تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 195 الى صــ 202
الحلقة (239)
فهذه خمسة مذاهب أسدها [ ص: 195 ] مذهب مالك ؛ وهو مروي عن عمر وابنه عبد الله ، وهو قول عبد الله بن مسعود أن الملامسة ما دون الجماع ، وأن الوضوء يجب بذلك ؛ وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء . قال ابن العربي : وهو الظاهر من معنى الآية ؛ فإن قوله في أولها : ولا جنبا أفاد الجماع ، وإن قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط أفاد الحدث ، وإن قوله : أو لامستم أفاد اللمس والقبل . فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام ، وهذه غاية في العلم والإعلام . ولو كان المراد باللمس الجماع كان تكرارا في الكلام .
قلت : وأما ما استدل به أبو حنيفة من حديث عائشة فحديث مرسل ؛ رواه وكيع ، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة . قال يحيى بن سعيد : وذكر حديث الأعمش عن حبيب عن عمرو فقال : أما أن سفيان الثوري كان أعلم الناس بهذا ، زعم أن حبيبا لم يسمع من عروة شيئا ؛ قال الدارقطني . فإن قيل : فأنتم تقولون بالمرسل فيلزمكم قبوله والعمل به . قلنا : تركناه لظاهر الآية وعمل الصحابة . فإن قيل : إن الملامسة هي الجماع وقد روي ذلك عن ابن عباس . قلنا : قد خالفه الفاروق وابنه وتابعهما عبد الله بن مسعود وهو كوفي ، فما لكم خالفتموه ؟ ! فإن قيل : الملامسة من باب المفاعلة ، ولا تكون إلا من اثنين ، واللمس باليد إنما يكون من واحد ؛ فثبت أن الملامسة هي الجماع . قلنا : الملامسة مقتضاها التقاء البشرتين ، سواء كان ذلك من واحد أو من اثنين ؛ لأن كل واحد منهما يوصف لامس وملموس .
جواب آخر : وهو أن الملامسة قد تكون من واحد ؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة ، والثوب ملموس وليس بلامس ، وقد قال ابن عمر مخبرا عن نفسه " وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام " . وتقول العرب : عاقبت اللص وطارقت النعل ، وهو كثير .
فإن قيل : لما ذكر الله سبحانه سبب الحدث ، وهو المجيء من الغائط ذكر سبب الجنابة وهو الملامسة ، فبين الحدث والجنابة عند عدم الماء ، كما أفاد بيان حكمهما عند وجود الماء . قلنا : لا نمنع حمل اللفظ على الجماع واللمس ، ويفيد الحكمين كما بينا . وقد قرئ " لمستم " كما ذكرنا .
وأما ما ذهب إليه الشافعي من لمس الرجل المرأة ببعض أعضائه لا حائل بينه وبينها لشهوة أو لغير شهوة وجب عليه الوضوء فهو ظاهر القرآن أيضا ؛ وكذلك إن لمسته هي وجب عليه الوضوء ، إلا الشعر ؛ فإنه لا وضوء لمن مس شعر امرأته لشهوة كان أو لغير شهوة ، وكذلك السن والظفر ، فإن ذلك مخالف للبشرة . ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها كان حسنا . ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذ بذلك أو لم يلتذ لم يكن عليهما شيء حتى [ ص: 196 ] يفضي إلى البشرة ، وسواء في ذلك كان متعمدا أو ساهيا ، كانت المرأة حية أو ميتة إذا كانت أجنبية . واختلف قوله إذا لمس صبية صغيرة أو عجوزا كبيرة بيده أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحل له نكاحها ، فمرة قال : ينتقض الوضوء ؛ لقوله تعالى : أو لامستم النساء فلم يفرق . والثاني لا ينقض ؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن . قال المروزي : قول الشافعي أشبه بظاهر الكتاب ؛ لأن الله عز وجل قال : أو لامستم النساء ولم يقل بشهوة ولا من غير شهوة ؛ وكذلك الذين أوجبوا الوضوء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترطوا الشهوة . قال : وكذلك عامة التابعين . قال المروزي : فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة من فوق الثوب يوجب الوضوء فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد ، ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما . قال : ولا يصح ذلك في النظر ؛ لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته ، وغير مماس لها في الحقيقة ، إنما هو لامس لثوبها . وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى أن يلمس لم يجب عليه وضوء ؛ فكذلك من لمس فوق الثوب لأنه غير مماس للمرأة .
قلت : أما ما ذكر من أنه لم يوافق مالكا على قوله إلا الليث بن سعد ، فقد ذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن ذلك قول إسحاق وأحمد ، وروي ذلك عن الشعبي والنخعي كلهم قالوا : إذا لمس فالتذ وجب الوضوء ، وإن لم يلتذ فلا وضوء . وأما قوله : " ولا يصح ذلك في النظر " فليس بصحيح ؛ وقد جاء في صحيح الخبر عن عائشة قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ثانيا ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح . فهذا نص في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الملامس ، وأنه غمز رجلي عائشة ؛ كما في رواية القاسم عن عائشة ( فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما ) أخرجه البخاري . فهذا يخص عموم قوله : أو لامستم فكان واجبا لظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس . ودلت السنة التي هي البيان لكتاب الله تعالى أن الوضوء على بعض الملامسين دون بعض ، وهو من لم يلتذ ولم يقصد . ولا يقال : فلعله كان على قدمي عائشة ثوب ، أو كان يضرب رجليها بكمه ؛ فإنا نقول : حقيقة الغمز إنما هو باليد ؛ ومنه غمزك الكبش أي تجسه لتنظر أهو سمين أم لا ؟ فأما أن يكون الغمز الضرب بالكم فلا . والرجل من النائم الغالب عليها ظهورها من النائم ؛ لا سيما مع امتداده وضيق حاله . فهذه كانت الحال في ذلك الوقت ؛ ألا ترى إلى قولها : ( وإذا قام بسطتهما ) وقولها : ( والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ) . وقد جاء صريحا عنها قالت : ( كنت أمد رجلي في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فإذا سجد غمزني [ ص: 197 ] فرفعتهما ، فإذا قام مددتهما ) أخرجه البخاري . فظهر أن الغمز كان على حقيقته مع المباشرة . ودليل آخر - وهو ما روته عائشة أيضا رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته ، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان ؛ الحديث . فلما وضعت يدها على قدمه وهو ساجد وتمادى في سجوده كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض إلا على بعض الملامسين دون بعض .
فإن قيل : كان على قدمه حائل كما قاله المزني . قيل له : القدم قدم بلا حائل حتى يثبت الحائل ، والأصل الوقوف مع الظاهر ؛ بل بمجموع ما ذكرنا يجتمع منه كالنص .
فإن قيل : فقد أجمعت الأمة على أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها وهي لا تلتذ لذلك ، أو كانت نائمة فلم تلتذ ولم تشته أن الغسل واجب عليها ؛ فكذلك حكم من قبل أو لامس بشهوة أو لغير شهوة انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء ؛ لأن المعنى في الجسة واللمسة والقبلة الفعل لا اللذة . قلنا : قد ذكرنا أن الأعمش وغيره قد خالف فيما ادعيتموه من الإجماع . سلمناه ، لكن هذا استدلال بالإجماع في محل النزاع فلا يلزم ؛ وقد استدللنا على صحة مذهبنا بأحاديث صحيحة . وقد قال الشافعي - فيما زعمتم إنه لم يسبق إليه ، وقد سبقه إليه شيخه مالك ؛ كما هو مشهور عندنا " إذا صح الحديث فخذوا به ودعوا قولي " وقد ثبت الحديث بذلك فلم لا تقولون به ؟ ! ويلزم على مذهبكم أن من ضرب امرأته فلطمها بيده تأديبا لها وإغلاظا عليها أن ينتقض وضوءه ؛ إذ المقصود وجود الفعل ، وهذا لا يقوله أحد فيما أعلم ، والله أعلم . وروى الأئمة مالك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاتقه ، فإذا ركع وضعها ، وإذا رفع من السجود أعادها . وهذا يرد ما قاله الشافعي في أحد قوليه : لو لمس صغيرة لانتقض طهره تمسكا بلفظ النساء ، وهذا ضعيف ؛ فإن لمس الصغيرة كلمس الحائط . واختلف قوله في ذوات المحارم لأجل أنه لا يعتبر اللذة ، ونحن اعتبرنا اللذة فحيث وجدت وجد الحكم ، وهو وجوب الوضوء . وأما قول الأوزاعي في اعتباره اليد خاصة ؛ فإن اللمس أكثر ما يستعمل باليد ، فقصره عليه دون غيره من الأعضاء ؛ حتى إنه لو أدخل الرجل رجليه في ثياب امرأته فمس فرجها أو بطنها لا ينتقض لذلك وضوءه . وقال في الرجل يقبل امرأته : إن جاء يسألني قلت يتوضأ ، وإن لم يتوضأ لم أعبه . وقال أبو ثور : لا وضوء على من قبل امرأته أو باشرها أو لمسها . وهذا يخرج على مذهب أبي حنيفة ، والله أعلم .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء الأسباب التي لا يجد المسافر معها [ ص: 198 ] الماء هي إما عدمه جملة أو عدم بعضه ، وإما أن يخاف فوات الرفيق ، أو على الرحل بسبب طلبه ، أو يخاف لصوصا أو سباعا ، أو فوات الوقت ، أو عطشا على نفسه أو على غيره ؛ وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه ؛ فإذا كان أحد هذه الأشياء تيمم وصلى . ويترتب عدمه للمريض بألا يجد من يناوله ، أو يخاف من ضرره . ويترتب أيضا عدمه للصحيح الحاضر بالغلاء الذي يعم جميع الأصناف ، أو بأن يسجن أو يربط . وقال الحسن : يشتري الرجل الماء بماله كله ويبقى عديما ، وهذا ضعيف ، لأن دين الله يسر . وقالت طائفة : يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا . وقالت طائفة : يشتري قيمة الدرهم بالدرهمين والثلاث ونحو هذا ؛ وهذا كله في مذهب مالك رحمه الله . وقيل لأشهب : أتشترى القربة بعشرة دراهم ؟ فقال : ما أرى ذلك على الناس . وقال الشافعي بعدم الزيادة .
الثامنة والعشرون : واختلف العلماء هل طلب الماء شرط في صحة التيمم أم لا ؟ فظاهر مذهب مالك أن ذلك شرط ، وهو قول الشافعي . وذهب القاضي أبو محمد بن نصر إلى أن ذلك ليس بشرط في صحة التيمم ؛ وهو قول أبي حنيفة . وروي عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر على غلوتين من طريقه فلا يعدل إليه . قال إسحاق : لا يلزمه الطلب إلا في موضعه ، وذكر حديث ابن عمر ، والأول أصح وهو المشهور من مذهب مالك في الموطأ لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء وهذا يقتضي أن التيمم لا يستعمل إلا بعد طلب الماء . وأيضا من جهة القياس أن هذا بدل مأمور به عند العجز عن مبدله ، فلا يجزئ فعله إلا مع تيقن عدم مبدله ؛ كالصوم مع العتق في الكفارة .
التاسعة والعشرون : وإذا ثبت هذا وعدم الماء ، فلا يخلو أن يغلب على ظن المكلف اليأس من وجوده في الوقت ، أو يغلب على ظنه وجوده ويقوى رجاؤه له ، أو يتساوى عنده الأمران ، فهذه ثلاثة أحوال :
فالأول : يستحب له التيمم والصلاة في أول الوقت : لأنه إذا فاتته فضيلة الماء فإنه يستحب له أن يحرز فضيلة أول الوقت .
الثاني : يتيمم وسط الوقت ؛ حكاه أصحاب مالك عنه ، فيؤخر الصلاة رجاء إدراك فضيلة الماء ما لم تفته فضيلة أول الوقت ، فإن فضيلة أول الوقت قد تدرك بوسطه لقربه منه .
الثالث : يؤخر الصلاة إلى أن يجد الماء في آخر الوقت ؛ لأن فضيلة الماء أعظم من فضيلة أول الوقت ، لأن فضيلة أول الوقت مختلف فيها ، وفضيلة الماء متفق عليها ، وفضيلة [ ص: 199 ] أول الوقت يجوز تركها دون ضرورة ولا يجوز ترك فضيلة الماء إلا لضرورة ، والوقت في ذلك هو آخر الوقت المختار ؛ قاله ابن حبيب . ولو علم الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى فقد قال ابن القاسم : يجزئه ، فإن وجد الماء أعاد في الوقت خاصة . وقال عبد الملك بن الماجشون : إن وجد الماء بعد أعاد أبدا .
الموفية ثلاثين : والذي يراعى من وجود الماء أن يجد منه ما يكفيه لطهارته ، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه . وهذا قول مالك وأصحابه ؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ، وهو قول أكثر العلماء ؛ لأن الله تعالى جعل فرضه أحد الشيئين ، إما الماء وإما التراب . فإن لم يكن الماء مغنيا عن التيمم كان غير موجود شرعا ؛ لأن المطلوب من وجوده الكفاية . وقال الشافعي في القول الآخر : يستعمل ما معه من الماء ويتيمم ؛ لأنه واجد ماء فلم يتحقق شرط التيمم ؛ فإذا استعمله وفقد الماء تيمم لما لم يجد . واختلف قول الشافعي أيضا فيما إذا نسي الماء في رحله فتيمم ؛ والصحيح أنه يعيد ؛ لأنه إذا كان الماء عنده فهو واجد وإنما فرط . والقول الآخر لا يعيد ؛ وهو قول مالك ؛ لأنه إذا لم يعلمه فلم يجده .
الحادية والثلاثون : وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير ؛ لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فقال : هذا نفي في نكرة ، وهو يعم لغة ؛ فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير ؛ لانطلاق اسم الماء عليه . قلنا : النفي في النكرة يعم كما قلتم ، ولكن في الجنس ، فهو عام في كل ماء كان من سماء أو نهر أو عين عذب أو ملح . فأما غير الجنس وهو المتغير فلا يدخل فيه ؛ كما لا يدخل فيه ماء الباقلاء ولا ماء الورد ، وسيأتي حكم المياه في " الفرقان " ، إن شاء الله تعالى .
الثانية والثلاثون : وأجمعوا على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء ؛ وقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا يرده . والحديث الذي فيه ذكر الوضوء بالنبيذ رواه ابن مسعود ، وليس بثابت ؛ لأن الذي رواه أبو زيد ، وهو مجهول لا يعرف بصحبة عبد الله ؛ قاله ابن المنذر وغيره . وسيأتي في " الفرقان " بيانه إن شاء الله تعالى .
الثالثة والثلاثون : الماء الذي يبيح عدمه التيمم هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته . وقال بعض من ألف في أحكام القرآن لما قال تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من ماء ؛ لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه ؛ سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه . ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء ؛ فلما كان كذلك لم يجز [ ص: 200 ] التيمم مع وجوده .
وهذا مذهب الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه ؛ واستدلوا على ذلك بأخبار ضعيفة يأتي ذكرها في سورة " الفرقان " ، وهناك يأتي القول في الماء إن شاء الله تعالى .
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : ( فتيمموا ) التيمم مما خصت به هذه الأمة توسعة عليها ؛ قال صلى الله عليه وسلم : فضلنا على الناس بثلاث جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا وذكر الحديث ، وقد تقدم ذكر نزوله ، وذلك بسبب القلادة حسبما بيناه . وقد تقدم ذكر الأسباب التي تبيحه ، والكلام هاهنا في معناه لغة وشرعا ، وفي صفته وكيفيته وما يتيمم به وله ، ومن يجوز له التيمم ، وشروط التيمم إلى غير ذلك من أحكامه .
فالتيمم لغة هو القصد . تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وتيممته برمحي وسهمي أي قصدته دون من سواه . وأنشد الخليل : للشاعر ضرار بن عمرو الضبي :
يممته الرمح شزرا ثم قلت له هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال الخليل : من قال في هذا البيت أممته فقد أخطأ ؛ لأنه قال : " شزرا " ولا يكون الشزر إلا من ناحية ولم يقصد به أمامه . وقال امرؤ القيس :
تيممتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقال أيضا :
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي
آخر :
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت بعيري غيره بلدا
وقال أعشى باهلة :
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن
[ ص: 201 ] وقال حميد بن ثور :
سل الربع أنى يممت أم طارق وهل عادة للربع أن يتكلما
وللشافعي رضي الله عنه :
علمي معي حيثما يممت أحمله بطني وعاء له لا بطن صندوق
قال ابن السكيت : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا أي اقصدوا ؛ ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب . وقال ابن الأنباري في قولهم : " قد تيمم الرجل " معناه قد مسح التراب على وجهه ويديه .
قلت : وهذا هو التيمم الشرعي ، إذا كان المقصود به القربة . ويممت المريض فتيمم للصلاة . ورجل ميمم يظفر بكل ما يطلب ؛ عن الشيباني . وأنشد :
إنا وجدنا أعصر بن سعد ميمم البيت رفيع المجد
وقال آخر :
أزهر لم يولد بنجم الشح ميمم البيت كريم السنح
الخامسة والثلاثون : لفظ التيمم ذكره الله تعالى في كتابه في " البقرة " وفي هذه السورة و " المائدة " والتي في هذه السورة هي آية التيمم . والله أعلم . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء عند أحمد ؛ هما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في " النساء " والأخرى في " المائدة " . فلا نعلم أية آية عنت عائشة بقولها : " فأنزل الله آية التيمم " . ثم قال : وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم .
قلت : أما قوله : " فلا نعلم أية آية عنت عائشة " فهي هذه الآية على ما ذكرنا . والله أعلم . وقوله : " وحديثها يدل على أن التيمم قبل ذلك لم يكن معلوما ولا مفعولا لهم " في صحيح ولا خلاف فيه بين أهل السير ؛ لأنه معلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء ، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ افترضت عليه الصلاة بمكة لم يصل إلا بوضوء مثل وضوئنا اليوم . فدل على أن آية الوضوء إنما نزلت ليكون فرضها المتقدم متلوا في التنزيل . وفي قوله : " فنزلت آية التيمم " ولم يقل آية الوضوء ما يبين أن الذي طرأ لهم من العلم في ذلك الوقت حكم التيمم لا حكم الوضوء ؛ وهذا بين لا إشكال فيه .
السادسة والثلاثون : التيمم يلزم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء ودخل وقت [ ص: 202 ] الصلاة . وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي : يجوز قبله ؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة ؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة . واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذر : الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج . فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء ؛ فحكمه إذا حكم الماء . والله أعلم . ودليلنا قوله تعالى : فلم تجدوا ماء ولا يقال : لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد . وقد تقدم هذا المعنى ؛ ولأنها طهارة ضرورة كالمستحاضة ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت . وهو قول الشافعي وأحمد ، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس .
السابعة والثلاثون : وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث ، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبا كما كان أو محدثا ؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر : إذا وجدت الماء فأمسه جلدك إلا شيء روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، رواه ابن جريج وعبد الحميد بن جبير بن شيبة عنه ؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حرملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته : لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يحدث . وقد روي عنه فيمن تيمم وصلى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة . قال ابن عبد البر : وهذا تناقض وقلة روية . ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة .
الثامنة والثلاثون : وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه ؛ وعليه استعمال الماء . والجمهور على أن من تيمم وصلى وفرغ من صلاته ، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رحله أن صلاته تامة ؛ لأنه أدى فرضه كما أمر . فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة . ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل . وروي عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة كلهم يقول : يعيد الصلاة . واستحب الأوزاعي ذلك وقال : ليس بواجب ؛ لما رواه أبو سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين .