الحلقة (237)
- تفسير البغوى
الجزء الرابع
سُورَةِ يُوسُفَ
الاية95 إلى الاية 106
( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ( 95 ) . ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ( 96 ) قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ( 97 ) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم ( 98 ) .
( قالوا ) يعني : أولاد أولاده ( تالله إنك لفي ضلالك القديم ) أي : خطئك القديم من ذكر يوسف لا تنساه ، والضلال هو الذهاب عن طريق الصواب ، فإن عندهم أن يوسف قد مات ويرون يعقوب قد لهج بذكره .
( فلما أن جاء البشير ) وهو المبشر عن يوسف قال ابن مسعود : جاء البشير بين يدي العير . قال ابن عباس : هو يهوذا .
قال [ السدي : قال يهوذا ] أنا ذهبت بالقميص ملطخا بالدم إلى يعقوب فأخبرته أن يوسف أكله الذئب ، فأنا أذهب إليه اليوم بالقميص فأخبره أن ولده حي فأفرحه كما أحزنته .
قال ابن عباس : حمله يهوذا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى أتى أباه ، وكانت المسافة ثمانين فرسخا .
وقيل : البشير مالك بن ذعر .
( ألقاه على وجهه ) يعني : ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب ( فارتد بصيرا ) فعاد بصيرا بعدما كان عمي وعادت إليه قوته بعد الضعف ، وشبابه بعد الهرم ، وسروره بعد الحزن .
( قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ) من حياة يوسف وأن الله يجمع بيننا .
وروي أنه قال للبشير : كيف تركت يوسف قال : إنه ملك مصر فقال يعقوب : ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .
( قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ) مذنبين .
( قال سوف أستغفر لكم ربي ) قال أكثر المفسرين : أخر الدعاء إلى السحر ، وهو الوقت الذي [ ص: 277 ] يقول الله تعالى : " هل من داع فأستجيب له " فلما انتهى يعقوب إلى الموعد قام إلى الصلاة بالسحر ، فلما فرغ منها رفع يديه إلى الله عز وجل وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه ، واغفر لأولادي ما أتوا إلى أخيهم يوسف فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين .
وعن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : سوف أستغفر لكم [ ربي يعني ليلة الجمعة . قال وهب : كان يستغفر لهم كل ] ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة .
وقال طاوس : أخر الدعاء إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء . وعن الشعبي قال : سوف أستغفر لكم ربي ، قال : أسأل يوسف إن عفا عنكم أستغفر لكم ربي ( إنه هو الغفور الرحيم ) .
روي أن يوسف كان قد بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب وأهله وأولاده ، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر فخرجوا وهم اثنان وسبعون من بين رجل وامرأة . وقال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين ، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه ، فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجنود وركب أهل مصر معهما يتلقون يعقوب ، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر قال : لا هذا ابنك ، فلما دنا كل واحد من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فقال جبريل : لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان .
وروي أنهما نزلا وتعانقا . وقال الثوري : لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال [ ص: 278 ] يوسف : يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا قال : بلى يا بني ، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك .
( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ( 99 ) ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ( 100 ) .
فذلك قوله تعالى : ( فلما دخلوا على يوسف آوى إليه ) أي : ضم إليه ( أبويه ) قال أكثر المفسرين : هو أبوه وخالته ليا وكانت أمه راحيل قد ماتت في نفاس بنيامين .
وقال الحسن : هو أبوه وأمه ، وكانت حية .
وفي بعض التفاسير أن الله عز وجل أحيا أمه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر .
( وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) فإن قيل : فقد قال فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه فكيف قال ادخلوا مصر [ إن شاء الله آمنين ] بعدما أخبر أنهم دخلوها وما وجه هذا الاستثناء وقد حصل الدخول
قيل : إن يوسف إنما قال لهم هذا القول حين تلقاهم قبل دخولهم مصر . وفي الآية تقديم وتأخير ، والاستثناء يرجع إلى الاستغفار وهو من قول يعقوب لبنيه سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله . [ ص: 279 ]
وقيل : الاستثناء يرجع إلى الأمن من الجواز لأنهم كانوا لا يدخلون مصر قبله إلا بجواز من ملوكهم ، يقول : آمنين [ من الجواز إن شاء الله تعالى ، كما قال : ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) ( الفتح - 27 ) ] .
وقيل : " إن " ها هنا بمعنى إذ ، يريد : إذ شاء الله ، كقوله تعالى : ( وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) ( آل عمران - 139 ) . أي : إذ كنتم مؤمنين .
( ورفع أبويه على العرش ) أي : على السرير : أجلسهما . والرفع : هو النقل إلى العلو . ( وخروا له سجدا ) يعني : يعقوب وخالته وإخوته . [ ص: 280 ]
وكانت تحية الناس يومئذ السجود ، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض ، وإنما هو الانحناء والتواضع .
وقيل : وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم ، لا على طريق العبادة . وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة .
وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه : خروا لله عز وجل سجدا بين يدي يوسف . والأول أصح .
( وقال ) يوسف عند ذلك : ( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) وهو قوله : " إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " .
( وقد أحسن بي ) [ ربي ، أي ] : أنعم علي ( إذ أخرجني من السجن ) ولم يقل من الجب مع كونه أشد بلاء من السجن ، استعمالا للكرم ، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم : " لا تثريب عليكم اليوم " ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ، لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية [ ص: 281 ] والرق ، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ، ولأن وقوعه في البئر كان لحسد إخوته ، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه .
( وجاء بكم من البدو ) والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم ، وكانوا أهل بادية ومواش ، يقال : بدا يبدو إذا صار إلى البادية . ( من بعد أن نزغ ) أفسد ( الشيطان بيني وبين إخوتي ) بالحسد .
( إن ربي لطيف ) أي : ذو لطف ( لما يشاء ) وقيل : معناه بمن يشاء .
وحقيقة اللطيف : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق ( إنه هو العليم الحكيم ) . قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنإ عيش ، ثم مات بمصر فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ، ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثم انصرف إلى مصر .
قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص فدفنا في قبر واحد ، وكانا ولدا في بطن واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة .
فلما جمع الله تعالى ليوسف شمله على أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله تعالى حسن العاقبة ، فقال : ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ( 101 ) .
( رب قد آتيتني من الملك ) يعني : ملك مصر والملك : اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير . ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) يعني : تعبير الرؤيا . ( فاطر ) أي : يا فاطر ( فاطر السماوات والأرض ) أي : خالقهما ( أنت وليي ) أي : معيني ومتولي أمري ( في الدنيا والآخرة توفني مسلما ) يقول : اقبضني إليك مسلما ( وألحقني بالصالحين ) يريد بآبائي النبيين .
قال قتادة : لم يسأل نبي من الأنبياء الموت إلا يوسف . [ ص: 282 ]
وفي القصة : لما جمع الله شمله وأوصل إليه أبويه وأهله اشتاق إلى ربه عز وجل فقال هذه المقالة .
قال الحسن : عاش بعد هذا سنين كثيرة . وقال غيره : لما قال هذا القول لم يمض عليه أسبوع حتى توفي .
واختلفوا في مدة غيبة يوسف عن أبيه ، فقال الكلبي : اثنتان وعشرون سنة .
وقيل : أربعون سنة .
وقال الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وفي التوراة مات وهو ابن مائة وعشر سنين ، وولد ليوسف من امرأة العزيز ثلاثة أولاد : أفرائيم وميشا ورحمة امرأة أيوب المبتلى عليه السلام .
وقيل : عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة . وقيل : أكثر . واختلفت الأقاويل فيه .
وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فدفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك أنه لما مات تشاح الناس فيه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته ، حتى هموا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجري الماء عليه وتصل بركته إلى جميعهم .
وقال عكرمة : دفن في الجانب الأيمن من النيل ، فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ، [ فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الجانب الآخر ] ، فدفنوه في وسطه وقدروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان جميعا إلى أن أخرجه موسى فدفنه بقرب آبائه بالشام .
( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ( 102 ) وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ( 103 ) .
( ذلك ) الذي ذكرت ( من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم ) أي : ما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب ( إذ أجمعوا أمرهم ) أي : عزموا على إلقاء يوسف في الجب ( وهم يمكرون ) بيوسف .
( وما أكثر الناس ) يا محمد ( ولو حرصت بمؤمنين ) على إيمانهم .
وروي أن اليهود وقريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم على موافقة التوراة لم يسلموا ، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : إنهم لا يؤمنون وإن حرصت على إيمانهم .
[ ص: 283 ] ( وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ( 104 ) وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( 105 ) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ( 106 ) .
( وما تسألهم عليه ) أي : على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله تعالى ( من أجر ) جعل وجزاء ( إن هو ) ما هو يعني القرآن ( إلا ذكر ) عظة وتذكير ( للعالمين ) .
( وكأين ) وكم ( من آية ) عبرة ودلالة ( في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها .
( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فكان من إيمانهم إذا سئلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، وإذا قيل لهم : من ينزل القطر ؟ قالوا : الله ، ثم مع ذلك يعبدون الأصنام ويشركون .
وعن ابن عباس أنه قال : إنها نزلت في تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون في تلبيتهم ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .
وقال عطاء : هذا في الدعاء ، وذلك أن الكفار نسوا ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ، كما قال الله تعالى : ( وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين ) الآية ( يونس - 22 ) ، وقال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) ( العنكبوت - 65 ) ، وغير ذلك من الآيات .