وأيها أطيب؟ فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب للنَّاس، وأشبهها مَذْهَب الشَّافِعِي أَن التِّجَارَة أطيب، وَالْأَشْبَه عِنْدِي أَن الزِّرَاعَة أطيب لِأَنَّهَا أقرب إِلَى التَّوَكُّل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَحَدِيث البُخَارِيّ صَرِيح فِي تَرْجِيح الزِّرَاعَة والصنعة لِكَوْنِهِمَا عمل يَده. لَكِن الزِّرَاعَة أفضلهما لعُمُوم النَّفْع بهَا للآدمي وَغَيره. وَعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهَا
    .......
    (11/189)
    وَقد اخْتلفُوا فِي حد الْمُوسر،فَقيل: من عِنْده مُؤْنَته وَمؤنَة من تلْزمهُ نَفَقَته. وَقَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق: من عِنْده خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب، فَهُوَ مُوسر. وَقَالَ الشَّافِعِي: قد يكون الشَّخْص بالدرهم غَنِيا يكسبه، وَقد يكون فَقِيرا بِالْألف مَعَ ضعفه فِي نَفسه وَكَثْرَة عِيَاله. وَقيل: الْمُوسر من يملك نِصَاب الزَّكَاة،وَقيل: من لَا يحل لَهُ الزَّكَاة. وَقيل: من يجد فَاضلا عَن ثَوْبه ومسكنه وخادمه وَدينه وقوت من يمونه، وَعند أَصْحَابنَا، على مَا ذكره صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) : الْغَنِيّ على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الأولى: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الزَّكَاة. الْمرتبَة الثَّانِيَة: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة وحرمان الزَّكَاة، وَهُوَ أَن يملك مَا يفضل عَن حَوَائِجه الْأَصْلِيَّة مَا يبلغ قيمَة مِائَتي دِرْهَم، مثل دور لَا يسكنهَا وحوانيت يؤجرها وَنَحْو ذَلِك. والمرتبة الثَّالِثَة: فِي الْغنى غنى حُرْمَة السُّؤَال،قيل: مَا قِيمَته خَمْسُونَ درهما. وَقَالَ عَامَّة الْعلمَاء: إِن من ملك قوت يَوْمه وَمَا يستر بِهِ عَوْرَته يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال، وَكَذَا الْفَقِير الْقوي المكتسب يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال.
    ........
    (11/200)
    وَعَن الثَّعْلَبِيّ: كتبوه فِي الْمُصحف بِالْوَاو، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ كتبه بِالْيَاءِ بِسَبَب كسرة أَوله، وغلطهم البصريون فِي ذَلِك،وَقَالَ الْفراء: إِنَّمَا كتبوه بِالْوَاو لِأَن أهل الْحجاز تعلمُوا الْخط من أهل الْحيرَة ولغتهم الربو بمضموم، وَصُورَة الْخط على لغتهم،وَزعم أَبُو الْحسن طَاهِر ابْن غليون أَن أَبَا السماك قَرَأَ: الربو، بِفَتْح الرَّاء وَضم الْبَاء وَيجْعَل مَعهَا واوا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَرَأَهُ أَبُو السماك وَأَبُو السوار بِكَسْر الرَّاء وَضم الْبَاء وواو سَاكِنة وَقِرَاءَة الْحسن بِالْمدِّ والهمزة وَقِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بالإمالة وَقِرَاءَة البَاقِينَ بالتفخيم وَفِي (شرح الْمُهَذّب) انت بِالْخِيَارِ وَفِي كتبه بِالْألف وَالْوَاو وَالْيَاء والرماء بِالْمدِّ وَالْمِيم
    بِالضَّمِّ، والربية بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف لُغَة فِيهِ،وَهُوَ فِي الشَّرْع: الزِّيَادَة على أصل المَال من غير عقد تبَايع،قَالَه ابْن الْأَثِير: وَقَالَ أَصْحَابنَا: الرِّبَا فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال كَمَا إِذا بَاعَ عشرَة دَرَاهِم بِأحد عشر درهما، فَإِن الدِّرْهَم، فِيهِ فضل، وَلَيْسَ فِي مُقَابِله شَيْء، وَهُوَ عين الرِّبَا،
    .........
    (11/203)
    وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : وَلَا يحل بيع كلب أصلا لَا كلب صيد وَلَا كلب مَاشِيَة وَلَا غَيرهمَا. فَإِن اضْطر إِلَيْهِ وَلم يجد من يُعْطِيهِ إِيَّاه فَلهُ ابتياعه، وَهُوَ حَلَال للْمُشْتَرِي حرَام للْبَائِع، ينتزع مِنْهُ الثّمن مَتى قدر عَلَيْهِ كالرشوة فِي دفع الظُّلم. وَفِدَاء الْأَسير ومصانعة الظَّالِم. ثمَّ قَالَ: وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد وَأبي سُلَيْمَان وَأبي ثَوْر وَغَيرهم انْتهى.
    وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن كنَانَة وَسَحْنُون من الْمَالِكِيَّة: الْكلاب الَّتِي ينْتَفع بهَا يجوز بيعهَا وتباح أثمانها. وَعَن أبي حنيفَة: أَن الْكَلْب الْعَقُور لَا يجوز بَيْعه وَلَا يُبَاح ثمنه، وَفِي (الْبَدَائِع) : وَأما بيع ذِي نَاب من السبَاع سوى الْخِنْزِير: كَالْكَلْبِ والفهد والأسد والنمر وَالذِّئْب والدب والهر وَنَحْوهَا، جَائِز عِنْد أَصْحَابنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز بيع الْكَلْب. ثمَّ عندنَا: لَا فرق بَين الْمعلم وَغَيره،وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: فَيجوز بَيْعه كَيفَ مَا كَانَ وَعَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور. وَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن النَّهْي الَّذِي فِي
    ...........
    (11/210)
    وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ عَن جمَاعَة فِي الْجَاهِلِيَّة أَنهم كَانُوا زنادقة، مِنْهُم الْعَاصِ بن وَائِل وَعقبَة بن أبي معيط والوليد بن الْمُغيرَة وَأبي بن خلف.
    .......

    (11/210)
    ن الْحداد لَا يضرّهُ مهنة صناعته إِذا كَانَ عدلا. قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة:
    (أَلا إِنَّمَا التَّقْوَى هُوَ الْعِزّ وَالْكَرم ... وحبك للدنيا هُوَ الذل والعدم)
    (وَلَيْسَ على حر تَقِيّ نقيصة ... إِذا أسس التَّقْوَى وَإِن حاك أَو حجم)

    ...........

    (11/211)
    وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : الدُّبَّاء من اليقطين ينقرش وَلَا ينْهض، كجنس الْبِطِّيخ والقثاء،وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس: كل ورقة اتسعت ورقت فَهِيَ يَقْطِين
    .......
    (11/212)
    وَقَالَ ابْن التِّين: وَلَيْسَ الهائم وَاحِد الهيم، فَانْظُر لم أَدخل البُخَارِيّ هَذَا فِي تبويبه؟وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن البُخَارِيّ لما رأى أَن الهيم من الْإِبِل كَالَّذي قَالَه النَّضر بن شُمَيْل، شبهها بِالرجلِ الهائم من الْعِشْق،فَقَالَ: الهائم الْمُخَالف للقصد فِي كل شَيْء، فَكَذَلِك الْإِبِل الهيم تخَالف الْقَصْد فِي قِيَامهَا وقعودها ودورها مَعَ الشَّمْس كالحرباء.
    ........
    (11/220)
    فِي (صَحِيح مُسلم) : عَن أبي سعيد،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمسك أطيب الطّيب) . وَفِي كتاب (الْأَشْرَاف) : روينَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد جيد أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيب بِهِ، وعَلى هَذَا جلّ الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم، وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَجَابِر بن زيد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق. وَخَالف فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَذكر ابْن أبي شيبَة، قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تحنطوني بِهِ، وَكَرِهَهُ. وَكَذَا عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَالْحسن وَمُجاهد وَالضَّحَّاك،وَقَالَ أَكْثَرهم: لَا يصلح للحي وَلَا للْمَيت، لِأَنَّهُ ميتَة، وَهُوَ عِنْدهم بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان. قَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ عَن عَطاء. قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عَطاء من طَرِيق جَيِّدَة أَنه سُئِلَ: أطيب الْمَيِّت بالمسك؟قَالَ: نعم، أوليس الَّذِي تخمرون بِهِ الْمسك؟ فَهُوَ خلاف مَا قَالَه ابْن الْمُنْذر عَنهُ،وَقَوْلهمْ: إِنَّه بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان، قِيَاس غير صَحِيح، لِأَن مَا قطع من الْحَيّ يجْرِي فِيهِ الدَّم، وَهَذَا لَيْسَ سَبِيل نافجة الْمسك لِأَنَّهَا تسْقط عِنْد الاحتكاك كسقوط الشعرة. وَقَالَ أَبُو الْفضل عِيَاض: وَقع الْإِجْمَاع على طَهَارَته وَجَوَاز اسْتِعْمَاله. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال بِالْإِجْمَاع بِحل اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَالنِّسَاء،وَيُقَال: انقرض الْخلاف الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَاسْتقر الْإِجْمَاع على طَهَارَته، وَجَوَاز بَيْعه. وَقَالَ الْمُهلب: أصل الْمسك التَّحْرِيم لِأَنَّهُ دم، فَلَمَّا تغير عَن الْحَالة الْمَكْرُوهَة من الدَّم، وَهِي الزهم، وفاح الرَّائِحَة، صَار حَلَالا بِطيب الرَّائِحَة، وانتقلت حَاله كَالْخمرِ تتخل فَتحل بعد أَن كَانَت حَرَامًا بانتقال الْحَال. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : نقل أَصْحَابنَا عَن الشِّيعَة فِيهِ مذهبا بَاطِلا،وَهُوَ مُسْتَثْنى من الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة: أَن مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت أَو يُقَال: هُوَ فِي معنى الْجَنِين وَالْبيض وَاللَّبن، وَذكر المَسْعُودِيّ فِي (مروج الذَّهَب) : أَنه تدفع مواد الدَّم إِلَى سرة الغزال، فَإِذا استحكم لون الدَّم فِيهَا ونضح آذاه ذَلِك وحكه. فَيفزع حِينَئِذٍ إِلَى أحد الصخور والأحجار الحارة من حر الشَّمْس، فيجت بهَا ملتذا بذلك، فينفجر حِينَئِذٍ وتسيل على تِلْكَ الْأَحْجَار كانفجار الْجراح والدمل، ويجد بِخُرُوجِهِ لَذَّة، فَإِذا فرغ مَا فِي نافجته اندمل حِينَئِذٍ ثمَّ اندفعت إِلَيْهِ مواد من الدَّم تَجْتَمِع ثَانِيَة، فَيخرج رجال نبت يقصدون تِلْكَ الْحِجَارَة وَالْجِبَال فيجدونه قد جف بعد إحكام الْموَاد ونضج الطبيعة وجففته الشَّمْس وَأثر فِيهِ الْهوى، فيودعونه فِي نوافج مَعَهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها، معدة مَعَهم، ولغزاله نابان صغيران محدودا الْأَعْلَى، مِنْهَا مدلًى على أَسْنَانه السُّفْلى، ويداه قصيرتان وَرجلَاهُ طويلتان، وَرُبمَا رَمَوْهَا بِالسِّهَامِ فيصرعونها ويقطعون عَنْهَا نوافجها وَالدَّم فِي سررها خام لم ينضج، وطري لم يدْرك، فَيكون لرائحته سهولة، فَيبقى زَمَانا حَتَّى تَزُول عَنهُ تِلْكَ الروائح السهلة الكريهة،
    .......
    (11/222)
    أَن أَبَا طيبَة حجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيطلق عَلَيْهِ أَنه حجام
    . وَأَبُو طيبَة، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة،قيل: إسمه دِينَار. وَقيل: نَافِع،وَقيل: ميسرَة. وَقَالَ ابْن الْحذاء: عَاشَ مائَة وَثَلَاثًا وَأَرْبَعين سنة. وَهُوَ مولى محيصة،بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالصاد الْمُهْملَة: ابْن مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَأَهله هم بَنو بياضة.
    ..........
    (11/223)
    جعل البُخَارِيّ هَذِه التَّرْجَمَة فيمَ يكره لبسه للرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شفقها خمرًا بَين الفواطم، وَكَانَ على زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حلَّة سيراء،فَإِنَّمَا الْمَعْنى: من لَا خلاق لَهُ من الرِّجَال، فَأَما النِّسَاء فَلَا. فَإِن أَرَادَ شِرَاء مَا فِيهِ تصاوير فَحَدِيث عمر لَا يدْخل فِي هَذِه التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: بل يدْخل،لِأَن التَّرْجَمَة لَهَا جزآن: أَحدهمَا: قَوْله للرِّجَال،وَالْآخر: قَوْله للنِّسَاء، فَحَدِيث عمر يدْخل فِي الْجُزْء الأول، وَحَدِيث عَائِشَة يدْخل فِي الْجُزْء الثَّانِي إِن كَانَ اللّبْس على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ. وَإِن جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى: الِاسْتِعْمَال، كَمَا ذَكرْنَاهُ، يدْخل فِي الجزأين جَمِيعًا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع تعسف فِيهِ الشُّرَّاح، وَهَذَا الَّذِي ذكرته فتح لي من الْأَنْوَار الإل هية والفيوض الربانية
    ..........
    (11/224)
    فِي (الصِّحَاح) : النمرقة وسَادَة صَغِيرَة، وَرُبمَا سموا الطنفسة الَّتِي تَحت الرحل نمرقة.
    وَقَالَ عِيَاض وَغَيره: هِيَ وسَادَة،
    .........
    (11/224)
    أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ صُورَة، وَقد مر عَن قريب أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة غير الْحفظَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما الْمَلَائِكَة الَّذين لَا يدْخلُونَ بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة فهم مَلَائِكَة يطوفون بِالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَا ر. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة مِمَّا يحرم اقتناؤه من الْكلاب والصور، فَأَما مَا لَيْسَ بِحرَام من كلب الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية وَالصُّورَة الَّتِي تمتهن فِي الْبسَاط والوسادة وَغَيرهمَا فَلَا يمْنَع دُخُول الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ، وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى نَحْو مَا قَالَ الْخطابِيّ، وَالْأَظْهَر أَنه عَام فِي كل كلب وكل صُورَة، وَأَنَّهُمْ يمْنَعُونَ من الْجَمِيع لإِطْلَاق الْأَحَادِيث. قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ أَيْضا: وَلِأَن الْجَرّ وَالَّذِي كَانَت فِي بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت
    السرير كَانَ لَهُ فِيهِ عذر ظَاهر، فَإِنَّهُ لم يعلم بِهِ، وَمَعَ هَذَا امْتنع جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، من دُخُول الْبَيْت، وَعلل بالجرو، فَلَو كَانَ الْعذر فِي وجود الصُّورَة وَالْكَلب لَا يمنعهُم، لم يمْتَنع جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. انْتهى
    ........
    (11/230)
    قَالَ ابْن بطال: وَكَانَت السّنة تدل على أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر، فَأَما فِي الزَّمن الَّذِي فعل ابْن عمر ذَلِك، فَكَانَ التَّفَرُّق بالأبدان متروكا، فَلذَلِك فعله ابْن عمر، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيد الإتباع، وَاعْترض بَعضهم على هَذَا بقوله،وَقد وَقع فِي رِوَايَة أَيُّوب بن سُوَيْد: كُنَّا إِذا تبايعنا كَانَ كل وَاحِد منا بِالْخِيَارِ مَا لم يتفرق الْمُتَبَايعَان ِ، فتبايعت أَنا وَعُثْمَان، فساق الْقِصَّة،قَالَ: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك. انْتهى. قلت: القَوْل فِيهِ مثل مَا قَالَ ابْن بطال فِي حَدِيث الْبَاب،وَقَوله: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك، غير مسلَّم، لِأَن هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان. على أَنا نقُول: ذكر ابْن رشد فِي (الْمُقدمَات) لَهُ: أَن عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: لَيست السّنة بافتراق الْأَبدَان، قد انتسخ ذَلِك،وَقد اعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: هَذِه الزِّيَادَة لم أر لَهَا إِسْنَادًا. قلت: لَا يلْزم من عدم رُؤْيَته إِسْنَاده عدم رُؤْيَة قَائِله أَو غَيره، فَهَذَا لَا يشفي العليل وَلَا يرْوى الغليل. قَ
    .....
    (11/233)
    وَقَالَ البغداديون من أَصْحَابه: للمغبون الْخِيَار بِشَرْط أَن يبلغ الْغبن ثلث
    الْقيمَة وَإِن كَانَ دونه فَلَا، هَكَذَا حَده أَبُو بكر وَابْن أبي مُوسَى من الْحَنَابِلَة،وَقيل: السُّدس،وَعَن دَاوُد: العقد بَاطِل،وَعَن مَالك: إِن كَانَا عارفين بِتِلْكَ السّلْعَة وسعرها وَقت البيع لم يفْسخ البيع، كثيرا كَانَ الْغبن أَو قَلِيلا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا غير عَارِف بذلك فسخ البيع ألاَّ أَن يُرِيد أَن يمضيه، وَلم يحد مَالك حدا، وَأثبت هَؤُلَاءِ خِيَار الْغبن بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور
    .........
    (11/236)
    وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بِذكر الْأَسْوَاق إِبَاحَة المتاجر وَدخُول الْأَسْوَاق للأشراف والفضلاء. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم،وَصَححهُ من حَدِيث جُبَير بن مطعم: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: أحب الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْمَسَاجِد، وَأبْغض الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْأَسْوَاق) . وَأخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، نَحوه. قلت: هَذَا لم يثبت على شَرطه من أَنَّهَا شَرّ الْبِقَاع، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى هَذَا، وَلَكِن لَا يعلم إلاَّ من الْخَارِج. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا أخرج على الْغَالِب، وَالْأَقْرَب سوق يذكر الله فِيهَا أَكثر من كثير من الْمَسَاجِد.
    .........
    (11/238)
    وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ فِي زمن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة قد كَانُوا متسمين بِمُحَمد مكتنين بِأبي الْقَاسِم،مِنْهُم: مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث،وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة قلت: مُحَمَّد بن طَلْحَة هُوَ مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله، وَذكره ابْن الْأَثِير فِي الصَّحَابَة،وَقَالَ: حمله أَبوهُ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمسح رَأسه وَسَماهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَ يكنى أَبَا الْقَاسِم، وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا يلقب بالسجاد لِكَثْرَة صلَاته وَشدَّة اجْتِهَاده فِي الْعِبَادَة، قتل يَوْم الْجمل مَعَ أَبِيه سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ هَوَاهُ مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ أَنه أطَاع أَبَاهُ،فَلَمَّا رَآهُ عَليّ قَالَ: هَذَا السَّجَّاد قَتله بر أَبِيه. وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث بن قيس الْكِنْدِيّ قيل: إِنَّه ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ أَبُو نعيم: لَا تصح لَهُ صُحْبَة، وروى عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة بن عتبَة ابْن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي العبشمي، كنيته أَبُو الْقَاسِم، ولد بِأَرْض الْحَبَشَة على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خَال مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَلما قتل أَبوهُ أَبُو حُذَيْفَة أَخذه عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وكفله إِلَى أَن كبر، ثمَّ سَار إِلَى مصر فَصَارَ من أَشد النَّاس على عُثْمَان،وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ أحد من دخل على عُثْمَان حِين حوصر فَقتل، وَلما استولى مُعَاوِيَة على مصر أَخذه وحبسه فهرب من السجْن، فظفر بِهِ رشد بن مولى مُعَاوِيَة فَقتله. قلت: وَمن جملَة من تسمى بِمُحَمد وتكنى بِأبي الْقَاسِم من أَبنَاء وُجُوه الصَّحَابَة: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي طَالب، وَمُحَمّد بن سعيد بن أبي وَقاص، وَمُحَمّد بن حَاطِب، وَمُحَمّد بن الْمُنْتَشِر ذكرهم الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه)
    ........
    (11/240)
    قَالَ الْأَصْمَعِي: الكلع العيس الَّذِي لَا يتَّجه لنظر وَلَا لغيره، مَأْخُوذ من الملاكيع، وَهُوَ الَّذِي يخرج مَعَ السلا من الْبَطن. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: القَوْل قَول الْأَصْمَعِي،أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْحسنِ وَهُوَ صَغِير: أَيْن لكع؟ أَرَادَ أَنه لصغره لَا يتَّجه لمنطق وَلَا مَا يصلحه، وَلم يرد أَنه لئيم وَلَا عبد، وَعلم مِنْهُ أَن اللَّئِيم يُسمى لكعا أَيْضا، وَكَذَلِكَ العَبْد يُسمى بِهِ. وَفِي (التَّلْوِيح) الْأَشْبَه والأجود أَن يحمل الحَدِيث على مَا قَالَه بِلَال بن جرير الخطفي، وَسُئِلَ عَن اللكع؟فَقَالَ: فِي لغتنا هُوَ الصَّغِير. قَالَ الْهَرَوِيّ: وَإِلَى هَذَا ذهب الْحسن،إِذا قَالَ الْإِنْسَان: لَا يكع،يُرِيد: يَا صَغِير وَيُقَال للْمَرْأَة: لكيعة ولكعاء ولكاع وملكعانة، ذكره فِي (الموعب) . وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَا يُقَال ملكعانة إلاَّ فِي النداء، وَعَن ابْن يزِيد، اللكع الغلو، وَالْأُنْثَى لكعة. وَفِي (الْمُحكم) : اللكع الْمهْر. وَفِي (الْجَامِع) : أصل اللكع من اللكع وَلَكِن قلب.
    .........
    (11/241)
    وَأما معانقة الرجل للرجل فاستحبها سُفْيَان وكرهها مَالك،قَالَ: هِيَ بِدعَة، وتناظر مَالك وسُفْيَان فِي ذَلِك فاحتج سُفْيَان بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بِجَعْفَر،قَالَ مَالك: هُوَ خَاص لَهُ،فَقَالَ: مَا يَخُصُّهُ بِغَيْر ذَلِك؟ فَسكت مَالك. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الْخلاف فِي المعانقة فِي إِزَار وَاحِد، وَأما إِذا كَانَ على المعانق قَمِيص أَو جُبَّة لَا بَأْس بِاتِّفَاق أَصْحَابنَا، وَهُوَ الصَّحِيح. وَفِيه: جَوَاز التَّقْبِيل، قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث فِي (شرح الْجَامِع الصَّغِير) الْقبْلَة على خَمْسَة أوجه: قبْلَة تَحِيَّة، وقبلة شَفَقَة، وقبلة رَحْمَة. وقبلة شَهْوَة، وقبلة مَوَدَّة. فَأَما قبْلَة التَّحِيَّة فكالمؤمنَيْن يقبل بعضهما بَعْضًا على الْيَد، وقبلة الشَّفَقَة قبْلَة الْوَلَد لوالده أَو لوالدته، وقبلة الرَّحْمَة قبْلَة الْوَالِد لوَلَده والوالدة لولدها على الخد، وقبلة الشَّهْوَة قبْلَة الزَّوْج لزوجته على الْفَم، وقبلة الْمَوَدَّة قبْلَة الْأَخ وَالْأُخْت على الخد،وَزَاد بَعضهم من أَصْحَابنَا: قبْلَة ديانَة، وَهِي الْقبْلَة على الْحجر الْأسود، وَقد وَردت أَحَادِيث وآثار كَثِيرَة فِي جَوَاز التَّقْبِيل، وَلَكِن مَحل ذَلِك إِذا كَانَ على وَجه المبرة وَالْإِكْرَام، وَأما إِذا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة فَلَا يجوز إلاَّ فِي حق الزَّوْجَيْنِ، وَأما المصافحة فَلَا بَأْس بهَا بِلَا خلاف لِأَنَّهَا سنة قديمَة، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (إِن الْمُؤمن إِذا لَقِي الْمُؤمن فَسلم عَلَيْهِ وَأخذ بِيَدِهِ فصافحه تناثرت خطاياهما كَمَا يَتَنَاثَر ورق الشّجر) .
    ...........
    (11/248)
    هل الْمَدِينَة اصْطَلحُوا على لفظ: الصَّاع وَالْمدّ،كَمَا أَن أهل الْعرَاق اصْطَلحُوا على لفظ: المكوك. قَالَ عِيَاض: المكوك مكيال أهل الْعرَاق يسع صَاعا وَنصف صَاع بالمدني،وكما أَن أهل مصر اصْطَلحُوا على: الْقدح، وَالرّبع والويبة، وَإِذا ذكر الصَّاع وَالْمدّ يتَبَادَر أذهان النَّاس غَالِبا إِلَى أَنَّهُمَا لأجل الْمَدِينَة.
    ......
    (11/262)
    اخْتلف الْعلمَاء هَل الْمُدبر يُبَاع أم لَا؟ فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة إِلَى أَنه لَيْسَ للسَّيِّد أَن يَبِيع مدبره، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَمُجاهد وَالْحسن وطاووس، وَكَرِهَهُ ابْن عمر وَزيد بن ثَابت، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَاللَّيْث بن سعد، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ لَا يُبَاع إلاَّ من رجل يُرِيد عتقه، وَجوز أَحْمد بَيْعه بِشَرْط أَن يكون على السَّيِّد دين، وَعَن مَالك يجوز بَيْعه عِنْد الْمَوْت، وَلَا يجوز فِي حَال الْحَيَاة، وَكَذَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَحكى مَالك إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة على بيع الْمُدبر أَو هِبته.
    وَعند أَئِمَّتنَا الْحَنَفِيَّة: الْمُدبر على نَوْعَيْنِ: مُدبر مُطلق: نَحْو مَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا مت فَأَنت حر أَو أَنْت حر يَوْم أَمُوت. أَو أَنْت حر عَن دبر مني، أَو أَنْت مُدبر، أَو دبرتك،فَحكم هَذَا أَنه: لَا يُبَاع وَلَا يُوهب ويستخدم ويؤجر وتوطؤ الْمُدبرَة وَتنْكح، وبموت الْمولى يعْتق الْمُدبر من ثلث مَاله،وَيسْعَى فِي ثُلثَيْهِ أَي: ثُلثي قِيمَته إِن كَانَ الْمولى فَقِيرا، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، وَيسْعَى فِي كل قِيمَته لَو كَانَ مديونا بدين مُسْتَغْرق جَمِيع مَاله
    ........
    (11/170)
    (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا لَا سمراء) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا،ثمَّ قَالَ: معنى من طَعَام: لَا سمراء، لَا بر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا التَّمْر،لقَوْله: لَا سمراء قلت: لَا يعلم أَن المُرَاد من الطَّعَام هَهُنَا التَّمْر،
    قَوْله: (لَا سمراء) نفي لقمح مَخْصُوص، وَهِي الْحِنْطَة الشامية،وَقد روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: أَن المُرَاد بالسمراء الْحِنْطَة الشامية، وَهِي كَانَت أغْلى ثمنا من الْبر الْحِجَازِي فَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر برد الصَّاع من الْبر الْحِجَازِي لِأَن الْبر الشَّامي لكَونه أغْلى ثمنا قصد التَّخْفِيف عَلَيْهِم،وَجَاء فِي الحَدِيث أَيْضا: أَن الطَّعَام غير التَّمْر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة نَحْو حَدِيث الْبَاب،وَفِيه: وَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين التَّمْر وَالطَّعَام، وَأَن الطَّعَام غير التَّمْر.
    وَقَالَ بَعضهم: قد أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث جُمْهُور أهل الْعلم، وَأفْتى بِهِ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين وَمن بعدهمْ من لَا يُحْصى عدده، وَلم يفرقُوا بَين أَن يكون اللَّبن الَّذِي احتلب قَلِيلا أَو كثيرا، وَلَا بَين أَن يكون تمر تِلْكَ الْبَلَد أم لَا. انْتهى.
    قلت: أَبُو حنيفَة غير مُنْفَرد بترك الْعَمَل بِحَدِيث الْمُصراة، بل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَابْن أبي ليلى وَمَالك فِي رِوَايَة مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التصرية،وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أشهد على الصَّادِق المصدوق أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بيع المحفلات خلابة وَلَا تحل الخلابة لمُسلم) . انْتهى. قلت: وَالْكل مجمعون على أَن التصرية حرَام وغش وخداع، وَلأَجل كَون بيعهَا صَحِيحا مَعَ كَونهَا حَرَامًا
    .......
    (11/278)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِي العَبْد إِذا زنى: هَل الزِّنَا عيب فِيهِ يجب رده بِهِ أم لَا؟فَقَالَ مَالك: هُوَ عيب فِي العَبْد وَالْأمة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر،وَقَول الشَّافِعِي: كل مَا ينقص من الثّمن فَهُوَ عيب. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: هُوَ عيب فِي الْجَارِيَة دون الْغُلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ هَل يجلدها السَّيِّد أم لَا؟فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: نعم،وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُقيم الْجلد أَو الْحَد إلاَّ الإِمَام، بِخِلَاف التَّعْزِير،وَاحْتج بِحَدِيث: أَربع إِلَى الْوَالِي ... فَذكر مِنْهَا الْحُدُود
    ...........
    (11/280)
    قد أَكثر النَّاس فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة من الإمعان فِي بَيَانه على اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَاخْتِلَاف رُوَاته، وَقد ألف مُحَمَّد بن جرير فِيهِ كتابا، وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا.

    .............
    (11/283)
    وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ إِبْرَاهِيم: وَالْعرب تطلق البيع على الشِّرَاء،ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا صَحِيح على مَذْهَب من جوز اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه،أللهم إلاَّ أَن يُقَال: البيع وَالشِّرَاء ضدان فَلَا يَصح إرادتهما مَعًا. فَإِن قلت: فَمَا تَوْجِيهه؟قلت: وَجهه أَن يحمل على عُمُوم الْمجَاز. انْتهى. قلت: قَول إِبْرَاهِيم: الْعَرَب تطلق البيع على الشِّرَاء، لَيْسَ مُبينًا أَنه مُشْتَرك، وَاسْتعْمل فِي معنييه، بل هما من الأضداد، كَمَا مر.
    وكَرِهَهُ ابنُ سِيرينَ وإبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ ولِلْمُشْتَرِي
    أَي: كره مُحَمَّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ شِرَاء الْحَاضِر للبادي كَمَا يكرهان بَيْعه لَهُ
    ........
    (11/282)
    قَالَ ابْن حزم: وَهُوَ حرَام سَوَاء خرج للتلقي أم لَا، بَعُدَ مَوضِع تلقيه أم قَرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع، والجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره تلقي السّلع بِالشِّرَاءِ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِي ّ،فَذهب مَالك إِلَى أَنه: لَا يجوز تلقي السّلع حَتَّى تصل إِلَى السُّوق، وَمن تلقاها فاشتراها مِنْهُم يشْتَرك فِيهَا أهل السُّوق، إِن شَاءُوا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُم. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَإِن لم يكن للسلعة سوق عرضت على النَّاس فِي الْمصر فيشتركون فِيهَا إِن أَحبُّوا، فَإِن أخذوها وإلاَّ ردوهَا عَلَيْهِ، وَلَا يرد على بَائِعهَا،وَقَالَ غَيره: يفْسخ البيع فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: من تلقاها فقد أَسَاءَ، وَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا قدم بِهِ السُّوق فِي إِنْفَاذ البيع أوردهُ، لأَنهم يتلقونهم فَيُخْبِرُونَهُ مْ بكساد السّلع وَكَثْرَتهَا. وهم أهل غرَّة ومكر وخديعة، وحجته حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِذا أَتَى سَيّده السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَذهب مَالك أَن نَهْيه عَن التلقي إِنَّمَا يُرِيد بِهِ نفع أهل السُّوق لَا نفع رب السّلْعَة، وعَلى ذَلِك يدل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالْأَوْزَاعِي ّ،وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَسْتَفِيد الْأَغْنِيَاء وَأَصْحَاب الْأَمْوَال بِالشِّرَاءِ دون أهل الضعْف، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الضَّرَر بهم فِي مَعَايشهمْ،وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ مَالك: إِنَّه يشْتَرك مَعَهم إِذا تلقوا السّلع، وَلَا ينْفَرد بهَا الْأَغْنِيَاء
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجَاز أَبُو حنيفَة التلقي وَكَرِهَهُ الْجُمْهُور. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة كَمَا ذكره على الْإِطْلَاق، وَلَكِن على التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَالْعجب من ابْن الْمُنْذر وَأَمْثَاله كَيفَ ينقلون عَن أبي حنيفَة شَيْئا لم يقل بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِك مِنْهُم من أريحية العصبية على مَا لَا يخفى.
    ....
    (11/287)
    الْمَنْع من بيع الْحَاضِر للبادي سَببه الرِّفْق لأهل الْبَلَد، وَاحْتمل فِيهِ غبن البادي، وَالْمَنْع من التلقي أَن لَا يغبن البادي؟فَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع ينظر فِي مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَى مصلحَة النَّاس، والمصلحة تَقْتَضِي أَن ينظر للْجَمَاعَة على الْوَاحِد لَا للْوَاحِد على الْوَاحِد، فَلَمَّا كَانَ البادي إِذا بَاعَ بِنَفسِهِ انْتفع جَمِيع أهل السُّوق واشتروا رخيصا فَانْتَفع بِهِ جَمِيع سكان الْبَلَد نظر الشَّرْع لأهل الْبَلَد على البادي، وَلما كَانَ فِي التلقي إِنَّمَا ينفع المتلقي خَاصَّة، وَهُوَ وَاحِد فِي قبالة وَاحِد، لم يكن فِي إِبَاحَة التلقي مصلحَة،لَا سِيمَا وينضاف إِلَى ذَلِك عِلّة ثَانِيَة: وَهُوَ لُحُوق الضَّرَر بِأَهْل السُّوق فِي انْفِرَاد المتلقي عَنْهُم بالرخص وَقطع الْمَوَارِد عَنْهُم، وهم أَكثر من المتلقي، فَنظر الشَّرْع لَهُم عَلَيْهِ، فَلَا تنَاقض فِي الْمَسْأَلَتَيْ نِ، بل هما متفقان فِي الْحِكْمَة والمصلحة.
    ..........
    (11/289)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ،رَحمَه الله: هَذَا حَدِيث عَظِيم كثير الْأَحْكَام وَالْقَوَاعِد،وَفِيه مَوَاضِع تشعبت فِيهَا الْمذَاهب:
    أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت مُكَاتبَة وباعها الموَالِي واشترتها عَائِشَة، وَأقر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيعهَا،فَاحْتَجت بِهِ طَائِفَة من الْعلمَاء أَنه: يجوز بيع الْمكَاتب، وَمِمَّنْ جوزه عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد،وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَمَالك فِي رِوَايَة عَنهُ: لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام، وَأجَاب من أبطل بَيْعه عَن حَدِيث بَرِيرَة أَنَّهَا عجزت نَفسهَا وفسخوا الْكِتَابَة.
    الْموضع الثَّانِي: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشْتَرَيْتهَا. .) إِلَى آخِره، مُشكل من حَدِيث الشِّرَاء وَشرط الْوَلَاء لَهُم وإفساد البيع بِهَذَا الشَّرْط، ومخادعة البائعين وَشرط مَا لَا يَصح لَهُم، وَلَا يحصل لَهُم. وَكَيْفِيَّة الْإِذْن لعَائِشَة؟ وَلِهَذَا الْإِشْكَال أنكر بعض الْعلمَاء هَذَا الحَدِيث بجملته، وَهَذَا مَنْقُول عَن يحيى بن أَكْثَم، وَالْجُمْهُور على صِحَّته، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله. فَقيل: اشترطي لَهُم الْوَلَاء،أَي: عَلَيْهِم،كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} (الرَّعْد: 52) . أَي: وَعَلَيْهِم، نقل هَذَا عَن الشَّافِعِي والمزني،وَقيل: معنى اشترطي: أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء. وَقيل: المُرَاد الزّجر والتوبيخ لَهُم لأَنهم لما ألحُّوا فِي اشْتِرَاطه وَمُخَالفَة الْأَمر قَالَ لعَائِشَة هَذَا،بِمَعْنى: لَا تبالي سَوَاء شرطته أم لَا، فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل مَرْدُود. وَقيل: هَذَا الشَّرْط خَاص فِي قصَّة عَائِشَة، وَهِي قَضِيَّة عين لَا عُمُوم لَهَا. .
    الثَّالِث: أَن الْوَلَاء لمن أعتق، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على ثُبُوت الْوَلَاء لمن أعتق عَبده أَو أمته عَن نَفسه، وَأَن يَرث بِهِ، وَأما الْعَتِيق فَلَا يَرث سَيّده عِنْد الجماهير،وَقَالَ جمَاعَة من التَّابِعين: يَرِثهُ كَعَكْسِهِ.
    الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير بَرِيرَة فِي فسخ نِكَاحهَا، وأجمعت الْأمة على أَنه إِذا اعتقت كلهَا تَحت زَوجهَا، وَهُوَ عبد، كَانَ لَهَا خِيَار فِي فسخ النِّكَاح، فَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَهَا الْخِيَار.
    الْخَامِس: أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شَرط) إِلَى آخِره، صَرِيح فِي إبِْطَال كل شَرط لَيْسَ لَهُ أصل فِي كتاب الله تَعَالَى، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن من شَرط فِي البيع شرطا لَا يحل أَنه لَا يجوز، عملا بِهَذَا الحَدِيث. وَاخْتلفُوا فِي غَيرهَا من الشُّرُوط على مَذَاهِب مُخْتَلفَة: فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل على نَص حَدِيث بَرِيرَة، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَابْن جرير وَأَبُو ثَوْر. وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى جوازهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بَيْعه جمله واستثنائه حمله إِلَى الْمَدِينَة،
    وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع وَشرط. وَهُوَ قَول عمر وَولده وَابْن مَسْعُود والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَقد يجوز عِنْد مَالك البيع وَالشّرط، مثل أَن يشْتَرط البَائِع مَا لم يدْخل فِي صَفْقَة البيع،مثل: أَن يَشْتَرِي زرعا وَيشْتَرط على البَائِع حصده، أَو دَارا وَيشْتَرط سكناهَا مُدَّة يسيرَة، أَو يشْتَرط ركُوب الدَّابَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ، وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا يجيزان هَذَا البيع كُله،وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَالشّرط: شِرَاء العَبْد بِشَرْط عتقه إتباعا للسّنة فِي بَرِيرَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الرّبيع، وَأَجَازَ ابْن أبي ليلى هَذَا البيع وأبطل الشَّرْط، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وأبطل أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط وَأخذ بِعُمُوم نَهْيه عَن بيع وَشرط،وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَإِبْطَال الشَّرْط: كَشِرَاء العَبْد على أَن يكون الْوَلَاء للْبَائِع، وَهَذَا البيع أَجمعت الْأمة على جَوَازه وَإِبْطَال الشَّرْط فِيهِ لمُخَالفَته السّنة، وَكَذَلِكَ من بَاعَ سلْعَة وَشرط أَن لَا ينْقد المُشْتَرِي الثّمن إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام وَنَحْوهَا فَالْبيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل عِنْد مَالك، وَأَجَازَ ابْن الْمَاجشون البيع وَالشّرط، وَمِمَّنْ أجَاز هَذَا البيع الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق، وَلم يفرقُوا بَين ثَلَاثَة أَيَّام وَأكْثر مِنْهَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن قَالَ إِلَى أَرْبَعَة أَيَّام بَطل البيع، لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز عِنْده، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر.

    ......
    (11/288)
    وَمِمَّا حُكيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد قَالَ: قدمت مَكَّة فَوجدت بهَا أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة، فَسَأَلت أَبَا حنيفَة،فَقلت: مَا تَقول فِي رجل بَاعَ بيعا وَشرط شرطا؟فَقَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَسَأَلته،فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة،فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز. فَقلت: سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا على مَسْأَلَة وَاحِدَة. فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته،فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نهى عَن بيع وَشرط) ، البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة،قَالَت: (أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة فأعتقيها، البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل) . ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته،فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا،حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله (قَالَ: بِعْت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة، فَاشْترط لي حملانها إِلَى الْمَدِينَة، البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز) .
    .......
    (11/296)
    وروى الْحَاكِم من طَرِيق حبَان الْعَدوي،بِالْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: سَأَلت أَبَا مجلز عَن الصّرْف،فَقَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس لَا يرى بِهِ بَأْسا زَمَانا من عمره، مَا كَانَ مِنْهُ عينا بِعَين يدا بيد،وَكَانَ يَقُول: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة، فَلَقِيَهُ أَبُو سعيد بِالشَّعِيرِ، فَذكر الْقِصَّة، والْحَدِيث،وَفِيه: التَّمْر بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَة بِالْحِنْطَةِ وَالشعِير بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ يدا بيد مثلا بِمثل، فَمن زَاد فَهُوَ رَبًّا،فَقَالَ ابْن عَبَّاس: اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ. فَكَانَ ينْهَى عَنهُ أَشد النَّهْي.
    وَاتفقَ الْعلمَاء على صِحَة حَدِيث أُسَامَة وَاخْتلفُوا فِي الْجمع ببينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد،فَقيل: مَنْسُوخ،وَقيل: معنى لَا رَبًّا لَا رَبًّا أغْلظ شَدِيد التَّحْرِيم المتوعد عَلَيْهِ بالعقاب الشَّديد،كَمَا تَقول الْعَرَب: لَا عَالم فِي الْبَلَد إلاَّ زيد، مَعَ أَن فِيهَا عُلَمَاء غَيره، وَإِنَّمَا الْقَصْد نفي الْأَكْمَل، لَا نفي الأَصْل، وَأَيْضًا فنفي تَحْرِيم رَبًّا الْفضل من حَدِيث أُسَامَة إِنَّمَا هُوَ بِالْمَفْهُومِ، فَيقدم عَلَيْهِ حَدِيث أبي سعيد، لِأَن دلَالَته بالمنطوق، وَيحمل حَدِيث أُسَامَة على الرِّبَا الْأَكْبَر. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى حَدِيث أُسَامَة: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، إِذا اخْتلف أَنْوَاع الْمَبِيع، وَالْفضل فِيهِ يدا بيد رَبًّا، جمعا بَينه وَبَين حَدِيث أبي سعيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التلفيق بَين حَدِيث أُسَامَة وَحَدِيث أبي سعيد؟قلت: الْحصْر إِنَّمَا يخْتَلف بِحَسب اخْتِلَاف اعْتِقَاد السَّامع، فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد الرِّبَا فِي غير الْجِنْس حَالا،فَقيل: ردا لاعْتِقَاده لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة،أَي: فِيهِ مُطلقًا، وَقد أَوله الْعلمَاء بِأَنَّهُ مَحْمُول على غير الربويات، وَهُوَ كَبيع الدّين بِالدّينِ مُؤَجّلا، بِأَن يكون لَهُ ثوب مَوْصُوف فيبيعه بِعَبْد مَوْصُوف مُؤَجّلا، وَإِن بَاعه بِهِ حَالا يجوز أَو مَحْمُول على الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة فَإِنَّهُ لَا رَبًّا فِيهَا من حَيْثُ التَّفَاضُل، بل يجوز مُتَفَاضلا يدا بيد، وَهُوَ مُجمل.
    .......
    (11/303)
    الَ ابْن قدامَة فِي الْمُغنِي الْعَرَايَا لَا تجوز إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَبِهَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَوْله الآخر تجوز فِي الْخَمْسَة وَرَوَاهُ الْجوزجَاني عَن إِسْمَاعِيل بن سعيد عَن أَحْمد واتفقا على أَنَّهَا لَا تجوز فِي الزِّيَادَة على خَمْسَة أوسق وَقَالَ أَيْضا إِنَّمَا يجوز بيعهَا بِخرْصِهَا من التَّمْر لَا أقل مِنْهُ وَلَا أَكثر وَيجب أَن يكون التَّمْر الَّذِي يَشْتَرِي بِهِ مَعْلُوما بِالْكَيْلِ وَلَا يجوز جزَافا وَلَا نعلم فِي هَذَا عِنْد من أَبَاحَ بيع الْعَرَايَا اخْتِلَافا وَاخْتلف فِي معنى خرصها من التَّمْر فَقيل مَعْنَاهُ أَن يطِيف الخارص بالعرية فَينْظر كم يَجِيء مِنْهَا تَمرا فيشتريها بِمثلِهِ من التَّمْر وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَنقل حَنْبَل عَن أَحْمد أَنه قَالَ بِخرْصِهَا رطبا وَيُعْطِي تَمرا وَلَا يجوز أَن يَشْتَرِيهَا بِخرْصِهَا رطبا وَهُوَ أحد
    الْوُجُوه لأَصْحَاب الشَّافِعِي وَالثَّانِي يجوز وَالثَّالِث يجوز مَعَ اخْتِلَاف النَّوْع وَلَا يجوز مَعَ اتفاقه وَلَا يجوز بيعهَا إِلَّا لمحتاج إِلَى أكلهَا رطبا وَلَا يجوز بيعهَا لَغَنِيّ وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِ
    ...........
    (11/307)
    (قَالَ مُوسَى بن عقبَة والعرايا نخلات مَعْلُومَات تأتيها فتشتريها) هَذَا تَفْسِيره للعرايا قَالَ الْكرْمَانِي كَيفَ صَحَّ كَلَامه تَفْسِيرا للعرايا وَهُوَ صَادِق على كل مَا يُبَاع فِي الدُّنْيَا من النخلات بِأَيّ غَرَض كَانَ قلت غَرَضه بَيَان أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِذا أتيت وترددت إِلَيْهِ لَا من العرى بِمَعْنى التجرد انْتهى قلت وَتَبعهُ بَعضهم بل أَخذ مِنْهُ بقوله لَعَلَّه أَرَادَ أَن يبين أَنَّهَا مُشْتَقَّة من عروت إِلَى آخِره نَحْو مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت هَذَا تَوْجِيه بعيد جدا فَأَي شَيْء من كَلَامه هَذَا يُوضح أَن غَرَضه بَيَان الِاشْتِقَاق وَيُمكن أَن يُقَال أَنه اخْتَصَرَهُ للْعلم بِهِ
    ............
    قال العيني رحمه الله (11/307)
    (كمل الْجُزْء الْحَادِي عشر من عُمْدَة الْقَارِي شرح صَحِيح الإِمَام البُخَارِيّ قدس الله سره وَهُوَ أول العقد الثَّانِي ويتلوه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الثَّانِي عشر ومطلعه (بَاب بيع الثِّمَار) نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق لإتمامه على هَذَا الْوَجْه الْحسن وَمَا ذَلِك على الله بعزيز انتهى.)
    الحمد لله على تمام الاختصار


  12. #252
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    البوم : الثلاثاء الموافق : 10/ ربيع الأول /1442 هجري الموافق :27/ أكتوبر /2020 ميلادي تابع / كتاب البيوع من " عمدة القاري " للعيني رحمه الله الجزء الثاني عشر باب " ثمار "(12/4)وَقد روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: إِذا طلع النَّجْم صباحا رفعت العاهة عَن كل بلد، وَفِي رِوَايَة أبي حنيفَة عَن عَطاء: رفعت العاهة من الثِّمَار والنجم هُوَ الثريا، وطلوعها صباحا يَقع فِي أول فصل الصَّيف، وَذَلِكَ عِنْد اشتداد الْحر فِي بِلَاد الْحجاز وَابْتِدَاء نضج الثِّمَار، وَالْمُعْتَبر فِي الْحَقِيقَة النضج وطلوع النَّجْم عَلامَة لَهُ، وَقد بَينه فِي الحَدِيث بقوله: ويتبين الْأَصْفَر من الْأَحْمَر.......... .(12/5)وَاخْتلف السّلف فِي قَوْله: (حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) هَل المُرَاد مِنْهُ جنس الثِّمَار؟ حَتَّى لَو بدا الصّلاح فِي بُسْتَان من الْبَلَد مثلا جَازَ بيع ثَمَرَة جَمِيع الْبَسَاتِين، وَإِن لم يبد الصّلاح فِيهَا أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل بُسْتَان على حِدة؟ أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل جنس على حِدة؟ أَو فِي كل شَجَرَة على حِدة؟ على أَقْوَال. وَالْأول: قَول اللَّيْث، وَهُوَ عِنْد الْمَالِكِيَّة بِشَرْط أَن يكون الصّلاح متلاحقا. وَالثَّانِي: قَول أَحْمد، وَعنهُ فِي رِوَايَة كالرابع، وَالثَّالِث: قَول الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا كُله غير مُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة.... ........(12/10)قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف بَين أهل الْعلم فِي أَن مَا دخل فِي الْجِنْس الْوَاحِد من جنس التَّفَاضُل وَالزِّيَادَة لم تجز فِيهِ الزِّيَادَة، لَا فِي كيل وَلَا فِي وزن، وَالْوَزْن والكيل فِي ذَلِك سَوَاء عِنْدهم إِلَّا أَن كَانَ أَصله الْكل لَا يُبَاع إِلَّا كَيْلا وَمَا كَانَ أَصله الْوَزْن لَا يُبَاع إلاَّ وزنا، وَمَا كَانَ أَصله الْكَيْل فَبيع وزنا فَهُوَ عِنْدهم مماثلة، وَإِن كَرهُوا ذَلِك. وَمَا كَانَ مَوْزُونا فَلَا يجوز أَن يُبَاع كَيْلا عِنْد جَمِيعهم، لِأَن الْمُمَاثلَة لَا تدْرك بِالْكَيْلِ إلاَّ فِيمَا كَانَ كَيْلا لَا وزنا اتبَاعا للسّنة، وَأَجْمعُوا أَن الذَّهَب وَالْوَرق والنحاس وَمَا أشبهه لَا يجوز يَبِيع شىء كُله كَيْلا لكيل يُوَجه من الْوُجُوه وَالتَّمْر كُله على اخْتِلَاف انواعه جنس وَاحِد لَا يجوز فِيهِ التَّفَاضُل فِي البيع والمعاوضة، وَكَذَلِكَ الْبر وَالزَّبِيب، وكل طَعَام مَكِيل، هَذَا حكم الطَّعَام المقتات عِنْد مَالك. وَعند الشَّافِعِي: الطَّعَام كُله مقتات أَو غير مقتات، وَعند الْكُوفِيّين: الطَّعَام الْمكيل وَالْمَوْزُون دون غَيره، وَقد احْتج بِحَدِيث الْبَاب من أجَاز بيع الطَّعَام من رجل نَقْدا ويبتاع مِنْهُ طَعَاما قبل الِافْتِرَاق وَبعده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص فِيهِ بَائِع الطَّعَام وَلَا مبتاعه من غَيره، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر، وَلَا يجوز هَذَا عِنْد مَالك. وَقَالَ ابْن بطال: وَزعم قوم أَن بيع الْعَامِل الصاعين بالصاع كَانَ قبل نزُول آيَة الرِّبَا، وَقبل إخبارهم بِتَحْرِيم التَّفَاضُل بذلك، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ بفسخه. قَالَ: وَهَذِه غَفلَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي غَنَائِم خَيْبَر للسعدين: أريتما فَردا، وَفتح خَيْبَر مقدم على مَا كَانَ بعد ذَلِك مِمَّا وَقع فِي ثَمَرهَا وَجَمِيع أمرهَا وَقد احْتج بعض الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْعينَة لَيست حَرَامًا،......(12/20)اخْتلف من يَقُول بِالشُّفْعَة للْجَار، فَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَا شُفْعَة إلاَّ للْجَار الملازق، وَقَالَ الْحسن بن حَيّ: للْجَار مُطلقًا بعد الشَّرِيك، وَقَالَ آخَرُونَ: الْجَار الَّذِي تجب لَهُ الشُّفْعَة أَرْبَعُونَ دَارا حول الدَّار. وَقَالَ آخَرُونَ: من كل جَانب من جَوَانِب الدَّار أَرْبَعُونَ دَارا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كل من صلى مَعَه صَلَاة الصُّبْح فِي الْمَسْجِد، وَقَالَ بَعضهم: أهل الْمَدِينَة كلهم جيران، وَحجَّة أَصْحَابنَا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَحَادِيث رويت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، فَقَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد البرنسي، قَالَ: حَدثنَا عَليّ ابْن صَالح الْقطَّان وَأحمد بن حبَان، قَالَا: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس، قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا فِي (مُسْنده) . فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلَا يعرف حَدِيث قَتَادَة عَن أنس إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس..........(12/22)أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حجر، قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن علية عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سِتَّة طرق صِحَاح أَحدهَا مُرْسل. فَإِن قلت: الْحسن لم يسمع من سَمُرَة إلاَّ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا؟ قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنَّه سمع مِنْهُ عدَّة أَحَادِيث، وَقَالَ الْحَاكِم فِي أثْنَاء كتاب الْبيُوع من (الْمُسْتَدْرك) : قد احْتج البُخَارِيّ بالْحسنِ عَن سَمُرَة، وَذَلِكَ بعد أَن روى حَدِيثا من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة حَدثنَا أَبُو أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الحكم عَمَّن سمع عليا وَعبد الله بن مَسْعُود يَقُولَانِ: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالجوار.........(12/23)إعلم أَن لفظ: اللَّهُمَّ، يسْتَعْمل فِي كَلَام الْعَرَب على ثَلَاثَة أنحاء: أَحدهَا: للنداء الْمَحْض وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بنذرة الْمُسْتَثْنى كَقَوْلِك بعد كَلَام: أللهم، إلاَّ إِذا كَانَ كَذَا. وَالثَّالِث: ليدل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب المقترن هُوَ بِهِ، كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم أللهم نعم أَو أللهم لَا، كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى مستشهدا على مَا قَالَ من الْجَواب. وأللهم هَذَا هُنَا من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (إِنِّي كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كبيران) . قَوْله: أَبَوَانِ، من بَاب التغليب لِأَن الْمَقْصُود الْأَب وَالأُم، وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّه كَانَ لي والدان شَيْخَانِ كبيران ولي صبية صغَار وَكنت أرعى عَلَيْهِم، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب: وَكنت أخرج فأرعى، يَعْنِي: كنت أخرج إِلَى المرعى فأرعى........(12/25)وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل على صِحَة قَول ابْن الْقَاسِم: إِذا أودع رجل رجلا طَعَاما فَبَاعَهُ الْمُودع بِثمن: فَرضِي الْمُودع بِهِ، فَلهُ الْخِيَار إِن شَاءَ أَخذ الثّمن الَّذِي بَاعه بِهِ، وَإِن شَاءَ أَخذ مثل طَعَامه، وَمنع أَشهب. قَالَ: لِأَنَّهُ طَعَام بِطَعَام فِيهِخيار ..........قَالَ الْخطابِيّ: اسْتدلَّ بِهِ أَحْمد على أَن الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر فِي مَال الْوَدِيعَة وَربح أَن الرِّبْح إِنَّمَا يكون لرب المَال، قَالَ: وَهَذَا لَا يدل على مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَن صَاحب الْفرق إِنَّمَا تبرع بِفِعْلِهِ وتقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل، وَقد قَالَ: إِنَّه اشْترى بقرًا وَهُوَ تصرف مِنْهُ فِي أَمر لم يُوكله بِهِ، فَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ ربحا، وَالْأَشْبَه بِمَعْنَاهُ أَنه قد تصدق بِهَذَا المَال على الْأَجِير بعد أَن أتجر فِيهِ، وأنماه، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء فِي الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر بِمَال الْوَدِيعَة وَالْمُضَارب إِذا خَالف رب المَال فربحا أَنه لَيْسَ لصَاحب المَال من الرِّبْح شَيْء، وَعند أبي حنيفَة: الْمضَارب ضَامِن لرأس المَال وَالرِّبْح لَهُ وَيتَصَدَّق بِهِ، والوضيعة عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ اشْترى السّلْعَة بِعَين المَال فَالْبيع بَاطِل، وَإِن كَانَ بِغَيْر عينه فالسلعة ملك المُشْتَرِي وَهُوَ ضَامِن لِلْمَالِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما من أتجر فِي مَال غَيره؟ فَقَالَت طَائِفَة: يطيب لَهُ الرِّبْح إِذا رد رَأس المَال إِلَى صَاحبه، سَوَاء كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو كَانَ وَدِيعَة عِنْده مُتَعَدِّيا فِيهِ، هَذَا قَول عَطاء وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ تنزهه عَنهُ، وَيتَصَدَّق بِهِ. وَقَالَت طَائِفَة: يرد المَال وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله، وَلَا يطيب لَهُ مِنْهُ شَيْء، هَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر. وَقَالَت طَائِفَة: الرِّبْح لرب المَال وَهُوَ ضَامِن لما تعدى فِيهِ، هَذَا قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ ابْن بطال: وإصح هَذِه الْأَقْوَال قَول من قَالَ: إِن الرِّبْح للْغَاصِب والمتعدي وَالله أعلم........(12/26)قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعياض بن حمَار حِين أهْدى لَهُ فِي شركه: إِنَّا لَا نقبل زبد الْمُشْركين، يُرِيد عطاهم. قلت: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يشبه أَن يكون ذَلِك مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قبل هَدْيه غير وَاحِد من أهل الشّرك، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس وأكيدر دومة. قَالَ: إلاَّ أَن يزْعم زاعم أَن بَين هَدَايَا أهل الشّرك وهدايا أهل الْكتاب فرقا. انْتهى.قلت: فِيهِ نظر فِي مَوَاضِع.الأول: أَن الزَّعْم بِالْفرقِ الْمَذْكُور يردهُ قَول عبد الرَّحْمَن فِي نفس هَذَا الحَدِيث: إِن هَذَا الرجل كَانَ مُشْركًا، وَقد قَالَ لَهُ: أبيع أم هَدِيَّة؟الثَّا نِي: هَدِيَّة أكيدر كَانَت قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَاوِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن إِسْلَامه كَانَ فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة، وَذَلِكَ فِي سنة سبع، وهدنة أكيدر كَانَت بعد وَفَاة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي قَالَ فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما عجب النَّاس من هَدِيَّة أكيدر: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لمناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة أحسن من هَذِه، وَسعد توفّي بعد غَزْوَة بني قُرَيْظَة سنة أَربع فِي قَول عقبَة، وَعند إِبْنِ إِسْحَاق: سنة خمس، وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن، وبَعْثُ حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُقَوْقس كَانَ فِي سنة سِتّ، ذكره ابْن مَنْدَه وَغَيره، فَدلَّ على أَنه قبل هَذَا الحَدِيث.الثَّا ِث: لقَائِل أَن يَقُول: هَذَانِ اللَّذَان قبل مِنْهُمَا هديتهما لَيْسَ سوقة، إِنَّمَا هما ملكان. فَقبل هديتهما تألفا، لِأَن فِي رد هديتهما نوع حُصُول شَيْء.الرَّابِع: نقُول: كَانَ قبُول هديتهم بإثابته عَلَيْهِمَا، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَذَا الْمُشرك أَيْضا كَانَ تأنيسا لَهُ، وَلِأَن يثيبه بِأَكْثَرَ مِمَّا أهْدى، وَكَذَا يُقَال فِي هَدِيَّة كسْرَى الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْحَرْبِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ورد هَدِيَّة عِيَاض بن حمَار وَكَانَ بَينه وَبَين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، معرفَة قبل الْبعْثَة، فَلَمَّا بعث أهْدى لَهُ فَرد هديته، وَكَذَا رد هَدِيَّة ذِي الجوشن، وَكَانَت فرسا، وَكَذَا رد هَدِيَّة ملاعب الأسنة، لأَنهم كَانُوا سوقة وَلَيْسوا ملوكا، وَأهْدى لَهُ ملك أَيْلَة بغلة، وفروة الجذامي هَدِيَّة فقبلهما وَكَانَا ملكَيْنِ، وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا مَا ذكره أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) : أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قبل هَدِيَّة أبي سُفْيَان بن حَرْب لِأَنَّهَا كَانَت فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وَكَذَا هَدِيَّة الْمُقَوْقس إِنَّمَا كَانَ قبلهَا لِأَنَّهُ أكْرم حَاطِبًا وَأقر بنبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يؤيسه من إِسْلَامه، وَقبُول هَدِيَّة الأكيدر لِأَن خَالِدا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قدم بِهِ فحقن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه وَصَالَحَهُ على الْجِزْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ خلى سَبيله، وَكَذَا ملك أَيْلَة لما أهْدى كَسَاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بردا لَهُ، وَهَذَا كُله يرجع إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يقبل هَدِيَّة إلاَّ ويكافىء.ثمَّ إعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيمَا يهدى للأئمة، فَروِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُوجب رده إِلَى بَيت المَال، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مَا أهْدى إِلَيْهِ أهل الْحَرْب فَهُوَ لَهُ دون بَيت المَال، وَأما مَا يهدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فَهُوَ فِي ذَلِك بِخِلَاف النَّاس، لِأَن الله تَعَالَى اختصه فِي أَمْوَال أهل الْحَرْب بِخَاصَّة لم تكن لغيره، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} (الْحَشْر: 6) . بعد قَوْله: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} (الْحَشْر: 6) . فسبيل مَا تصل إِلَيْهِ يَده من أَمْوَالهم على جِهَة الْهَدِيَّة وَالصُّلْح سَبِيل الْفَيْء يَضَعهُ حَيْثُ أرَاهُ الله، فَأَما الْمُسلمُونَ إِذا أهدوا إِلَيْهِ فَكَانَ من سجيته أَن لَا يردهَا بل يثيبهم عَلَيْهَا.........(12/28)وسلمان هُوَ الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقصته طَوِيلَة على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره، وملخصها: أَنه هرب من أَبِيه لطلب الْحق وَكَانَ مجوسيا، فلحق براهب ثمَّ براهب ثمَّ بآخر، وَكَانَ يصحبهم إِلَى وفاتهم حَتَّى دله الْأَخير إِلَى الْحجاز وَأخْبرهُ بِظُهُور رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقصده مَعَ بعض الْأَعْرَاب فغدروا بِهِ وباعوه فِي وَادي الْقرى ليهودي، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيّ آخر من بني قُرَيْظَة، فَقدم بِهِ الْمَدِينَة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأى عَلَامَات النُّبُوَّة أسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب عَن نَفسك، عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، وَقيل: مِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بالمداين........(12/29)وَرُوِيَ عَن ابْن سعد أَنه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي وَأَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بن مَسْعُود، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن حَمْزَة بن صُهَيْب عَن أَبِيه، قَالَ: إِنِّي رجل من الْعَرَب من النمر بن قاسط، وَلَكِنِّي سبيت، سبتني الرّوم غُلَاما صَغِيرا بعد أَن عقلت أَهلِي وقومي وَعرفت نسبي، وَعَن ابْن سعد: كَانَ أَبَاهُ من النمر بن قاسط، وَكَانَ عَاملا لكسرى: فسبت الرّوم صهيبا لما غزت أهل فَارس فابتاعه مِنْهُم عبد الله بن جدعَان، وَقيل: هرب من الرّوم إِلَى مَكَّة فحالف ابْن جدعَان، فَهَذَا يُنَاسب التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ. وَأما بِلَال فَإِن ابْن إِسْحَاق ذكر فِي (الْمَغَازِي) : حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: مر أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأمية بن خلف وَهُوَ يعذب بِلَالًا، فَقَالَ: أَلا تتقي الله فِي هَذَا الْمِسْكِين؟ فَقَالَ: انقذه أَنْت بِمَا ترى. فَأعْطَاهُ أَبُو بكر غُلَاما أجلد مِنْهُ، وَأخذ بِلَالًا، فَأعْتقهُ. وَقيل غير ذَلِك، فحاصل الْكَلَام أَنه أَيْضا يُنَاسب التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، أما الشِّرَاء فَإِن أَبَا بكر قايض مَوْلَاهُ، والمقايضة نوع من الْبيُوع، وَأما كَونه اشْترى من الْحَرْبِيّ لِأَن مَكَّة فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَت دَار الْحَرْب وَأَهْلهَا من أهل الْحَرْب، وَأما عمار فَإِنَّهُ كَانَ عَرَبيا عنسيا، بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة، مَا وَقع عَلَيْهِ سباء، وَإِنَّمَا سكن أَبوهُ يَاسر، مَكَّة وحالف بني مَخْزُوم فَزَوجُوهُ سميَّة.......(12/30)وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (كتاب التيجان) : إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خرج من مَدين إِلَى مصر، وَكَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبمصر ملكهَا عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن نابليون من سبأ..........(12/31)وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا الحَدِيث إِشْكَال مَا زَالَ يختلج فِي صَدْرِي، وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى توريته، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن الزَّوْجَة بالأخت، وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّة ِ كَانَ أسلم لَهَا، لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي قَالَ: زوجنيها. وَإِذا قَالَ امْرَأَتي سكت هَذَا إِن كَانَ الْملك يعْمل بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره فَمَا يُبَالِي إِذا كَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا إِلَى أَن وَقع لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَانَ الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يستعصم من الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ، فَإِذا هُوَ جَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دينه. قَالَ: وَاعْترض على هَذَا بِأَن الَّذِي جَاءَ على مَذْهَب الْمَجُوس زرادشت، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن هَذَا الزَّمن، فَالْجَوَاب أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما ادَّعَاهُ زرادشت وَزَاد عَلَيْهِ خرافات، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات جَائِزا فِي زمن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَيُقَال: كَانَت حرمته على لِسَان مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: وَيدل على أَن دين الْمَجُوس لَهُ أصل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَمَعْلُوم أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إلاَّ مِمَّن لَهُ كتاب أَو شُبْهَة كتاب، ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَن من لَهُ زَوْجَة لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج إلاَّ أَن يهْلك زَوجهَا، فَلَمَّا علم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا قَالَ: هِيَ أختى، كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ الْملك عادلاً، فَخَطَبَهَا مني أمكنني دَفعه، وَإِن كَانَ ظَالِما تخلصت من الْقَتْل، وَقيل: إِن النُّفُوس تأبى أَن يتَزَوَّج الْإِنْسَان بِامْرَأَة وَزوجهَا مَوْجُود، فَعدل، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن قَوْله: زَوْجَتي، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَتله أَو طرده عَنْهَا، أَو تَكْلِيفه لفراقها. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: إِن من سيرة هَذَا الْجَبَّار أَنه لَا يغلب الْأَخ على أُخْته وَلَا يَظْلمه فِيهَا، وَكَانَ يغلب الزَّوْج على زَوجته. وَالله أعلم............(12/42)وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وكل من لقِيت من أهل الْعلم على أَن من بَاعَ حرا لَا قطع عَلَيْهِ ويعاقب، ويروى عَن ابْن عَبَّاس: يرد البيع ويعاقبان، وروى حلاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: تقطع يَده، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بسارق، وَلَا يجوز قطع غير السَّارِق، وَذكر ابْن حزم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة: أَن رجلا بَاعَ نَفسه فَقضى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَنَّهُ عبد كَمَا أقرّ، وَجعل ثمنه فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (إِذا أقرّ على نَفسه بالعبودية فَهُوَ عبد) ، وروى سعيد بن مَنْصُوروَرُوِي َ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاعَ حرا أفلس) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث حجاج عَن ابْن جريج، فَقَالَ: عَن أبي سعيد أَو سعد على الشَّك، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي عَن سرق: أَنه اشْترى من أَعْرَابِي بَعِيرَيْنِ فباعهما، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَعْرَابِي! إذهب فبعه حَتَّى تستوفي حَقك، فاعتقه الْأَعرَابِي. وَرَوَاهُ ابْن سعد عَن أبي الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ سَنَد صَحِيح، وَضَعفه عبد الْحق بِأَن قَالَ: مُسلم وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم ضعيفان، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن مُسلما وَثَّقَهُ غير وَاحِد، وَصحح حَدِيثه، وَعبد الرَّحْمَن لَا مدْخل لَهُ فِي هَذَا لَا جرم........(12/45)وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَأحمد: لَا يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، اخْتلفت أجناسها أَو لم تخْتَلف، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الْحسن عَن سَمُرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، ثمَّ روى حَدِيث سَمُرَة هَذَا وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَسَمَاع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح، هَكَذَا قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيره، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأهل الْكُوفَة، وَبِه يَقُول أَحْمد.وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب: عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: حَدِيث ابْن عمر أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْعِلَل: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الْمقدمِي عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) ، وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن حَفْص بن غياث وَأبي خَالِد عَن حجاج عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا بَأْس بِالْحَيَوَانِ وَاحِد بِاثْنَيْنِ يدا بيد وَكَرِهَهُ نَسِيئَة) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل: حَدثنَا سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد هُوَ الأحمري عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) .فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد تَخْرِيجه حَدِيث سَمُرَة: أَكثر الْحفاظ لَا يثبتون سَماع الْحسن من سَمُرَة فِي غير حَدِيث الْعَقِيقَة؟ قلت: قَول الحافظين الكبيرين الحجتين: التِّرْمِذِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ، كافٍ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّهُمَا مثبتان، وَالْبَيْهَقِيّ ينْقل النَّفْي فَلَا يُفِيد شَيْئا. فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عمر قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّمَا يرْوى عَن زِيَاد بن جُبَير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلممرسلا........(1 2/48)وَصفِيَّة بنت حييّ ابْن أَخطب بن سفنة بن ثَعْلَبَة النضيرية أم الْمُؤمنِينَ من بَنَات هَارُون بن عمرَان أخي مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سموأل سباها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام خَيْبَر فِي شهر رَمَضَان سنة سبع من الْهِجْرَة، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وروى لَهَا عشرَة أَحَادِيث، اتفقَا على حَدِيث وَاحِد، مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين، قَالَه الْوَاقِدِيّ. ودحية، بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا: ابْن خَليفَة بن فَرْوَة الْكَلْبِيّ رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَيْصر،..........(12/52)وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله مَالك. قيل: وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقيل: يستبرىء اسْتِحْبَابا، وَعَن ابْن سِيرِين فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة الْعَذْرَاء، قَالَ لَا يقربن رَحمهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَعَن الْحسن: يَسْتَبْرِئهَا وَإِن كَانَت بكرا، وَكَذَا قَالَه عِكْرِمَة، وَقَالَ عَطاء فِي رجل اشْترى جَارِيَة من أَبَوَيْهَا عذراء، وَقَالَ: يَسْتَبْرِئهَا بحيضتين. وَمذهب جمَاعَة مِنْهُم: ابْن الْقَاسِم وَسَالم وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف: لَا اسْتِبْرَاء إلاَّ على الْبَالِغَة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لَا يرى اسْتِبْرَاء الْعَذْرَاء وَإِن كَانَت بَالِغَة، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَقَالَ إِيَاس بن مُعَاوِيَة فِي رجل اشْترى جَارِيَة صَغِيرَة، لَا يُجَامع مثلهَا، قَالَ: لَا بَأْس أَن يَطَأهَا وَلَا يَسْتَبْرِئهَا، وَكره قَتَادَة تقبيلها حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَقَالَ أَيُّوب اللَّخْمِيّ، وَقعت فِي سهم ابْن عمر جَارِيَة يَوْم جَلُولَاء، فَمَا ملك نَفسه حَتَّى قبلهَا. قَالَ ابْن بطال: ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.وَقَا َ عَطاءٌ لاَ بأسَ أنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الحامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ الله تَعَالَى: {إلاَّ عَلى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ.....( 12/55)(خَيْبَر) ، كَانَت غَزْوَة خَيْبَر سنة سِتّ، وَقيل: سبع. قَوْله: (الْحصن) ، اسْمه القموص وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سبى صَفِيَّة وَابْنَة عَم لَهَا من هَذَا الْحصن. قَوْله: (صَفِيَّة) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الصَّحِيح: أَن هَذَا كَانَ اسْمهَا قبل السَّبي، وَقيل: كَانَ اسْمهَا: زَيْنَب، فسميت صَفِيَّة بعد السَّبي. قَوْله: (بنت حييّ) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَتَشْديد الثَّانِيَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: المحدثون يَقُولُونَهُ بِكَسْر الْحَاء، وَأهل اللُّغَة بضَمهَا. قَوْله: (ابْن أَخطب) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (وَقد قتل زَوجهَا) ، وَهُوَ كنَانَة بن أبي الْحقيق وَكَانَ زَوجهَا أَو لأسلام بن مشْكم، وَكَانَ خمارا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ خلف عَلَيْهَا كنَانَة، وَكَانَت صَفِيَّة رَأَتْ فِي الْمَنَام قمرا أقبل من يثرب وَوَقع فِي حجرها، فقصت على زَوجهَا، فلطم وَجههَا وَقَالَ: أَنْت تزعمين أَن ملك يثرب يتزوجك، وَفِي لفظ: تحبين أَن يكون هَذَا الْملك الَّذِي يَأْتِي من الْمَدِينَة زَوجك، وَفِي لفظ: رَأَيْت كَأَنِّي وَهَذَا الَّذِي يزْعم أَن الله أرْسلهُ وَملك يسترنا بجناحه، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى بوجهها أثر خضرَة قَرِيبا من عينهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَت: يَا رَسُول الله رَأَيْت فِي الْمَنَام ... فَذكرت مَا مضى إِلَى آخِره،.......الْعَ ُوس: نعت يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، وَعَن الْخَلِيل: رجل عروس وَامْرَأَة عروس وَنسَاء عرائس. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال للرجل عروس كَمَا يُقَال للْمَرْأَة، وَهُوَ اسْم لَهَا عِنْد دُخُول أَحدهمَا بِالْآخرِ، وَيُقَال: أعرس الرجل فَهُوَ معرس إِذا دخل بامرأته عِنْد بنائها...........(12/55) وَأجْمع الْفُقَهَاء على أَن حَيْضَة وَاحِدَة بَرَاءَة فِي الرَّحِم إلاَّ أَن مَالِكًا وَاللَّيْث قَالَا: إِن اشْتَرَاهَا فِي أول حَيْضهَا اعْتد بهَا، وَإِن كَانَت فِي آخرهَا لم يعْتد بهَا، وَقَالَ ابْن الْمسيب:حيضتان، وَقَالَ ابْن سِيرِين: ثَلَاث حيض، وَاخْتلف إِذا أَمن فِيهَا الْحمل؟ فَقَالَ مَالك: يستبرىء، وَقَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون: لَا.وَاخْتلفُوا فِي قبْلَة الْجَارِيَة ومباشرتها قبل الِاسْتِبْرَاء، فَأجَاز ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَوَجهه قطعا للذريعة وحفظا للأنساب. وَحجَّة المجيزين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِض حَتَّى تطهر) .........(12/56)قَالَ الْجَوْهَرِي: (هوالوثن. وَقَالَ غَيره: الوثن مَا لَهُ جثة والصنم مَا كَانَ مصورا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّنَم مَا اتخذ إِلَهًا من دون الله، وَقيل: الصَّنَم مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، فَإِن لم يكن لَهُ جسم أَو صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي: بَاب الْوَاو بعْدهَا الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْفرق بَين الصَّنَم والوثن أَن الوثن: كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب فيعبد، والصنم: الصُّورَة بِلَا جثة. وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن على غير الصُّورَة، وَقد يُطلق الوثن على الصَّلِيب. وَالْميتَة، بِفَتْح الْمِيم: هِيَ الَّتِي تَمُوت حتف أنفها من غير ذَكَاة، شَرْعِيَّة، وَالْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْميتَة، وَاسْتثنى مِنْهَا السّمك وَالْجَرَاد.......( 12/54)قد اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بِالْكِتَابَةِ، فَذهب إِلَى صِحَّتهَا أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَمَنْصُور وَاللَّيْث بن سعد وَآخَرُونَ، وَاحْتج بهَا الشَّيْخَانِ، وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ أَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ، إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة، وَتكلم فِيهَا بَعضهم وَلم يرهَا حجَّة، لِأَن الخطوط تشتبه، وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي)....(12/58)وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الكاهن الَّذِي يتعاطى الْخَبَر عَن الكائنات فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان، ويدَّعي معرفَة الْأَسْرَار، وَقد كَانَ فِي الْعَرَب كهنة: كشق وسطيح وَغَيرهمَا، فَمنهمْ من كَانَ يزْعم أَن لَهُ تَابعا من الْجِنّ ورئيا يلقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُم من كَانَ يزْعم أَنه يعرف الْأُمُور بمقدمات أَسبَاب يسْتَدلّ بهَا على مواقعها من كَلَام من يسْأَله أَو فعله أَو حَاله، وَهَذَا يخصونه باسم العراف، كَالَّذي يدعى معرفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالة وَنَحْوهمَا........ .(12/59)وروى عَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور، كَمَا روى عَن أبي حنيفَة فِيهِ، ثمَّ على أصلهم يجب قِيمَته على قَاتله، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان ابْن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا، وَبِمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش.وَقَالَ المخالفون لَهُم: أثر عُثْمَان مُنْقَطع وَضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ خطب فَأمر بقتل الْكلاب. قَالَ الشَّافِعِي: فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله قِيمَته؟ وَأثر عبد الله بن عَمْرو لَهُ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا مُنْقَطع، وَالْآخر فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا يُتَابع عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ، وَقد روى عبد الله بن عَمْرو النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب، فَلَو ثَبت عَنهُ الْقَضَاء بِقِيمَتِه لكَانَتْ الْعبْرَة بروايته لَا بِقَضَائِهِ على الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّين َ. انْتهى..........(12/60)اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز بيع الهر، فَذهب قوم إِلَى جَوَاز بَيْعه وَحل ثمنه، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن ابْن عَبَّاس أَنه رخص فِي بَيْعه. قَالَ وكرهت طَائِفَة بَيْعه، روينَا ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُجاهد، وَبِه قَالَ جَابر بن زيد، وَأجَاب الْقَائِلُونَ بِجَوَاز بَيْعه عَن الحَدِيث بأجوبه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث ضَعِيف وَهُوَ مَرْدُود. وَالثَّانِي: حمل الحَدِيث على الهر إِذا توحش فَلم يقدر على تَسْلِيمه، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) عَن بعض أهل الْعلم. وَالثَّالِث: مَا حَكَاهُ البييهقي عَن بَعضهم أَنه: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثمَّ لما حكم بِطَهَارَة سؤره حل ثمنه. وَالرَّابِع: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم، وَلَفظ مُسلم: زجر، يشْعر بتَخْفِيف النَّهْي، فَلَيْسَ على التَّحْرِيم بل على التَّنْزِيه، وَعكس ابْن حزم هَذَا، فَقَالَ: الزّجر أَشد النَّهْي وَفِي كل مِنْهُمَا نظر لَا يخفى. وَالْخَامِس: مَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه يُعَارضهُ مَا روى أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس عَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَبَاحَ ثمن الهر، ثمَّ رده بِكَلَام طَوِيل. وَالسَّادِس: مَا حَكَاهُ أَيْضا ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه: لما صَحَّ الْإِجْمَاع على وجوب الهر وَالْكَلب الْمُبَاح اتِّخَاذه فِي الْمِيرَاث وَالْوَصِيَّة وَالْملك جَازَ بيعيهما، ثمَّ رده أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجَوَاب الْمُعْتَمد أَنه مَحْمُول على مَا لَا نفع فِيهِ، أَو: على أَنه نهي تَنْزِيه حَتَّى يعْتَاد النَّاس هِبته وإعارته.............(12/70)امر بن شرَاحِيل الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير، قَالَ مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن الفداني عَن الشّعبِيّ: إِنَّه قَالَ: أدْركْت خَمْسمِائَة من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُونَ: عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فِي الْجنَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ،.... (12/76)قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهَذَا الحَدِيث دَال على أَن اسْم الْجَار يَقع على غير الملاصق، لِأَنَّهُ قد يكون لَهُ جَار ملاصق وبابه من سكَّة غير سكته، وَله جَار بَينه وَبَين بَابه قدر ذراعين وَلَيْسَ بملاصق، وَهُوَ أدناهما بَابا. وَقد خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث، فَقَالَ: إِن الْجَار الملاصق إِذا ترك الشُّفْعَة وطلبها الَّذِي يَلِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حد وَلَا طَرِيق فَلَا شُفْعَة لَهُ، وعوام الْعلمَاء يَقُولُونَ: إِذا أوصى رجل لجيرانه أعْطى اللزيق وَغَيره إلاَّ أَبَا حنيفَة، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعْطى إلاَّ اللزيق وَحده. انْتهىلت: الَّذِي قَالَ: خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث، خرج عَن ظَاهر الْأَدَب، وَلَا ينْقل عَن إِمَام مثل أبي حنيفَة شَيْء مِمَّا قَالَه إلاَّ بمراعاة الْأَدَب، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ شَيْئا من بعده لَا يُسَاوِي مِقْدَاره وَلَا يدانيه لَا فِي الدّين وَلَا فِي الْعلم، وَأَبُو حنيفَة لَا يذهب إِلَى شَيْء إلاَّ بعد أَن يُحَقّق مدركه والسر فِيهِ، وَالْأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل، وَلَا يدْرِي هَذَا إلاَّ من يقف على مداركها، والسر فِي وجوب الشُّفْعَة دفع الْأَذَى من الْخَارِج، وَلِهَذَا قدم الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع، ثمَّ من بعده الشَّرِيك فِي حق الْمَبِيع، ثمَّ من بعدهمَا للْجَار، وَلَا يحصل الضَّرَر فِي منع الشُّفْعَة إلاَّ للْجَار الملاصق لاتصال الجدران، وَوضع الأخشاب بَينه وَبَين صَاحب الْملك، وَلَا مُنَاسبَة بَين الْجَار الَّذِي لَهُ الشُّفْعَة وَبَين الْجَار الَّذِي أوصى إِلَيْهِ بشء، لِأَن أَمر الشُّفْعَة مَبْنِيّ على الْقَهْر، بِخِلَاف الْوَصِيَّة........ ..(12/77)قَالَ الله تَعَالَى: {إِن خير من اسْتَأْجَرت. .} (الْقَصَص: 62) . الْآيَة. وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي (تَفْسِيره) : هَذَا قَول صفوراء ابْنة شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الَّتِي تزَوجهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت توأمة عبوراء، ولدت صفوراء قبلهَا بِنصْف يَوْم، وَكَانَ بَين الْمَكَان الَّذِي سقى فِيهِ الْغنم وَبَين شُعَيْب ثَلَاثَة أَمْيَال فَمشى مَعهَا وأمرها أَن تمشي خَلفه وتدله على الطَّرِيق، كَرَاهِيَة أَن ينظر إِلَيْهَا وهما على غير جادة، فَقَالَ شُعَيْب لابنته: من أَيْن علمت قوته وأمانته؟ فَقَالَت: أَزَال الْحجر عَن رَأس الْبِئْر، وَكَانَ لَا يطيقه إلاَّ رجال، وَقيل: أَرْبَعُونَ رجلا. وَذكرت أَنه أمرهَا أَن تمشي خَلفه كَرَاهَة أَن ينظر إِلَيْهَا، وسأوضح لَك هَذِه الْقِصَّة حَتَّى تقف على حَقِيقَتهَا مَعَ اخْتِصَار غير مخل.لما قتل مُوسَى القبطي كَمَا أخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ، فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب الْأَخْبَار، وَأمر فِرْعَوْن الذباحين بقتل مُوسَى، فَجَاءَهُ رجل من شيعته يُقَال لَهُ: خربيل، وَكَانَ قد آمن بإبراهيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصدق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَقَالَ لَهُ: إِن الْمَلأ يأتمرون بك، أَي: يتشاورون فِي قَتلك فَاخْرُج من هَذِه الْمَدِينَة إِنِّي لَك من الناصحين، فَخرج وَلم يدر أَيْن يذهب، فَجَاءَهُ ملك ودله على الطَّرِيق، فهداه إِلَى مَدين وَبَينهَا وَبَين مصر مسيرَة ثَمَانِيَة أَيَّام، وَقيل: عشرَة، وَكَانَ يَأْكُل من ورق الشّجر وَيَمْشي حافيا حَتَّى ورد مَاء مَدين وَنزل عِنْد الْبِئْر، وَإِذا بجنبه أمة من النَّاس يسقون، وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان أَي: تمنعان أغنامهما عَن الِاخْتِلَاط بأغنام النَّاس، فَقَالَ لَهما: {مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء} (الْقَصَص: 32) . لأَنا ضعفاء لَا نقدر على مزاحمتهم {وأبونا شيخ كَبِير} (الْقَصَص: 52) . تعنيان شعيبا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور أَنه شُعَيْب النَّبِي،، وَقيل: إِنَّه ابْن أخي شُعَيْب، ذكره أَحْمد فِي (تَفْسِيره) وَذكر السُّهيْلي أَن شعيبا هُوَ شيرون بن ضيفون بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُقَال: شُعَيْب بن ملكاين، وَقيل: شيرون ابْن أخي شُعَيْب، وَقيل: ابْن عَم شُعَيْب، وَقَالَ وهب: اسْم ابْنَته الْكُبْرَى صفوراء، وَاسم الصُّغْرَى عبوراء،، وَقيل: اسْم إحديهما شرفا، وَقيل: ليا، وَالْمَقْصُود: لما جَاءَ إِلَى شُعَيْب بعد أَن فعل مَا ذكرنَا، قصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص، قَالَ: {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} (الْقَصَص: 62) . و {قَالَت إِحْدَاهمَا} (الْقَصَص: 32) . وَهِي صفوراء {يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين} (الْقَصَص: 62) . فَقَالَ لَهَا شُعَيْب، وَمَا علمك بِهَذَا؟ فَأخْبرت بِالَّذِي فعله مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ شُعَيْب: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين}..........(12/82)(وعامل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر) مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامل يهود خَيْبَر على الْعَمَل فِي أرْضهَا إِذْ لم يُوجد من الْمُسلمين من يَنُوب منابهم فِي عمل الأَرْض فِي ذَلِك الْوَقْت وَلما قوي الْإِسْلَام اسْتغنى عَنْهُم حَتَّى أجلاهم عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَسقط بذلك قَول بَعضهم وَفِي استشهاده بِقصَّة مُعَاملَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على أَن يزرعوها نظر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيح بِالْمَقْصُودِ (قلت) كَيفَ يَنْفِي التَّصْرِيح بِالْمَقْصُودِ فِيهِ فَإِن مُعَامَلَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على الزِّرَاعَة فِي معنى استئجاره إيَّاهُم صَرِيحًاواستأجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل " وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ استأجرا هَذَا الرجل وَهُوَ مُشْرك إِذْ لم يجدا أحدا من أهل الْإِسْلَام وَقَول بَعضهم وَفِي استشهاده باستئجار الدَّلِيل الْمُشرك على ذَلِك نظر قَول واه صادر من غير ترو وَلَا تَأمل على مَا لَا يخفى........(12/84)ش الْعسرَة " بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَهِي غَزْوَة تَبُوك وتعرف أَيْضا بالفاضحة وَقيل لَهَا الْعسرَة لِأَن الْحر كَانَ فِيهَا شَدِيدا والجدب كثيرا وَحين طابت الثِّمَار وَكَانَ النَّاس يحبونَ الْمقَام فِي ثمارهم وظلالهم وَكَانَت فِي رَجَب قَالَ ابْن سعد يَوْم الْخَمِيس وَقَالَ ابْن التِّين خرج فِي أول يَوْم من رَجَب وَرجع فِي سلخ شَوَّال وَقيل رَمَضَان من سنة تسع من الْهِجْرَة.......... ...(12/85)احْتج أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين فِي أَن المعضوض إِذا جبذ يَده فَسَقَطت أَسْنَان العاض أَو فك لحييْهِ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا صال الْفَحْل على رجل فَدفعهُ فَأتى عَلَيْهِ لم يلْزمه قِيمَته وَعند مَالك يضمن المعضوض قَالَ الْقُرْطُبِيّ لم يقل أحد بِالْقصاصِ فِي ذَلِك فِيمَا علمت وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الضَّمَان فأسقطه أَبُو حنيفَة وَبَعض أَصْحَابنَا وَضَمنَهُ الشَّافِعِي وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك قَالَ وَنزل بعض أَصْحَابنَا القَوْل بِالضَّمَانِ على مَا إِذا أمكنه نزع يَده بِرِفْق فانتزعها بعنف وَحمل بعض أَصْحَابنَا الحَدِيث على أَنه كَانَ متحرك الثنايا وَقَالَ أَبُو عبد الْملك لم يَصح الحَدِيث عِنْد مَالك وَفِيه اسْتِئْجَار الْأَجِير للْخدمَة وكفاية مُؤنَة الْعَمَل فِي الْغَزْو وَغَيره سَوَاء وَأما الْقِتَال فَلَا يسْتَأْجر عَلَيْهِ لِأَن على كل مُسلم أَن يُقَاتل حَتَّى تكون كلمة الله هِيَ الْعليا...........(12/85)وَقد اتّفق أهل النَّقْل على أَن مُدَّة الْيَهُود إِلَى بعثة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت أَكثر من ألفي سنة وَمُدَّة النَّصَارَى من ذَلِك سِتّمائَة سنة وَقيل أقل فَيكون مُدَّة الْمُسلمين أَكثر من ألف قطعا (قلت) فِيهِ نظر لِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح أَنه قَالَ الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام كل يَوْم ألف سنة وَبعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَوْم الآخر مِنْهَا وَقد مَضَت مِنْهُ سنُون أَو مئون وَيُؤَيّد هَذَا أَيْضا حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ حِين قصّ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُؤْيَاهُ وَقَالَ فِيهَا رَأَيْتُك على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات الحَدِيث وَفِيه فِي الْمِنْبَر ودرجاته الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة بعثت فِي آخرهَا ألفا وَقد صحّح أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل بآثار –.......(12/95)وروى إِسْحَاق فِي (مُسْنده) من طَرِيق كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: الْمُسلمُونَ على شروطهم إلاَّ شرطا حرم حَلَالا أَو أحل حَرَامًا، وَكثير ابْن عبد الله ضَعِيف عِنْد الْأَكْثَرين إلاَّ أَن البُخَارِيّ قوي أمره وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة، وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) ، وَقيل: ظن ابْن التِّين أَن قَوْله: وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) بَقِيَّة كَلَام ابْن سِيرِين، فشرح على ذَلِك، فَوَهم وَقد اعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي وَغَيره.........(12/93)وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَخذ الْأجر على الرّقية بِالْفَاتِحَةِ، وَفِي أَخذه على التَّعْلِيم، فَأَجَازَهُ عَطاء وَأَبُو قلَابَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن أبي حنيفَة فِي الرّقية، وَهُوَ قَول إِسْحَاق. وَكره الزُّهْرِيّ تَعْلِيم الْقُرْآن بِالْأَجْرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يَأْخُذ الْأجر على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَقَالَ الْحَاكِم من أَصْحَابنَا فِي كِتَابه (الْكَافِي) : وَلَا يجوز أَن يسْتَأْجر رجل رجلا أَن يعلم وَلَده الْقُرْآن وَالْفِقْه والفرائض أَو يؤمهم رَمَضَان أَو يُؤذن، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) نَاقِلا عَن الأَصْل: لَا يجوز الِاسْتِئْجَار على الطَّاعَات كتعليم الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالْأَذَان والتذكير والتدريس وَالْحج والغزو، يَعْنِي: لَا يجب الْأجر، وَعند أهل الْمَدِينَة: يجوز، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي ونصير وعصام، وَأَبُو نصر الْفَقِيه وَأَبُو اللَّيْث رَحِمهم الله. وَالْأَصْل الَّذِي بنى عَلَيْهِ حُرْمَة الِاسْتِئْجَار على هَذِه الْأَشْيَاء: أَن كل طَاعَة يخْتَص بهَا الْمُسلم لَا يجوز الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء طَاعَة وقربة تقع على الْعَامِل......._(12/95)مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من حَدِيث سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْقُرْآن يَأْكُل بِهِ النَّاس جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه عَظمَة لَيْسَ عَلَيْهِ لحم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن يرفعهُ: (اقرأوا الْقُرْآن وسلوا الله بِهِ، فَإِن من بعدكم قوم يقرأون الْقُرْآن يسْأَلُون النَّاس بِهِ) . وَذكر ابْن بطال من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي جرهم عَن أبي هُرَيْرَة، قلت: (يَا رَسُول الله {مَا تَقول فِي المعلمين؟ قَالَ} أجرهم حرَام) وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: (لَا تستأجروا المعلمين) وَهَذَا غير صَحِيح، وَفِي إِسْنَاده أَحْمد بن عبد الله الْهَرَوِيّ، قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: دجال يضع الحَدِيث، وَوَافَقَهُ صَاحب التَّنْقِيح، وَهَذِه الْأَحَادِيث، وَإِن كَانَ فِي بَعْضهَا مقَال، لَكِنَّهَا يُؤَكد بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا حَدِيث الْقوس، فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا ذكرنَا، وَإِذا تعَارض نصان أَحدهمَا مُبِيح وَالْآخر محرم يدل على النّسخ..........(12/96)وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَيجوز الْأجر على الرقى وَإِن كَانَ يدْخل فِي بعضه الْقُرْآن، لِأَنَّهُ لَيْسَ على النَّاس أَن يرقي بَعضهم بَعْضًا، وَتَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا الْقُرْآن وَاجِب، لِأَن فِي ذَلِك التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَول الطَّحَاوِيّ هَذَا غلط، لِأَن تعلمه لَيْسَ بِفَرْض، فَكيف تَعْلِيمه؟ وَإِنَّمَا الْفَرْض الْمعِين مِنْهُ على كل أحد مَا تقوم بِهِ الصَّلَاة، وَغير ذَلِك فَضِيلَة ونافلة، وَكَذَلِكَ تَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا، لَيْسَ بِفَرْض مُتَعَيّن عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا هُوَ على الْكِفَايَة، وَلَا فرق بَين الْأُجْرَة فِي الرقي وعَلى تَعْلِيم الْقُرْآن، لِأَن ذَلِك كُله مَنْفَعَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام صادر بقلة الْأَدَب وَعدم مُرَاعَاة أدب الْبَحْث، سَوَاء كَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ أَو هُوَ نَقله...........(12/100)عْلَم أَن طَبَقَات أَنْسَاب الْعَرَب سِتّ الشّعب بِفَتْح الشين وَهُوَ النّسَب الْأَبْعَد كعدنان مثلا وَهُوَ أَبُو الْقَبَائِل الَّذين ينسبون إِلَيْهِ وَيجمع على شعوب والقبيلة وَهِي مَا انقسم بِهِ الشّعب كربيعة وَمُضر والعمارة بِكَسْر الْعين وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْقَبِيلَة كقريش وكنانة وَيجمع على عمارات وعمائر والبطن وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْعِمَارَة كبني عبد منَاف وَبني مَخْزُوم وَيجمع على بطُون وأبطن والفخذ وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْبَطن كبني هَاشم وَبني أُميَّة وَيجمع على أفخاذ والفصيلة بالصَّاد الْمُهْملَة وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْفَخْذ كبني الْعَبَّاس وَأكْثر مَا يَدُور على الْأَلْسِنَة من الطَّبَقَات الْقَبِيلَة ثمَّ الْبَطن وَرُبمَا عبر عَن كل وَاحِد من الطَّبَقَات السِّت بالحي إِمَّا على الْعُمُوم مثل أَن يُقَال حَيّ من الْعَرَب وَإِمَّا على الْخُصُوص مثل أَن يُقَال حَيّ من بني فلَان......(12/100)يهِ جَوَاز الرّقية بِشَيْء من كتاب الله تَعَالَى وَيلْحق بِهِ مَا كَانَ من الدَّعْوَات المأثورة أَو مِمَّا يشابهها وَلَا يجوز بِأَلْفَاظ مِمَّا لَا يعلم مَعْنَاهَا من الْأَلْفَاظ الْغَيْر الْعَرَبيَّة وَفِيه خلاف فَقَالَ الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة آخَرُونَ يكره الرقي وَالْوَاجِب على الْمُؤمن أَن يتْرك ذَلِك اعتصاما بِاللَّه تَعَالَى وتوكلا عَلَيْهِ وثقة بِهِ وانقطاعا إِلَيْهِيهِ جَوَاز الرّقية بِشَيْء من كتاب الله تَعَالَى وَيلْحق بِهِ مَا كَانَ من الدَّعْوَات المأثورة أَو مِمَّا يشابهها وَلَا يجوز بِأَلْفَاظ مِمَّا لَا يعلم مَعْنَاهَا من الْأَلْفَاظ الْغَيْر الْعَرَبيَّة وَفِيه خلاف فَقَالَ الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة آخَرُونَ يكره الرقي وَالْوَاجِب على الْمُؤمن أَن يتْرك ذَلِك اعتصاما بِاللَّه تَعَالَى وتوكلا عَلَيْهِ وثقة بِهِ وانقطاعا إِلَيْهِ......(12/100)أَن سُورَة الْفَاتِحَة فِيهَا شِفَاء وَلِهَذَا من أسمائها الشافية وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من كل سقم وَلأبي دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود مرض الْحسن أَو الْحُسَيْن فَنزل جِبْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأمره أَن يقْرَأ الْفَاتِحَة على إِنَاء من المَاء أَرْبَعِينَ مرّة فَيغسل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَرَأسه وَقَالَ ابْن بطال مَوضِع الرّقية مِنْهَا إياك نستعين وَعبارَة الْقُرْطُبِيّ موضعهَا إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وَالظَّاهِر أَنَّهَا كلهَا رقية لقَوْله وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية وَلم يقل فِيهَا فَيُسْتَحَب قرَاءَتهَا على اللديغ وَالْمَرِيض وَصَاحب العاهة........

  13. #253
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الجمعة
    الموافق : 13/ ربيع الأول / 1442 هجري
    الموافق : 31/ أكتوبر / 2020 ميلادي

    الجزء الثاني عشر
    باب " ثمار "
    (12/4)
    وَقد روى أَبُو دَاوُد من طَرِيق عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: إِذا طلع النَّجْم صباحا رفعت العاهة عَن كل بلد،وَفِي رِوَايَة أبي حنيفَة عَن عَطاء: رفعت العاهة من الثِّمَار والنجم هُوَ الثريا، وطلوعها صباحا يَقع فِي أول فصل الصَّيف، وَذَلِكَ عِنْد اشتداد الْحر فِي بِلَاد الْحجاز وَابْتِدَاء نضج الثِّمَار، وَالْمُعْتَبر فِي الْحَقِيقَة النضج وطلوع النَّجْم عَلامَة لَهُ،وَقد بَينه فِي الحَدِيث بقوله: ويتبين الْأَصْفَر من الْأَحْمَر.
    ..........
    (12/5)
    وَاخْتلف السّلف فِي قَوْله: (حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) هَل المُرَاد مِنْهُ جنس الثِّمَار؟ حَتَّى لَو بدا الصّلاح فِي بُسْتَان من الْبَلَد مثلا جَازَ بيع ثَمَرَة جَمِيع الْبَسَاتِين، وَإِن لم يبد الصّلاح فِيهَا أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل بُسْتَان على حِدة؟ أَو لَا بُد من بَدو الصّلاح فِي كل جنس على حِدة؟ أَو فِي كل شَجَرَة على حِدة؟ على أَقْوَال. وَالْأول: قَول اللَّيْث، وَهُوَ عِنْد الْمَالِكِيَّة بِشَرْط أَن يكون الصّلاح متلاحقا. وَالثَّانِي: قَول أَحْمد، وَعنهُ فِي رِوَايَة كالرابع،وَالثَّالِث: قَول الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا كُله غير مُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة.
    ...........
    (12/10)
    قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف بَين أهل الْعلم فِي أَن مَا دخل فِي الْجِنْس الْوَاحِد من جنس التَّفَاضُل وَالزِّيَادَة لم تجز فِيهِ الزِّيَادَة، لَا فِي كيل وَلَا فِي وزن، وَالْوَزْن والكيل فِي ذَلِك سَوَاء عِنْدهم إِلَّا أَن كَانَ أَصله الْكل لَا يُبَاع إِلَّا كَيْلا وَمَا كَانَ أَصله الْوَزْن لَا يُبَاع إلاَّ وزنا، وَمَا كَانَ أَصله الْكَيْل فَبيع وزنا فَهُوَ عِنْدهم مماثلة، وَإِن كَرهُوا ذَلِك. وَمَا كَانَ مَوْزُونا فَلَا يجوز أَن يُبَاع كَيْلا عِنْد جَمِيعهم، لِأَن الْمُمَاثلَة لَا تدْرك بِالْكَيْلِ إلاَّ فِيمَا كَانَ كَيْلا لَا وزنا اتبَاعا للسّنة، وَأَجْمعُوا أَن الذَّهَب وَالْوَرق والنحاس وَمَا أشبهه لَا يجوز يَبِيع شىء كُله كَيْلا لكيل يُوَجه من الْوُجُوه وَالتَّمْر كُله على اخْتِلَاف انواعه جنس وَاحِد لَا يجوز فِيهِ التَّفَاضُل فِي البيع والمعاوضة، وَكَذَلِكَ الْبر وَالزَّبِيب، وكل طَعَام مَكِيل، هَذَا حكم الطَّعَام المقتات عِنْد مَالك. وَعند الشَّافِعِي: الطَّعَام كُله مقتات أَو غير مقتات،وَعند الْكُوفِيّين: الطَّعَام الْمكيل وَالْمَوْزُون دون غَيره، وَقد احْتج بِحَدِيث الْبَاب من أجَاز بيع الطَّعَام من رجل نَقْدا ويبتاع مِنْهُ طَعَاما قبل الِافْتِرَاق وَبعده، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص فِيهِ بَائِع الطَّعَام وَلَا مبتاعه من غَيره، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر، وَلَا يجوز هَذَا عِنْد مَالك. وَقَالَ ابْن بطال: وَزعم قوم أَن بيع الْعَامِل الصاعين بالصاع كَانَ قبل نزُول آيَة الرِّبَا، وَقبل إخبارهم بِتَحْرِيم التَّفَاضُل بذلك، فَلذَلِك لم يَأْمُرهُ بفسخه. قَالَ: وَهَذِه غَفلَة،لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي غَنَائِم خَيْبَر للسعدين: أريتما فَردا، وَفتح خَيْبَر مقدم على مَا كَانَ بعد ذَلِك مِمَّا وَقع فِي ثَمَرهَا وَجَمِيع أمرهَا وَقد احْتج بعض الشَّافِعِيَّة بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْعينَة لَيست حَرَامًا،
    ......
    (12/20)
    اخْتلف من يَقُول بِالشُّفْعَة للْجَار،فَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَا شُفْعَة إلاَّ للْجَار الملازق،وَقَالَ الْحسن بن حَيّ: للْجَار مُطلقًا بعد الشَّرِيك،وَقَالَ آخَرُونَ: الْجَار الَّذِي تجب لَهُ الشُّفْعَة أَرْبَعُونَ دَارا حول الدَّار. وَقَالَ آخَرُونَ: من كل جَانب من جَوَانِب الدَّار أَرْبَعُونَ دَارا. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ كل من صلى مَعَه صَلَاة الصُّبْح فِي الْمَسْجِد،وَقَالَ بَعضهم: أهل الْمَدِينَة كلهم جيران، وَحجَّة أَصْحَابنَا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَحَادِيث رويت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح،فَقَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن أبي دَاوُد البرنسي،قَالَ: حَدثنَا عَليّ ابْن صَالح الْقطَّان وَأحمد بن حبَان،قَالَا: حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس،قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا فِي (مُسْنده) . فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلَا يعرف حَدِيث قَتَادَة عَن أنس إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس
    ..........
    (12/22)
    أخرجه التِّرْمِذِيّ،وَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن حجر،قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن علية عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب،قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (جَار الدَّار أَحَق بِالدَّار) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من سِتَّة طرق صِحَاح أَحدهَا مُرْسل. فَإِن قلت: الْحسن لم يسمع من سَمُرَة إلاَّ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَهَذَا لَيْسَ مِنْهَا؟قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنَّه سمع مِنْهُ عدَّة أَحَادِيث، وَقَالَ الْحَاكِم فِي أثْنَاء كتاب الْبيُوع من (الْمُسْتَدْرك) : قد احْتج البُخَارِيّ بالْحسنِ عَن سَمُرَة، وَذَلِكَ بعد أَن روى حَدِيثا من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ،وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو بكرَة حَدثنَا أَبُو أَحْمد،قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الحكم عَمَّن سمع عليا وَعبد الله بن مَسْعُود يَقُولَانِ: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بالجوار
    .........
    (12/23)
    إعلم أَن لفظ: اللَّهُمَّ،يسْتَعْمل فِي كَلَام الْعَرَب على ثَلَاثَة أنحاء: أَحدهَا: للنداء الْمَحْض وَهُوَ ظَاهر. وَالثَّانِي: للإيذان بنذرة الْمُسْتَثْنى كَقَوْلِك بعد كَلَام: أللهم، إلاَّ إِذا كَانَ كَذَا. وَالثَّالِث: ليدل على تَيَقّن الْمُجيب فِي الْجَواب المقترن هُوَ بِهِ،كَقَوْلِك لمن قَالَ: أَزِيد قَائِم أللهم نعم أَو أللهم لَا، كَأَنَّهُ يُنَادِيه تَعَالَى مستشهدا على مَا قَالَ من الْجَواب. وأللهم هَذَا هُنَا من هَذَا الْقَبِيل. قَوْله: (إِنِّي كَانَ لي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كبيران) . قَوْله: أَبَوَانِ، من بَاب التغليب لِأَن الْمَقْصُود الْأَب وَالأُم،وَفِي رِوَايَة الْمُزَارعَة: أللهم إِنَّه كَانَ لي والدان شَيْخَانِ كبيران ولي صبية صغَار وَكنت أرعى عَلَيْهِم،وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَاب: وَكنت أخرج فأرعى،يَعْنِي: كنت أخرج إِلَى المرعى فأرعى
    ........
    (12/25)
    وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: دَلِيل على صِحَة قَول ابْن الْقَاسِم: إِذا أودع رجل رجلا طَعَاما فَبَاعَهُ الْمُودع بِثمن: فَرضِي الْمُودع بِهِ، فَلهُ الْخِيَار إِن شَاءَ أَخذ الثّمن الَّذِي بَاعه بِهِ، وَإِن شَاءَ أَخذ مثل طَعَامه، وَمنع أَشهب. قَالَ: لِأَنَّهُ طَعَام بِطَعَام فِيهِ
    خيار
    ..........
    قَالَ الْخطابِيّ: اسْتدلَّ بِهِ أَحْمد على أَن الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر فِي مَال الْوَدِيعَة وَربح أَن الرِّبْح إِنَّمَا يكون لرب المَال،قَالَ: وَهَذَا لَا يدل على مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَن صَاحب الْفرق إِنَّمَا تبرع بِفِعْلِهِ وتقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل،وَقد قَالَ: إِنَّه اشْترى بقرًا وَهُوَ تصرف مِنْهُ فِي أَمر لم يُوكله بِهِ، فَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ ربحا، وَالْأَشْبَه بِمَعْنَاهُ أَنه قد تصدق بِهَذَا المَال على الْأَجِير بعد أَن أتجر فِيهِ، وأنماه، وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ أَكثر الْفُقَهَاء فِي الْمُسْتَوْدع إِذا أتجر بِمَال الْوَدِيعَة وَالْمُضَارب إِذا خَالف رب المَال فربحا أَنه لَيْسَ لصَاحب المَال من الرِّبْح شَيْء،وَعند أبي حنيفَة: الْمضَارب ضَامِن لرأس المَال وَالرِّبْح لَهُ وَيتَصَدَّق بِهِ، والوضيعة عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ اشْترى السّلْعَة بِعَين المَال فَالْبيع بَاطِل، وَإِن كَانَ بِغَيْر عينه فالسلعة ملك المُشْتَرِي وَهُوَ ضَامِن لِلْمَالِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما من أتجر فِي مَال غَيره؟فَقَالَت طَائِفَة: يطيب لَهُ الرِّبْح إِذا رد رَأس المَال إِلَى صَاحبه، سَوَاء كَانَ غَاصبا لِلْمَالِ أَو كَانَ وَدِيعَة عِنْده مُتَعَدِّيا فِيهِ، هَذَا قَول عَطاء وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَأبي يُوسُف، وَاسْتحبَّ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ تنزهه عَنهُ، وَيتَصَدَّق بِهِ. وَقَالَت طَائِفَة: يرد المَال وَيتَصَدَّق بِالرِّبْحِ كُله، وَلَا يطيب لَهُ مِنْهُ شَيْء، هَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَزفر. وَقَالَت طَائِفَة: الرِّبْح لرب المَال وَهُوَ ضَامِن لما تعدى فِيهِ، هَذَا قَول ابْن عمر وَأبي قلَابَة،وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ ابْن بطال: وإصح هَذِه الْأَقْوَال قَول من قَالَ: إِن الرِّبْح للْغَاصِب والمتعدي وَالله أعلم
    ........
    (12/26)
    قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعياض بن حمَار حِين أهْدى لَهُ فِي شركه: إِنَّا لَا نقبل زبد الْمُشْركين، يُرِيد عطاهم. قلت: قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يشبه أَن يكون ذَلِك مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قبل هَدْيه غير وَاحِد من أهل الشّرك، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس وأكيدر دومة. قَالَ: إلاَّ أَن يزْعم زاعم أَن بَين هَدَايَا أهل الشّرك وهدايا أهل الْكتاب فرقا. انْتهى.
    قلت: فِيهِ نظر فِي مَوَاضِع.
    الأول: أَن الزَّعْم بِالْفرقِ الْمَذْكُور يردهُ قَول عبد الرَّحْمَن فِي نفس هَذَا الحَدِيث: إِن هَذَا الرجل كَانَ مُشْركًا،وَقد قَالَ لَهُ: أبيع أم هَدِيَّة؟
    الثَّانِي: هَدِيَّة أكيدر كَانَت قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، رَاوِي هَذَا الحَدِيث، لِأَن إِسْلَامه كَانَ فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة، وَذَلِكَ فِي سنة سبع، وهدنة أكيدر كَانَت بعد وَفَاة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي قَالَ فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،لما عجب النَّاس من هَدِيَّة أكيدر: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لمناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة أحسن من هَذِه، وَسعد توفّي بعد غَزْوَة بني قُرَيْظَة سنة أَربع فِي قَول عقبَة،وَعند إِبْنِ إِسْحَاق: سنة خمس، وأيّا مَا كَانَ فَهُوَ قبل إِسْلَام عبد الرَّحْمَن، وبَعْثُ حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى الْمُقَوْقس كَانَ فِي سنة سِتّ، ذكره ابْن مَنْدَه وَغَيره، فَدلَّ على أَنه قبل هَذَا الحَدِيث.
    الثَّالِث: لقَائِل أَن يَقُول: هَذَانِ اللَّذَان قبل مِنْهُمَا هديتهما لَيْسَ سوقة، إِنَّمَا هما ملكان. فَقبل هديتهما تألفا، لِأَن فِي رد هديتهما نوع حُصُول شَيْء.
    الرَّابِع: نقُول: كَانَ قبُول هديتهم بإثابته عَلَيْهِمَا، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لهَذَا الْمُشرك أَيْضا كَانَ تأنيسا لَهُ، وَلِأَن يثيبه بِأَكْثَرَ مِمَّا أهْدى، وَكَذَا يُقَال فِي هَدِيَّة كسْرَى الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْحَرْبِيّ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ورد هَدِيَّة عِيَاض بن حمَار وَكَانَ بَينه وَبَين النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، معرفَة قبل الْبعْثَة، فَلَمَّا بعث أهْدى لَهُ فَرد هديته، وَكَذَا رد هَدِيَّة ذِي الجوشن، وَكَانَت فرسا، وَكَذَا رد هَدِيَّة ملاعب الأسنة، لأَنهم كَانُوا سوقة وَلَيْسوا ملوكا، وَأهْدى لَهُ ملك أَيْلَة بغلة، وفروة الجذامي هَدِيَّة فقبلهما وَكَانَا ملكَيْنِ، وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا مَا ذكره أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) : أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قبل هَدِيَّة أبي سُفْيَان بن حَرْب لِأَنَّهَا كَانَت فِي مُدَّة الْهُدْنَة، وَكَذَا هَدِيَّة الْمُقَوْقس إِنَّمَا كَانَ قبلهَا لِأَنَّهُ أكْرم حَاطِبًا وَأقر بنبوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يؤيسه من إِسْلَامه، وَقبُول هَدِيَّة الأكيدر لِأَن خَالِدا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قدم بِهِ فحقن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه وَصَالَحَهُ على الْجِزْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ خلى سَبيله، وَكَذَا ملك أَيْلَة لما أهْدى كَسَاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بردا لَهُ، وَهَذَا كُله يرجع إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يقبل هَدِيَّة إلاَّ ويكافىء.
    ثمَّ إعلم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِيمَا يهدى للأئمة، فَروِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يُوجب رده إِلَى بَيت المَال، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مَا أهْدى إِلَيْهِ أهل الْحَرْب فَهُوَ لَهُ دون بَيت المَال، وَأما مَا يهدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فَهُوَ فِي ذَلِك بِخِلَاف النَّاس، لِأَن الله تَعَالَى اختصه فِي أَمْوَال أهل الْحَرْب بِخَاصَّة لم تكن لغيره،قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء} (الْحَشْر: 6) . بعد قَوْله: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله} (الْحَشْر: 6) . فسبيل مَا تصل إِلَيْهِ يَده من أَمْوَالهم على جِهَة الْهَدِيَّة وَالصُّلْح سَبِيل الْفَيْء يَضَعهُ حَيْثُ أرَاهُ الله، فَأَما الْمُسلمُونَ إِذا أهدوا إِلَيْهِ فَكَانَ من سجيته أَن لَا يردهَا بل يثيبهم عَلَيْهَا.

    ........

    (12/28)
    وسلمان هُوَ الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وقصته طَوِيلَة على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره،وملخصها: أَنه هرب من أَبِيه لطلب الْحق وَكَانَ مجوسيا، فلحق براهب ثمَّ براهب ثمَّ بآخر، وَكَانَ يصحبهم إِلَى وفاتهم حَتَّى دله الْأَخير إِلَى الْحجاز وَأخْبرهُ بِظُهُور رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقصده مَعَ بعض الْأَعْرَاب فغدروا بِهِ وباعوه فِي وَادي الْقرى ليهودي، ثمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ يَهُودِيّ آخر من بني قُرَيْظَة، فَقدم بِهِ الْمَدِينَة، فَلَمَّا قدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأى عَلَامَات النُّبُوَّة أسلم،فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَاتب عَن نَفسك، عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة،وَقيل: مِائَتَيْنِ وَخمْس وَسبعين سنة، وَمَات سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ بالمداين.
    .......
    (12/29)
    وَرُوِيَ عَن ابْن سعد أَنه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْعَقدي وَأَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بن مَسْعُود،قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن حَمْزَة بن صُهَيْب عَن أَبِيه،قَالَ: إِنِّي رجل من الْعَرَب من النمر بن قاسط، وَلَكِنِّي سبيت، سبتني الرّوم غُلَاما صَغِيرا بعد أَن عقلت أَهلِي وقومي وَعرفت نسبي،وَعَن ابْن سعد: كَانَ أَبَاهُ من النمر بن قاسط،وَكَانَ عَاملا لكسرى: فسبت الرّوم صهيبا لما غزت أهل فَارس فابتاعه مِنْهُم عبد الله بن جدعَان،وَقيل: هرب من الرّوم إِلَى مَكَّة فحالف ابْن جدعَان، فَهَذَا يُنَاسب التَّرْجَمَة،لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ. وَأما بِلَال فَإِن ابْن إِسْحَاق ذكر فِي (الْمَغَازِي) : حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: مر أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأمية بن خلف وَهُوَ يعذب بِلَالًا،فَقَالَ: أَلا تتقي الله فِي هَذَا الْمِسْكِين؟فَقَالَ: انقذه أَنْت بِمَا ترى. فَأعْطَاهُ أَبُو بكر غُلَاما أجلد مِنْهُ، وَأخذ بِلَالًا، فَأعْتقهُ. وَقيل غير ذَلِك، فحاصل الْكَلَام أَنه أَيْضا يُنَاسب التَّرْجَمَة،لِأَنَّهُ دخل فِي قَوْله: شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ، أما الشِّرَاء فَإِن أَبَا بكر قايض مَوْلَاهُ، والمقايضة نوع من الْبيُوع، وَأما كَونه اشْترى من الْحَرْبِيّ لِأَن مَكَّة فِي ذَلِك الْوَقْت كَانَت دَار الْحَرْب وَأَهْلهَا من أهل الْحَرْب، وَأما عمار فَإِنَّهُ كَانَ عَرَبيا عنسيا، بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة، مَا وَقع عَلَيْهِ سباء، وَإِنَّمَا سكن أَبوهُ يَاسر، مَكَّة وحالف بني مَخْزُوم فَزَوجُوهُ سميَّة
    .......
    (12/30)
    وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (كتاب التيجان) : إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خرج من مَدين إِلَى مصر، وَكَانَ مَعَه من الْمُؤمنِينَ ثَلَاثمِائَة وَعِشْرُونَ رجلا، وبمصر ملكهَا عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن نابليون من سبأ
    ..........
    (12/31)
    وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: على هَذَا الحَدِيث إِشْكَال مَا زَالَ يختلج فِي صَدْرِي،وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى توريته، عَلَيْهِ السَّلَام، عَن الزَّوْجَة بالأخت، وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّة ِ كَانَ أسلم لَهَا،لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي قَالَ: زوجنيها. وَإِذا قَالَ امْرَأَتي سكت هَذَا إِن كَانَ الْملك يعْمل بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره فَمَا يُبَالِي إِذا كَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا إِلَى أَن وَقع لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَانَ الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يستعصم من الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ، فَإِذا هُوَ جَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دينه. قَالَ: وَاعْترض على هَذَا بِأَن الَّذِي جَاءَ على مَذْهَب الْمَجُوس زرادشت، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن هَذَا الزَّمن، فَالْجَوَاب أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما ادَّعَاهُ زرادشت وَزَاد عَلَيْهِ خرافات، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات جَائِزا فِي زمن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام،وَيُقَال: كَانَت حرمته على لِسَان مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،قَالَ: وَيدل على أَن دين الْمَجُوس لَهُ أصل مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر، وَمَعْلُوم أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إلاَّ مِمَّن لَهُ كتاب أَو شُبْهَة كتاب،ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَن من لَهُ زَوْجَة لَا يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج إلاَّ أَن يهْلك زَوجهَا، فَلَمَّا علم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،هَذَا قَالَ: هِيَ أختى،كَأَنَّهُ قَالَ: إِن كَانَ الْملك عادلاً، فَخَطَبَهَا مني أمكنني دَفعه، وَإِن كَانَ ظَالِما تخلصت من الْقَتْل،وَقيل: إِن النُّفُوس تأبى أَن يتَزَوَّج الْإِنْسَان بِامْرَأَة وَزوجهَا مَوْجُود، فَعدل، عَلَيْهِ السَّلَام،عَن قَوْله: زَوْجَتي، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَتله أَو طرده عَنْهَا، أَو تَكْلِيفه لفراقها. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: إِن من سيرة هَذَا الْجَبَّار أَنه لَا يغلب الْأَخ على أُخْته وَلَا يَظْلمه فِيهَا، وَكَانَ يغلب الزَّوْج على زَوجته. وَالله أعلم.

    ...........

    (12/42)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وكل من لقِيت من أهل الْعلم على أَن من بَاعَ حرا لَا قطع عَلَيْهِ ويعاقب،ويروى عَن ابْن عَبَّاس: يرد البيع ويعاقبان، وروى حلاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَنه قَالَ: تقطع يَده، وَالصَّوَاب قَول الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ بسارق، وَلَا يجوز قطع غير السَّارِق،وَذكر ابْن حزم عَن عبد الله بن بُرَيْدَة: أَن رجلا بَاعَ نَفسه فَقضى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِأَنَّهُ عبد كَمَا أقرّ، وَجعل ثمنه فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وروى ابْن أبي شيبَة عَن شريك عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،قَالَ: (إِذا أقرّ على نَفسه بالعبودية فَهُوَ عبد) ، وروى سعيد بن مَنْصُور
    وَرُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَاعَ حرا أفلس) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث حجاج عَن ابْن جريج،فَقَالَ: عَن أبي سعيد أَو سعد على الشَّك،وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيث مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن زيد بن أسلم عَن عبد الرَّحْمَن بن الْبَيْلَمَانِي عَن سرق: أَنه اشْترى من أَعْرَابِي بَعِيرَيْنِ فباعهما، فَقَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَعْرَابِي! إذهب فبعه حَتَّى تستوفي حَقك، فاعتقه الْأَعرَابِي. وَرَوَاهُ ابْن سعد عَن أبي الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ عَن مُسلم، وَهُوَ سَنَد صَحِيح،وَضَعفه عبد الْحق بِأَن قَالَ: مُسلم وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم ضعيفان، وَلَيْسَ بجيد، لِأَن مُسلما وَثَّقَهُ غير وَاحِد، وَصحح حَدِيثه، وَعبد الرَّحْمَن لَا مدْخل لَهُ فِي هَذَا لَا جرم.
    .......
    (12/45)
    وَقَالَ الثَّوْريّ والكوفيون وَأحمد: لَا يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، اخْتلفت أجناسها أَو لم تخْتَلف، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الْحسن عَن سَمُرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهَة بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة،ثمَّ روى حَدِيث سَمُرَة هَذَا وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَسَمَاع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح، هَكَذَا قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَغَيره، وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم فِي بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأهل الْكُوفَة، وَبِه يَقُول أَحْمد.
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْبَاب: عَن ابْن عَبَّاس وَجَابِر وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: حَدِيث ابْن عمر أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي كتاب الْعِلَل: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الْمقدمِي عَن زِيَاد بن جُبَير عَن ابْن عمر،قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) ،وَحَدِيث جَابر أخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن حَفْص بن غياث وَأبي خَالِد عَن حجاج عَن أبي الزبير عَن جَابر: أَن رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا بَأْس بِالْحَيَوَانِ وَاحِد بِاثْنَيْنِ يدا بيد وَكَرِهَهُ نَسِيئَة) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل: حَدثنَا سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد هُوَ الأحمري عَن معمر عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (نهى عَن بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَة) .
    فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد تَخْرِيجه حَدِيث سَمُرَة: أَكثر الْحفاظ لَا يثبتون سَماع الْحسن من سَمُرَة فِي غير حَدِيث الْعَقِيقَة؟قلت: قَول الحافظين الكبيرين الحجتين: التِّرْمِذِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ، كافٍ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّهُمَا مثبتان، وَالْبَيْهَقِيّ ينْقل النَّفْي فَلَا يُفِيد شَيْئا. فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عمر قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: إِنَّمَا يرْوى عَن زِيَاد بن جُبَير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
    مرسلا
    ........
    (12/48)
    وَصفِيَّة بنت حييّ ابْن أَخطب بن سفنة بن ثَعْلَبَة النضيرية أم الْمُؤمنِينَ من بَنَات هَارُون بن عمرَان أخي مُوسَى بن عمرَان، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأمّهَا برة بنت سموأل سباها رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام خَيْبَر فِي شهر رَمَضَان سنة سبع من الْهِجْرَة، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا، وروى لَهَا عشرَة أَحَادِيث، اتفقَا على حَدِيث وَاحِد، مَاتَت فِي خلَافَة مُعَاوِيَة سنة خمسين، قَالَه الْوَاقِدِيّ. ودحية،بِكَسْر الدَّال وَفتحهَا: ابْن خَليفَة بن فَرْوَة الْكَلْبِيّ رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَيْصر،
    ..........
    (12/52)
    وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا خلاف مَا يَقُوله مَالك. قيل: وَالشَّافِعِيّ أَيْضا. وَقيل: يستبرىء اسْتِحْبَابا، وَعَن ابْن سِيرِين فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة الْعَذْرَاء، قَالَ لَا يقربن رَحمهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَعَن الْحسن: يَسْتَبْرِئهَا وَإِن كَانَت بكرا، وَكَذَا قَالَه عِكْرِمَة، وَقَالَ عَطاء فِي رجل اشْترى جَارِيَة من أَبَوَيْهَا عذراء،وَقَالَ: يَسْتَبْرِئهَا بحيضتين. وَمذهب جمَاعَة مِنْهُم: ابْن الْقَاسِم وَسَالم وَاللَّيْث وَأَبُو يُوسُف: لَا اسْتِبْرَاء إلاَّ على الْبَالِغَة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لَا يرى اسْتِبْرَاء الْعَذْرَاء وَإِن كَانَت بَالِغَة، ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَقَالَ إِيَاس بن مُعَاوِيَة فِي رجل اشْترى جَارِيَة صَغِيرَة، لَا يُجَامع مثلهَا،قَالَ: لَا بَأْس أَن يَطَأهَا وَلَا يَسْتَبْرِئهَا، وَكره قَتَادَة تقبيلها حَتَّى يَسْتَبْرِئهَا. وَقَالَ أَيُّوب اللَّخْمِيّ، وَقعت فِي سهم ابْن عمر جَارِيَة يَوْم جَلُولَاء، فَمَا ملك نَفسه حَتَّى قبلهَا. قَالَ ابْن بطال: ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
    وَقَالَ عَطاءٌ لاَ بأسَ أنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الحامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَقَالَ الله تَعَالَى: {إلاَّ عَلى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ
    .....
    (12/55)
    (خَيْبَر) ، كَانَت غَزْوَة خَيْبَر سنة سِتّ،وَقيل: سبع. قَوْله: (الْحصن) ، اسْمه القموص وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سبى صَفِيَّة وَابْنَة عَم لَهَا من هَذَا الْحصن. قَوْله: (صَفِيَّة) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. الصَّحِيح: أَن هَذَا كَانَ اسْمهَا قبل السَّبي،وَقيل: كَانَ اسْمهَا: زَيْنَب، فسميت صَفِيَّة بعد السَّبي. قَوْله: (بنت حييّ) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَتَشْديد الثَّانِيَة،قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ: المحدثون يَقُولُونَهُ بِكَسْر الْحَاء، وَأهل اللُّغَة بضَمهَا. قَوْله: (ابْن أَخطب) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. قَوْله: (وَقد قتل زَوجهَا) ، وَهُوَ كنَانَة بن أبي الْحقيق وَكَانَ زَوجهَا أَو لأسلام بن مشْكم، وَكَانَ خمارا فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ خلف عَلَيْهَا كنَانَة، وَكَانَت صَفِيَّة رَأَتْ فِي الْمَنَام قمرا أقبل من يثرب وَوَقع فِي حجرها، فقصت على زَوجهَا،فلطم وَجههَا وَقَالَ: أَنْت تزعمين أَن ملك يثرب يتزوجك،وَفِي لفظ: تحبين أَن يكون هَذَا الْملك الَّذِي يَأْتِي من الْمَدِينَة زَوجك،وَفِي لفظ: رَأَيْت كَأَنِّي وَهَذَا الَّذِي يزْعم أَن الله أرْسلهُ وَملك يسترنا بجناحه، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى بوجهها أثر خضرَة قَرِيبا من عينهَا،فَقَالَ: مَا هَذَا؟قَالَت: يَا رَسُول الله رَأَيْت فِي الْمَنَام ... فَذكرت مَا مضى إِلَى آخِره،
    .......
    الْعَرُوس: نعت يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر والمؤنث،وَعَن الْخَلِيل: رجل عروس وَامْرَأَة عروس وَنسَاء عرائس. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال للرجل عروس كَمَا يُقَال للْمَرْأَة، وَهُوَ اسْم لَهَا عِنْد دُخُول أَحدهمَا بِالْآخرِ،وَيُقَال: أعرس الرجل فَهُوَ معرس إِذا دخل بامرأته عِنْد بنائها.
    ..........
    (12/55)
    وَأجْمع الْفُقَهَاء على أَن حَيْضَة وَاحِدَة بَرَاءَة فِي الرَّحِم إلاَّ أَن مَالِكًا وَاللَّيْث قَالَا: إِن اشْتَرَاهَا فِي أول حَيْضهَا اعْتد بهَا، وَإِن كَانَت فِي آخرهَا لم يعْتد بهَا،وَقَالَ ابْن الْمسيب:
    حيضتان،وَقَالَ ابْن سِيرِين: ثَلَاث حيض، وَاخْتلف إِذا أَمن فِيهَا الْحمل؟فَقَالَ مَالك: يستبرىء،وَقَالَ مطرف وَابْن الْمَاجشون: لَا.
    وَاخْتلفُوا فِي قبْلَة الْجَارِيَة ومباشرتها قبل الِاسْتِبْرَاء، فَأجَاز ذَلِك الْحسن الْبَصْرِيّ وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَوَجهه قطعا للذريعة وحفظا للأنساب. وَحجَّة المجيزين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِض حَتَّى تطهر)
    .........
    (12/56)
    قَالَ الْجَوْهَرِي: (هوالوثن. وَقَالَ غَيره: الوثن مَا لَهُ جثة والصنم مَا كَانَ مصورا،وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّنَم مَا اتخذ إِلَهًا من دون الله،وَقيل: الصَّنَم مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، فَإِن لم يكن لَهُ جسم أَو صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي: بَاب الْوَاو بعْدهَا الثَّاء الْمُثَلَّثَة: الْفرق بَين الصَّنَم والوثن أَن الوثن: كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب فيعبد،والصنم: الصُّورَة بِلَا جثة. وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن على غير الصُّورَة، وَقد يُطلق الوثن على الصَّلِيب. وَالْميتَة،بِفَتْح الْمِيم: هِيَ الَّتِي تَمُوت حتف أنفها من غير ذَكَاة، شَرْعِيَّة، وَالْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْميتَة، وَاسْتثنى مِنْهَا السّمك وَالْجَرَاد
    .......
    (12/54)
    قد اخْتلف الْعلمَاء فِي الِاحْتِجَاج بِالْكِتَابَةِ، فَذهب إِلَى صِحَّتهَا أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَمَنْصُور وَاللَّيْث بن سعد وَآخَرُونَ، وَاحْتج بهَا الشَّيْخَانِ،وَقَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه الصَّحِيح الْمَشْهُور، وَقَالَ أَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ، إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة، وَتكلم فِيهَا بَعضهم وَلم يرهَا حجَّة، لِأَن الخطوط تشتبه، وَبِه جزم الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي)
    ....
    (12/58)
    وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الكاهن الَّذِي يتعاطى الْخَبَر عَن الكائنات فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان، ويدَّعي معرفَة الْأَسْرَار،وَقد كَانَ فِي الْعَرَب كهنة: كشق وسطيح وَغَيرهمَا، فَمنهمْ من كَانَ يزْعم أَن لَهُ تَابعا من الْجِنّ ورئيا يلقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَار، وَمِنْهُم من كَانَ يزْعم أَنه يعرف الْأُمُور بمقدمات أَسبَاب يسْتَدلّ بهَا على مواقعها من كَلَام من يسْأَله أَو فعله أَو حَاله، وَهَذَا يخصونه باسم العراف، كَالَّذي يدعى معرفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالة وَنَحْوهمَا.

    ........

    (12/59)
    وروى عَن أبي يُوسُف أَنه: لَا يجوز بيع الْكَلْب الْعَقُور، كَمَا روى عَن أبي حنيفَة فِيهِ، ثمَّ على أصلهم يجب قِيمَته على قَاتله، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان ابْن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أغرم رجلا ثمن كلب قَتله عشْرين بَعِيرًا، وَبِمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قضى فِي كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب مَاشِيَة بكبش.
    وَقَالَ المخالفون لَهُم: أثر عُثْمَان مُنْقَطع وَضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: ثمَّ الثَّابِت عَن عُثْمَان بِخِلَافِهِ، فَإِنَّهُ خطب فَأمر بقتل الْكلاب. قَالَ الشَّافِعِي: فَكيف يَأْمر بقتل مَا يغرم من قَتله قِيمَته؟وَأثر عبد الله بن عَمْرو لَهُ طَرِيقَانِ: أَحدهمَا مُنْقَطع، وَالْآخر فِيهِ من لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا يُتَابع عَلَيْهِمَا، كَمَا قَالَه البُخَارِيّ، وَقد روى عبد الله بن عَمْرو النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب، فَلَو ثَبت عَنهُ الْقَضَاء بِقِيمَتِه لكَانَتْ الْعبْرَة بروايته لَا بِقَضَائِهِ على الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّين َ. انْتهى

    ..........

    (12/60)
    اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز بيع الهر، فَذهب قوم إِلَى جَوَاز بَيْعه وَحل ثمنه، وَبِه قَالَ الْجُمْهُور، وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحكم وَحَمَّاد وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق،وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن ابْن عَبَّاس أَنه رخص فِي بَيْعه. قَالَ وكرهت طَائِفَة بَيْعه، روينَا ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُجاهد، وَبِه قَالَ جَابر بن زيد،وَأجَاب الْقَائِلُونَ بِجَوَاز بَيْعه عَن الحَدِيث بأجوبه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث ضَعِيف وَهُوَ مَرْدُود. وَالثَّانِي: حمل الحَدِيث على الهر إِذا توحش فَلم يقدر على تَسْلِيمه، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (السّنَن) عَن بعض أهل الْعلم. وَالثَّالِث: مَا حَكَاهُ البييهقي عَن بَعضهم أَنه: كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام حِين كَانَ مَحْكُومًا بِنَجَاسَتِهِ، ثمَّ لما حكم بِطَهَارَة سؤره حل ثمنه. وَالرَّابِع: أَن النَّهْي مَحْمُول على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم،وَلَفظ مُسلم: زجر، يشْعر بتَخْفِيف النَّهْي، فَلَيْسَ على التَّحْرِيم بل على التَّنْزِيه، وَعكس ابْن حزم هَذَا،فَقَالَ: الزّجر أَشد النَّهْي وَفِي كل مِنْهُمَا نظر لَا يخفى. وَالْخَامِس: مَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه يُعَارضهُ مَا روى أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس عَن النبيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه أَبَاحَ ثمن الهر، ثمَّ رده بِكَلَام طَوِيل. وَالسَّادِس: مَا حَكَاهُ أَيْضا ابْن حزم عَن بَعضهم أَنه: لما صَحَّ الْإِجْمَاع على وجوب الهر وَالْكَلب الْمُبَاح اتِّخَاذه فِي الْمِيرَاث وَالْوَصِيَّة وَالْملك جَازَ بيعيهما، ثمَّ رده أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجَوَاب الْمُعْتَمد أَنه مَحْمُول على مَا لَا نفع فِيهِ،أَو: على أَنه نهي تَنْزِيه حَتَّى يعْتَاد النَّاس هِبته وإعارته.
    ............
    (12/70)
    امر بن شرَاحِيل الْكُوفِي التَّابِعِيّ الْكَبِير،قَالَ مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن الفداني عَن الشّعبِيّ: إِنَّه قَالَ: أدْركْت خَمْسمِائَة من أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،يَقُولُونَ: عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فِي الْجنَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ،
    ....(12/76)
    قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهَذَا الحَدِيث دَال على أَن اسْم الْجَار يَقع على غير الملاصق، لِأَنَّهُ قد يكون لَهُ جَار ملاصق وبابه من سكَّة غير سكته، وَله جَار بَينه وَبَين بَابه قدر ذراعين وَلَيْسَ بملاصق، وَهُوَ أدناهما بَابا. وَقد خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث،فَقَالَ: إِن الْجَار الملاصق إِذا ترك الشُّفْعَة وطلبها الَّذِي يَلِيهِ وَلَيْسَ لَهُ حد وَلَا طَرِيق فَلَا شُفْعَة لَهُ،وعوام الْعلمَاء يَقُولُونَ: إِذا أوصى رجل لجيرانه أعْطى اللزيق وَغَيره إلاَّ أَبَا حنيفَة،فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يعْطى إلاَّ اللزيق وَحده. انْتهى
    لت: الَّذِي قَالَ: خرج أَبُو حنيفَة عَن ظَاهر الحَدِيث، خرج عَن ظَاهر الْأَدَب، وَلَا ينْقل عَن إِمَام مثل أبي حنيفَة شَيْء مِمَّا قَالَه إلاَّ بمراعاة الْأَدَب، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ شَيْئا من بعده لَا يُسَاوِي مِقْدَاره وَلَا يدانيه لَا فِي الدّين وَلَا فِي الْعلم، وَأَبُو حنيفَة لَا يذهب إِلَى شَيْء إلاَّ بعد أَن يُحَقّق مدركه والسر فِيهِ، وَالْأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل، وَلَا يدْرِي هَذَا إلاَّ من يقف على مداركها، والسر فِي وجوب الشُّفْعَة دفع الْأَذَى من الْخَارِج، وَلِهَذَا قدم الشَّرِيك فِي نفس الْمَبِيع، ثمَّ من بعده الشَّرِيك فِي حق الْمَبِيع، ثمَّ من بعدهمَا للْجَار، وَلَا يحصل الضَّرَر فِي منع الشُّفْعَة إلاَّ للْجَار الملاصق لاتصال الجدران، وَوضع الأخشاب بَينه وَبَين صَاحب الْملك، وَلَا مُنَاسبَة بَين الْجَار الَّذِي لَهُ الشُّفْعَة وَبَين الْجَار الَّذِي أوصى إِلَيْهِ بشء، لِأَن أَمر الشُّفْعَة مَبْنِيّ على الْقَهْر، بِخِلَاف الْوَصِيَّة
    ..........
    (12/77)
    قَالَ الله تَعَالَى: {إِن خير من اسْتَأْجَرت. .} (الْقَصَص: 62) . الْآيَة. وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان فِي (تَفْسِيره) : هَذَا قَول صفوراء ابْنة شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الَّتِي تزَوجهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت توأمة عبوراء، ولدت صفوراء قبلهَا بِنصْف يَوْم، وَكَانَ بَين الْمَكَان الَّذِي سقى فِيهِ الْغنم وَبَين شُعَيْب ثَلَاثَة أَمْيَال فَمشى مَعهَا وأمرها أَن تمشي خَلفه وتدله على الطَّرِيق، كَرَاهِيَة أَن ينظر إِلَيْهَا وهما على غير جادة،فَقَالَ شُعَيْب لابنته: من أَيْن علمت قوته وأمانته؟فَقَالَت: أَزَال الْحجر عَن رَأس الْبِئْر، وَكَانَ لَا يطيقه إلاَّ رجال،وَقيل: أَرْبَعُونَ رجلا. وَذكرت أَنه أمرهَا أَن تمشي خَلفه كَرَاهَة أَن ينظر إِلَيْهَا، وسأوضح لَك هَذِه الْقِصَّة حَتَّى تقف على حَقِيقَتهَا مَعَ اخْتِصَار غير مخل.
    لما قتل مُوسَى القبطي كَمَا أخبر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، فوكزه مُوسَى فَقضى عَلَيْهِ، فَأصْبح فِي الْمَدِينَة خَائفًا يترقب الْأَخْبَار، وَأمر فِرْعَوْن الذباحين بقتل مُوسَى،فَجَاءَهُ رجل من شيعته يُقَال لَهُ: خربيل، وَكَانَ قد آمن بإبراهيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصدق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن،وَقَالَ لَهُ: إِن الْمَلأ يأتمرون بك،أَي: يتشاورون فِي قَتلك فَاخْرُج من هَذِه الْمَدِينَة إِنِّي لَك من الناصحين، فَخرج وَلم يدر أَيْن يذهب، فَجَاءَهُ ملك ودله على الطَّرِيق، فهداه إِلَى مَدين وَبَينهَا وَبَين مصر مسيرَة ثَمَانِيَة أَيَّام،وَقيل: عشرَة، وَكَانَ يَأْكُل من ورق الشّجر وَيَمْشي حافيا حَتَّى ورد مَاء مَدين وَنزل عِنْد الْبِئْر، وَإِذا بجنبه أمة من النَّاس يسقون،وَوجد من دونهم امْرَأتَيْنِ تذودان أَي: تمنعان أغنامهما عَن الِاخْتِلَاط بأغنام النَّاس،فَقَالَ لَهما: {مَا خطبكما قَالَتَا لَا نسقي حَتَّى يصدر الرعاء} (الْقَصَص: 32) . لأَنا ضعفاء لَا نقدر على مزاحمتهم {وأبونا شيخ كَبِير} (الْقَصَص: 52) . تعنيان شعيبا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور أَنه شُعَيْب النَّبِي،،وَقيل: إِنَّه ابْن أخي شُعَيْب، ذكره أَحْمد فِي (تَفْسِيره) وَذكر السُّهيْلي أَن شعيبا هُوَ شيرون بن ضيفون بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،وَيُقَال: شُعَيْب بن ملكاين،وَقيل: شيرون ابْن أخي شُعَيْب،وَقيل: ابْن عَم شُعَيْب،وَقَالَ وهب: اسْم ابْنَته الْكُبْرَى صفوراء، وَاسم الصُّغْرَى عبوراء،،وَقيل: اسْم إحديهما شرفا،وَقيل: ليا،وَالْمَقْصُود: لما جَاءَ إِلَى شُعَيْب بعد أَن فعل مَا ذكرنَا، قصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص،قَالَ: {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} (الْقَصَص: 62) . و {قَالَت إِحْدَاهمَا} (الْقَصَص: 32) . وَهِي صفوراء {يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين} (الْقَصَص: 62) . فَقَالَ لَهَا شُعَيْب، وَمَا علمك بِهَذَا؟ فَأخْبرت بِالَّذِي فعله مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ شُعَيْب: {إِنِّي أُرِيد أَن أنكحك إِحْدَى ابْنَتي هَاتين}
    ..........
    (12/82)
    (وعامل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر) مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامل يهود خَيْبَر على الْعَمَل فِي أرْضهَا إِذْ لم يُوجد من الْمُسلمين من يَنُوب منابهم فِي عمل الأَرْض فِي ذَلِك الْوَقْت وَلما قوي الْإِسْلَام اسْتغنى عَنْهُم حَتَّى أجلاهم عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَسقط بذلك قَول بَعضهم وَفِي استشهاده بِقصَّة مُعَاملَة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على أَن يزرعوها نظر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا تَصْرِيح بِالْمَقْصُودِ (قلت) كَيفَ يَنْفِي التَّصْرِيح بِالْمَقْصُودِ فِيهِ فَإِن مُعَامَلَته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يهود خَيْبَر على الزِّرَاعَة فِي معنى استئجاره إيَّاهُم صَرِيحًا
    واستأجر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل " وَهَذَا صَرِيح فِي أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبا بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ استأجرا هَذَا الرجل وَهُوَ مُشْرك إِذْ لم يجدا أحدا من أهل الْإِسْلَام وَقَول بَعضهم وَفِي استشهاده باستئجار الدَّلِيل الْمُشرك على ذَلِك نظر قَول واه صادر من غير ترو وَلَا تَأمل على مَا لَا يخفى
    ........
    (12/84)
    ش الْعسرَة " بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَهِي غَزْوَة تَبُوك وتعرف أَيْضا بالفاضحة وَقيل لَهَا الْعسرَة لِأَن الْحر كَانَ فِيهَا شَدِيدا والجدب كثيرا وَحين طابت الثِّمَار وَكَانَ النَّاس يحبونَ الْمقَام فِي ثمارهم وظلالهم وَكَانَت فِي رَجَب قَالَ ابْن سعد يَوْم الْخَمِيس وَقَالَ ابْن التِّين خرج فِي أول يَوْم من رَجَب وَرجع فِي سلخ شَوَّال وَقيل رَمَضَان من سنة تسع من الْهِجْرَة
    .............
    (12/85)
    احْتج أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين فِي أَن المعضوض إِذا جبذ يَده فَسَقَطت أَسْنَان العاض أَو فك لحييْهِ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا صال الْفَحْل على رجل فَدفعهُ فَأتى عَلَيْهِ لم يلْزمه قِيمَته وَعند مَالك يضمن المعضوض قَالَ الْقُرْطُبِيّ لم يقل أحد بِالْقصاصِ فِي ذَلِك فِيمَا علمت وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الضَّمَان فأسقطه أَبُو حنيفَة وَبَعض أَصْحَابنَا وَضَمنَهُ الشَّافِعِي وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك قَالَ وَنزل بعض أَصْحَابنَا القَوْل بِالضَّمَانِ على مَا إِذا أمكنه نزع يَده بِرِفْق فانتزعها بعنف وَحمل بعض أَصْحَابنَا الحَدِيث على أَنه كَانَ متحرك الثنايا وَقَالَ أَبُو عبد الْملك لم يَصح الحَدِيث عِنْد مَالك وَفِيه اسْتِئْجَار الْأَجِير للْخدمَة وكفاية مُؤنَة الْعَمَل فِي الْغَزْو وَغَيره سَوَاء وَأما الْقِتَال فَلَا يسْتَأْجر عَلَيْهِ لِأَن على كل مُسلم أَن يُقَاتل حَتَّى تكون كلمة الله هِيَ الْعليا

    ...........

    (12/85)
    وَقد اتّفق أهل النَّقْل على أَن مُدَّة الْيَهُود إِلَى بعثة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَت أَكثر من ألفي سنة وَمُدَّة النَّصَارَى من ذَلِك سِتّمائَة سنة وَقيل أقل فَيكون مُدَّة الْمُسلمين أَكثر من ألف قطعا (قلت) فِيهِ نظر لِأَنَّهُ صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس من طرق صِحَاح أَنه قَالَ الدُّنْيَا سَبْعَة أَيَّام كل يَوْم ألف سنة وَبعث رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْيَوْم الآخر مِنْهَا وَقد مَضَت مِنْهُ سنُون أَو مئون وَيُؤَيّد هَذَا أَيْضا حَدِيث زمل الْخُزَاعِيّ حِين قصّ على رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُؤْيَاهُ وَقَالَ فِيهَا رَأَيْتُك على مِنْبَر لَهُ سبع دَرَجَات الحَدِيث وَفِيه فِي الْمِنْبَر ودرجاته الدُّنْيَا سَبْعَة آلَاف سنة بعثت فِي آخرهَا ألفا وَقد صحّح أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ هَذَا الأَصْل بآثار
    .......
    (12/95)
    وروى إِسْحَاق فِي (مُسْنده) من طَرِيق كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: الْمُسلمُونَ على شروطهم إلاَّ شرطا حرم حَلَالا أَو أحل حَرَامًا، وَكثير ابْن عبد الله ضَعِيف عِنْد الْأَكْثَرين إلاَّ أَن البُخَارِيّ قوي أمره وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة،وَفِي بعض نسخ البُخَارِيّ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) ،وَقيل: ظن ابْن التِّين أَن قَوْله: وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ على شروطهم) بَقِيَّة كَلَام ابْن سِيرِين، فشرح على ذَلِك، فَوَهم وَقد اعْترض عَلَيْهِ الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي وَغَيره.
    ........
    (12/93)
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَخذ الْأجر على الرّقية بِالْفَاتِحَةِ، وَفِي أَخذه على التَّعْلِيم، فَأَجَازَهُ عَطاء وَأَبُو قلَابَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر، وَنَقله الْقُرْطُبِيّ عَن أبي حنيفَة فِي الرّقية، وَهُوَ قَول إِسْحَاق. وَكره الزُّهْرِيّ تَعْلِيم الْقُرْآن بِالْأَجْرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يَأْخُذ الْأجر على تَعْلِيم الْقُرْآن، وَقَالَ الْحَاكِم من أَصْحَابنَا فِي كِتَابه (الْكَافِي) : وَلَا يجوز أَن يسْتَأْجر رجل رجلا أَن يعلم وَلَده الْقُرْآن وَالْفِقْه والفرائض أَو يؤمهم رَمَضَان أَو يُؤذن، وَفِي (خُلَاصَة الْفَتَاوَى) نَاقِلا عَن الأَصْل: لَا يجوز الِاسْتِئْجَار على الطَّاعَات كتعليم الْقُرْآن وَالْفِقْه وَالْأَذَان والتذكير والتدريس وَالْحج والغزو،يَعْنِي: لَا يجب الْأجر،وَعند أهل الْمَدِينَة: يجوز، وَبِه أَخذ الشَّافِعِي ونصير وعصام، وَأَبُو نصر الْفَقِيه وَأَبُو اللَّيْث رَحِمهم الله. وَالْأَصْل الَّذِي بنى عَلَيْهِ حُرْمَة الِاسْتِئْجَار على هَذِه الْأَشْيَاء: أَن كل طَاعَة يخْتَص بهَا الْمُسلم لَا يجوز الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء طَاعَة وقربة تقع على الْعَامِل
    .......
    _(12/95)
    مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (شعب الْإِيمَان) من حَدِيث سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْقُرْآن يَأْكُل بِهِ النَّاس جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَوَجهه عَظمَة لَيْسَ عَلَيْهِ لحم) . وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن يرفعهُ: (اقرأوا الْقُرْآن وسلوا الله بِهِ، فَإِن من بعدكم قوم يقرأون الْقُرْآن يسْأَلُون النَّاس بِهِ) . وَذكر ابْن بطال من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي جرهم عَن أبي هُرَيْرَة،قلت: (يَا رَسُول الله {مَا تَقول فِي المعلمين؟ قَالَ} أجرهم حرَام) وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس،مَرْفُوعا: (لَا تستأجروا المعلمين) وَهَذَا غير صَحِيح، وَفِي إِسْنَاده أَحْمد بن عبد الله الْهَرَوِيّ،قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: دجال يضع الحَدِيث، وَوَافَقَهُ صَاحب التَّنْقِيح، وَهَذِه الْأَحَادِيث، وَإِن كَانَ فِي بَعْضهَا مقَال، لَكِنَّهَا يُؤَكد بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا سِيمَا حَدِيث الْقوس، فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا ذكرنَا، وَإِذا تعَارض نصان أَحدهمَا مُبِيح وَالْآخر محرم يدل على النّسخ
    ..........
    (12/96)
    وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَيجوز الْأجر على الرقى وَإِن كَانَ يدْخل فِي بعضه الْقُرْآن، لِأَنَّهُ لَيْسَ على النَّاس أَن يرقي بَعضهم بَعْضًا، وَتَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا الْقُرْآن وَاجِب، لِأَن فِي ذَلِك التَّبْلِيغ عَن الله تَعَالَى، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَول الطَّحَاوِيّ هَذَا غلط، لِأَن تعلمه لَيْسَ بِفَرْض، فَكيف تَعْلِيمه؟ وَإِنَّمَا الْفَرْض الْمعِين مِنْهُ على كل أحد مَا تقوم بِهِ الصَّلَاة، وَغير ذَلِك فَضِيلَة ونافلة، وَكَذَلِكَ تَعْلِيم النَّاس بَعضهم بَعْضًا، لَيْسَ بِفَرْض مُتَعَيّن عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا هُوَ على الْكِفَايَة، وَلَا فرق بَين الْأُجْرَة فِي الرقي وعَلى تَعْلِيم الْقُرْآن، لِأَن ذَلِك كُله مَنْفَعَة. انْتهى. قلت: هَذَا كَلَام صادر بقلة الْأَدَب وَعدم مُرَاعَاة أدب الْبَحْث، سَوَاء كَانَ هَذَا الْكَلَام مِنْهُ أَو هُوَ نَقله
    ...........
    (12/100)
    عْلَم أَن طَبَقَات أَنْسَاب الْعَرَب سِتّ الشّعب بِفَتْح الشين وَهُوَ النّسَب الْأَبْعَد كعدنان مثلا وَهُوَ أَبُو الْقَبَائِل الَّذين ينسبون إِلَيْهِ وَيجمع على شعوب والقبيلة وَهِي مَا انقسم بِهِ الشّعب كربيعة وَمُضر والعمارة بِكَسْر الْعين وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْقَبِيلَة كقريش وكنانة وَيجمع على عمارات وعمائر والبطن وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْعِمَارَة كبني عبد منَاف وَبني مَخْزُوم وَيجمع على بطُون وأبطن والفخذ وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْبَطن كبني هَاشم وَبني أُميَّة وَيجمع على أفخاذ والفصيلة بالصَّاد الْمُهْملَة وَهِي مَا انقسم فِيهِ أَنْسَاب الْفَخْذ كبني الْعَبَّاس وَأكْثر مَا يَدُور على الْأَلْسِنَة من الطَّبَقَات الْقَبِيلَة ثمَّ الْبَطن وَرُبمَا عبر عَن كل وَاحِد من الطَّبَقَات السِّت بالحي إِمَّا على الْعُمُوم مثل أَن يُقَال حَيّ من الْعَرَب وَإِمَّا على الْخُصُوص مثل أَن يُقَال حَيّ من بني فلَان
    ......
    (12/100)
    يهِ جَوَاز الرّقية بِشَيْء من كتاب الله تَعَالَى وَيلْحق بِهِ مَا كَانَ من الدَّعْوَات المأثورة أَو مِمَّا يشابهها وَلَا يجوز بِأَلْفَاظ مِمَّا لَا يعلم مَعْنَاهَا من الْأَلْفَاظ الْغَيْر الْعَرَبيَّة وَفِيه خلاف فَقَالَ الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة آخَرُونَ يكره الرقي وَالْوَاجِب على الْمُؤمن أَن يتْرك ذَلِك اعتصاما بِاللَّه تَعَالَى وتوكلا عَلَيْهِ وثقة بِهِ وانقطاعا إِلَيْهِ
    يهِ جَوَاز الرّقية بِشَيْء من كتاب الله تَعَالَى وَيلْحق بِهِ مَا كَانَ من الدَّعْوَات المأثورة أَو مِمَّا يشابهها وَلَا يجوز بِأَلْفَاظ مِمَّا لَا يعلم مَعْنَاهَا من الْأَلْفَاظ الْغَيْر الْعَرَبيَّة وَفِيه خلاف فَقَالَ الشّعبِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير وَجَمَاعَة آخَرُونَ يكره الرقي وَالْوَاجِب على الْمُؤمن أَن يتْرك ذَلِك اعتصاما بِاللَّه تَعَالَى وتوكلا عَلَيْهِ وثقة بِهِ وانقطاعا إِلَيْهِ
    ......
    (12/100)
    أَن سُورَة الْفَاتِحَة فِيهَا شِفَاء وَلِهَذَا من أسمائها الشافية وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي سعيد مَرْفُوعا فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من كل سقم وَلأبي دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود مرض الْحسن أَو الْحُسَيْن فَنزل جِبْرَائِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأمره أَن يقْرَأ الْفَاتِحَة على إِنَاء من المَاء أَرْبَعِينَ مرّة فَيغسل يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَرَأسه وَقَالَ ابْن بطال مَوضِع الرّقية مِنْهَا إياك نستعين وَعبارَة الْقُرْطُبِيّ موضعهَا إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين وَالظَّاهِر أَنَّهَا كلهَا رقية لقَوْله وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية وَلم يقل فِيهَا فَيُسْتَحَب قرَاءَتهَا على اللديغ وَالْمَرِيض وَصَاحب العاهة
    ..........
    (12/103)
    وَقد اخْتلف أهل اللُّغَة فِيهِ: هَل هُوَ الضراب أَو الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ عَلَيْهِ أَو مَاء الْفَحْل؟فَحكى أَبُو عبيد عَن الْأمَوِي: أَنه الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ على ضراب الْفَحْل، وَبِه صدر الْجَوْهَرِي كَلَامه فِي (الصِّحَاح) ،ثمَّ قَالَ: وعسب الْفَحْل أَيْضا ضرابه. وَيُقَال: مَاؤُهُ، وَصدر صَاحب (الْمُحكم) كَلَامه بِأَن العسب: ضراب الْفَحْل،ثمَّ قَالَ: عسب الرجل يعسبه عسبا أعطَاهُ،وَقَالَ أَبُو عبيد: العسب فِي الحَدِيث الْكِرَاء، وَالْأَصْل فِيهِ الضراب. قَالَ: وَالْعرب تسمي الشَّيْء باسم غَيره إِذا كَانَ مَعَه، أَو من سَببه،كَمَا قَالُوا للمزادة: راوية،والراوية: الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ،قَالَ شَيخنَا: وَيدل على مَا قَالَه أَبُو عبيد رِوَايَة الشَّافِعِي: (نهى عَن ثمن بيع عسب الْفَحْل) ،وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْمَشْهُور فِي الفقهيات أَن العسب الضراب،وَقَالَ الْغَزالِيّ: هُوَ النُّطْفَة.
    ......
    (12/105)
    وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث، فَكرِهت طَائِفَة أَن يسْتَأْجر الْفَحْل لينزيه مُدَّة مَعْلُومَة بِأَجْر مَعْلُوم، وَذَلِكَ عَن أبي سعيد والبراء،وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى: إِنَّه لَا يجوز، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس أَن رجلا من كلاب سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن عسب الْفَحْل فَنَهَاهُ،فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّا نطرق الْفَحْل فنركم، فَرخص فِي الْكَرَامَة،ثمَّ قَالَ: حسن غَرِيب.
    وَفِيه: جَوَاز قبُول الْكَرَامَة على عسب الْفَحْل وَإِن حرم بَيْعه وإجارته، وَبِه صرح أَصْحَاب الشَّافِعِي،وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَيجوز أَن يُعْطي صَاحب الْأُنْثَى صَاحب الْفَحْل شَيْئا على سَبِيل الْهَدِيَّة، خلافًا لِأَحْمَد، انْتهى. وَمَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد قد حُكيَ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ، فروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَادِهِ إِلَى مَسْرُوق،قَالَ: سَأَلت عبد الله عَن السُّحت؟قَالَ: الرجل يطْلب الْحَاجة فيهدى إِلَيْهِ فيقبلها،وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَن رجلا سَأَلَهُ أَنه تقبل رجلا أَي: صمنه، فَأعْطَاهُ دَرَاهِم وَحمله وكساه،فَقَالَ: أَرَأَيْت لَو لم تقبله أَكَانَ يعطيك؟قَالَ: لَا،قَالَ: لَا يصلح لَك، وروى أَيْضا عَن أبي مَسْعُود، عقبَة بن عَمْرو، وَأَنه أَتَى إِلَى أَهله، فَإِذا هَدِيَّة،فَقَالَ: مَا هَذَا؟فَقَالُوا: الَّذِي شفعت لَهُ،فَقَالَ: أخرجوها أتعجل أجر شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كلم عليا فِي حَاجَة دهقان، فَبعث إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بِأَرْبَعِينَ ألفا،فَقَالَ: ردوهَا عَلَيْهِ، فَإنَّا أهل بَيت لَا نبيع الْمَعْرُوف. وَقد رُوِيَ نَحْو هَذَا فِي حَدِيث مَرْفُوع،
    رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من رِوَايَة خَالِد بن أبي عمرَان عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: من شفع لِأَخِيهِ شَفَاعَة فأهدى لَهُ هَدِيَّة عَلَيْهَا، فقد أَتَى بَابا عَظِيما من أَبْوَاب الرِّبَا،وَهَذَا معنى مَا ورد: كل قرض جر مَنْفَعَة فَهُوَ رَبًّا، وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : من حَدِيث أبي عَامر الْهَوْزَنِي عَن أبي كَبْشَة الْأَنمَارِي: أَنه أَتَاهُ فَقَالَ: أطرقني فرسك، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،يَقُول: من أطرق فرسا فعقب لَهُ كَانَ لَهُ كَأَجر سبعين فرسا حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وَإِن لم يعقب كَانَ لَهُ كَأَجر فرس حمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله.
    ........

    (12/115)
    فَسَأَلَهُ حَمْزَة عَن أمرهَا وقولهما: فَأخْبر أَن ذَلِك الرجل زوج تِلْكَ الْمَرْأَة، وَأَنه وَقع على جَارِيَة لَهَا، فَولدت ولدا فأعتقته امْرَأَته،قَالُوا: فَهَذَا المَال لِابْنِهِ من جاريتها، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة لأرجمنك بِالْحِجَارَةِ،فَقيل لَهُ: أصلحك الله، إِن أمره قد رفع إِلَى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فجلده عمر مائَة وَلم ير عَلَيْهِ الرَّجْم، فَأخذ حَمْزَة بِالرجلِ كَفِيلا حَتَّى يقدم على عمر فيسأله عَمَّا ذكر من جلد عمر إِيَّاه وَلم ير عَلَيْهِ رجما، فَصَدَّقَهُمْ عمر بذلك، من قَوْلهم،وَقَالَ: إِنَّمَا دَرأ عَنهُ الرَّجْم عذره بالجهالة. انْتهى.
    وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ شَاهد لمَذْهَب مَالك فِي مُجَاوزَة الإِمَام فِي التَّعْزِير قدر الْحَد، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فعل صَحَابِيّ عَارضه مَرْفُوع صَحِيح فَلَا حجَّة فِيهِ.
    قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْعلمَاء،فمذهب مَالك وَأبي ثَوْر وَأبي يُوسُف فِي قَول الطَّحَاوِيّ: إِن التَّعْزِير لَيْسَ لَهُ مِقْدَار مَحْدُود، وَيجوز للْإِمَام أَن يبلغ بِهِ مَا رَآهُ وَأَن يتَجَاوَز بِهِ الْحُدُود. وَقَالَت طَائِفَة: التَّعْزِير مائَة جلدَة فَأَقل. وَقَالَت طَائِفَة: أَكثر التَّعْزِير مائَة جلدَة إلاَّ جلدَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره تِسْعَة وَتسْعُونَ سَوْطًا فَأَقل، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى، وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره ثَلَاثُونَ سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره
    عشرُون سَوْطًا. وَقَالَت طَائِفَة: لَا يتَجَاوَز بالتعزير تِسْعَة، وَهُوَ بعض قَول الشَّافِعِي. وَقَالَت طَائِفَة: أَكْثَره عشرَة أسواذ فَأَقل لَا يتَجَاوَز بِهِ أَكثر من ذَلِك، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَاب الظَّاهِر، وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يجلد فَوق عشر جلدات إلاَّ فِي حد من حُدُود الله) ، بِأَنَّهُ فِي حق من يرتدع بالردع، ويؤثر فِيهِ أدنى الزّجر كأشراف النَّاس وأشراف أَشْرَافهم، وَأما السفلة وأسقاط النَّاس فَلَا يُؤثر فيهم عشر جلدات وَلَا عشرُون، فيعزرهم الإِمَام بِحَسب مَا يرَاهُ،وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ حَدِيث حَمْزَة بن عَمْرو الْمَذْكُور فِي: بَاب الرجل يَزْنِي بِجَارِيَة امْرَأَته،فروى فِي أول الْبَاب حَدِيث سَلمَة بن المحبق: أَن رجلا زنى بِجَارِيَة امْرَأَته، فَقَالَ النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن كَانَ استكرهها فَهِيَ حرَّة وَعَلِيهِ مثلهَا، وَإِن كَانَت طاوعة فَهِيَ لَهُ وَعَلِيهِ مثلهَا)
    ثمَّ أجابوا عَن حَدِيث سَلمَة بن المحبق أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير،رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَلَفظ أبي دَاوُد: أَن رجلا يُقَال لَهُ عبد الرَّحْمَن بن حنين وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَرفع إِلَى النُّعْمَان بن بشير، وَهُوَ أَمِير على الْكُوفَة،فَقَالَ: لأقضين فِيك بقضية رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن كَانَت أحلَّتها لَك جلدتك مائَة، وَإِن لم تكن أحلَّتها لَك رَجَمْتُك بِالْحِجَارَةِ، فوجدوها أحلَّتها لَهُ، فجلده مائَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَثَبت بِهَذَا مَا رَوَاهُ سَلمَة بن المحبق،قَالُوا: قد عمل عبد الله بن مَسْعُود بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا فِي حَدِيث سَلمَة فَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بقوله: وَخَالفهُ فِي ذَلِك حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، وسَاق حَدِيثه على مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا،وَقَالَ أَيْضا: وَقد أنكر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا قَضَاءَهُ بِمَا قد نسخ،
    قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَثَبت بِهَذَا مَا رَوَاهُ سَلمَة بن المحبق،قَالُوا: قد عمل عبد الله بن مَسْعُود بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا فِي حَدِيث سَلمَة فَأجَاب الطَّحَاوِيّ عَن هَذَا بقوله: وَخَالفهُ فِي ذَلِك حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، وسَاق حَدِيثه على مَا ذَكرْنَاهُ آنِفا،وَقَالَ أَيْضا: وَقد أنكر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا قَضَاءَهُ بِمَا قد نسخ،فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن الْحسن،قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَاصِم عَن خَالِد الْحذاء عَن مُحَمَّد بن سِيرِين،قَالَ: ذكر لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شَأْن الرجل الَّذِي أَتَى ابْن مَسْعُود وَامْرَأَته، وَقد وَقع على جَارِيَة امْرَأَته، فَلم ير عَلَيْهِ حدا،فَقَالَ عَليّ: لَو أَتَانِي صَاحب ابْن أم عبد لرضخت رَأسه بِالْحِجَارَةِ، لم يدرِ ابْن أم عبد مَا حدث بعده، فَأخْبر عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن ابْن مَسْعُود تعلق فِي ذَلِك بِأَمْر قد كَانَ ثمَّ نسخ بعده، فَلم يعلم ابْن مَسْعُود بذلك، وَقد خَالف عَلْقَمَة بن قيس النَّخعِيّ عَن عبد الله ابْن مَسْعُود فِي الحكم الْمَذْكُور، وَذهب إِلَى قَول من خَالف عبد الله، وَالْحَال أَن عَلْقَمَة أعلم أَصْحَاب عبد الله بِعَبْد الله وأجلهم، فَلَو لم يثبت نسخ مَا كَانَ ذهب إِلَيْهِ عبد الله لما خَالف قَوْله، مَعَ جلالة قدر عبد الله عِنْده.

    ...........
    (12/115)
    خْتَصر من قصَّة أخرجَا الْبَيْهَقِيّ بِطُولِهَا من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن حَارِثَة بن مضرب،قَالَ: صليت الْغَدَاة مَعَ عبد الله بن مَسْعُود، فَلَمَّا سلم قَامَ رجل فَأخْبرهُ أَنه انْتهى إِلَى مَسْجِد بني حنيفَة، فَسمع مُؤذن عبد الله بن نواحة يشْهد أَن مُسَيْلمَة رَسُول الله،فَقَالَ عبد الله: عَليّ بِابْن النواحة وَأَصْحَابه، فجيء بهم، فَأمر قُرَيْظَة بن كَعْب فَضرب عنق ابْن النواحة، ثمَّ اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفر، فَأَشَارَ إِلَيْهِ عدي بن حَاتِم بِقَتْلِهِم،فَقَامَ جرير والأشعث فَقَالَا: بل استتبهم وكفلهم عَشَائِرهمْ، وروى ابْن أبي شيبَة من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم أَن عدَّة الْمَذْكُورين كَانُوا مائَة وَسبعين رجلا،وَمعنى التكفيل هُنَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي حديطث حَمْزَة بن عَمْرو: الضَّبْط والتعهد حَتَّى لَا يرجِعوا إِلَى الارتداد، لَا أَنه كَفَالَة لَازِمَة.
    وَقَالَ حَمَّادٌ إذَا تَكَفَّلَ بِنَفْسٍ فَمات فَلا شَيْءَ علَيْهِ وَقَالَ الحَكَمُ يَضْمَن
    .....
    (12/117)
    {وَلكُل جعلنَا موَالِي} (النِّسَاء: 33) . أَي: وَرَثَة. وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة: أَي عصبَة،وَقَالَ ابْن جرير: الْعَرَب تسمي ابْن الْعم مولى،وَقَالَ الزّجاج: الْمولى كل من يليك وكل من والاك فِي محبَّة فَهُوَ مولى لَك. قلت: لفظ الْمولى مُشْتَرك يُطلق على معانٍ كَثِيرَة، يُطلق على الْمُنعم والمعتِق والمعتَق وَالْجَار والناصر والصهر والرب وَالتَّابِع، وَزَاد ابْن الباقلاني فِي (مَنَاقِب الْأَئِمَّة) : الْمَكَان والقرار، وَأما بِمَعْنى الْوَلِيّ فكثير، وَلَا يعرف فِي اللُّغَة بِمَعْنى الإِمَام. قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . قَالَ البُخَارِيّ فِي التَّفْسِير: عاقدت، هُوَ مولى الْيَمين وَهُوَ الْحلف، وَذكر ابْن أبي حَاتِم عَن سعيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَجَمَاعَة آخَرين أَنهم الحلفاء،وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أَنبأَنَا الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 33) . قَالَ: كَانَ هَذَا حلفا فِي الْجَاهِلِيَّة.
    ........
    (12/118)
    {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} (الْأَنْفَال: 57) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر وَابْنه عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، حِين أَبى الْإِسْلَام، فَحلف أَبُو بكر أَن لَا يورثه. فَلَمَّا أسلم أمره الله عز وَجل: أَن يورثه نصِيبه.
    .......
    (12/119)
    الْعَهْد يكون بَين الْقَوْم،وَالْمعْنَى: أَنهم لَا يتعاهدون فِي الْإِسْلَام على الْأَشْيَاء الَّتِي كَانُوا يتعاهدون عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة،وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن إبيه عَن جُبَير ابْن مطعم مَرْفُوعا: لَا حلف فِي الأسلام، وَإِنَّمَا حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة،وَقَالَ ابْن سَيّده: معنى لَا حلف فِي الْإِسْلَام أَي: لَا تعاهد على فعل شَيْء كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتعاهدون، والمحالفة فِي حَدِيث أنس هِيَ الإخاء، قَالَه ابْن التِّين. قَالَ: وَذَلِكَ أَن الْحلف فِي الْجَاهِلِيَّة هُوَ بِمَعْنى النُّصْرَة فِي الْإِسْلَام. وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِي (التَّهْذِيب) : فَإِن قيل: قد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حلف فِي الْإِسْلَام) ،وَهُوَ يُعَارض قَول أنس: حَالف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار فِي دَاري بِالْمَدِينَةِ،قيل لَهُ: هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَالَ: وَالَّذِي قَالَ فِيهِ مَا كَانَ من حلف فَلَنْ يزِيدهُ الْإِسْلَام إلاَّ شدَّة،يَعْنِي: مَا لم ينسخه الْإِسْلَام وَلم يُبطلهُ حكم الْقُرْآن، وَهُوَ التعاون على الْحق والنصرة وَالْأَخْذ على يَد الظَّالِم.
    .......

    ويليه كتاب " الوكالة "

  14. #254
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الخميس
    الموافق : 19/ ربيع الأول /1442 هجري
    الموافق : 5/ نوفمبر /2020 ميلادي

    تابع " ملخص كتاب " عمدة القاري " لبدر الدين العيني رحمه الله

    (12/133)
    لقهرمان،بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْهَاء وَفتح الرَّاء وَتَخْفِيف الْمِيم وَفِي آخِره نون: وَهُوَ خَادِم الشَّخْص الْقَائِم بِقَضَاء حَوَائِجه، وَهُوَ لُغَة فارسية.
    .......
    (12/134)
    فِي الْفَصْل الأول: حوار، ثمَّ الفصيل إِذا فصل، فَإِذا دخل فِي السّنة الثَّانِيَة فَهُوَ ابْن مَخَاض أَو ابْنة مَخَاض، فَإِذا دخل فِي الثَّالِثَة فَهُوَ ابْن لبون أَو بنت لبون، فَإِذا دخل فِي الرَّابِعَة فَهُوَ حق أَو حقة، فَإِذا دخل فِي الْخَامِسَة فَهُوَ جذع أَو جَذَعَة، فَإِذا دخل فِي السَّادِسَة فَهُوَ ثني أَو ثنية، فَإِذا دخل فِي السَّابِعَة فَهُوَ رباعي أَو ربَاعِية، فَإِذا دخل فِي الثَّامِنَة فَهُوَ سديس أَو سدس، فَإِذا دخل فِي التَّاسِعَة فَهُوَ بازل، فَإِذا دخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ مخلف، ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم بعد ذَلِك،وَلَكِن يُقَال: بازل عَام، وبازل عَاميْنِ، ومخلف عَام، ومخالف عَاميْنِ، ومخلف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَى خمس سِنِين، حَكَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأبي عبيد والرياشي.
    .......
    (12/134)
    وْكِيل الْحَاضِر الصَّحِيح على قَول عَامَّة الْفُقَهَاء،وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يجوز ذَلِك وَإِن لم يرض خَصمه إِذا لم يكن الْوَكِيل عدوا للخصم، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على أبي حنيفَة فِي قَوْله: إِنَّه لَا يجوز تَوْكِيل الْحَاضِر بِالْبَلَدِ الصَّحِيح الْبدن إلاَّ برضى خَصمه أَو عذر مرض أَو سفر ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا الحَدِيث خلاف قَوْله، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَصْحَابه أَن يقضوا عَنهُ السن الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَوْكِيل مِنْهُ لَهُم على ذَلِك، وَلم يكن، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، غَائِبا وَلَا مَرِيضا وَلَا مُسَافِرًا؟قلت: لَيْسَ الحَدِيث بِحجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي الْجَوَاز،وَلَكِن يَقُول: لَا يلْزم،يَعْنِي: لَا يسْقط حق الْخصم فِي طلب الْحُضُور وَالدَّعْوَى وَالْجَوَاب بِنَفسِهِ، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى فِي الْأَصَح، وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا، وَاسْتحْسن بعض أَصْحَابنَا أَنَّهَا توكل إِذا كَانَت غير بَرزَة. وَفِيه: جَوَاز الْأَخْذ بِالدّينِ، وَلَا يخْتَلف الْعلمَاء فِي جَوَازه عِنْد الْحَاجة وَلَا يتَعَيَّن طَالبه. وَفِيه: حجَّة من قَالَ بِجَوَاز قرض الْحَيَوَان،وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَقَالَ القَاضِي: أجَاز جُمْهُور الْعلمَاء استسلاف سَائِر الْأَشْيَاء من الْحَيَوَان وَالْعرُوض، واستثنيت من ذَلِك الْحَيَوَان لِأَنَّهُ قد يردهَا بِنَفسِهِ، فَحِينَئِذٍ يكون عَارِية الْفروج، وَأَجَازَ ذَلِك بعض أَصْحَابنَا بِشَرْط أَن يردهَا غَيرهَا، وَأَجَازَ استقراض الْجَوَارِي الطَّبَرِيّ والمزني، وَرُوِيَ عَن دَاوُد الْأَصْبَهَانِي ّ،وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ ابْن حبيب وَأَصْحَابه وَالْأَوْزَاعِي ّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ: يجوز استقراض الْحَيَوَان كُله إلاَّ الْإِمَاء،وَعند مَالك: إِن اسْتقْرض أمة وَلم يَطَأهَا ردهَا بِعَينهَا
    .......
    (12/142)
    وَفِي (الرَّوْضَة) : لَيْسَ للصداق حد مُقَدّر بل كل مَا جَازَ أَن يكون ثمنا ومثمنا أَو أُجْرَة جَازَ جعله صَدَاقا، وَبِه قَالَ أَحْمد،وَمذهب مَالك: أَنه لَا يرى فِيهِ عددا معينا، بل يجوز بِكُل مَا وَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق،غير أَنه يكون مَعْلُوما: وَعَن مَالك: لَا يجوز بِأَقَلّ من ربع دِينَار،وَقَالَ ابْن حزم: وَجَائِز أَن يكون صَدَاقا كل مَا لَهُ نصف، قل أَو كثر، وَلَو أَنه حَبَّة بر أَو حَبَّة شعير أَو غير ذَلِك،وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: أكره أَن يكون الْمهْر مثل أجر الْبَغي، وَلَكِن الْعشْرَة وَالْعشْرُونَ. وَعنهُ: السّنة فِي النِّكَاح الرطل من الْفضة،وَعَن الشّعبِيّ: أَنهم كَانُوا يكْرهُونَ أَن يتَزَوَّج الرجل على أقل من ثَلَاث أواقي. وَعَن سعيد بن جُبَير: أَنه كَانَ يحب أَن يكون الصَدَاق خمسين درهما،وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز أَن يكون الصَدَاق أقل من عشرَة دَرَاهِم
    قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا مهر بِأَقَلّ من عشرَة دَرَاهِم، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ ذَلِك توقيفا، لِأَنَّهُ بَاب لَا يُوصل إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس فَإِن قلت. قَالَ ابْن حزم: الرِّوَايَة عَن عَليّ بَاطِلَة لِأَنَّهَا عَن دَاوُد بن يزِيد الزعافري الأودي وَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط، ثمَّ هِيَ مُرْسلَة لِأَن الشّعبِيّ لم يسمع من عَليّ حَدِيثا. قلت: قَالَ ابْن عدي: لم أر حَدِيثا مُنْكرا جَاوز الْحَد، إِذْ روى عَنهُ ثِقَة، وَإِن كَانَ لَيْسَ بِقَوي
    ........
    (12/143)
    احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، والظاهرية على أَن: التَّزْوِيج على سُورَة من الْقُرْآن مُسَمَّاة جَائِز، وَعَلِيهِ أَن يعلمهَا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور: قد ذهب الشَّافِعِي إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: إِن لم يكن شَيْء يصدقها وَتَزَوجهَا على سُورَة من الْقُرْآن فَالنِّكَاح جَائِز، وَيعلمهَا السُّورَة من الْقُرْآن. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: النِّكَاح جَائِز وَيجْعَل لَهَا صدَاق مثلهَا. وَهُوَ قَول أهل الْكُوفَة وَأحمد وَإِسْحَاق. قلت: وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْن ِ وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن الجووزي: فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن تَعْلِيم الْقُرْآن يجوز أَن يكون صَدَاقا، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَن أَحْمد، وَالْأُخْرَى: لَا يجوز
    ..........
    (12:152)
    حد الشّرْب أخف الْحُدُود، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَفِيه: أَن حد الْخمر لَا يستأنى فِيهِ الْإِقَامَة كَحَد الْحَامِل لتَضَع الْحمل. وَفِيه: إِقَامَة الْحُدُود وَالضَّرْب بالنعال والجريد، وَكَانَ ذَلِك فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رتبه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثَمَانِينَ.
    ...........
    كتاب المزراعة "
    (12/155)
    أَن الزِّرَاعَة أفضل المكاسب، وَاخْتلف فِي أفضل المكاسب، فَقَالَ النَّوَوِيّ: أفضلهَا الزِّرَاعَة، وَقيل: أفضلهَا الْكسْب بِالْيَدِ، وَهِي الصَّنْعَة، وَقيل: أفضلهَا التِّجَارَة، وَأكْثر الْأَحَادِيث تدل على أَفضَلِيَّة الْكسْب بِالْيَدِ. وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث أبي بردة، قَالَ: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الْكسْب أطيب؟ قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ وكل بيع مبرور) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَقد يُقَال: هَذَا أطيب من حَيْثُ الْحل، وَذَاكَ أفضل من حَيْثُ الِانْتِفَاع الْعَام، فَهُوَ نفع مُتَعَدٍّ إِلَى غَيره، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يخْتَلف الْحَال فِي ذَلِك باخْتلَاف حَاجَة النَّاس، فَحَيْثُ كَانَ النَّاس مُحْتَاجين إِلَى الأقوات أَكثر، كَانَت الزِّرَاعَة أفضل، للتوسعة على النَّاس، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى المتجر لانْقِطَاع الطّرق كَانَت التِّجَارَة أفضل، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى الصَّنَائِع أَشد، كَانَت الصَّنْعَة أفضل، وَهَذَا حسن
    ...........
    (12/156)
    ن الْغَرْس وَالزَّرْع واتخاذ الصَّنَائِع مُبَاح وَغير قَادِح فِي الزّهْد، وَقد فعله كثير من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ذهلب قوم من المتزهدة إِلَى أَن ذَلِك مَكْرُوه وقادح فِي الزّهْد، ولعلهم تمسكوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا: (لَا تَتَّخِذُوا الضَّيْعَة فتركنوا إِلَى الدُّنْيَا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا فِي (صَحِيحه) . وَأجِيب بِأَن هَذَا النَّهْي مَحْمُول على الاستكثار من الضّيَاع والانصراف إِلَيْهَا بِالْقَلْبِ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الركون إِلَى الدُّنْيَا. وَأما إِذا اتخذها غير مستكثر وقلل مِنْهَا، وَكَانَت لَهُ كفافاً وعفافاً، فَهِيَ مُبَاحَة غير قادحة فِي الزّهْد، وسبيلها كسبيل المَال الَّذِي اسْتَثْنَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (إلاَّ من أَخذه بِحقِّهِ وَوَضعه فِي حَقه) .
    ...........
    (12/158)
    من اتخذ كَلْبا إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو صيد أَو زرع انْتقصَ من أجره كل يَوْم قِيرَاط) . قَالَ الزُّهْرِيّ: فَذكر لِابْنِ عمر قَول أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة، كَانَ صَاحب زرع. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ ابْن عمر بقوله: يرحم الله أَبَا هُرَيْرَة كَانَ صَاحب زرع؟ قلت: قيل: أنكر زِيَادَة الزَّرْع عَلَيْهِ، والأحوط أَن يُقَال: إِنَّه أَرَادَ بذلك الْإِشَارَة إِلَى تثبيت رِوَايَة أبي هُرَيْرَة، وَأَن سَبَب حفظه لهَذِهِ الزِّيَادَة دون غَيره أَنه كَانَ صَاحب زرع، مشتغلاً بِشَيْء يحْتَاج إِلَى معرفَة أَحْكَامه، وَمَعَ هَذَا جَاءَ لفظ: زرع، فِي حَدِيث ابْن عمر، فِي رِوَايَة مُسلم على مَا نذكرها الْآن، وروى مُسلم أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا، إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو ضارية، نقص من عمله كل يَوْم قِيرَاط) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب صيد وماشية، نقص من أجره كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن دِينَار: أَنه سمع ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اقتنى كَلْبا إلاَّ كلب ضارية أَو مَاشِيَة. نقص من عمله كل يَوْم قيراطان) . وروى أَيْضا من حَدِيث سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّمَا أهل دَار اتَّخذُوا كَلْبا، إلاَّ كلب مَاشِيَة أَو كلب صائد، نقص من عمله كل يَوْم قيراطان)
    وَاخْتلفُوا فِي سَبَب النَّقْص، فَقيل: امْتنَاع الْمَلَائِكَة من دُخُول بَيته، أَو مَا يلْحق المارين من الْأَذَى، أَو ذَلِك عُقُوبَة لَهُم لاتخاذهم مَا نهى عَن اتِّخَاذه، أَو لِكَثْرَة أكله للنجاسات، أَو لكَرَاهَة رائحتها، أَو لِأَن بَعْضهَا شَيْطَان، أَو لولوغه فِي الْأَوَانِي عِنْد غَفلَة صَاحبهَا.
    .........
    (12/160)
    زْد شنُوءَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة، وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْهمزَة، قَالَ بَعضهم: وَهِي قَبيلَة مَشْهُورَة نسبوا إِلَى شنُوءَة، واسْمه الْحَارِث بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد. قلت: قَالَ ابْن هِشَام: وشنوءة هُوَ عبد الله بن كَعْب بن عبد الله بن مَالك بن نصر بن الأزد، فَدلَّ على أَن اسْم شنُوءَة: عبد الله، لَا: الْحَارِث، والمرجع فِيهِ إِلَى ابْن هِشَام وَأَمْثَاله، لَا إِلَى غَيرهم. قَالَ الرشاطي: وَإِنَّمَا قيل: أَزْد شنُوءَة، لشنآن كَانَ بَينهم، والشنآن: البغض. قَالَ يَعْقُوب: والنسبه إِلَيْهِ شنئي. قَالَ: وَيُقَال: شنوة، بتَشْديد الْوَاو غير مَهْمُوز، وينسب إِلَيْهِ: الشنوي. وَيُقَال أَيْضا فِي النِّسْبَة إِلَى شنُوءَة: شنائي، وَيُقَال: الشني
    ........
    الَ ابْن الْأَثِير: الباقورة الْبَقر بلغَة أهل الْيمن، وَفِي الصَّدَقَة لأهل الْيمن فِي ثَلَاثِينَ باقورة: بقرة: وَقَالَ الْجَوْهَرِي: البقير، جمَاعَة الْبَقر.
    .........
    (12/160)
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع: يتركون الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت لَا يَغْشَاهَا إلاَّ العوافي، يُرِيد السبَاع وَالطير. قَالَ: وَهَذَا لم نسْمع بِهِ، وَلَا بُد من وُقُوعه.
    ..........
    (12/161)
    وَقَالَ ابْن الْمُهلب فِيهِ بَيَان أَن كَلَام الْبَهَائِم من الخصائص الَّتِي خصت بهَا بَنو إِسْرَائِيل وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت فيهم وَهُوَ الَّذِي فهمه البُخَارِيّ إِذْ خرجه فِي بَاب ذكر بني إِسْرَائِيل قلت لَا يلْزم من ذكر البُخَارِيّ هَذَا فِي بني إِسْرَائِيل اختصاصهم بذلك وَقد روى ابْن وهب أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب وَصَفوَان بن أُميَّة وجدا ذئبا أَخذ ظَبْيًا فاستنقذاه مِنْهُ فَقَالَ لَهما طعمة أطعمنيها الله تَعَالَى وَرُوِيَ مثل هَذَا أَيْضا أَنه جرى لأبي جهل وَأَصْحَاب لَهُ وَعند أبي الْقَاسِم عَن أنس قَالَ كنت مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَزْوَة تَبُوك فشردت على غنمي فجَاء الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة فاشتدت الرُّعَاة خَلفه فَقَالَ الذِّئْب طعمة أطعمنيها الله تنزعونها مني فبهت الْقَوْم فَقَالَ مَا تعْجبُونَ (ح) وَذكر ابْن الْأَثِير أَن قصَّة الذِّئْب كَانَت أَيْضا فِي المبعث وَالَّذِي كَلمه الذِّئْب اسْمه أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ أَبُو عقبَة سكن الْكُوفَة وَقيل أهبان بن عقبَة وَهُوَ عَم سَلمَة بن الْأَكْوَع وَكَانَ
    من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَعَن الْكَلْبِيّ هُوَ أهبان بن الْأَكْوَع واسْمه سِنَان بن عياذ بن ربيعَة وَقَالَ الذَّهَبِيّ أهبان بن أَوْس الْأَسْلَمِيّ يكلم الذِّئْب أَبُو عقبَة كُوفِي وَقيل أَن مُكَلم الذِّئْب أهبان بن عياذ الْخُزَاعِيّ وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا الحَدِيث حجَّة على من جعل عِلّة الْمَنْع من أكل الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير أَنَّهَا خلقت للزِّينَة وَالرُّكُوب لقَوْله عز وَجل {لتركبوها وزينة} وَقد خلقت الْبَقر للحراثة كَمَا أنطقها الله عز وَجل وَلم يمْنَع ذَلِك من أكل لحومها لَا فِي بني إِسْرَائِيل وَلَا فِي الْإِسْلَام
    ......
    (12/163)
    وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يسلم من بني النَّضِير إلاَّ رجلَانِ: يَامِين بن عُمَيْر بن عَمْرو بن جحاش،
    وَأَبُو سعيد بن وهب، أسلما على أموالهما فأحرزاها
    (12/172)
    وَقَالَ الْقَزاز: الْموَات الأَرْض الَّتِي لم تعمر، شبهت الْعِمَارَة بِالْحَيَاةِ وتعطيلها بفقد الْحَيَاة، وإحياء الْموَات أَن يعمد الشَّخْص لأرض لَا يعلم تقدم ملك عَلَيْهَا لأحد فيحييها بالسقي أَو الزَّرْع أَو الْغَرْس أَو الْبناء، فَيصير بذلك ملكه، سَوَاء فِيمَا قرب من الْعمرَان أم بعد، وَسَوَاء أذن لَهُ الإِمَام بذلك أم لم يَأْذَن عِنْد الْجُمْهُور، وَعند أبي حنيفَة: لَا بُد من إِذن الإِمَام مُطلقًا، وَعند مَالك فِيمَا قرب، وَضَابِط الْقرب مَا بِأَهْل الْعمرَان إِلَيْهِ حَاجَة من رعي وَنَحْو
    ............
    (12/175)
    وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْبِلَاد بِلَاد الله والعباد عباد الله. وَمن أحَاط على حَائِط فَهُوَ لَهُ. وروى الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ من حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أسمر بن مُضرس من رِوَايَة عقيلة بنت أسمر عَن أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من سبق إِلَى مَا لم يسْبقهُ إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ لَهُ.
    .........
    (12/176)
    وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى إِذن الإِمَام فِيمَا قرب وَفِيمَا بعد، وَعَن مَالك: فِيمَا قرب لَا بُد من إِذن الإِمَام وَإِن كَانَ فِي فيافي الْمُسلمين والصحارى وَحَيْثُ لَا يتشاح النَّاس فِيهِ فَهِيَ لَهُ بِغَيْر إِذْنه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ لأحد أَن يحيي مواتاً إلاَّ بِإِذن الإِمَام فِيمَا بَعدت وَقربت، فَإِن أَحْيَاهُ بِغَيْر إِذْنه لم يملكهُ، وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَكْحُول وَابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ.
    وَاحْتج أَبُو حنيفَة بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) فِي (الصَّحِيحَيْنِ) والحمى: مَا حمي من الأَرْض فَدلَّ أَن حكم الْأَرْضين إِلَى الْأَئِمَّة لَا إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: احْتج الطَّحَاوِيّ لِلْجُمْهُورِ مَعَ حَدِيث الْبَاب بِالْقِيَاسِ على مَاء الْبَحْر وَالنّهر، وَمَا يصاد من طير وحيوان، فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن مَا أَخذه أَو صَاده ملكه، سَوَاء قرب أَو بعد، وَسَوَاء أذن الإِمَام أم لم يَأْذَن. قلت: هَذَا قِيَاس بالفارق، فَإِن الإِمَام لَا يجوز لَهُ تمْلِيك مَاء نهر لأحد، وَلَو ملك رجلا أَرضًا ملكه، وَلَو احْتَاجَ الإِمَام إِلَى بيعهَا فِي نَوَائِب الْمُسلمين جَازَ بَيْعه لَهَا، وَلَا يجوز ذَلِك فِي مَائِهِمْ وَلَا صيدهم وَلَا نهرهم، وَلَيْسَ للْإِمَام بيعهَا وَلَا تمليكها لأحد، وَإِن الإِمَام فِيهَا كَسَائِر النَّاس. وَاحْتج بَعضهم لأبي حنيفَة بِحَدِيث معَاذ يرفعهُ: (إِنَّمَا للمرء مَا طابت بِهِ نفس إِمَامه) . قلت: هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث بَقِيَّة عَن رجل لم يسمه عَن مَكْحُول عَنهُ، وَقَالَ: هَذَا مُنْقَطع
    .........
    (12/177)
    ن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمرها فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَعنهُ قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّه إِذا حجر أَرضًا وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين أَخذهَا الإِمَام وَدفعهَا إِلَى غَيره، لِأَن التحجير لَيْسَ بإحياء ليتملكها بِهِ، لِأَن الإحيار هُوَ الْعِمَارَة، والتحجير للإعلام. وَذكر فِي (الْمُحِيط) أَنه يصير ملكا للمحجر، وَذكر خُوَاهَر زادة: أَن التحجير يُفِيد ملكا مؤقتاً إِلَى ثَلَاث سِنِين، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَصَح، وَأحمد. وَالْأَصْل عندنَا: أَن من أحيى مواتاً هَل يملك رقبَتهَا؟ قَالَ بَعضهم: لَا يملك رقبَتهَا، وَإِنَّمَا يملك استغلالها، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول. وَعند عَامَّة الْمَشَايِخ، يملك رقبَتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَثَمَرَة الْخلاف فِيمَن أَحْيَاهَا ثمَّ تَركهَا فزرعها غَيره، فعلى قَول الْبَعْض: الثَّانِي أَحَق بهَا، وعَلى قَول الْعَامَّة الأول يَنْزِعهَا من الثَّانِي كمن أخرب دَاره أَو عطل بستانه وَتَركه حَتَّى مرت عَلَيْهِ سنُون، فَإِنَّهُ لَا يخرج عَن ملكه، وَلَكِن إِذا حجرها وَلم يعمرها ثَلَاث سِنِين يَأْخُذهَا الإِمَام كَمَا ذكرنَا، وَتَعْيِين الثَّلَاث بأثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
    .........
    (12/177)
    أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن ذَا الحليفة لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ لما فِيهِ من منع النَّاس النُّزُول فِيهِ، وَأَن الْموَات يجوز الِانْتِفَاع بِهِ، وَأَنه غير مَمْلُوك لأحد، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي وَجه الْمُطَابقَة، وَقد تكلم الْمُهلب فِيهِ بِمَا لَا يجدي، ورد عَلَيْهِ ابْن بطال بِمَا لَا ينفع، وَجَاء آخر نصر الْمُهلب فِي ذَلِك، وَالْكل لَا يشفي العليل وَلَا يروي الغليل، فَلذَلِك تَرَكْنَاهُ،
    قول النبي صلى الله عليه وسلم " العقيق واد مبارك "
    ............
    (12/178)
    قَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك، وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة، وَمن وَرَاء ذَلِك إِلَى مَشَارِق أَرض الْبَصْرَة، فَهُوَ نجد. وَمَا بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف نجد، وَمَا كَانَ من وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة، وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، وَإِنَّمَا سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَين تهَامَة ونجد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْحجاز هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن ومخاليفها وعمارتها. قلت: لم أدر من أَيْن أَخذ الْكرْمَانِي أَن الْيمن من الْحجاز؟ نعم، هِيَ من جَزِيرَة الْعَرَب. قَالَ الْمَدِينِيّ: جَزِيرَة الْعَرَب خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن، وَلم يذكر أحد أَن الْيمن من أَرض الْحجاز.
    ........
    (12/178)
    كَانَت الأَرْض لما ظهر عَلَيْهَا للْيَهُود وَلِلرَّسُولِ وللمسلمين، ووفق الْمُهلب بَين الرِّوَايَتَيْن ِ بِأَن رِوَايَة ابْن جريج مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي آل إِلَيْهَا الْأَمر بعد الصُّلْح، وَرِوَايَة فُضَيْل مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي كَانَت قبل، وَذَلِكَ أَن خَيْبَر فتح بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة، فَالَّذِي فتح عنْوَة كَانَ جَمِيعه لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين، وَالَّذِي فتح صلحا كَانَ للْيَهُود ثمَّ صَار للْمُسلمين بِعقد الصُّلْح.
    ..........
    (12/179)
    جلاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْيَهُود من الْحجاز، لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم عهد من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على بقائهم فِي الْحجاز دَائِما، بل كَانَ ذَلِك مَوْقُوفا على مَشِيئَته، وَلما عهد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد مَوته بإخراجهم من جَزِيرَة الْعَرَب، وانتهت النّوبَة إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجهم إِلَى تيماء وأريحاء بِالشَّام.
    ..........
    (12/184)
    وَفِي حَدِيث سعيد بن زيد: وأمرنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نكريها بِالذَّهَب وَالْوَرق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الصَّحَابَة على جَوَازه، وَقَالَ ابْن بطال: قد ثَبت عَن رَافع مَرْفُوعا أَن كِرَاء الأَرْض بالنقدين جَائِز، وَهُوَ خَاص يقْضِي على الْعَام الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِغَيْر اسْتثِْنَاء ذهب وَلَا فضَّة، وَالزَّائِد من الْأَخْبَار أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ لِئَلَّا تتعارض الْأَخْبَار فَيسْقط شَيْء مِنْهَا.
    .......
    (12/190)
    قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عذب فرات} (الْفرْقَان: 35 وفاطر: 21) . وروى ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ: العذب الْفُرَات الحلو، وَمن عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا ترْجم لباب فِي شَيْء يذكر فِيهِ مَا يُنَاسِبه من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي الْقُرْآن ويفسرها تكثيراً للفوائد
    .............
    (12/191)
    (بِئْر رومة) بِإِضَافَة: بِئْر، إِلَى: رومة، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وبالميم. ورومة علم على صَاحب الْبِئْر، وَهُوَ رومة الْغِفَارِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: بِئْر رومة كَانَت ليهودي، وَكَانَ
    قفل عَلَيْهَا بقفل ويغيب فَيَأْتِي الْمُسلمُونَ ليشربوا مِنْهَا فَلَا يجدونه حَاضرا فيرجعون بِغَيْر مَاء، فَشَكا الْمُسلمُونَ ذَلِك، فَقَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يَشْتَرِيهَا ويمنحها للْمُسلمين وَيكون نصِيبه فِيهَا كنصيب أحدهم فَلهُ الْجنَّة؟ فاشتراها عُثْمَان. وَهِي بِئْر مَعْرُوفَة بِمَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اشْتَرَاهَا عُثْمَان بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فوقفها، وَزعم الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ قبل أَن يَشْتَرِيهَا عُثْمَان يَشْتَرِي مِنْهَا كل قربَة بدرهم.

    ............
    (12/192)
    (الْأَيْمن فالأيمن) بِالنّصب على تَقْدِير: أعْط الْأَيْمن،وبالرفع على تَقْدِير: الْأَيْمن أَحَق،وَيدل على تَرْجِيح رِوَايَة الرّفْع قَوْله فِي بعض لَعَلَّهَا طرقه: الأيمنون الأيمنون. قَالَ أنس: فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة. هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي طوالة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.

    مَشْرُوعِيَّة تَقْدِيم من هُوَ على يَمِين الشَّارِب فِي الشّرْب وَإِن كَانَ مفضولاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى من كَانَ على يسَار الشَّارِب، لفضل جِهَة الْيَمين على جِهَة الْيَسَار، وَهل هُوَ على جِهَة الِاسْتِحْبَاب أَو أَنه حق ثَابت للجالس على الْيَمين؟فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّه سنة. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ،وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّهَا سنة وَاضِحَة،وَخَالف فِيهِ ابْن حزم فَقَالَ: لَا بُد من مناولة الْأَيْمن كَائِنا من كَانَ، فَلَا يجوز مناولة غير الْأَيْمن إلاَّ بِإِذن الْأَيْمن. قَالَ: وَمن لم يرد أَن يناول أحدا فَلهُ ذَلِك. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَبُو يعلى بِإِسْنَاد صَحِيح،قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سقى قَالَ: (ابدأوا بالكبراء،أَو قَالَ: بالأكابر) . فَكيف الْجمع بَين أَحَادِيث الْبَاب؟قلت: يحْتَمل هَذَا الحَدِيث على مَا إِذا لم يكن على جِهَة يَمِينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ الْحَاضِرُونَ تِلْقَاء وَجهه مثلا، أَو وَرَاءه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما تَقْدِيم الأفاضل والكبار فَهُوَ عِنْد التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَاف، وَلِهَذَا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسن النسيب فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة. وَفِيه: أَن غير المشروب،مثل: الْفَاكِهَة وَاللَّحم وَنَحْوهمَا، هَل حكمه حكم المَاء؟ فَنقل عَن مَالك تَخْصِيص ذَلِك بالشرب،وَقَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يشبه أَن يكون قَول مَالك: إِن السّنة وَردت فِي الشّرْب خَاصَّة، وَإِنَّمَا يقدم الْأَيْمن فالأيمن فِي غَيره بِالْقِيَاسِ، لِأَن السّنة منصوصة فِيهِ وَكَيف مَا كَانَ فَالْعُلَمَاء متفقون على اسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي الشّرْب وأشباهه.
    ........
    (12/195)
    خْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فروى البُخَارِيّ: لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ فضل الْكلأ،مَعْنَاهُ: من كَانَ لَهُ بِئْر فِي موَات من الأَرْض لَا يمْنَع مَاشِيَة غَيره أَن ترد فضل مَائه الَّذِي زَاد على مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ليمنعها بذلك عَن فضل الْكلأ، فَإِنَّهُ إِذا مَنعهم عَن فضل مَاء من الأَرْض لَا مَاء بهَا (مَا شيته) ، سواهُ لم يُمكن لَهُم الرَّعْي بهَا، فَيصير الْكلأ مَمْنُوعًا بِمَنْع المَاء. وروى مُسلم: لَا يُبَاع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ. وَالْمعْنَى: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ،أَي: لَا يُبَاع فضل المَاء ليصير بِهِ البَائِع لَهُ كالبائع للكلأ، فَإِن من أَرَادَ الرَّعْي فِي حوالي مَائه إِذا مَنعه من الْوُرُود على مَائه، إلاَّ بعوض اضْطر إِلَى شِرَائِهِ، فَيكون بَيْعه للْمَاء بيعا للكلأ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل الْفَاضِل عَن حَاجته لزرع غَيره فِيمَا يملكهُ من
    ..........
    (12/195)
    والأشعث بن قيس أَبُو مُحَمَّد الْكِنْدِيّ، وَفد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر من الْهِجْرَة فِي وَفد كِنْدَة، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فأسلموا، وَكَانَ مِمَّن ارْتَدَّ بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أسلم وَله قصَّة طَوِيلَة.
    ...........
    (12/207)
    أَن سقِِي المَاء من أعظم القربات. قَالَ بعض التَّابِعين: من كثرت ذنُوبه فَعَلَيهِ بسقي المَاء، فَإِذا غفرت ذنُوب الَّذِي سقى كَلْبا فَمَا ظنكم بِمن سقى مُؤمنا موحداً وأحياه بذلك؟وَقَالَ ابْن التِّين: وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: أَنه دخل على رجل فِي السِّيَاق،فَقَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يتأخران وأسودين يدنوان، وأري الشَّرّ ينمى وَالْخَيْر يضمحل، فأعني مِنْك بدعوة يَا نَبِي الله،فَقَالَ: أللهم أشكر لَهُ الْيَسِير، واعف عَنهُ الْكثير،ثمَّ قَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يدنوان والأسودين يتأخران، وَأرى الْخَيْر ينمي وَالشَّر يضمحل. قَالَ: فَمَا وجدت أفضل عَمَلك؟قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِي حَدِيث سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصَّدَقَة أفضل؟قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِيه: مَا احْتج بِهِ على جَوَاز الصَّدَقَة على الْمُشْركين لعُمُوم قَوْله: أجر. وَفِيه: أَن المجازاة على الْخَيْر وَالشَّر قد يكون يَوْم الْقِيَامَة من جنس الْأَعْمَال،كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل نَفسه بحديدة عذب بهَا فِي نَار جَهَنَّم،وَقَالَ بَعضهم: يَنْبَغِي أَن يكون مَحَله، مَا إِذا لم يُوجد هُنَاكَ مُسلم، فالمسلم أَحَق
    ..........

  15. #255
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الثلاثاء
    الموافق : 24/ ربيع الأول / 1442 هجري
    الموافق : 10/ نوفمبر / 2020 ميلادي

    " ملخص المجلد الثاني عشر من عمدة القاري " للحافظ بدر الدين العيني رحمه الله .


    ............
    (12/210)
    ما أعَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْحَوْض ذكره مُعَلّقا من طَرِيق عبيد الله بن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا كَاد أَن يبلغ مبلغ الْقطع والتواتر على رَأْي جمَاعَة من الْعلمَاء يجب الْإِيمَان بِهِ فِيمَا حَكَاهُ غير وَاحِد وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة مِنْهُم فِي الصَّحِيح ابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَجَابِر بن سَمُرَة وجندب بن عبد الله وَزيد بن أَرقم وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس بن مَالك وَحُذَيْفَة وَعند أبي الْقَاسِم اللالكائي ثَوْبَان وَأَبُو بردة وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَبُرَيْدَة وَعَن القَاضِي أبي الْفضل وَعقبَة بن عَامر وحارثة بن وهب والمستورد وَأَبُو بَرزَة وَأَبُو أُمَامَة وَعبد الله بن زيد وَسَهل بن سعد وسُويد بن جبلة وَأَبُو بكر الصّديق والفاروق والبراء وَعَائِشَة وَأُخْتهَا أَسمَاء وَأَبُو بكرَة وَخَوْلَة بن قيس وَأَبُو ذَر والصنابحي فِي آخَرين
    .........
    _(12/211)
    وْله " كَمَا تذاد الغريبة من الْإِبِل " أَي كَمَا تطرد النَّاقة الغريبة من الْإِبِل عَن الْحَوْض إِذا أَرَادَت الشّرْب مَعَ إبِله وَعَادَة الرَّاعِي إِذا سَاق الْإِبِل إِلَى الْحَوْض لتشرب أَن يطرد النَّاقة الغريبة إِذا رَآهَا بَينهم وَاخْتلف فِي هَؤُلَاءِ الرِّجَال فَقيل هم المُنَافِقُونَ حَكَاهُ ابْن التِّين وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هم المبتدعون وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هم الَّذين لَا سِيمَا لَهُم من غير هَذِه الْأمة وَذكر قبيصَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنهم هم المرتدون الَّذين بدلُوا وَقَالَ ابْن
    بطال فَإِن قيل كَيفَ يأْتونَ غرا وَالْمُرْتَدّ لَا غرَّة لَهُ فَالْجَوَاب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ تَأتي كل أمة فِيهَا منافقوها وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا نقتبس من نوركم} فصح أَن الْمُؤمنِينَ يحشرون وَفِيهِمْ المُنَافِقُونَ الَّذين كَانُوا مَعَهم فِي الدُّنْيَا حَتَّى يضْرب بَينهم بسور وَالْمُنَافِق لَا غرَّة لَهُ وَلَا تحجيل لَكِن الْمُؤْمِنُونَ سموا غرا بِالْجُمْلَةِ وَإِن كَانَ الْمُنَافِق فِي خلالهم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَإِن قيل كَيفَ خَفِي حَالهم على سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد قَالَ تعرض عَليّ أَعمال أمتِي فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا تعرض أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُنَافِقين والكافرين
    ..........
    (12/212)
    وَكَانَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَار إِلَى مصر لما وَقع الْقَحْط بِالشَّام لِلْمِيرَةِ وَمَعَهُ سارة وَلُوط عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ بهَا أول الفراعنة سِنَان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل غير ذَلِك وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء وَجرى مَا جرى بَينه وَبَين إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَب سارة على مَا ذكره أهل السّير فآخر الْأَمر نجى الله سارة من هَذَا الفرعون فَأَخْدَمَهَا هَاجر وَاخْتلف فِيهَا فَقَالَ مقَاتل كَانَت من ولد هود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الضَّحَّاك كَانَت بنت ملك مصر وَكَانَ سَاكِنا بمنف فغلبه ملك آخر فَقتله وسبى ابْنَته فاسترقها ووهبها لسارة ثمَّ وهبتها سارة لإِبْرَاهِيم فواقعها فَولدت إِسْمَاعِيل ثمَّ حمل إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر إِلَى مَكَّة
    ............
    (12/217)
    ذكر ابْن وهب أَن النقيع الَّذِي حماه سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قدره ميل فِي ثَمَانِيَة أَمْيَال،والنقيع بالنُّون الْمَفْتُوحَة وَالْقَاف الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: على عشْرين فرسخاً من الْمَدِينَة،وَقيل: على عشْرين ميلًا، ومساحته بريد فِي بريد،قَالَ ياقوت: وَهُوَ غير نَقِيع الْخضمات الَّذِي كَانَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حماه، وَعكس ذَلِك أَبُو عبيد الْبكْرِيّ، وَزعم الْخطابِيّ أَن من النَّاس من يَقُوله بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ تَصْحِيف،وَالْأَصْل فِي النقيع أَنه: كل مَوضِع يستنقع فِيهِ المَاء، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن بَعضهم ذهب إِلَى أَنَّهُمَا وَاحِد، وَالْأول أصح.
    ........
    (12/215)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: سُئِلَ عَن صَدَقَة الْحمر وَأَشَارَ إِلَى الْآيَة بِأَنَّهَا جَامِعَة لاشتمال اسْم الْخَيْر على أَنْوَاع الطَّاعَات، وَجعلهَا فاذة لخلوها عَن بَيَان مَا تحتهَا من تَفْصِيل أَنْوَاعهَا، وجمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات المتناولة لكل خير ومعروف،وَمَعْنَاهُ: أَن من أحسن إِلَيْهَا أَو أَسَاءَ رَآهُ فِي الْآخِرَة. وَقيل: إِنَّمَا قيل: إِنَّهَا فاذة إِذْ لَيْسَ مثلهَا آيَة أُخْرَى فِي قلَّة الْأَلْفَاظ وَكَثْرَة الْمعَانِي لِأَنَّهَا جَامِعَة بَين أَحْكَام كل الْخيرَات والشرور، وَكَيْفِيَّة دلَالَة الْآيَة على الْجَواب هِيَ أَن سُؤَالهمْ أَن الْحمار لَهُ حكم الْفرس أم لَا؟فَأجَاب: بِأَنَّهُ إِن كَانَ لخير فَلَا بُد أَن يجزى جزاءه، وَيحصل لَهُ الْأجر وإلاَّ فبالعكس، وَإِنَّمَا لم يسْأَل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن البغال لقلتهَا عِنْدهم، أَو لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْحمار.

    ...........

    (12/230)
    {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . وَاخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأَكْثَرهم على أَنَّهَا نزلت فِي شَأْن عُثْمَان بن طَلْحَة الحَجبي الْعَبدَرِي، سَادِن الْكَعْبَة حِين أَخذ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِفْتَاح الْكَعْبَة يَوْم الْفَتْح، ذكره إِبْنِ سعد وَغَيره،وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب وَزيد ابْن أسلم وَشهر بن حَوْشَب: إِنَّهَا نزلت فِي الإمراء، يَعْنِي الْحُكَّام بَين النَّاس. وَفِي الحَدِيث: إِن الله تَعَالَى مَعَ الْحَاكِم مَا لم يَجُرْ، فَإِذا جَاءَ وَكله الله إِلَى نَفسه. وَقيل: نزلت فِي السُّلْطَان يعظ النِّسَاء. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء 85) . قَالَ: يدْخل فِيهِ وعظ السُّلْطَان النِّسَاء يَوْم الْعِيد، وَقَالَ شُرَيْح،رَحمَه الله لأحد الْخَصْمَيْنِ: أعْط حَقه،فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا} (النِّسَاء: 85) . قَالَ شُرَيْح: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) . إِنَّمَا هَذَا فِي الرِّبَا خَاصَّة، وربط الْمديَان إِلَى سَارِيَة. وَمذهب الْفُقَهَاء: إِن الْآيَة عَامَّة فِي الرِّبَا وَغَيره،وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة عَامَّة، قَالُوا هَذَا يعم جَمِيع الْأَمَانَات الْوَاجِبَة على الْإِنْسَان من حُقُوق الله، عز وَجل، على عباده من الصَّلَوَات والزكوات وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور وَالصِّيَام وَغير ذَلِك، فَهُوَ مؤتمن عَلَيْهِ، وَلَا يطلع عَلَيْهِ الْعباد،وَمن حُقُوق الْعباد بَعضهم على بعض: كالودائع وَغَيرهَا،
    .......
    (12/235)
    وَقَالَ ابْن التِّين: عَن الدَّاودِيّ قَوْله: (اقرؤا إِن شِئْتُم) : أَحْسبهُ من كَلَام إبي هُرَيْرَة، وَلَيْسَ كَمَا ظن، فقد روى جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَنا أولى بِالْمُؤْمِنِين َ من أنفسهم.
    ........
    (12/240)
    نقل عَن إِمَامه مَالك بن أنس: أَن الْقيَاس مقدم على خبر الْوَاحِد. حَيْثُ يَقُول: إِن الْقيَاس حجَّة بِإِجْمَاع الصَّحَابَة. وَفِي اتِّصَال خبر الْوَاحِد بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتِمَال وَكَانَ الْقيَاس الثَّابِت بِالْإِجْمَاع اقوى وَنحن نقُول اجماع الصَّحَابَة على التَّقْدِيم خبر الْوَاحِد على الْقيَاس، وَخبر الْوَاحِد حجَّة بِالْإِجْمَاع، والشبهة بِالْقِيَاسِ فِي الأَصْل وَفِي الْخَبَر، فِي الِاتِّصَال، فَيرجع الْخَبَر عَلَيْهِ، ودعواه بِأَن تَأْوِيل الْكُوفِيّين فَاسد لِأَنَّهُ جعل لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه فَاسِدَة لأَنا لَا نكرر جعله لصَاحب الْمَتَاع إِذا وجده بِعَيْنِه، فَكل من كَانَ صَاحب الْمَتَاع فَلهُ الرُّجُوع، وَالْبَائِع هُنَا خرج عَن كَونه صَاحب الْمَتَاع، لِأَن الْمَتَاع خرج من ملكه، وتبدل الصّفة هُنَا كتبدل الذَّات، فَصَارَ الْمَبِيع غير مَاله، وَقد كَانَ عين مَاله أَولا
    ......
    (12/240)
    أَبَا الْحسن الْكَرْخِي قَالَ: لَيْسَ فقه الرَّاوِي شرطا لتقديم خَبره على الْقيَاس، بل يقبل خبر كل عدل فَقِيها كَانَ أَو غَيره، إِذا لم يكن مُعَارضا بِدَلِيل أقوى مِنْهُ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة من الْمَشَايِخ،وَقَالَ صدر الْإِسْلَام: وَإِلَيْهِ مَال أَكثر الْعلمَاء، وَالَّذِي ذَكرُوهُ هُوَ مَذْهَب عِيسَى بن أبان وَبَعض الْمُتَأَخِّرين ، مَعَ أَن أحدا مِنْهُم لم يذكر أَبَا هُرَيْرَة بِمَا نسبه إِلَيْهِ من قلَّة الْفِقْه، وَكَيف لم يكن فَقِيها وَكَانَ يُفْتِي فِي زمن الصَّحَابَة وَلم تكن الْفَتْوَى فِي زمانهم إلاَّ للفقهاء؟ وَقد دَعَا لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحِفْظِ فَاسْتَجَاب الله دعاءه فِيهِ، حَتَّى انْتَشَر فِي الْعَالم ذكره.

    ..........

    (12/245)
    قَالَ ابنُ عُمَرَ فِي القَرْضِ إِلَى أجلٍ لاَ بأسَ بِه وإنْ أُعْطِيَ أفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ
    هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة،قَالَ: سَمِعت شَيخا يُقَال لَهُ الْمُغيرَة: قلت لِابْنِ عمر: إِنِّي أسلف جيراني إِلَى الْعَطاء، فيقضوني أَجود من دراهمي،قَالَ: لَا بَأْس مَا لم تشْتَرط
    .......
    (12/48)
    وَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ أحدهم فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا جَاءَتْهُ الْبِنْت يدفنها حَيَّة حِين تولد،وَيَقُولُونَ: الْقَبْر صهر، وَنعم الصهر. وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ غيرَة وأنفة، وَبَعْضهمْ يَفْعَله تَخْفِيفًا للمؤونة.
    هى عَن منع الْوَاجِب من مَاله وأقواله وأفعاله وأخلاقه من الْحُقُوق اللَّازِمَة فِيهَا، وَنهى عَن استدعاء مَا لَا يجب عَلَيْهِم من الْحُقُوق، وتكليفه إيَّاهُم بِالْقيامِ بِمَا لَا يجب عَلَيْهِم، فَكَأَنَّهُ ينتصف وَلَا ينصف، وَهَذَا من أسمج الْخلال،وَقَالَ إِسْحَاق بن مَنْصُور: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا معنى منع وهات؟قَالَ: أَن تمنع مَا عنْدك فَلَا تَتَصَدَّق وَلَا تُعْطِي فتمد يدك فتأخذ من النَّاس.
    .........
    (12/250)
    استب رجلَانِ " من السب وَهُوَ الشتم من سبه يسبه سبا وسبابا قَوْله " رجل " أَي أَحدهمَا رجل من الْمُسلمين قيل هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَوَقع فِي جَامع سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار أَن الرجل الَّذِي لطم الْيَهُودِيّ هُوَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " وَرجل من الْيَهُود " أَي وَالْآخر رجل من الْيَهُود ذكر فِي تَفْسِير ابْن إِسْحَاق أَن الْيَهُودِيّ اسْمه فنحَاص وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى {لقد سمع الله قَول الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء}
    .....
    /252))12
    بينَا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَقَالَ " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر " فَمَا وَجه قَوْله " لَا تخيروني " أَي تفضلُونِي قلت الْجَواب عَنهُ من أوجه. الأول أَنه قبل أَن يعلم أَنه أفضلهم فَلَمَّا علم قَالَ " أَنا سيد ولد آدم وَلَا فَخر ". الثَّانِي أَنه نهى عَن تَفْضِيل يُؤَدِّي إِلَى تنقيص بَعضهم فَإِنَّهُ كفر. الثَّالِث أَنه نهى عَن تَفْضِيل يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة كَمَا فِي الحَدِيث من لطم الْمُسلم الْيَهُودِيّ
    لرَّابِع أَنه قَالَ تواضعا ونفيا للكبر وَالْعجب. الْخَامِس أَنه نهى عَن التَّفْضِيل فِي نفس النُّبُوَّة لَا فِي ذَوَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَعُمُوم رسالتهم وَزِيَادَة خصائصهم وَقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} وَقَالَ ابْن التِّين معنى لَا تخَيرُوا بَين الْأَنْبِيَاء يَعْنِي من غير علم وَإِلَّا فقد قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} وَأغْرب ابْن قُتَيْبَة فَأجَاب بِأَنَّهُ سيد ولد آدم يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّهُ الشافع يَوْمئِذٍ وَله لِوَاء الْحَمد والحوض
    .......
    (12/255)
    وَالسَّفِيه هُوَ الَّذِي يعْمل بِخِلَاف مُوجب الشَّرْع، وَيتبع هَوَاهُ ويتصرف لَا لغَرَض، أَو لغَرَض لَا يعده الْعُقَلَاء من أهل الدّيانَة غَرضا، مثل دفع المَال إِلَى الْمُغنِي واللعاب وَشِرَاء الْحمام الطيارة بِثمن غال وَغير ذَلِك.
    .........
    (12/256)
    اخْتلفُوا فِي معنى هَذَا على عشرَة أَقْوَال الأول قَالَ الْخَلِيل هِيَ القراآت السَّبْعَة وَهِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الَّتِي تنتظم مِنْهَا الْكَلِمَة فَيقْرَأ على سَبْعَة أوجه كَقَوْلِه نرتع وَنَلْعَب قرىء على سَبْعَة أوجه
    اخْتلف الأصوليون هَل يقْرَأ الْيَوْم على سَبْعَة أحرف فَمَنعه الطَّبَرِيّ وَغَيره وَقَالَ إِنَّمَا يجوز بِحرف وَاحِد الْيَوْم وَهُوَ حرف زيذ ونحى إِلَيْهِ القَاضِي أَبُو بكر وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ أجمع الْمُسلمُونَ على أَنه لَا يجوز حظر مَا وَسعه الله تَعَالَى من القراآت بالأحرف الَّتِي أنزلهَا الله تَعَالَى وَلَا يسوغ للْأمة أَن تمنع مَا يُطلقهُ الله تَعَالَى بل هِيَ مَوْجُودَة فِي قراءتنا وَهِي مفرقة فِي الْقُرْآن غير مَعْلُومَة بِأَعْيَانِهَا فَيجوز على هَذَا وَبِه قَالَ القَاضِي أَن يقْرَأ بِكُل مَا نَقله أهل التَّوَاتُر من غير تَمْيِيز حرف من حرف فيحفظ حرف ناقع بِحرف الْكسَائي وَحَمْزَة وَلَا حرج فِي ذَلِك لِأَن الله تَعَالَى أنزلهَا تيسيرا على عَبده ورفقا وَقَالَ الْخطابِيّ الْأَشْبَه فِيهِ مَا قيل أَن الْقُرْآن أنزل مرخصا للقارىء بِأَن يقْرَأ
    سبعة أحرف على مَا تيَسّر وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا اتّفق فِيهِ الْمَعْنى أَو تقَارب وَهَذَا قبل إِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَأَما الْآن فَلَا يسعهم أَن يقرأه على خلاف أَجمعُوا عَلَيْهِ القَوْل الثَّانِي قَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى سَبْعَة أحرف هِيَ سبع لُغَات فصيحة من لُغَات الْعَرَب قُرَيْش ونزار وَغير ذَلِك الثَّالِث السَّبْعَة كلهَا لمضر لَا لغَيْرهَا وَهِي مفرقة فِي الْقُرْآن غير مجتمعة فِي الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الرَّابِع أَنه يَصح فِي الْكَلِمَة الْوَاحِدَة الْخَامِس السَّبْعَة فِي صُورَة التِّلَاوَة كالإدغام وَغَيره السَّادِس السَّبْعَة هِيَ سَبْعَة أنحاء زجر وَأمر وحلال وَحرَام ومحكم ومتشابه وأمثال السَّابِع سَبْعَة أحرف هِيَ الْإِعْرَاب لِأَنَّهُ يَقع فِي آخر الْكَلِمَة وَذكر عَن مَالك أَن المُرَاد بِهِ إِبْدَال خَوَاتِيم الْآي فَيجْعَل مَكَان غَفُور رَحِيم سميع بَصِير مَا لم يُبدل آيَة رَحْمَة بِعَذَاب أَو عَكسه الثَّامِن المُرَاد من سَبْعَة أحرف الْحُرُوف والأسماء وَالْأَفْعَال الْمُؤَلّفَة من الْحُرُوف الَّتِي يَنْتَظِم مِنْهَا كلمة فَيقْرَأ على سَبْعَة أحرف نَحْو عبد الطاغوت ونرتع وَنَلْعَب قرىء على سَبْعَة أوجه التَّاسِع هِيَ سَبْعَة أوجه من الْمعَانِي المتفقة المتقاربة نَحْو أقبل وتعال وهلم وَعَن مَالك إجَازَة الْقُرْآن بِمَا ذكر عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فامضوا إِلَى ذكر الله قيل أَرَادَ بِهِ أَنه لَا بَأْس بقرَاءَته على الْمِنْبَر كَمَا فعل عمر ليبين أَن المُرَاد بِهِ الجري الْعَاشِر أَن المُرَاد بالسبعة الإمالة وَالْفَتْح والترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإدغام والإظهار وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين تدبرت وُجُوه الِاخْتِلَاف فِي القراآت فَوَجَدتهَا سَبْعَة مِنْهَا مَا تَتَغَيَّر حركته وَيبقى مَعْنَاهُ وَصورته مثل هن أطهر لكم وَأظْهر وَمِنْهَا مَا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ وَيَزُول بالإعراب وَلَا تَتَغَيَّر صورته مثل رَبنَا باعد وَبعد وَمِنْهَا مَا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ بالحروف وَلَا يخْتَلف بالإعراب وَلَا تَتَغَيَّر صورته نَحْو ننشرها وننشزها وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّر صورته دون مَعْنَاهُ كالعهن المنفوش قَرَأَ سعيد بن جُبَير كالصوف وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّر صورته وَمَعْنَاهُ مثل طلح منضود قَرَأَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وطلع وَمِنْهَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير مثل وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ قَرَأَ أَبُو بكر وَطَلْحَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَجَاءَت سكرة الْحق بِالْمَوْتِ وَمِنْهَا الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان مثل تسع وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ القَاضِي عِيَاض قيل السَّبْعَة توسعة وتسهيل لم يقْصد بِهِ الْحصْر وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ هُوَ حصر الْعدَد فِي السَّبْعَة قيل هِيَ فِي صُورَة التِّلَاوَة وَكَيْفِيَّة النُّطْق من إدغام وَإِظْهَار وتفخيم وترقيق وَمد وإمالة ليقْرَأ كل بِمَا يُوَافق لغته ويسهل على لِسَانه أَي كَمَا لَا يُكَلف الْقرشِي الْهَمْز واليمني تَركه والأسدي فتح حرف المضارعة وَقَالَ ابْن أبي صفرَة هَذِه السَّبع إِنَّمَا شرعت من حرف وَاحِد من السَّبْعَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث وَهُوَ الَّذِي جمع عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
    ............
    (12/260)
    أخرج عمر بن الْخطاب أُخْت أبي بكر الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،وَهِي: أم فَرْوَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات الْكَبِير) : أَنبأَنَا عُثْمَان بن عمر أَنبأَنَا يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب،قَالَ: لما توفّي أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَقَامَت عَائِشَة عَلَيْهِ النوح، فَبلغ عمر فنهاهن فأبين أَن ينتهين،فَقَالَ لهشام بن الْوَلِيد: أخرج إِلَى ابْنة أبي قُحَافَة،يَعْنِي: أم فَرْوَة، فعلاها بِالدرةِ ضربات، فَتفرق النوائح حِين سمعن ذَلِك
    مُنْقَطع فِيمَا بَين سعيد وَعمر فَينْظر فِي جزم البُخَارِيّ، وَوَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده من وَجه آخر عَن الزُّهْرِيّ،وَفِيه: فَجعل يخرجهن امْرَأَة امْرَأَة وَهُوَ يضربهن بِالدرةِ.
    ,,,,,,,,,,,,,
    (12/261)
    عتبَة بن أبي وَقاص، اخْتلفُوا فِي إِسْلَامه، وَهُوَ الَّذِي شج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكسر رباعيته يَوْم أحد
    ......
    (12/261)
    كْرِمَة هُوَ مولى عبد الله بن عَبَّاس، أَصله من البربر من أهل الغرب كَانَ لحصين بن أبي الْحر الْعَنْبَري، فوهبه لعبد الله ابْن عَبَّاس حِين جَاءَ والياً على الْبَصْرَة لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَأكْثر عَن مَوْلَاهُ، وروى عَنهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَمَات قبله، وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة وَالْإِمَام أَبُو حنيفَة وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ،
    وَعَن عبد الرَّحْمَن ابْن حسان: سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: طلبت الْعلم أَرْبَعِينَ سنة وَكنت أُفْتِي بِالْبَابِ وَابْن عَبَّاس فِي الدَّار، وَعَن الشّعبِيّ: مَا بَقِي أحد أعلم بِكِتَاب الله من عِكْرِمَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة خمس وَمِائَة، وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة.
    ...........
    (12/264)
    سَلمَة بن كهيل بِضَم الْكَاف عَن سُوَيْد بِضَم السِّين الْمُهْملَة ابْن غَفلَة،بالغين الْمُعْجَمَة وَالْفَاء وَاللَّام مفتوحات: الْجعْفِيّ الْكُوفِي أدْرك الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أسلم وَلم يُهَاجر. مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَله مائَة وَعِشْرُونَ سنة،وَقيل: إِنَّه صَحَابِيّ، وَالْأول أصح،وروى عَنهُ أَنه قَالَ: أَنا لِدَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولدت عَام الْفِيل، قدم الْمَدِينَة حِين نفضت الْأَيْدِي من دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأول أثبت
    ........
    (12/266)
    رِوَايَة مُسلم،فَقَالَ: أَي: أبي بن كَعْب: (إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: عرفهَا حولا. قَالَ: فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته،فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا،ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا،فَقَالَ: احفظ عَددهَا. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا،فَفِي رِوَايَة: عرفهَا ثَلَاثًا،وَفِي أُخْرَى: أَو حولا وَاحِدًا،وَفِي أُخْرَى: فِي سنة أَو فِي ثَلَاث سِنِين،وَفِي أُخْرَى: عَاميْنِ أَو ثَلَاثَة. وروى مُسلم عَن جمَاعَة هَذَا الحَدِيث،ثمَّ قَالَ: وَفِي حَدِيثهمْ جَمِيعًا ثَلَاثَة أَحْوَال إلاَّ حَمَّاد بن سَلمَة،فَإِن فِي حَدِيثه: عَاميْنِ أَو ثَلَاثَة. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ من أَن اللّقطَة تعرف ثَلَاثَة أَعْوَام إلاَّ رِوَايَة جَاءَت عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد روى عَن عمر أَنَّهَا تعرف سنة مثل قَول الْجَمَاعَة، وَفِي الْحَاوِي عَن شواذ من الْفُقَهَاء أَنَّهَا تعرف ثَلَاثَة أَحْوَال. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر عَن عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. قَالَ: وروينا عَنهُ: ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ يعرفهَا سنة،وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن رِوَايَة الثَّلَاثَة أَحْوَال: إِمَّا أَن يكون غَلطا من بعض الروَاة،وَإِمَّا أَن يكون الْمُعَرّف عرفهَا تعريفاً غير جيد كَمَا قَالَ للمسيء صلَاته: إرجع فصل فَإنَّك لم تصل،وَذكر ابْن حزم عَن عمر بن الْخطاب: يعرف اللّقطَة ثَلَاثَة أشهر،وَفِي رِوَايَة: أَرْبَعَة أشهر،وَعَن الثَّوْريّ: الدِّرْهَم يعرف أَرْبَعَة أَيَّام. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : إِن كَانَت أقل من عشرَة دَرَاهِم يعرفهَا أَرْبَعَة، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا حولا، وَهَذِه رِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَقدر مُحَمَّد الْحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (التَّوْضِيح) : كَذَا قَالَه أَبُو إِسْحَاق فِي تنبيهه، وَالْمذهب الْفرق، فالكثير يعرف سنة، والقليل يعرف مُدَّة يغلب على الظَّن قلَّة أَسف صَاحبه عَلَيْهِ،


    ....
    (12/274)
    " خشية ان تكون من الصدقة "
    حُرْمَة الصَّدَقَة على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والاحتراز عَن الشُّبْهَة. وَقيل: هَذَا أَشد مَا رُوِيَ فِي الشُّبُهَات.
    ............
    (12/277)
    لَيْسَ لوَلِيّ الْمَقْتُول أَن يَأْخُذ الدِّيَة إلاَّ برضى الْقَاتِل، وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ الْقود أَو الْعَفو. وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أنس أَن الرّبيع بنت النَّضر، عمته لطمت جَارِيَة فَكسرت سنّهَا، فعرضوا عَلَيْهِم الْأَرْش فَأَبَوا، فطلبوا الْعَفو فَأَبَوا، فَأتوا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بِالْقصاصِ، فجَاء أَخُوهَا أنس بن النَّضر،فَقَالَ: يَا رَسُول الله {أتكسر سنّ الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تكسر سنّهَا. فَقَالَ: يَا أنس} كتاب الله الْقصاص، فَعَفَا الْقَوْم،فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن من عباد الله لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَثَبت بِهَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي يجب بِكِتَاب الله وَسنة رَسُول الله فِي الْعمد هُوَ الْقصاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَ للْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْخِيَار بَين الْقصاص وَبَين أَخذ الدِّيَة إِذا لخيره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَلما حكم لَهَا بِالْقصاصِ بِعَيْنِه فأذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يحمل قَوْله: فَهُوَ بِخَير النظرين، إِمَّا أَن يفدى وَأما أَن يُقيد على أَخذ الدِّيَة برضى الْقَاتِل، حَتَّى تتفق مَعَاني الْآثَار. وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس،قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص،وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ الله لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى}
    ..........
    (12/180)
    والجارود هُوَ ابْن الْمُعَلَّى الْعَبْدي،واسْمه: بشر،والجارود: لقب بِهِ لِأَنَّهُ أغار فِي الْجَاهِلِيَّة على بكر بن وَائِل فَأَصَابَهُمْ وجردهم، وَفد على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر فِي وَفد عبد الْقَيْس، فَأسلم وَكَانَ نَصْرَانِيّا، ففرح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْلَامِهِ وأكرمه وقربه.
    ..........
    (12/180)
    وسلمان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ،يُقَال: لَهُ صُحْبَة،وَيُقَال لَهُ: سلمَان الْخَيل، لخبرته بهَا، وَكَانَ أَمِيرا على بعض الْمَغَازِي فِي فتوح الْعرَاق سنة ثَلَاثِينَ، فِي عهد عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ أول من تولى قَضَاء الْكُوفَة، وَاسْتشْهدَ فِي خِلَافَته فِي فتوح الْعرَاق، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع،
    ...........
    (12/190)
    فِي (التَّلْوِيح) : ذكر الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ فِي كِتَابه (الفاخر) : أَن أول من قَالَ: أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، جُنْدُب ابْن العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم،بقوله لسعد بن زيد مَنَاة لما أسر:
    (يَا أَيهَا الْمَرْء الْكَرِيم المكسوم ... أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مظلوم)
    وَأنْشد التاريخي للأسلع بن عبد الله:
    (إِذا أَنا لم أنْصر أخي وَهُوَ ظَالِم ... على الْقَوْم لم أنْصر أخي حِين يظلم)
    فأرادوا بذلك مَا اعتادوه من حمية الْجَاهِلِيَّة، لَا على مَا فسره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    ...........
    (12/292)
    وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن أبي سَلمَة الْمَاجشون،وَاسم أبي سَلمَة: دِينَار، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، والماجشون، بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَكسرهَا، وَهَذَا لقب يَعْقُوب بن أبي سَلمَة، وَسمي بذلك وَلَده وَأهل بَيته،وَلِهَذَا يرْوى هُنَا: عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون، وَلَيْسَ بلقب خَاص لعبد الْعَزِيز، وَسمي بذلك لِأَن وجنتيه كَانَتَا حمراوان، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّ ةِ، وَقد مر عبد الْعَزِيز فِي الْعلم وَمر الْكَلَام فِي معنى الْمَاجشون.
    ..........
    (12/300)
    حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الله بنُ الْمُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا مُوساى بنُ عُقْبَةَ عنْ سالِمٍ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أخذَ مِنَ الأرْضِ شَيْئاً بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلَى سَبْعِ أرْضِينَ.
    قَالَ الْفِربْرِي قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بنُ أبي حاتِمٍ
    أَبُو جَعْفَر: هُوَ مُحَمَّد بن أبي حَاتِم البُخَارِيّ وراق البُخَارِيّ، وَقد ذكر عَنهُ الْفربرِي فِي هَذَا الْكتاب فَوَائِد كَثِيرَة عَن البُخَارِيّ وَغَيره، وَثبتت هَذِه الْفَائِدَة فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن مشايخه الثَّلَاثَة، وَسَقَطت لغيره. فَافْهَم.
    قَالَ أبُو عَبْدِ الله هذَا الحَدِيثُ لَيْسَ بُخُرَاسَانَ فِي كِتابِ ابنُ الْمُبارَكِ أمْلاهُ عَلَيْهِمْ بالْبَصْرَةِ
    قيل: لَا يلْزم من كَونه لَيْسَ فِي كتبه الَّتِي حدث بهَا فِي خُرَاسَان أَن لَا يكون حدث بِهِ بخراسان، فَإِن نعيم بن حَمَّاد الْمروزِي مِمَّن حمل عَنهُ بخراسان، وَقد حدث عَنهُ بِهَذَا الحَدِيث، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه، وَيحْتَمل أَن يكون نعيم أَيْضا إِنَّمَا سَمعه من ابْن الْمُبَارك بِالْبَصْرَةِ، وَهُوَ من غرائب الصَّحِيح، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ
    ..........
    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ختم وتلخيص المجلد الثاني عشر
    ويليه المجلد الثالث عشر



  16. #256
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    المجلد الثالث
    الموافق : 1/ ربيع الثاني / 1442 هجري
    الموافق 17/ نوفمبر / 2020 ميلادي
    " عمدة القاري " لبدر الدين العيني رحمه الله .

    (13/4 )
    وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام} (الْبَقَرَة: 402) . وَقَالَ السّديّ: هَذِه الْآيَة وَثَلَاث آيَات بعْدهَا نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق الثَّقَفِيّ، جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأظْهر الْإِسْلَام وَفِي بَاطِنه خلاف ذَلِك،وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي نفر من الْمُنَافِقين تكلمُوا فِي خبيب وَأَصْحَابه الَّذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فَأنْزل الله ذمّ الْمُنَافِقين ومدح خبيباً وَأَصْحَابه. وَقيل: بل ذَلِك عَام فِي الْمُنَافِقين كلهم، وَهَذَا قَول قَتَادَة وَمُجاهد وَالربيع بن أنس وَغير وَاحِد، وَهُوَ الصَّحِيح.
    ..........
    (13/7)
    قَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي الَّذِي يجْحَد وَدِيعَة غَيره، ثمَّ إِن الْمُودع يجد لَهُ مَالا، هَل يَأْخُذهُ عوضا من حَقه؟فروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَنه لَا يفعل،وروى عَنهُ: أَن لَهُ أَن يَأْخُذ حَقه إِذا وجده من مَاله إِذا لم يكن فِيهِ شَيْء من الزِّيَادَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي،وَقَالَ النَّوَوِيّ: من لَهُ حق على رجل وَهُوَ عَاجز عَن اسْتِيفَائه يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ من مَاله قدر حَقه من غير إِذْنه، وَهَذَا مَذْهَبنَا، وَمنع من ذَلِك أَبُو حنيفَة وَمَالك،وَقَالَ ابْن بطال: وروى ابْن وهب عَن مَالك: أَنه إِذا كَانَ على الجاحد لِلْمَالِ دين فَلَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ إلاَّ مِقْدَار مَا يكون فِيهِ أُسْوَة الْغُرَمَاء،وَعَن أبي حنيفَة: يَأْخُذ من الذَّهَب الذَّهَب وَمن الْفضة الْفضة وَمن الْمكيل الْمكيل وَمن الْمَوْزُون الْمَوْزُون، وَلَا يَأْخُذ غير ذَلِك،وَقَالَ زفر: لَهُ أَن يَأْخُذ الْعرض بِالْقيمَةِ. انْتهى
    ........
    (13/9)
    وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَيّمَا ضيف نزل بِقوم فَأصْبح الضَّيْف محروماً، فَلهُ أَن يَأْخُذهُ، بِقدر قراه، وَلَا حرج عَلَيْهِ) . وَقَالَ الْجُمْهُور: الضِّيَافَة سنَّة وَلَيْسَت بواجبة، وَقد كَانَت وَاجِبَة فنسخ وُجُوبهَا، قَالَه الطَّحَاوِيّ، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِحَدِيث الْمِقْدَاد ابْن الْأسود،قَالَ: جِئْت أَنا وَصَاحب لي حَتَّى كَادَت تذْهب أسماعنا وأبصارنا من الْجُوع، فَجعلنَا نتعرض للنَّاس فَلم يضفنا أحد،وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَجعلنَا نعرض أَنْفُسنَا على أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَيْسَ أحد مِنْهُم يقبلنا، فأتينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْطَلق بِنَا إِلَى أَهله، فَإِذا ثَلَاثَة أعنز،فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: احتلبوا هَذَا اللَّبن بَيْننَا ... الحَدِيث بِطُولِهِ،قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَفلا يرى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يضيفوهم، وَقد بلغت بهم الْحَاجة، ثمَّ لم يعنفهم رَسُول الله على ذَلِك؟ فَدلَّ على نسخ مَا كَانَ أوجب على النَّاس من الضِّيَافَة،ثمَّ روى من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده: أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا يَأْخُذ أحدكُم مَتَاع صَاحبه لاعباً وَلَا جاداً، وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا صَاحبه فليردها إِلَيْهِ) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا،وَقيل: الحَدِيث مَحْمُول على الْمُضْطَرين. ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يلْزم الْمُضْطَر الْعِوَض أَو لَا؟فَقيل: يلْزم،وَقيل: لَا،وَقيل: كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام، فَكَانَت الْمُوَاسَاة وَاجِبَة، فَلَمَّا فتحت الْفتُوح نسخ ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أبي شُرَيْح عِنْد مُسلم
    .......
    (13/12)
    يد بن سهل الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وأحداً وَسَائِر الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، وعاش بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة، وَمَات بِالشَّام، قَالَه أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي. وَعَن أنس: أَنه غزا الْبَحْر فَمَاتَ فِيهِ، فَمَا وجدوا جَزِيرَة فدفنوه فِيهَا إِلَّا بعد سَبْعَة أَيَّام، وَلم يتَغَيَّر، وَفِي الْقَوْم كَانَ أَبُو عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب،
    .......
    (13/20)
    اخْتلف الْعلمَاء: هَل خيرهن فِي الطَّلَاق أَو بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ وَهل اخْتِيَارهَا صَرِيح أَو كِنَايَة؟ وَهل هُوَ فرقة أم لَا؟ وَهل هُوَ بِالْمَجْلِسِ أَو بِالْعرْفِ؟وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي كَيْفيَّة تَخْيِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَزوَاجه على قَوْلَيْنِ: الأول: خيرهن بِإِذن الله تَعَالَى فِي الْبَقَاء على الزَّوْجِيَّة أَو الطَّلَاق، فاخترن الْبَقَاء. الثَّانِي: خيرهن بَين الدُّنْيَا فيفارقهن وَبَين الْآخِرَة فيمسكهن، وَلم يُخَيِّرهُنَّ فِي الطَّلَاق. ذكره الْحسن وَقَتَادَة، وَمن الصَّحَابَة عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ،أَنه قَالَ: لم يُخَيّر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ إلاَّ بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَالَت عَائِشَة: خيرهن بَين الطَّلَاق وَالْمقَام مَعَه، وَبِه قَالَ مُجَاهِد وَالشعْبِيّ وَمُقَاتِل.
    وَاخْتلفُوا فِي سَببه،فَقيل: لِأَن الله خَيره بَين ملك الدُّنْيَا ونعيم الْآخِرَة، فَاخْتَارَ الْآخِرَة على الدُّنْيَا، فَلَمَّا اخْتَار ذَلِك أَمر الله بِتَخْيِير نِسَائِهِ ليكن على مثل حَاله،وَقيل: لِأَنَّهُنَّ تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ، فآلى مِنْهُنَّ شهرا،وَقيل: لِأَنَّهُنَّ اجْتَمعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيد مَا يُرِيد النِّسَاء من الْحلِيّ،حَتَّى قَالَ بَعضهنَّ: لَو كُنَّا عِنْد غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذن لَكَانَ لنا شَأْن وَثيَاب وحلي. وَقيل: لِأَن الله تَعَالَى صان خلْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فخيرهن على أَن لَا يتزوجن بعده، فَلَمَّا أجبن إِلَى ذَلِك أمسكهن. وَقيل: لِأَن كل وَاحِدَة طلبت مِنْهُ شَيْئا، وَكَانَ غير مستطيع، فطلبت أم سَلمَة معلما، ومَيْمُونَة حلَّة يَمَانِية، وَزَيْنَب ثوبا مخططاً وَهُوَ الْبرد الْيَمَانِيّ، وَأم حَبِيبَة ثوبا سحولياً، وَحَفْصَة ثوبا من ثِيَاب مصر، وَجُوَيْرِية معجراً وَسَوْدَة قطيفة خيبرية، إلاَّ عَائِشَة فَلم تطلب مِنْهُ شَيْئا، وَكَانَت تَحْتَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع نسْوَة،خمس من قُرَيْش: عَائِشَة، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأم سَلمَة بنت أبي الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. وَأَرْبع من غير قُرَيْش: صَفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَزَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيّ َة. قَوْله: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك} (الْأَحْزَاب: 82) . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سألنه شَيْئا من عرض الدُّنْيَا وآذينه بِزِيَادَة النَّفَقَة والغيرة، فغم ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهجرهن وآلى أَن لَا يقربهن شهرا، وَلم يخرج إِلَى أَصْحَابه فِي الصَّلَاة،فَقَالُوا: مَا شَأْنه؟ قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن شِئْتُم لأعلمن لكم مَا شَأْنه؟ فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَجرى مِنْهُ مَا ذكر
    ..........
    (13/20)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وجماهير الْعلمَاء: أَن من خير زَوجته فَاخْتَارَتْ لم يكن ذَلِك طَلَاقا، وَلَا يَقع بِهِ فرقة. وَرُوِيَ عَن عَليّ وَزيد بن ثَابت وَالْحسن وَاللَّيْث: أَن نفس التَّخْيِير يَقع بِهِ طَلْقَة بَائِنَة، سَوَاء اخْتَارَتْ زَوجهَا أم لَا، وَحَكَاهُ الْخطابِيّ وَغَيره عَن مَذْهَب مَالك،قَالَ القَاضِي: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك.

    .........
    (13/25)
    وَاعْلَم أَن الشَّخْص يُؤجر على إمَاطَة الْأَذَى، وكل مَا يُؤْذِي النَّاس فِي الطَّرِيق، وَفِيه دلَالَة على أَن طرح الشوك فِي الطَّرِيق وَالْحِجَارَة والكناسة والمياه الْمفْسدَة للطرق وكل مَا يُؤْذِي النَّاس يخْشَى الْعقُوبَة عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلَا شكّ أَن نزع الْأَذَى عَن الطَّرِيق من أَعمال الْبر، وَأَن أَعمال الْبر تكفر السَّيِّئَات وتوجب الغفران، وَلَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يحقر شَيْئا من أَعمال الْبر، أما مَا كَانَ من شجر فَقَطعه وألقاه، وَأما مَا كَانَ مَوْضُوعا فأماطه،وَالْأَصْل فِي هَذَا كُله قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) . وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق شُعْبَة من شعب الْإِيمَان.
    .......
    (13/27)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه من كَلَام أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَلَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تدل على أَنه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَجمع الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح بِمَا يؤول إِلَيْهِ ملخص كَلَامه: أَن معنى قَول أبي هُرَيْرَة: يلْحق مَعَهُنَّ وَلَا ينتهب ... إِلَى آخِره، يَعْنِي يلْحقهَا رِوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من عِنْد نَفسه، واختصاص أبي بكر بِهَذَا لكَونه بلغه أَن غَيره لَا يَرْوِيهَا
    ........
    إِجْمَاع أهل الْحق على أَن الزَّانِي وَالسَّارِق وَالْقَاتِل وَغَيرهم من أَصْحَاب الْكَبَائِر، غير الشّرك لَا يكفرون بذلك؟قلت: هَذَا الَّذِي دعاهم إِلَى أَن قَالُوا هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي تطلق على نفي الشَّيْء يُرَاد نفي كَمَاله،كَمَا يُقَال: لَا علم إلاَّ بِمَا نفع، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إلاَّ عَيْش الْآخِرَة، ثمَّ إِن مثل هَذَا التَّأْوِيل ظَاهر شَائِع فِي اللُّغَة يسْتَعْمل كثيرا، وَبِهَذَا يحصل الْجمع بَينه وَبَين مَا ذكر من الحَدِيث وَالْآيَة، وتأوله بعض الْعلمَاء على من فعل ذَلِك مستحلاً مَعَ علمه بورود الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ.
    .......
    (13/30)
    أُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طَنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ
    شُرَيْح هُوَ ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ، أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، استقضاه عمر بن الْخطاب على الْكُوفَة، وَأقرهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأقَام على الْقَضَاء بهَا سِتِّينَ سنة، وَقضى بِالْبَصْرَةِ سنة، وَمَات سنة ثَمَان وَسبعين وَكَانَ لَهُ عشرُون وَمِائَة سنة.
    ........
    (13/31)
    وَالَّذين ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة،وهم: عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، وَعبيد بن الْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَبَعض الْمَالِكِيَّة، احْتَجُّوا بِحَدِيث غَالب بن أبجر،قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّه لم يبْق من مَالِي شَيْء استطيع أَن أطْعم مِنْهُ أَهلِي غير حمر لي أَو حمرات لي قَالَ: فأطعم أهلك من سمين مَالك، وَإِنَّمَا قذرت لكم جوال الْقرْيَة. رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِي ّ. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده،فَفِي طَرِيق عَن ابْن معقل عَن رجلَيْنِ من مزينة أَحدهمَا: عَن الآخر عبد الله بن عَمْرو بن لويم، بِضَم اللَّام وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره مِيم،وَالْآخر: غَالب بن أبجر،وَقَالَ مسعر: أرِي غَالِبا الَّذِي سَأَلَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الله بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر، وَفِي طَرِيق عبد الله بن بشر، عوض عبد الرَّحْمَن، وَهَذَا اخْتِلَاف شَدِيد فَلَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي وَردت بِتَحْرِيم لُحُوم الْأَهْلِيَّة. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ بَاطِل، لِأَنَّهَا كلهَا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن بشر وَهُوَ مَجْهُول،وَالْآخر: من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن لويم، وَهُوَ مَجْهُول، أَو من طَرِيق شريك وَهُوَ ضَعِيف، ثمَّ عَن ابْن الْحسن، وَلَا يدْرِي من هُوَ، أَو من طَرِيق سلمى بنت النَّضر الخضرية وَلَا يدْرِي من هِيَ،وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث مَعْلُول، ثمَّ طول فِي بَيَانه
    .....
    (13/35)
    وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن جمَاعَة من أهل الْعلم أَنهم رَأَوْا قتال اللُّصُوص ودفعهم عَن أنفسهم أَمْوَالهم، وَقد أَخذ ابْن عمر لصاً فِي دَاره، فأصلت عَلَيْهِ السَّيْف،قَالَ سَالم: فلولا أَنا لضربه بِهِ،وَقَالَ النَّخعِيّ: إِذا خفت أَن يبدأك اللص فابدأه. وَقَالَ الْحسن: إِذا طرق اللص بِالسِّلَاحِ فاقتله، وَسُئِلَ مَالك عَن الْقَوْم يكونُونَ فِي السّفر فَتَلقاهُمْ اللُّصُوص؟قَالَ: يقاتلونهم وَلَو على دانق. وَقَالَ عبد الْملك:
    إِن قدر أَن يمْتَنع من اللُّصُوص فَلَا يعطهم شَيْئا. وَقَالَ أَحْمد: إِذا كَانَ اللص مُقبلا، وَأما موليا فَلَا. وَعَن إِسْحَاق مثله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي رجل دخل على رجل لَيْلًا للسرقة ثمَّ خرج بِالسَّرقَةِ من الدَّار،فَاتبعهُ الرجل فَقتله: لَا شَيْء عَلَيْهِ.
    .........
    (13/41)
    وَاسم أبي عُبَيْدَة: عَامر بن عبد الله بن الْجراح،بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الفِهري الْقرشِي أَمِين الْأمة، أحد الْعشْرَة المبشرة، شهد الْمشَاهد كلهَا، وَثَبت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم أحد وَنزع الحلقتين اللَّتَيْنِ دخلتا فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلق المنفر بِفِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، مَاتَ سنة ثَمَانِي عشرَة فِي طاعون عمواس، وقبره بغور نيسان عِنْد قَرْيَة تسمى عمتا، وَصلى عَلَيْهِ معَاذ بن جبل
    وَكَانَ سنه يَوْم مَاتَ ثمانياً وَخمسين سنة
    ........
    (13/47)
    (فسأحدثكم) ،أَي: سأبين لكم الْعلَّة فِي ذَلِك، وَلَيْسَت السِّين هُنَا للاستقبال بل للاستمرار،كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرين} (النِّسَاء: 19) . وَزعم الزَّمَخْشَرِيّ أَن السِّين إِذا دخلت على فعل مَحْبُوب أَو مَكْرُوه أفادت أَنه وَاقع لَا محَالة.
    وَقَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره يُوهم أَن مدى الْحَبَشَة لَا تقع بهَا الذَّكَاة، وَلَا خلاف أَن مُسلما لَو ذكى بمدية حبشِي كَافِر جَازَ،فَمَعْنَى الْكَلَام: أَن أهل الْحَبَشَة يدمون مذابح الشَّاة بأظفارهم حَتَّى تزهق النَّفس خنقاً وتعذيباً ويحلونها مَحل الذَّكَاة، فَلذَلِك ضرب الْمثل بِهِ.


    .......
    (13/48)
    وَقَالُوا: فِي حَدِيث أبي العشراء لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن التِّرْمِذِيّ قَالَ فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يصلح هَذَا إلاَّ فِي المتردية والمستوحشة،قَالُوا: وَلَئِن سلمنَا صِحَّته لما كَانَ فِيهِ حجَّة، إِذْ مقتضاة جَوَاز الذَّكَاة فِي أَي عُضْو كَانَ مُطلقًا فِي الْمَقْدُور على تذكيته وَغَيره، وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمَقْدُور عَلَيْهِ، فَظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد قطعا، وَقَالَ شَيخنَا،رَحمَه الله: لَيْسَ الْعَمَل على عُمُوم هَذَا الحَدِيث. وَلَعَلَّه خرج جَوَابا بالسؤال عَن المتوحش والمتردي الَّذِي لَا يقدر على ذبحه، وَقد روى أَبُو الْحسن الْمَيْمُونِيّ أَنه سَأَلَ أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث،فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي غلط. قلت: فَمَا تَقول؟قَالَ: أما أَنا فَلَا يُعجبنِي وَلَا أذهب إِلَيْهِ إلاَّ فِي مَوضِع ضَرُورَة، كَيفَ مَا أمكنتك الذَّكَاة لَا يكون إلاَّ فِي الْحلق أَو اللبة،قَالَ: فَيَنْبَغِي للَّذي يذبح أَن يقطع الْحلق أَو اللبة. قلت: روى مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة عَن سعيد بن مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع عَن ابْن عمر: أَن بَعِيرًا تردى فِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، فَلم يقدر على منحره، فوجىء بسكين من قبل خاصرته، فَأخذ مِنْهُ ابْن عمر عشيراً بِدِرْهَمَيْنِ

  17. #257
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأثنين
    الموافق : 7/ ربيع الثاني / 1442 هجري
    الموافق : 23/ فيراير / 2020 ميلادي

    " تابع / عمدة القاري لبدر الدين العيني رحمه الله .

    (13/49)
    وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يجب قطعه فِي الذّبْح،وَهُوَ أَرْبَعَة: الْحُلْقُوم والمرىء والودجان فَاشْترط قطع الْأَرْبَعَة: اللَّيْث وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَلَو اكْتفى الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ بِقطع الْحُلْقُوم والمريء فَقَط، وَاكْتفى مَالك بالحلقوم والودجين، وَاكْتفى أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة بِقطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة،وَعَن أبي يُوسُف: اشْتِرَاط الْحُلْقُوم واثنين من الثَّلَاثَة الْبَاقِيَة، وَعنهُ أَيْضا اشْتِرَاط الْحُلْقُوم والمري وَأحد الودجين، وَاشْترط مُحَمَّد بن الْحسن أَكثر كل وَاحِد من الْأَرْبَعَة.

    ............
    (13/ 48)
    الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُسلم يَكْفِيهِ اسْمه، فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم وليذكر اسْم الله ثمَّ ليَأْكُل) . حَدِيث ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان،قَالُوا: كَانَ صَدُوقًا، وَلَكِن كَانَ شَدِيد الْغَفْلَة. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِي سَنَده معقل بن عبد الله وَهُوَ وَإِن كَانَ من رجال مُسلم لكنه أَخطَأ فِي رفع هَذَا الحَدِيث، وَقد رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وَعبد الله
    بن الزبير الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: وَكَذَلِكَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة،قَالَ: سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرجل منا يذبح وينسى أَن يُسَمِّي الله؟قَالَ: (اسْم الله على كل مُسلم) ،وَفِي لفظ: (على فَم كل مُسلم) ، ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مَرْوَان بن سَالم، ضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْن ِيّ أَيْضا
    ....
    من أعتق شقيصاً من مَمْلُوك، وَهَذَا شَامِل للْعَبد وَالْأمة أَيْضا، وَحكى عَن ابْن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه تَخْصِيص هَذَا الحكم بالعبيد دون الْإِمَاء،قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا القَوْل شَاذ مُخَالف للْعُلَمَاء كَافَّة.
    ...........
    (13/52)
    وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ لَهُ إلاَّ الضَّمَان مَعَ الْيَسَار، أَو السّعَايَة مَعَ الْإِعْسَار، وَلَا يرجع الْمُعْتق على العَبْد بِشَيْء،وَالْوَلَاء للْمُعْتق فِي الْوَجْهَيْنِ وَاحْتج أَبُو حنيفَة بِمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا: من أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك فخلاصه عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال، وإلاَّ قوم عَلَيْهِ واستسعى بِهِ غير مشقوق، أَي لَا يشدد عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا فَثَبت السّعَايَة بذلك،وَقَالَ ابْن حزم: على ثُبُوت الِاسْتِسْعَاء ثَلَاثُونَ صحابياً. وَقَوله: وإلاَّ فقد عتق مِنْهُ مَا عتق، لم تصح هَذِه الزِّيَادَة عَن الثِّقَة أَنه من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،حَتَّى قَالَ أَيُّوب وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ: أهوَ شَيْء فِي الحَدِيث أَو قَالَه نَافِع من قبله؟ وهما الراويان لهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : هِيَ مكذوبة.
    وَاعْلَم أَن هَهُنَا أَرْبَعَة عشر مذهبا. الأول: مَذْهَب عُرْوَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْأسود بن يزِيد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَزفر: أَن من أعتق شركا لَهُ فِي عبد ضمن قيمَة حِصَّة شَرِيكه مُوسِرًا كَانَ أَو مُعسرا، وَرووا ذَلِك عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن الْخطاب. الثَّانِي: مَذْهَب ربيع: أَن من أعتق حِصَّة لَهُ من عبد بَينه وَبَين آخر لم ينفذ عتقه، نَقله أَبُو يُوسُف عَنهُ. الثَّالِث: مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَعَمْرو بن دِينَار: أَنه ينفذ عتق من أعتق وَيبقى من لم يعْتق على نصِيبه يفعل فِيهِ مَا شَاءَ. الرَّابِع: مَذْهَب عُثْمَان اللَّيْثِيّ، فَإِنَّهُ ينفذ عتقِ الَّذِي أعتق فِي نصِيبه وَلَا يلْزمه شَيْء لشَرِيكه إلاَّ أَن تكون جَارِيَة رائعة. إِنَّمَا تلتمس للْوَطْء، فَإِنَّهُ يضمن للضَّرَر الَّذِي أَدخل على شَرِيكه. الْخَامِس: مَذْهَب الثَّوْريّ وَاللَّيْث وَالنَّخَعِيّ فِي قَول
    .....
    (13/55)
    أَن فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة زِيَادَة وَهِي: وجوب السّعَايَة على العَبْد إِذا كَانَ الْمُعْتق مُعسرا. فَإِن قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قَوْله: استسعى غير مشقوق عَلَيْهِ لَا يُثبتهُ أهل النَّقْل مُسْندًا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويزعمون أَنه من قَول قَتَادَة،وَقد تَأَوَّلَه بعض النَّاس فَقَالَ: معنى السّعَايَة أَن يستسعي العَبْد لسَيِّده أَي: يستخدم
    وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: روى أَبُو هُرَيْرَة هَذَا الحَدِيث على خلاف مَا رَوَاهُ ابْن عمر، وَاخْتلف فِي حَدِيثه، وَهُوَ حَدِيث يَدُور على قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير ابْن نهيك عَن أبي هُرَيْرَة، وَاخْتلف أَصْحَاب قَتَادَة عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاء، وَهُوَ الْموضع الْمُخَالف لحَدِيث ابْن عمر من رِوَايَة مَالك وَغَيره، وَاتفقَ شُعْبَة وَهَمَّام على ترك ذكر السّعَايَة فِي هَذَا الحَدِيث، وَالْقَوْل قَوْلهم فِي قَتَادَة عِنْد جَمِيع أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ إِذا خالفهم فِي قَتَادَة غَيرهم، وَأَصْحَاب قَتَادَة الَّذين هم حجَّة فِيهِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة، فَإِن اتّفق هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لم يعرج على من خالفهم فِي قَتَادَة، وَإِن اخْتلفُوا نظر، فَإِن اتّفق مِنْهُم اثْنَان وَانْفَرَدَ وَاحِد فَالْقَوْل قَول الْإِثْنَيْنِ، لَا سِيمَا إِذا كَانَ أَحدهمَا شُعْبَة، وَلَيْسَ أحد بِالْجُمْلَةِ فِي قَتَادَة مثل شُعْبَة لِأَنَّهُ كَانَ يوقفه على الْإِسْنَاد وَالسَّمَاع، وَقد اتّفق شُعْبَة وَهِشَام فِي هَذَا الحَدِيث على سُقُوط ذكر الِاسْتِسْعَاء فِيهِ، وتابعهما همام، وَفِي هَذَا تَقْوِيَة لحَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ حَدِيث مدنِي صَحِيح لَا يُقَاس بِهِ غَيره، وَهُوَ أولى مَا قيل بِهِ فِي هَذَا الْبَاب.
    وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعف الشَّافِعِي السّعَايَة بِوُجُوه: مِنْهَا: أَن شُعْبَة وهشاماً رواياه عَن قَتَادَة وَلَيْسَ فِيهِ استسعاء وهما أحفظ. وَمِنْهَا: أَنه سمع بعض أهل الْعلم يَقُول: لَو كَانَ حَدِيث سعيد مُنْفَردا لَا يُخَالِفهُ غَيره مَا كَانَ ثَابتا. قلت: تَابع ابْن أبي عرُوبَة على رِوَايَته عَن قَتَادَة يحيى بن أبي صبيح، رَوَاهُ الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي عرُوبَة وَيحيى بن صبيح عَن قَتَادَة على مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ
    وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر فِي غَايَة الصِّحَّة، فَلَا يجوز الْخُرُوج عَن الزِّيَادَة الَّتِي فِيهِ، وَقد رَوَاهُ عَنهُ يزِيد ابْن هَارُون وَعِيسَى بن يُونُس وَجَمَاعَة كَثِيرَة، ذكرهم صَاحب (التَّمْهِيد) وَلم يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي أَمر السّعَايَة،مِنْهُم: عَبدة بن سُلَيْمَان وَهُوَ أثبت النَّاس سَمَاعا من ابْن أبي عرُوبَة، وَقَالَ صَاحب (الاستذكار) ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنهُ كَذَلِك روح بن عبَادَة وَيزِيد بن زُرَيْع وَعلي بن مسْهر وَيحيى بن سعيد وَمُحَمّد بن بكر وَيحيى بن أبي عدي، وَلَو كَانَ هَذَا الحَدِيث غير ثَابت كَمَا زَعمه الشَّافِعِي لما أخرجه الشَّيْخَانِ فِي (صَحِيحَيْهِمَا) وَقَالَ شَارِح (الْعُمْدَة) : الَّذين لم يَقُولُوا بالاستسعاء تعللوا فِي تَضْعِيفه بتعللات على الْبعد، وَلَا يُمكنهُم الْوَفَاء بِمِثْلِهَا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَال فِيهَا بِأَحَادِيث يرد عَلَيْهِم فِيهَا مثل تِلْكَ التعللات.

    ..........
    .....
    (13/59)
    وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقد دلّت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبينة عَن الله أَنه: لَا يجوز لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين أَكثر من أَربع، وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّافِعِي مجمع عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء إِلَّا مَا حكى عَن طَائِفَة من الشِّيعَة فِي الْجمع بَين أَكثر من أَربع إِلَى تسع،وَقَالَ بَعضهم: لَا حصر، وَقد يتَمَسَّك بَعضهم بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمعه بَين أَكثر من أَربع، أما تسع كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأما إِحْدَى عشرَة كَمَا جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ البُخَارِيّ، وَهَذَا عِنْد الْعلمَاء من خَصَائِص رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيره من الْأمة.
    ........
    (13/68)
    مَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق أبان الْعَطَّار عَن قَتَادَة عَن أنس: أَن يَهُودِيّا دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَجَابَهُ، وَلَقَد رهن ... إِلَى آخِره، وَهَذَا الْيَهُودِيّ هُوَ أَبُو الشَّحْم واسْمه كنيته، وَهُوَ من بني ظفر،بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَالْفَاء: وَهُوَ بطن من الْأَوْس وَكَانَ حليفاً لَهُم وَكَانَ قدر الشّعير ثَلَاثِينَ صَاعا
    .........
    (13/70)
    وَحكى الطَّبَرِيّ عَن الْوَاقِدِيّ،قَالَ: جاؤوا بِرَأْس كَعْب ابْن الْأَشْرَف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى) : أَن الَّذين قتلوا كَعْبًا حملُوا رَأسه فِي المخلاة إِلَى الْمَدِينَة،فَقيل: إِنَّه أول رَأس حمل فِي الْإِسْلَام،وَقيل: بل رَأس أبي عزو الجُمَحِي الَّذِي قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ، فَقتل وجمل رَأسه إِلَى الْمَدِينَة فِي رمح، وَأما أول مُسلم حمل رَأسه فِي الْإِسْلَام فعمر بن الخمق، وَله صُحْبَة. فَإِن قلت: كَيفَ قتلوا كَعْبًا على وَجه الْغرَّة وَالْخداع؟قلت: لما قدم مَكَّة وحرض الْكفَّار على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشبب بنساء الْمُسلمين فقد نقض الْعَهْد، وَإِذا نقض الْعَهْد فقد وَجب قَتله بِأَيّ طَرِيق كَانَ، وَكَذَا من يجْرِي مجْرَاه كَأبي رَافع وَغَيره،وَقَالَ الْمُهلب: لم يكن فِي عهد من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل كَانَ مُمْتَنعا بقَوْمه فِي حصنه،وَقَالَ الْمَازرِيّ: نقض الْعَهْد وَجَاء مَعَ أهل الْحَرْب معينا عَلَيْهِم، ثمَّ إِن ابْن مسلمة لم يُؤمنهُ لكنه كَلمه فِي البيع وَالشِّرَاء فاستأنس بِهِ، فَتمكن مِنْهُ من غير عهد وَلَا أَمَان.
    .......
    (13/80)
    وَعبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب وَهُوَ ابْن عَم وَالِد عَليّ بن الْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ أول من ولد للمهاجرين
    بِالْحَبَشَةِ، وَكَانَ آيَة فِي الْكَرم وَيُسمى ببحر الْجُود وَله صُحْبَة، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة
    ............
    (13/72)
    وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف الْعلمَاء أَيّمَا أفضل: عتق الْإِنَاث أَو الذُّكُور؟فَقَالَ بَعضهم: الْإِنَاث أفضل،وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّكُور أفضل، لحَدِيث أبي أُمَامَة وَلما فِي الذّكر من الْمعَانِي الْعَامَّة الَّتِي لَا تُوجد فِي الْإِنَاث، وَلِأَن من الْإِمَاء من لَا ترغب فِي الْعتْق وتضيع بِهِ بِخِلَاف العَبْد، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَاسْتحبَّ بعض الْعلمَاء أَن يعْتق الذّكر وَالْأُنْثَى، مثلهَا ذكره الفرغاني فِي (الْهِدَايَة) ليتَحَقَّق مُقَابلَة الْأَعْضَاء بالأعضاء،وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الزِّنَا كَبِيرَة لَا يكفر إلاَّ بِالتَّوْبَةِ، فَيحمل هَذَا الحَدِيث على أَنه أَرَادَ مس الْأَعْضَاء بَعْضهَا بَعْضًا من غير إيلاج،وَيحْتَمل أَن يُرِيد: أَن لعتق الْفرج حظاً فِي الموازنة فيكفر. وَفِيه: فضل الْعتْق، وَأَنه من أرفع الْأَعْمَال وَرُبمَا يُنجي الله بِهِ من النَّار
    ........
    (13/80)
    (تدع النَّاس) ،أَي: تتركهم من الشَّرّ،و: تدع، من الْأَفْعَال الَّتِي أمات الْعَرَب ماضيها، كَذَا قالته النُّحَاة، وَيرد عَلَيْهِم قِرَاءَة من قَرَأَ {مَا وَدعك
    رَبك وَمَا قلى} (الضُّحَى: 3) . بتَخْفِيف الدَّال.
    ..........
    (13/82 )
    قال البخاري :
    (بابٌ إذَا أعتَقَ عَبْداً بَيْنَ اثْنَيْنِ أوْ أمَةً بَيْنَ الشُّرَكاءِ)

    قيل: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى رد قَول إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: أَن هَذَا الحكم مُخْتَصّ بالذكور وخطئه،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: العَبْد اسْم للمملوك الذّكر بِأَصْل وَضعه، وَالْأمة اسْم لمؤنثه بِغَيْر لغظه،وَمن ثمَّ قَالَ إِسْحَاق: إِن هَذَا الحكم لَا يتَنَاوَل الْأُنْثَى، وَخَالفهُ الْجُمْهُور فَلم يفرقُوا فِي الحكم بَين الذّكر وَالْأُنْثَى، إِمَّا لِأَن لفظ العَبْد يُرَاد بِهِ الْجِنْس،كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَلا آتى الرَّحْمَن عبدا} (مَرْيَم: 39) . فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى قطعا، وَإِمَّا على طَرِيق الْإِلْحَاق لعدم الْفَارِق.
    .......
    (13/83 )
    قَالَ ابْن عبد الْبر: لَا خلاف أَن التَّقْوِيم لَا يكون إلاَّ على الْمُوسر، ثمَّ اخْتلفُوا فِي وَقت الْعتْق،فَقَالَ الْجُمْهُور وَالشَّافِعِيّ فِي الْأَصَح وَبَعض الْمَالِكِيَّة: إِنَّه يعْتق فِي الْحَال،وحجتهم رِوَايَة أَيُّوب الْمَذْكُورَة حَيْثُ قَالَ: فَهُوَ عَتيق،وأوضح من ذَلِك مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَغَيرهمَا من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى عَن نَافِع عَن ابْن عمر بِلَفْظ: (من أعتق عبدا وَله فِيهِ شُرَكَاء، وَله وَفَاء فَهُوَ حر) . وروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق ابْن أبي ذِئْب عَن نَافِع: (فَكَانَ للَّذي يعْتق نصِيبه مَا يبلغ ثمنه، فَهُوَ عَتيق كُله) . وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة: أَنه لَا يعْتق إلاَّ بِدفع الْقيمَة، فَلَو أعتق الشَّرِيك قبل أَخذ الْقيمَة نفذ عتقه، وَهُوَ أحد أَقْوَال الشَّافِعِي، رَحمَه الله.
    .......
    (13/86)
    رَادَ البُخَارِيّ بِذكر مُتَابعَة هَؤُلَاءِ الرَّد على من زعم أَن الِاسْتِسْعَاء فِي هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ، وَأَن سعيد بن أبي عرُوبَة تفرد بِهِ، فاستظهر لَهُ بمتابعة هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين.
    أما رِوَايَة حجاج بن حجاج فَهِيَ فِي نُسْخَة رَوَاهَا أَحْمد بن حَفْص أحد شُيُوخ البُخَارِيّ عَن أَبِيه عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَنهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حجاج بن أَرْطَأَة عَن قَتَادَة فقد أخرجهَا الطَّحَاوِيّ
    ............
    (13/87)
    فَقَالَ لعَبْدِهِ: أَنْت حر، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاق،قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق، بعد أَن أَرَادَ التَّلَفُّظ بِشَيْء،وَقَالَ أَصْحَابنَا: طَلَاق الخاطىء وَالنَّاسِي والهازل واللاعب وَالَّذِي يكلم بِهِ من غير قصد وَاقع، وَصُورَة النَّاسِي فِيمَا إِذا حلف وَنسي،وَقَالَ الدَّاودِيّ: النسْيَان لَا يكون فِي الطَّلَاق وَلَا الْعتاق إلاَّ أَن يُرِيد أَنه حلف بهما على فعل شَيْء ثمَّ نسي يَمِينه وَفعله، فَهَذَا إِنَّمَا يوضع فِيهِ النسْيَان إِذا لم يذكر فِيهِ يَمِينه، كَمَا تُوضَع الصَّلَاة عَمَّن نَسِيَهَا إِذا لم يذكرهَا حَتَّى يَمُوت، وَكَذَلِكَ دُيُون النَّاس وَغَيرهَا لَا يَأْثَم بِتَرْكِهَا نَاسِيا. قَالَ ابْن التِّين: هَذَا من الدَّاودِيّ على مَذْهَب مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي النَّاسِي فِي يَمِينه: هَل يلْزمه حنث أم لَا؟على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَأحد قولي الشَّافِعِي، وَبِه قَالَ إِسْحَاق، وَإِلَيْهِ ذهب البُخَارِيّ فِي الْبَاب. وَثَانِيهمَا: وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وطاووس: من أَخطَأ فِي الطَّلَاق فَلهُ نِيَّته،وَفِيه قَول ثَالِث: يَحْنَث فِي الطَّلَاق خَاصَّة، قَالَه أَحْمد، وَذهب مَالك والكوفيون إِلَى أَنه يَحْنَث فِي الْخَطَأ أَيْضا، وَادّعى ابْن بطال أَنه الْأَشْهر
    عَن الشَّافِعِي، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أَصْحَاب ابْن مَسْعُود. وَاخْتلف ابْن الْقَاسِم وَأَشْهَب فِيمَا إِذا دَعَا رجل عبدا يُقَال لَهُ نَاصح، فَأَجَابَهُ عبد يُقَال لَهُ مَرْزُوق،فَقَالَ لَهُ: أَنْت حر، وَهُوَ يظنّ الأول، وَشهد عَلَيْهِ بذلك،فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يعتقان جَمِيعًا: مَرْزُوق بمواجهته بِالْعِتْقِ، وناصح بِمَا نَوَاه، وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله فَلَا يعْتق إلاَّ نَاصح. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن لم يكن لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة لم يعْتق إلاَّ الَّذِي نوى،وَقَالَ أَشهب: يعْتق مَرْزُوق فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى، وَفِيمَا بَينه وَبَين الله لَا يعْتق نَاصح، لِأَنَّهُ دَعَاهُ لِيعْتِقَهُ فَأعتق غَيره وَهُوَ يَظُنّهُ مرزوقاً.
    ..........
    (13/88)
    أَن هَذِه الْمُجَاوزَة من خَصَائِص هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة يؤاخذون بذلك،وَقد اخْتلف: هَل كَانَ ذَلِك يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك عَنْهُم، أَو تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ،وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} (الْبَقَرَة: 482) . فقد قَالَ غير وَاحِد من الصَّحَابَة،مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس: إِنَّهَا مَنْسُوخَة،بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) . فَإِن قيل: قَالُوا: من عزم على الْمعْصِيَة بِقَلْبِه، وَإِن لم يعملها، يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا شكّ أَن الْعَزْم على الْمعْصِيَة وَسَائِر الْأَعْمَال القلبية كالحسد ومحبة إِشَاعَة الْفَاحِشَة يُؤَاخذ عَلَيْهِ، لَكِن إِذا وطَّن نَفسه عَلَيْهِ،وَالَّذِي فِي الحَدِيث هُوَ: مَا لم يوطن عَلَيْهِ نَفسه وَإِنَّمَا أَمر ذَلِك بفكره من غير اسْتِقْرَار، وَيُسمى هَذَا هما، وَيفرق بَين الْهم والعزم. فَإِن قيل: الْمَفْهُوم من لفظ: مَا لم تعْمل، مشْعر بِأَن مَا فِي الصُّدُور موطناً وَغير موطن لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجب الْحمل على غير الموطن جمعا بَينه وَبَين مَا يدل على الْمُؤَاخَذَة،كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة} (النُّور: 91) . وَأَيْضًا: لفظ الوسوسة لَا يسْتَعْمل إلاَّ عِنْد التَّرَدُّد والتزلزل. وَقَالَ عِيَاض: الهمّ مَا يمر فِي الْفِكر من غير اسْتِقْرَار وَلَا توطن، فَإِن اسْتمرّ وتوطن عَلَيْهِ عزماً يُؤَاخذ بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي ذهب إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّة السّلف وَأهل الْعلم وَالْفُقَهَاء والمحدثين والمتكلمين، وَلَا يلْتَفت إِلَى من خالفهم فِي ذَلِك. فَزعم أَن مَا يهم بِهِ الْإِنْسَان وَإِن وَطن بِهِ لَا يُؤَاخذ بِهِ متمسكاً فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى: {وَلَقَد هَمت بِهِ وهم بهَا} (يُوسُف: 42) . وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا لم تعْمل أَو تكلم، وَمن لم يعْمل بِمَا عزم عَلَيْهِ وَلَا نطق بِهِ، فَلَا. الْجَواب عَن و: الْآيَة أَن من الهمّ مَا يُؤَاخذ بِهِ الْإِنْسَان، وَهُوَ مَا اسْتَقر واستوطن، وَمِنْه مَا يكون أَحَادِيث لَا تَسْتَقِر، فَلَا يُؤَاخذ بهَا كَمَا شهد بِهِ الحَدِيث،
    .......
    (13/91)
    وَقَالَ الْمُهلب: لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِيمَا علمت إِذا قَالَ رجل لعَبْدِهِ: هُوَ حر،أَو: هُوَ لله، وَنوى الْعتْق أَنه يلْزمه الْعتْق. وكل مَا يفهم بِهِ عَن الْمُتَكَلّم أَنه أَرَادَ بِهِ الْعتْق لزمَه وَنفذ عَلَيْهِ،وروى ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة: أَن رجلا قَالَ لغلامه: أَنْت لله. فَسئلَ الشّعبِيّ وَالْمُسَيب بن رَافع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان،فَقَالُوا: هُوَ حر. وَعَن إِبْرَاهِيم كَذَلِك،وَقَالَ إِبْرَاهِيم: وَإِن قَالَ: إِنَّك لحر النَّفس، فَهُوَ حر،وَعَن الْحسن: إِذا قَالَ: مَا أَنْت إلاَّ حر، نِيَّته. وَعَن الشّعبِيّ مثله.
    وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الْعتْق عِنْد بُلُوغ الأمل والنجاة مِمَّا يخَاف، كَمَا فعل أَبُو هُرَيْرَة حِين أَنْجَاهُ الله من دَار الْكفْر وَمن ضلاله فِي اللَّيْل عَن الطَّرِيق، وَكَانَ إِسْلَام أبي هُرَيْرَة فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة.
    .........
    (13/98)
    والْحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَاصِم الْأَحول وَقَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا، وَسكت عَنهُ،ثمَّ أخرجه عَن ضَمرَة بن ربيعَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (من ملك ذَا رحم فَهُوَ حر) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ،والمحفوط: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَصَححهُ أَيْضا ابْن حزم وَابْن الْقطَّان،وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة كل من رُوَاته ثِقَات. انْتهى
    لَى تَضْعِيف حَدِيث سَمُرَة هَذَا، واستنكره ابْن الْمَدِينِيّ، وَرجح التِّرْمِذِيّ إرْسَاله، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: وَتفرد بِهِ حَمَّاد، وَكَانَ يشك فِي وَصله، وَغَيره يرويهِ عَن قَتَادَة عَن الْحسن. قَوْله: وَعَن قَتَادَة عَن عمر قَوْله: مُنْقَطِعًا، أخرج ذَلِك النَّسَائِيّ
    .......
    (13/98)
    وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي أسر الْعَبَّاس،فَقيل: ملك من الْمَلَائِكَة،وَقيل: أسره أَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو وأخو بني سَلمَة الْأنْصَارِيّ وَكَانَ الْعَبَّاس جسيماً وَأَبُو الْيُسْر مجموعاً،فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَيفَ أسرت الْعَبَّاس؟) فَقَالَ: أعانني عَلَيْهِ رجل مَا رَأَيْته قطّ،فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعانك عَلَيْهِ ملك كريم)
    وقيل
    أسره عبيد الله بن أَوْس الْأنْصَارِيّ من بني ظفر وَسمي: بمقرن،قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَإِنَّمَا سمي بِهِ لِأَنَّهُ قرن بَين الْعَبَّاس وَنَوْفَل وَعقيل بجبل،فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لقد أعانك عَلَيْهِم ملك كريم) ، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق وَلما أسر الْعَبَّاس بَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهراً تِلْكَ اللَّيْلَة،فَقيل لَهُ: مَالك لَا تنام؟فَقَالَ: (يَمْنعنِي أَمر الْعَبَّاس) ، وَكَانَ موثقًا بالقيد، فأطلقوه فَنَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
    وكانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أصابَ مِنْ أخِيهِ عَقِيلٍ ومِنْ عَمِّهِ عَبَّاسٍ
    ........
    (13/99)
    وَقيل: فَاخِتَة بنت زُهَيْر بن الْحَارِث دخلت الْكَعْبَة فِي نسْوَة من قُرَيْش وَهِي حَامِل، فَأَخذهَا الطلق فَولدت حكيماً بهَا، وَهُوَ من مُسلم الْفَتْح، وعاش مائَة وَعشْرين سنة، سِتُّونَ سنة فِي الْإِسْلَام وَسِتُّونَ سنة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمَات سنة أَربع وَخمسين فِي أَيَّام مُعَاوِيَة
    ........
    (13/100)
    وَاخْتلف فِي عتق الْمُشرك فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَالظِّهَار، فعندنا يجوز،
    وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز كَمَا فِي قتل الْخَطَأ،وَعَن أَحْمد كَقَوْلِنَا وَعنهُ: يجوز مُطلقًا، وَلنَا إِطْلَاق النُّصُوص وَآيَة الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان، وَالْأَصْل فِي كل نَص أَن يعْمل بِمُقْتَضَاهُ إطلاقاً وتقييداً.
    ......
    (13/100)
    قَالَ الْوَاقِدِيّ: رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه لم يحفظ عَنهُ شَيْئا،وَقَالَ ابْن بطال: الحَدِيث مُرْسل، لم يسمع الْمسور من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، ومروان لم يره قطّ.
    ............
    (13/102 )
    أما غَزْوَة بني المصطلق،فَقَالَ البُخَارِيّ: وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع،وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَذَلِكَ سنة سِتّ. وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: سنة أَربع. انْتهى. وَقَالَ الصغاني: غَزْوَة الْمُريْسِيع من غزوات رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سنة خمس من مهاجره،قَالُوا: إِن بني المصطلق من خُزَاعَة يُرِيدُونَ محاربة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَكَانُوا ينزلون على بئرٍ لَهُم يُقَال لَهَا: الْمُريْسِيع، بَينهَا وَبَين الْفَرْع مسيرَة يَوْم،وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت غَزْوَة بني المصطلق لليلتين من شعْبَان سنة خمس فِي سَبْعمِائة من أَصْحَابه،وَقَالَ ابْن هِشَام: اسْتعْمل على الْمَدِينَة أَبَا ذَر الْغِفَارِيّ،وَيُقَال: نميلَة بن عبد الله اللَّيْثِيّ، وَذكر ابْن سعد ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس إِلَيْهِم، فَأَسْرعُوا الْخُرُوج وقادوا الْخَيل، وَهِي ثَلَاثُونَ فرسا فِي الْمُهَاجِرين مِنْهَا عشرَة، وَفِي الْأَنْصَار عشرُون، واستخلف على الْمَدِينَة زيد بن حَارِثَة وَكَانَ مَعَه فرسَان لزار والظرب،وَيُقَال: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَامِل راية الْمُهَاجِرين، وَسعد بن عبَادَة حَامِل راية الْأَنْصَار، فَقتلُوا مِنْهُم عشرَة وأسروا سَائِرهمْ،
    وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَأُصِيب بني المصطلق نَاس، وَقتل عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم رجلَيْنِ مَالِكًا وَابْنه،وَكَانَ شعار الْمُسلمين يَوْمئِذٍ: يَا مَنْصُور أمت أمت.
    .......
    (13/108)
    وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أوصيكم بالضعيفين: الْمَرْأَة والمملوك،
    ........
    (13/109)
    قَالَ ابْن بطال: لفظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ. .) إِلَى آخِره هُوَ من قَول أبي هُرَيْرَة، وَكَذَا قَالَه الدَّاودِيّ وَغَيره،وَقَالُوا: يدل على أَنه مدرج يَعْنِي: الحَدِيث لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ: (وبرُّ أُمِّي) ، وَلم يكن للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَئِذٍ أم يبرها، وجنح الْكرْمَانِي إِلَى أَنه من كَلَام الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: مَاتَ أم الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ طِفْل، فَمَا معمى بره أمه؟قلت: لتعليم الْأمة، أَو على سَبِيل فرض الْحَيَاة، أَو المُرَاد بِهِ أمه الَّتِي أَرْضَعَتْه، وَهِي حليمة السعدية. انْتهى
    قلت: لَو اطلع الْكرْمَانِي على مَا اطلع عَلَيْهِ من يَدعِي الإدراج لما تكلّف هَذَا التَّأْوِيل المتعسف، وَقد صرح بالإدراج الْإِسْمَاعِيلِ يّ من طَرِيق آخر عَن عبد الله بن الْمُبَارك بِلَفْظ: وَالَّذِي نفس أبي هُرَيْرَة بِيَدِهِ ... إِلَى آخِره، وَكَذَلِكَ أخرجه الْحُسَيْن بن الْحسن الْمروزِي فِي كتاب (الْبر والصلة) عَن ابْن الْمُبَارك، وَصرح مُسلم أَيْضا بذلك، فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر وحرملة بن يحيى، قَالَا: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ: أخبرنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب، سَمِعت سعيد بن الْمسيب يَقُول: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (للْعَبد الْمَمْلُوك الصَّالح أَجْرَانِ، وَالَّذِي نفس أبي هُرَيْرَة بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَالْحج وبر أُمِّي لأحببت أَن أَمُوت وَأَنا مَمْلُوك) . قَالَ: وبلغنا أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يكن يحجّ حَتَّى مَاتَت أمه لصحبتها،
    ........
    (13/110)
    وَاسم أم أبي هُرَيْرَة: أُمَيْمَة، بِالتَّصْغِيرِ،وَقيل: مَيْمُونَة، وَهِي صحابية ثَبت ذكر إسْلَامهَا فِي (صَحِيح مُسلم) وَبَين أَبُو مُوسَى اسْمهَا فِي ذيل (الْمعرفَة)
    ......
    (3/110)
    قَالَ الْخطابِيّ: وَلِهَذَا الْمَعْنى امتحن الله، عز وَجل، أنبياءه، عَلَيْهِم السَّلَام، ابتلى يُوسُف، عَلَيْهِ السَّلَام، بِالرّقِّ
    ودانيال حِين سباه بخْتنصر، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَن خضر، عَلَيْهِ السَّلَام، حِين سُئِلَ لوجه الله فَلم يكن عِنْده مَا يُعْطِيهِ، فَقَالَ لَا أملك إلاَّ نَفسِي، فبعني واستنفق ثمني، وَنَحْو ذَلِك.
    .........
    (13/111)
    وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن قَالَ عَبدِي أَو أمتِي وَلم يرد التكبر فأرجو أَن لَا إِثْم عَلَيْهِ.
    وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ {واذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (يُوسُف: 24) . أيْ سَيَّدِكَ ومَنْ سَيِّدِكُمْ
    ذكر هَذَا كُله دَلِيلا لجَوَاز أَن يَقُول: عَبدِي وَأمتِي،وَأَن النَّهْي الَّذِي ورد فِي الحَدِيث عَن قَول الرجل: عَبدِي وَأمتِي. وَعَن قَوْله: إسق ربَّكَ، وَنَحْوه للتنزيه لَا للتَّحْرِيم. قَوْله: {وَالصَّالِحِينَ من بادكم وَإِمَائِكُمْ} هُوَ فِي سُورَة النُّور،وأوله: {وَانْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِم الله من فَضله وَالله وَاسع عليم} (النُّور: 23) . وَلما أَمر الله تَعَالَى قبل هَذِه الْآيَة بغض الْأَبْصَار وَحفظ الْفروج،بقوله: {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم} (
    .......
    (13/111)
    يُوسُف وزليخا فنفر يُوسُف عَنْهَا فأسرع يُرِيد الْبَاب ليخرج، وأسرعت زليخا وَرَاءه لتمنعه من الْخُرُوج، وقدت قَمِيصه من دُبُرٍ لِأَنَّهَا جبذته من خَلفه فشقت قَمِيصه،وألفيا سَيِّدهَا أَي: صادفا ولَقِيا بَعْلهَا، وَهُوَ قطفير،وَإِنَّمَا قَالَ: سَيِّدهَا،وَلم يقل: سيدهما، لِأَن ملك يُوسُف لم يَصح، فَلم يكن سيداً لَهُ على الْحَقِيقَة.
    ........
    (13/115)
    عبد الله بن زِيَاد بن سُلَيْمَان بن سمْعَان الْمدنِي، وَكَذَا قَالَ أَبُو نصر الكلاباذي وَغَيره، وروى عَن أبي ذَر الْهَرَوِيّ فِي رِوَايَته عَن الْمُسْتَمْلِي، كَذَلِك، وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِي ّ فِي (غرائب مَالك) من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن خرَاش، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة،عَن البُخَارِيّ قَالَ: حَدثنَا أَبُو ثَابت مُحَمَّد بن عبيد الله الْمدنِي، فَذكر الحَدِيث، لَكِن قَالَ بدل قَوْله ابْن فلَان ابْن سمْعَان، فَكَأَنَّهُ لم يُصَرح باسمه فِي الصَّحِيح، بل كنى بِهِ لأجل ضعفه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيُقَال: إِن مَالِكًا كذبه، وَهُوَ أحد المتروكين. قلت: كذبه أَحْمد وَغَيره أَيْضا وَمَاله فِي البُخَارِيّ شيىء إلاَّ هَذَا الْموضع.

    ......
    (13/116)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء، إِنَّمَا نهى عَن ضرب الْوَجْه لِأَنَّهُ لطيف
    يجمع المحاسن، وَأكْثر مَا يَقع الْإِدْرَاك بأعضائه فيخشى من ضربه أَن يبطل أَو يتشوه كلهَا أَو بَعْضهَا، والشين فِيهِ فَاحش لبروزه وظهوره، بل لَا يسلم إِذا ضرب غَالِبا من شين. انْتهى. وَهَذَا تَعْلِيل حسن، وَلَكِن روى مُسلم، وَفِي رِوَايَته تَعْلِيل آخر، فَإِنَّهُ روى الحَدِيث من طَرِيق أبي أَيُّوب المراعي عَن أبي هُرَيْرَة،وَزَاد: فَإِن الله خلق آدم على صورته. وَاخْتلف فِي مرجع هَذَا الضَّمِير،فَعِنْدَ الْأَكْثَرين: يرجع إِلَى الْمَضْرُوب، وَهَذَا حسن،وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أعَاد بَعضهم الضَّمِير على الله، متمسكاً بِمَا ورد من ذَلِك فِي بعض طرقه أَن الله تَعَالَى خلق آدم على صُورَة الرَّحْمَن،وَأنكر الْمَازرِيّ وَغَيره صِحَة هَذِه الزِّيَادَة ثمَّ قَالَ: وعَلى تَقْدِير صِحَّتهَا يحمل على مَا يَلِيق بالباري سُبْحَانَهُ، عز وَجل. قيل: كَيفَ يُنكر هَذِه الزِّيَادَة وَقد أخرجهَا ابْن أبي عَاصِم فِي السّنة، وَالطَّبَرَانِي ّ من حَدِيث ابْن عمر بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات، وأخرجها أَيْضا ابْن أبي عَاصِم من طَرِيق أبي يُوسُف عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ يرد التَّأْوِيل الأول؟قَالَ: من قَاتل فليجتنب الْوَجْه فَإِن صُورَة وَجه الْإِنْسَان على صُورَة وَجه الرَّحْمَن، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك تعين إجراؤه على مَا تقرر بَين أهل السّنة من إمراره، كَمَا جَاءَ من غير اعْتِقَاد تَشْبِيه أَو يؤول على مَا يَلِيق بالرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَإِن قلت: مَا حكم هَذَا النَّهْي؟قلت: ظَاهره التَّحْرِيم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث سُوَيْد بن مقرن أَنه رأى رجلا لطم غُلَامه،فَقَالَ: أما علمت أَن الصُّورَة مُحرمَة؟
    .......
    (13/117)
    قَالَ الرَّوْيَانِيّ: الْكِتَابَة إسلامية وَلم تكن تعرف فِي الْجَاهِلِيَّة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهَا كَانَت متعارفة قبل الْإِسْلَام فأقرها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي كَلَامه على حَدِيث بَرِيرَة: قيل: إِن بَرِيرَة أول مُكَاتبَة فِي الْإِسْلَام، وَقد كَانُوا يتكاتبون فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْمَدِينَةِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف فِي أول من كُوتِبَ فِي الْإِسْلَام فَقيل: سلمَان الْفَارِسِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَاتب أَهله على مائَة ودية نجمها لَهُم، فَقَالَ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا غرستها فاذنِّي. قَالَ: فَلَمَّا غرستها آذنته فَدَعَا فِيهَا بِالْبركَةِ، فَلم تفت مِنْهَا ودية وَاحِدَة. وَقيل: أول من كُوتِبَ أَبُو المؤمل،فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعينوه) ، فَقضى كِتَابَته وفضلت عِنْده، فاستفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام: (انفقها فِي سَبِيل الله) . وَأول من كُوتِبَ من النِّسَاء: بَرِيرَة، وَأول من كُوتِبَ بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو أُميَّة، مولى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ سِيرِين مولى أنس.
    .......
    (13/117)
    وَمِنْه قَول الشَّافِعِي: أقل التَّأْجِيل نجمان،أَي: شَهْرَان، ثمَّ سمي بِهِ مَا يُؤدى بِهِ من الْوَظِيفَة،يُقَال: دين منجم، جعل نجوماً،وَقَالَ الرَّافِعِيّ: النَّجْم فِي الأَصْل الْوَقْت، وَكَانَت الْعَرَب يبنون أُمُورهم على طُلُوع النَّجْم لأَنهم لَا يعْرفُونَ الْحساب،فَيَقُول أحدهم: إِذا طلع نجم الثريا أدّيت حَقك، فسميت الْأَوْقَات نجوماً، ثمَّ سمى الْمُؤَدى فِي الْوَقْت نجماً،وَقيل: أصل هَذَا من نُجُوم الأنواء، لأَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْحساب،

  18. #258
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الاربعاء
    الموافق : 25/نوفمبر /2020 ميلادي
    الموافق : 9/ربيع الثاني / 1442 هجري

    (13/120)
    حديث " من اشترط شرطا ليس في كتاب الله ..
    كلم الْعلمَاء فِيهِ كثيرا جدا لِأَنَّهُ رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة وطرق مُتَغَايِرَة، حَتَّى أَن مُحَمَّد بن جرير صنف فِي فَوَائده مجلداً، وَقد ذكرنَا أَكْثَرهَا فِيمَا مضى فِي كتاب الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَغَيرهَا، وَمن أعظم فَوَائده مَا احْتج بِهِ قوم على فَسَاد البيع بِالشّرطِ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَذهب قوم إِلَى أَن البيع صَحِيح وَالشّرط بَاطِل
    ...............
    (13/120)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: الشَّرْط فِي البيع أَقسَام: أَحدهَا: يَقْتَضِيهِ إِطْلَاق العقد، كَشَرط تَسْلِيمه. الثَّانِي: شَرط فِيهِ مصلحَة كَالرَّهْنِ وهما جائزان اتِّفَاقًا. الثَّالِث
    شْتِرَاط الْعتْق فِي العَبْد، وَهُوَ جَائِز عِنْد الْجُمْهُور لحَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة. الرَّابِع: مَا يزِيد على مُقْتَضى العقد وَلَا مصلحَة فِيهِ للْمُشْتَرِي كاستثناء منفعَته فَهُوَ بَاطِل.
    .......
    (13/127)
    لحض على التهادي وَلَو باليسير لما فِيهِ من استجلاب الْمَوَدَّة وإذهاب الشحناء وَلما فِيهِ من التعاون على أَمر الْمَعيشَة والهدية إِذا كَانَت يسيرَة فَهِيَ أدل على الْمَوَدَّة وَأسْقط للمؤنة وأسهل على الْمهْدي لإطراح التَّكْلِيف وَالْكثير قد لَا يَتَيَسَّر كل وَقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير
    .............
    (13/128)
    وَقَالَ أَبُو عبيد: الأكارع قَوَائِم الشَّاة، وأكارع الأَرْض أطرافها القاصية، شبه بأكارع الشَّاة أَي: قَوَائِمهَا، وَقَالَ بَعضهم: قيل: الكراع اسْم مَكَان. قلت: الَّذِي قَالَه هُوَ الْغَزالِيّ، ذكره فِي (الْإِحْيَاء) بِلَفْظ: كرَاع الغميم، وَترد ذَلِك رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: لَو أهدي إِلَيّ كرَاع لقبلته، ثمَّ صَححهُ وَادّعى صَاحب (التنقيب على التَّهْذِيب) أَن سَبَب هَذَا الحَدِيث أَن أم حَكِيم الْخُزَاعِيَّة قَالَت: يَا رَسُول الله! أتكره الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أقبح رد الْهَدِيَّة، لَو دعيت إِلَى كرَاع لَأَجَبْت، وَلَو أهدي إِلَيّ ذِرَاع لقبلت. قلت: الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ رَحمَه الله. وَقَالَ ابْن بطال: أَشَارَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْكُرَاعِ والفرسن إِلَى الحض على قبُول الْهَدِيَّة، وَلَو قلَّت لِئَلَّا يمْتَنع الْبَاعِث من المهاداة، لاحتقار المهدى إِلَيْهِ. انْتهى. والذراع أفضل من الكراع، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يحب أكله، وَلِهَذَا سمَّ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحِبهُ لِأَنَّهُ مبادي الشَّاة وَأبْعد من الْأَذَى.
    ........
    (13/130)
    (الْمُحكم) . ثمَّ قَالَ: والأرنب الْأُنْثَى والخزر الذّكر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي بَاب الزَّاي: الخزز ذكر الأرانب، وَالْجمع: خزان، مثل صرد وصردان.
    وَفِيه: إِبَاحَة أكل الأرنب، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وكافة الْعلمَاء إلاَّ مَا حُكيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: أَنهم كَرهُوا
    أكلها
    وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد كره بعض أهل الْعلم أكل الأرنب،وَقَالُوا: إِنَّهَا تدمى. انْتهى. قلت: رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا كَرَاهَة إكله، وَالأَصَح قَول الْعَامَّة. وَورد فِي إِبَاحَته أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث جَابر بن عبد الله،رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ: (أَن غُلَاما من قومه صَار أرنباً فذبحها بمروة، فعلقها، فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أكلهَا، فَأمره بأكلها. وَمِنْهَا: حَدِيث عمار بن يَاسر، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِي ّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة ابْن الحوتكية: أَن رجلا سَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الأرنب؟ فَأرْسل إِلَى عمار،فَقَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزلنا فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا، فأهدى لَهُ رجل من الْأَعْرَاب أرنباً فأكلناها،فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنِّي رَأَيْت دَمًا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا بَأْس) .
    ........
    (13/133)
    وروى الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) مُسْندًا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة، قَالَ: نزلنَا أَرضًا كَثِيرَة الضباب فأصابتنا مجاعَة، فطبخنا مِنْهَا وَإِن الْقُدُور لتغلي بهَا إِذْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: ضباب أصبناها. وَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت دَوَاب فِي الأَرْض إِنِّي أخْشَى أَن تكون هَذِه، فأكفؤها. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت بِإِبَاحَة أكل الضَّب مَنْسُوخَة بأحاديثنا، وَوجه هَذَا النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة مثل مَا نَحن فِيهِ، والتعارض ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر، ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى، وَلَا يُمكن جعل الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِثْبَات النّسخ مرَّتَيْنِ، فَافْهَم
    .........
    (13/140)
    وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن للسُّلْطَان أَن يرفع أَمْلَاك قوم إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة واستئلاف، ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا ذكره، بل فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بعد تطييب نفوس الْغَانِمين.
    .......
    (13/142)
    اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن وهب هبة ثمَّ طلب ثَوَابهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا أردْت الثَّوَاب، فَقَالَ مَالك: ينظر فِيهِ، فَإِن كَانَ مثله من يطْلب الثَّوَاب من الْمَوْهُوب لَهُ فَلهُ ذَلِك، مثل هبة الْفَقِير للغني والغلام لصَاحبه، وَالرجل لامْرَأَته وَمن فَوْقه، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يكون لَهُ إِذا لم يشرطه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الثَّانِي، وَاحْتج مَالك بِحَدِيث الْبَاب، والاقتداء بِهِ وَاجِب، قَالَ الله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن أَعْرَابِيًا وهب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأثابه عَلَيْهَا. وَقَالَ: رضيت؟ فَقَالَ: لَا، فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا، فزاده. قَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أتهب هبة إلاَّ من قريشي أَو أَنْصَارِي أَو ثقفي، وَعَن أبي هُرَيْرَة نَحوه، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط مُسلم وَهُوَ دَال على الثَّوَاب فِيهَا، وَإِن لم يشرط، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثابه وزاده فِيهِ حَتَّى بلغ رِضَاهُ، وَاحْتج بِهِ من أوجبه، قَالَ: وَلَو لم يكن وَاجِبا لم يثبه وَلم يزده، وَلَو أثاب تَطَوّعا لم تلْزمهُ الزِّيَادَة، وَكَانَ يُنكر على الْأَعرَابِي طلبَهَا. قلت: طمع فِي مَكَارِم أخلافه وعادته فِي الإثابة. وَقَالَ ابْن التِّين: إِذا شَرط الثَّوَاب أجَازه الْجَمَاعَة إلاَّ عبد الْملك، وَله عِنْد الْجَمَاعَة أَن يردهَا مَا لم يتَغَيَّر إلاَّ عِنْد مَالك، فألزمه الثَّوَاب بِنَفس الْقبُول، وَعبارَة ابْن الْحَاجِب: وَإِذا صرح بالثواب فَإِن عيَّنه فَبيع، وَإِن لم يُعينهُ فصححه ابْن الْقَاسِم وَمنعه بَعضهم للْجَهْل بِالثّمن، قَالَ: وَلَا يلْزم الْمَوْهُوب لَهُ إلاَّ قيمتهَا قَائِمَة أَو فَائِتَة، وَقَالَ مطرف: للْوَاهِب أَن يَأْبَى إِن كَانَت قَائِمَة.
    ..........
    (13/142)
    وَاخْتلف الْعلمَاء من التَّابِعين وَغَيرهم فِيهِ، فَقَالَ طَاوُوس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَمُجاهد وَعُرْوَة وَابْن جريج وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن شبْرمَة وَأحمد وَإِسْحَاق وَسَائِر الظَّاهِرِيَّة: أَن الرجل إِذا نحل بعض بنيه دون بعض فَهُوَ بَاطِل. وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلف فِي ذَلِك عَن أَحْمد، وَأَصَح شَيْء عَنهُ فِي ذَلِك مَا ذكره الخرفي فِي (مُخْتَصره) عَنهُ، قَالَ: وَإِذا فضل بعض وَلَده فِي الْعَطِيَّة أَمر برده، فَإِن مَاتَ وَلم يردهُ فقد ثَبت لمن وهب لَهُ، إِذا كَانَ ذَلِك فِي صِحَّته، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث النُّعْمَان ابْن بشير، يَقُول: نَحَلَنِي أبي غُلَاما، فأمرتني أُمِّي أَن أذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشهده على ذَلِك، فَقَالَ: أكل ولدك أَعْطيته؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: فاردده، أخرجه الجماهير غير أبي دَاوُد، وَقَالَ الثَّوْريّ وَاللَّيْث بن سعد وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة: يجوز أَن ينْحل لبَعض وَلَده دون بعض،
    ....
    (13/143)
    روى الْحَاكِم مَرْفُوعا من حَدِيث
    عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه، وَأَن وَلَده من كَسبه، فَكُلُوا من مَال أَوْلَادكُم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَعند أبي حنيفَة: يجوز للْأَب الْفَقِير أَن يَبِيع عَرَضَ ابْنه الْغَائِب لأجل النَّفَقَة، لِأَن لَهُ تملك مَال الابْن عِنْد الْحَاجة، وَلَا يَصح بيع عقاره لأجل النَّفَقَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يجوز فيهمَا، وَأَجْمعُوا أَن الْأُم لَا تبيع مَال وَلَدهَا الصَّغِير وَالْكَبِير، كَذَا فِي (شرح الطَّحَاوِيّ
    .........
    (13/145)
    اخْتلف الْفُقَهَاء فِي معنى التَّسْوِيَة: هَل هُوَ على الْوُجُوب أَو على النّدب؟ فَأَما مَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه فأجازوا أَن يخص بعض بنيه دون بعض بالنحلة والعطية، على كَرَاهِيَة من بَعضهم، والتسوية أحب إِلَى جَمِيعهم. وَقَالَ الشَّافِعِي: ترك التَّفْضِيل فِي عَطِيَّة الْأَبْنَاء فِيهِ حسن الْأَدَب، وَيجوز لَهُ ذَلِك فِي الحكم، وَكره الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد أَن يفضل بعض وَلَده على بعض فِي العطايا، وَكَانَ إِسْحَاق يَقُول مثل هَذَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مثل قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ الْمُهلب: وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَنه لَا تلْزم المعدلة فِيمَا يَهبهُ غير الْأَب لولد غَيره.
    ,,,,,,,,,
    (13/144)
    النذير ابْن سعد بن ثَعْلَبَة بن الْجلاس، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام: الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأَبوهُ بشير من الْبَدْرِيِّينَ ، قيل: إِنَّه أول من بَايع أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الْأَنْصَار بالخلافة، وَقتل يَوْم عين التَّمْر مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة ثِنْتَيْ عشرَة بعد انْصِرَافه من الْيَمَامَة
    .........
    (13/145)
    أخرجه سعيد بن مَنْصُور وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (سووا بَين أَوْلَادكُم فِي الْعَطِيَّة، فَلَو كنت مفضلاً أحدا لفضلت النِّسَاء) .
    .......
    (13/148)
    الَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْعَائِد فِي هِبته كالعائد فِي قيئه) ، زَاد أَبُو دَاوُد: قَالَ قَتَادَة، وَلَا نعلم الْقَيْء إلاَّ حَرَامًا، وَاحْتج بِهَذَا طَاوُوس وَعِكْرِمَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق على أَنه: لَيْسَ للْوَاهِب أَن يرجع فِيمَا وهبه إلاَّ الَّذِي ينحله الْأَب لِابْنِهِ، وَعند مَالك: لَهُ أَن يرجع فِي الْأَجْنَبِيّ الَّذِي قصد مِنْهُ الثَّوَاب وَلم يثبه، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: للْوَاحِد الرُّجُوع فِي هِبته من الْأَجْنَبِيّ مَا دَامَت قَائِمَة وَلم يعوض مِنْهَا، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَشُرَيْح القَاضِي وَالْأسود بن يزِيد، وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب

  19. #259
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأحد
    الموافق /29/نوفمبر /2020 ميلادي

    (13/150)
    {وَلَا تُؤْتوا السُّفَهَاء أَمْوَالكُم} (النِّسَاء: 5) . ذكر هَذَا فِي معرض الِاسْتِدْلَال. وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَمُجاهد وَالْحكم: السُّفَهَاء الَّذين ذكرهم الله، عز وَجل، هُنَا الْيَتَامَى وَالنِّسَاء،وَعَن الْحسن: الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ،وَفِي لفظ: الصغار وَالنِّسَاء أسفه السُّفَهَاء،وَفِي لفظ: ابْنك السَّفِيه وامرأتك السفيهة، وَقد ذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: اتَّقوا الله فِي الضعيفين: الْيَتِيم وَالْمَرْأَة. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: النِّسَاء وَالصبيان،وَقَالَ السّديّ: الْوَلَد وَالْمَرْأَة. وَقَالَ الضَّحَّاك: الْوَلَد وَالنِّسَاء أسفه السُّفَهَاء، فَيَكُونُوا عَلَيْكُم أَرْبَابًا. وَعَن ابْن عَبَّاس: امْرَأَتك وبنتك قَالَ: وأسفه السُّفَهَاء الْولدَان وَالنِّسَاء. قَالَ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ غير هَؤُلَاءِ: إِنَّهُم الصّبيان خَاصَّة، قَالَه ابْن جُبَير
    ...........
    (13/151)
    قَالَ: وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بالتبويب وَمَا فِيهِ من الْأَحَادِيث الرَّد على من خَالف ذَلِك (روى حبيب الْمعلم عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ،لما فتح مَكَّة: لَا يجوز عَطِيَّة امْرَأَة فِي مَالهَا إلاَّ بِإِذن زَوجهَا) . أخرجه النَّسَائِيّ.
    وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمَرْأَة المالكة لنَفسهَا الرشيدة ذَات الزَّوْج على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَا فرق بَينهَا وَبَين الْبَالِغ الرشيد فِي التَّصَرُّف، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَالْقَوْل الآخر: لَا يجوز لَهَا أَن تُعْطِي من مَالهَا شَيْئا بِغَيْر إِذن زَوجهَا، رُوِيَ ذَلِك عَن أنس وطاووس وَالْحسن الْبَصْرِيّ. وَقَالَ اللَّيْث: لَا يجوز عتق الْمُزَوجَة وصدقتها إلاَّ فِي الشَّيْء الْيَسِير الَّذِي لَا بُد مِنْهُ من صلَة الرَّحِم، أَو مَا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى،وَقَالَ مَالك: لَا يجوز عطاؤها بِغَيْر إِذن زَوجهَا إلاَّ من ثلث مَالهَا خَاصَّة، قِيَاسا على الْوَصِيَّة
    ..........
    (13/155)
    الَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ كانَتِ الْهَدِيَّةُ فِي زَمَنِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدِيَّةً والْيَوْمَ رِشْوَةٌ
    هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن سعيد بِقصَّة فِيهِ، فَروِيَ من طَرِيق فرات بن مُسلم،قَالَ: اشْتهى عمر بن عبد الْعَزِيز التفاح فَلم يجد فِي بَيته شَيْئا يَشْتَرِي بِهِ، فَرَكبْنَا مَعَه، فَتَلقاهُ غلْمَان الدَّيْر بأطباق تفاح، فَتَنَاول وَاحِدَة فشمها، ثمَّ رد الأطباق. فَقلت لَهُ فِي ذَلِك،فَقَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ. فَقلت: ألم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يقبلُونَ الْهَدِيَّة؟فَقَالَ: إِنَّهَا لأولئك هَدِيَّة، وَهِي للعمال بعدهمْ رشوة، والرشوة،بِضَم الرَّاء وَكسرهَا وَفتحهَا: مَا تُؤْخَذ بِغَيْر عوض، ويذم آخذه.
    .......................
    (13/167)
    وَفِي الْبَاب عَن عِيَاض بن حمَار أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا من طَرِيق قَتَادَة عَن يزِيد بن عبد الله عَن عِيَاض. قَالَ: أهديث للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،نَاقَة فَقَالَ: أسلمت؟قلت: لَا،قَالَ: إِنِّي نهيت عَن زبد الْمُشْركين. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح،وَمعنى قَوْله: إِنِّي نهيت عَن زبد الْمُشْركين،يَعْنِي: هداياهم.
    قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخا لِأَنَّهُ قبل هَدِيَّة غير وَاحِد من الْمُشْركين، أهْدى لَهُ الْمُقَوْقس مَارِيَة وَالْبَغْلَة، وَأهْدى لَهُ أكيدر دومة فَقبل مِنْهُمَا. وَقيل: إِنَّمَا رد هديته ليغيظه بردهَا فيحمله ذَلِك على الْإِسْلَام. وَقيل: ردهَا لِأَن للهدية موضعا من الْقلب، وَلَا يجوز أَن يمِيل بِقَلْبِه
    إِلَى مُشْرك، فَردهَا قطعا لسَبَب الْميل، وَلَيْسَ ذَلِك مناقضاً لقبُول هَدِيَّة النَّجَاشِيّ والمقوقس وأكيدر لأَنهم أهل كتاب. انْتهى.

    .........

    (13/170)
    وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى نبوة ثَلَاث نسْوَة: سارة وَأم مُوسَى وَمَرْيَم، عَلَيْهِنَّ السَّلَام،وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنَّهُنَّ صديقات.
    ..........
    (13/173)
    وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى نبوة ثَلَاث نسْوَة: سارة وَأم مُوسَى وَمَرْيَم، عَلَيْهِنَّ السَّلَام،وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَنَّهُنَّ صديقات.
    قبل أَن يؤمروا بِقِتَال الْمُشْركين كَافَّة، فَاسْتَشَارَ الْمُسلمُونَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قراباتهم من الْمُشْركين أَن يبروهم ويصلوهم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة،
    ..........
    (13/175)
    مَا رَوَاهُ ابْن سعد وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث عبد الله بن الزبير،قَالَ: قدمت قتيلة على ابْنَتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر فِي الْمَدِينَة وَكَانَ أَبُو بكر طَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بِهَدَايَا زبيب وَسمن وقرظ، فَأَبت أَسمَاء أَن تقبل هديتها أَو تدْخلهَا بَيتهَا،فَأرْسلت إِلَى عَائِشَة: سَلِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فَقَالَ: لتدخلها ... الحَدِيث،
    قَالَ الزبير بن بكار أسمها قتلة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق،وَقَالَ الدَّاودِيّ: اسْمهَا أم بكر،وَقَالَ ابْن التِّين: لَعَلَّه كنيتها،وَالصَّحِيح: قتيلة، بِضَم الْقَاف على صِيغَة التصغير، بنت عبد الْعُزَّى بن أسعد بن جَابر بن نصر بن مَالك بن حسل،بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون السِّين الْمُهْمَلَتَيْ نِ: ابْن عَامر بن لؤَي، وَذكرهَا المستغفري فِي جملَة الصَّحَابَة. وَقَالَ تَأَخّر إسْلَامهَا،. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: لَيْسَ فِي شَيْء من الحَدِيث ذكر إسْلَامهَا.
    ..........

    (13/175 )
    وروى (عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من وهب هبة فَهُوَ أَحَق بهبته، مَا لم يثب مِنْهَا) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ،فَإِن قَالَ المساعد لَهُ: هَذَانِ الحديثان لَا يقاومان حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ فِي هَذَا الْبَاب. قلت: وَلَئِن سلمنَا ذَلِك، فَمَا يَقُول فِي حَدِيث ابْن عمر، أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) عَنهُ أَن النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من وهب هبة فَهُوَ أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا،وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ أَيْضا فِي سنَنه،فَإِن قَالَ: مساهلة الْحَاكِم فِي التَّصْحِيح مَشْهُورَة،يُقَال: لَهُ حَدِيث ابْن عمر صَحِيح مَرْفُوعا، وَرُوَاته ثِقَات، كَذَا قَالَ عبد الْحق فِي الْأَحْكَام، وَصَححهُ ابْن حزم أَيْضا، فَفِيهِ الْكِفَايَة لمن يَهْتَدِي إِلَى مدارك الْأَشْيَاء ومسالك الدَّلَائِل.
    ..........
    (13/177)
    في البخاري :حدَّثنا مالِكٌ عنْ زيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ ابنَ الخطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقولُ حَمَلْتُ عَلَى فرَسٍ فِي سَبِيلِ الله فأضاعَهُ الَّذِي كانَ عِنْدَهُ فأرَدْتُ أنْ أشْتَرِيَهُ مِنْهُ وظَنَنْتُ أنَّهُ بائِعُهُ بِرُخْصٍ فَسألْتُ عنْ ذَلِكَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَا تَشْتَرِهِ وإنْ أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ واحِدٍ فإنَّ العَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كالْكَلْبِ يَعودُ فِي قَيْئِهِ..
    يرى البخاري وصنيعه
    ا يفرق بَين الْهِبَة وَالصَّدَََقَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْهِبَة يجوز الرُّجُوع فِيهَا على مَا فِيهِ من الْخلاف وَالتَّفْصِيل، بِخِلَاف الصَّدَقَة فَإِنَّهُ لَا يجوز الرُّجُوع فِيهَا مُطلقًا
    وَهَذَا الْفرس هُوَ الَّذِي أهداه تَمِيم الدَّارِيّ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،يُقَال لَهُ: الْورْد، فَأعْطَاهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحمل عَلَيْهِ عمر فِي سَبِيل الله فَوَجَدَهُ يُبَاع،
    .........
    (13/178)
    (أَن بني صُهَيْب) ،بِضَم الصَّاد: ابْن سِنَان بن خَالِد الْموصِلِي ثمَّ الرُّومِي ثمَّ الْمَكِّيّ ثمَّ الْمدنِي، كَانَ من السَّابِقين الْأَوَّلين والمعذبين فِي الله، أَبُو يحيى،وَقيل: أَبُو غَسَّان، سبته الرّوم من نِينَوَى وَأمه سلمى من بني مَازِن بن عَمْرو بن تَمِيم، كَانَ أَبوهُ أَو عَمه عَاملا لكسرى على الأبلة، وَكَانَت مَنَازِلهمْ بِأَرْض الْموصل، فأغارت الرّوم على تِلْكَ النَّاحِيَة فسبت صهيباً وَهُوَ غُلَام صَغِير، فَنَشَأَ بالروم فَصَارَ ألكن، فابتاعه كلب مِنْهُم، فقدموا بِهِ مَكَّة فَاشْتَرَاهُ عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تَمِيم بن مرّة، فَأعْتقهُ فَأَقَامَ مَعَه بِمَكَّة إِلَى أَن هلك ابْن جدعَان، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة فِي النّصْف من ربيع الأول، وَأدْركَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقباء قبل أَن يدْخل الْمَدِينَة، وَشهد بَدْرًا، وَمَات بِالْمَدِينَةِ فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَهُوَ ابْن سبعين سنة، وَصلى عَلَيْهِ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأما بَنو صُهَيْب فهم: حَمْزَة وَسعد وَصَالح وَصَيْفِي وَعباد وَعُثْمَان وحبِيب وَمُحَمّد، وَكلهمْ رووا عَنهُ.
    .......
    (13/180)
    الْقَاعِدَة المستمرة تَنْفِي الحكم بِشَاهِد وَاحِد. فَلَا بُد من شَاهِدين أَو من شَاهد وَيَمِين عِنْد من يرَاهُ بذلك. فَإِن قلت: قد اسْتدلَّ بَعضهم بقول بعض السّلف، كشريح القَاضِي،أَنه قَالَ: الشَّاهِد الْوَاحِد إِذا انضمت إِلَيْهِ قرينَة تدل على صدقه أَلا ترى أَن أَبَا دَاوُد ترْجم فِي (سنَنه) بَاب إِذا علم الْحَاكِم صدق الشَّاهِد الْوَاحِد يجوز لَهُ أَن يحكم! وسَاق قصَّة خُزَيْمَة بن ثَابت،وَسبب تَسْمِيَته: ذَا الشَّهَادَتَيْن ِ؟قلت: الْجُمْهُور على أَن ذَلِك لَا يَصح، وَأَن قصَّة خُزَيْمَة مَخْصُوصَة بِهِ،وَقَالَ ابْن التِّين: قَضَاء مَرْوَان بِشَهَادَة ابْن عمر يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يجوز لَهُ أَن يُعْطي من مَال الله من يسْتَحق الْعَطاء،فَينفذ مَا قيل لَهُ: إِن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطَاهُ، فَإِن لم يكن كَذَلِك كَانَ قد أَمْضَاهُ، وَإِن كَانَ غير ذَلِك كَانَ هُوَ الْمُعْطِي عَطاء صَحِيحا. وَقد يكون هَذَا خَاصّا فِي الْفَيْء، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعْطى أَبَا قَتَادَة بِدَعْوَاهُ وَشَهَادَة من كَانَ السَّلب عِنْده. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه رُبمَا حكم الإِمَام بِشَهَادَة المبرز فِي الْعَدَالَة وجده،وَقد قَالَ بعض فُقَهَاء الْكُوفَة: حكم شُرَيْح بشهادتي وحدي فِي شَيْء. قَالَ: وَأَخْطَأ شُرَيْح،قَالَ: وَالْوَجْه الأول الصَّحِيح.
    .........
    (13/180)
    ن النَّسَائِيّ روى بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا: الْعُمْرَى والرقبى سَوَاء؟قلت: هَذَا الْجَواب غير مقنع، لأَنا لَا نسلم الِاتِّحَاد بَينهمَا فِي الْمَعْنى فالعمرى من الْعُمر والرقبى من المراقبة. وَبَينهمَا فرق فِي التَّعْرِيف، على مَا يَجِيء بَيَانه،وَمعنى قَول ابْن عَبَّاس: هما سَوَاء يَعْنِي: فِي الحكم، وَهُوَ الْجَوَاز، لَا أَنَّهُمَا سَوَاء فِي الْمَعْنى.
    أعْمَرْتُهُ الدَّارَ فَهْيَ عُمْراى جَعَلْتُها لَهُ
    أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير الْعُمْرَى،وَهُوَ أَن يَقُول الرجل لغيره: أعمرته دَاري،أَي: جَعلتهَا لَهُ مُدَّة عمري. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعُمْرَى أَن يَقُول الرجل للرجل: دَاري لَك عمرك،أَو يَقُول: دَاري هَذِه لَك عمري،
    قَالَ شَيخنَا،رَحمَه الله: الْعُمْرَى على ثَلَاثَة أَقسَام:
    أَحدهَا: أَن يَقُول: أعمرتك هَذِه الدَّار، فَإِذا مت فَهِيَ لعقبك أَو وَرثتك، فَهَذِهِ صَحِيحَة عِنْد عَامَّة الْعلمَاء. وَذكر النَّوَوِيّ أَنه لَا خلاف فِي صِحَّتهَا،وَإِنَّمَا الْخلاف: هَل يملك الرَّقَبَة أَو الْمَنْفَعَة فَقَط؟ وسنذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
    الْقسم الثَّانِي: أَن لَا يذكر ورثته وَلَا عقبه،بل يَقُول: أعمرتك هَذِه الدَّار،أَو: جَعلتهَا لَك، أَو نَحْو هَذَا، وَيُطلق ... فَفِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال. أَصَحهَا: الصِّحَّة كالمسألة الأولى، وَيكون لَهُ ولورثته من بعده، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبُو عبيد وَآخَرُونَ. القَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تصح لِأَنَّهُ تمْلِيك مُؤَقّت، فَأشبه مَا لَو وهبه أَو بَاعه إِلَى وَقت معِين، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم. الثَّالِث: أَنَّهَا تصح وَيكون للمعمَر فِي حَيَاته فَقَط،
    ........
    (13/182)
    وَزعم نفطويه: أَن الْبَحْر من أَسمَاء الْخَيل وَهُوَ الْكثير الجري الَّذِي لَا يفنى جريه، كَمَا لَا يفنى مَاء الْبَحْر، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة، فَكَانَ بعد ذَلِك لَا يجاري
    .........
    (13/183)
    وَقَالَ عِيَاض: إِن فِي خيل سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،فرسا يُسمى: البخر، اشْتَرَاهُ من تجار قدمُوا من الْيمن فَسبق عَلَيْهِ مَرَّات،ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك: يحْتَمل أَنه تصير إِلَيْهِ بعد أبي طَلْحَة. قيل: هَذَا نقض للْأولِ،لَكِن لَو قَالَ: إنَّهُمَا فرسَان اتفقَا فِي الِاسْم لَكَانَ أقرب. قلت: كَانَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ فرسا مِنْهَا سَبْعَة مُتَّفق عَلَيْهَا وَهِي: السكب: اشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني فَزَارَة، وَهُوَ أول فرس ملكه وَأول فرس غزا عَلَيْهِ وَكَانَ كميتا. والمرتجز: اشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني مرّة وَكَانَ أَبيض. ولزاز: أهداه لَهُ الْمُقَوْقس،واللحيف: أهداه لَهُ ربيعَة بن أبي الْبَراء. والظرب: أهداه لَهُ فَرْوَة بن عَمْرو عَامل البلقاء لقيصر الرّوم. والورد: أهداه لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ، فَأعْطَاهُ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله، ثمَّ وجده يُبَاع برخص، فَقَالَ لَهُ،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تشتره) ،وسبحه: والبقية مُخْتَلف فِيهَا،وَذكر فِيهَا: البخر وَالْمَنْدُوب. أما الْبَحْر: فقد ذكر عِيَاض أَنه اشْتَرَاهُ من تجار قدمُوا من الْيمن. وَأما الْمَنْدُوب: فَهُوَ الَّذِي رَكبه أَبُو طَلْحَة،من: نَدبه فَانْتدبَ أَي: دَعَاهُ فَأجَاب: فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن وَجَدْنَاهُ لبحراً) مَعْنَاهُ: وجدنَا الْفرس الَّذِي يُسمى مَنْدُوبًا بحراً.
    .........
    وَقد جمع بَعضهم أَفْرَاس النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيت وَهِي الأفراس الْمُتَّفق عَلَيْهَا،فَقَالَ:
    (وَالْخَيْل: سكب لحيف سبْحَة ظرب ... لزاز مرتجز ورد لَهَا أسرار)
    وَآخر جمع أسيافه:
    (إِن شِئْت أَسمَاء سياف النَّبِي فقد ... جَاءَت بأسمائها السَّبع أَخْبَار)
    (قل: محذم ثمَّ حتف ذُو الفقار وَقل ... غضب رسوب وقلعي وبتار)

    قلت: سيوفه عشرَة،هَذِه سَبْعَة وَالثَّلَاثَة الْأُخْرَى: رسوب ومأثور وَرثهُ من أَبِيه، قدم بِهِ الْمَدِينَة وَهُوَ أول سيف ملكه. وصمصامة، سيف عَمْرو معدي كرب، وهبه لخَالِد بن سعيد،وَيُقَال: وَله سيف آخر يدعى الْقَضِيب، وَهُوَ أول سيف تقلد بِهِ، قَالَه النَّيْسَابُورِ ي فِي كتاب (شرف الْمُصْطَفى)
    ............
    (13/190)
    وَقَالَ ابْن بطال: لَا أعلم خلافًا بَين الْعلمَاء أَنه إِذا قَالَ: أخدمتك هَذِه الْجَارِيَة أَو هَذَا العَبْد، أَنه قد وهب لَهُ خدمته لَا رقبته، وَأَن الإخدام لَا يَقْتَضِي تمْلِيك الرَّقَبَة عِنْد الْعَرَب، كَمَا أَن الإسكان لَا يَقْتَضِي تمْلِيك رَقَبَة الدَّار. انْتهى. وَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا قَالَ: أخدمتك هَذَا العَبْد، يكون عَارِية لِأَنَّهُ أذن فِي استخدامه، وَإِذا كَانَ عَارِية، فَلهُ أَن يرجع فِيهَا مَتى شَاءَ.
    وَقَالَ بعْضُ النَّاسِ هذِهِ عارِيَّةٌ
    قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: أَرَادَ بِهِ الْحَنَفِيَّة وغرضه أَنهم يَقُولُونَ: لَا إِنَّه إِذا قَالَ: أخدمتك هَذَا العَبْد، فَهُوَ عَارِية، وقصة هَاجر تدل على أَنه هبة. انْتهى.
    .........
    (13/196)
    جَاءَت امْرَأَة رِفَاعَة) ،اسْم الْمَرْأَة: تَمِيمَة بنت وهب، وَلم يَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ وَلَا فِي رِوَايَة غَيره من مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه تَسْمِيَة امْرَأَة رِفَاعَة،وَقد سَمَّاهَا مَالك فِي رِوَايَته: تَمِيمَة بنت وهب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (الِاسْتِيعَاب) : وَلَا أعلم لَهَا غير قصَّتهَا مَعَ رِفَاعَة بن سموأل حَدِيث الْعسيلَة من حَدِيث مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وَكَذَا قَالَ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) : لَهَا ذكر فِي قصَّة رِفَاعَة، وَلَا حَدِيث لَهَا، وَأما زَوجهَا الأول فَهُوَ رِفَاعَة بن سموأل الْقرظِيّ، من بني قُرَيْظَة. قَالَ ابْن عبد الْبر: وَيُقَال: رِفَاعَة بن رفاة،وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين فيهم نزلت: {وَلَقَد وصَّلنا لَهُم القَوْل. .} (الْقَصَص: 15) . الْآيَة، كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) وَابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من حَدِيث رِفَاعَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَأما زَوجهَا الثَّانِي فَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن الزبير، بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، بِلَا خلاف ابْن باطا،وَقيل: باطيا، من بني قُرَيْظَة. وَأما مَا ذكره ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم فِي كِتَابَيْهِمَا (معرفَة الصَّحَابَة) : أَنه من الْأَنْصَار من الْأَوْس، ونسباه إِلَى عبد الرَّحْمَن بن الزبير بن زيد بن أُميَّة بن زيد بن مَالك بن عَوْف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس فَغير جيد،وَقيل: اسْم الْمَرْأَة سهيمة،وَقيل: الغميصاء،وَقيل: الرميصاء.

    .........
    (وروى النَّسَائِيّ بِسَنَد جيد عَن عبد الله بن عَبَّاس أَن الغميصاء أَو الرميصاء أَتَت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَشْتَكِي زَوجهَا، وَأَنه لَا يصل إِلَيْهَا، فَلم يلبث أَن جَاءَ زَوجهَا،فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنَّهَا كَاذِبَة وَهُوَ يصل إِلَيْهَا وَلكنهَا تُرِيدُ أَن ترجع إِلَى زَوجهَا الأول،فَقَالَ: (لَيْسَ ذَلِك لَهَا حَتَّى يَذُوق عُسَيْلَته) .

    .............
    (13/198)
    وَالْمرَاد بالعسيلة هُنَا الْجِمَاع لَا الْإِنْزَال،وَقد جَاءَ ذَلِك مَرْفُوعا من حَدِيث عَائِشَة: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: (الْعسيلَة: الْجِمَاع) . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ّ وَفِي إِسْنَاده أَبُو عبد الْملك القمي يرويهِ عَن ابْن أبي مليكَة عَن عَائِشَة،وَقَالَ ابْن التِّين: يُرِيد الْوَطْء وحلاوة مَسْلَك الْفرج فِي الْفرج لَيْسَ المَاء
    ..........
    (13/199)
    أَن الرجل إِذا أَرَادَ أَن يُعِيد مطلقته بِالثلَاثِ، فَلَا بُد من زوج آخر يتَزَوَّج بهَا وَيدخل عَلَيْهَا. وأجمعت الْأمة على أَن الدُّخُول شَرط الْحل للْأولِ، وَلم يُخَالف فِي ذَلِك إلاَّ سعيد بن الْمسيب والخوارج والشيعة، وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، وَبشر المريسي، وَذَلِكَ اخْتِلَاف لَا خلاف لعدم استنادهم إِلَى دَلِيل، وَلِهَذَا لَو قضى بِهِ القَاضِي لَا ينفذ، وَالشّرط الْإِيلَاج دون الْإِنْزَال، وَشد الْحسن الْبَصْرِيّ فِي اشْتِرَاط الْإِنْزَال. وَفِيه: مَا قَالَه الْمُهلب: جَوَاز الشَّهَادَة على غير الْحَاضِر من وَرَاء الْبَاب والستر، لِأَن خَالِدا سمع قَول الْمَرْأَة وَهُوَ من وَرَاء الْبَاب، ثمَّ أنكرهُ عَلَيْهَا بِحَضْرَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ. وَفِيه: إِنْكَار فِي الأَصْل والجهر هُوَ الْمَعْقُول فِي القَوْل إلاَّ أَن يكون فِي حق لَا بُد لَهُ من الْبَيَان عِنْد الْحَاكِم. وَالله أعلم.
    .........

  20. #260
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    الدولة
    بلاد دعوة الرسول عليه السلام
    المشاركات
    13,608

    افتراضي رد: [ 2000 فائدة فقهية وحديثية من فتح الباري للحافظ ابن حجر رحمه الله ]

    اليوم : الأربعاء
    الموافق 16/ ربيع الثاني / 1442 هجري
    الموافق : 2/ ديسمبر /2020 ميلادي

    " ختم وتلخيص المجلد الثالث عشر من " عمدة القاري " لبدر الدين العيني رحمه الله


    (13/201)
    وَقَالَ أَبُو عبيد فِي (كتاب الْقَضَاء) : من ضيَّع شَيْئا مِمَّا أمره الله، عز وَجل، أَو ركب شَيْئا مِمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ فَلَيْسَ يعدل. وَعَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: من كَانَت طَاعَته أَكثر من مَعَاصيه وَكَانَ الْأَغْلَب عَلَيْهِ الْخَيْر وَزَاد الشَّافِعِي: والمروءة وَلم يَأْتِ كَبِيرَة يجب الْحَد بهَا أَو مَا يشبه الْحَد قبلت شَهَادَته، لِأَن أحدا لَا يسلم من ذَنْب، وَمن أَقَامَ على مَعْصِيّة، أَو كَانَ كثير الْكَذِب غير مستتر بِهِ لم تجز شَهَادَته.
    وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يَخْلُو ذكر الْمُرُوءَة أَن يكون مِمَّا يحل أَو يحرم، فَإِن كَانَ مِمَّا يحل أَو يحرم، فَإِن كَانَ مِمَّا يحل فَلَا معنى لذكرها، وَإِن كَانَ مِمَّا يحرم فَهِيَ من الْمعاصِي،وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْعدْل، أَن يكون مُسْتَقِيم الْأَمر مُؤديا لفروضه غير مُخَالف لأمر الْعُدُول فِي سيرته وخلائقه، وَغير كثير الْخَوْض فِي الْبَاطِل، وَلَا يتهم فِي حَدِيثه وَلم يطلع مِنْهُ على كَبِيرَة أصر عَلَيْهَا، ويختبر ذَلِك فِي مُعَامَلَته وصحبته فِي السّفر،قَالَ: وَزعم أهل الْعرَاق أَن الْعَدَالَة الْمَطْلُوبَة فِي إِظْهَار الْإِسْلَام مَعَ سَلَامَته من فسق ظَاهر أَو طعن خصم فِيهِ فَيتَوَقَّف فِي شَهَادَته حَتَّى تثبت لَهُ الْعَدَالَة. وَفِي (الرسَالَة) عَن الشَّافِعِي: صفة الْعدْل هُوَ الْعَامِل بِطَاعَة الله تَعَالَى، فَمن رُؤِيَ عَاملا بهَا فَهُوَ عدل، وَمن عمل بِخِلَافِهَا كَانَ خلاف الْعدْل. وَقَالَ أَبُو ثَوْر: من كَانَ أَكثر أمره الْخَيْر وَلَيْسَ بِصَاحِب جريمة فِي دين وَلَا مصرَّ على ذَنْب وَإِن صَغُرَ قبل وَكَانَ مَسْتُورا، وكل من كَانَ مُقيما على ذَنْب وَإِن صغر لم تقبل شَهَادَته.

    وَفِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،هَذَا: كَانَ النَّاس فِي الزَّمن الأول على الْعَدَالَة، وَقد ترك بعض ذَلِك فِي زمن عمر،فَقَالَ لَهُ رجل: أَتَيْتُك بِأَمْر لَا رَأس لَهُ وَلَا ذَنْب. فَقَالَ لَهُ: وَمَا ذَاك؟قَالَ: شَهَادَة الزُّور، ظَهرت فِي أَرْضنَا. قَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: فِي زماني وسلطاني، لَا وَالله لَا يوسم رجل بِغَيْر الْعَدَالَة.
    ........
    (13/203 )
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف الْعلمَاء فِي عَم عَائِشَة الْمَذْكُور،فَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: هما عمان لعَائِشَة من الرضَاعَة: أَحدهمَا أَخُو أَبِيهَا أبي بكر، من الرضَاعَة الَّذِي هُوَ أَبُو القعيس، وَأَبُو القعيس أَبوهَا من الرضَاعَة، وَأَخُوهُ أَفْلح عَمها. وَقيل: هُوَ عَم وَاحِد، وَهُوَ غلط، فَإِن عَمها فِي الحَدِيث الأول ميت، وَفِي الثَّانِي حَيّ، جَاءَ يسْتَأْذن.
    ......
    (13/204)
    إِثْبَات التحريمك بِلَبن الْفَحْل، وَاخْتلف أهل الْعلم قَدِيما فِي لبن الْفَحْل، وَكَانَ الْخلاف قَدِيما منتشراً فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ . ثمَّ أَجمعُوا بعد ذَلِك، إلاَّ الْقَلِيل مِنْهُم، أَن لبن الْفَحْل يحرم، فَأَما من قَالَ من
    الصَّحَابَة بِالتَّحْرِيمِ: ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة على اخْتِلَاف عَنْهَا،وَمن التَّابِعين: عُرْوَة بن الزبير وطاووس وَابْن شهَاب وَمُجاهد وَأَبُو الشعْثَاء جَابر بن زيد وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَسَالم وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَهِشَام بن عُرْوَة، على اخْتِلَاف فِيهِ. وَمن الْأَئِمَّة: أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِي ّ وَاللَّيْث وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَأما من رخص فِي لبن الْفَحْل وَلم يره محرما فقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: ابْن عمر وَجَابِر وَرَافِع بن خديج وَعبد الله بن الزبير،وَمن التَّابِعين: سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار أَخُوهُ عَطاء بن يسَار وَمَكْحُول وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَأَبُو قلَابَة وَإيَاس بن مُعَاوِيَة،وَمن الْأَئِمَّة: إِبْرَاهِيم بن علية وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد) . وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد خِلَافه،وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يقل أحد من أَئِمَّة الْفُقَهَاء وَأهل الْفَتْوَى بِإِسْقَاط حُرْمَة لبن الْفَحْل إلاَّ أهل الظَّاهِر، وَابْن علية، وَالْمَعْرُوف عَن دَاوُد مُوَافقَة مواتفقة الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي ذَلِك حَكَاهُ ابْن حزم عَنهُ فِي (الْمحلى) وَكَذَا ذهب إِلَيْهِ ابْن حزم. فَلم يبْق مِمَّن خَالف فِيهِ إِذا إلاَّ ابْن علية
    وَاعْلَم أَنهم أَجمعُوا على انتشار الْحُرْمَة بَين الْمُرضعَة وَأَوْلَاد الرَّضِيع وَأَوْلَاد الْمُرضعَة، وَمذهب كَافَّة الْعلمَاء ثُبُوت حُرْمَة الرَّضَاع بَينه وَبَين زوج الْمَرْأَة، وَيصير ولدا لَهُ وَأَوْلَاد الرجل أخوة الرَّضِيع وإخواته وَيكون أخوة الرجل وإخواته أَعْمَامه وعماته، وَيكون أَوْلَاد الرَّضِيع أَوْلَادًا للرجل وَلم يُخَالف فِي هَذَا إِلَّا ابْن علية، كَمَا ذكرنَا. وَنَقله الْمَازرِيّ عَن ابْن عمر وَعَائِشَة. وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم وأخواتكم من الرضَاعَة}
    .......
    (13/208)
    عبد الْعُزَّى،وَيُقَال: ابْن عبد الْعزي بن نميرة بن عَوْف بن قسي، وَهُوَ ثَقِيف الثَّقَفِيّ، صَاحب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،وَقيل: كَانَ أَبوهُ عبدا لِلْحَارِثِ بن كلدة، فاستلحقه الْحَار وَهُوَ أَخُو زِيَاد لأمه، وَكَانَت أمهما سميَّة أمة لِلْحَارِثِ بن كلدة،وَإِنَّمَا قيل لَهُ: أَبُو بكرَة، لِأَنَّهُ تدلى إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ببكرة من حصن الطَّائِف، فكنى أَبَا بكرَة فَأعْتقهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْمئِذٍ رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا على ثَمَانِيَة، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة، وَمُسلم بِحَدِيث، وَكَانَ مِمَّن اعتزل يَوْم الْجمل وَلم يُقَاتل مَعَ أحد من الْفَرِيقَيْنِ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة إِحْدَى وَخمسين، وَصلى عَلَيْهِ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
    ...........
    (13/209)
    قَالَ بعْضُ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ شهادَةُ القَاذِفِ وإنْ تابَ
    أَرَادَ بِبَعْض النَّاس أَبَا حنيفَة، فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَلَكِن هَذَا لَا يمشي وَلَا يبرد بِهِ قلب المتعصب، فَإِن أَبَا حنيفَة مَسْبُوق بِهَذَا القَوْل، وَلَيْسَ هُوَ بمخترع لَهُ، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نَحوه وَعَن جمَاعَة من التَّابِعين، وَقد ذَكَرْنَاهُمْ،وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا مَنْقُول عَن الحنيفة،يَعْنِي: عدم قبُول شَهَادَة الْمَحْدُود فِي الْقَذْف،وَقَالَ: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَحَادِيث قَالَ الْحفاظ: لَا يَصح شَيْء مِنْهَا،وأشهرها حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا مَحْدُود فِي الْإِسْلَام. أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة نَحوه،وَقَالَ: لَا يَصح،وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مُنكر،
    .........
    (13/214)
    وَقَالَ الْخطابِيّ: واشتق لَهُم هَذَا الإسم من الاقتران فِي الْأَمر الَّذِي يجمعهُمْ،وَقيل: إِنَّه لَا يكون قرنا حَتَّى يَكُونُوا فِي زمن نَبِي أَو رَئِيس يجمعهُمْ على مِلَّة أَو رَأْي أَو مَذْهَب. وَقَالَ ابْن التِّين: سَوَاء قلَّت الْمدَّة أَو كثرت. وَقيل: الْقرن ثَمَانُون سنة. وَقيل: أَرْبَعُونَ،وَقيل: مائَة سنة. قَالَ الْقَزاز: وَاحْتج لهَذَا بِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بِيَدِهِ على رَأس غُلَام،وَقَالَ لَهُ: (عش قرنا) ، فَعَاشَ مائَة سنة. قَالَ ابْن عديس: قَالَ ثَعْلَب: هَذَا هُوَ الِاخْتِيَار،وَقَالَ ابْن التِّين: وَقيل: من عشْرين إِلَى مائَة وَعشْرين وَقيل: سِتُّونَ،وَقَالَ الْجَوْهَرِي: ثَلَاثُونَ سنة،وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ مِقْدَار التَّوَسُّط فِي أَعمار أهل الزَّمَان، فَهُوَ فِي كل قوم على مِقْدَار أعمارهم. قَالَ: وَهُوَ الْأمة تَأتي بعد الْأمة. قيل: مدَّته عشر سِنِين، وَفِي (الموعب) : وَقيل عشرُون سنة،وَقيل: سَبْعُونَ،وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْقرن الْوَقْت من الزَّمَان، وَفِي (التَّهْذِيب) : لِأَنَّهُ يقرن أمة بِأمة وعالماً بعالم.
    .........
    (13/215)
    وَيظْهر فيهم السّمن) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم بعْدهَا نون،مَعْنَاهُ: أَنهم يحبونَ التَّوَسُّع فِي المآكل والمشارب، وَهِي أَسبَاب السّمن. وَقَالَ ابْن التِّين: المُرَاد ذمّ محبته وتعاطيه لَا مَن يخلق كَذَلِك. وَقيل: المُرَاد، يظْهر فيهم كَثْرَة المَال،وَقيل: المُرَاد أَنهم يتسمنون أَي: يتكثرون بِمَا لَيْسَ فيهم، وَيدعونَ مَا لَيْسَ لَهُم من الشّرف، وَيحْتَمل أَن يكون جَمِيع ذَلِك مرَادا،وَقد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من طَرِيق هِلَال بن يسَاف عَن عمرَان بن حُصَيْن بِلَفْظ: ثمَّ يَجِيء قوم فيتسمنون وَيُحِبُّونَ السّمن.
    ,,,,,,,,,,,,
    (13/217)
    وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا قَول أهل اللُّغَة. وَأما حَقِيقَة العقوق الْمحرم شرعا فقلَّ من ضَبطه،وَقد قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد بن عبد السَّلَام: لم أَقف فِي عقوق الْوَالِدين وَفِيمَا يختصان بِهِ من العقوق على ضَابِط اعْتمد عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يجب طاعتهما فِي كل مَا يأمران بِهِ وَلَا ينهيان عَنهُ بِاتِّفَاق الْعلمَاء، وَقد حرم على الْوَلَد الْجِهَاد بِغَيْر إذنهما لما يشق عَلَيْهِمَا من توقع قَتله أَو قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ ولشدة تفجعهما على ذَلِك،، وَقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فِيهِ على نَفسه أَو عُضْو من أَعْضَائِهِ. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح فِي (فَتَاوِيهِ) : العقوق الْمحرم كل فعل يتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدَان تأذياً لَيْسَ بالهين مَعَ كَونه لَيْسَ من الْأَفْعَال الْوَاجِبَة،قَالَ: وَرُبمَا قيل: طَاعَة الْوَالِدين وَاجِبَة فِي كل مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة، وَمُخَالفَة أَمرهمَا فِي ذَلِك عقوق، وَقد أوجب كثير من الْعلمَاء طاعتهما فِي الشُّبُهَات،وَلَيْسَ قَول من قَالَ من عُلَمَائِنَا: يجوز لَهُ السّفر فِي طلب الْعلم وَفِي التِّجَارَة بِغَيْر إذنهما مُخَالفا لما ذكرته، فَإِن هَذَا كَلَام مُطلق، وَفِيمَا ذكرته بَيَان لتقييد ذَلِك الْمُطلق
    .............
    (13/218)
    قسم ابْن الْعَرَبِيّ الْكَذِب على أَرْبَعَة أَقسَام: أَحدهَا: وَهُوَ أَشدّهَا: الْكَذِب على الله تَعَالَى: قَالَ الله تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله} (الزمر: 93) . وَالثَّانِي: الْكَذِب على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،قَالَ: وَهُوَ هُوَ، أَو نَحوه. الثَّالِث: الْكَذِب على النَّاس، وَهِي شَهَادَة الزُّور فِي إِثْبَات مَا لَيْسَ بِثَابِت على أحد، أَو إِسْقَاط مَا هُوَ ثَابت. الرَّابِع: الْكَذِب للنَّاس، قَالَ وَمن أشده الْكَذِب فِي الْمُعَامَلَات، وَهُوَ أحد أَرْكَان الْفساد الثَّلَاثَة فِيهَا،وَهِي: الْكَذِب وَالْعَيْب والغش، وَالْكذب، وَإِن كَانَ محرما، سَوَاء قُلْنَا كَبِيرَة أَو صَغِيرَة، فقد يُبَاح عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ، وَيجب فِي مَوَاضِع ذكرهَا الْعلمَاء.
    ......
    (13/222)
    وَقَالَ ابْن بطال: أجمع أَكثر الْعلمَاء على أَن شَهَادَتهنَّ لَا تجوز فِي الْحُدُود وَالْقصاص. وَهُوَ قَول ابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَمَالك وَاللَّيْث والكوفيين وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. وَاخْتلفُوا فِي النِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّسب وَالْوَلَاء،فَذهب ربيعَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى: أَنه لَا تجوز فِي شَيْء من ذَلِك كُله مَعَ الرِّجَال، وَأَجَازَ شَهَادَتهنَّ فِي ذَلِك كُله مَعَ الرِّجَال الْكُوفِيُّونَ،وَاتَّفَقُوا أَنه: تجوز شَهَادَتهنَّ منفردات فِي الْحيض والولادة والاستهلال وعيوب النِّسَاء، وَمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال من عوراتهن للضَّرُورَة. وَاخْتلفُوا فِي الرَّضَاع، فَمنهمْ من أجَاز شهاداتهن منفردات، وَمِنْهُم من أجازها مَعَ الرِّجَال،وَقَالَ أَصْحَابنَا: يثبت الرَّضَاع بِمَا ثَبت بِهِ المَال، وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَا تقبل شَهَادَة النِّسَاء المنفردات،وَعند الشَّافِعِي: يثبت بِشَهَادَة أَربع نسْوَة وَعند مَالك: بامرأتين. وَعند أَحْمد: بمرضعة فَقَط. وَفِي (الْكَافِي) : أَنه لَا فرق بَين أَن يشْهد قبل النِّكَاح أَو بعده. انْتهى.
    وَقَالَت طَائِفَة لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء إلاَّ فِي موضِعين فِي: المَال، وَحَيْثُ لَا يرى الرِّجَال من عورات النِّسَاء.
    .......
    (13/223)
    وللعلماء فِي شَهَادَة العَبْد ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: جَوَازهَا كَالْحرِّ، وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَقَوْل أنس وَشُرَيْح، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَثَانِيها: جَوَازهَا فِي الشَّيْء التافه، رُوِيَ عَن الشّعبِيّ كَقَوْل الْحسن وَالنَّخَعِيّ. وَثَالِثهَا: لَا يجوز فِي شَيْء أصلا، رُوِيَ عَن عمر وَابْن عَبَّاس، وَهُوَ قَول عَطاء وَمَكْحُول،وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِي ّ وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: فَإِن قلت: كل من جَازَ قبُول خَبره جَازَ قبُول شَهَادَته كَالْحرِّ. قلت: لَا نسلم، فَإِن الْخَبَر قد سومح فِيهِ مَا لم يسامح فِي الشَّهَادَة، لِأَن الْخَبَر يقبل من الْأمة مُنْفَرِدَة وَمن العَبْد مُنْفَردا وَلَا تقبل شَهَادَتهمَا منفردين، وَالْعَبْد نَاقص عَن رُتْبَة الْحر فِي أَحْكَام، فَكَذَلِك فِي الشَّهَادَة، وَمذهب ابْن حزم الْجَوَاز، فَإِن شَهَادَة العَبْد وَالْأمة مَقْبُولَة فِي كل شَيْء لسَيِّده أَو لغيره كَشَهَادَة الْحر والحرة، وَلَا فرق
    ......
    (13/228)
    وَكَيْفِيَّة الْقرعَة بالخواتيم، يُؤْخَذ خَاتم هَذَا وَخَاتم هَذَا ويدفعان إِلَى رجل فَيخرج مِنْهُمَا وَاحِدًا. وَعَن الشَّافِعِي يَجْعَل رِقَاعًا صغَارًا يكْتب فِي كل وَاحِد اسْم ذِي السهْم، ثمَّ يَجْعَل بَنَادِق طين ويغطي عَلَيْهَا ثوب، ثمَّ يدْخل رجل يَده فَيخرج بندقة وَينظر من صَاحبهَا، فيدفعها إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو عبيد بن سَلام: عمل بِالْقُرْعَةِ ثَلَاثَة من الْأَنْبِيَاء،عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام نَبينَا: وَيُونُس، وزكرياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
    ........
    (13/228)
    (من جزع أظفار) ، الْجزع،بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الزَّاي: خرز يمَان، وَزعم أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد ابْن يُوسُف التيفاشي فِي كِتَابه (الْأَحْجَار) : أَنه يُوجد فِي الْيمن فِي معادن العقيق، وَمِنْه مَا يُؤْتى بِهِ من الصين، وَهُوَ أصنافٍ فَمِنْهُ
    ...........
    (13/232)
    (فَقَامَ سعد بن معَاذ فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَنا أعذرك مِنْهُ) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن الْأَوْس من قومه وهم بَنو النجار، وَمن آذَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجب قَتله،ثمَّ إِن الْمَوْجُود فِي الْأُصُول: سعد بن معَاذ،وَقع فِي مَوضِع آخر: سعد بن عبَادَة،وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا عندنَا وهمٌ لِأَن سعد بن معَاذ مَاتَ إِثْر غَزْوَة بني قُرَيْظَة بِلَا شكّ وَبني قُرَيْظَة كَانَ فِي إخر ذِي الْقعدَة من سنة أَربع فَبين الغزوتين نَحْو من سنتَيْن وَالوهم لم يعر مِنْهُ أخحد من الْبشر وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذكر سعد بن معَاذ وهم اتّفق فِيهِ الروَاة وَقَالَ بن عمر هم وهم وَخطأ، وَتَبعهُ على ذَلِك جمَاعَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قَالَ بعض شُيُوخنَا: ذكر سعد بن معَاذ فِي هَذَا وهمٌ، وَالْأَشْبَه أَنه غَيره، وَلِهَذَا لم يذكرهُ ابْن إِسْحَاق فِي (السّير) وَإِنَّمَا قَالَ: إِن الْمُتَكَلّم أَولا وآخراً أسيد بن حضير.

    قَالَ القَاضِي: هَذَا مُشكل، لِأَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع وَهِي غَزْوَة بني المصطلق سنة سِتّ، وَسعد بن معَاذ مَاتَ فِي إِثْر غزَاة الخَنْدَق من الرَّمية الَّتِي أَصَابَته، وَذَلِكَ فِي سنة أَربع، وَلِهَذَا قيل وهم الْأَشْبَه أَنه غَيره وَقَالَ القَاضِي فِي الْجَواب أَن مُوسَى بن عقبَة ذكر أَن اليسيع سنة أرع وَهِي سنة الخَنْدَق، فَيحْتَمل أَن المريسي وَحَدِيث الْإِفْك كَانَا فِي سنة أَربع قبل الخَنْدَق. قلت: هَذَا يبين صِحَة مَا ذكره البُخَارِيّ من أَنه سعد بن معَاذ، وَهُوَ الَّذِي فِي (الصَّحِيحَيْنِ) . أما سعد بن معَاذ،بِضَم الْمِيم فَهُوَ: ابْن النُّعْمَان بن امرىء الْقَيْس ابْن زيد بن عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج بن عَمْرو بن النبيت،واسْمه: عَمْرو بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ الأوسي الأشْهَلِي، أسلم على يَد مُصعب بن عُمَيْر لما أرْسلهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة يعلم الْمُسلمين، شهد بَدْرًا لم يَخْتَلِفُوا فِيهِ وَشهد أحدا وَالْخَنْدَق، ورماه يَوْمئِذٍ حبَان بن عَرَفَة فِي أكحله، وَمر عَن قريب تَارِيخ وَفَاته. وَأما سعد بن عبَادَة
    .......
    (13/235)
    قَوْله: {ألاَ تحبون أَن يغْفر الله لكم} (النُّور: 22) . قَالَ ابْن حبَان بن مُوسَى: قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه أَرْجَى آيَة فِي كتاب الله،فَقَالَ أَبُو بكر: بلَى وَالله إِنِّي لأحب أَن يغْفر الله لي، فَرجع إِلَى مسطح النَّفَقَة الَّتِي كَانَ ينْفق عَلَيْهِ،وَقَالَ: لَا أَنْزعهَا مِنْهُ أبدا.
    .........
    (13/236)
    سْتدلَّ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وجماهير الْعلمَاء فِي الْعَمَل بِالْقُرْعَةِ: فِي الْقسم بَين الزَّوْجَات، وَفِي الْعتْق والوصايا وَالْقِسْمَة وَنَحْو ذَلِك،وَقَالَ أَبُو عبيد: عمل بهَا ثَلَاثَة من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اسْتِعْمَالهَا كالإجماع وَلَا معنى لقَوْل من يردهَا، وَالْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة، إِبْطَالهَا، وَحكي عَنهُ إجازتها. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَغَيره: الْقيَاس تَركهَا، لَكِن عَملنَا بهَا بالآثار. انْتهى. قلت: لَيْسَ الْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة إبِْطَال الْقرعَة، وَأَبُو حنيفَة لم يقل كَذَلِك،وَإِنَّمَا قَالَ: الْقيَاس يأباها، لِأَنَّهُ تَعْلِيق لَا اسْتِحْقَاق بِخُرُوج الْقرعَة، وَذَلِكَ قمار، وَلَكِن تركنَا الْقيَاس للآثار وللتعامل الظَّاهِر من لدن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى يَوْمنَا هَذَا من غير نَكِير مُنكر،
    ........
    (13/237)
    وَأَبُو جميلَة،بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْمِيم: واسْمه سِنِين، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وبنونين أولاهما مَفْتُوحَة مُخَفّفَة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف، كَذَا ضَبطه عبد الْغَنِيّ بن سعيد وَالدَّارَقُطْن ِيّ وَابْن مَاكُولَا،وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من شدد التحتانة كالداودي. قلت: كَيفَ ينْسب الدَّاودِيّ إِلَى الْوَهم وَلم ينْفَرد هُوَ بِالتَّشْدِيدِ، فَإِن البُخَارِيّ ذكر فِي (تَارِيخه) كَانَ ابْن عُيَيْنَة وَسليمَان بن كثير يثقلان سنيناً، وَاقْتصر عَلَيْهِ ابْن التِّين،وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى: حَدثنَا هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سِنِين أبي جميلَة، وَأَنه أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَخرج مَعَه عَام الْفَتْح، وَأَنه الْتقط مَنْبُوذًا، فَأتى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَسَأَلَهُ عَنهُ فَأثْنى عَلَيْهِ خيرا، وَأنْفق عَلَيْهِ من بَيت المَال، وَجعل ولاءه لَهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَبُو جميلَة سِنِين
    .......
    (13/238)
    وَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِن أصل هَذَا الْمثل أَنه كَانَ غَار فِيهِ نَاس فانهار عَلَيْهِم،أَو قَالَ: فَأَتَاهُم عَدو فَقَتلهُمْ فِيهِ، فَقيل ذَلِك لكل من دخل فِي أَمر لَا يعرف عاقبته. وَفِي (علل الْخلال) قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا مثل يضْربهُ أهل الْمَدِينَة. وَقَالَ سُفْيَان: أَصله أَن نَاسا كَانَ بَينهم وَبَين آخَرين حَرْب،فَقَالَت لَهُم عَجُوز: إحذروا واستعدوا من هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُم يألونكم شرا، فَلم يَلْبَثُوا أَن جَاءَهُم فزع. فَقَالَت الْعَجُوز: عَسى الغوير أبؤساً،تَعْنِي: لَعَلَّه أَتَاكُم النَّاس من قبل الغوير، وَهُوَ الشّعب. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: غوير مَاء لكَلْب مَعْرُوف فِي نَاحيَة السماوة،وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الغوير طَرِيق يعبرون فِيهِ، وَكَانُوا يتواصون بِأَن يحسروه لِئَلَّا يؤتوا مِنْهُ، وروى الْحَرْبِيّ عَن عَمْرو عَن أَبِيه. أَن الغوير نفق فِي حصن الرباء،وَيُقَال: هَذَا مثل لكل شَيْء يخَاف أَن يَأْتِي مِنْهُ شَرّ، وانتصاب أبؤساً بعامل مُقَدّر،تَقْدِيره: عَسى الغوير يصير أبؤساً وَقَالَ أَبُو عَليّ: جعل: عَسى بِمعنى: كَانَ، ونزله مَنْزِلَته،يضْرب للرجل يُقَال لَهُ: لَعَلَّ الشَّرّ جَاءَ من قبلك،وَ
    ........
    (13/239)
    وَذكر فِي كتاب (خلق الْإِنْسَان) لِثَابِت: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ جَنِين، وَإِذا وَلدته يُسمى صَبيا مَا دَامَ رضيعاً، فَإِذا فطم سمي غُلَاما إِلَى سبع سِنِين، ثمَّ يصير يافعاً إِلَى عشر حجج، ثمَّ يصير حزوراً إِلَى خمس عشرَة سنة، ثمَّ يصير قمداً إِلَى خمس وَعشْرين سنة، ثمَّ يصير عنطنطاً إِلَى ثَلَاثِينَ سنة، ثمَّ يصير صملاً إِلَى أَرْبَعِينَ سنة، ثمَّ يصير كهلاً إِلَى خمسين سنة، ثمَّ يصير شَيخا إِلَى ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ يصير هرماً بعد ذَلِك فانياً كَبِيرا. انْتهى.
    ...........
    (13/240)
    وَإِن ارْتَفَعت حَيْضَة الْمَرْأَة وَهِي شَابة فَإِن ارتابت أحامل هِيَ أم لَا؟ فَإِن استبان حملهَا فأجلها أَن تضع حملهَا، وَإِن لم يستبن فَاخْتلف فِيهِ،فَقَالَ بَعضهم: يستأنى بهَا، واقصى ذَلِك سنة، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي عبيد، وَرووا ذَلِك عَن عمر وَغَيره، وَأهل الْعرَاق يرَوْنَ عدتهَا بِثَلَاث حيض بَعْدَمَا كَانَت حَاضَت فِي بَاقِي عمرها، وَإِن مكثت عشْرين سنة إِلَى أَن تبلغ من الْكبر مبلغا تيأس من الْحيض فَتكون عدتهَا بعد الْإِيَاس ثَلَاثَة أشهر، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح من مَذْهَب الشَّافِعِي، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود وَأَصْحَابه.
    وَقَالَ الحَسَنُ بنُ صالِحٍ: أدْرَكْتُ جارَةً لَنا جَدَّةً بِنْتَ إحْدَى وعِشرِينَ سَنَةً
    ........
    (13/244)
    أَن الْخَبَر إِذا ورد متضمناً لزِيَادَة على مَا فِي الْقُرْآن: هَل يكون نسخا؟ وَالسّنة لَا تنسخ الْقرَان، أَو لَا؟ يكون نسخا بل زِيَادَة مُسْتَقلَّة بِحكم مُسْتَقل إِذا ثَبت سَنَده وَجب القَوْل بِهِ، وَالْأول مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالثَّانِي مَذْهَب الْحِجَازِيِّين َ، وَمَعَ قطع النّظر عَن ذَلِك لَا ينْهض حجَّة ابْن شبْرمَة لِأَنَّهُ يصير مُعَارضَة للنَّص بِالرَّأْيِ. انْتهى. قلت: مَذْهَب ابْن شبْرمَة هُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِي ّ والكوفيين والأندلسيين من أَصْحَاب مَالك،وهم يَقُولُونَ: نَص الْكتاب الْعَزِيز فِي بَاب الشَّهَادَة: رجلَانِ، فَإِذا لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ، وَالْحكم بِشَاهِد وَيَمِين مُخَالف للنَّص، فَلَا يجوز، وَالْأَخْبَار الَّتِي وَردت بِشَاهِد وَيَمِين أَخْبَار أحاد فَلَا يعْمل بهَا عِنْد مخالفتها النَّص، لِأَنَّهُ يكون نسخا وَنسخ الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد لَا يجوز،وَقَالَ بَعضهم: النّسخ رفع الحكم وَلَا رفع هُنَا، وَأَيْضًا النَّاسِخ والمنسوخ لَا بُد أَن يتواردا على مَحل وَاحِد، وَهَذَا غير مُتَحَقق فِي الزِّيَادَة على النَّص. قلت: النّسخ رفع الحكم قسم من أَقسَام النّسخ لِأَنَّهُ على أَرْبَعَة أَقسَام: نسخ الحكم والتلاوة جَمِيعًا، وَنسخ الحكم دون التِّلَاوَة، وَنسخ التِّلَاوَة دون الحكم،وَالرَّابِع: نسخ وصف الحكم، وَهُوَ أَيْضا مثل الزِّيَادَة على النَّص، وَهُوَ نسخ عندنَا، وَعند الشَّافِعِي هُوَ بِمَنْزِلَة تَخْصِيص الْعَام، حَتَّى جوز ذَلِك بِالْقِيَاسِ وبخبر الْوَاحِد،وَقَول هَذَا الْقَائِل: النّسخ رفع الحكم، لَيْسَ على إِطْلَاقه، لِأَن النّسخ من قبيل بَيَان التبديل،لِأَن الْبَيَان عندنَا خَمْسَة أَقسَام: بَيَان تَقْرِير، وَبَيَان تَفْسِير، وَبَيَان تَغْيِير، وَبَيَان ضَرُورَة، وَبَيَان تَبْدِيل.
    فَمِنْهَا مَا أخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِيَمِين وَشَاهد،وَقَالَ فِي التَّمْيِيز: إِنَّه حَدِيث صَحِيح لَا يرتاب فِي صِحَّته،وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا مطْعن لأحد فِي صِحَّته وَلَا فِي إِسْنَاده.
    وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بطرِيق الْمَنْع، وَهُوَ أَن مُسلما روى هَذَا الحَدِيث من حَدِيث سيف بن سُلَيْمَان عَن قيس بن سعد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره، وَذكر التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل الْكَبِير) : سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَنهُ،فَقَالَ: عَمْرو بن دِينَار لم يسمع عِنْدِي هَذَا الحَدِيث من ابْن عَبَّاس،وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قيس لَا نعلمهُ يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار بِشَيْء، فقد رمي الحَدِيث بالانقطاع فِي موضِعين من البُخَارِيّ بَين عَمْرو وَابْن عَبَّاس، وَمن الطَّحَاوِيّ بَين قيس وَعَمْرو، رد الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) على الطَّحَاوِيّ، وَأَشَارَ إِلَى أَن قيسا سمع من عَمْرو،وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِرِوَايَة وهب بن جرير عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت قيس بن سعد يحدث عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، فَذكر الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته،ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَلَا يبعد أَن يكون لَهُ عَن عَمْرو غير هَذَا.
    ..........
    فِي (الْمحلى) روينَا عَن عمر بن الْخطاب أَنه قَالَ: قضى بِالْيَمِينِ وَالشَّاهِد الْوَاحِد. قَالَ: وَرُوِيَ عَن سُلَيْمَان بن يسَار وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي الزِّنَاد وَرَبِيعَة وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَإيَاس بن مُعَاوِيَة، وَيحيى ابْن معمر، وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة وَغَيرهم، وَقَالَ أَبُو عمر وَرُوِيَ عَن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن عمر وَالْقَضَاء بِالْيَمِينِ، وَإِن كَانَ فِي الْأَسَانِيد عَنْهَا ضعف. قلت: أما الْأَحَادِيث فقد وقفت على حَالهَا، وَأما هَؤُلَاءِ المذكورون فَإِن كَانَ روى عَنْهُم بأسانيد ضَعِيفَة، فقد روى عَن غَيرهم بأسانيد صِحَاح، أَنه لَا يجوز. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا حَمَّاد بن خَالِد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: هِيَ بِدعَة وَأول من قضى بهَا مُعَاوِيَة، وَهَذَا السَّنَد على شَرط مُسلم،وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: أول من قضى بِهِ عبد الْملك بن مَرْوَان،وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: إِن حكم بِهِ قاضٍ نقض حكمه، وَهُوَ بِدعَة، وَقد ذكرنَا عَن جمَاعَة، فِيمَا مضى، عدم الْجَوَاز بِهِ.
    ...........
    (13/248)
    قال صلى اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى رجال أَمْوَال قوم ودماءهم، وَلَكِن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على من أنكر) ، وَهَذِه الزِّيَادَة لَيست فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وإسنادها حسن، وَقد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحِكْمَة فِي كَون الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ، بقوله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى رجال أَمْوَال قوم ودماءهم) .
    وَقيل: الْحِكْمَة فِي كَون الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي لِأَن جَانِبه ضَعِيف، لِأَنَّهُ يَقُول خلاف الظَّاهِر فيتقوى بهَا، وجانب الْمُدعى عَلَيْهِ قوي، لِأَن الأَصْل فرَاغ ذمَّته، فَاكْتفى مِنْهُ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهَا حجَّة ضَعِيفَة. فَإِن قلت: قَالَ الْأصيلِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا لَا يَصح مَرْفُوعا،إِنَّمَا هُوَ قَول ابْن عَبَّاس: كَذَا رَوَاهُ أَيُّوب وَنَافِع الجُمَحِي عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس،قلت: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ من رِوَايَة ابْن جريج مَرْفُوعا، وَهَذَا يَكْفِي لصِحَّة الرّفْع، وَمَعَ هَذَا فَإِن كَانَ مُرَاد الْأصيلِيّ جَمِيع الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فَلَا يَصح، لِأَن الْمِقْدَار الَّذِي أخرجه الشَّيْخَانِ مُتَّفق على صِحَّته، وَإِن كَانَ مُرَاده هَذِه الزِّيَادَة،وَهِي قَوْله: لَو يعْطى النَّاس ... إِلَى آخِره، فَغَرِيب فَافْهَم.

    .............
    (13/258)
    وَاخْتلف فِي صفة مَا يحلف بِهِ،فَقَالَ مَالك: بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة، الرَّحْمَن الرَّحِيم،وَقَالَ الشَّافِعِي: يزِيد: الَّذِي يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور، وَالَّذِي يعلم من السِّرّ مَا يعلم من الْعَلَانِيَة. قَالَ سَحْنُون: يحلف بِاللَّه وبالمصحف، ذكره عَنهُ الدَّاودِيّ،وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: الْيَمين بِاللَّه لَا بِالطَّلَاق وَالْعتاق إلاَّ إِذا ألحَّ الْخصم، وَلَا يُبَالِي بِالْيَمِينِ بِاللَّه، فَحِينَئِذٍ يحلف بهما، لَكِن إِذا نكل لَا يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ، لِأَنَّهُ امْتنع عَمَّا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ شرعا، وَلَو قضى عَلَيْهِ بِالنّكُولِ لَا ينفذ ويغلظ الْيَمين بأوصاف الله تَعَالَى،وَقيل: لَا يغلظ على الْمَعْرُوف بالصلاح، ويغلظ على غَيره،وَقيل: يغلظ فِي الخطير من المَال دون الحقير، وَلَا يغلظ بِزَمَان وَلَا بمَكَان. وَفِي (التَّوْضِيح) : هَل يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف؟ أَبَاهُ مَالك، وألزمه ذَلِك بعض المالكيين فِي عشْرين دِينَارا فَأكْثر،وَعَن ابْن الْمُنْذر: أَنه حكى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ: رَأَيْت مطرفاً يحلف بِحَضْرَة الْمُصحف.
    .........
    (13/260)
    قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ يُقَال لِابْنِ عَبَّاس الحبر وَالْبَحْر لعلمه وسعته وَاخْتلفُوا فِيمَن سَمَّاهُ بذلك فَذكر أَبُو نعيم الْحَافِظ أَن عبد الله انْتهى يَوْمًا إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعِنْده جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ لَهُ " إِنَّه كَائِن حبر هَذِه الْأمة فاستوص بِهِ خيرا " وَفِي المنثور لِابْنِ دُرَيْد الْأَزْدِيّ أَن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أرسل ابْن عَبَّاس رَسُولا إِلَى جرجير ملك الْمغرب فَتكلم مَعَه فَقَالَ لَهُ جرجير مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَن يكون حبر الْعَرَب فَسُمي عبد الله من يَوْمئِذٍ الحبر
    ......
    (13/261)
    سَأَلَ مُحَمَّد بن الوضاح بعض عُلَمَاء النَّصَارَى،فَقَالَ: مَا بَال كتابكُمْ معشر الْمُسلمين لَا زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان؟ وَكِتَابنَا بِخِلَاف ذَلِك؟فَقَالَ: لِأَن الله تَعَالَى وكل حفظ كتابكُمْ إِلَيْكُم. فَقَالَ: استحفظوا من كتاب الله، فَلَمَّا وَكله إِلَى مَخْلُوق دخله الخرم وَالنُّقْصَان،وَقَالَ فِي كتَابنَا: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} (الْحجر: 9) . فَتَوَلّى الله حفظه، فَلَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ، وَلَا النُّقْصَان مِنْهُ.
    ........
    (13/263)
    سَأَلَ مُحَمَّد بن الوضاح بعض عُلَمَاء النَّصَارَى،فَقَالَ: مَا بَال كتابكُمْ معشر الْمُسلمين لَا زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان؟ وَكِتَابنَا بِخِلَاف ذَلِك؟فَقَالَ: لِأَن الله تَعَالَى وكل حفظ كتابكُمْ إِلَيْكُم. فَقَالَ: استحفظوا من كتاب الله، فَلَمَّا وَكله إِلَى مَخْلُوق دخله الخرم وَالنُّقْصَان،وَقَالَ فِي كتَابنَا: {إِنَّا نَحن نزلنَا الذّكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} (الْحجر: 9) . فَتَوَلّى الله حفظه، فَلَا سَبِيل إِلَى الزِّيَادَة فِيهِ، وَلَا النُّقْصَان مِنْهُ.
    بهَا وَخَرجُوا طَالِبين يُونُس فَلم يجدوه، وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى كشف الله عَنْهُم الْعَذَاب، ثمَّ إِن يُونُس ركب سفينة فَلم تجرِ،فَقَالَ أَهلهَا: فِيكُم آبق، فاقترعوا فَخرجت الْقرعَة عَلَيْهِ، فالتقمه الْحُوت. وَقد اخْتلف فِي مُدَّة لبثه فِي بَطْنه من يَوْم وَاحِد إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا. فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى الْحُوت أَن يلتقمه وَلَا يكسر لَهُ عظما. وَذكر مقَاتل: أَنهم قارعوه سِتّ مَرَّات خوفًا عَلَيْهِ من أَن يقذف فِي الْبَحْر، وَفِي كلهَا خرج عَلَيْهِ،وَفِي يُونُس سِتّ لُغَات: ضم النُّون وَفتحهَا وَكسرهَا مَعَ الْهمزَة وَتَركه، وَالْأَشْهر ضم النُّون بِغَيْر همز.
    .........
    (13/271)
    قال البخاري
    حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا {وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً} (النِّسَاء: 821) . قالَتْ هُوَ الرَّجُلُ يَراى منِ امْرَأتِهِ مَا لاَ يُعْجِبُهُ كِبَراً أوْ غَيْرُهُ فَيُرِيدُ فِرَاقَهَا فَتَقُولُ أمْسِكْنِي واقْسِمْ لي مَا شِئْتَ قالتْ فَلا بَأْسَ إذَا تَراضَيا.
    وَيدخل فِي هَذَا الْمَعْنى جَمِيع مَا يَقع بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي: مَال أَو وَطْء أَو غير ذَلِك، وكل مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ من الصُّلْح فَهُوَ حَلَال للرجل، من زَوجته لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَة،وَنقل الدَّاودِيّ عَن مَالك: أَنَّهَا إِذا رضيت بِالْبَقَاءِ بترك الْقسم لَهَا أَو الْإِنْفَاق عَلَيْهَا، ثمَّ سَأَلت الْعدْل، كَانَ ذَلِك لَهَا، وَالَّذِي قَالَه فِي الْمُدَوَّنَة، ذكره فِي الْقسم لَهَا، وَأما النَّفَقَة فيلزمها ذَلِك إِذا تركته، وَالْفرق أَن الْغيرَة لَا تملك بِخِلَاف النَّفَقَة.
    ........
    (13/273)
    قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَفِيه: أَن زنى الْمَرْأَة لَا يفْسخ نِكَاحهَا من زَوجهَا. وَفِيه: أَن الْحُدُود الَّتِي هِيَ مَحْضَة لحق الله لَا يَصح الصُّلْح فِيهَا.
    وَاخْتلف فِي حد الْقَذْف: هَل يَصح الصُّلْح فِيهِ أم لَا؟ وَلم يخْتَلف فِي كَرَاهَته لِأَنَّهُ ثمن عرض، وَلَا خلاف فِي جَوَازه قبل رَفعه، وَأما حققو الْأَبدَان من الْجراح، وَحُقُوق الْأَمْوَال، فَلَا خلاف فِي جَوَازه مَعَ الْإِقْرَار، وَاخْتلف فِي الصُّلْح على الْإِنْكَار، فَأَجَازَهُ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَمنعه الشَّافِعِي.
    ........
    (13/281)
    وَفِي (صَحِيح مُسلم) من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس: أَن أُخْت الرّبيع أم حَارِثَة جرحت إنْسَانا،وَفِيه: فَقَالَت أم الرّبيع: وَالله لَا تكسر ثنيتها، وَكَذَا هُوَ فِي (سنَن النَّسَائِيّ) فرجح جمَاعَة من الْعلمَاء رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقرر النَّوَوِيّ فجعلهما قضيتين، فَينْظر، لِأَن الأول رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن أبي شيبَة فِي آخَرين.

    (13/282)
    وَقَالَ هِشَام: وَأقَام الْحسن أَيَّامًا مفكراً فِي أمره ثمَّ رأى اخْتِلَاف النَّاس فرقة من جِهَته وَفرْقَة من جِهَة مُعَاوِيَة، وَلَا يَسْتَقِيم الْأَمر، وَرَأى النّظر فِي إصْلَاح الْمُسلمين وحقن دِمَائِهِمْ أولى من النّظر فِي حَقه، سلَّم الْخلَافَة لمعاوية فِي الْخَامِس من ربيع الأول من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين،وَقيل: من ربيع الْأُخَر،وَقيل: فِي غرَّة جمادي الأولى، وَكَانَت خِلَافَته سِتَّة أشهر إلاَّ أَيَّامًا. وَسمي هَذَا الْعَام عَام الْجَمَاعَة. وَهَذَا الَّذِي أخبر بِهِ النَّبِي،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَعَلَّ الله أَن يصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين) .
    ..........
    (13/284)
    وَعبد الله بن عَامر ابْن كريز، بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالزاي، مَاتَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ابْن ثَلَاث عشرَة سنة، وَقد افْتتح خُرَاسَان وأصبهان وكرمان، وَقتل كسْرَى فِي ولَايَته،وَقيل: أحرم من نيسابور شكرا الله تَعَالَى، وَمَات سنة تسع وَخمسين.
    ...........
    (13/285 )
    ان ابني هذا سيد
    وَقَالَ أَبُو عَبْدُ الله قَالَ لِي عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله إنَّما ثَبَتَ لَنا سَماعُ الْحَسَنِ مِنْ أبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ
    أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَعلي بن عبد الله هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. قَوْله: (سَماع الْحسن) ،أَي: الْبَصْرِيّ من أبي بكرَة نفيع الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ صرح بِالسَّمَاعِ مِنْهُ والْحَدِيث الْمَذْكُور رُوِيَ عَن جَابر أَيْضا،قَالَ الْبَزَّار: وَحَدِيث أبي بكرَة أشهر وَأحسن إِسْنَادًا، وَحَدِيث جَابر أعرف، وَذكر ابْن بطال أَنه روى أَيْضا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَزعم الدَّارَقُطْنِي ّ أَن الْحسن رَوَاهُ أَيْضا عَن أم سَلمَة. قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة وهم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن ابْن أَزْهَر وعَوْف الْأَعرَابِي عَن الْحسن مُرْسلا، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآل.
    ..........
    (13/290)
    (لما كَاتب سُهَيْل بن عَمْرو) ، قد ذكرنَا تَرْجَمته فِيمَا مضى عَن قريب، وَكَانَ أحد أَشْرَاف قُرَيْش وخطيبهم، أسر يَوْم بدر، فَقَالَ عمر،رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (انْزعْ ثنيته فَلَا يقوم عَلَيْك خَطِيبًا) ، فَقَالَ رَسُول الله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (دَعه، فَعَسَى أَن يقوم مقَاما تحمده) . أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ رَقِيقا كثير الْبكاء عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن، فَمَاتَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاخْتلف النَّاس بِمَكَّة، وارتد كَثِيرُونَ، فَقَامَ سُهَيْل خَطِيبًا. وَسكن النَّاس ومنعهم من الِاخْتِلَاف، وَهَذَا هُوَ الْمقَام الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
    ..........
    (13/292)
    وَقَالَ ابْن عَبَّاس،رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وَكَانَ جَمِيع من لحق بالمشركين من نسَاء الْمُؤمنِينَ الْمُهَاجِرين رَاجِعَة عَن الْإِسْلَام سِتّ نسْوَة: أم الْحَكِيم بنت أبي سُفْيَان، كَانَت تَحت عِيَاض بن شَدَّاد الفِهري
    وَفَاطِمَة بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، أُخْت أم سَلمَة، كَانَت تَحت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا أَرَادَ عمر أَن يُهَاجر أَبَت وارتدت. وَبرْوَع بنت عقبَة، كَانَت تَحت شماس بن عُثْمَان، وَعَبدَة بنت عبد الْعُزَّى، وَزوجهَا عَمْرو بن ود. وَهِنْد بنت أبي جهل بن هِشَام، وَكَانَت تَحت هِشَام بن الْعَاصِ. وكلثوم بنت جَرْوَل، كَانَت تَحت عمر بن الْخطاب، فَأَعْطَاهُمْ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُهُور نِسَائِهِم من الْغَنِيمَة.
    ............
    (13/297)
    وَلم تخْتَلف نسخ البُخَارِيّ أَنه قَالَ: (بِمِائَتي دِرْهَم) ،وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي بعض الرِّوَايَات للْبُخَارِيّ: (ثَمَان مائَة دِرْهَم) ، وَالظَّاهِر أَنه تَصْحِيف.
    وَقَالَ داوُدُ بنُ قَيْسٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ مِقسَمٍ عنْ جابرٍ اشْتَراهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ أحْسِبُهُ قَالَ بأرْبَعِ أوَاقٍ
    دَاوُد بن قيس الْفراء الدّباغ الْمَدِينِيّ أَبُو سُلَيْمَان وَعبيد الله بن مقسم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْقَاف الْقرشِي الْمدنِي، وَهَذِه الرِّوَايَات تصرح بِأَن قصَّة جَابر وَقعت فِي طَرِيق تَبُوك، فوافقه على ذَلِك عَليّ بن زيد بن جدعَان عَن أبي المتَوَكل عَن جَابر أَن رَسُول الله،صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مر بجابر فِي غَزْوَة تَبُوك)
    وَاعْلَم أَنَّك رَأَيْت فِي قصَّة جَابر هَذَا الِاخْتِلَاف فِي ثمن الْجمل الْمَذْكُور فِيهَا: فروى أُوقِيَّة وَرُوِيَ: (أَرْبَعَة دَنَانِير) ،وَرُوِيَ: أُوقِيَّة ذهب، وَرُوِيَ أَربع أَوَاقٍ،وَرُوِيَ: خمس أَوَاقٍ،وَرُوِيَ: مِائَتَا دِرْهَم،وروى: (عشرُون دِينَارا) هَذَا كُله فِي رِوَايَة البُخَارِيّ،وروى أَحْمد وَالْبَزَّار من حَدِيث أبي المتَوَكل عَن جَابر: (ثَلَاثَة عشر دِينَارا) ، وَهَذَا اخْتِلَاف عَظِيم، وَالثمن فِي نفس الْأَمر وَاحِد مِنْهَا، والرواة كلهم عدُول،فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِ يّ: لَيْسَ اخْتلَافهمْ فِي قدر الثّمن بضائر، لِأَن الْغَرَض الَّذِي سيق الحَدِيث لأَجله بَيَان كرمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتواضعه وحنوه على أَصْحَابه وبركة دُعَائِهِ وَغير ذَلِك، وَلَا يلْزم من وهم بَعضهم فِي قدر الثّمن توهين لأصل الحَدِيث.
    وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلفُوا فِي ثمن الْجمل اخْتِلَافا لَا يقبل التلفيق، وتكلَّف ذَلِك بعيد عَن التَّحْقِيق، وَهُوَ مَبْنِيّ على أَمر لم يَصح نَقله، وَلَا استقام ضَبطه، مَعَ أَنه لَا يتَعَلَّق بتحقيق ذَلِك حكم، وَإِنَّمَا يحصل من مَجْمُوع الرِّوَايَات أَنه بَاعه الْبَعِير بِثمن مَعْلُوم، بَينهمَا، وَزَاد عِنْد الْوَفَاء زِيَادَة مَعْلُومَة، وَلَا يضر عدم الْعلم بتحقيق ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي وَجه التَّوْفِيق: وقية الذَّهَب قد تَسَاوِي مِائَتي دِرْهَم المساوية لعشرين دِينَارا على حِسَاب الدِّينَار بِعشْرَة، وَأما وقية الْفضة فَهِيَ أَرْبَعُونَ درهما المساوية لأربعة دَنَانِير، وَأما أَرْبَعَة أَوَاقٍ فَلَعَلَّهُ اعْتبر اصْطِلَاح أَن كل وقية عشرَة دَرَاهِم، فَهِيَ أَيْضا وقية بالاصطلاح الأول، وَالْكل رَاجع
    إِلَى وقية، وَوَقع الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَارهَا كَمَا وكيفاً. وَقَالَ عِيَاض: قَالَ أَبُو جَعْفَر الدَّاودِيّ: لَيْسَ لوقية الذَّهَب وزن مَعْلُوم وأوقية الْفضة أَرْبَعُونَ درهما. قَالَ: وَسبب اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات أَنهم رووا بِالْمَعْنَى، وَهُوَ جَائِز،وَالْمرَاد: أُوقِيَّة الذَّهَب كَمَا وَقع بِهِ العقد،وعنى: أواقي الْفضة، كَمَا حصل بِهِ إِنْفَاذه، وَيحْتَمل هَذَا كُله زِيَادَة على الْأُوقِيَّة،كَمَا ثَبت فِي الرِّوَايَات

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
    ويليه المجلد الرابع عشر
    " باب الشروط في الجهاد "

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •